188

قال: إنك لا تعرف الآن ابن فلان العظيم من ابن فلان الصعلوك، ولا تميز الفتاة التي يملك أبوها ألف فدان من الفتاة التي يعمل أبوها في دكان، أو يعمل في ديوان بين صغار الموظفين الموقوتين ... هذه تلبس كما تلبس تلك، وهذا يتأنق كما يتأنق ذاك، و«البركة» في التقسيط لا بارك الله فيه.

قلت: وما يضيرك من ذاك؟ إن كان فيه ضرر فعلى جيب اللابس، لا على جيبك، وإن لم يكن فيه ضرر فهو جمال ونظافة ورواج للقصارين والخائطين.

فتأفف وأبى أن يقتنع، وظل يقول: إن الأصول، أصول، والمقامات «محفوظة» لا ينبغي أن تزول أو تحول.

وسمعنا آخرين من الوجهاء لا يبالون أن يجهروا في غير خجل ولا حرج قائلين: من يخدمنا إذا لبس الفلاح الطربوش أو اغتر بما حصل في المدرسة الإلزامية من دروس الكتابة والحساب؟ وإذا خدمنا هذا «الأفندي» الجديد فكم يطلب أجرا على الخدمة التي كان يؤديها وهو حاف قانع باللبدة والجلباب الأزرق، راض بالخبز القفار.

هؤلاء الأغبياء لا يعقلون ما ينفعهم وما يضرهم، ولا يدرون عاقبة هذا التفكير الأثيم.

والأنكأ من هذا أن الفلاح الفقير قد يحجم عن الاقتداء بنظافة الأغنياء إذا كانوا من النظفاء، كما يحجم عن شراء السيارة والاستمتاع بالطعام الفاخر واللباس الأنيق.

فتمتنع القدوة من ثم؛ لاعتقاد الغني والفقير معا أن النظافة والمعيشة الصالحة حق لصاحب المال كحقه في ركوب السيارة الخاصة والإيواء إلى الدار القوراء.

وتقول له: كن نظيفا كفلان بك أو فلان باشا، فيستكبر هذا الكلام منك ويقول لك في جد الواثق من صوابه وسداد رأيه: وأين أنا من هذا وذاك؟ ولو استرسل قليلا لزعم أن النظافة منه افتيات على حقوق الموسرين، وخروج على الأدب الحميد! ... •••

نعود إذن فنسأل : ممن تأتي القدوة الصالحة إذا علمنا كما أسلفنا أن القدوة «الشخصية» خير وسائل التعليم في الإصلاح الاجتماعي؟

تأتي من بعض الأغنياء الرحماء العارفين حين يقيمون في الريف إقامة يتصل فيها العطف والود الكريم بينهم وبين الفقراء، وكم عدد هؤلاء الأغنياء الرحماء العارفين؟!

Unknown page