إن العراق ينفض عن عينيه آثار السبات القديم، ويتلفت إلى المستقبل تلفت الليث جاعت أشباله، ويقبل على الحياة إقبال الأفعوان المهتاج، ويضطرب في الدنيا كما تضطرب الوحوش الضواري في غسق الليل، فمن كانت له عند العراق حاجة فليؤجلها قليلا، فإن العراق لا يفكر اليوم إلا في شيء واحد: هو أن يكون أمة تحكم وتستطيل. •••
قد تسألون: وكيف يحيا المجتمع في بغداد؟ وأجيب بأني رأيت في بغداد لونين من الحياة:
أما اللون الأول:
لون الجد، فهو ما حدثتكم عنه، وأهل بغداد من هذه الناحية جبابرة عتاة، وفيهم من يصل النهار بالليل في سبيل الرزق، وفيهم من لا يأوي إلى فراشه إلا وفي صدره غرض مبيت مدفون.
أما اللون الثاني:
لون الهزل، فهو يتمثل في المراقص والقهوات، وما أزعم أنني قادر على وصف المراقص، لأني زرت مرقصا واحدا مرة واحدة، وذلك المرقص يعطي صورة صحيحة، لأنه فيما سمعت كثير الأشباه في بغداد، ومادة اللهو في هذه المراقص لا تعتمد على الجمال العراقي، وإنما تعتمد على الجمال الأوروبي، فالراقصات في تلك المواطن من المتاع الذي تجلبه السفن والسيارات لإيناس اللاهين من الشرقيين، واللحظة التي قضيتها في ذلك المرقص نبهتني إلى كثير من المعاني، فقد رأيت من السامرين من يقول: إن ذلك الفتى الذي يراقص تلك الشقراء هو ابن الشيخ فلان الرجل الصالح الذي لا يعرف غير المسجد والبيت، ففهمت من ذلك أن بغداد تنقسم إلى جيلين يختلفان أشد الاختلاف: جيل الشباب، وجيل الكهول، ومعنى ذلك بعبارة أوضح أن الفتيان الذين يرقصون الرقص الإفرنجي في بغداد ليس لهم في ذلك المعترك أعمام ولا أخوال.
وأحببت أن أرى الملاهي البغدادية الأصيلة، ولكن الصديق الذي أثق به في بغداد نهاني عن ذلك، أفيكون معنى هذا النهي أن البغداديين يرون ملاهيهم القديمة مما تعافه الأذواق؟
أما القهوات فكلها من طراز قهوات حي الحسين، ويندر جدا أن يشرب فيها غير القهوة والشاي، وربما كان من الحق أن نقرر أن البغدادين لا يشربون الخمر أبدا على قارعة الطريق، كما يتفق ذلك لأهل القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، فهم من هذه الناحية عقلاء، ومع أن الحانات تظل في الأغلب مرخاة الستائر مغلقة الأبواب لا يهتدي إليها غير العابثين، فقد قرأت في الصحف العراقية كلمات يقترح كاتبوها أن توصد أبواب الحانات إيصادا مطلقا في ليالي رمضان.
ومع أن البغداديين يتحفظون في شرب الخمر فهم يسرفون في شرب الشاي إلى حد الإدمان، ويتفق في أحوال كثيرة أن ينقطع الرجل عن الحديث، فإذا سألت عرفت أنه لم يشرب الشاي منذ ساعتين، وأنه من أجل ذلك «خرمان» فهم من هذه الناحية يشبهون الفلاحين في الجيزة الفيحاء، فمن أهل الجيزة من لا يدرك ولا يعقل إلا إذا أسعفته بكأس من الشاي الأسود البغيض. •••
وهناك مسألة على جانب من الأهمية وهي الوحدة الجنسية في العراق، فمن المعروف أن في العراق أجناسا مختلفة، ولكن اللون يكاد يتوحد في تلك البلاد، فإذا مشيت في شوارع بغداد شاهدت وحدة جنسية يمثلها اللون، وسبب ذلك فيما أعتقد يرجع إلى جو العراق، فلذلك الجو سلطان قاهر في لفح الوجوه وورسم البشرة، بسمات تقرب ما بين السكان على اختلاف الأجناس.
Unknown page