وكذلك يحدثني الأساتذة المصريون الذين يدرسون في كلية الحقوق فهم يشهدون بأن تلاميذهم فوق ما كانوا ينتظرون، وأنهم يفهمون أدق المشكلات بقليل من البيان.
وكنت أنتظر أن تكون بغداد ميدانا للجدل والصيال على نحو ما كانت في عهود المتكلمين، فكانت كما انتظرت، فهي اليوم تزخر بالأدباء والمفكرين الذين يملأون الأسمار بأجود ما تجود به العقول، ويكفي أن يكون فيها رضا الشبيبي وزير المعارف، وطه الراوي مدير التعليم، فهذان الرجلان يصوران ما امتازت به العقلية العراقية في قديم الزمان.
وأشهد صادقا أني ما صادفت رجلا من المفكرين في بغداد إلا انتفعت منه أجزل انتفاع، ولا رأيت كاتبا ولا عالما إلا تذكرت الجاحظ وابن العميد.
وليت أدباء القاهرة يعرفون أن مؤلفاتهم تقرأ في بغداد، وليت أصحاب المجلات في القاهرة يعرفون أن لهم قراء في العراق، فلو عرف زملاؤنا في مصر شيئا من ذلك لحاسبوا أنفسهم بعض الحساب، ففي العراق موازين يعرف بها النقصان والرجحان، وفي العراق رجال يميزون بين الطيب والخبيث والغث والسمين، وأدباء مصر لهم في العراق خصوم وأنصار لا يخفى عنهم الحق ولا تجوز عليهم الأباطيل. •••
وكنت أتصور بغداد مدينة أثر فيها الاحتلال، احتلال الترك أو احتلال الانجليز، فوجدتها مدينة عربية في كل شيء، ولا تغلب فيها لغة الترك ولا لغة الانجليز، فالعراق من هذه الناحية يشبه مصر، فهو يبتلع كل شيء، ولا يؤثر فيه شيء، ولعل لماضيه أثرا في ذلك، فهو لا يزال يعتقد أنه دان الأمم العربية جمعاء، وهو من أجل ذلك يرفض السيطرة الأجنبية، فإن رأيتموه يستعين العلماء المصريين في بعض شؤونه فاعلموا أنه يرى المصريين إخوة أشقاء ولا يراهم أجانب، وهذا معنى لمسته بنفسي وقابلته بأصدق آيات الثناء.
وكنت أتصور بغداد مدينة شغلتها الصروف عن تقاليد الإسلام، فراقني أن أراها مدينة إسلامية في كل شيء، وما ظنكم بمدينة تعيش في القرن العشرين وهي مع ذلك لا تسمح لإنسان بأن يدخن سيجارة في رمضان، ولا يفتح فيها مطعم ولا مشرب ولا حانة في أيام الصيام؟
هل تصدقون أن الخروج على آداب الصوم يجر الرجل إلى دار الشرطة حيث يلقى سوء الحساب؟ هل تصدقون أن رجال الشرطة في بغداد يراقبون الناس في الطرقات عساهم يظفرون بمسلم جاهل يتظاهر بالإفطار ليزجوا به في غيابات السجون؟ هل تصدقون أن النصارى واليهود في بغداد يحترمون رمضان مراعاة لخواطر المسلمين؟
أقول هذا وقد سمعت أن الصوم الحق لا يقوم به إلا الأتقياء ، ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن العراق من الأقطار الإسلامية التي تعرف الواجب نحو الدين الحنيف.
وكنت أتصور بغداد تموج بالفتنة بين السنة والشيعة، فلما خبرت الناس بعض الخبرة رأيتهم على جانب عظيم من التسامح، رأيتهم يعيشون جنبا إلى جنب في هدوء واطمئنان، ورأيت الثقة بينهم على أتم ما يكون من الصفاء، وتبينت أن المذاهب الدينية لا تصرفهم عن الواجبات الوطنية، وأن الأخوة العراقية ستكون أساس الوحدة القومية بعد قليل من الزمان.
وجملة القول أن بغداد في عهد البناء، والتجارب القاسية التي مرت بها ستجعلها في حرز من تقلبات الأهواء، فمن كان في ريب مما أقول فلينتظر قليلا، فستأتي هذه البلاد بالأعاجيب، وسيرى الساعون بالنميمة أنهم كانوا واهمين.
Unknown page