وهكذا تسمع ما شئت من سخف وهذيان، نسأل الله العافية!
هذا، ومن الواضح أن علم البديع يعتبر من ملحقات علمي المعاني والبيان أو من متمماتهما، حتى إن بعضهم يطلق اسم البديع على هذه العلوم الثلاثة كلها، ولهذا نجد علماء البلاغة لا يخلون كتبهم من ذكر طائفة من أنواع كما فعل الشيخ عبد القاهر في كتابيه، فإنك لتجد جملة من هذه الأنواع منبثة في مطاوي ذينك الكتابين، وكذلك فعل السكاكي فإنه ألحق بعلمي المعاني والبيان جملة صالحة من أنواع البديع، وتبعه الخطيب القزويني في ذلك. وبالجملة فإنك قلما تجد كتابا في المعاني والبيان إلا وهو مذيل بطائفة من أنواع البديع، ونحن نذكر في صدر هذا البحث الكتب التي ألفت في علم البديع على سبيل الاستدلال.
ولا نختم هذا الفصل قبل أن نذكر أن ما أولع به المتأخرون مما سموه بديعا قد خرج بهم إلى عبادة الألفاظ والكفر بالمعاني، فإنهم نصروا الألفاظ نصرا مؤزرا وجعلوا لها سلطانا أيما سلطان وخذلوا المعاني أيما خذلان، كل ذلك مراعاة لما سموه بديعا. وإن الإنسان ليحار من هذا التصرف الشائن، يتعلقون بذنابى هذا العلم وهم عن الإفصاح الساذج قاصرون، ويريدون أن يمتطوا صهوة هذا الشموس وهم عن ركوب الذلول العسيف عاجزون.
ولو كنا في صدد تحرير هذا المعنى لأتيناك بالعجاب من الأمثلة المضحكة المبكية في هذا الباب، ولكنا في موقف المؤرخ فما علينا إلا أن نطوي هذه الصحيفة ونأخذ بعنان اليراعة مبتهلين إليه تعالى أن يجعل عاقبة أمرنا خيرا!
تأريخ الخط العربي
(1) تمهيدات (1-1) موقع الخط ما قبل التاريخ
للموجودات التي تقع تحت الحس صور كثيرة ترجع في مجموعها إلى أربع: الصورة الأولى عيانية، والثانية ذهنية، والثالثة لسانية، والرابعة خطية. مثال ذلك أنك ترى القلم عيانا، ثم تتخيل صورته في ذهنك، ثم تضع لفظا يدل على الصورة الذهنية وهو كلمة «قلم»، ثم تضع إشارات خطية مخصوصة تدل بها على ذلك اللفظ، فإذا رأيت حروف «قلم» دلتك على اللفظ، وهذا اللفظ يدلك على الصورة الذهنية لهذه الأداة، وتلك الصورة الذهنية مثال لهذه الأداة المرئية.
والصورتان العيانية والذهنية لا يختلف فيهما بنو الإنسان مهما تعددت شعوبهم وقبائلهم، فالعربي مثلا يرى الشيء كما يراه الأعجمي ويتخيله كما يتخيله من غير ما فرق. أما الصورة الثالثة وهي اللسانية فتختلف باختلاف الشعوب، فيضع العربي مثلا لفظا للشيء ويضع الأعجمي له لفظا آخر، وهذا هو سر اختلاف اللغات، فالعربي يسمي هذا الشيء الذي يدفع به العطش «ماء» والفارسي يسميه «آب» والتركي يسميه «صو». وهذا غير مطرد فقد تشترك عدة شعوب بوضع لفظ واحد، فالعربي يسمي أداة الكتابة «قلما» وكذلك يفعل التركي والفارسي.
وكذلك تختلف الصورة الرابعة وهي الخطية باختلاف اللغات، فالعربي يصور اللفظ بصورة تختلف عن الصورة التي يصورها بها الفرنجي، فإذا أراد العربي أن يدل على لفظ «كوب» صوره كما ترى، أما الفرنجي فيصوره هكذا
CUB . وهذا غير مطرد أيضا فقد تتفق شعوب كثيرة على استعمال حروف واحدة في تصوير لغاتها كما يفعل العرب والفرس اليوم، وكما يفعل الإنكليز من يصاقبهم من شعوب أوروبا. وقد يكتب اللفظ العربي بالحرف اللاتيني كما يكتب اللفظ الفرنجي بالحرف العربي، ومنه يفهم أنه لا يلزم من اختلاف الخطوط اختلاف اللغات، كما لا يلزم من اختلاف اللغات اختلاف الخطوط. ولا يخفى أننا نريد بالخط هذه النقوش والعلامات المسماة بالحروف الدالة على الألفاظ. (1-2) ما قبل التاريخ
Unknown page