الأدب
اللغة العربية
بعض عاهات الكتب المتداولة في النحو لهذا العهد
تأريخ علم البلاغة
البديع
تأريخ الخط العربي
تعريف ببعض الأعلام الهامة الواردة في الكتاب
الأدب
اللغة العربية
بعض عاهات الكتب المتداولة في النحو لهذا العهد
Unknown page
تأريخ علم البلاغة
البديع
تأريخ الخط العربي
تعريف ببعض الأعلام الهامة الواردة في الكتاب
تاريخ علوم اللغة العربية
تاريخ علوم اللغة العربية
تأليف
طه الراوي
الأدب
كان العرب قبل الإسلام يطلقون لفظ «الأدب» على معان، منها: الدعوة إلى الشيء، يقال: أدب الرجل يأدب أدبا: إذا صنع صنيعا ودعا الناس إليه، ومنها العجب، وكذلك يطلقونه على الفضائل النفسية، والمكارم الخلقية، وعليه الحديث: «أدبني ربي فأحسن تأديبي.»
Unknown page
ثم تطور معنى هذه الكلمة بعد الإسلام، فأطلقت على مجموعة من علوم العرب، منها: الشعر، والأخبار، والأنساب، والنحو. ويطلق على العالم بهذه العلوم اسم «الأديب»، وإذا اشتغل بتعليمها فهو «المؤدب».
قال أبو منصور الجواليقي المتوفى سنة 539ه: «وذلك كلام مولد؛ لأن هذه العلوم حدثت في الإسلام. واشتقاقه من شيئين؛ يجوز أن يكون من الأدب وهو العجب، ومن الأدب مصدر قولك: أدب فلان القوم يأدبهم أدبا إذا دعاهم، قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
1
لا ترى الآدب فينا ينتقر
فإذا كان من الأدب الذي هو العجب، فكأنه الشيء الذي يعجب منه لحسنه، ولأن صاحبه الرجل الذي يعجب منه لفضله. وإذا كان من الأدب الذي هو الدعاء، فكأنه الشيء الذي يدعو الناس إلى المحامد والفضل، وينهاهم عن المقابح والجهل.» ا.ه.
وهذا التطور في معنى كلمة الأدب بدأ في أواسط القرن الأول الهجري، وبذلك التقى في معنى هذه الكلمة أدب النفس وأدب الدرس الذي يستأنس أحدهما بالآخر ويستمد قوته منه، فإن أدب الدرس من أهم روافد أدب النفس، كما أن أدب النفس أكبر حافز إلى التوسع في أدب الدرس.
وبهذا التطور في معنى الأدب أصبح ذا كيان خاص، وصار محتاجا إلى تعريف يجمع بين معناه النفسي ومعناه الدرسي، وعلى هذا قال أبو زيد الأنصاري المتوفى سنة 215ه: «الأدب يقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل.» وهذا كما تراه شامل لأدبي النفس والدرس؛ لأن الرياضة المحمودة كما تتصل بالنفس تتصل بالدرس. ثم لما تبسطت الأمة في الحضارة وتوسعت في المعارف، ولا سيما اللسانية منها، أضيفت إلى معنى هذه الكلمة أمور لم تكن من معناها سابق العهد، من ذلك إطلاقها على أصول المنادمة وفنونها وعلى فنون النغم وأصول الأغاني وما يتصل بها من الآلات، ولما وضع عبد الله بن طاهر المتوفى سنة 289ه كتابه في أصول المنادمة وفنونها أسماه «الآداب الرفيعة»، ذاهبا إلى أن هذا الضرب من الأدب يعتبر في القمة من سائر ضروبه، وكذلك فعل الشاعر المشهور «كشاجم» في تسمية كتابه «أدب النديم»، وقد جمع فيه ضروبا شتى من هذه الفنون.
ثم كلما ابتدع فن من الفنون اللسانية انضوى إلى لواء هذه الكلمة، وبذلك توسع معناها بتعاقب الزمن توسعا ظاهرا، وبعد كل هذا التوسع أصبح حد الأدب كما قال ابن خلدون: «هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم، والأخذ من كل علم بطرف.» ولهذا لا يجوز أن يتحلى بلقب «الأديب» إلا من أتقن الفنون اللسانية، وألم من العلوم الشرعية والكونية بما لا يجمل بالناثر والناظم جهله. (1) علوم الأدب
تبين مما تقدم أن معنى لفظ الأدب تطور من حال إلى حال حتى أصبح جامعا بين المعنى الخلقي والمعنى الفني، بمعنى أنه صار شاملا المزايا الخلقية والمكارم النفسية، وزمرة العلوم التي من شأنها تقويم اللسان والقلم، وكل ما يعين على الإجادة في منثور القول ومنظومه، وكل ما يتوسل به إلى فهم كلام العرب في القديم والحديث وهي فنون كثيرة، فلا يسوغ لأحد أن يتسم بسمة الأديب بحق إلا إذا ضرب في هذه الفنون بسهم. وقد اختلفوا في تعداد هذه الفنون اختلافا كثيرا، لكنهم اتفقوا على أصل واحد وهو أنها فنون اللسان العربي. ومن أشهر الباحثين في ذلك أبو القاسم الزمخشري المتوفى سنة 538ه؛ فقد ذكر أنها اثنا عشر فنا وهي: «اللغة، والصرف، والاشتقاق، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، والعروض، والقوافي»، وهذه تعتبر أصولا، «والخط، وقرض الشعر، والإنشاء، والمحاضرات» وهذه الأربعة تعتبر فروعا. أما ابن الأنباري المتوفى سنة 577ه فقد عد منها في كتابه «طبقات الأدباء» «النحو، واللغة، والتصريف، والعروض، والقوافي، وصفة الشعر، وأخبار العرب، وأنسابهم، والجدل في النحو، وأصول النحو»، وبهذا أسقط بعض العلوم التي ذكرها أبو القاسم الزمخشري، وزاد علمين وهما «علم الجدل في النحو، وأصول النحو». وكان الأندلسيون يطلقون علم الأدب على ما يحفظ من التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الحكايات.
Unknown page
والجمهور على أنه لا بد للأديب من الاطلاع على فنون شتى غير الفنون اللسانية، ليتحذر من التورط في الأغاليط عندما يتطرق في شعر أو نثر إلى ما له مساس في تلك الفنون، ولكي يستعين بذلك على فهم كلام المحدثين الذين أولعوا بتضمين منثورهم ومنظومهم الكثير من مسائل تلك العلوم، فمن ذلك مثلا قول الطغرائي:
فإن علاني من دوني فلا عجب
لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
وقوله أيضا:
لو كان في شرف المأوى بلوغ منى
لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل
وقول أبي الطيب:
وكم لظلام الليل عندك من يد
تخبر أن المانوية تكذب
فإن البيتين الأول والثاني لا يفهمهما إلا من شدا طرفا من علم الهيئة، والثالث لا يفهمه إلا من ألم بشيء من علم الكلام. وأمثلة هذا كثيرة، ولا سيما في كلام المتأخرين من الأدباء، وإلى هذا أشار ابن خلدون في تعريفه علم الأدب بقوله: «والأخذ من كل علم بطرف.»
Unknown page
على أنه إذا أطلقت علوم الأدب فإنما يراد بها العلوم اللسانية، التي لا بد من معرفتها لكل من يتصف بصفة الأديب. ونحن نلخص ذلك في الفصل التالي مع شيء من الإيضاح. (2) إجمال وإيضاح
حدثنا التاريخ أنه عندما أحس أولونا بوقوع بوادر الاضطراب على ألسنة أحداثهم، وشعروا بدبيب اللكنة في حواضرهم وتسرب اللحن إلى أحداثهم؛ عز عليهم ذلك، وخافوا أنهم إذا تركوا الحبل على الغارب يستفحل أمر اللحن والاضطراب في لغتهم، ويتدفق عليها تيار العجمة فيطمس آثارها، فانصرفوا بكل ما لديهم من تفكير إلى وقايتها وصيانتها، وصد ما يعتورها من طوارئ الخلل والاضطراب ، كيف لا وهي لغتهم ولغة دينهم الذي هو سر نهضتهم، وعنوان سيادتهم. ومن ثم بادر علماؤهم إلى تدوينها، وضبط قواعدها، وتقييد مسائلها، وما برحوا ينتقلون في خدمتها من حال إلى حال، حتى استوت لديهم على توالي الأجيال جملة علوم أطلقوا على مجموعها «علوم العربية» أو «علوم الأدب»، فمن هذه العلوم ما يخدم العربية المعربة من حيث ضبط مفرداتها وبيان مدلول كل لفظ من ألفاظها، وهذا ما سموه «علم اللغة» أو «متن اللغة».
ومنها ما يخدمها من جهة معرفة ما يعرض لأبنية كلماتها من الهيئات المختلفة، ومعرفة القواعد التي يستعان بها على معرفة تحويل الأصل الواحد إلى صيغ مختلفة في الهيئات متحدة في المادة، للحصول على معان لا يمكن الحصول عليها إلا بتلك الصيغ، وهذا ما يسمى «علم الصرف» أو «التصريف»، ونريد به ما يشمل علم الاشتقاق.
ومنها ما يعرف به أصول تركيب كلمها، وانطباق هذه التراكيب على المعاني المرادة منها، وما يعرض لأواخر الكلمات بعد التركيب من التغير وعدمه، وهذا «علم النحو».
ومنها قواعد يعرف بها خواص تركيب الكلام، وأسرار بلاغته، وإيراده منطبقا على مقتضى المقام والحال، وهذا هو «علم المعاني» وبعضهم يسميه «علم البلاغة». ومنها قواعد تعين على معرفة إيراد المعنى الواحد بطرق متعددة وتعابير مختلفة في الإيضاح والتبيين، وهذا هو «علم البيان».
ومنها ما يعرف به وجوه تحسين الكلام لفظا أو معنى، وهو «علم البديع»، وبعضهم يسمي هذه العلوم الثلاثة أو الأخيرين منها فقط «علم البيان»، وبعضهم يطلق على الثلاثة «علم البديع».
ومنها ما يبحث فيه عن طرق بيان المقصود بالكلام المنثور كتابة، وعن اختلاف أساليب الكلام باختلاف الموضوعات، وعن الآداب التي ينبغي للكاتب أن يتأدب بها، والمعارف التي يجب أن يتحلى بها وما إلى ذلك، فأطلقوا على هذا «صناعة الإنشاء». وبحثوا عن كيفية تصوير الألفاظ بحروف هجائها، وسموا ذلك «علم الرسم» أو «الخط» أو «الكتابة».
كل هذه العلوم تخدم المنثور من الكلام. ثم انتقلوا إلى المنظوم فبحثوا فيه من وجوه عديدة: بحثوا عن كيفية نظم الشعر، وعن آداب الشاعر، وعن نقد ألفاظ الشعر ومعانيه، وأطلقوا على هذه المباحث «صناعة قرض الشعر».
ثم بحثوا عن ضبط الأوزان التي نظم عليها العرب المعربون، وأسموا مجموع ذلك «علم العروض».
وبحثوا عن أحوال أواخر الأبيات من حيث حروفها، وحركاتها، وسكناتها، ومحاسنها، وعيوبها، وأسموه «علم القوافي».
Unknown page
ثم انتقلوا إلى البحث عن كيفية إيراد المتكلم كلام غيره من منثور ومنظوم حسب المقتضيات والمناسبات في المحادثات والمساجلات، وأطلقوا عليه «علم المحاضرات»، وينطوي تحت ذلك علم أخبار العرب وأيامها وأنسابها والتاريخ على سبيل الإجمال.
هذه أهم العلوم التي حاط بها أسلافنا لغتهم المعربة. وهناك علوم أخرى تتصل بهذه أو تتفرع عنها، وليس هذا محل استقصائها، وإنما أوردنا في هذا التمهيد المهم مما لا بد من إيراده لربط حلقات الموضوع بعضها ببعض. ولسنا بحاجة إلى بيان ما لهذه العلوم من المكانة في خدمة اللغة المعربة وتعزيز جانبها، وتحويطها من أن يطغى عليها سيل العامية فيطمس آثارها ويعفي معالمها، ولهذا رأينا أن نلم بتأريخ كل علم منها على سبيل الإجمال وبقدر ما يتسع له المقام، فنبحث عن: نشأة العلم، وأولية تدوينه، وأطوار تدرجه في النماء والاتساع، وما تفرع عنه من الفروع، وما أصيب به من توقف أو تقلص أو جمود، مع التنويه بذكر البارزين من القائمين على خدمته والتعريف بالمهم من آثارهم فيه، إلى غير هذه من المباحث التي نرى أن في إمكان الطالب أن يجتني منها ثمرة علمية أو عملية.
اللغة العربية
(1) أصلها
يرد العلماء اليوم اللغات البشرية إلى ثلاثة أصول: السامي، والآري، والطوراني، ويعدون العربية من الأصل السامي. وإذا اعتبرنا اللغة البابلية الأولى، التي عثر على بقيتها في آثار الدولة الحمورابية، هي الأصل السامي الذي انشقت منه اللغات المنسوبة إليه؛ يترجح عندئذ أن العربية أقرب أخواتها إلى ذلك الأصل أو أنها هي الأصل نفسه، تقلبت في أطوار وتنقلت في أحوال، وحدتها القرون الخالية بالصقال حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن؛ ذلك لأن العلماء رأوا مشابهة واضحة بين العربية الحاضرة والبابلية الأولى، ووجدوا في هذه كلمات وعلامات وأصولا وقواعد هي نفسها موجودة في العربية مع خلو سائر أخواتها السامية منها، أو هي موجودة فيها مع تحريف وتحوير ليسا بالبعيدين.
فمن وجوه المشابهة بين العربية المضرية والبابلية حركات الإعراب، فإنها في البابلية كما هي في العربية، ولا أثر لها في سائر اللغات السامية، ومن هنا يظهر أن الإعراب عريق في العربية، عرفها وعرفته قبل أن يعرفها التاريخ. ومن وجوه المشابهة جمع المذكر السالم، فإنها في اللغتين «و ن»، وصيغ الأفعال في اللغتين متقاربة جدا، والتنوين في البابلية ميم ساكنة، والميم أخت النون في العربية وكثيرا ما تتبادلان، مثل عنبر تنطق عمبر. ومن أمثلة الكلمات التي جاءت في اللغتين معا من غير ما تحريف: أنف، عنب، بلال، صعصعة، نسر، شمس، إلى غيرها من الكلمات التي لا تختلف شيئا في اللغتين.
إذا أضفنا هذا إلى ما يراه المحققون من أن مهد العنصر السامي جزيرة العرب، تبين لنا جليا صدق ما ذهبنا إليه من أن هذه اللغة هي العمود الذي انشعبت منه سائر اللغات السامية، أو لا أقل من أن العربية أقرب أخواتها كلها إلى الأصل الأول المندثر على تقدير وجوده. والعلماء يعللون ذلك بكون العربية عاشت في معظم عصورها مبتدية، والبداوة حرز حريز لما تحوطه بعنايتها وتربيه في حجرها من اللغات؛ إذ اللغة تتلون بتلون العمران، وتصطبغ بصبغة الحضارة التي تعيش في أكنافها، وأين العمران والحضارة من المهامه الفيح والصحارى التي تحار فيها الريح؟ (2) تطورها
ليس معنى كون العربية أصلا أو قريبة من الأصل أن هذه اللغة المضرية اليعربية التي تحوكها أقلامنا وتلوكها أفواهنا هي لغة تلك الأم القديمة على ما كانت عليه في مجد حياتها، حفظتها لنا القرون الخالية فأدتها إلينا مصونة من التحوير والتغيير؛ لا وإنما المقصود أن الشعب العربي الذي ما زال ولم يزل يحتفظ بجزيرته، مهد العنصر السامي، احتفظ بأم لغات هذا العنصر، وأن الأم تطورت من حال إلى حال، وتعهدتها الأجيال بالصقال، ولم تزل تتنازعها عوامل البسط والقبض والرفع والخفض إلى أن تناولتها يد النهضة الإسلامية فجمعت شملها، ولمت شعثها، وزادت في ثرائها، وبالغت في نمائها، ثم وطدت قواعدها، وضبطت أصولها وفروعها، وأحاطتها بعظيم رعايتها، وشملتها بجليل حمايتها، إلى أن بلغت ما بلغت من البسطة في السلطان والكثرة في الأعوان، واتسع صدرها للعلوم المختلفة من بين شرعية، ولسانية، وفلسفية وغيرها، وبلغت يومذاك شأوا قصيا لم تصل إليه لغة من لغات العالم التي كانت تعاصرها.
فإذا أنت ألقيت نظرة إليها وهي زاخرة بالعلوم والفنون في العصر العباسي، تجدها أوسع رقعة منها في العصر الأموي. وهي في العصر الأموي وصدر الإسلام أفسح مجالا منها في الجاهلية يوم كانت منعزلة في زوايا الجزيرة. وقس على ذلك حالها في الجاهلية الآخرة بالنسبة إلى حالها في الجاهلية الأولى.
وبالجملة فإن اللغة تنبسط بانبساط أهلها في الحضارة والعمران، وتنقبض بانقباضهم، وترتقي بارتقائهم، وتنخفض بانخفاضهم، وهي بعد كائن حي معروض لعوامل التركيب والتحليل والتجدد والاندثار وسائر العوامل التي تخضع لها الأحياء من هذا القبيل.
Unknown page
وأهم علائم الحياة في اللغة تحكم عاملي التجدد والدثور في بنيتها كالإنسان في عنفوان شبابه، فتستغني عن ألفاظ وتراكيب، وتضم إلى نفسها ألفاظا وتراكيب حسبما تقضي به عوامل النشوء والارتقاء، أو كما يقولون حسبما يتطلبه قانون الانتخاب الطبيعي، ومن هذا نعلم أن العربية اليوم غيرها بالأمس. (3) عوامل تهذيبها
وليس في مقدور الباحث اليوم أن يحيط بكنه ما تقلبت عليه هذه اللغة من أطوار التهذيب وما مرت به من عوامل النماء والتوسيع، ولكن يمكن أن يقال على سبيل الإجمال، فإن أطوار تهذيبها وعوامل نمائها وتوسيعها تابعة لتطور أحوال المتكلمين بها، فإذا علمنا مثلا أن دولة حمورابي التي وصلت إلى ما وصلت إليه من رفعة الشأن والتبسط في العمران عربية النجار؛ نعلم عند ذاك أن هذه اللغة نالت على عهد هذه الدولة قسطها من التهذيب والنماء يقدران بمقدار ما أحرزته تلك الدولة من سعة العمران، وقوة السلطان.
ويقال مثل ذلك في الدول العربية الأخرى التي ظهرت لمع من أخبارها من خلال غبار العصور الخالية، مثل دولة العماليق في مصر المعروفة عند اليونان باسم «الهيكسوس» وعند قدماء المصريين باسم «الشاسو» أي الرعاة أو البدو، ومثل دولة معين في اليمن وسائر الدول اليمانية التي تبسطت في الفتوح، وتوسعت في الحضارة.
ومن هذا يتبين أن معرفة أطوار التهذيب لهذه اللغة تستمد من تاريخ الأمة العربية، فلنترك هذا الجانب للباحث في تاريخ العرب. على أنه لا يفوتنا أن أطوار التهذيب ليست قاصرة على ما تتقلب عليه الأمة العربية من الأحوال السياسية، بل هناك تطورات لها شأنها خارجة عن هذه التقلبات، منها: اتصال العرب بغيرهم بالمجاورة والمتاجرة وما إلى ذلك، ومنها انتشار القبائل في أنحاء الجزيرة وانفراد كل قبيلة بمحاسن من القول يغبطه عليها القبيل الآخر، ومنها الأسواق المشهورة والمجامع المذكورة مثل: عكاظ ومجنة وذي المجاز، ومنها الحج وغير ذلك.
هذا أمر تطورها في الجاهلية، وأما في الإسلام فلأطوار التهذيب تاريخ واضح المنهج، سنلم به في غير هذا الموطن إن شاء الله تعالى. (4) عوامل نمائها وتوسعها
أما عوامل النماء في اللغة فكثيرة، أهمها: الاشتقاق، والنحت، والقلب، والإبدال، والاشتراك، والتضاد، والترادف، والمجاز، والكناية، والإصلاح، والتوليد، والتعريب.
وإذا أنعمت النظر في هذه العوامل تجدها على قسمين؛ قسم منها يرجع إلى بنية اللغة مثل الاشتقاق، وقسم تستمده اللغة من الخارج مثل التعريب. وهذا أشبه شيء بكيفية نماء الأجسام الحية، فإن وسائل نمائها على درجتين؛ الأولى: تمثيل الأغذية التي تستمدها من الخارج، والثانية تحصل بتكاثر الخليات بانقسام الواحدة منها إلى اثنتين، ثم انقسام كل من الاثنتين وهكذا. (4-1) الاشتقاق
يقول الصرفيون: إن الاشتقاق أخذ صيغة من أخرى مع اتفاقهما في أصل المادة والمعنى، ليدل بالثانية على المعنى الأصلي مع زيادة مفيدة لأجلها اختلفت حروفهما أو حركاتهما أو هما معا، مثل: «كتب» من الكتابة، و«قرأ» من القراءة، وبعبارة أخرى هو رد لفظ إلى آخر لمناسبة بينهما في المعنى والحروف الأصلية.
وقد ذكروا له نوعين؛ الأول: الاشتقاق الأصغر، وهو المشهور بين علماء العربية، وإذا أطلق الاشتقاق ينصرف إليه. والثاني: الاشتقاق الأكبر، وأهم مميزاته عن سابقه أنه لا يشترط فيه الترتيب في الحروف بين المشتق والمشتق منه.
والمذهب المعول عليه بين علماء العربية أن الكلم بعضه مشتق وبعضه غير مشتق. وذهبت طائفة من المتأخرين إلى أن الكلم كله مشتق، وهذا مذهب غير مفهوم؛ لأنه لو كانت كل لفظة نوعا من غيرها للزم ألا يكون هناك أصل وهذا محال، اللهم إلا إذا قالوا: إن المراد بذلك أن الكلمة لا تخلو من أحد أمرين؛ إما أن تكون مشتقة أو مشتقا منها، فحينئذ يمكن أن يذكر قولهم هذا مع الأقوال، ويحتمل المناقشة والجدال. وتذهب طائفة ثالثة إلى أنه ليس هناك اشتقاق ما وأن الألفاظ كلها أصل، وهو قول بعيد عن التحقيق.
Unknown page
ثم إن التغييرات بين المشتق والمشتق منه في الاشتقاق الأصغر في وجوه:
الأول:
زيادة حركة في المشتق، مثل علم من العلم.
الثاني:
زيادة حرف فيه، مثل طالب من الطلب.
الثالث:
زيادة حرف وحركة معا، مثل ضارب من الضرب.
الرابع:
نقص حركة منه، كالفرس من الفرس.
الخامس:
Unknown page
نقص حرف منه، مثل ثبت من الثبات.
السادس:
نقص حرف وحركة معا، مثلا نزا من النزوان.
السابع:
نقص حركة وزيادة حرف، مثل غضبى من الغضب.
الثامن:
زيادة حركة ونقص حرف، مثل حرم من الحرمان.
التاسع:
زيادة حركة وحرف ونقصهما، مثل استنوق من الناقة.
العاشرة:
Unknown page
تغاير الحركتين، مثل بطر من البطر.
الحادي عشر:
نقص حركة وزيادة أخرى وحرف، مثل أضرب من الضرب.
الثاني عشر:
نقص حرف وزيادة آخر، مثل راضع من الرضاعة.
الثالث عشر:
نقص حرف وزيادة آخر وحركة، مثل خاف من الخوف.
الرابع عشر:
نقص حركة وحرف وزيادة حركة فقط، مثل عدة من الوعد، فإن فيه نقص الواو وحركتها وكسر العين بعد أن كانت ساكنة.
الخامس عشر:
Unknown page
نقص حركة وحرف وزيادة حرف، مثل فاخر من الفخار.
وإنما أشرنا إلى هذه التغيرات المتنوعة لندل على ما في هذا الباب من السعة، وأنه من أكبر الأبواب التي تنهض باللغة وتمدها بمعين لا ينضب.
أما الاشتقاق الأكبر فيشترط فيه حفظ أصل المادة دون تقلبات الهيئة، مثل تقليب مادة «ق و ل» على وجوهها الستة المختلفة: ولق، لقو ... إلخ، وهي في كل هذه التصاريف تدل على الخفة والسرعة. قال أبو حيان النحوي: وهذا مما ابتدعه الإمام أبو الفتح بن جني وكان شيخه أبو علي الفارسي يأنس به في بعض المواضع.
والذي يتقرى كلم اللغة بإنعام نظر يجد أن لمعظم موادها أصلا ترجع إليه أكثر كلمات ذلك الأصل إن لم نقل كلها، خذ على ذلك مادة «ف ل» وما يثلثهما تجد الجميع تدور حول معنى الشق والفتح، مثل: فلح، فلج، فلع، فلق، فلذ، فلي. ومثل ذلك مادة «ق ط» وما يثلثهما، تقول: قط، قد، قطع، قطف، قطر، قطن ... إلخ، وكلها بمعنى الانفصال.
وأول من فتح باب هذا النوع من الاشتقاق أبو الفتح أيضا، وللعلامة الزمخشري ولوع فيه، تجد ذلك كثيرا في كشافه. ويذهب بعض اللغويين إلى أن هذا الأصل جار في كل تراكيب المواد اللغوية ولو بضرب من التأويل ولو قليلا، وهذا مذهب لا يخلو من المبالغة؛ إذ إن كثيرا من مفردات اللغة دخل عليها من لغات أخرى ثم صار مع الزمان كأنه منها في الصميم ولا يمكن في حال من الأحوال أن يرد إلى أصل من أصولها، وللغفلة عن هذه الناحية نجد الكثير من اللغويين يتمحلون لبعض الكلمات اشتقاقات أقل ما يقال فيها إنها من المضحكات: حكي عن بعضهم أنه سئل عن اشتقاق الجرجير - نوع من النبات - فقال: سمي بذلك لأن الريح تجرجره أي تجره، وسئل عن اشتقاق الجرة فقال: لأنها تجر على الأرض، ويقول: إنما سمي الثور ثورا لأنه يثير الأرض للحرث! إلى أمثال هذا الهذيان. والأعجب أن بعضهم يتكلف للأعلام العجيبة ضروبا من الاشتقاق تتقاطر السخافة من أطرافها، ولا تعدم في هذا العصر أناسا من هذا القبيل؛ فقد بلغنا أن بعضهم سئل عن البنجرة - وهي يستعملها الأتراك للنافذة - فقال إنها من بنجر الرجل إذا فتح عينيه، لأن النافذة تكون مفتوحة! فاقرأ واعجب.
ولمكانة هذا الباب في علم العربية أفردوه بالتأليف وحاطوه بالعناية الواسعة ، وممن ألف فيه الأصمعي، ومحمد بن المستنير المعروف بقطرب، وأبو الحسن الأخفش، وأبو نصر الباهلي، والمفضل بن سلمة، وابن دريد، والزجاج، وابن السراج، والرماني، وابن النحاس، وابن خالويه وغيرهم. هذا زيادة على ما جاء به الصرفيون في كتبهم من التحقيق والتمحيص، وأكبرهم عناية في ذلك إمام الصرفيين وسندهم أبو الفتح بن جني الموصلي، وقد ألف فيه بعض المعاصرين من علماء الشام كتابا نفيسا. والعصر الذي نحن فيه يتطلب من هذا الباب فضل توسع وبذل عناية؛ لأن المعاني الجديدة المتدفقة والمبدعات العصرية المتكاثرة تتطلب من الألفاظ ما تعيا به مفردات اللغة إذا لم تفزع إلى هذا الباب فتوسع منه ما ضيقه بعض المتشددين، ثم تستمد منه العون فتجد منه خير معين وأقوى نصير.
ثم إن هذا الباب أوسع من أن يحاط به في مثل هذه العجالة، ولكنا نظرنا إليه من بعض نواحيه التي تتعلق بموضوعنا وتركنا التفاصيل للكتب الموضوعة فيه. (4-2) النحت
قد يعمد العربي إلى كلمتين فأكثر فيقتطع منهما حرفا ويؤلف منها كلمة جديدة يدل بها على مجموع المركب الذي اقتطعت منه، أو على معنى آخر قريب من معنى ما اقتطعت منه، فيقول في النسبة إلى عبد شمس «عبشمي» مثلا، كما يقول «بسمل» فلان يريد أنه قال: بسم الله الرحمن الرحيم، ويسمون العجوز الصخابة الكثيرة الهذر «صهصلق» أخذا من «صهل» و«صلق» بمعنى صات صوتا شديدا.
وقد أطلق علماء العربية على هذا النوع من العمل اللغوي «النحت»؛ لأن العربي ينحت من الكلمتين فأكثر كلمة، وفي هذا العمل ما فيه من الفوائد مما يرمي إلى إمداد اللغة بالثراء، زيادة على ما فيه من الاختصار بكون الكلمة الجديدة تدل على جملة من القول؛ فقولنا «بسمل» مثلا أخصر من قولنا: قال بسم الله الرحمن الرحيم.
ولم يضع له الأوائل قواعد واضحة؛ ولذلك اعتبره بعض النحاة سماعيا، وقل الاعتماد عليه عند المتأخرين من العلماء على ما يظهر من كلام ابن مالك في تسهيله أنه يعتبر هذا الباب قياسيا في باب النسبة، ولكن أبا حيان أنكر عليه ذلك وقال إن هذا الحكم لا يطرد وإنما يقال منه ما قالته العرب فقط. والمحفوظ منه عند أبي حيان: عبشمي في النسبة إلى عبد شمس، وعبدري في عبد الدار، ومرقس في امرئ القيس، وعبقسي في عبد القيس، وتيملي في تيم اللات، هذا ما أورده أبو حيان من المسموع في باب النسبة من المنحوت. ومعلوم أن النحت في غير باب النسبة أكثر منه في بابها؛ فقد قالوا: هلل وأكثر من الهيللة إذا قال لا إله إلا الله. وحوقل وأكثر من الحوقلة، وحوقل بعضهم أن يقال حوقل، وعده من الغلط وليس بشيء؛ لأنه جرى على ألسنة كبار اللغويين، ومن حفظ حجة على من لا يحفظ. وأكثر من الحوقلة إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله. ومنه: حمدل حمدلة، وحسبل حسبلة قال: حسبي الله. وحيعل حيعلة قال: حي على الصلاة، حي على الفلاح. وحيعل بمعنى قال حي على كذا.
Unknown page
قال الشاعر:
أقول لها ودمع العين جار
ألم يحزنك حيعلة المنادي؟
وجعفد جعفدة قال: جعلت فداك. ودمعز دمعزة قال: دام عزك. وطلبق طلبقة قال: أطال الله بقاك. ومشكن مشكنة قال: ما شاء الله كان. وسمعل سمعلة قال: سمع الله لمن حمده. وكبتع كبتعة قال: كبت الله عدوك. وسملع سملعة قال: السلام عليكم. وقالوا: حبرم القدر إذا وضع فيها حب الرمان، وأمثلة ذلك كثيرة حتى ذهب ابن فارس وجماعة من المحققين إلى أن الأسماء الزائدة على ثلاثة أحرف أكثرها منحوت مثل قول العرب: رجل ضبطر أي شديد أو ضخم مكتنز اللحم، منحوت من: ضبط وضبر بمعنى اشتد خلقه وتوثق، قال: ومنه أسد صلدم ورجل صلدم أي صلب منحوت من صلد وصدم، وبعثر منحوت من بعث وثبر، وبحثر من بحث وأثار.
ويرى الخليل أن النحت يجيء في الحروف، قال: أصل «لن» لا أن فخففت فصارت لن، وقد حدث لها بالتركيب معنى جديد في الجملة.
وللنحت يد سموح في إمداد اللغة العربية بالثروة ولا سيما لغة العلم، ولكن بعض المتأخرين من النحويين حالوا بين أهل العلم وبينه بقولهم إنه باب سماعي، وبذلك أوصدوه في وجوه القوم، على حين الحاجة ماسة إلى فتحه وتوسيعه بقدر المستطاع لمعالجة الفاقة اللغوية تجاه المعاني العلمية التي فاض فيضها وعب تيارها في هذا العصر.
ثم ما لنا وللمتشددين من متأخري النحاة الذين كلما انفتح أمام اللغة باب تتنفس منه هرعوا إليه وسدوه، على زعم أنهم يخدمونها بالمحافظة عليها وسد مسالك العجمة عنها؟! وما أشبه عملهم هذا بعمل تلك الصينية التي تضع قدميها في زوجي خف من الحديد للمحافظة على غضارتها وجمالها، ولم تدر أنه سوف يأتي عليها زمن تفقد فيه هاتان القدمان قوتهما وتعجزان عن القيام بوظائفهما! وكذلك شأن اللغة عند هذا الفريق من القوم يوصدون عليها أبواب القياس ويأخذون عليها مجامع الطرق على زعم أنهم يحرسونها ويحافظون على نضارتها ويبقون على غضارتها، وفاتهم أنهم بهذا الصنيع يعملون على إماتتها بإماتة عناصر الحياة فيها وإبعاد عوامل النماء عنها، وأنهم لا يزالون يضيقون عليها السبل حتى يقول المرجفون والذين في قلوبهم مرض: إنها أصبحت لغة مصابة بفقر الدم وذبول الخليات، ومنيت بسائر أعراض الهرم فصارت عاجزة عن أن يتسع صدرها للمعاني الجديدة المتكاثرة والعلوم العصرية المتدفقة بالمصطلحات، وبذلك يسجلون عليها عجزها وهي غير عاجزة، وفقرها وهي غير فقيرة، وإنما العجز في نفوس الذين يزعمون أنهم قائمون على خدمتها وهم في وأدها مشتغلون، والفقر في تفكيرهم وهم لا يعلمون. (4-3) القلب
هو تقديم بعض حروف الكلمة على بعض، وبذلك تتولد كلمة جديدة تتفق مع أصلها في مادة الحروف وتختلف عنها في الترتيب، مثل: صاعقة وصاقعة، وخطيب مصعق ومصقع، ويئس وأيس، وعاث في الأرض وعثا فيها، وأثول وألوث، ونزغ الشيطان بينهم ونغز، وهو يتسكع ويتكسع إذا تحير، ومرزاب السطح ومزرابه، وكلام وحشي وحوشي، وهم الأوباش والأوشاب؛ أي الأخلاط من الناس.
وأمثلة هذا كثيرة ذكر منها الجلال السيوطي في «المزهر» جملة صالحة، وقد ألف فيه ابن السكيت كتابا خاصا، وعقد له ابن دريد في جمهرته بابا على حدته، وكذلك فعل أبو عبيدة في كتاب الغريب المصنف. وليس في هذا الباب كبير فائدة من حيث الثروة اللغوية إلا من ناحية الألفاظ، أما المعاني فإنها لا تتكثر به إذ المقلوب والمقلوب عنه يدلان على معنى واحد، فإن جذب وجبذ يدلان على معنى واحد وإن تعددا لفظا.
ويذهب البصريون من النحويين إلى أن معظم ما يسميه اللغويون قلبا ليس به، وإنما هو من باب تعدد اللغات، فجبذ عندهم مثلا لغة قبيلة وجذب لغة قبيلة أخرى، وعلى هذا يكون الكثير مما يظنون أن القلب قد دخله ليس بذاك. ولا يتحقق القلب عند هؤلاء إلا إذا تم لإحدى اللفظتين من التصاريف ما لم يتم للأخرى، فعندئذ يعتبرون اللفظة ذات التصريف أصلا وذات التصريف الناقص فرعا مثل يئس وأيس، فإنهم لما وجدوا للأولى منها مصدرا وهو اليأس ولم يجدوه للثانية، قالوا إن الأولى أصل والثانية فرع. وليس هناك فائدة مهمة من وراء هذا الخلاف إلا من وجهة واحدة، وهي أنه: هل كانت القبيلة الواحدة من العرب تستعمل اللفظتين معا أو كانت تستعمل لفظا واحدا منهما واللفظ الثاني تستعمله قبيلة أخرى؟ سيأتي في باب المترادف ما يلقي شيئا من النور على هذه المسألة؛ لأن اللفظين في هذا الباب لا يخرجان عن كونهما مترادفين سواء قلنا بالقلب أو بتعدد اللغات. (4-4) الإبدال
Unknown page
عرفنا أن القلب نقل حرف من موضعه إلى موضع آخر من الكلمة نفسها فتولد من ذلك كلمة أخرى جديدة، وبعبارة أخرى تصير الكلمة الواحدة كلمتين.
أما الإبدال فهو أن ترفع حرفا وتضع غيره موضعه، فتتولد من ذلك كلمة أخرى تدل على عين ما تدل عليه الأولى من المعنى، فهو أخو القلب من ناحية أثره في الثروة اللفظية للغة دون المعنوية منها.
وقد اختلفوا فيه كما اختلفوا في القلب، فقال فريق: المبدل والمبدل منه يقعان في لغة القبيلة الواحدة، فالقبيلة التي تقول «صراط» هي نفسها تقول «سراط». ويذهب المحققون إلى أن العرب لا تتعمد تعويض حرف من حرف، وإنما هي لغات مختلفة لفظا لقبائل مختلفة تدل على معان متفقة، بأن تتقارب اللفظتان في لغتين لمعنى واحد حتى إنهما لا يختلفان إلا في حرف واحد. وعلى هذا لا تتكلم القبيلة الواحدة بكلمة طورا بالصاد وطورا بالسين، إنما يقول هذا قوم وذاك قوم آخرون.
ومن أمثلة هذا الباب قولهم: ضربة لازب ولازم، وتلعثم وتلعذم، والقطر والقتر للناحية وجمعهما أقطار وأقتار. والحثالة والحفالة للرديء من كل شيء، والثوم والفوم وهو الحنطة. واللثام واللفام، وبعثر وبحثر، ومد الحرف ومطه، والثرى والبرى ... إلخ، والأمثلة كثيرة تكاد تفوت الحصر حتى قال بعض المحققين: قلما تجد حرفا إلا وقد جاء فيه البدل ولو نادرا، يريد به البدل السماعي، أما ما يذكره الصرفيون من أن حروف الإبدال تسعة «أ، ت، د، ط، م، ه، و، ي» فإنهم يريدون به الإبدال القياسي، وهو مفصل في كتبهم وليس من موضوعنا الإفاضة فيه. وللإبدال السماعي دواع كثيرة، منها: سهولة اللفظ بأحد الحرفين المبدل أو المبدل منه، ومنها - وهو أهمها - البيئة فإن لها الأثر البين في تنشئة الألسن؛ ولهذا تجد القبائل اليمانية مثلا تختلف في كثير من الألفاظ عن القبائل الحجازية، فإن هؤلاء ينطقون السين سينا فيقولون الناس مثلا، وأولئك يقلبونها تاء فيقولون النات، وهؤلاء يقولون لبيك وسعديك مثلا، وأولئك لبيش وسعديش بقلب الكاف شينا وهي شنشنتهم.
وسنعرض لهذا البحث في باب اختلاف لغات القبائل ونمنحه فضل إيضاح إن شاء الله تعالى. (4-5) الترادف
من الألفاظ ما يؤدي معنى واحدا كرجل وفرس وبغداد ومكة مثلا، ومنها ما يؤدي أكثر من معنى واحد على وجه الحقيقة مثل «خال»، فإنه موضوع لأخي الأم وللشامة المعروفة وللسحاب وللمتكبر ... إلخ. ومنها ما هو بالعكس معنى واحد يوضع للدلالة عليه أكثر من لفظ واحد، فإنهم مثلا وضعوا الحنطة والقمح والبر والفوم والثوم للحب المعروف، ووضعوا للسيف خمسين اسما، وللأسد مئات، وأكثر منها للجمل، وأمثلة هذا الباب كثيرة، وقد أفرده بالتأليف جماعة منهم: مجد الدين الفيروزبادي صاحب القاموس، وضع فيه كتابا أسماه «الروض المسلوف في ما له اسمان من المألوف»، وبعضهم أفرد بالتأليف أسماء بعض المعاني فألف ابن خالويه كتابا في أسماء الحية، وألف الفيروزبادي كتابا في أسماء العسل، وأفرد السيوطي كتابا في أسماء الأسد. ومن الناس من ينكر المترادف في اللغة العربية ويزعم أن كل ما يظن أنه من المترادف إنما هو من قبيل المتغايرات التي تختلف باختلاف الصفات، ومن ذهب إلى هذا أبو الحسين أحمد بن فارس، قال في كتابه فقه اللغة المعروف ب «الصاحبي»: «يسمى الشيء الواحد بالأسماء المختلفة نحو: السيف والمهند والحسام، والذي نقوله في هذا: إن الاسم واحد وهو السيف، وما بعده من الألقاب صفات، ومذهبنا أن كل صفة معناها غير معنى الأخرى.»
وهو مذهب ثعلب وجماعة من محققي اللغويين، وقد حكى بعضهم أن جماعة من أهل الفضل فيهم ابن خالويه وأبو علي الفارسي حضروا في مجلس سيف الدولة في حلب، فقال ابن خالويه: إني أحفظ للسيف خمسين اسما. فتبسم أبو علي الفارسي وقال: ما أحفظ له إلا اسما واحدا وهو السيف. قال ابن خالويه: فأين المهند والصارم وكذا وكذا ...؟ فقال أبو علي: هذه صفات. وكأن الشيخ لا يفرق بين الاسم والصفة.
ومن الواضح أن الترادف خلاف الأصل لأنه طريق إلى الإسراف في الألفاظ وهو خلاف المعقول؛ لأن الألفاظ محصورة والمعاني غير محصورة؛ إذ الألفاظ مركبة من الحروف الهجائية على أوضاع معينة فلا بد أن تقف عند رقم معين، أما المعاني فهي بنات المحسوس ونتاج العقول فلا يعقل أن تقف عند حد.
ومن ثم ينبغي أن يكون الأصل الاقتصاد في الألفاظ بقدر الطاقة، وعلى هذا ينبغي ألا نقول بالترادف إلا عندما يتعذر الحمل على غيره. والحق أن معظم الألفاظ التي يقال في بادئ الرأي إنها متوطئة على معنى واحد هي في الواقع ليست كذلك، فإذا أنت أنعمت النظر فيها تبين لك أن كل لفظ منها يدل على معنى يختلف ولو قليلا عما يدل عليه اللفظ الآخر، فإذا أخذنا لفظي الشك والريب مثلا نجد الجمهور يفسرون أحدهما بالآخر فيقولون في تفسير
لا ريب فيه : لا شك، مع أن بين معنييهما اختلافا بينا، فالشك يدل على مجرد التردد بين أمرين لا يترجح أحدهما على الآخر، مع أن الريب يدل على القلق والاضطراب في النفس متولدين من التردد الذي يدل عليه الشك فالريب شك مصحوب بقلق واضطراب، ومن ثم يقال: هو في شك مريب؛ أي مقلق مزعج، ولا يقال: هو في ريب مشكك، وعلى هذا لا بد أن يسبق الريب بالشك ولا عكس. ومثل ذلك الظن والوهم، فإن الفكر إذا تردد بين أمرين وكان أحدهما أرجح من الآخر فالجانب الراجح ظن والمرجوح وهم بسكون الهاء، أما المفتوح الهاء فهو الخطأ. وكذلك إذا أخذنا الشرق والغصص والشجا مثلا، نجد الأول يدل على انسداد مجرى التنفس بالماء وكل مائع، والثاني يدل على انسداده بالطعام، والثالث بالعظم وكل صلب، وبعض اللغويين يفسر بعض هذه الألفاظ ببعض.
Unknown page
ومثل هذا جلس وقعد، يظن أنهما مترادفان مع أن اللفظة الأولى لا تطلق على الهيئة المخصوصة إلا إذا كانت عقب الاضطجاع أو الاستلقاء ونحوهما، والثانية إنما تطلق على تلك الهيئة إذا كانت عقب الوقوف ونحوه، فيقال: كان مضطجعا فجلس وكان واقفا فقعد، فالجلوس يكون بعد حالة هي دونه والقعود بعد حالة هي فوقه، وأصل مادة «ج ل س» تدل على الارتفاع ومنه قيل للذي ينزل نجدا «جالس»، ومادة «ق ع د» تدل على الانخفاض ومنه قاعدة البناء لأساسه. (4-6) الاشتراك
من الألفاظ ما هو موضوع بإزاء معنى واحد مثل «بغداد» لهذه المدينة ومنها ما يدل على أكثر من معنى، وهذا إما أن يكون في الأصل موضوعا لمعنى واحد ثم استعمل في غيره لعلاقة بين المعنيين مع قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلي، كلفظ الوطيس فإنه موضوع في الأصل للتنور ويطلق على شدة بأس الحرب لما بينهما من المناسبة الظاهرة فيقال حمي الوطيس أو حمي وطيس الحرب، وهو في المعنى الأول حقيقة وفي الثاني مجاز. وقد يشتهر اللفظ في معناه المجازي بحيث يتبادر إلى الذهن بمجرد إطلاقه مجردا عن القرائن، فإن كان الاشتهار عند أهل الشرع سمي حقيقة شرعية أو منقولا شرعيا، مثل: الصلاة والزكاة والوضوء والتيمم. وإن كان الاشتهار عند أهل العلوم سمي حقيقة اصطلاحية أو منقولا اصطلاحيا كالضرب والطرح والقائمة والحادة عند الرياضيين، والتمييز والمبتدأ والخبر والضمة والفتحة والكسرة والسكون عند علماء العربية، وإن كان الاشتهار في عرف العامة سمي حقيقة عرفية أو منقولا عرفيا، كالحيوان للبهيمة خاصة مع أنه في الأصل أعم من البهائم وغيرها. وإما أن يكون اللفظ في الأصل موضوعا لكل واحد من تلك المعاني بوضع مستقل فهو المشترك؛ فالمشترك إذن هو اللفظ الموضوع لمعنيين فأكثر بأوضاع متعددة، كلفظ الخال فإنه موضوع لأخ الأم وللشامة وللسحاب. وأمثلة المشترك كثيرة جدا، فقد ذكروا لبعض الألفاظ معنيين مثل «العم» لأخ الأب وللجمع الكثير، وذكروا لبعضها ثلاثة معان مثل «النوى» لمعناه المعروف وللنية وللبعد. ولبعضها أربعة معان مثل «الروبة» - الروبة من غير همز - لخميرة اللبن وجمام ماء الفحل وما يلزم به المرء من الأعمال وقطعة من الليل. وذكروا لبعض الألفاظ خمسة معان إلى العشرة بل إلى العشرات مثل «الخال» و«العين»، حتى إن كثيرا من الشعراء نظموا القصائد الخاليات والعينيات بأن جعلوا قوافيها لفظ الخال أو العين من أول القصيدة إلى آخرها.
وأنكر بعضهم ورود المشترك في اللغة قائلا: إن اللغة إنما وضعت للإبانة عن المعاني، فلو جاز وضع لفظ واحد للدلالة على معنيين مختلفين فأكثر لما كان ذلك إبانة، بل تعمية وتغطية.
ولا شك في ورود المشترك، وأما ما ذكره المعترض فلا يخرج عن كونه عيبا من عيوب الاشتراك وهنة من هنواته، ولكن لا يلزم من كون الشيء معيبا أن يكون مفقودا، فلو هب إعصار فأهلك الزرع والضرع فهل يجمل بنا أن ننكر وجود الإعصار لأنه مضر في ذاته؟! هذا ما لا يقوله عاقل. على أن وقوع المشترك يكاد يكون طبيعيا في اللغة، وذلك لأن الألفاظ مركبة من الحروف وهي محدودة والمعاني كثيرة ولا تزال تتجدد ولا تتناهى، فالاقتصاد في استعمال الألفاظ يقضي بجعل اللفظ موضوعا بإزاء أكثر من معنى والتمييز يكون بالقرائن الحالية أو المقالية، فمن قال مثلا: «في خد فلان خال» لا يشتبه بأنه الشامة، وإذا أشار إلى رجل قائلا: «هذا خالي» فلا شك بأنه أخو أمه.
وأسباب الاشتراك كثيرة، منها: اختلاف الوضع باختلاف الواضعين، كأن يضع بعض الناس لفظا بإزاء معنى ثم يضعه الآخرون بإزاء معنى آخر ويشتهر ذلك اللفظ بذينك المعنيين عند كلا القبيلين، ثم بتطاول الأزمان ينسى اختلاف الواضعين. ومنها كثرة استعمال المجاز حتى يشتهر ويصبح كأنه حقيقة في أحدهما ومجازا في الآخر مثل «العين» لربيئة القوم، فإنه في الأصل مجاز من إطلاق الجزء وإرادة الكل ولكنه اشتهر في الاستعمال حتى أصبح اللغويون يعدونه في جملة معاني العين المشتركة. وعلى ذلك كثير من الألفاظ التي تعد اليوم في زمرة المشترك وهي في الأصل حقيقة ومجاز، وهذا هو السر في توهم بعض الناس لهذا العهد بأن عرب الجاهلية تقلل من استعمال المجاز في شعرها ونثرها، والواقع أن أولئك العرب كغيرهم كانوا يكثرون من استعمال المجاز ولكنه لما اشتهرت تلك المعاني المجازية وتطاول عليها العمر أصبحت تتراءى لنا اليوم كأنها حقائق، فإن أعوزتك الأمثلة الكثيرة في هذا الشأن فارجع إلى معاجم اللغة ودواوين الأدب تجد الشيء الكثير من طلبتك، وعليك بأساس البلاغة للزمخشري فإنه أعذب مورد في هذا الباب. (4-7) الأضداد
قد يدل اللفظ المشترك على معنيين فأكثر يمكن اجتماعهما أو اجتماعهما في شيء واحد، وقد لا يمكن هذا الاجتماع فيدل اللفظ الواحد على الشيء وعلى ضده ك «الجون» للأسود والأبيض، ويطلق عليه أهل اللغة اسم الضد. ويقال فيه ما يقال في المشترك من الورود وعدمه، وأسباب ذلك لأنه فرع من فروعه لا يختلف عنه إلا من جهة أنه يدل على الشيء وضده فقط، وأمثلته كثيرة وقد أفرده جماعة بالتأليف منهم: المبرد في كتاب «ما اتفق لفظه واختلف معناه»، ومنهم التوزي، ومنهم أبو البركات ابن الأنباري، وابن الدهان، والصغاني، ومنهم أبو بكر بن الأنباري وكتابه مطبوع متداول، وقد ذكر في صدره السر في ورود أسماء الأضداد في اللغة فارجع إليه إن شئت. (4-8) المجاز
لا يختلف اثنان بأن المجاز من أهم عوامل التوسع في مناحي الاستعمال اللغوي، فإذا اشتريت فرسا وقلت اشتريت بحرا مثلا أي أنه ينصب في الجري انصباب ماء البحر كأنك تكون قد زدت في أسمائه لفظا، كما أنك زدت في مدلول لفظة «بحر» معنى جديدا وهو الفرس القوي السريع الجري، ومثل هذا إطلاق الرحمة على الجنة في قوله تعالى:
ففي رحمة الله هم فيها خالدون ، فإنك قد زدت في أسماء المكان لفظا كما أنك زدت في مدلول الرحمة معنى جديدا.
وقد علمنا في باب الترادف أن كثيرا من المجازات تصبح بسبب كثرة الاستعمال حقائق، وإذا أنت تأملت المستعمل من الكلام تجد للمجاز فيه حظا ليس بالقليل حتى ذهب أبو الفتح بن جني ومن تبعه إلى أن أكثر اللغة من هذا القبيل، وقد عقد لذلك بابا في كتاب الخصائص أورد فيه الكثير من الأمثلة ودعم مدعاه بالمعقول من الأدلة.
ويعتقد أبو الفتح أن المجاز إنما يقع ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة وهي: الاتساع والتوكيد والتشبيه، فاستعمال البحر في الفرس مثلا فيه اتساع كما ذكرنا، وفيه تشبيه لأن جريه يجري في الكثرة مجرى ماء البحر، وفيه توكيد لأنه شبه العرض وهو الجري بالجوهر وهو البحر والجوهر أثبت في النفوس من العرض. والمجاز زيادة على كونه عاملا من عوامل اتساع اللغة هو حلية من أفخر حلاها، تزينت به بعد أن ضرب العرب في النهضة الاجتماعية بسهم.
Unknown page
والحق أن المجاز ثالث ثلاثة في توسيع رقعة اللغة، فكان عمدة القوم في بادئ الأمر على الارتجال، ثم لما توفر لديهم طائفة من الألفاظ المرتجلة ركنوا إلى الأخذ بالاشتقاق والتوسل بأساليبه المختلفة، وعندما يعوزهم الاشتقاق يعمدون إلى المجاز. ويقارب هذه العوامل الثلاثة في خدمة التوسع التعريب.
والكناية أخت المجاز يقال فيها ما يقال فيه، فلا حاجة إلى التكرار. (5) الألفاظ الإسلامية
جاء الإسلام والأمية فاشية في العرب والجهل ضارب بجرانه فيما بينهم، فأمدهم بما لا عهد لهم به من العلم الكثير والانقلاب العظيم فتكاثرت المصطلحات الجديدة وعب عبابها، فتمطت اللغة عند ذاك وفتحت صدرها الرحب لضم تلك المصطلحات بمعانيها الجديدة ولم تضق ذرعا بتحمل ما حملته في هذا السبيل، بل نهضت بكل ذاك نهوض القادر الأمين، بعد أن كان العربي لا يفقه من شئون دينه ودنياه إلا النزر البسيط جاءه القرآن والسنة بالفيض الفائض منهما، ثم جاءت الفتوح واتسع سلطان القوم فازدحمت اللغة بالمصطلحات الكثيرة التي اقتضتها الأوضاع السياسية والإدارية والتطورات الاقتصادية والاجتماعية، ثم لم تزل الأحداث تتوالى والأحكام تتجدد وتتكاثر بتجدد الأحداث وتكاثرها إلى أن استوى لدى القوم من المصطلحات الشيء الكثير، حتى إنهم أفردوها بالتأليف وكثرت فيها التصانيف.
وليس معنى هذا أن تلك المصطلحات كلها ارتجلت ارتجالا وابتدعت ابتداعا، وإنما جلها معان جديدة نقلت إليها ألفاظ من اللغة كانت مستعملة في معان أخرى تتناسب مع المعاني الشرعية، وربما عربت الشريعة بعض الألفاظ بمعانيها. ومن أمثلة المصطلحات الإسلامية الصلاة، وأصلها في لغتهم الدعاء والترحم، ثم نقلها الشرع إلى المعنى المعروف للمناسبة الظاهرة، ومن ذلك الركوع وأصله الخضوع، فنقله الشرع إلى الهيئة المخصوصة، ومثله السجود فإن أصله التطامن والذلة وهو في الشرع عبارة عن الهيئة المخصوصة، ومن ذلك الزكاة لم تكن العرب تعرفها إلا من ناحية النماء، ومن ذلك المحرم للشهر المعروف فإنه لم يكن معروفا في الجاهلية وإنما كان يقال له ولصفر الصفران، وكان أول الصفرين من الأشهر الحرم، وكانت العرب تارة تحرمه وتارة تقاتل فيه، فلما جاء الإسلام وأبطل النسيء سماه النبي
صلى الله عليه وسلم
شهر الله الحرام. ومن ذلك الجاهلية، فإنه اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة. ومن ذلك الفاسق وأصله خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وكذلك كل شيء خرج عن قشره فقد فسق، ثم نقله الإسلام إلى الخروج عن الطاعة. والأمثلة في هذا أكثر من أن يحاط بها، ومن أراد التوسع في هذا الباب فليراجع الكتب الشرعية من التفسير وغريب الحديث وأصول الدين والفقه وأصوله، فإنه يقف على فيض من تلك المصطلحات المنبثة هنا وهناك، وتجدهم هناك يقولون لهذه اللفظة معنيان، معنى في اللغة ومعنى في الشريعة . وإنما انفردت الألفاظ الإسلامية عن سائر مصطلحات العلوم كالعربية وغيرها لما للشرع من معنى الشمول، فإن الألفاظ الشرعية تتمتع من الانتشار والشمول بما لا تتمتع به مصطلحات العلوم الأخرى، فإن الذين يعرفون الصلاة - مثلا - بمعناها الشرعي أكثر بكثير من الذين يعرفونها بمعناها اللغوي. أما مصطلحات العلوم المختلفة فإن معرفتها بمعانيها الاصطلاحية مقصورة على أهل تلك العلوم، فمصطلحات النحو مثلا لا يفهمها سوى النحوي ومصطلحات العروض لا يعرفها غير العروضي، خلاف المصطلحات الشرعية فإنها مشاعة بين جميع أفراد الأمة عامتهم وخاصتهم.
واستعمال الألفاظ الشرعية بمعانيها الشرعية من قبيل الحقائق عند أهل الشرع واستعمالها بمعانيها اللغوية من قبيل المجازات عندهم، والأمر عند اللغويين بالعكس، فالصلاة بمعناها الشرعي حقيقة عند الشرعيين مجاز عند اللغويين، وهي بمعناها اللغوي مجاز عند الشرعيين حقيقة عند اللغويين، ولهذا يقول علماء البلاغة: إن الحقيقة أقسام، منها اللغوية ومنها الشرعية، وكذلك المجاز منه الشرعي ومنه اللغوي. (5-1) الاصطلاح
قلنا إن الألفاظ الشرعية لا تخرج عن كونها مصطلحات، ولكنها أوسع شمولا من مصطلحات سائر العلوم لأن أتباع الشرع أكثر عديدا من أتباع كل علم من العلوم الأخرى على حدته. ولما اتسع نطاق المعارف وبسقت دوحتها وتبارت العقول في خدمتها وتنميتها، وانماز كل علم منها بمسائله وقواعده من علوم شرعية إلى لسانية إلى كونية وتكاثفت أغصانها وفروعها؛ احتاجوا في كل فرع منها إلى وضع مصطلحات كثيرة للمعاني الكثيرة التي زخرت بها تلك العلوم، فمصطلحات العلوم اللسانية تختلف عن مصطلحات العلوم الشرعية، وهذه تختلف عن مصطلحات علوم الفلسفة مثلا، فالعامل عند النحوي مثلا غيره عند الفقيه والفيلسوف، وكذلك الكلام والتمييز والحال والإعراب والبناء إلى غير ذلك من الكلم التي اصطلح عليها أهل كل علم في علمهم. وكان أرباب العلوم إذا جد لهم معنى وضعوا له لفظا يناسبه، فإن أعوزهم فزعوا إلى الاشتقاق أو النحت أو غيرهما، وقد يتصرفون في اللغة تصرفا يغضب اللغويين أو المصرفين ولكنهم لا يبالون بذلك إذا أرضوا المعنى الذي يريدونه، فقالوا: اللاأدرية أو العندية والمتى والأين ... إلخ، وإذا ضنت عليهم العربية أو بالأصح لم يتوفقوا للوصول إلى بغيتهم منها فزعوا إلى التعريب فقالوا: سفسطائية وأسطقس وإيساغوجي وأقرباذين ... إلخ.
وقد تمايزت مصطلحات كل علم عن غيرها، وإذا ضممت مصطلحات العلوم المختلفة إلى بعضها يتوفر لديك معجم ضخم له شأنه، وقد فعل ذلك بعض المتأخرين فتم لديهم الشيء الكثير، ومجموع ذلك يؤلف لغة قائمة بنفسها هي لغة العلم وعليها المعول في كل لسان.
وأنا أرى أن معجم المصطلحات يجب أن يسبق المعجم اللغوي؛ لأنه ألزم والانتفاع به أكثر. (5-2) الألفاظ المولدة
Unknown page
قلنا إن المنابع الكبرى التي استقيت منها اللغة العربية إنما هي القرآن الكريم والحديث النبوي وكلام العرب الموثوق بعربيتهم، ومن المعلوم أن القرآن تم قبل انتقال الرسول إلى الملأ الأعلى بزمن يسير وأن الحديث النبوي ختم بانتقاله، فبقي كلام العرب الموثوق بعربيتهم واستمرت الثقة به إلى أن اختلت سلائق القوم واضطربت ألسنتهم على أثر اختلاطهم بحمراء الأمم وصفرائها، فما كاد ينطوي بساط القرن الأول الهجري حتى انقضى عمر الاعتماد على كلام المتحضرة من العرب، أما العرب فامتد أجل الثقة بكلامهم إلى ما بعد القرن الأول ولكنه لم يطل إلى ما بعد القرن الثالث، إلا في قبائل قليلة كانت معتصمة في شعاف بعض الجبال المنقطعة عن العمران، أو الضاربة في بعض البوادي النائية التي لا تتصل بالحضر إلا في القليل وهم شراذم لا يعتد بهم، فالأخذ عن حاضرة العرب ومن يتصل بها أو يكثر الترداد إليها من أهل البادية ينتهي بجرير والفرزدق ومن في طبقتهما، ومن هناك تبدأ طبقة المولدين من مخضرمي الدولتين وعلى رأسها: بشار وحماد عجرد ووالبة بن الحباب ومن في طبقتهم، فما حدث في عهد هذه الطبقة وما بعدها من الألفاظ يسمى مولدا، وبعبارة أخرى ما أحدثه المولدون من الألفاظ يسمى المولد ويقابله العربي فيقال هذه لفظة مولدة وهذه عربية، كما يقابل المعرب والدخيل بالعربي الصميم فيقال هذا لفظ معرب وهذا من الصميم.
وأمثلة الألفاظ المولدة كثيرة تكاد تفوت الحصر، من ذلك النحرير كان الأصمعي يقول إنه ليس من كلام العرب وإنما هو مولد، وأخ كلمة تقال عند التألم والتأوه والعربي أح بالحاء المهملة، ومن المولد الكابوس وهو ما يشعر به النائم من الثقل، ومنه الفطرة والعربي صدقة الفطر أو زكاة الفطر وهي من الألفاظ الإسلامية، ومنه التفرج قال النووي: ولعله مأخوذ من انفراج الغم، ومنه الجبرية والقدرية من مذاهب المتكلمين، الأول يطلق على من يقول الإنسان مضطر في أفعاله غير مختار والثاني يطلق على من يقول بأن الإنسان فاعل باختياره وخالق لأفعاله، ويقال للأولين أهل الجبر وللآخرين أهل القدر. ومنه الطفيلي وهو من يأتي الولائم من غير أن يدعى إليها، وطفيل رجل كوفي كان يغشى الولائم من غير دعوة ويبالغ في ذلك فنسب إليه كل من يفعل مثل فعله، وعربيه الضيفن لمن يجيء مع الضيف من غير دعوة، والوارش لمن يدخل على القوم في طعامهم فيأكل من غير دعوة، والواغل لمن يدخل على القوم في شرابهم فيشرب معهم من غير أن يدعى إلى الشرب. ومن المولد المخرقة وهي الافتعال والاحتيال، ومنه البحران وهو أعلى ما يصل إليه المرضى من الشدة وليس بعده إلا الموت أو البدء بكسر سورة المرض شيئا فشيئا وهي اصطلاح طبي، ومنه تبغدد إذا تشبه بالبغداديين وليس منهم، ومنه بس بمعنى حسب وقيل هو عربي مأخوذ من البس وهو القطع وأنشدوا:
يحدثنا عبيد ما لقينا
فبسك يا عبيد من الكلام
وأنت ترى أن البس بمعنى القطع ثلاثي ولفظ بس المستعمل بمعنى حسب ثنائي وشتان بينهما، نعم لو قال قائل لآخر بسا أي بس كلامك بسا بمعنى اقطعه قطعا لكان صوابا. ومنه التخمين وهو القول بالحدس، ومنه الفشار للهذيان والإقذاع في القول. (5-3) تنبيه
يعد من المولد كل لفظ كان عربي الأصل ثم غيرته العامة تغييرا ما، بأن كان ساكنا فحركته أو متحركا فسكنته أو مهموزا فتركت همزه أو بالعكس أو قدمت بعض حروفه على بعض أو حذفت ... وما إلى ذلك، مثال ذلك أن العرب تقول في رجل: سمح، وفي أسنانه حفر ، وفي بطنه مغس أو مغص ، وحدث في الناس شغب، وجبل وعر، وبلد وحش، وحلبس في حلقة القوم، كل ذلك بسكون العين والعامة تحركها.
وتقول العرب: أصيب فلان بالتخمة وهو من التخمة أي الخيار، وهذه لقطة وهي تحفة، وتناول الصبر للدواء المر المعروف، وطلعت الزهرة للنجم المعروف، وسعف النخل، والسحنة للهيئة، كل ذلك بالتحريك والعامة تسكنه. والعرب تقول: هنأني الطعام ومرأني، وطرأت على القوم، وترأست عليهم، كل ذلك بالهمز والعامة تتركه.
والعرب تقول: رجل عزب، وهذه كرة، وتعسه الله، وكبه لوجهه، والعامة تزيد فيه الهمزة فتقول: رجل أعزب، وهذه أكرة، وأتعسه الله، وأكبه لوجهه. وأمثلة ذلك كثيرة تجدها مبثوثة في ثنايا معاجم اللغة ودواوين الأدب، وقد أفرده بالتأليف جماعة منهم: الموفق البغدادي في ذيل الفصيح، والحريري في درة الغواص في أوهام الخواص، وقد عقد له ابن قتيبة في أدب الكاتب أكثر من باب، وعقد له الجلال السيوطي بابا خاصا في الجزء الأول من كتابه المزهر في علوم اللغة وأنواعها. (6) المعرب والتعريب
المعرب ما استعملته العرب في كلامها من الألفاظ لمعان في غير لغتها، وقد اشترط بعضهم أن يكون اللفظ الذي تتلقاه العرب من العجم نكرة مثل إبريم وجوقه وسرداب، فإذا كان علما مثل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق فلا يسمى معربا وإنما يسمى أعجميا.
ومن هذا تعلم أن التعريب هو نقل الكلمة من لغة أجنبية إلى اللغة العربية بتغيير أو بدونه ويسمى الإعراب أيضا؛ مثال ما تغير عند التعريب: «سكر» فإنه معرب «شكر»، وإقليد وهو المفتاح فإنه معرب «كليد»، وبنفسج فإنه معرب «بنفشه»، وهنزمن فإنه معرب «انجمن» لمجمع الناس. ومثال ما عرب من غير تغيير: النوروز والكاغد والبخت بمعنى الحظ. هذا ولا جرم أن استمداد لغة من أخرى يعد من أساليب نمائها، فالتعريب بالنسبة للغة العربية أحد عوامل توسعها، فقد تناولت هذه اللغة طائفة من الكلم حتى أصبحت من لحمها ودمها وما من ذلك عليها من عاب، لأن اللغة الحية تشبه المخلوقات تفتقر في بقائها ونمائها إلى مختلف الأغذية وفي عداد هذه الأغذية ما تنتزعه لغة من أخرى من مختلف الكلم، هذا إذا كانت اللغة قوية البنية وإلا فقد تكون بعض اللغات مرعى خصيبا لبعض آخر تأكل ما تشاء وتذر ما تشاء، كما وقع في اللغة التركية فإنها عاثت بجارتيها العربية والفارسية وأكلت منهما أكل النهم الشره ولكنها بشمت وعسر عليها هضم ما ازدردته فحارت في أمرها ولم تزل حائرة ...
Unknown page
وأما لغتنا العزيزة فهي - ولله الحمد - من أقوى اللغات على الهضم والتمثيل تنتزع اللفظة من أية لغة شاءت ثم تزدردها فلا تبرح أن تهضمها وتمثلها أيما تمثيل وتجري عليها تصاريفها وتصبح كأنها في الصميم منها، حتى إن علماء اللغة وأئمتها ليحارون في هذا الباب كل الحيرة ويتعسر بل يتعذر عليهم في كثير من الأحيان تمييز الأصيل من الدخيل حتى أدى الأمر ببعضهم إلى إنكار أن يكون فيها شيء من غيرها البتة، وانقلب الأمر على آخرين فأخذوا يفككون عراها وينكثونها نكثا ويخرجون ما هو منها في الذؤابة فينسبونه إلى غير أصله ويردونه إلى غير أهله، وما ظنك بقوم بلغ بهم الهوس في هذه الناحية حتى أخرجوا لفظ «الأدب» من صميم لغة العرب؟! وهذا لعمرك شذوذ في الشذوذ وتطرف في التطرف. ولسنا في مقام المناقشة لهؤلاء الناس في هذا الشأن لأن لنا معهم مقالا في غير هذا المقام، ولكنا نريد أن نقول إن أهم ما يجتنيه الباحث من الثمر في باب التعريف هو الإلمام بطرقه التي سار عليها أسلافنا، لأن معرفة تلك الطرق وسير منعرجاتها من أهم ما نستعين به في تذليل ما نحن بسبيله من العقبات في وضع المصطلحات العلمية التي فاض فيضها وتدفقت أنهارها.
نحن لا نشك في أن أولينا كانوا يسيرون في هذه السبيل على سجية لغتهم ويكلفونها فوق طاقتها ولا يقصرون في إمدادها بكل ما يسد حاجتها ويشبع نهمتها، حتى أوصلوها إلى ما أوصلوها إليه من البسطة في المادة والنصاعة في البيان، فوعت عنهم ما شاءوا أن يوعوها من علم وأدب ولم تضق ذرعا بحمل ما حملوها من معقول ومنقول ومحسوس وغير محسوس، كما لم يبخلوا عليها بكل ما تطلبته منهم من خدمة صادقة وتغذية صالحة.
فهل يشك متأدب اليوم بأن اللغة بعد مجيء القرآن الكريم والنهضة الإسلامية غيرها قبلهما، بل هي في العصر العباسي غيرها في صدر الإسلام؟ فإذا قارنت بين لغة العلوم اللسانية والشرعية والكونية ولغة عرب الجاهلية تجد البون بعيدا والمسافة قصية، وهل يرتاب مرتاب في أن لغة الغزالي والرازي وابن رشد في تآليفهم تختلف عن لغة امرئ القيس والنابغة وزهير، وأن لغة هؤلاء لو لم يتعهدها أهل المعرفة بالخدمة والتوسع والصقل والتهذيب لضاقت ذرعا بتلك العلوم الكثيرة والمعارف الغزيرة؟
أما نحن فيجب علينا ونحن في عصر يتدفق بالمعارف ألا نقف موقف الجبان المتهيب، وما علينا إلا أن نشق لنا طريقا لاحبا من بين هذه العقاب المنيعة، ونتخذ من أعمال أولينا منارا نأتم به في عملنا ونستنير به في هذه السبيل، ولهذا كان من واجب أبناء العربية لهذا العهد أن يقتلوا هذه الناحية بحثا ليعرفوا ما يأتون وما يذرون في تمهيد طريق الحياة للغتهم هذه في هذا العصر الذي تطورت فيه الأفكار تطورا هائلا، وصار من البعيد أن تقوم قائمة للغة إلا إذا مشت مع أفكار بنيها كتفا لكتف. وسننشر في آخر هذه المحاضرة نماذج من طرق التعريب التي سلكها الأولون، وعلى الباحث أن يرجع إلى ما أفرده العلماء من التآليف المهمة في هذا الباب الواسع ...
وذهب أناس إلى أن ضبط الكلمات ومعرفة معانيها وضروب اشتقاقها وكيفية استعمالها يغني عن معرفة أن هذه الكلمة أصل في اللغة أو مستعارة، ولا سيما بعد أن نحكم بأن اللفظ المستعار لا يلبث أن يأخذ مكانه من اللغة المستعيرة ويكون له ما للأصيل وعليه ما عليه، فأي فائدة تعود علينا من البحث عن أصله والرجع إلى سنخه؟ وهل هذا إلا ضرب من ضروب العبث ولون من ألوان اللهو بالباطل؟ وذهب آخرون إلى أن هذه المباحث جمة الفوائد كثيرة الثمر، وهي أكبر معين في دراسة تاريخ اللغة وفلسفتها وأقوى نصير في معرفة أسرار نمائها وعوامل بقائها إلى غير ذلك من الفوائد التاريخية واللغوية. (6-1) بماذا يعرف المعرب؟
الأصل في كل كلمة تستعملها العرب أن تكون عربية النجار إلى أن يقوم الدليل القاطع على أنها معربة، ولا ينبغي الحكم عليها بالتعريب بمجرد موافقتها أو مقارنتها كلمة تستعمل بمعناها في اللغة العجمية، إذ قد تكون الكلمة في العربية أصلا وقد نقلها العجم إلى لغتهم مثل لفظة «الجمل» فإنها أصل في العربية وقد نقلها كثير من الشعوب إلى لغاتهم، كما قد تكون الكلمة أصلا في أكثر من لغة لأنها موروثة من لغة قديمة اندثرت بعد أن ولدت عدة لغات، مثال ذلك كلمة «أرض» المستعملة في العربية والإنجليزية وغيرهما، فإن الأرض معمورة بالأمم منذ وجدت الأمم فلا يعقل أن أمة من الأمم بقيت لا تعرف للأرض اسما إلى أن سمعته من أمة أخرى فاستعارته منها هذا أمر تحيله العادة.
وهذا الباب من أضيق الأبواب وأغمضها، ولا يمكن التوصل إليه إلا بعد اجتياز أوعر المسالك وأصعبها، ومن ثم نجد أقواما خاضوا في هذه المباحث على غير هدى فضلوا سواء السبيل فتراهم حيرى كأنهم يدورون في حلقة مفرغة، فبينما تراهم ينسبون كلمات هي من العربية في الصميم إلى نجار عجمي إذ تراهم يلصقون بالعربية كلمات هي من صميم العجمية، وإذا طالبتهم بالدليل سلكوا بك بنيات الطريق وبعد الشدة والعناء رجعت صفر اليدين ورضيت من الغنيمة بالإياب. وقد وضع الأقدمون في هذه السبيل بعض الصوى ليهتدي بها السالك، وهي على ضآلتها لا تخلو من فائدة، قالوا تعرف عجمية الاسم بوجوه:
أحدها:
النقل، بأن ينقل ذلك أحد الأعلام.
الثاني:
Unknown page
خروج الكلمة عن أوزان الأسماء العربية مثل «الإبريسم» فإن هذا الوزن مفقود في أبنية الأسماء العربية، فلذلك اختلفوا في ضبطه لأنهم قد يخلطون في ما ليس من كلامهم، ولو كان من الأوزان العربية لما أخطأهم ضبطه ولما اختلفوا فيه كل ذلك الاختلاف.
الثالث:
أن يكون أول الاسم نونا بعدها راء مثل «نرجس» فإنه معرب «نركس».
الرابع:
أن يكون آخر الكلمة زايا قبلها دال مثل «مهندز»، ولذلك قالوا فيه «مهندس» ليبعدوا عما لا إلف لهم به.
الخامس:
أن يجتمع في الكلمة الجيم والصاد مثل «الصولجان» و«الجص»، فإنهما معربا «كوجان» و«كج».
السادس:
أن يجتمع فيه الجيم والقاف مثل «منجنيق» للآلة الحربية المعروفة، و«الجردقة» للرغيف، و«الجرموق» للذي يلبس فوق الخف، و«الجوسق» للقصر، و«الجولق» للوعاء المعروف «جوالة»، و«الجلاقق» للبندق، و«الجوقة» للجماعة من الناس.
السابع:
Unknown page
أن يكون الاسم رباعيا أو خماسيا وهو خال من أحد حروف الذلاقة، وهي «ب، ر، ف، ل، م، ن» يجمعها قولك: «فر من لب»، وهي أخف الحروف ولذا لا تخلو منها الأسماء الرباعية والخماسية لما في هذه الأوزان من الثقل لكثرة حروفها، فيلحق بها بعض هذه الحروف لتنحو بها نحو الخفة مثل «الزاووق» فإنه لغة في «الزئبق»، وشذ عن هذا الأصل كلمة «عسجد» فإنهم قالوا بعربيتها مع أنها خالية من حروف الذلاقة. وقال الأزهري في «التهذيب» متعقبا على الوجه الخامس: «قد تجتمع الجيم والصاد في بعض الكلمات العربية، من ذلك قولهم جصص الجرو إذا فتح عينيه، وجصص فلان إناءه إذا ملأه، والصج ضرب الحديد بالحديد.»
الثامن:
أن تجتمع الجيم والطاء في الاسم مثل «الطازج»، فإنه معرب «تازه» وهو الطري.
التاسع:
أن يجتمع في الاسم الصاد والطاء مثل «الاصطفلية» وهي الجزرة فإنها معربة، وأما الصراط فالصاد فيه بدل السين إذ أصله السراط مأخوذ من السرط وهو الابتلاع بكثرة.
العاشر:
أن يجتمع في الاسم السين والذال مثل «ساذج» فإنه معرب «ساده» وهو البسيط الخالص عما يشوبه، وهو في الأصل ما لا نقش فيه وما يكون على لون واحد لا يخالط غيره.
الحادي عشر:
أن يجتمع في الكلمة السين والزاي مثل «سزاب»، وهي بقلة معروفة فإنها معربة.
الثاني عشر:
Unknown page
أن يجتمع في الكلمة لام بعدها شين، قال ابن سيده: «ليس في كلام العرب شين بعد لام في كلمة عربية محضة، لأن الشينات كلها في كلام العرب قبل اللامات»، فكلمة التفليش بمعنى الهدم ليست عربية بخلاف كلمة «شغل». وقال الجاحظ في كتابه «البيان والتبيين » إن الجيم لا تقارن الظاء ولا السين ولا الضاد ولا الذال بتقديم ولا تأخير.
هذا مجمل ما وضعه الأقدمون من الأعلام في هذه السبيل. وقد توصل علماء اللغات لهذا العهد إلى أصول في هذا الباب كان يعز على الأقدمين الوصول إلى بعضها، وما ذلك إلا لانصراف جماعات المستشرقين إلى دراسة اللغات المختلفة ولا سيما القديمة منها والإيغال في أحشاء القرون البعيدة واستشارة دفائنها، وبذل الوسع في دراسة أصول اللغات وفقهها والإحاطة بفروعها المختلفة من جميع جهاتها، وقد صدروا عن هذه المباحث وهم يحملون من العلم ما كان مطمورا في غيابة التاريخ البعيد، فإذا حكموا في هذا الباب فحكمهم الفصل وإليهم يرجع أمر العقد والحل. ومن أمثلة ما وضعوا من القواعد في هذا الشأن قولهم: إذا اتفقت كلمتان لفظا ومعنى، وكان بين أهل هاتين اللغتين صلات جغرافية أو تجارية أو سياسية أو نحوها مباشرة أو بالواسطة، ينظر فإذا كان ذلك المعنى من نتاج قرائح إحدى تينك الأمتين أو من مصنوعاتهم أو من منتوجات بلادهم ومحاصيلها، يرجح أن يكون أصلا في تلك اللغة منقولا منها إلى غيرها، مثال ذلك «الساعة» فإن العرب كانت تطلقها على الجزء المخصوص من الزمن، ثم لما أبدعوا الآلة المعروفة التي تدل على أجزاء الزمن وتعيينها أطلقوا عليها هذه اللفظة فهم أسبق الأمم إلى تسمية الآلة بهذا الاسم، فإذا سمعنا الفرس أو الترك مثلا استعملوا هذه اللفظة بهذا المعنى نقطع بأنهم استعاروها من اللغة العربية. ومثل هذا كثير من المصطلحات التي وضعها العرب عندما دونوا علوم لسانهم، مثل: عطف وإضافة وتمييز وغيرها، فإذا رأينا بعض الأمم الشرقية استعملت هذه المصطلحات في معانيها عند العرب أو في معان تقرب منها نجزم بأنهم استعاروها من اللغة العربية، هذا إذا علمنا بأن العرب دونوا هذه المصطلحات قبل غيرهم. ومن ذلك كلمة القهوة فإنها موجودة في العربية وفي معظم لغات العالم، فإذا علمنا أن العرب كانوا يطلقون هذه اللفظة على الخمرة ثم أطلقوها على هذه الثمرة المخصوصة المسماة بالبن وهي من منتوجات بلاد اليمن في الأصل ثم انتقلت إلى البلاد الأخرى، إذا علمنا هذا نقطع بأن هذه اللفظة بهذا المعنى عربية النجار، ومن ذلك الجمل والغزال ونحوها من الحيوانات التي تكثر في بلاد العرب أو كانت خاصة بها ومنها نقلت إلى غيرها.
وإذا علمنا أن المسك مثلا ينتج في بلاد التيبت والصين وبعض بلاد الهند ومنها يحمل إلى سائر بلاد العالم، وعلمنا أن هذه اللفظة مستعملة في السنسكريتية الأصل والفارسية والعربية وغيرها؛ نعلم أن هذه اللفظة بمعناها هذا سنسكريتية الأصل ومنها انتقلت إلى غيرها من اللغات مباشرة أو بالواسطة. ومثل ذلك الكافور فإنه في السنسكريتية وغيرها، ولكنا إذا عرفنا أن مصدر هذا النوع من الطيب بلاد الصين واليابان وملقا وأن اسمه باللغة الملقية «كابور»، عرفنا أنها كلمة ملقية الأصل ومنها انتقلت إلى غيرها من اللغات، ومثل ذلك الفلفل فإن مصدره بلاد الهند وهو في اللغة السنسكريتية «ببالا» أو «فيفالا». والأمثلة في هذا كثيرة لا يكاد يحيط بها الحصر.
قلنا: إن المتبحرين في دراسة اللغات لهذا العهد انصرفوا إلى استشارة دفائن اللغات القديمة وحلوا رموزها، ودرسوا أصولها درسا دقيقا، واستخرجوا فروعها، وقارنوا بينها من حيث المادة والصرف والنحو وغيرها، وبذلك توصلوا إلى معارف جمة وعلوم مهمة، وقد أرجعوا كل طائفة من اللغات إلى أصل واحد وهذا الأصل إما أن يكون باقيا أو مندثرا، فأصول الباقية هي التي سارع أهلوها إلى تدوينها منذ العصور القديمة العريقة بالقدم، والمندثرة هي التي لم تدون فبقيت مطمورة في طيات القرون الخالية، أما فروعها فنمت وأورقت ثم أثمرت، ومنها ما قضى نحبه ومنها ما ينتظر.
فإذا ذهبنا إلى القول بأن اللغة العربية والعبرانية والكلدانية - مثلا - بنات لأم واحدة هلكت وعاشت بناتها، نعلم أن كثيرا من الألفاظ بقيت مشتركة بين هذه اللغات، فإذا رأينا لفظة في أكثر من واحدة من هذه اللغات دالة على معنى واحد أو على معان متقاربة لا يمكننا الحكم بأصالتها في لغة دون أخرى، بل نرجح أن تكون هذه اللفظة من ميراث اللغة الأم؛ فهي أصل في كل منها، وبالعكس إذا وجدوا لفظة في إحدى هذه اللغات تخلو منها سائر أخواتها يشكون في كونها أصلا في هذه اللغة.
وعلى هذا وضعوا قاعدة أغلبية، وهي أنهم إذا وجدوا لفظة في لغتين أو أكثر ترجع إلى أصول مختلفة ولم يجدوا تلك اللفظة في أخوات إحدى اللغتين أو اللغات، يرجحون انتسابها إلى اللغة الأخرى، مثال ذلك إذا وجدوا لفظة في العبرية والمصرية القديمة مثلا ولم يجدوها في العربية ولا الكلدانية يرجحون أنها مصرية. (6-2) هل التغيير ضروري في التعريب؟
من الكلمات المعربة ما يبقى على حاله قبل التعريب مثل بخت ونوروز، ومنها ما يجري عليه التغيير يسيرا كان أو كثيرا.
والأصل في هذا الباب عدم التغيير وإبقاء الأصل على حاله إلا إذا دعت إلى التغيير ضرورة فيصار إليه، ولكن التغيير يكون بقدر ما قضت به تلك الضرورة من غير زيادة ولا نقصان، ومع هذا فإن كثيرا ما نجد تغييرا لا تدعو إليه الحاجة ولا تقضي به الضرورة، مثال ذلك «الكعك» فإنه معرب «كاك» قلبت ألفه عينا من غير ضرورة داعية، و«الدهقان» معرب «ده خان» أي رئيس القرية ومقدم أهل الزراعة من العجم.
وقد يجتمع في الكلمة الواحدة تغيير لازم وآخر غير لازم، مثل كلمة «البد» بمعنى الصنم فإنه معرب «بت» قلبت فيه الباء الفارسية المثلثة باء عربية، وهذا القلب لازم لئلا يدخل في الحروف العربية ما ليس منها، وقلبت التاء دالا وهذا القلب غير لازم كما هو ظاهر.
وأسباب التغيير كثيرة منها: اشتمال الكلمة الأعجمية المراد تعريبها على بعض الحروف العجمية التي لا وجود لها في اللغة العربية كما أشرنا إلى ذلك في أول هذا البحث. ومنها أن يكون في الكلمة الأعجمية حركة لا وجود لها في العربية أو هي موجودة في لغة ضعيفة، مثل كلمة «زور» بمعنى القوة فإنها معربة من كلمة «زور» بضمة مشوبة بالفتحة، فأبدلت عند التعريب بضمة خالصة لعدم وجود الضمة المشوبة في العربية المشهورة. ومنها الثقل، مثل «ناي » آلة الطرب المعروفة فإنها معرب «ناي نرمين»، وقد حذف شطرها الثاني للخفة. ومنها نقص الكلمة الأعجمية من ثلاثة الأحرف، مثل «صك» بتشديد الكاف فإنه معرب «جك» الثنائي على ما عرفت آنفا. ومنها كون الكلمة الأعجمية مبدوءة بحرف ساكن، فيضطر عند التعريب إلى تحريكه أو زيادة همزة قبله، مثل هليلج وإهليلج معرب «هليله» وهو الثمر المعروف. ومنها أن يجتمع في الكلمة الأعجمية حرفان ساكنان سكونا على غير حده فيحرك أحدهما، مثل «أبزن» تعريب «آبزن» كما تقدم. ومنها تحريك آخر الكلمة المعربة بحركة الإعراب، فإن كان الحرف الآخر في الكلمة الأعجمية هاء رسمية «دوره» لمكيال الشراب وللجرة ذات العروة و«لوزينه» لنوع من الحلوى و«روزونة» للكوة، وجب قلب هذه الهاء إلى حرف آخر قابل لحركة الإعراب وقد اعتادوا قلبها جيما وهو الأكثر وربما قلبوها قافا أو تاء فقالوا لوزينج ودورق وروزونة، وقد تقلب هذه الهاء كافا وعليه أعربوا كلمة «نيزه» وهو الرمح القصير إلى «نيزك».
Unknown page