Rihla Fi Fikr Zaki Najib Mahmud
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Genres
فضلا عن أنها تكشف لنا عن اهتمام مفكرنا بمشكلة الحرية، وإيمانه بحرية الإنسان وهو إيمان «لا مكان فيه لذرة من التردد أو الشك» على حد تعبيره.
35
وإن كانت هذه الحرية لا تعني الفوضى أو التحرر من القيود، فتلك حرية «سلبية»، وإنما هي حرية «إيجابية» تظهر في أفعال الإنسان المنتجة، وفي أقوال يقام البرهان العقلي على صوابها؛ فهي حرية محكومة بالروابط السببية، الإنسان فيها حر الإرادة، لكنه مقيد بماضيه، أو قل إن «الجبر الذاتي» يعني أن الإنسان مجبر عن طريق نفسه، فماضيه هو الذي يحدد له اختيار الفعل في الحاضر، لكن هذا الماضي من صنعه هو.
على أن ما يعنينا، الآن، من نظرية «الجبر الذاتي» التي نال بها درجة الدكتوراه من جامعة لندن عام 1947م، أنها تبدأ بتعريف «النفس»: «إذ يبدو أنه من الضروري في بحث يذهب فيه صاحبه إلى أن الإنسان مجبر ذاتيا أعني مجبرا عن طريق «نفسه» أن يفسر لنا طبيعة «النفس» بأوضح طريقة ممكنة ...»
36
ويلزم لذلك مناقشة فلسفتين تنكران وجود النفس، وهما نظرية «ديفيد هيوم» ثم المدرسة السلوكية. (5-1) نظرية هيوم
يذهب ديفيد هيوم إلى أن كل فكرة صحيحة يمكن ردها إلى انطباعاتنا الحسية المباشرة، وإلا لأصبحت فكرة زائفة ينبغي حذفها من قائمة الأفكار الصحيحة. وقد ترتب على ذلك نتيجة بالغة الأهمية وهي إنكار هيوم لما يسميه العقليون «بالعقل»، وما يسميه المثاليون «بالنفس» أو «الروح» ... وإلا فمن أي انطباع حسي أمكن لهذه الأفكار أن تجيء ...؟ إنه لو كانت النفس (أو العقل) كائنا دائم التأثير على هذه الحاسة أو تلك، لجاز أن يكون لفظ «النفس» اسما نطلقه على ذلك الأثر الحسي. ولكنا لا نجد بين انطباعاتنا الحسية انطباعا يدوم على حالة لا يختلف ولا يصيبه زيادة أو نقصان، فنجعله أصلا لهذه «النفس» المزعومة التي نزعم لها الدوام وعدم التغير؛ إذ حياتنا الإدراكية سلسلة من حالات لا تتجمع كلها معا في لحظة واحدة: فالألم، واللذة، والحزن والسرور، وشتى العواطف والإحساسات تتعاقب في واحدة في أثر الأخرى، ولا يمكن أن تكون فكرة «النفس» مستمدة من واحدة من هذه الحالات ، وإذن فالفكرة نفسها من خلق الوهم وليس لها وجود ...
37
ويتولى مفكرنا نقد هذه النظرية ليمهد بذلك لتعريف «النفس»، الذي هو ضروري لنظرية الجبر الذاتي، وهو يوجه إليها مجموعة من الانتقادات أهمها: (1)
أن ديفيد هيوم وقع في تناقض عندما أباح لنفسه أن يستخدم فكرة العقل أو (النفس)، بوصفه كائنا له وجود مستقل، رغم أنه ينكر عليه هذه الصفة، فهو يقول عن الانطباعات الحسية أنها «تطبع العقل»، وتشق طريقها إلى «فكرنا وشعورنا»، فضلا عن أنه يتحدث عن الانطباعات كما تظهر في «النفس». (2)
Unknown page