Rihla Fi Fikr Zaki Najib Mahmud
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Genres
لا يمكن أن تكون الانطباعات الحسية هي كل ما هنالك، وإلا فمن أين جاءت فكرة «الترتيب»، عندما نقول عن عدد من الحصى أنها مرتبة بنظام معين؟! (3)
إصدار الحكم فعل يفترض بالضرورة وجود فاعل، فهو لا يمكن أن يكون مجرد «القوة الحيوية»، التي يصف بهما هيوم الانطباع الحسي، ولو كان كل ما لدينا انطباعات لاستحال أن نثبت أو أن ننفي شيئا. (4)
لو كان كل ما لدينا هو الانطباعات الحسية، فمن أين يمكن أن أعرف أن هناك إحساسين مختلفين يوجدان معا؟! (5)
أننا لا ننتبه مطلقا إلى جميع الانطباعات التي ترد إلى الحواس في لحظة معينة؛ لأن انتباهنا ينتقي منها ويختار، فمن الذي يختار هذا المعطى الحسي أو ذاك، دون بقية المعطيات، ليكون موضوعا للانتباه؟! (6)
لا نريد أن نواصل جميع الانتقادات التي وجهها مفكرنا إلى فلسفة هيوم؛ فهي كثيرة، وإنما يهمنا أن نذكر نقدا أخيرا هو أن خطأ هيوم في المنهج الذي استخدمه وهو منهج «الاستيطان الذاتي»، عندما يقول: «إنني إذا ما توغلت داخلا إلى صميم ما أسميه «نفس»، وجدتني دائما أعثر على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك ... إنني لا أستطيع أبدا أن أمسك ب «نفسي» في أي وقت بغير إدراك ما، كما أنني لا أستطيع أبدا أن أرى شيئا فيما عدا هذا الإدراك ...»
38
غير أن قوله أنه يتوغل داخلا إلى صميم «نفسه » معناه أنه ينتبه إلى نفسه؛ أعني أنه ينتبه إلى الحالة النفسية التي يتصادف وجودها لحظة الفحص، فما الذي يشير إليه هذا الانتباه إن لم يكن يشير إلى النفس أو الذهن أو الروح؟
39
إن القول باستحالة إدراك النفس عن طريق المنهج الاستبطاني (أي منهج التأمل الذاتي) يظهرنا، لا على أنه ليس هناك ما يسمى بالنفس، بل على أن هيوم استخدم منهجا خاطئا في اكتشاف النفس، لكن في استطاعتنا مع ذلك أن ندرك النفس عن طريق «المنهج الجدلي»، وهو منهج يعتمد على فحص ما يتضمنه موقف من المواقف، بحيث ننتهي إلى القول بأننا لا نستطيع أن ننكر هذا المضمون بغير الوقوع في التناقض، وهو نفس المنهج الذي استخدمه ديكارت، حين أثبت وجود نفسه بوصفه عملية تفكير.
40 (5-2) المدرسة السلوكية
Unknown page