إهداء
مقدمة
الباب الأول: رحلة في فكر زكي نجيب محمود
تمهيد
1 - المرحلة الأولى: التدين الخالص
2 - المرحلة الثانية: العقل الخالص
3 - المرحلة الثالثة: التدين المستنير بنور العقل
الباب الثاني: الفلسفة الثنائية عند زكي نجيب محمود
1 - زكي نجيب محمود في تيار النهضة العربية
2 - الفلسفة الثنائية
3 - تحت مبضع التحليل
مراجع البحث
الباب الثالث: متفرقات
1 - الدكتور زكي نجيب محمود كما عرفته معلما ... وإنسانا
2 - زكي نجيب محمود مفكرا تنويريا
3 - نهاية الرحلة
إهداء
مقدمة
الباب الأول: رحلة في فكر زكي نجيب محمود
تمهيد
1 - المرحلة الأولى: التدين الخالص
2 - المرحلة الثانية: العقل الخالص
3 - المرحلة الثالثة: التدين المستنير بنور العقل
الباب الثاني: الفلسفة الثنائية عند زكي نجيب محمود
1 - زكي نجيب محمود في تيار النهضة العربية
2 - الفلسفة الثنائية
3 - تحت مبضع التحليل
مراجع البحث
الباب الثالث: متفرقات
1 - الدكتور زكي نجيب محمود كما عرفته معلما ... وإنسانا
2 - زكي نجيب محمود مفكرا تنويريا
3 - نهاية الرحلة
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
تأليف
إمام عبد الفتاح إمام
إهداء
إلى الأستاذة الدكتورة منيرة حلمي ...
التي كانت مثالا نادرا للزوجة الوفية حتى بعد رحيل الفيلسوف ...
إ. ع. إ
مقدمة
في هذا الكتاب محاولة لدراسة فكر زكي نجيب محمود (1905-1993م) في ثلاثة أبواب، يلحق بها نص رسالته للدكتوراه عن «الجبر الذاتي»، التي قدمها إلى جامعة لندن عام 1947م.
ويقع الباب الأول، رحلة في فكر زكي نجيب محمود، في ثلاثة فصول، وهو يحاول إثبات فكرة أساسية هي أن فيلسوفنا بدأ متدينا وانتهى متدينا، وأنه مر خلال تطوره الروحي بثلاث مراحل، كانت الأولى هي «مرحلة التدين الخالص»، أو البسيط، الذي بدأ في كتاب القرية، ومال به في شبابه نحو التصوف، حتى إنه دافع بحرارة عن المعجزة، محاولا أن يثبت أنها لا تتعارض مع العلم، وسيادة القوانين العلمية على ظواهر الطبيعة، وتنتهي هذه المرحلة برسالته عن «الجبر الذاتي».
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة العقل الخالص التي دارت حول مجالين أساسيين: (أ)
نقد الحياة الاجتماعية على أسس عقلية ترفض الظلم والقهر والاستبداد. (ب)
النظرة العلمية التي تنظر إلى الظواهر فترد النتائج إلى أسبابها.
أما المرحلة الثالثة فهي مركب المرحلتين السابقتين، أعني «التدين المستنير بنور العقل»، وقد ظهرت بواكيرها «في الشرق الفنان» عام 1960م، ثم اكتمل نضجها أثناء وجود الفيلسوف معارا لجامعة الكويت، ثم استمرت معه حتى وفاته في 9 سبتمبر عام 1993م.
أما الباب الثاني من هذا الكتاب؛ فهو دراسة للفلسفة الثنائية عند فيلسوفنا في ثلاثة فصول أيضا، يحاول الفصل الأول أن يضع زكي نجيب محمود في مكانه في مسار النهضة العربية، ثم يحدد الفصل الثاني معنى الفلسفة الثنائية سواء أكانت إبستمولوجية أو ثنائية أنطولوجية أو ثنائية ثقافية ... إلخ.
أما الفصل الثالث فهو يتحدث عن الإسهامات الخاصة لزكي نجيب محمود، عندما وضع تحت مبضع التحليل الأفكار الرئيسية التي ظهرت في مسار نهضتنا وأهمها «الحرية» و«العقل» ... إلخ، ويقسم هذا التحليل إلى مجالين: مجال التحليل العقلي، ويختار مجموعة من الأفكار السياسية والمفاهيم الدينية والقومية والاجتماعية، التي قام فيلسوفنا بتحليلها. أما القسم الثاني فهو مجال الوجدان وإسهاماته في مجال الأدب والنقد الأدبي، والدور الذي قام به في أدب المقال، كما يقدم نماذج من هذا الأدب.
أما الباب الثالث والأخير فهو دراسات ومقالات كتبت في أوقات متفرقة منها: «زكي نجيب محمود كما عرفته»، تحدثت فيه عن شخصية الفيلسوف كما لمستها بنفسي لقربي منه أكثر من ثلاثين عاما، ثم زكي نجيب محمود مفكرا تنويريا، وهو مقال يحدد أولا معنى التنوير، ثم يتساءل ثانيا كيف نعتبر زكي نجيب مفكرا تنويريا بهذا المعنى؟! وأخيرا المقال الذي كتبته يوم رحيله «سقراط مصر، أو مشعل الفكر الذي انطفأ!»
أما الملحق فهو نص رسالة الفيلسوف لنيل درجة الدكتوراه من جامعة لندن عام 1947م، وكانت بعنوان «الجبر الذاتي»، وهو كما وصفته في مقالين في مجلة «الفكر المعاصر»
1 «الوجه الميتافيزيقي للدكتور زكي نجيب محمود، حيث نلتقي بنقد عنيف لديفيد هيوم»، وللمدرسة السلوكية، ثم محاولة لتعريف النفس بأنها «فعل الانتباه» وتحديد الحرية البشرية بأن الإنسان مجبر عن طريق نفسه، فماضيه الذي يحمله فوق ظهره، هو الذي يحدد له اختيار الفعل الحاضر، لكن هذا الماضي نفسه من صنعه هو.
وأخيرا فإنني أرجو أن أكون بهذا الكتاب قد أديت خدمة متواضعة لدراسة هذا المفكر العملاق.
والله نسأل أن يهدينا جميعا سبيل الرشاد.
إ. ع. إ
الباب الأول
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
تمهيد
هذا بحث يزعم فيه صاحبه أن زكي نجيب محمود بدأ متدينا وانتهى متدينا! وأنه مر خلال تطوره الفكري بثلاث مراحل أشبه ما تكون بالمثلث الجدلي! (1)
كانت المرحلة الأولى هي مرحلة التدين الخالص أو المبكر، وهو تدين يكاد يقترب أحيانا من التصوف. (2)
أما المرحلة الثانية، وهي مرحلة العقل الخالص، وهي تبدو نقيضا للمرحلة الأولى، أراد فيها أن يشيع استخدام العقل والاسترشاد بنوره من ناحية، والثورة العقلية على الواقع الاجتماعي السيئ في بلاده من ناحية أخرى. (3)
المرحلة الثالثة وهي مرحلة التدين المستنير بضوء العقل، وهي مركب المرحلتين السابقتين.
كما يزعم البحث أيضا أن الانتقال إلى المرحلة الثالثة قد تم في الكويت، وأن قسمات هذه المرحلة التي استمرت حتى وفاته في 9 سبتمبر 1993م، قد تشكلت بوضوح عندما كان يعمل أستاذا بجامعة الكويت، حيث قضى خمس سنوات من حياته، كانت خصبة ومباركة (1986-1973م)، تجلت في إنتاجه الهام «تجديد الفكر العربي» عام 1971م، و«المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري» عام 1972م، ثم «ثقافتنا في مواجهة العصر» عام 1976م، و«مجتمع جديد أو الكارثة» عام 1978م وغيرها، وإن كانت تباشير هذه المرحلة قد بدأت في أوائل الستينيات مع كتابه «الشرق الفنان» عام 1960م.
1
الفصل الأول
المرحلة الأولى: التدين الخالص
كنت غلاما تسري في أوصاله المشاعر الدينية إلى حد الخشوع الذي يتصدع له الجبل ...
زكي نجيب محمود، «قصة عقل»، ص12 (1) بداية الطريق
نشأ زكي نجيب محمود في قرية «ميت الخولي عبد الله»، في أسرة متدينة، وتلقى أولى مراحل تعليمه، شأنه شأن أطفال قريته، في «كتاب الشيخ ربيع»، فلم تكن أسرته قد غادرت بعد الريف إلى المدينة.
في هذا الكتاب تعلم مبادئ اللغة العربية (أحرف الهجاء)، ومبادئ الحساب، و«قبل ذلك، وفوق ذلك، وبعد ذلك»، على حد تعبيره،
1
كان يحفظ بعض قصار السور من القرآن الكريم. وظلت هذه الخبرة الدينية المبكرة لطفل في الرابعة من عمره، أو بعد الرابعة بقليل، تعتمل في نفسه، وتتردد بين جوانحه طوال حياته لدرجة أنه يذكرها بتفصيل واضح حتى «بعد أن جاوز الشيخ الثمانين من عمره».
2
يقول عن هذه الخبرة الدينية المبكرة «كان ما يحفظه من القرآن هو أوضح معالم الساعات التي كان الطفل يقضيها في الكتاب كل يوم. ولا عجب أن أرى شيخ الثمانين، إذا ما استعادت له الذاكرة حياته طفلا، لا يكاد يذكر من خبرة الكتاب شيئا مما كان يقرؤه أو يكتبه من أحرف الهجاء أو أعداد الحساب، أما ما كان يحفظه ويعيده أمام الشيخ ربيع من آيات القرآن الكريم؛ فهو باق في ذاكرته في وضوح ناصع ...»
3
صحيح أنه يذكر لنا أن ما استقر في أعماقه، ولم ينسه أبدا هو وقع النغم القرآني في مسمعيه، لكنا لا يمكن أن نتوقع شيئا أكثر من ذلك من طفل في هذه السن الصغيرة، وإن كنا نود أن نلفت النظر إلى أن «وقع النغم القرآني» لم يكن بالأمر الهين، فقد كان مأخوذا به على نحو ملك عليه نفسه، حتى إنه كان «يردد الآيات القرآنية ما بقي له من صحو النهار» ... «ومن يدري هل كانت تلك الفتنة بإيقاع النغم القرآني تختفي عنده في نعاسه، أو كانت تواصل ظهورها في أحلامه.»
4
وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن هذه الخبرة الدينية المبكرة قد تغلغلت في كيانه كله، ولم تفارقه بعد ذلك قط، حتى وإن بدا أنها قد توارت في سنوات معينة، إلا أنها كانت في الواقع في مرحلة «كمون»، ثم ظهرت واضحة بعد ذلك، فخبرات الطفل في السنوات الأولى من حياته، لا سيما إذا كانت عميقة، لا تمحى من نفسه على الإطلاق.
ومن الطبيعي أن يكون «النغم القرآني» هو وحده ما سحره دون أن يفهم شيئا من معاني الألفاظ التي يكثر من ترديدها ... «بل لا أظنه كان يدرك أن للآيات الكريمة التي كان لها في أذنيه ذلك الإيقاع معان يعرفها أو لا يعرفها.»
5
والآيات الكريمة التي أثرت في نفس الطفل الصغير تأثيرا قويا يومئذ، وكان يكثر من ترديدها ترديدا منغما هي بصفة خاصة آيات من سورة العاديات:
والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا * فأثرن به نقعا * فوسطن به جمعا [العاديات: 1: 4]. حتى إنه كان يصعد درج الدار، ثم يهبط الدرج، ثم يصعد، وعند كل درجة منها، صاعدا أو هابطا، يضغط على مقطع من تلك الآيات الكريمة، ويدب بقدمه دبة قوية: «وكأن تلك الضربات عنده تفعل فعل الطبلة في المعزوفة الموسيقية، فكان التنغيم يجري معه أثناء صعوده الدرج واحدة واحدة هكذا، والعاديات ضب ... حا، فالموريات قد ... حا؛ فالمغيرات صب ... حا ... إلخ.»
6
واستمرت هذه الخبرة الدينية المبكرة والبسيطة مع مفكرنا الكبير؛ فهو لم ينظر إليها قط على أنها خبرة طفولة مرت وانقضت وينبغي أن يسدل عليها الستار، فعندما بلغ عامه العشرين وما بعده؛ أي عندما تجاوز مرحلة الطفولة إلى الشباب، كان معنى الآيات الكريمة لا يزال يشغل تفكيره، فقد انتبه إلى أن إيقاع اللفظ وحده لم يكن يكفي (وهي فكرة سوف يعرض لها بعد ذلك في شيء من التفصيل في «تجديد الفكر العربي»)
7
بل لا بد للفظ أن يحمل مضمونا يتناسب وزنا مع حلاوة الإيقاع، حتى لقد أخذ يراجع محفوظه من القرآن الكريم بحثا عن المعنى ليكتمل الكمال: «ولقد اندهش دهشة ارتج لها فؤاده ارتجاجا، عندما علم أن الآيات الكريمة تصوير معجز لهجمة الفرسان على العدو، آخذا له على غرة ساعة الفجر، فالجياد تضبح بأنفاسها الحرى بعد طول الطريق، وحوافرها من شدة وقعها على حصباء الطريق تقدح منه الشرر، حتى إذا ما أغارت عند فلق الصبح على مكمن الأعداء، وأثارت نقع الغبار الذي غامت به السماء، كان فرسانها قد توسطوا جماعة الأعداء ...»
8
فالآيات التي حفظها عن ظهر قلب وهو طفل، ظل يبحث لها عن تفسير يطمئن إليه وهو شاب، فهل يدهشنا بعد ذلك أن يصف نفسه بأنه كان «غلاما تسري في أوصاله المشاعر الدينية إلى حد الخشوع الذي يتصدع له الجبل؟»
9
وهل نخطئ إذا وصفنا أولى مراحله الروحية بأنها مرحلة التدين الخالص ...؟ كلا! وإن كان هذا الوصف يحتاج إلى مزيد من الدعم والإيضاح. (2) الاتجاه نحو التصوف
ظلت هذه المشاعر الدينية المبكرة تنمو في أعماقه حتى مالت به إلى التصوف، والبعد عن دنيا الناس ليحيا في «عالم الأفكار»، وكانت تلك الخاصية من أخص خصائص شخصيته، حتى قال عنها إنها «جانب لا يجوز إغفاله إذا أردنا للصورة أن تكتمل ...»
10
ولقد صور العزلة، بعد ذلك، تصويرا رائعا في مقاله «يونس في جوف الحوت»؛
11
لأنها في رأيه عزلة عجيبة، فمن اليسير على الخيال أن يتصور الراهب، وقد اعتزل الدنيا في صومعته يحفرها في صخر الجبل النائي، أو يقيمها بين كثبان القفر البعيد، ويسير على الخيال أن يتصور رجل العلم وقد ألهاه علمه عن شئون دنياه، ويسير على الخيال أن يتصور الشاعر أو الفنان وقد ارتضى لنفسه مقاما على ربوة معزولة أو في جوف واد عميق، أما هذه الصومعة الفريدة التي آوى إليها يونس فأمرها عجيب ... إلخ.
12
غير أن المشاعر الدينية لم تنحصر في العزلة عن دنيا الناس أو الحياة في عالم الأفكار، وإنما تجاوزت ذلك إلى ميل عارم نحو التصوف، حتى إنه يصف نفسه في الثلاثينيات بأنه كان «صوفيا على الطريقة الهندية ...»
13
فما الذي كان يقصده بهذه «الصوفية الهندية» ...؟! يبدو أنه يعني بها ضربا من التصوف يكاد يقترب من «وحدة الوجود»، وهو يضرب لذلك مثلا واضحا، فذات يوم من ربيع عام 1931م (أي في السادسة والعشرين من عمره)، كان يسير وحده بين الحقول في الريف، ووقف طويلا أمام ماشية ألقيت أمامها أعواد الذرة لتطعم، فدارت في ذهنه صور متلاحقة: نبات يتغذى من عناصر الأرض، وحيوان يتغذى من النبات، وإنسان يتغذى من لحم الحيوان، تغذية تسري في دمائه وفي أعصابه، فإذا هو يخرج غذاءه ذاك علما وفلسفة وشعرا ... ملأته هذه الفكرة فكر راجعا إلى داره ليكتب مقالا مستفيضا بعنوان «وحدة الوجود»، ويرسله فينشر في مجلة كان يصدرها سلامة موسى باسم «المجلة الجديدة».
14
ولم تكن هذه الفكرة التي ملأت وجدانه، ولا المقالة التي كتبها، أحداثا عابرة في حياته؛ فهو يروي لنا في آخر كتبه، بعد أن تجاوز الثمانين، أن فكرة «وحدة الوجود» ظلت تعاوده بين الحين والحين، كما ظلت عزلة التصوف والحياة مع «الأفكار» من أخص خصائص شخصيته.
15
ويعتقد مفكرنا، وهو يروي سيرة حياته العقلية، أن أجمل ما كتب عن فكرة وحدة الوجود التي كانت تعاوده، مقال بعنوان «درس في التصوف»، نشر في عدد خاص من مجلة الرسالة في 3 مارس عام 1941م.
16
والمقال عبارة عن حوار بين أستاذ متصوف مؤمن بوحدة الوجود، وتلميذه الشاب الذي كان في البداية عابسا نافرا مما يقوله الأستاذ من أنه لا فرق في الأعماق بين إنسان ونبات وحيوان، بل لا فرق بينه وبين الجماد نفسه ... إلخ. ثم يعلق مفكرنا على هذا المقال بقوله: «تلك كانت صوفية نزع إليها صاحبنا منذ فرغ من دراسته، وأخذت تعاوده حينا بعد حين، وامتدت معه أعواما جاوزت في عددها عشرة ...»
17
وفي هذه الفترة المبكرة كتب دراسة مطولة عن «أبي بكر الصديق» في مجلة المعلمين العليا، أبريل عام 1928م، وقد استوقفه أبو بكر كرجل نهض بالإسلام نهوضا عظيما، «ثم استوقفني أبو بكر كرجل مفكر ذي عقل كبير أوجدته الطبيعة ليكون منارا للإنسانية بأسرها ...»
18
كان أبو بكر قد نشأ في بيئة بدوية قاحلة.
19
ومع ذلك فقد درج حتى كونته الطبيعة إلى أن وصل إلى مراتب العظمة والخلود ...
20
وعلى الرغم من أن المقال ينطوي بصفة عامة على الإشادة بمناقب أبي بكر، فإنه لا يخلو من نقد لجوانب الضعف التي ارتآها في «خليفة عرف بالصلابة والحكمة في جميع مواقفه».
21
و«لعل هذا التناقض راجع إلى صفتين بارزتين في أبي بكر وهما: مضاء العزيمة والرقة، فبينما كان يصول صولة الأسد في وجه المرتدين الكفار؛ إذ نراه يداعب الفقراء واليتامى في حنان وعطف.»
22
واهتمام مفكرنا بتحليل الشخصيات الإسلامية الكبيرة، وهو في الثالثة والعشرين، يدعم الفكرة التي نحاول عرضها في هذا البحث، والتي تقول: إن زكي نجيب محمود قد بدأ متدينا وانتهى متدينا، فقد لازمته المشاعر الدينية طوال حياته، ولم يتخل عنها قط، وإن كانت قد توارت في فترة معينة؛ فالسبب أنه رأى عندئذ أن ما يحتاجه مجتمعه هو ضرورة الاهتمام «بمنطق العقل» الذي هو صانع الحضارة، والذي اختفى من ثقافتنا نظرا لسيادة الوجدان والمشاعر الدينية، وإن لم يتخل عن هذه الجوانب أبدا، ولكنها كانت في «مرحلة كمون» تنتظر الفرصة السانحة للظهور، وقد واتته هذه الفرصة في السنوات الخمس التي قضاها أستاذا بجامعة الكويت.
وينتمي إلى هذه المرحلة أيضا مقاله الجميل عن «هجرة الروح»، وقد كتبه في ذكرى «الهجرة النبوية» وبوحي «هذا اليوم الخالد»، وقد أراد أن يقدم معنى جديدا للهجرة، فلئن هاجر النبي من مكة إلى المدينة «فجاءه نصر الله والفتح ... فهاجر أنت من خلال العقل إلى إيمان القلب والسكينة والقرار. ولقد كانت هجرة النبي مولدا جديدا لرسالته، فأرجو أن تكون هجرتك من كتب إلى كتب بحثا جديدا لروحك المعذب الظمآن.»
23
وهو يحاول، في هذا المقال أن يبرهن على «خلود الروح» ببرهان في غاية البساطة يعتمد أساسا على رغبة الإنسان في الخلود، وأمله في أن يتحقق له الخلود بعد الموت، «فرغبة الإنسان في الطعام ما كانت لتوجد لو لم يكن الطعام موجودا، ورغبة الإنسان في زمالة الأصدقاء يستحيل أن تنشأ إن لم يكن للإنسان الواحد ناس يزاملونه ويصادقونه ... ويستحيل أن يكون لدى الإنسان رغبة في الخلود ما لم يجد في فطرته وجبلته ما يوحي إليه أنه خالد ...»
24
والغريب أنه في نهاية المقال يضرب المثال بالأديب الروسي «ليون تولستوي» ... (1828-1910م)، الذي «غاص في أغوار الفكر وغاص، ثم انتهى به الزمن أن يفرغ مكتبته من كل ما فيها على أنه باطل وهراء، ولم يبق على رفوفها سوى الكتاب المقدس، وبعض الكتب الدينية!»
25
فتولستوي بعد أن قرأ الكتب الفلسفية ذات المذاهب المختلفة، واستطلع آراء أفلاطون، وكانط، وشوبنهور، وبسكال، لم يجد السكينة والطمأنينة إلا في الدين! فلئن كان العقل قد عجز عن الوصول به إلى بر الأمان، فيلجأ إلى القلب ويدعو ربه قائلا: «اللهم هبني إيمانا قويا، املأ به قلبي، واهد إليه غيري ...»
26
ألسنا نجد هنا «تدينا خالصا» يصل إلى حد الخشوع الذي يتصدع له الجبل ...؟!
ومن «هجرة الروح» سننتقل إلى «هبوط الروح» من عليائها لتستقر في البدن، على نحو ما يحللها مفكرنا في شرحه لعينية ابن سيناء الشهيرة، ثم إلى «دفاعه عن المعجزة» لنصل في خاتمة المطاف إلى قمة هذه المرحلة في نقده لديفيد هيوم، و«المدرسة السلوكية» في محاولة لتعريف «النفس»، وذلك في رسالته للدكتوراة عن «الجبر الذاتي». (3) عينية ابن سينا
كانت أولى لفتاته الفكرية، إذن، في أول أعوام الثلاثينيات متجهة نحو صوفية ترى أن الوجود كل وحدة لا تعدد فيها، ولا تمايز بين أجزائها، اللهم إلا في المظهر الخارجي الخادع.
وفي نهاية الثلاثينيات (حوالي 1937م) كتب شرحا جميلا لعينية ابن سينا التي يشرح فيها هبوط الروح إلى البدن، والتي مطلعها:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
وقد قال عنها عندما نشرها عام 1957: «كتبت هذه المقالة منذ أكثر من عشرين عاما، كتبها الكاتب وهو في صدر الشباب ...»
27
والقصيدة تدور كما قلنا، حول هبوط الروح: «وما أدراك ما الروح؟ هذا السر العجيب الذي سرى واستكن بين أحنائك، فلا تكاد تدري من أمره شيئا! وهل يداخلك شيء من الريب في أنك مزيج من مادة وروح ...؟»
28
ثم يعرض لهذا المركب الذي يتألف منه الإنسان فيقول:
أما المادة فهي هذا اللحم والعظم، وأما الروح فهي تلك الفكر الرائع، الخيال البارع، وتلك الحركة المتوثبة الدافعة، حتى إذا جاءك يوما قضاؤك المحتوم، انطلق كل من العنصرين إلى سبيله! فأنى لك هذا السر المكنون وأيان يذهب بعد الموت ...؟
29
ويتخيل مفكرنا كيف كانت الروح تعيش في علياء سمائها، في المحل الأرفع، سابحة مع العقول المجردة روحانية خالصة لا تشوبها شائبة من المادة، ثم هبطت من عليائها بحركات رشيقة أشبه بحركات الطير سابحة في أجواز الفضاء، بعد أن طال ترددها، واشتد تعززها وتمنعها، حنينا إلى عالمها القدسي الرفيع، لتستقر في الجسد لتعيش فيه فترة من الزمان.
30
ولا يفوته أن ينبهنا إلى أن الروح لا تدرك بالحواس فهي «تتعالى عن إدراك العيون! وكيف تريدها على الظهور أمام مقلتيك ، وهما لم تخلقا إلا لرؤية الأجساد المادية وحدها؟ ... أما هذه الماهية المجردة فهيهات أن تدركها بالنظر!»
31
وهي إذا كانت تأبى أن تبدو للحواس فذلك لأنها تعلو بنفسها عن هذا الدرك الخسيس، وهي تتضح وتجلو لكل عاقل من الناس يبحث عنها بعقله في آثارها ودلائلها؛ فالروح، إذن، مع كمال خفائها، وشدة غموضها عن العين يمكن إدراكها بالعقل لمن يريد معرفتها بالدليل والبرهان ...
32
ومعنى ذلك أنه إذا كانت الروح لا تدرك بالحواس؛ فإن هناك طريقا آخر للوصول إليها، ولا ينبغي إنكار وجودها بحجة أننا لا نراها، ولا نلمسها ... إلخ، وتلك هي الفكرة التي سوف يطورها بعد ذلك في نقده لديفيد هيوم في رسالته للدكتوراه التي سنعرض لها بعد قليل. أما الآن فإن علينا أن نتوقف قليلا عند مقال هام كتب في هذه المرحلة ودافع فيه عن المعجزة. (4) دفاع عن المعجزة
كتب مفكرنا خلال الثلاثينيات مقالا بعنوان «بين المعجزة والعلم» على هيئة حوار أجراه مع نفسه، يرد فيه على ما يزعمه بعض المفكرين من وجود تعارض بين المعجزة وقوانين الطبيعة، ومن ثم ينكرون المعجزات التي وردت في الكتب المنزلة، مثل أن الشمس وقفت ليوشع، أو أن البحر قد انشق بعصى موسى، أو أن السيد المسيح كان يبرئ الأكمه والأبرص بلمسة منه ... إلخ، فذلك كله، في رأيهم، يتعارض مع العلم وقوانينه. ولقد قام مفكرنا في هذا المقال بتحليل القوانين العلمية منتهيا إلى أن المعجزة لا تبطل القانون العلمي، ويمكن أن نلخص مضمون المقال في النقاط الآتية:
أولا:
انتهى العلم إلى أن الطبيعة المادية لا تسير وفق قانون صارم، بل إنها قد تغير سلوكها بما لا يمكن التنبؤ به، شأنها شأن الكائنات الحية سواء بسواء، بل أن هناك من بين أساطين العلم من يزعم أنه ليس في الطبيعة كلها موجودات تخلو من الحياة أو ما يشبه الحياة، وكل الفرق بين حياتها وحياة الإنسان هو في الدرجة لا في النوع، لكن إذا كانت الذرة الفردية على شيء من الحياة، وأنها قد تغير في سلوكها، فإنها في مجموعها أقرب ما تكون إلى النظام الدقيق في سيرها. كما أن الإنسان الفرد حر في تصرفه، إلى حد بعيد، ولكنه في المجموع يسير وفق أسس وقواعد لا تكاد تعرف الشذوذ، وهي فكرة سوف يطورها مفكرنا بعد ذلك في رسالته عن «الجبر الذاتي».
ثانيا:
إذا افترضنا أن القوانين الطبيعية يستحيل عليها الخطأ، وأن المادة لا تملك لنفسها تغييرا ولا تبديلا عما رسمه لها قانونها الأعلى: فمن ذا الذي يزعم أن المعجزة كسر للقانون الطبيعي، وأنه لذلك يجب اطراحها ونبذها؟ افرض أن قانون الجاذبية صارم لا يقبل الشذوذ، وأن التفاحة إذا انفصلت عن فرعها، سقطت من فروعها إلى الأرض، بفعل قانون الجاذبية هذا، لكن هب أن يدا امتدت إلى التفاحة أثناء طريقها إلى الأرض، فلقفتها فحالت بذلك بينها وبين الأرض: أيكون ذلك كسرا للقانون؟ كلا! القانون لا يزال قويا سليما، غير أن إرادة بشرية حالت دون تطبيقه لا أكثر ولا أقل.
إذا تركت أقلامك وكتبك مبعثرة في أرض غرفتك، ثم عدت بعد حين فوجدتها صعدت إلى ظهر المكتب منظمة، أتقول إن قانون الجاذبية قد انقلب رأسا على عقب؛ لأن الكتب والأقلام قد صعدت إلى أعلى بدل أن تستقر على الأرض منجذبة إليها ... «أم أن نجزم في هذه الحالة أن شخصا بشريا قد تدخل في الأمر بإرادته، وحال بين قانون الجاذبية وبين تنفيذه حينا، فأمكن للكتب بذلك أن تفلت من يده، ولكن القانون لا يزال قائما لم يخدش ذلك من قوته وشموله؟! ... فلا شك أن الإرادة البشرية تستطيع أن تتوسط بين القانون وبين تطبيقه فتعطله دون أن تبطله، أفلا نقول إن لله إرادة حرة كهذه التي للإنسان، يستطيع بها أن يعطل قانون الطبيعة حينا قد يقصر أو يطول، لكنه يظل قائما معمولا به لا يصيبه عطب ولا خسارة؟!»
ثالثا:
لقد وضعت كتابا بالأمس على مقعد إلى جانبي، فجاء الكلب يتحسس ويتجسس ويشم الكتاب، وأظنه قد حسبه قطعة من الجماد لا خير فيها، فترك الكلب الكتاب وانصرف، فإذا افترضنا أن التفاهم مع الكلب ممكن ، ثم جئت تقسم له أن في الكتاب ما ليس يدرك بالشم واللمس، وأن فيه معنى إذا كان لا يدركه هو فليس عجزه دليلا على عدم وجوده نفر وسخر، وأكد لك أن حواسه مقياس للحقيقة لا تخطئ، وإني لأحسب الكون كتابا مفتوحا فيه من المعاني السامية، ما يمكن فهمه وإدراكه لذوي البصيرة السليمة، فهناك طائفة من الناس تمد أيديها وأنوفها إلى جانب الطبيعة، تتحسسها ثم تجزم في يقين لا يعرف الشك ولا التردد، أن هذه الطبيعة جماد في جماد، يسيره هذا وهذا من القوانين في طريق مرسومة معلومة لن تشذ فيها خارقة ولا معجزة ... وأعجب العجب أن تكون هذه الطريقة الكلبية علما، وأن يكون كل ما عداها تخريفا وجهلا ...!
رابعا:
كيف جاز لنا أن نقطع أن ليس في الكون من الحقائق ما تعجز عقولنا وحواسنا عن إدراكه؟ ولم لا يكون في هذا الكون الفسيح من هو أكبر منا عقلا، وأحد ذكاء، فيستطيع أن يقرأ في كتاب الكون ما لا نستطيعه؟ ترى لو أتانا الله حاسة سادسة وسابعة وثامنة، فماذا عسانا نعرف بهذه الحواس الزائدة، أم تظل أبوابا مغلقة لأن العلم قد نفذ؟!
خامسا:
وهو يهاجم في هذا المقال الماديين من أصحاب النظرة الضيقة العتيقة، الذين يرفضون التسليم بأن الكون ألوفا وألوفا من الظواهر التي يقف أمامها العلم مكتوف الأيدي، ولا يمكن فهمها إلا أن تكون «خوارق» فوق العلم وقوانينه.
والواقع أن الماديين، في رأي مفكرنا، يشهرون سلاح التسويف والوعد بأن العلم سيتمكن في المستقبل مما لم يتمكن منه اليوم، ويمكن استخدامه في كل حي، وليس بيننا وبينهم موعد يبطل بعده التسويف، ولكنها مماطلة متجددة، لا تنقطع ولا تفرغ، فماذا يمنع أن نفترض أن هناك قوى غير مادية تفعل فعلها، وتؤثر في مجرى الطبيعة فتنتج كل هذه الخوارق والمعجزات؟!
سادسا:
الماديون يركبون رءوسهم، ويحاولون أن يحللوا بقوانين العلم كل شيء، فإن عجزت أمهلونا إلى المستقبل القريب، أو البعيد، والعجيب أن لهؤلاء الماديين «شطحات» في التفكير تدعو إلى التأمل، فأنت إذا سألتهم مثلا : كيف نشأت هذه الخلائق؟ أجابوك: تسلسلت نوعا عن نوع وجنسا عن جنس، وأصلها كلها خلية واحدة ... حسن، وكيف نشأت هذه الخلية الواحدة؟! أجابوا: أنها ولدت بطريقة تلقائية آلية من الجماد! فانظر إليهم كيف تجيز لهم عقولهم صدق هذا النبأ؛ مع أنه، على فرض أنه صحيح، فقد حدث في ماض بعيد سحيق ولم يشهده شاهد ولا سجله مسجل، ولكنهم مع ذلك يقبلونه راضين مختارين! ثم إذا عرضنا عليهم خارقة من خوارق الطبيعة؛ مما يقع في مرأى منا ومسمع، أنكروها في حمق مع أنها حاضرة بين أيديهم، وليست بالماضي البعيد، وهي مشاهدة مسجلة فكانت أجدر بالتسليم والقبول من تلك «الخارقة» البعيدة، ونسميها خارقة لأنه ليس من قوانين الطبيعة، فيما نظن، انبعاث الحياة من الجماد، ولكن القوم يختارون من الآراء والعقائد ما يتفق مع مذهبهم.
سابعا:
هب أن جماعة قد ارتطمت سفينتهم على جزيرة مهجورة لا أثر فيها للحياة، ولكنهم وجدوا على أرضها آثار أقدام ليست من آثارهم هم، فبماذا يعللون هذه الظاهرة إلا أن أناسا غيرهم كانوا بالجزيرة منذ حين؟ أظن هذا منطقا لا صعوبة فيه ولا التواء: لكل أثر مؤثر، فإن رأينا أثرا ولم نجد بيننا مؤثره، أيقنا أن هذا المؤثر لا بد أن يكون موجودا في غير مكاننا، وها نحن أولا: ننظر فنرى فوق هذه الجزيرة المهجورة التي تسبح بنا في الفضاء، ثم ننظر فإذا بآثار لا يحصيها العد، تفرض علينا فرضا أن أحدا غيرنا قد اتصل بهذه الجزيرة، وهو يتصل بها في كل حين ليحدث هذه الآثار.
ثامنا:
يختتم مفكرنا مقاله بتحديد مجال للعلم وآخر للدين، ويتساءل: ماذا يضيرك إذا ما عللت بالعلم ما يمكن أن يعلله، وأن ترجع إلى القوة التي فوق الطبيعة كل ما يصادفك من خوارق ومعجزات؟! يقول الماديون أن إدخال «الله» في مجرى الطبيعة عجز وقصور عن التعليل الصحيح، ويزعمون أن الإنسان الأول كان يفسر كل شيء بقوة الآلهة لقلة محصوله من العلم، فكان إذا اكتسب شيئا من العلم يعلل به ظاهرة ما، أسقط هذه الظاهرة من دائرة نفوذ الله وأدخلها تحت سيطرة العلم. وهكذا أخذ العلم ينمو ويتسع، كما أخذت العقيدة في تأثير الله في سير الطبيعة تضؤل وتضيق، وهم يرجون أن يطرد نمو العلم حتى يشمل الكون جميعا، ويفسر «الظواهر» كلها بغير استثناء، وهم بناء على ذلك يرفضون رفضا قاطعا أن يعللوا شيئا إلا على أساس واحد: هو قانون الطبيعة، ويلفظون من حظيرتهم كل من يحاول أن ينسب شيئا إلى قوة أخرى غير قوة الطبيعة وقوانينها، وقديما كان العالم، أو إن شئت الكاهن، يفسر كل شيء بقوة الآلهة وحدها، وينبذ كل من يحاول أن يفسر شيئا على غير هذا الأساس: فهل نرى فرقا بين الكاهن القديم والعالم الحديث؟ كلا! فكلاهما متعصب محدود الفكر، ضيق النظر!
لعل أقرب إلى روح العلم الصحيح، أن نتناول الأبحاث أحرارا من كل قيد، فلا نفترض لأنفسنا أساسا معينا للبحث لا نعدوه، أعني أنه لا ينبغي أن نحكم على أنفسنا أن نفسر كل شيء بكذا، وكذا، وإلا كنا كعلماء الفلك الأقدمين، الذين كانوا ينظرون في السماء ويبحثون في النجوم، على شرط أن يكون بحثهم مقصورا على ما هو معروف من النجوم، فإن ظهر كوكب أو نجم جديد أنكروه ورفضوه!
ذلك تلخيص واف للمقال الهام الذي نشره مفكرنا في مجلة «الرسالة»، ولم ينشر بعد ذلك قط، رغم قيمته الكبيرة في إبراز جانب «التدين الخالص»، الذي سيطر على تفكيره في أولى مراحله الروحية، التي أغفلها كثير من الباحثين، مركزين على المرحلة الثانية، التي بدأت بالمنطق الوضعي بجزأيه، وخرافة الميتافيزيقا ... إلخ، حتى أصبح اسم زكي نجيب محمود و«الوضعية المنطقية» مترادفين، أو كالمترادفين؛ مع أنها ليست سوى مرحلة سبقتها مرحلة، ولحقت بها مرحلة ثالثة تجمع الاثنين في مركب واحد! (5) الجبر الذاتي
تصل هذه المرحلة الأولى إلى قمتها مع رسالته للدكتوراه بعنوان: «الجبر الذاتي» عام 1947م، وهي التي وصفناها في مكان آخر بأنها «الوجه الميتافيزيقي للدكتور زكي نجيب محمود»؛
33
ذلك لأن نظرية «الجبر الذاتي» نظرية ميتافيزيقية في صميمها.
34
فضلا عن أنها تكشف لنا عن اهتمام مفكرنا بمشكلة الحرية، وإيمانه بحرية الإنسان وهو إيمان «لا مكان فيه لذرة من التردد أو الشك» على حد تعبيره.
35
وإن كانت هذه الحرية لا تعني الفوضى أو التحرر من القيود، فتلك حرية «سلبية»، وإنما هي حرية «إيجابية» تظهر في أفعال الإنسان المنتجة، وفي أقوال يقام البرهان العقلي على صوابها؛ فهي حرية محكومة بالروابط السببية، الإنسان فيها حر الإرادة، لكنه مقيد بماضيه، أو قل إن «الجبر الذاتي» يعني أن الإنسان مجبر عن طريق نفسه، فماضيه هو الذي يحدد له اختيار الفعل في الحاضر، لكن هذا الماضي من صنعه هو.
على أن ما يعنينا، الآن، من نظرية «الجبر الذاتي» التي نال بها درجة الدكتوراه من جامعة لندن عام 1947م، أنها تبدأ بتعريف «النفس»: «إذ يبدو أنه من الضروري في بحث يذهب فيه صاحبه إلى أن الإنسان مجبر ذاتيا أعني مجبرا عن طريق «نفسه» أن يفسر لنا طبيعة «النفس» بأوضح طريقة ممكنة ...»
36
ويلزم لذلك مناقشة فلسفتين تنكران وجود النفس، وهما نظرية «ديفيد هيوم» ثم المدرسة السلوكية. (5-1) نظرية هيوم
يذهب ديفيد هيوم إلى أن كل فكرة صحيحة يمكن ردها إلى انطباعاتنا الحسية المباشرة، وإلا لأصبحت فكرة زائفة ينبغي حذفها من قائمة الأفكار الصحيحة. وقد ترتب على ذلك نتيجة بالغة الأهمية وهي إنكار هيوم لما يسميه العقليون «بالعقل»، وما يسميه المثاليون «بالنفس» أو «الروح» ... وإلا فمن أي انطباع حسي أمكن لهذه الأفكار أن تجيء ...؟ إنه لو كانت النفس (أو العقل) كائنا دائم التأثير على هذه الحاسة أو تلك، لجاز أن يكون لفظ «النفس» اسما نطلقه على ذلك الأثر الحسي. ولكنا لا نجد بين انطباعاتنا الحسية انطباعا يدوم على حالة لا يختلف ولا يصيبه زيادة أو نقصان، فنجعله أصلا لهذه «النفس» المزعومة التي نزعم لها الدوام وعدم التغير؛ إذ حياتنا الإدراكية سلسلة من حالات لا تتجمع كلها معا في لحظة واحدة: فالألم، واللذة، والحزن والسرور، وشتى العواطف والإحساسات تتعاقب في واحدة في أثر الأخرى، ولا يمكن أن تكون فكرة «النفس» مستمدة من واحدة من هذه الحالات ، وإذن فالفكرة نفسها من خلق الوهم وليس لها وجود ...
37
ويتولى مفكرنا نقد هذه النظرية ليمهد بذلك لتعريف «النفس»، الذي هو ضروري لنظرية الجبر الذاتي، وهو يوجه إليها مجموعة من الانتقادات أهمها: (1)
أن ديفيد هيوم وقع في تناقض عندما أباح لنفسه أن يستخدم فكرة العقل أو (النفس)، بوصفه كائنا له وجود مستقل، رغم أنه ينكر عليه هذه الصفة، فهو يقول عن الانطباعات الحسية أنها «تطبع العقل»، وتشق طريقها إلى «فكرنا وشعورنا»، فضلا عن أنه يتحدث عن الانطباعات كما تظهر في «النفس». (2)
لا يمكن أن تكون الانطباعات الحسية هي كل ما هنالك، وإلا فمن أين جاءت فكرة «الترتيب»، عندما نقول عن عدد من الحصى أنها مرتبة بنظام معين؟! (3)
إصدار الحكم فعل يفترض بالضرورة وجود فاعل، فهو لا يمكن أن يكون مجرد «القوة الحيوية»، التي يصف بهما هيوم الانطباع الحسي، ولو كان كل ما لدينا انطباعات لاستحال أن نثبت أو أن ننفي شيئا. (4)
لو كان كل ما لدينا هو الانطباعات الحسية، فمن أين يمكن أن أعرف أن هناك إحساسين مختلفين يوجدان معا؟! (5)
أننا لا ننتبه مطلقا إلى جميع الانطباعات التي ترد إلى الحواس في لحظة معينة؛ لأن انتباهنا ينتقي منها ويختار، فمن الذي يختار هذا المعطى الحسي أو ذاك، دون بقية المعطيات، ليكون موضوعا للانتباه؟! (6)
لا نريد أن نواصل جميع الانتقادات التي وجهها مفكرنا إلى فلسفة هيوم؛ فهي كثيرة، وإنما يهمنا أن نذكر نقدا أخيرا هو أن خطأ هيوم في المنهج الذي استخدمه وهو منهج «الاستيطان الذاتي»، عندما يقول: «إنني إذا ما توغلت داخلا إلى صميم ما أسميه «نفس»، وجدتني دائما أعثر على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك ... إنني لا أستطيع أبدا أن أمسك ب «نفسي» في أي وقت بغير إدراك ما، كما أنني لا أستطيع أبدا أن أرى شيئا فيما عدا هذا الإدراك ...»
38
غير أن قوله أنه يتوغل داخلا إلى صميم «نفسه » معناه أنه ينتبه إلى نفسه؛ أعني أنه ينتبه إلى الحالة النفسية التي يتصادف وجودها لحظة الفحص، فما الذي يشير إليه هذا الانتباه إن لم يكن يشير إلى النفس أو الذهن أو الروح؟
39
إن القول باستحالة إدراك النفس عن طريق المنهج الاستبطاني (أي منهج التأمل الذاتي) يظهرنا، لا على أنه ليس هناك ما يسمى بالنفس، بل على أن هيوم استخدم منهجا خاطئا في اكتشاف النفس، لكن في استطاعتنا مع ذلك أن ندرك النفس عن طريق «المنهج الجدلي»، وهو منهج يعتمد على فحص ما يتضمنه موقف من المواقف، بحيث ننتهي إلى القول بأننا لا نستطيع أن ننكر هذا المضمون بغير الوقوع في التناقض، وهو نفس المنهج الذي استخدمه ديكارت، حين أثبت وجود نفسه بوصفه عملية تفكير.
40 (5-2) المدرسة السلوكية
المدرسة السلوكية في علم النفس لون آخر من ألوان النظريات التي تنكر وجود النفس، فقد حصرت نفسها في أنماط السلوك التي يمكن أن يلاحظها المشاهد الخارجي، معتمدة في ذلك على التجارب التي أجراها عالم الفسيولوجيا الروسي «إيفان بافلوف
I. Pavlov » (1849-1936م)، على الفعل المنعكس الشرطي دون أية إشارة إلى ما يسمى «بالشعور». ويزعم السلوكيون أن العلوم الطبيعية قادرة على تفسير وقائع السلوك البشري، وأنه ليس ثمة ما يبرر افتراض وجود شيء آخر غير السلوك الذي نشهده، وما دامت «النفس» من حيث هي كذلك لا يمكن أن نشاهدها بالملاحظة الخارجية فقد أنكروا وجودها.
لقد افترضت المدرسة السلوكية أن السلوك البشري، بالغا ما بلغ تعقده، يمكن رده إلى صيغة «مثير-استجابة»، أو في صورتها الرمزية «م، س»، فهناك «مثير» معين «م» تعقبه باستمرار استجابة معينة «س»، بغض النظر عن الكائن الحي الذي يثيره هذا المثير.
غير أن هذه الصيغة، في نظر مفكرنا، ناقصة أشد النقصان:
فالناس تستجيب استجابات مختلفة لنفس المثير.
البيئة مليئة بالمثيرات ينتقي منها الكائن الحي ما يثيره.
وهكذا تصبح صيغة «م، س» غير كافية لتفسير وقائع السلوك البشري؛ لأنها تسقط دور الكائن الحي الذي لا بد أن يدخل جزءا من السبب؛ ومن ثم فلا بد من إدخال الرمز «ك»، أي الكائن الحي، في الصيغة لتصبح «م، ك، س» أي مثير، كائن حي، استجابة. لكنها لا تزال غير كافية؛ ولهذا يقترح مفكرنا تعديلها لتكون «ك، م، س»؛ أي إن الكائن الحي يختار من البيئة ما يثيره، ويقوم بالاستجابة له.
ومعنى ذلك أن إنكار المدرسة السلوكية لوجود «النفس»، بحجة أنها لا تخضع لمنهج الملاحظة الخارجية (وهو منهج العلوم الوضعية)، لا يدل إلا على أن المنهج المستخدم في الكشف عن هذه «النفس» منهج خاطئ، تماما كما هي الحال في فلسفة هيوم، لكن لا يزال في استطاعتنا أن نقول إن النفس متضمنة بالضرورة في المواقف المختلفة، التي ندرسها في سياق البحث العلمي، وهو يضرب لنا مثالا واضحا على ذلك:
عالم النفس السلوكي الذي يريد أن يحصر نفسه في أنماط السلوك لا يستطيع أن يفعل ذلك، ما لم يكن قادرا على عزل نمط السلوك الذي يريد دراسته من السياق المحكم للكائن الحي والبيئة، وعزل موضوع الدراسة هذا لا يكون ممكنا إلا إذا وجه انتباهه نحو الجانب المطلوب دراسته. وهو جانب لا يمكن أن ينفصل بالفعل عن الكائن الحي الذي يشمله، ويستطيع الباحث عن طريق تعديل انتباهه التركيز على شيء واحد في لحظة معينة ... وعزل هذا الجانب قد لا يكون ممكنا إلا في الفكر وحده ... أي إنك لا بد أن تجرد هذا الجانب بفضل انتباهك الانتقائي، ومن هنا كان الانتباه موجودا في كل خطوة من الخطوات التي يقوم بها الباحث في بحثه. وهذا يعني أننا نفترض مقدما وجود «ذهن» الباحث (أو نفسه أو عقله)، وإنكار وجوده يعني أننا نناقض أنفسنا ...
41
وينتهي مفكرنا من هذه الانتقادات التي يوجهها إلى الفلسفات والنظريات التي أنكرت وجود النفس، إلى نظرية جديدة يرى فيها أن النفس هي «فعل بواسطته يجمع الفرد ما يبدو أنه يساعده في حفظ وجوده ...»
42
وهي شرط أساسي بدونه تصبح الرغبة، والنفور، والانتقاء، والإثبات والنفي ... إلخ أمورا مستحيلة، وبدون افتراضه، من ناحية أخرى، لا يستطيع الفرد أن يشعر ويدرك ويفكر، أنه الصورة؛ أعني الخاصية الأساسية للفاعل السيكوفزيقي التي تجعله ينتقي العناصر التي لا غنى عنها لوجوده، وباختصار هو المركز الموحد أو الفعل المتضمن في عملية الانتباه.
43
ومهما يكن من شيء في أمر تعريفه للنفس بأنها «الفعل المتضمن في عملية الانتباه»، وسواء اتفقنا أو اختلفنا معه بشأن هذا التعريف، فإن الأمر الجدير بالملاحظة حقا هو أنه كان في قمة هذه المرحلة يدافع عن «وجود النفس» ضد منكري هذا الوجود.
وعلينا قبل أن نغادر هذه المرحلة أن نشير إلى ملاحظتين هامتين:
الأولى:
أن هذه المرحلة الأولى، مرحلة التدين الخالص، لم تستبعد تماما النظرة العلمية، بل كانت، على العكس، تحمل بذور المرحلة الثانية، مرحلة العقل الخالص، التي ستظل تعمل بداخله حتى تظهر واضحة بعد عودته من إنجلترا، فقد كان «خلال تلك الأعوام نفسها تغلب عليه النظرة العلمية الصارمة، التي لم تكن تريد له ألا يأذن لشيء في الوجود كله أن يفلت من قبضة العلم، لا يستثنى من ذلك القيم الخلقية نفسها وما نسميه بالمثل العليا ...»
44
حتى إنه حاول، في أواسط الثلاثينيات، أن يعلل تعليلا علميا الظاهرة التي لاحظها وهي أن الأوروبي أكثر تمسكا بحريته وفرديته من الشرقي، فكتب بحثا رد فيه هذه الظاهرة إلى طبيعة التنفس في الهواء البارد والتنفس في الهواء الدافئ أو الحار، ونوع الطعام الضروري في كلتا الحالتين! «مثل هذا التصور للتفكير العلمي، نراه قد استبد بصاحبنا في كثير جدا من محاولاته خلال الثلاثينيات ...»
45
الثانية:
أن هذه المرحلة الأولى لم تتضمن فحسب بذور المرحلة الثانية، بل تضمنت أيضا بذور المرحلة الثالثة! فهو يروي عن نفسه أنه كان في هذه المرحلة المبكرة من حياته: «عقلا يبحث لنفسه عن طريق، وظل يبحث خلال أعوام الثلاثينيات ... وينتظر الجواب: أليس من سبيل يجمع عدة أطراف في رقعة واحدة؟ يجمع العلم والدين والتصوف والحرية؟ أليس ثمة سبيل يجمع مادة إلى روح، ويجمع عقلا إلى غريزة ...؟»
46
ومن ثم فسوف يكون من الضلال أن نتصور أن المراحل التي مر بها مفكرنا الكبير، كانت مراحل منفصلة لا يسري فيها جميعا خيط واحد، ولا تضمها شخصية واحدة، وإنما العكس هو الصحيح، فقد تجمعت في هذه العبقرية الفذة الكثير من البذور الخصبة في فترة مبكرة، وظلت تعتمل في نفسه، يظهر بعضها واضحا في مرحلة ويتوارى بعضها الآخر، وإن ظل في حالة كمون، حتى اكتملت ونضجت في المرحلة الأخيرة التي ظهرت بوضوح في السنوات الخمس التي قضاها في جامعة الكويت: «وهناك في جامعة الكويت وجد الفرصة سانحة لأداء ما كان شديد الرغبة في أدائه؛ وهو أن يتعقب طريق «العقل» في تراث العرب الأوائل؛ لأنه كان على يقين من رجحان العقل في كثير مما شغل به السلف، من مشكلات تتصل بالحياة الثقافية، وإذا كان ذلك كذلك فلا يبقى علينا إلا أن ندعو المعاصرين، من أبناء الأمة العربية إلى مواصلة السير في طريق الأجداد ...»
47
وكانت تلك هي المرحلة الثالثة.
ولهذا فإننا نراه يشبه تطوره الروحي بنمو الشجرة التي تكون بذرة تضرب بجذورها في الأرض فيخرج منها الساق، وتنمو الأوراق إلى أن تزهر، فإذا كان قد تأثر بالحضارة الغربية، في المرحلة الثانية من تطوره؛ فالسبب «أن الشجرة نقلت إلى الأرض الغربية، وإرهاصات الأزهار كامنة في أصلابها، فإذا كان للتربة الغربية فضل عليها؛ فهو فضل الإسراع نحو النضج لما كان، قبل ذلك، قد اختمرت خمائره، وما أكثر ما يستهين الإنسان بالبذرة الضئيلة، متناسيا أنها تحمل في جوفها شجرة قوية الجذع، متشابكة الفروع، غزيرة غنية الثمر، لم يكن ينقصها إلا أرض تمدها بالغذاء، وسماء تسقيها الماء، ومناخ يجود عليها بالهواء الطلق والضياء الهادئ ...»
48
الفصل الثاني
المرحلة الثانية: العقل الخالص
العبقري هو من يعرف متطلبات العصر ويلبيها!
هيجل
تمهيد
قلنا إن بذور المرحلة الثانية التي سنعرض لها الآن كانت كامنة في فترة مبكرة من حياته؛ ومن ثم فهذه المرحلة التي بدأت في أواسط الأربعينيات لم تظهر بغتة، عندما كان يدرس في إنجلترا، فعلى الرغم من أن «التدين الخالص» تحديدا يتوارى ليحل محله «العقل الخالص»، العقل الجاف الذي يحلل الواقع الاجتماعي الذي نعيشه، مستبعدا العواطف والمشاعر أيا كان نوعها، رافضا «التملق » أو المجاملات، مستهديا بنور العقل وحده، حتى بدا قاسيا في نقده وتحليله ... «لكنها قسوة المواطن يحب وطنه، ويثيره أن يراه قد تنكب جادة الطريق ...»
1
أقول على الرغم من أن هذه المرحلة الثانية بدت وكأنها تحمل «عناصر جديدة» تماما، تكاد تناقض مضمون المرحلة الأولى، فإن علينا أن لا ننسى باستمرار أنها خرجت من جوفها، وهو نفسه يصفها بأنها «مرحلة استيقظ فيها الوعي عندي حادا قويا في عدة اتجاهات ... وهي لم تنشأ عن عدم، بل هي اتجاهات أحسست بها قبل ذلك بأعوام، ولكنها كانت على شيء من الفتور والتردد ...»
2
ويمكن أن نقول إن هذه الاتجاهات تنحصر في مجالين أساسيين أعمل فيهما مبضع التشريح العقلي بقدر غير قليل من الحدة والصرامة، وهو مجال «الحياة الاجتماعية»، ومجال «النظرة العلمية»، وسوف نعرض لهما فيما يلي:
المجال الأول: نقد الحياة الاجتماعية
انشغل مفكرنا في المرحلة الأولى من تطوره الفكري، من بين الموضوعات التي انشغل بها، بتخلف مجتمعه، وكانت فكرة «التقدم» من بين الأفكار التي مال إليها بكل عقله وقلبه، على حد تعبيره.
3
وراح يفسرها على أنها تعني: «... أن الحاضر قد هضم الماضي ثم أضاف جديدا تلو جديد مما أنتجته السنون، ومعنى ذلك ألا يكون «العصر الذهبي» وراء ظهورنا، بل أن يكون موضعه الصحيح هو المستقبل الذي يعمل الناس على بلوغه ...»
4
فالتقدم الحضاري يقتضي حتما ألا نجعل الماضي مقياسا للحضارة، وكيف نجعله المقياس، إذا كان هذا الحاضر أفضل منه بحكم فكرة التقدم نفسها؟! النظر إلى الماضي هو نظر إلى الوراء، على حين أن التقدم يقتضي أن نوجه النظر إلى الأمام، والانحصار في الماضي هو انحصار في نمط واحد من أنماط الحضارة؛ مع أن التقدم يحتم علينا الخروج من نمط أضيق نطاقا إلى نمط أوضح أفقا وأرحب إطارا.
5
وسافر في بعثة دراسية إلى إنجلترا والأفكار تتزاحم في ذهنه وتلح عليه في وطأة ضاغطة، وانثيال متدارك عنيد، فقد كان يشعر أن هناك قيما كبرى بغيرها لا تتقدم حياة الإنسان خطوة واحدة: كالحرية، والعدالة، والمساواة والمسئولية الخلقية للفرد ... إلخ إلخ ؛ ولهذا فقد كان أول ما انتبه إليه في «يقظة واعية» هو طريقة التعامل بين الناس؛ ففي إنجلترا تصان لكل فرد كرامته ، دون أن يكون لاختلاف أنواع العمل أي أثر في أن يتعالى أحد على أحد، أمام مجتمعنا، فمهما أطلقنا اللسان بكلمات الحرية والمساواة وما إليها، فنحن إنما ندس في طوايا نفوسنا أخلاق النظم، التي تقسم الناس إلى سادة وعبيد؛ ولهذا «فلم يكن أعنف من ثورتي على «القيم» كما هي قائمة في حياتنا، بحيث تسمح للمستبد أن يستبد، وتجيز لذليل النفس أن يذل ...»
6
وهكذا أدرك بوضوح ناصع، أننا نكتفي بالكلام عن حرية الإنسان وحقوقه وكرامته ... «... أما أن ننتقل من دنيا الكلام إلى التنفيذ، فذلك من أصعب الصعاب على من لم يتشرب روح الحضارة، التي تعلي من قيمة الإنسان، فلما رأيت القيمة مجسدة (في إنجلترا)، في كل موقف بشري مما صادفته في تعامل الناس بعضهم مع بعض، تنبهت بقوة إلى ركن ناقص في بنائنا الاجتماعي في مصر ...»
7
فهو بناء مليء بالثقوب المتمثلة في الظلم، والقهر، والاستبداد، والتسلط، والتنافر، والكراهية؛ مما أدى في نهاية الأمر إلى فقدان الفرد لكرامته، وحريته، واستقلاله. ولما كان العبقري، كما يقول هيجل بحق، هو الذي يدرك «هذه النواقص والثقوب»، ويعمل على إصلاحها عندما يلبي حاجة مجتمعه، فقد أخذ مفكرنا على عاتقه تشريح الحياة الاجتماعية تشريحا عقليا، بحيث يكشف عما انطوت عليه هذه الحياة من «قيم» فاسدة، وأوضاع «لا معقولة»، علينا أن نعمل على إزالتها بكل ما نملك من قوة النقد البناء، فكتب سلسلة من المقالات بعث بها من لندن لتنشر في «مجلة الثقافة» في مصر، وهي مقالات من نوع فريد: فيها الكثير من الرمز والسخرية اللاذعة، صاغها في ثوب أدبي لم يألفه كثيرون من كتابنا فضلا عن القراء، وهي المقالات التي جمعها بعد ذلك وأصدرها عام 1947م في كتاب بعنوان «جنة العبيط»، وهذا العنوان هو المقالة الأولى في الكتاب، وهو يسخر فيها من سذاجة المواطن الذي يعتقد، أحيانا، أنه يعيش في «جنة»؛ مع أن حياته في حقيقتها لا تكون جنة إلا في رأي «العبيط»، لا سيما إذا ما قورنت بالحياة التي رآها في إنجلترا ... «ولم أكن أريد بتلك المقارنة درجات الفقر والغنى، أو حتى درجات المعرفة والجهل، بقدر ما أردت القيم الخلقية، وحقوق الإنسان في التعامل مع سائر مواطنيه ...»
8
ومن بين هذه المقالات أيضا «تجويع النمر» يصور فيها كلا منا وكأن في جوفه نمرا رابضا ينتظر فرصة الظهور.
9
فإذا ما صعد إلى مقاعد الرئاسة لم يلبث ذلك النمر أن يظهر بكل أنيابه ومخالبه، وما طعامه الذي يتغذى به إلا ذلة الآخرين! كما كتب أيضا عن «الكبش الجريح» يصور فيه الإنسان الذليل بطبعه، الذي يستمتع بإذلال الآخرين له؛ فهو «الكبش» تحز في رقبته سكين الجزار، فترتسم على شفتيه ما يشبه ابتسامة الرضا والقبول!
ومن أمتع المقالات الأدبية التي كتبها أستاذنا الكبير، في هذه الفترة، مقالة بعنوان «بيضة الفيل»، يسخر فيها من المناقشات ««البيزنطية» التي تحتد بين بعض الناس في موضوعات في غاية التفاهة من ناحية، ثم هي تخلق مشكلات «هوائية» تخلقها من عدم من ناحية أخرى، يبدأ المقال على النحو التالي: «قال الشيخ: الفيلة تلد ولا تبيض، والمشكلة المراد حلها هي هذه: لو كانت الفيلة تبيض، فماذا يكون لون بيضها؟»
10
لاحظ أن أول سطر في المقال يقرر حقيقة علمية بسيطة هي «أن الفيلة تلد ولا تبيض»، لكنا اعتدنا أن نخلق مشكلات من عدم: فافرض أنها تبيض فماذا يكون لون بيضتها؟» في الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء: يقول عمارة بن الحارث بن عمارة تكون بيضاء، واستدل على صحة قوله بدليل من القياس ودليل من اللغة ...»
11
وتصدى معسرة بن المنذر لتفنيد ما قاله عمارة بن الحارث في بيضة الفيل، ... لكن نهض تلميذ نجيب من تلامذة ابن الحارث وتصدى للرد على نقد معسرة! ... وهكذا تدور المناقشات وتبذل الجهود في حل مشكلات لا أساس لها! فكيف يمكن، في حكم العقل، أن ينهض مجتمع ويتقدم تضيع جهوده هباء على هذا النحو؟!
واستمر مفكرنا في هذا التشريع العقلي لحياتنا الاجتماعية، حتى بعد عودته إلى مصر في خريف عام 1947م، فأخذ يدعو قومه إلى الأخذ بثقافة العصر، التي تقضي بتعديل سلم القيم من ناحية، والأخذ بالمنهج العلمي من ناحية أخرى؛ ومن هنا فقد واصل مقالاته الأدبية «لعلها تنسف جزءا من ألف جزء من الإطار الثقافي العتيق الذي كنا وما نزال نعيش فيه «فكتب مجموعة جديدة من المقالات على مدى ثلاث سنوات، جمعت، بعد ذلك، في كتابين الأول هو «شروق من الغرب» (صدر عام 1951م)، والثاني هو: «... والثورة على الأبواب» الذي صدر عام 1955م (وقد أطلق عليه في الطبعة الثانية عام 1983، اسم «الكوميديا الأرضية») في الكتاب الأول دعوة إلى الأخذ بثقافة الغرب؛ فالغرب هو «العصر» لأنه صنع حضارة عصرنا، وقد وصف هذه الدعوة، فيا بعد، بأنها كانت «أحادية الجانب»؛ لأنها أثبتت جانبا وأهملت جانبا آخر، اهتمت «بالمعاصرة» وأغفلت «الأصالة»، وهو نقص سوف يصححه في أوائل السبعينيات، ومع ذلك فإن علينا أن نحذر المغالاة في تصوير هذا النقص كما يفعل بعض الباحثين أحيانا، وعلينا أن نتذكر دائما ما يقوله مفكرنا نفسه: «لم تكن دعوتي إلى ثقافة الغرب صيحة مجنونة مفتونة بمظاهر كاذبة، بل هي دعوة دفعني إليها ما رأيته من مكانة رفيعة للإنسان، كل إنسان، وأي إنسان، من حيث هو إنسان وكفى، فعندئذ قارنت، رغم أنفي، بين ما رأيته هناك، وما كنت أعلمه عن قيمة الإنسان في ثقافتنا المصرية كيف تعلو وتهبط مع درجات السلطة، والنفوذ، والثراء، ونوع العمل ... فهل كان يمكن أن أرى ذلك الفارق الشاسع بين الثقافتين ... دون أن أدعو إلى الأخذ بكل ما من شأنه أن يكسب الإنسان كرامته ...؟!»
12
لا سيما بعد أن ديست حقوق الإنسان تحت أقدام الأقوياء.
13
أما الكتاب الثاني فهو استمرار للحملة العنيفة التي شنها مفكرنا على القيم الاجتماعية في بلادنا؛ إذ تدور أولى مقالاته على قسمة المجتمع إلى «سادة» يعيشون فوق قمة الجبل «الذي يعلو بقمته على مستوى السحاب، وبقية الشعب الذي يعيش عند سفح الجبل ...» ويصور بسخرية لاذعة كيف يدخل «السادة» في مناقشات لا تنقطع حول مشكلات «الشعب» ورفع مستواه ... ويقدم في نهاية المقال نموذجا من أبناء هذا الشعب بائعة الحلوى المسكينة التي تبيع القطعة بمليم، فيشتري ما عندها ثم يطلب منها في تهكم واضح «... لا تنسي يا أمي أن تطلبي من رب السماء الرحمة بأولئك الذين يرعون مصالحك فوق الجبل.»
14
كما كتب مفكرنا أيضا مقالات ممتعة، غاص فيها في أعماق النفس البشرية ببصيرة نافذة، فصورها عارية تارة (قارن مقالة «نفس عارية»).
15
ورد الطغيان تارة أخرى إلى النفس الفقيرة التي تنظر إلى باطنها فتجد خواء، فتمتد إلى خارجها لتستبد بالآخرين حتى تسد ذلك الخواء! ... (قارن مقالة «نفوس فقيرة»).
16
كما كتب أيضا عن نظام الحكم بعنوان «إلى سادتي الحكام».
17
وهي رسالة موجهة إلى أصحاب السلطان، يسخر فيها من الحكام وما يعيشون فيه من ترف ونعيم، واستمتاع «بالجمال»، ويقول لهم إن أفلاطون ذهب إلى أن «الخير هو نفسه الجمال»، ثم يرتب مفكرنا على فكرة أفلاطون هذه نتيجة هامة هي: «العدل خير؛ ولذلك فهو جميل، وأنتم من عشاق الجمال ... فكيف ترضون أن يملأ الظلم حولكم أركان البلاد؟»
18
ذلك تناقض لا يقبله عاقل: أن تعشق الجمال في بيتك ومن حولك وفي جميلات النساء، وفي الطعام الجيد، ومناظر الطبيعة الخلابة ... إلخ، ثم تترك «الظلم» يطحن الناس في مجتمعك؛ ولهذا «فهو كثير جدا ما أخذه العجب مما يسمونه «سياسة»، لكثرة ما نراه فيها من مجافاة لمنطق العقل ...»
19
المجال الثاني: النظرة العلمية:
كان جوهر «اليقظة الواعية» التي حدثنا عنها مفكرنا، والتي بدأت في أواسط الأربعينيات، «الإيمان بالعقل» والدعوة إلى استخدامه في شتى مجالات الحياة: «مجال الحياة الاجتماعية»، كما سبق أن رأينا لنزيح عن كاهلنا تلك الأفكار المبتسرة، والقيم «الفاسدة» التي تفرق بين البشر، وتقسم الناس إلى سادة وعبيد، وتنشر الظلم، والقهر والاستبداد ...إلخ، وهي كلها «قيم» يلفظها «العقل السليم»، والمجال الثاني هو «النظرة العلمية» التي يفتقر إليها مجتمعنا.
20
وهو يقول عن هذه المرحلة التي استقر عليها فكره عشرين عاما (1950-1970م) «... لقد سرت في خلالها على خطين متوازيين: أحدهما الدعوة إلى ثقافة العصر، والآخر الدعوة إلى منهج التجريبية العلمية في صياغة الأفكار ...»
21
ومن هنا كانت المشكلة الرئيسية التي شغلت فكره خلال الخمسينيات هي إشاعة «نور العقل»، والدعوة إلى التمسك به؛ فهو الجانب الغائب في ثقافتنا التي أظلمت سماؤها، بعد أن شالت كفة الوجدان ورجحت بل وطغت، فنحن أمة تفضل القلب على الرأس، وترفع من شأن المشاعر والوجدان، وهل هي مصادفة أن تجد منا ألف شاعر كلما وجدت عالما واحدا؟!
22
ومن هنا فقد توارت عنده، في هذه المرحلة، مشاعر الوجدان ومنها المشاعر الدينية الفياضة (وإن ظهر الوجدان في المقالات الأدبية)؛ ذلك لأنه وجد أن القاسم المشترك في جميع الحضارات هو الاحتكام إلى العقل، في قبول ما يقبله الناس، وفي رفض ما يرفضونه. وهذا الاحتكام إلى مقاييس العقل وحده، قد يتبدى في صور تختلف باختلاف العصور، فربما ظهر في مجال السياسة، أو الحياة الاجتماعية، أو مجال الحرب، أو في مجال التشريع، أو في مجال العلوم الطبيعية.
23
وهذه العقلانية في وجهة النظر التي نراها ماثلة في كل حضارة مهما اختلف لونها، ولا نراها في أي جماعة بدائية مهما تعددت بعد ذلك صفاتها، وليس ما نسميه «علما» سوى العقلانية، التي اتخذت لها منحى معينا من مناحيها الكثيرة.
فقد تتجه العقلانية نحو الأفكار المجردة تنظمها وتنسقها في ترتيب هرمي ليضع الأعم منها فوق الأخص، كما حدث عند اليونان الأقدمين، أو ربما اتجهت نحو ظواهر الطبيعة تستخرج قوانينها النظرية، كما حدث لأوروبا في عصورها الحديثة، أو اتجهت نحو تجسيد تلك القوانين العلمية النظرية في أجهزة يديرها الإنسان، أو تدير نفسها كما يحدث في عصرنا الحاضر.
24
وقد تجلى هذا المنحى العقلي الخالص، عند مفكرنا، في جانبين مرتبطين أتم الارتباط: المنهج العلمي من ناحية، والتجريبية العلمية من ناحية أخرى، وتكشف عنهما معا أول عبارة ذكرها في كتابه «المنطق الوضعي» في مارس 1951م، وهي عبارة عنيفة وإن كانت معبرة ودقيقة: «أنا مؤمن بالعلم كافر بهذا اللغو الذي لا يجدي على أصحابه، ولا على الناس شيئا، وعندي أن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية يكثر أو يقل، بمقدار ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه ...»
25
وهو يواصل عرض الفكرة ذاتها بقوله: «لما كان المذهب الوضعي بصفة عامة، والوضعي المنطقي بصفة خاصة، هو أقرب المذاهب الفكرية مسايرة للروح العلمي، كما يفهمه العلماء الذين يخلقون لنا أسباب الحضارة في معاملهم، فقد أخذت به، أخذ الواثق بصدق دعواه ...»
26
ودخل في معارك فكرية هامة دفاعا عن العقل في دوره الحضاري. «كانت الخمسينيات في حياتي الثقافية، معركة متصلة حامية اللهب، أدافع فيها عن ضرورة التزام الإنسان في حياته العلمية بمنطق العقل، في صرامة لا تجد العاطفة ثغرة لها، تتسلل منها، فتضعف ذلك المنطق العقلي بميولها وأهوائها ...»
27
النظرة العلمية، والوضعية المنطقية، أو التجريبية العلمية كما يفضل مفكرنا تسميتها، يلتقيان مع «العقل» على صعيد واحد؛ ومن هنا كان دفاعه عن العقل.
أما النظرة العلمية فهي في أساسها وقفة عقلية تتميز بالخصائص الآتية: (1)
أولى هذه الخصائص نتيجة مترتبة على الوقفة العقلية، وهي أن تتحدد الأشياء بنسبها الصحيحة بعضها من بعض، بحيث يبدو الكبير كبيرا كما هو، والتافه تافها كما هو، فقد تهتم الدولة المتحضرة بمسألة علمية تريد لها أن تستقر في أذهان الناس، ولكنها تتغاضى عن توافه السلوك التي ربما اختارها هذا الرجل أو ذاك. (2)
ومن أبرز جوانب النظرة العلمية، وأكثرها أهمية بالنسبة لنا، أن ترد الظواهر إلى أسبابها الطبيعية، فلا يفسر المرض مثلا إلا بالجراثيم التي أحدثته، ولا يعلل سقوط المطر إلا بظروف المناخ ... وهكذا، ويترتب على هذا الربط السببي الصحيح أن نلتمس للأشياء أسبابها الطبيعية كذلك، فإذا أردنا غلالا زرعنا الأرض لنحصدها، وإذا أردنا قتالا حملنا له السلاح بمران واقتدار.
28
ومن هنا كان السحر، مثلا، هو الضد المباشر للنظرة العلمية، وللوقفة العلمية التي ندعو إليها؛ ذلك لأن السحر يعلل الأحداث بغير أسبابها الطبيعية، فإذا كانت علة المطر، مثلا، هي مقدار ما يتكثف من بخار الماء في الهواء، جعلها الساحر ورقة يكتب عليها أحرفا يختارها، أو عبارة يزعم لها القدرة على إنزال المطر. وإذا كانت علة الشفاء من مرض معين هو أن تزال الجراثيم التي تحدثه ، كانت هذه العلة عند الساحر «عفريتا» يسكن الجسد العليل، والشفاء من المرض إنما يكون بطرد هذا العفريت بأقوال تقال، وبخور يعطر جو المكان، ويطهره من الكائنات الشيطانية العابثة بأجساد الناس ... وهكذا.
29 (3)
والنظرة العلمية تنظر إلى الواقع كما هو لتحوره إلى واقع جديد إذا أرادت، دون أن تقيم بينها وبين الواقع حائلا تنسجه الأوهام، ثم سرعان ما ننسى أنها أوهام، فإذا كان البدائي يخلق لنفسه الخرافة، لينظر بمنظارها إلى واقع الدنيا، فإن صاحب النظرة العلمية هو الذي يواجه تلك الوقائع كما تبدو لبصره وسمعه. (4)
على أن النظرة العلمية لا تعني أن نجمع في خزائننا مجموعة من حقائق العلم، وإنما هي في أساسها أن نكتسب المنهج العلمي في طريقة النظر. والمشكلة عندنا حتى بالنسبة لدارسي العلوم في جامعاتنا، أن الدارس يحفظ عن ظهر قلب مجموعة من الحقائق العلمية، دون أن يصبح المنهج العلمي طريقا ينتهجه في حياته العلمية؛ ولهذا جاز للرجل أن يكون نابغا في العلم ثم تراه في الوقت نفسه، خارج حدود علمه، مؤمنا بالخرافة كأي إنسان آخر ممن لم يهبهم الله حظا من العلم.
30
أنه إذا كانت مجموعة الحقائق العلمية التي يحفظها أبناؤنا في المدارس والجامعات، بمثابة قطع من نفائس المعادن، فإن «المنهج» الذي أوصلنا إلى تلك النفائس هو بمثابة المنجم الذي نظل نستخرج منه النفائس بعد النفائس، وبغيره نجمد عند ما حصلناه، لا نزيد عليه كبيرة ولا صغيرة.
31
ولهذا فقد كان مفكرنا يركز تركيزا أساسيا على «منهج التفكير»، وهو يروي في سياق اهتمامه بهذا المنهج، تلك الحكمة الصينية التي تروي أن فقيرا جائعا، مر بصائد سمك راح يستجديه، فأعطاه سمكة يسد بها رمقه، غير أن الحكيم الصيني الذي شاهد الموقف قال له: خير لك أن تعلمه صيد السمك، من أن تتصدق إليه بسمكة؛ فالسمكة المعطاة هي وجبة واحدة، تأتي بعد زوالها حاجة متكررة إلى وجبات، أما إذا تعلم الصيد فسوف يجد ما يشبعه كلما جاع! «... وعلى منوال هذه الحكمة النافذة أدرك صاحبنا منذ كان في غربته الدراسية، أن تدريب المتعلم على منهج التفكير المنتج، خير الف مرة من مضاعفة المادة العلمية المحصلة؛ لأن مقدار ما يحصله الدارس من مادته العلمية مهما كثر فهو قليل، وأما من زود عقله بمنهج التفكير العلمي؛ فهو قادر أبدا أن يلتمس الطريق الصحيح ...»
32
أما الشق الثاني من «النظرة العلمية» التي اهتم بها مفكرنا في هذه الفترة اهتماما شديدا توارت معه، إلى حين، المشاعر الدينية التي كانت تعتصره في المرحلة الأولى؛ فيتمثل في اتجاهه إلى الانتماء إلى «المذهب الوضعي المنطقي»، وهو انتماء أساء إليه كثيرا عندما لم يفهم فهما صحيحا أو يوضع في إطاره ودوره الحقيقي، فقد ظن بعض الباحثين أن زكي نجيب محمود «اعتنق» المذهب الوضعي «وتعصب له بوصفه مذهبا فلسفيا»، وأنه أخذ على عاتقه الدعوة إليه في حياتنا الثقافية، بكل ما يملك من قوة ذهنية وبلاغة لغوية، في كتبه أو محاضراته، ومقالاته، وندواته ... إلخ، حتى استطاع أن ينمي حوله تيارا فكريا مستمدا من أصول هذه الفلسفة.
33
وباختصار أصبح زكي نجيب محمود «موظفا» في مدرسة الوضعية المنطقية، تنحصر مهمته في نشر فكر المدرسة والدفاع عنها؛ مع أن العكس هو الصحيح تماما؛ أعني أنه «وظف» هذا المذهب لصالح الفكر التنويري.
34
فلم تكن الوضعية المنطقية عنده «مذهبا» يعتنق ويتجمد في إطاره، بقدر ما كانت «منهجا» يأخذ بالنظرة العلمية ويدعو إليها؛ ومن ثم فهو يرسم للباحث خطواته التي تضمن له السير على أرض صلبة لا تميد تحت قدميه.
35
ولم تدرك سوى قلة ضئيلة من الباحثين الفارق الهام بين الدور الذي لعبته الوضعية المنطقية في إنجلترا وأمريكا، والدور التنويري الخطير الذي قامت به هذه الفلسفة في بلادنا عندما هاجمت الخرافة، والتفكير اللامسئول، ودعت إلى التمييز بين العبارات اللغوية، ومجالات النشاط الذهني للإنسان ... إلخ إلخ، وهو دور لم يكن من الممكن أن تقوم به هذه المدرسة في الدول المتقدمة التي نشأت فيها.
كان هذا الهدف التنويري هو الذي جذب زكي نجيب محمود إلى الوضعية المنطقية، أو التجريبية العلمية، كما يحلو له أن يسميها، فقد رأى فيها الفلسفة التي «وصلت إلى أعظم كشف فلسفي في هذا العصر»، والذي تمثل في التمييز بين مجالات التفكير عندما ميزت بين أنواع العبارات اللغوية، وهو كشف اعتبره ملبيا لحاجة ماسة عندنا ، بعد أن ساد حياتنا الثقافية استهتار عجيب لا سيما في مجال الفكر «... فقد اعتادت الألسنة والأقلام أن ترسل القول إرسالا غير مسئول دون أن يطوف ببال المتكلم أو الكاتب أي شعور بأنه مطالب أمام نفسه، وأمام الناس، أن يجعل لقوله سندا من الواقع الذي تراه الأبصار وتمسه الأيدي!»
36
فلم يكن توجهه إلى الوضعية المنطقية يهدف إلى «اعتناق» مذهب فلسفي يعارض به المذاهب الفلسفية الأخرى بقدر ما كان عثورا على «طريقة التفكير»، و«منهجا» للنظر، رأى أنه يفيد في إصلاح التسيب والاعوجاج الذي شاهده في حياتنا الثقافية؛ ذلك لأن الوضعية المنطقية إذا كانت قد صبت كل اهتمامها في مجال التفكير العلمي، فقد اعترفت في الوقت نفسه، أن هذا التفكير ليس هو كل النشاط الذهني للإنسان، وإنما هو جزء واحد من النشاط، فهناك إلى جانب التفكير العلمي ضروب الوجدان بشتى صنوفها، ومن أهمها الجانب الديني من الإنسان، والفن، والشعر، وسائر ألوان الإبداع الأدبي، ومنها الحياة العاطفية الانفعالية التي يحياها الإنسان كل يوم، ويعبر عنها قولا وسلوكا؛ ومن هنا جاءت أهمية فصل الوضعية المنطقية بين هذين المجالين والتميز بين العبارات اللغوية التي تعبر عن «تفكير علمي» من ناحية، والعبارات التي تعبر عن الوجدان والمشاعر من ناحية أخرى.
غير أن الوضعية المنطقية عادت إلى التمييز، داخل مجال التفكير العلمي نفسه، بين العبارات العلمية ذاتها، ففرقت بين العبارات التي تندرج تحت مجموعة العلوم الرياضية، والعبارات التي تندرج تحت مجموعة العلوم الطبيعية، فلكل من المجموعتين أسس خاصة بتكوينها، وبالطريقة التي يحكم بها على صدقها وكذبها. وكانت الفلسفات السابقة تحسب أن الوقفة العلمية واحدة في جوهرها، فلا فرق بين أن يكون الموضوع المطروح للتفكير ذا خصائص تجعله رياضي الطابع، أو ذا خصائص تجعله من قبيل العلوم الطبيعية. لدرجة أن بعض الفلاسفة بذلوا جهودا مضنية، للوصول إلى نظرية عن الكون تبلغ مبلغ «اليقين» الرياضي الذي لا يحتمل أدنى ظل من الشك. ومنهم، على العكس، من كان ينشد، مثل جون ستيوارت مل (1806-1873م) إخضاع الفكر الرياضي لمنهج التجربة في العلوم الطبيعية. فجاءت الوضعية المنطقية لتكشف عن الفرق الشاسع في بنية التكوين ذاتها بين العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية، وتحذرنا من الخلط بينهما؛ فالفكر الرياضي تحليلي ومنهجه استنباطي، والفكر الطبيعي تركيبي ومنهج استقرائي. الأول تحصيل حاصل لا يضيف جديدا ولهذا هو «يقيني»، أما عبارات العلم الطبيعي المستمدة من التجربة فهي تحمل إضافة جديدة إلى الموضوع الذي نتحدث عنه؛ ومن هنا يجيء احتمال الخطأ.
37
وقد ترتب على هذه التفرقة البسيطة بين عبارات اللغة، والتي أشارت إليها الوضعية المنطقية، ثلاث نتائج هامة على النحو التالي:
الأولى:
أن مجال التعبير الوجداني بكل أشكاله يخرج من دائرة العلوم بنوعيها، فلا هو من قبيل الفكر الرياضي موضوعا ومنهجا، ولا هو كذلك من قبيل الفكر الطبيعي موضوعا ومنهجا؛ ولذلك نخطئ كثيرا إذا نحن عاملناه بمقياس أي من المجموعتين، فلو قال قائل «ما أجمل أشعة القمر!» وقال آخر «إن أشعة القمر تشبه خيوط العنكبوت»، أو قال ثالث: «ما أروع الغروب!» ورد رابع «إنني أنقبض لرؤية الغرب»، فهل في استطاعتك أن تحسم الأمر بينهم فتقول: أصاب الأول وأخطأ الثاني، أو أصاب الرابع وأخطأ الثالث؟! كلا!
فليس ثمة مجال للصواب أو الخطأ؛ لأن كلا منهم يعبر عن شعوره الباطني الخاص، والشعور الباطني الخاص لا يخضع لمقاييس الصواب أو الخطأ التي هي مقاييس العلوم بمجموعتيها.
والنتيجة الثانية:
أننا سنجد شرائح عريضة من البناء الثقافي تنصب في قالب الفكر الرياضي، وإن لم تكن فكرا رياضيا بالمعنى المحدود لهذه العبارة، بمعنى أنها تبدأ من «فروق» تجعلها مسلمة بغير حاجة إلى برهان، لتكون هي نفسها السند الذي يعتمد عليه في البرهنة على صحة النتائج التي تتولد عنها، ومن أهم هذه الشرائح الثقافية «علوم الدين»، في أي دين، لأن لكل دين كتابه الخاص الذي يبدأ منه، ويجعله أمرا مسلما به لا يقام عليه برهان، إذ يكفيه عند المؤمنين بهذا الكتاب أنه يقع من قلوبهم موقع «الإيمان». ومن هذا الكتاب يستخرج أنصاره، أو الفقهاء منهم، أحكام ذلك الدين المعين، فإذا سئل أحدهم عن حكم من تلك الأحكام : ما برهانك على صوابه؟ كان جوابه أن يرد الحكم إلى الأصل الكتابي الذي استخرجه منه، وفي هذا ما يحسم الرأي، لكنه يحسمه عند أصحاب ذلك الدين، أما غير أصحابه، فهم غير ملزمين بقبول السند نفسه الذي يرجع إليه عند الأحكام.
38
والنتيجة الثالثة:
أن من يسوق حديثا عن الواقع الخارجي، عليه أن يقبل إخضاع حديثه لمقاييس التجربة الحسية عند الآخرين. أما أن يزعم لأقوال أنها تصف الواقع الفعلي، ويعجز عن بيان المطابقة الحسية بين ما يقوله وبين ما هو محسوس لنا، بل يثور ويغضب من إخضاع حديثه للتجربة الحسية، فذلك ما ينبغي أن نرفضه رفضا قاطعا، فما دام يتحدث عن أمور «محسوسة» أعني وقائع حسية، فلا بد أن تكون ثمة طريقة «حسية» أيضا نتأكد بها من صدق حديث أو كذبه، ولا مندوحة له عن ذلك.
تلك كانت الأفكار الرئيسية التي أخذ بها مفكرنا في المرحلة الثانية، التي كان فيها «العقل» هاديه ومرشده، لكنه لم يغيرها قط، بل وظفها في المرحلة الثالثة في خدمة نظرته إلى التراث، يقول ملخصا الخيط الذي سرى في تفكيره طوال تطوره الروحي: «الخط الفكري الذي تنطوي عليه كتاباتي على اختلاف موضوعاتها، هو أن الفرد الإنساني مسئول عما يفعل، وأن هذه المسئولية لا تعني شيئا إذا لم يكن العقل وحده هو مدار الحكم في كل المسائل التي نطلب فيها التفرقة بين الصواب والخطأ ...»
39
ولما رأى الناس في بلاده على عداوة مع العقل، فقد أدرك أنهم بالتالي على عداوة مع التقدم، ومع الحضارة: «ومع كل ما يترتب على العقل من علوم ومنهجية النظر، ودقة التخطيط والتدبير ...»
40
ومن هنا كانت صرخته ليستيقظ النوم من سباتهم، ويلحقوا بالركب ... ولعل هذا هو السبب في أن هذه المرحلة هي التي التصقت بأذهان المثقفين الذين هزتهم الدعوة من الأعماق، فانتبهوا إلى هذا الفكر الجديد، وانهالوا عليه لوما وتقريعا، وعمدوا إلى تقليص دوره ليصبح «من المؤكد أن زكي نجيب محمود هو أبرز ممثل لتيار الوضعية المنطقية في الوطن العربي».
41
على الرغم من أنه لم يعتنق الوضعية المنطقية مذهبا، وإنما وظفها لصالح الفكر التنويري كما سبق أن رأينا. فالأفكار الرئيسية التي عرضناها في هذه المرحلة كانت خيوطا تلاقت في نسيج المرحلة الثالثة. وما وصفه بأنه «أعظم كشف فلسفي في هذا العصر» هو الذي كان هاديه ومرشده في تحليله للتراث العربي. ولو أمعنا النظر قليلا في تقسيمه لمجال النشاط الذهني للإنسان إلى مجالي «التفكير العلمي» و«الوجدان»، لوجدنا أنها هي نفسها القسمة التي وجهت تفكيره في «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»؛ فالمعقول هو «وقفة العلم»؛ لأن العلم بكل ضروبه نشاط عقلي خالص، وخصائص التفكير العلمي هي طائفة هامة من خصائص العقل.
42
لكن ذلك لا يعني أن الإنسان عقل كله، بل هناك حالات يكابدها ويعانيها، منها الانفعالات والعواطف والرغبات وما إليها: «فإذا ضممنا جميع الأقوال التي قالها قائلوها من «حالات» اعتملت بها أنفسهم. كان لنا مجموعة مجال «اللامعقول» في الثقافة التي تقصيناها بالنظر والدرس ...»
43
ولو أمعنا النظر، من ناحية أخرى، في «تجديد الفكر العربي» لوجدنا أن القسم الذي كتبه تحت عنوان «المبادئ: حقائق هي أم فروض؟» (ص190-204) يعتمد اعتمادا تاما على القسمة الثانية التي أدخلتها الوضعية المنطقية في قلب التفكير العلمي نفسه، حين ميزت بين الفكر الرياضي والاستبناطي، والفكر التجريبي الاستقرائي، وجعلت النوع الأول يبدأ من فروض يسلم بها بغير حاجة إلى برهان. ونحن نراه في هذا القسم من «تجديد الفكر العربي» يمد فكرة «الفروض»، التي يبدأ منها الفكر الرياضي، ليجعل من «المبادئ» فروضا أيضا. وإذا كان قد ضرب المثل بالفكر الديني، أو علوم الدين، الذي يبدأ من كتابه المقدس، ويجعله أمرا مسلما به لا يقام عليه برهان؛ فهو أيضا يجعل «المبادئ، أيا كان نوعها، فروضا، ويقول إن الديانات المختلفة تبنى على «مبادئ» كل منها يضع كتابه أمامه «مبدأ» يسير منه، ويستنبط، وأن تكون الأحكام الفقهية في كل دين صوابا بالنسبة إلى نص كتابها.
44
ولكن الفكر التجريبي لا يبنى على مثل هذه «المبادئ»: فاللغة لا تسيغ للعالم أن يقول إن «مبدئي» هو أن سرعة الضوء هي كذا؛ فتلك حقيقة من حقائق الطبيعة، وليست مبدأ مفترضا.
45
ثم نراه في هذا القسم يمد الفروض الرياضية إلى مجال آخر هو «الفكر السياسي»، فها هنا كذلك تبدأ النظرية السياسية من مبدأ معين يقيم عليه بناءها كله، كما هي الحال في الفلسفة السياسية عند كل من «توماس هوبز» 1586-1679م، وجون لوك 1632-1704م، الأول يجعل أساس بناءه السياسي «حق الحكم للأقوى»، في حين أن الثاني يقيم نظريته السياسية على أساس أن حق الحكم لمن يختاره الشعب.
46
ثم يوسع الفكرة نفسها لتشمل المذاهب الفلسفية: «فلكل فيلسوف شيء يسميه في فلسفته «بالمبدأ الأول»، قاصدا بذلك الفكرة الأم في نسقه الذي يبنيه، وهي الفكرة التي يعتصر منها كل أجزاء بنائه الفلسفي، فيها يقيم البرهان على كل ما يزعمه بعدها، وأما هي فلا برهان عليها؛ إذ لو كان عليها برهان لكانت فكرة البرهان هي الأسبق في أولويات العقل، ولم يعد «المبدأ الأول» لا «مبدأ» ولا «أول» ...»
47
وينتهي من ذلك إلى أن المبادئ في شتى البناءات الفكرية، ليست «حقائق» تفرض نفسها على الإنسان، بل هي بحكم طبيعتها «فروض يفرضها الإنسان لنفسه حرا مختارا لتخدم غرضه، فإن أفلحت في خدمة تلك الأغراض، كان بها، وإلا فهو يبدلها بسواها حتى يقع على أنفع المبادئ لحيادته العملية.
48
غير أنه لا يعرض لهذه الأفكار بالشرح والتحليل، ويقف عند هذا الحد، وإما «يوطنها» في خدمة مشروعه الثقافي في تجديد الفكر العربي، وفي خدمة منظوره الذي ينظر منه إلى التراث العربي: «فقد كانت لأسلافنا مبادئ معينة فيما يعد شعرا، وما لا يعد شعرا، وفيما يكون أدبا من النثر وما لا يكون أدبا، وقياسا على هذه المبادئ يعمل النقاد.»
49
ومثل آخر، لعله أفدح خطرا، فقد كان المبدأ في نظام المجتمع أن يكون الحاكم هو صاحب السلطان، وهو في الوقت نفسه صاحب الرأي، ولم يكن ثمة من غضاضة على النفوس أن يملي عليها ولي الأمر في حكومة الناس ما يتفق ومذهبه هو، ليكون هو المذهب الذي لا مذهب سواه عند المحكومين.
50
والأمثلة كثيرة على مدى استفادته من «منهج» الوضعية المنطقية في المرحلة الثالثة، التي حاول فيها إقامة مشروع فكري لتجديد الفكر العربي، وذلك يعني، من ناحية أخرى، أنه لم ينسف جسوره تماما مع المرحلة الثانية، بل كان مشروعه الفكري مركبا من المرحلتين السابقتين: التدين الخالص الذي توارى إلى حين، والعقل الخالص الذي ظهر واضحا في المرحلة الثانية: «فهو بناء فكري جاء ليكمل، لا لينقض، ما أنجزه خلال الخمسينيات من تجديد لمنهج التفكير العلمي ...»
51
الفصل الثالث
المرحلة الثالثة: التدين المستنير بنور العقل
إننا نريد لأمتنا أن تسير مع العلم بقوة الإيمان ...
زكي نجيب محمود، «رؤية إسلامية» (1) الشرق الفنان
لم يكن «الشرق الفنان» الذي صدر عام 1960م، بحثا علميا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وإنما هو رسالة صغيرة أراد بها صاحبها أن يسمر مع القارئ، غير أن هذه الرسالة الصغيرة تتضمن الإرهاصات الأولى لمشروعه الفكري القادم، ففيها يطرح فكرة مفادها أن في العالم نظرتين إلى الوجود: نظرة الشرق الأقصى: الهند، والصين، واليابان ... إلخ التي تنظر إلى الوجود الخارجي ببصيرة تنفذ إلى الجوهر الباطن، وهذه نظرة الفنان الخالص، بالمعنى الواسع لكلمة «فن» بحيث تشمل المتصوف والمتدين، وهي نظرة يدرك بها صاحبها الوجود الكوني بروحه لا بعقله. ثم هناك، من ناحية أخرى، نظرة الغرب التي تنظر إلى العالم الخارجي بعقل المنطقي التحليلي الذي يقارن ويستدل، وهذه نظرة العالم الخالص، وبين الطرفين وسط يجمع بين الطابعين، ويتمثل في ثقافة الشرق الأوسط التي تجمع بين إيمان البصيرة ومشاهدة البصر، بين خفقة القلب، وتحليل العقل، بين الدين والعلم، بين الفن والعمل.
1
على أن ذلك لا ينفي، بالطبع، أن يكون في الشرق علماء، ولا أن يكون في الغرب رجال فن ودين، لكن مفكرنا يبرز الخصائص العامة التي تطبع بطابعها ثقافة العالمين، فضلا عن ثقافتنا نحن. وربما كان يستهدف تفسير الأقوال التي شاعت أحيانا عن «روحانية الشرق»، «ومادية الغرب »، ثم أراد أن يمزج الطرفين القصيين في بوتقة الشرق الأوسط.
على أن ما يهمنا الآن، على الأقل، أن نبرز أهمية الكتاب في تطوره الروحي؛ فهو نفسه يصفه بأنه «جاء بمثابة حجر الزاوية في بناء فكري جديد، ظهرت معالمه الكبرى خلال السبعينيات في سلسلة كتب كان أهمها «تجديد الفكر العربي»، و«المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، و«ثقافتنا في مواجهة العصر».
2
وهي المؤلفات التي بلورت مشروعه الثقافي الذي نضج في الكويت كما يقول.
3
ويكشف لنا ذلك عن خطأ بعض التفسيرات التي حاولت أن تبحث عن مبررات «لتحول» زكي نجيب محمود في المرحلة الثالثة؛ فالدكتور فؤاد زكريا يرد هذا التحول إلى الأزمة التي استشعرها العقل العربي بعد هزيمة 1967م، فراح يبحث عن طريق يسلكه بين تراث الأجداد العريق وحضارة الغرب الفتية، فقد انكب مفكرنا على الفكر الغربي حتى ظن ألا فكر سواه. وظل على هذه الحال طوال الجزء الأكبر من حياته، إلى أن أتيح له آخر الأمر من الفراغ النسبي، ومن الإمكانات، أثناء علمه في جامعة الكويت، ما حفزه إلى أن يكرس من حياته خمسة أعوام عكف فيها على هذا التراث الذي ظل مجهولا لديه. واستطاع من خلال دراساته وقراءاته أن يخرج برأي أعلنه علينا في كتابه «تجديد الفكر العربي».
4
وذلك يعني أن الأزمة التي كانت تعاني منها الأمة العربية، بعد الهزيمة، كانت عاملا أساسيا من عوامل تلك الوقفة، التي وضع فيها مفكرنا تراثنا العربي في موضع الاختبار «ولو أمعنا الفكر قليلا لما وجدنا أدنى تعارض بين الوجه الشخصي والوجه العام لتلك الأزمة، التي تشغل عقل كل مثقف عربي واع في هذه الأيام ...»
5
وقل مثل ذلك في التفسيرات التي يقدمها الدكتور حسن حنفي، الذي يقول إن هناك ثلاثة افتراضات تفسر هذا التحول في أوائل السبعينيات:
الأول:
الانتقال من جامعة القاهرة إلى جامعة الكويت في سبتمبر 1968م، وبعده عن مكتبته العلمية الخاصة، ووجود مكتبة جامعة الكويت التي تزخر بعيون التراث؛ مما جعله يعيش وسط تراث جديد بالنسبة له، لم يتعود التعامل معه من قبل فقرأه بشغف.
الثاني:
أن هذا الانتقال إلى المرحلة الثالثة قد حدث، مثلما حدث لكثير من المفكرين بعد هزيمة يونيو 1967م.
الثالث:
هو أن زكي نجيب محمود بعد أن تشبع بالفكر الغربي عامة، والفكر العلمي خاصة، شعر وكأنه معلق في الهواء، معزول عن الثقافة الشعبية والتراث الوطني، خاصة وأنه لم يكن مطلعا عليه.
6
والواقع أن هذه التفسيرات تسقط تماما تطوره الروحي من حسابها، ويدل على ذلك تسميتها المرحلة الثالثة باسم «التحول في فكر زكي نجيب»، بدلا من أن يكون نموا لبذور ظلت تعمل سنوات طويلة ببطء شديد، فلم تكن هزيمة 1967م هي العالم الحاسم.
7
بدليل أنه في «الشرق الفنان» عام 1960م؛ أي قبل النكسة بسبع سنوات، يعرض لفكرة التقاء الشرق والغرب، القلب والعقل، وهي الفكرة التي اعتبرها «حجر الزاوية في بنائه الفكري الجديد» ... ولم تكن المسألة بعده عن مكتبته العلمية، وعثوره على مكتبة عامرة في الكويت، فليس كل من وصل الكويت، وعثر على مكتبة زاخرة بعيون التراث، أقام بناء فكريا كالذي أقامه زكي نجيب محمود، لكن الصحيح أن فترة الكويت ساعدت على نضج الأفكار التي كان يحملها في رأسه، وتلح عليه في وطأة ضاغطة. أما القول بأنه تشبع «بالفكر الغربي»؛ فهو يسقط المرحلة الأولى «مرحلة التدين الخالص» من ناحية، ثم هو يفترض أنه تخلى عن هذا الفكر الغربي في المرحلة الثالثة، وهو أمر لم يحدث قط! فلا شك أنه كان على علم بالتراث العربي والغربي معا، وهو يقول عن نفسه في هذه الفترة: تستطيع أن تقول إنني كنت إلى ذلك الحين (أواخر الستينيات) قد خزنت لنفسي أكداسا من الحقائق عن الثقافة العربية إبان تلك القرون الخمسة التي أردت دراستها. لكن تلك الحقائق كانت عندي بغير «تاريخ» يربطها في سيرة متصلة المراحل لتصبح «حياة» لها دوافعها وأهدافها، فاستبدت بي الرغبة في أن أنصرف بمعظم جهدي، بضع سنوات، نحو الدراسة المنشودة ...»
8
فالفكرة الرئيسية التي سيعرضها فيما بعد فكرة الجمع بين العقل والقلب، بين التدين والعلم ... إلخ، كانت تعتمل في نفسه قبل سفره إلى الكويت، لكنها كانت معروضة بطريقة مختلفة، ففي «الشرق الفنان» كانت مدينة الإسكندرية، في قرونها الأولى، هي المدينة التي اتخذها مفكرنا نموذجا لثقافة الشرق، التي تجمع بين الطرفين القصيين «خفقة القلب، وتحليل العقل»؛ فهي بعد أن توارت أثينا أصبحت الإسكندرية عاصمة الثقافة في العالم القديم، ولم تكن النقلة تغييرا في المكان وكفى، بل كانت تغييرا في منهج التفكير كذلك، ففيها بدأ اللاهوت المسيحي، لأول مرة، ينسق بين العقيدة من جهة والعقل الفلسفي من جهة أخرى؛ مما رسم الطريق أمام أوروبا المسيحية طوال العصور الوسطى، ذلك دليل على اجتماع أمرين لأهل هذه البلاد: القلب والعقل معا، الإيمان والعلم، اللمسة المباشرة ومعها عملية التحليل العقلي، وهو يسوق من أوريجين
Origen (185-254) اللاهوتي السكندري الشهير، قوله: «إن الفلسفة اليونانية القائمة على العقل المنطقي الصرف، والأناجيل القائمة على الإلهام، والوحي الصرف، إنما يتطابقان ولا يتعارضان ...»
9
كانت الفكرة البسيطة التي عرضها في «الشرق الفنان» تمثل البذور الأولى لمشروعه الفكري الذي كان يتحين الفرصة للظهور، وشيئا فشيئا مع مر الأيام انتقلت هذه الازدواجية المتآلفة إلى الثقافة العربية التي كانت تبدو أمام عيني، وكأنها قابلية فريدة، وسمة بارزة، يمكن أن تكون أساسا متينا لإقامة ثقافة عربية جديدة، صون أصالتها وتساير عصرها في آن واحد.»
10
وقد واتته هذه الفرصة خلال السنوات الخمس التي قضاها في جامعة الكويت، فكانت سنوات خصبة ومباركة. أما أنها خصبة فهذا ما تكشف عنه ثلاثيته الشهيرة «تجديد الفكر العربي»، و«المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، و«ثقافتنا في مواجهة العصر ...»
11
أما أنها مباركة فهذا ما عبر عنه مفكرنا بقوله «عندما تلاقت رأس السنة الهجرية مع رأس السنة الميلادية في يوم واحد، كان اجتماعهما مصدر نشوة متفائلة عند صاحبنا دون أن يقع على سبب واحد يبرر نشوته وتفاؤله ...»
12
لكنه مع ذلك «استبشر خيرا، وإذا بذلك اليوم نفسه يحمل إليه برقية من جامعة الكويت تطلب استعارته لفترة ... وهداه الله سبحانه إلى المسارعة بالقبول، وهناك في جامعة الكويت وجد الفرصة سانحة لأداء ما كان شديد الرغبة في أدائه؛ وهو أن يتعقب طريق «العقل» في تراث العرب الأوائل؛ وذلك لأنه كان على يقين من رجحان العقل في كثير جدا مما يشغل به السلف من مشكلات تتصل بالحياة الثقافية. وإذا كان كذلك، فلا ينبغي علينا إلا أن ندعو المعاصرين من أبناء الأمة العربية إلى مواصلة السير في طريق الآباء ...»
13 (2) زكي نجيب محمود في الكويت
14
وصل مفكرنا إلى الكويت في سبتمبر 1968م، ولم ينفك منذ اللحظة التي هبط فيها أرض الكويت، ليعمل أستاذا بكلية الآداب، عن العمل الدائب، والنشاط المتصل، فقد كان شعلة متوقدة، رغم أنه تجاوز الستين من عمره، قراءة وكتابة، فقد راح يلتهم تراث آبائه ويعب صحائفه عبا سريعا: «والسؤال ملء سمعه وبصره: كيف السبيل إلى ثقافة موحدة متسقة يعيشها مثقف عربي يحيا في عصرنا هذا، بحيث يندمج فيه المنقول والأصيل في نظرة واحدة؟
15
فقد وجد آخر الأمر، في جامعة الكويت من الفراغ والإمكانات، ما جعله يكرس حياته خمسة أعوام، يعكف فيها على هذا التراث ليخرج بمشروعه الثقافي، الذي عرضه في الثلاثية، فماذا كانت الإمكانات، المتاحة إلى جانب الفراغ النسبي؟ مكتبة كلية الآداب عامرة بكتب التراث بكل فروعه يعب منها كما يشاء، فإذا فرغ اصطحب زوجته إلى «كيفان» لإلقاء محاضراتها هناك.
16
وينتظرها في مكتبة زاخرة هي الأخرى بعيون التراث، وهو يصف هاتين المكتبتين بقوله:
17 «وجدت حولي مكتبة جامعية على درجة كبيرة من الغنى، بما احتوت عليه من أصول ومراجع، حتى رأيتني كمن وقف على شاطئ محيط متسع الآفاق عميق الأغوار، قائلا لنفسي دونك المحيط فاسبح إلى حيث شئت من شطآنه النائية!» ...
18
ومن هنا كانت المشكلة التي وقف أمامها متحيرا بين أرفف هاتين المكتبتين العامرتين بعيون التراث هي: «ماذا أختار من هذه المراجع التي تعد بالآلاف، وماذا أدع مطمئنا لما اخترت وما تركت؟»
19
كانت خطته أن يستغل الفراغ النسبي الذي أتاحته له جامعة الكويت، في مراجعة متأنية لعيون التراث العربي، لما يمكن أن يندرج تحت عنوان «الثقافة»، وهناك أخذ يجمع النصوص التي يراها دالة على روح الثقافة العربية إبان ازدهار العقل العربي، وأصالة مبدعاته بعد نزول الإسلام، وبهذا النشاط الذي لم يفتر حقق مفكرنا ما أراد أن يحققه لنفسه؛ وهو أن ترتسم له لوحة متماسكة لمسيرة الثقافة العربية.
20
وكان في الطبيعي أن يكون نشاطه في الكتابة موازيا لهذه القراءة النهمة لعيون التراث، فألقى عدة محاضرات في المواسم الثقافية لجامعة الكويت، كما شارك في المواسم الثقافية لرابطة الاجتماعيين، وغيرها من الروابط والمؤسسات الاجتماعية.
كذلك كانت إسهاماته بارزة على صعيد الإعلام سواء في ميدان الصحافة أو الإذاعة أو ندوات التليفزيون في بداية السبعينيات، أما برنامج الإذاعة الكويتية الذي كانت تقدمه تحت عنوان «حول الفكر العربي المعاصر» فقد شهد لقاءات فكرية كثيرة مع مفكرنا، لا سيما عام 1973م على وجه التحديد.
21
ويمكن أن نسوق فيما يلي بعض النماذج من هذا النشاط:
22 (1)
محاضرة بعنوان: «طريقنا إلى فلسفة عربية» ألقاها في الموسم الثقافي لجامعة الكويت في العام الجامعي 68 / 1969م. (2)
محاضرة بعنوان: «التحول العلمي وأثره في حركات الشباب وحياة القلق»، ألقاها في رابطة الاجتماعيين عام 1969م. (3)
محاضرة بعنوان: «التكنولوجيا والحريات الأساسية»، ألقاها في الموسم الثقافي لرابطة الاجتماعيين عام 1970م. (4) «التكنولوجيا كإحدى تحديات العصر»، محاضرة ألقاها في الموسم الثقافي الثالث لرابطة الاجتماعيين عام 1970م. (5) «دور بعض الشخصيات العربية في زيادة الفكر الإسلامي»، ألقاها في الموسم الثقافي لعام 1971م. (6) «الخصائص الحضارية للمجتمع المصري»، ألقاها في الموسم الثقافي الخامس لعام 1972م. (7) «دور المفكر المعاصر في التنمية والتطور الحضاري»، ألقاها في الموسم الثقافي لعام 1973م. (8)
مجموعة لقاءات فكرية مع الأستاذ «رمضان لاوند» في برنامجه الإذاعي «حول الفكر العربي المعاصر» عام 1973م.
23
وإذا نظرنا نظرة فاحصة إلى هذه المحاضرات لوجدنا أنها عرضت الكثير من أفكاره، التي ظهرت بعد ذلك في مشروعه الثقافي الذي عرضه في الثلاثية؛ فالمحاضرة الأولى «طريقنا إلى فلسفة عربية» موجودة بنصها في ثلاثين صفحة (257-287)، في كتابه «تجديد الفكر العربي» تحت عنوان «ثنائية الأرض والسماء».
وقد بدأ في هذه المحاضرات بالحديث عن شيوع كلمة «الفلسفة» على ألسنة المثقفين، وطالب بتحديدها لكي نفهم بوضوح ما الذي نعنيه بقولنا «فلسفة عربية»، وأوضح وسيلة، في رأيه، لتحديد معنى الفلسفة أن نفرق بين مستويات ثلاثة للإدراك؛ ففي المستوى الأول نعيش مع الأشياء من حولنا على نحو مباشر، بحيث ندركها بحواسنا: نراها ونلمسها ... إلخ، أما في المستوى الثاني فنحن نحاول الوصول إلى قوانين عامة، تضبط تلك الجزئيات التي خبرناها خبرة مباشرة في المستوى الأول، وتلك مرحلة العلوم المختلفة، أما في المستوى الثالث فنحن نبحث عن مبادئ مشتركة بين هذه القوانين، وربما وجدنا أنها ترتد كلها في آخر الأمر إلى مبدأ واحد عام وشامل، وهذه العملية الفكرية هي «الفلسفة»، لكن الفلسفة لا تقتصر في عملها على استخلاص المبادئ المتضمنة في الفكر العلمي، بل يمتد هذا النشاط إلى الثقافة السائدة، فتكون مهمة الفلسفة في هذه الحالة «استخراج ما هو مضمر في أحكامنا وأفكارنا واعتقاداتنا، لتنقلها من حالة الكمون إلى حالة الإيضاح والإفصاح والعلانية، لتسهل رؤيتها ومناقشتها»، ثم راح مفكرنا يضرب بأدواته التحليلية في ثقافتنا؛ ليستخرج لنا الأسس الكامنة في أفكارنا وسلوكنا، ثم صاغ هذه الأسس في «فلسفة عربية مقترحة» سوف نعرض لها بعد قليل.
وفي المحاضرة الثانية عن «التحول العلمي وأثره في حركات الشباب»، يبدأ كعادته، بتحليل مصطلح «الشباب»، فيعرفه بأنه يعني «الجماعة الذين بلغوا وعيهم في الخمسينيات والستينيات، وهؤلاء هم الذين نتحدث عنهم».
24
لكنه يعود فيطرح مشكلة جديدة وهي أن الذين نشئوا في هذه الفترة فئات كثيرة جدا، منهم العمال، ومنهم الموظفون، ومنهم الطلاب ... إلخ؛ ومن ثم فلا بد من تحديد أكثر لهذا المصطلح، وفي النهاية يختار فئة واحدة هم الطلبة. أما الحكمة في هذا الاختيار؛ فهي أن الطلبة يمثلون نقطة تقاطع لجميع فئات المجتمع: فهناك الطالب ابن العامل، وهناك الطالب ابن الوزير، وهناك الطالب ابن التاجر، وابن الطبيب ... إلخ، وهم يجلسون جميعا جنبا إلى جنب، يجمع بينهم عنصر مشترك هو أنهم «طلبة»، وفضلا عن ذلك فالطلبة فئة تستهلك ولا تنتج، وهي تقريبا، الفئة الوحيدة في المجتمع التي تستهلك فقط، ومن ثم فالطالب يعيش حياته بغير مشكلات، كما يتعرض له رجل العمل من ضغوط؛ ولهذا فهو يستطيع أن يعطيك الفكرة الواضحة.
25
ثم يقوم بعد ذلك بتحليل مصطلح «التحول العلمي»، ويرى أن حياة الإنسان تحولت في خمسين عاما بالعلم، بما لم تتحوله منذ إنشاء الهرم الأكبر منذ ستة آلاف سنة، فأثار هذا التحول السريع قلق الشباب في العالم كله، فظهرت: «حركات الشباب» المتمردة في العالم، كما ظهر ما يسمى «بالشباب الغاضب» في بريطانيا، وفرنسا، وأمريكا ... إلخ، وكان سبب ثورتهم أن تقدم الأجهزة والأدوات وتزايدها أدى إلى ازدياد التشابه بين الناس، وجعل التمايز بينهم يضيق لدرجة أنه كاد ينعدم: «وهذا هو لب ثورة الشباب الآن لا يريد أن يتجانس كل المجانسة، يريد أن ينتشل ذاته بمفرده من هذا التجانس، وهذه هي الدعوة في صميمها ...»
26
أما شبابنا نحن فالأمل ألا يقع في كثير مما وقع فيه الشباب الغربي؛ لأننا من حسن الحظ متحررون حديثا، ونأمل في المستقبل، هم في السفح المنحدر ونحن ربما يريد لنا الله أن نكون في السفح الصاعد، لأجل ذلك نحن عندنا حياة تشجعنا على أن نتفاءل أكثر مما نتشاءم، لكن ينبغي ألا ننسى أن واجب شبابنا وواجبنا جميعا هو أن ندخل في حياة العصر، لا أن نكتب عنه في الصحف، ونتكلم عنه في الندوات فحسب، يجب أن نعيش هذا العصر: نعيشه بالعلم لا بالكلام؛ أعني أن نتخلص من ثقافة اللفظ لننتقل إلى ثقافة الأداء.
27
وهو موضوع سوف يقف عنده في كتابه تجديد الفكر العربي، لا سيما في القسم الذي جعل عنوانه «من حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء» (ص224-242).
وفي محاضرته عن «التكنولوجيا والحريات الأساسية» نراه يبدأ كعادته، بتعريف هذين المصطلحين، وهو يعرف التكنولوجيا بأنها امتداد للجسم البشري وما فيه من أجهزة: فيه بصر، لكن البصر الإنساني محدود، فأمده بأي أداة أستطيع أن أصل إليها بالعلم من ميكروسكوب إلى تلسكوب ... إلخ، فيه سمع، لكن السمع محدود، فأمط هذا الجانب من جسم الإنسان بحيث أستطيع أن أسمع من بعد آلاف الكيلومترات عن طريق الراديو، والتليفون، والتليفزيون ... إلخ، وهي كلها ضروب من التطبيقات الفنية للعلم، وهي تطبيقات لم تبدأ بشكل موسع، تقريبا، إلا بعد الثورة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر، ومن ذلك الوقت أخذت صورة العلم تتغير من حيث أنه لم يعد علما نظريا، وإنما أصبح العلم تطبيقا.
أما الحريات الأساسية فإنه يقول لنا أن تصبح الحرية أساسية عندما تتصل بطبيعة الإنسان اتصالا مباشرا. وطبيعة الإنسان في التراث الغربي منذ اليونان هي «العقل» أو «الفكر النظري» أي الفكر التأملي، ولو صح ذلك لكانت الحرية الأساسية هي حرية التفكير ثم يتفرع عنها بقية الحريات. لكن مفكرنا يرفض أن تقتصر طبيعة الإنسان على «العقل» وحده: بل مدها لتشمل «العقل، والوجدان، والإرادة»، وبذلك تكون الحريات الأساسية هي حرية التفكير، وحرية التعبير، وحرية الفعل، ثم يضيف إليها حرية العقيدة لتصبح هناك أربع حريات أساسية. أما تأثير التكنولوجيا تقوي القوي وتضعف الضعيف؛ فالإذاعة والتليفزيون ... إلخ ليست دائما حدا من الحريات، وإنما هي تزيد من حرية من يمتلكها، ومن يملك التصرف فيها، وتحد من حرية من يتقبل تأثيرها، وقل مثل ذلك في أدوات الحرب، وأدوات الصناعة، وأدوات السفر، وأدوات السرعة وفي أي أداة تكنولوجية أخرى.
وفي محاضرته عن «الخصائص الحضارية للمجتمع العصري» يبدأ بتحديد معنى «المجتمع العصري»، ويرى أن الأساس الأول المشترك في المجتمع العصري هو الحياة العلمية التكنولوجية؛ فالحياة العلمية بهذا المعنى الجديد لا فرق بين بلاد اشتراكية، وبلاد رأسمالية أو كائنة ما كانت، ولا بد لنا أن نكون نحن أبناء الأمة العربية على وعي بأنفسنا، وأين نحن من عصرنا، فالعلم أصبح لغته هي الأجهزة لا الكلمات والألفاظ، وهذا يعني أن علينا أن ننتقل من حضارة اللفظ إلى حضارة الأجهزة (وهي فكرة يؤكدها مرارا كما سبق أن رأينا، وسوف يعرض لها في «تجديد الفكر الروحي»، ص224 وما بعدها). وينبغي علينا ألا نظن أننا دخلنا عصرنا مهما وضعنا في منازلنا أو معاملنا من أجهزة؛ لأن الأجهزة ليست أجهزتنا، كل ما في الأمر أننا دفعنا فاتورة الحساب عندما اشتريناها، وهذه الفكرة ينبغي ألا تزول من أذهاننا حتى لا ننخدع في أنفسنا، فلكي نعيش الحياة المصرية لا بد أن نشارك في صنع العلم، وأن نشارك في صنع الأجهزة التي تعمل على تقدم العلم، ولكن لا تعب ولا عناء في أن نذهب إلى مصانع أوروبا وأمريكا ونشتري، في جيوبنا المال وعندهم الأجهزة فنشتري. ومن سمات المجتمع العصري أيضا أن تسير أموره على التخطيط المبني على العلم، ومن سماته أيضا الحرية الإيجابية القادرة على الخلق والإبداع.
لا نريد أن نتتبع بالتحليل جميع محاضراته وندواته وأنشطته الثقافية في الكويت، بل يكفي أن نقدم النماذج التي أسلفناها، وإن كنا نريد أن نختتم هذا القسم بتلخيص الأفكار الأساسية في أحاديثه في إذاعة الكويت، لا سيما في برنامج «مع الفكر العربي المعاصر»، الذي شارك مفكرنا في حلقات عديدة منه، حتى أطلق عليه المذيع لقب «الضيف الدائم للبرنامج»، ويكفي أن نعرض لمجموعة من الأفكار الهامة على النحو التالي:
أولا:
راح مفكرنا في هذه الحلقات يشدد على تخلف المجتمع العربي، وربما كان حديثه قاسيا بعض الشيء، لكنها «قسوة المواطن بحب وطنه، ويثيره أن يراه قد تنكب عن جادة الطريق»، كما سبق أن رأينا،
28
فهو في هذه الأحاديث يذهب إلى أننا نفاخر، كذبا، بأننا في الطليعة؛ مع أننا ينبغي ألا تخدعنا المظاهر، فلو أنني رأيت «دون كشوت» يلبس الدروع لا أقول عنه أنه شجاع لمجرد أنه قد كسا جلده بهذه الدروع، أو أمسك بالسيف في يده، لأنني أعلم أن وراء هذه الدروع شخصا هزيلا جبانا مترددا، ينبغي علي أن أحكم بما هو داخل هذه الدروع، ولا أنخدع بالمظاهر.
نحن متخلفون ويكفيك أن تنبش أي ظاهر في أي قطاع من قطاعات الحياة عندنا لترى ما وراءه من تخلف، خذ مثلا الجامعات العربية من أولها إلى آخرها تجد أنه لا شيء ينقصها من الظاهر؛ فهناك الطلاب، وقاعات الدرس، ومكتبا وأساتذة ... هناك ما تريد العين أن تراه، ومع ذلك انظر إلى الطالب بعد تخريجه، وقبل تخريجه، تجده يختلف عن الطالب في أوروبا وأمريكا؛ لأن المادة العلمية عندنا «تحفظ» فقط، حتى ولو كانت من الفزياء أو الكيمياء ... إلخ ، فأنا أكسو الظاهر بلغو كيميائي، وأظن أنني أصبحت من الكيميائيين، على حين أنني من الداخل لا أستطيع أن أحرك ساكنا بكل الكيمياء التي أعرفها، وعندما يجد الجد نستحضر الخبراء من الخارج لوضع المشروعات الكبرى، أو للتخطيط العلمي وما إلى ذلك، ومعنى ذلك أنني تعلمت في الظاهر ولم أتعلم في الباطن.
ثانيا:
لكل عصر مشكلاته التي تختلف قليلا أو كثيرا عن العصور الأخرى، وبهذا المنظور أستطيع أن أقول إن مشكلاتنا اليوم تختلف عن مشكلات السلف. قد يكون هناك خيوط مشتركة بيننا وبينهم، لا سيما فيما يتعلق بموضوعات التعقيد، لكن المشكلات الثقافية التي شغلتهم ليست هي نفسها مشكلاتنا الآن، خذ مثلا مشكلة «خلق القرآن» التي أتى بها علماء الكلام في القرن الثاني أو الثالث، نجد أنها نشأت لظروف سياسية أو اجتماعية لا علاقة لنا بها الآن؛ ومن ثم فليس للمسلم الآن أن يفكر في هذا الموضوع، وإنما عليه أن يسقطه من حسابه، أضف أن هناك مشكلات كثيرة جدت في ميدان الاقتصاد، وفي ميدان العلم الطبيعي وغير الطبيعي، وفي ميدان السياسة وفي ميدان الحروب ... إلخ، بل حتى في ميدان الأدب نفسه، هناك أسئلة جديدة مطروحة، فليس في استطاعتك أن تسأل المتنبي، مثلا، كيف تكون المسرحة؛ أتكون تصويرا للواقع، أو من أدب اللامعقول؟ وهل تكون المسرحية رمزية أم تكون واقعية؟! هل تكون المسرحية شعرا أم نثرا؟ ... إلخ.
ثالثا:
في حلقة أذيعت يوم الاثنين 5 / 3 / 1973 دار الحوار حول «مشكلة الحرية»، وذهب مفكرنا إلى أن فكرة الحرية في العالم العربي، لا سيما الحرية الاجتماعية، هي فكرة حديثة، ظهرت وتبلورت من خلال اتصال العالم العربي بالثقافات الغربية، ثم جاء المستعمر فتحولت فكرة الحرية إلى التحرر من الاستعمار؛ إذ كان من الطبيعي أن توجه طاقتنا أولا نحو هؤلاء المستعمرين لنتخلص من قيودهم، ثم ننصرف بعد ذلك إلى تنظيم مجتمعنا؛ ولهذا كانت المشكلة الرئيسية بعد ذلك هي مشكلة الحرية السياسية. ولن أجد في تراث الآباء والأجداد حلولا لها؛ لأن فكرة «الحرية» عندهم كانت مختلفة تماما، إذ كانت تقال في مقابل «الرق»؛ فالفرد من الناس إما أن يكون «حرا» أو عبدا مملوكا لغيره، وقد تنصب على حرية الإرادة أو العلاقة بين الفعل الإلهي والفعل البشري. أما في ثقافتنا الآن فقد اكتسبت الحرية أبعادا جديدة لم تكن لها من قبل.
رابعا:
ويتفرع عن مشكلة الحرية الاجتماعية مشكلة أخرى مدنية هي «حرية المرأة»، فحرية المرأة في المفهوم الحديث تختلف عن مفهوم حرية المرأة في القديم الذي كان يضعها وضعا لم يعد يصلح لها، فالمرأة العربية الجديدة إنسانة أخرى غير امرأة الأمس؛ فهي اليوم طبيبة ومهندسة، ومدرسة، ومحاسبة ... إلخ.
وهذه الأفكار التي نثرها مفكرنا في محاضراته وندواته وأحاديثه الإذاعية، تمثل خيوطا سوف تتجمع؛ لتنسج لنا مشروعه الثقافي في «تجديد الفكر العربي». (3) البحث عن صيغة جديدة
بدأت البذور التي تضمنتها المرحلة الأولى، وكانت في حالة كمون في المرحلة الثانية، تظهر، وتنمو، وتنضج عندما وجدت التربة الصالحة، والمناخ المناسب خلال السنوات الخمس التي قضاها في جامعة الكويت، فراح مفكرنا يبحث عن صيغة جديدة تجمع «التدين الخالص» مع «العقل الخالص»، في إطار مشروع ثقافي يستهدف «تجديد الفكر العربي».
على أننا ينبغي أن نحذر المبالغات التي يقع فيها بعض الباحثين وهم يبحثون عن تفسير، يبرزون به اتجاه مفكرنا إلى هذه الصيغة الجديدة في المرحلة الثالثة من تطوره الروحي، فعلى سبيل المثال لم يحدث قط أن «تحول» زكي نجيب محمود: من العقل إلى الإيمان، ومن العلم إلى الدين، ومن الغرب إلى الإسلام، ومن الآخر إلى الأنا ...»
29
وإنما كان بحثه عن هذه الصيغة الجديدة محاولة للجمع بين أفكار المرحلتين السابقتين، اللتين تمثل فيهما «التدين الخالص» الذي مال به نحو التصوف من ناحية، و«العقل الخالص» الذي سيطر على ذهنه في المرحلة الثانية. وهي محاولة ظهرت من قبل، على استحياء، في كتابه «الشرق الفنان»، الذي ظهر عام 1960م، قبل النكسة بسبعة أعوام، عندما جمع بين طرفين قصيين «خفقة القلب» و«تحليل العقل». وعلينا أن نتذكر دائما، أن بذور هذه المرحلة كانت موجودة في بداية تطوره الروحي، حيث يقول عن نفسه أنه كان «عقلا» يبحث لنفسه عن طريق، ويلح في صدره سؤال هو: هل من سبيل يجمع عدة أطراف في رقعة واحدة: يجمع العلم والدين، والتصوف والحرية؟ أليس من سبيل يجمع مادة روحية ويجمع عقلا إلى غريزة؟!»
30
ولم تكن تلك أسئلة عابرة خطرت له في مرحلة الشباب ثم اختفت، وإنما هي تعبر عن مشكلات حادة ظلت تلح عليه في وطأة ضاغطة وانثيال متدارك عنيد؛ فهو يروي عن نفسه في بداية تجديد «الفكر العربي» نفس المشكلة التي أحسها بإلحاح: السؤال الذي أحسست بضغطه وإصراره خلال أعوامي الخمسة الأخيرة، فهو الذي يسأل عن طريق للفكر العربي المعاصر يضمن له أن يكون عربيا حقا ومعاصرا حقا ... فقد يبدو للوهلة الأولى أن بين العربية والمعاصرة تناقضا أو ما يشبه التناقض؛ ولذلك يجيء السؤال الذي يلتمس طريقا يجمع الطرفين في مركب واحد ...»
31
إذ المسافة الزمنية بين السؤالين تكاد تقترب من نصف قرن، جاز لنا أن نقول، في اطمئنان، إن هذه الأسئلة تضرب بجذور عميقة في شخصية زكي نجيب محمود نفسها، التي تجمع في آن واحد بين «العقل والوجدان» بين «عالم المنطق والأديب» بين «جفاف التحليل العقلي وشفافية الفنان»، وهي شخصية تتضح معالمها في كل ما كتب، ابتداء من المقالات الدينية المبكرة، مرورا «بالمنطق الوضعي» و«خرافة الميتافيزيقا»، حتى ثلاثيته الشهيرة التي تشكلت فيها الصيغة الجديدة التي كان يبحث عنها، وإني لأزعم أنه استشعر المشكلة في أعماقه قبل أن يدركها في مجتمعه، ولعل ما كان يحيره ويقلقه هو كيف استطاع أن يجمع بين هذين الطرفين القصيين في شخص واحد بغير تناقض؟!
ومن المبالغات التي ينبغي علينا أن نحذرها أيضا، وهو يسعى سعيه الدءوب بحثا عن صيغة جديدة؛ التأويل المسرف للعبارات التي يقولها أحيانا عن نفسه من أنه كان يجهل التراث العربي، فنقول مثلا: «إنه اتجه، في المرحلة الثانية من حياته الفكرية إلى الغرب، جهلا منه بالتراث، والناس أعداء ما جهلوا، ثم اكتشف الثقافة العربية مع تطور الحركة القومية، فوجد أن العدو هو نفسه، صاحب الحضارة، وتعاطف مع أنصار هذه الثقافة العربية التي لم يعرفها إلا لماما، ثم جاءت مرحلة الكويت للاطلاع على المكتبة العربية».
32
فأمثال هذه العبارات تبالغ كثيرا في تأويل ما ذكره مفكرنا في مقدمة «تجديد الفكر العربي»، من أنه «لم تتح له الفرصة التي تمكنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي على مهل ...»
33
فهو أولا: لم يتجه إلى الغرب جهلا منه بالتراث، بل إدراكا منه لما في نسيج مجتمعه من ثقوب وثغرات، أشعر معها أننا بحاجة إلى عقلانية الغرب، وقيمه الاجتماعية: كالعدالة، والمساواة، والحرية، وغيرها مما يصون كرامة الفرد وإنسانيته. وهو ثانيا: كان على علم جيد بالتراث، قبل هذه المرحلة، ونحن كثيرا ما نتغاضى عن عبارات هامة تكشف عن إلمامه الجيد بالتراث؛ فهو يقول مثلا: «كانت حصيلته الغزيرة عن الثقافة العربية مفرقة أشتاتا، لا يرتبط بعضها ببعض ارتباط مكان وزمان وعلاقات تضم جانبا منه أي جانب، وأنه ليتعذر على حامل الأشتات المفرقة، مهما كثرت تفصيلاتها، أن يكون لنفسه «وجهة نظر» يتوحد فيها المشهد، ويصبح في مقدور المشاهد أن يكون له رأي فيما يرى ...»
34
فالمسألة، إذن، ليست جهلا بالتراث بقدر ما هي محاولة لسلك هذه «الحصيلة الغزيرة» في عقد واحد يعبر عن «وجهة نظر».
وفضلا عن ذلك كله فإن الباحث المنصف لا يمكن أن يسقط من حسابه دراساته السابقة للتراث: تحليله الرائع لعينية ابن سينا (وقد سبق أن عرضنا لها)، ودراسته لديوان ابن عربي «ترجمان الأشواق».
35
قبل أن يكتب عن «ابن رشد في تيار الفكر العربي»، كما أنه أصدر كتابا ممتعا عن «جابر بن حيان» عام 1961م قبل رحلته إلى الكويت، أضف إلى ذلك أنه أعير إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ ليعمل أستاذا للفلسفة الإسلامية في العام الجامعي 53 / 1954م في جامعتي «كارولينا» و«بولمان» (بولاية واشنطن)، حيث قضى فصلا دراسيا في كل منهما. فمن الضلال إذن أن نتصيد عبارات قالها الرجل، بتواضع العلماء، يعبر بها عن نهمه للمزيد من قراءة التراث: فنقول إنه لم يكن يعرف شيئا عن هذا التراث قبل وصوله إلى الكويت.
عبرت المرحلة الأولى عن سيطرة المشاعر الدينية، في حين كانت المرحلة الثانية يسودها «العقل الخالص» الجاف، غير أن مفكرنا لم يتخل قط عن أي منهما: لم يتخل عن «إيمانه» وتمسكه بالعقل والعلم؛ ومن ثم راح يبحث عن صيغة جديدة على هيئة مشروع ثقافي؛ يجمع فيها بين هذين الجانبين؛ فهو يردد في كثير من كتبه، بصورة قاطعة وحاسمة ، أن العالم الإسلامي، لن تقوم له قائمة ما لم يسهم في الكشف العلمي عن أسرار الكون على نحو لا يقتصر على مجرد العلم في ذاته بتلك الأسرار، بل يجاوز ذلك إلى تحويل العلم إلى عمل في مجالات التطبيق، «وإلا فماذا تكون الدلالة الحقيقية لكون الأمر بكلمة «اقرأ»، أول ما نزل به الوحي من القرآن الكريم؟»
36
فهو يريد من «المسلم» ألا يكتفي بتأدية أركان الإسلام الخمسة، بل أن يعلم أن هناك إلى جانب الأركان غرفا وجدرانا، ومن تلك الغرف أن يكون المسلم عابدا بعلمه، واستخدامه لذلك العلم في السلم والحرب معا.
37
وبذلك ينفتح الطريق أمامنا نحو الوسيلة التي تنهي بها مأساتنا.
38
فالصيغة المقترحة «أن تكون مع العلم بقوة الإيمان»؛ فالتدين الذي أراده فكرنا لم يعد نزعة إلى العزلة والتصوف، بل هو التدين الذي يجمع معه العقل في صعيد واحد، أو هو التدين المستنير بنور العقل؛ فهو لم يتخل في أي مرحلة من مراحل حياته عن محاربة النظرة اللاعقلية، أو اللاعلمية، إذا تجاوزت مجالها إلى ظواهر الطبيعة وسلوك الإنسان، وهي النظرة التي ظلت تتحكم في حياتنا العامة حتى أمسكت برقابنا.
وعلى ضوء هذه الصيغة الجديدة التي كونها مفكرنا خلال خمس سنوات، قضاها مجتهدا في تهيئة الأسباب التي تمكنه من أن يكون له الحق في إبداء رأي في التراث العربي الذي يعرضه على الناس؛ أقول على ضوء هذه الصيغة التي بلغت تمام نضجها في الأعوام الأولى من السبعينيات، أخذ يكتب فيما تصوره من وجوب ملء هذه الصيغة بمشروع ثقافي للمواطن العربي بصفة عامة، والمواطن المثقف بصفة خاصة، وهو مشروع لا بد أن يدمج جانبين في كيان واحد، فمن التراث ما لا بد أن يبقى ليضمن للعربي استمرارية تاريخية في حياته الثقافية، وهي استمرارية ضرورية لتظل للعربي هويته في جوهرها.
39
ومنذ عامه السبعين أخذ مفكرنا يصدر كتابا إثر كتاب، ومقالا بعد مقال ليشرح ما يراه من الصيغة الثقافية المطلوبة، التي تضفر فيها خيطين معا، أولهما الجانب الذي استقاه من ثقافة أصيلة زرعت في أرض عربية وأثمرت، وثانيهما جانب متصل بالعلوم في صورتها الجديدة، والمنهج التقني المميز لهذا العصر. فهذا كله يجب استزراعه في أرضنا من شتلات نستوردها من مراكز الحضارة الجديدة في الغرب.
40 (4) تطهير الأرض قبل إقامة البناء
بدأ زكي نجيب محمود تطوره الروحي بمرحلة يغلب عليها الوجدان والمشاعر الدينية، ويتوارى العقل، ثم انقلبت الصورة فسيطر العقل في المرحلة الثانية، وتوارت المشاعر الدينية إلى حين (وإن ظل الوجدان بارزا في المقالة الأدبية)، ثم عانى في مرحلة ثالثة من صراع اتخذ صورا شتى؛ فهو أحيانا صراع الجمع بين العقل والوجدان، وأحيانا أخرى صراع بين ثقافتين: ثقافة وافدة لا يملك إلا أن يعجب بما فيها من عمق، ومن قدرة على التطور والنمو، وثقافة تمتد جذورها في أعماق ماضينا، ولكن علاقتها بالحاضر تزداد ضعفا مع الأيام. ويشعر القارئ أن كل كلمة يصور بها هذا الصراع، في الثلاثية، إنما تعبر بأمانة عن معاناة حقيقية وتجربة شخصية صادقة.
41
كانت مشكلة التوفيق، إذن، بين «العقل والوجدان» بين «العلم والدين»، بين الثقافة الوافدة التي يلعب فيها العقل دورا رئيسيا، وثقافتنا العربية التي يغلب فيها سيطرة الوجدان، هي شغله الشاغل طوال حياته، وهي ربما نبعت في الأصل من شخصية زكي نجيب محمود نفسه؛ فهو رجل يحمل في صدره حسا فنيا مرهفا من ناحية، ثم هو يحمل، من ناحية أخرى، رأسا ينطوي على عقل تحليلي صارم. ومن هنا فقد كان في الأعم الأغلب يعاني هذا الصراع في أعماقه، قبل أن يستشعره في ثقافة مجتمعه. ولقد أراد في الثلاثية (ابتداء من «تجديد الفكر العربي») أن يحل هذا الصراع في مركب يجمع الطرفين معا، بحيث يدمج التراث العربي القديم في حياتنا المعاصرة، لتكون لنا حياة عربية ومعاصرة في آن معا.
42
فراح يبحث عن طرائق السلوك التي يمكن نقلها من الأسلاف العرب، بحيث لا تتعارض مع طرائق السلوك التي استلزمها العلم المعاصر والمشكلات المعاصرة.
43
ومفكرنا مثل كثير من الفلاسفة؛ ديكارت وبيكون والغزالي ... إلخ، يعمد إلى تطهير الأرض مما فيها من ألغام قد تنسف البناء من أساسه لو أقمناه عليها؛ ومن هنا انقسم مشروعه إلى جانب سلبي، وجانب إيجابي، ويتمثل الجانب السلبي في ثلاثة عوامل معوقة، تشدنا إلى الوراء وتمنعنا من الانطلاق، وهي «أغلال» تغل أقدامنا وتعوقها عن السير «بل تعمل فينا كأبشع ما يستطيع فعله كل ما في الدنيا من أغلال وأصفاد ...»؛
44
ولهذا فمن العبث أن نرجو نهوضا قبل أن نحرر أنفسنا من تلك القيود والأصفاد؛ لتنطلق عقولنا نشطة حرة، وهو يكتفي بالإشارة إلى ثلاثة عوائق هي:
أولا: احتكار الحاكم لحرية الرأي
يشير مفكرنا إلى قبة أساسية ويسميها «أس البلاء»، وهي أن يجتمع السيف والرأي الذي لا رأي غيره في يد واحدة، ولقد كانت تلك هي الحال في جزء من تراثنا هو الجزء الذي ندعو إلى طمسه ليموت ... فتاريخنا الطويل يعبر، في الواقع عن مأساة لحرية الفكر، وذلك بسبب اجتماع السيف والرأي في يد الحاكم، فنراه يقتل المفكر لرأي أعلنه، أو يكتفي أحيانا بأن تكون الفكرة قد دارت في سريرة الخصم دون أن يعلنها أو ينطق بها، على نحو ما كان موقف الخليفة المهدي من بشار الشاعر.
45
وهناك الكثير من الأمثلة على إعاقة حرية التفكير، وإعلان الرأي بسبب جبروت الحاكم وسطوته، فهناك المحاكمة التي أجراها إسحاق بن إبرايم ليمتحن القضاة والمفكرين في مسألة «خلق القرآن»، حيث جمع إسحاق الفقهاء والقضاة، ومنهم أحمد بن حنبل وقرأ عليهم كتاب المأمون مرتين، ثم توجه إليهم بالأسئلة واحدا واحدا: فمن تمسك برأيه قتل، ومن استسلم وجعل شعاره «أننا نأخذ بما يأمرنا أمير المؤمنين» فقد نجا، والمعارضون ليسوا مجرد مخالفين للحاكم في الرأي فحسب، بل هم من حشو الرعية، وسفلة العامة ...
46
ويسوق مفكرنا الكثير من الأمثلة: الحلاج المتصوف، بعد بشار الشاعر، ومن الفقهاء أحمد بن حنبل، وبشر بن الوليد، ومن المفكرين الجعد بن درهم، وابن المقفع وغيرهم وغيرهم.
وينتهي مفكرنا إلى أنه لم يكن في ساحة الفكر عند الأسلاف «حوار» حر إلا في القليل النادر، وفي مواقف لم تكن بذي خطر كبير على سلطة الحاكم، فهذه الساحة «... لم تكن تعلو فيها نخلة واحدة، أو قلة من النخيل، ليحيط بها كلأ قصير، فإذا ما دفعت حرارة التربة ذلك الكلأ أن يرتفع برءوسه، جذت رءوسه لتظل قريبة من مواضع الأقدام ...»
47
ثانيا: سلطان الماضي على الحاضر
سلطان الماضي على الحاضر هو بمثابة سيطرة الأموات على الأحياء، ومهما كان إجماع السلف على صدق فكرة، فإن ذلك لا يجعلها صادقة، أو كما قال ديكارت: «إن إجماع الكثرة الغالبة من الناس لا ينهض دليلا يعتد به لإثبات الحقائق التي يكون اكتشافها عسيرا»، فنحن لا نصل إلى الحقيقة بعد الأصوات المؤيدة، فإن كانت كثيرة فهي حقيقة وإلا فهي باطل!
وفضلا عن ذلك فإن سيطرة الماضي على الحاضر قريبة الشبه، مما أطلق عليه فرانسيس بيكون «أوهام المسرح»، وصور فيها ما للموتى من تأثير قوي في نفوس الأحياء، بما لهم من شهرة واسعة تملأ النفوس بالرهبة؛ مما يحول دون تقدم الفكر أو تبديل أوضاع الحياة، لا سيما إذا توهمنا أن كل ما هو قديم «معصوم من الخطأ»، فعندئذ تنسدل الحجب الكثيفة بين الإنسان وبين ما قد جاءت به الأيام من تطورات العلم والمعرفة، وماذا يضيف الأحياء إلى كتب التراث التي علتها مسحة من قداسة سوى شروح واجترار؟ ... وهكذا نكسو هذه الكتب بالجلال والرهبة، بحكم أنها تراث هبط على الناس من أسلافهم الميامين: «ولم يكن على المفكر، عندئذ، إلا أن ينكب على تلك الصحف انكبابا حتى يحللها لفظا لفظا ...»
48
وهي في معظمها لا تضيف في النهاية حرفا واحدا جديدا، بل تكتفي بالشرح، فهي، كما قلنا، شروح ثم شروح على الشروح، وتعليق، وتعليق على التعليق: «ولقد عني القوم، وما نزال في أثرهم نعنى، بعمليتي التلقن و«التلقين»؛ لأنها هي عندنا سلف وخلف على حد سواء، التعلم والتعليم ...»
49
فالعلم كله عندنا «يلقن» للمتعلم، فإذا نبغ هذا المتعلم ليصبح، مثلا، أستاذا بإحدى الجامعات «أذنوا له بالتلقين»، على نحو ما كانوا يفعلون مع مشايخ المساجد في العصور الوسطى؛ فالحفظ والتلقين الذي لا يزال يسيطر على مناهج التعليم عندنا حتى الآن، أثر من سيطرة مناهج الماضي وطرقه على الحاضر.
ثالثا: تعطيل القوانين الطبيعية بالكرامات
ثالث العوامل المعطلة لتقدمنا، والمقيدة لعقولنا، والمكبلة لأرجلنا، هو الميل الشديد الذي نحسه نحو أن تكون قوانين الطبيعة في أيدي نفر من «الصالحين»، الذين ينصرف «صلاحهم» إلى تعطيل أي قانون من قوانين الطبيعة حسب مشيئتهم. والخطير في الأمر أن هذا الاعتقاد لا يقتصر على سواد العامة، بل ينصرف إلى العلماء أنفسهم، علماء الكيمياء، والفزياء، والنبات، وطبقات الأرض ... إلخ في قلب جامعاتنا «فأسلافنا السذاج إبان عصور الضعف، وأقراننا المعاصرون في عصر العلوم، كلاهما سواء في قبول ما يحكى لهم من أن من ذوي النوايا الطيبة، والقلوب المؤمنة، من يطير في الهواء بلا أجنحة، ومن يسير على الماء بلا حوامل. كلاهما سواء في قبول تصديق ما يحكى لهم من قدرة أصحاب الكرامات، على أن يغرفوا من وعاء صغيرة على النار طعاما، يكفي ألفا من عباد الله الجائعين، وأن تخرج لهم الطيور الخضر من العدم؛ لتظلل رءوسهم إذا اشتد بهم الهجير ... كلاهما سواء في تصديق ما يحكى لهم من القوة السحرية، لكلمات تكتب أو تقال فإذا العليل صحيحا معافى، وإذا المهزوم غالبا منتصرا ... وإذا الرزق كثير والخير وفير بغير عناء العمل ...»
50
ولا بأس هنا أن نورد اعتراضا للزميل د. حسن حنفي، على النظر إلى هذا العمل على أنه معوق للانطلاق، يقول: «إن تعطيل القوانين عن طريق الكرامات صحيح عند فريق خاصة الأشاعرة، لكنه غير صحيح عند فريق آخر وهم المعتزلة خاصة أصحاب الطبائع، وعند ابن رشد ... إلخ، فلماذا الانتقاء حتى نبدو غير علميين، لصالح التراث الغربي العلمي الذي يربط بين الأسباب والمسببات ...؟»
51
غير أن الدكتور حسن حنفي هنا يخرج عن الموضوع تماما، فهو يصور «هذا العائق» على أنه كان رأيا في الماضي، قالت به فرقة من المتكلمين ورفضته أخرى ...! ونسي، أو أهمل، ما بدأ به مفكرنا من أن هذا العامل المعوق ما زال قائما بيننا حتى اليوم، وربما يجهل أصحابه الفرق التي أيدت والتي عارضت في آن معا، ولو أن الأمر قد اقتصر على تراث الماضي، لما أخذنا عجب ولا كانت هناك مشكلة، لكن الخطر الحقيقي في الأمر أن هذه الفكرة ما زالت متغلغلة في ثقافتنا الحاضرة، لا فقط بين العامة، بل الأمر يجاوز هؤلاء إلى العلماء أنفسهم، وبين الأساتذة، الذين يعملون في الجامعات، ويقومون بتدريس العلوم الحديثة: الكيمياء، والفزياء، والنبات، وطبقات الأرض! فليست المشكلة «تاريخا مضى»، ولا يجوز أن نستشهد بما قالته الأشاعرة، ونتغاضى عن اعتراضات المعتزلة، بل أن العائق قائم بيننا حتى اليوم. (5) مشكلات متجددة
تلك كانت «عقبات» على الطريق اختصرها مفكرنا في ثلاث، تعوق نهضتنا وتشل حركتنا، وتمنعنا من الانطلاق، وإن كانت العقبة الأولى هي، في تصوري أخطر العقبات جميعا ...!
طهرنا الأرض من الألغام ونريد إقامة البناء، فما هو المطلوب الآن؟ علينا بادئ ذي بدء أن نسأل أنفسنا سؤالا طرحه مفكرنا مرارا، في أحاديثه الإذاعية في الكويت، ثم «في تجديد الفكر العربي»، وبعدها في مقدمة كتاب «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، وهذا السؤال هو: أتكون مشكلات حياتنا اليوم هي نفسها المشكلات التي عالجها الأجداد في الماضي، وأجهدوا أنفسهم في البحث عن حلول لها ...؟! وهل نستطيع أن نفيد اليوم من هذه الحلول، أم أن هناك مشكلات انتهت وثقافة في تراثنا لا نعيشها اليوم؟ «ويجيء الجواب بالنفي القاطع لوحدة المشكلات»، فنحن نواجه مشكلات أساسية لم يعد يصلح لها ما ورثناه من قيم مبثوثة في تراثنا، لسبب بسيط هو أنها لم تكن هي نفسها المشكلات التي صادفت أسلافنا، حتى نتوقع منهم أن يضعوا لها الحلول ...»
52
فالمشكلات القديمة في أية ثقافة هي مشكلات ميتة، ومحاولة إحيائها ضرب من التغاضي عن «العقل المتطور وعود إلى البساطة الذهنية الأولى، وسعي للبحث عن ملاذ نبتعد بواسطته عن المشكلات والصعوبات القائمة، وهروب إلى الجدب والعقم»، على حد تعبير هيجل.
53
فما هي المشكلات التي نواجهها اليوم، ولم يكن يعلم أسلافنا عنها شيئا؛ أعني أنها اختلفت قليلا أو كثيرا عن مشكلاتهم؟ يعتقد مفكرنا أن على رأس هذه المشكلات «مشكلة الحرية» بمعناها السياسي، ومعناها الاجتماعي وهما المعنيان اللذان تدور حولهما أرجاء الحياة المعاصرة .
54
وسوف نتحدث فيما يلي بإيجاز عن هذه المشكلات، وعلى رأسها «مشكلة الحرية» التي كانت موضع اهتمامه في أحاديثه ومقالاته ومحاضراته وندواته. (5-1) مشكلة الحرية
الحرية التي نقصدها هنا هي الحرية السياسية، التي لم يكن أسلافنا يعرفون عنها شيئا؛ ذلك لأن فكرة الحرية في تراثنا القديم كانت تقابل «الرق»؛ فالفرد من الناس إما أن يكون حرا ذا حقوق وواجبات، وإما أن يكون عبدا لغيره، فلا حقوق له إلا ما يأذن به مولاه. أما الحرية السياسية اليوم فهي تنصرف إلى اختيار الحكومة، بانتخاب المواطنين بطريق مباشر أو غير مباشر (وكان ذلك بتأثير أوروبا وأمريكا). وما ظهر حديثا من أنظمة للحكم تكفل للمواطنين أن ينتخبوا من يمثلهم أمام من تسند إليهم مناصب الحكم، بحيث تكون السلطة في نهاية الأمر للشعب، فإذا رضي عن الحكومة أبقى عليها، وإذا سخط عمل على إزالتها في غير حاجة إلى معارك ومذابح وتعذيب وسجن وتشريد.
55
ومرة أخرى يعترض الزميل حسن حنفي على القول بأن تراثنا القديم، لم يعرف شيئا عن «الحرية بمعنييها السياسي والاجتماعي، ويذهب إلى أن: «معنى الحرية موجود في التوحيد ... في شعار «لا إله» ثم تأكيد شمولية القيم في فعل الإيجاب «إلا الله»، وهو موجود أيضا في العدل.»
56
أما ممارسة الحرية والوقوف أمام الحاكم الظالم؛ فهو موجود أيضا في رأي الزميل، في تراثنا القديم»: فقد كانت ثورة القرامطة
57
والزنج
58
والعبيد لممارسة الحرية السياسية والاجتماعية، وإن لم يستعمل اللفظ.
59
فذلك في رأيه «خير في البحث عن اللفظ، وتحليل الألفاظ كما هو الحال في الوضعية المنطقية والمنهج التحليلي ...»
60
والواقع أن اعتراض حسن حنفي يبعد كثيرا، مرة أخرى، عن الموضوع المطروح للنقاش؛ فهو مثلا «يستخرج» فكرة الحرية من مفهومي «التوحيد والعدل»؛ أي إنه يقوم بتحليل الألفاظ، وسواء نجح فيها أم لا؛ فالحرية «المستخرجة» على هذا النحو لا علاقة لها بالحرية السياسية!
أما ثورة القرامطة فهي حركة دينية لم تكن تستهدف «تحرير المواطن» بقدر ما تستهدف الاستيلاء على السلطة، ونحن عادة لا نفرق كثيرا بين الصراع على السلطة، التي ربما لو انتصرت لكانت أسوأ من السلطة القديمة، وبين الصراع من أجل تحرير المواطن؛ فالمعروف عن جماعة القرامطة أن أفرادها أخذوا بالطاعة العمياء للجماعة ولزعيمها، وعندما أسسوا دولة في الأحساء، في شبه الجزيرة العربية، عاثوا في الأرض فسادا، وأغاروا على قوافل الحج! أما ثورة الزنج التي قامت بمعاونة القرامطة، فهي أقرب إلى ثورة العبيد في روما، ولم يقل أحد أنها قامت لتحرير المواطن، ورد حقوقه المسلوبة، بل إن بعض المؤرخين يطلق عليها اسم «فتنة الزنج»، فقد أثاروا الرعب في الجزء الجنوبي من العراق خمسة عشر عاما!
أما القول بأنه من الظلم البين القول بأن تراثنا لم يعرف السلطة المنتخبة من الشعب لأنه عرف نظام الخلافة، والإمامة، والخلافة في تراثنا بنص الأصوليين عقد، وبيعة واختيار ...»
61
فذلك كله حديث عن «المثال» أو عن «النصوص»، لكن الواقع يدحضه، فنحن نعرف أن موضوع البيعة كان مسألة صورية تماما (كالاستفتاءات الآن)، وظلت صوريتها تزداد إلى أن تمت أحيانا لطفل صغير في الخامسة من عمره، أو على مظروف مغلق لا يعرف الناس ما بداخله.
62
ومن ثم يظل مفكرنا الكبير على صواب في قوله: أنه يندر، أن لم يكن يستحيل، أن تجد طوال التاريخ العربي، أن حكومة زالت لأن الشعب المحكوم بها لم يعد يريدها، فهناك فوق أريكة الحكم خليفة أو أمير: أخذ الحكم وراثة، أو أخذه عنوة، وفي كلتا الحالين لا يزحزحه عن أريكته إلا غدر أو قتل أو سجن: فلا الشعب اختار، ولا الشعب يملك حق العزل!
63 (5-2) حرية المرأة
ويتفرع عن مشكلة الحرية مشكلات لها خطرها (وقد سبق أن عرض لها مفكرنا بإيجاز في أحاديثه الإذاعية كما ذكرنا من قبل)؛ منها حرية المرأة؛ فالمرأة العربية الجديدة إنسانة أخرى غير امراة الأمس، فقد كانت سالفاتها من بنات «الحريم» و«الجواري» و«الغانيات»، في حين أن المرأة اليوم أصبحت طبيبة ومهندسة ومحاسبة ومدرسة، في مختلف مدارج التعليم إلى درجة الأستاذية في الجامعة، كما أصبحت المرأة العربية اليوم قانونية، وممثلة للشعب في مجالس النواب، ووزيرة مع الوزراء في قيادة أمتها ، فهل يجوز أن يعاملها الرجل اليوم، كما كان يعامل سالفاتها بالأمس؟ ومن هنا فإن المرأة العربية تجد نفسها في أزمة حادة.
64 (5-3) الدخول في عصر العلم
ومن مشكلاتنا الكبرى كذلك، مشكلة الدخول في عصر العلم والصناعة، وهو العصر الذي أصبحت فيه المعرفة من جنس يختلف عما كان يسميه آباؤنا «معرفة» اختلاف الأبيض عن الأسود، فقد كانت المعرفة، لعهود طويلة «كلاما في كلام»، ثم أصبحت أجهزة بالغة الدقة لقياس الانتقال والسرعة وضبط الاتجاهات، ونقل الصوت والضوء، وتحريك الطائرات والغواصات والصواريخ ... إلخ، وباختصار انتقل الإنسان من معرفة «اللفظ» إلى معرفة «الأداء».
65 (5-4) مشكلة الوحدة
من المشكلات التي نصبح معها ونمسي: مشكلة الوحدة العربية، والقومية العربية وما يتهددها من عوام التسلط والعنصرية متمثلة في الغزو الصهيوني، الذي هو أخطر من أي غزو مضى؛ لأنه غزو جاء ليقيم ويكتسح وليضرب بجذوره في الأرض؛ ولأنه غزو تناصره دول كبرى.
66
كان ذلك، بصفة عامة، الجانب السلبي في مشروع زكي نجيب محمود ل «تجديد الفكر العربي»، وهو جانب يتمثل من ناحية في تطهير الأرض وإزالة العقبات التي تعرقل مسيرتنا، كما يتمثل من ناحية أخرى في رفض مشكلات الماضي وعدم العمل على إحيائها، والالتفات جيدا إلى مشكلاتنا الجديدة.
طهرنا الأرض وأزحنا الألغام، وتبينا المشكلات فماذا يبقى بعد ذلك؟ يبقى الجانب الإيجابي من المشروع، وهو يتمثل فيما يسميه مفكرنا بالفلسفة العربية المقترحة.
وفي هذه الفلسفة المقترحة يحاول مفكرنا إحداث ثورة في «اللغة»؛ فهو يرى أن نقطة البدء في ثورة التجديد هي «اللغة»؛ ذلك لأن اللغة ليست مجرد تعبير عن أفكار، بل هي جزء لا يتجزأ من عملية التفكير نفسها، بحيث يصبح محالا أن يتغير للناس فكر، دون أن تغير اللغة في طريقة استخدامها، وهو هنا يسوق ملاحظتين:
الملاحظة الأولى:
أننا حين نربط الفكر باللغة فإن ذلك لا يعني أن كل ما ننطق به من ألفاظ يشكل فكرا، فمن النطق ما هو «هراء» وتخليط كتخليط المجانين؛ ولذلك فرق ابن جنى بين «القول» و«الكلام»، بحيث جعل القول ما تتحرك به الشفتان. أما الكلام فلا بد أن يحمل فكرا ومعنى.
الملاحظة الثانية:
يعود الكلام المعبر عن فكر فينقسم نوعين: الأول الكلام الذي يرتبط بالواقع المحسوس، كقولي مثلا: «الكويت تقع على الخليج العربي»، فهو كلام ذو علاقة بأمر واقع، يمكن رؤيته ورسمه على الورق، والنوع الثاني هو الكلام الذي يرتبط بكلام آخر، كقولي: «إن ركوب البحر أمتع من ركوب الطائرة، ولما كانت الطائرة أسرع من السفينة، كانت المتعة غير متوقفة على السرعة.» فهذا الكلام لا يشير إلى شيء في دنيا الواقع، وإنما هو يعبر عن نفسية المتحدث، وهذه التفرقة هي التي جاءت بها الوضعية المنطقية، وأخذ بها مفكرنا في المرحلة الثانية من تطوره الروحي، واعتبرها كشفا هاما في الفلسفة المعاصرة.
ومفكرنا يعيب على اللغة العربية أنها كانت في تراثنا القديم، وما زالت حتى يومنا الراهن، من النوع الثاني الذي لا يصور الواقع «فهي توشك ألا تنتمي إلى دنيا الناس، فلا تكاد ترى علاقة بينها وبين مجرى الحياة العملية؛ ولهذا السبب خلق الناطقون باللغة العربية لغات عامية، يباشرون بها شئون حياتهم اليومية ...»
67
وهكذا ينتهي فكرنا إلى أن الفصحى في تراثنا الأدبي لم تكن أداة للاتصال بمشكلات العالم الأرضي، ولا وسيلة للثقافة المتصلة بحياة الناس، بل كانت مجالا للفن الذي يهوم في السماء أو ما يشبه السماء، فقد كان الكاتب يعنى بالقول في ذاته كيف يجيء مسبوكا.
68
فاللغة عندنا نغم يطير بنا فوق أرض الواقع، ويصعد إلى اللانهائي والمطلق، والأمل المنشود هو أن تتطور اللغة بحيث تحقق شرطين؛ الأول: أن تحافظ على عبقريتها الأدبية، وأن تكون أداة للتوصيل لا مجرد وسيلة لترنيم المترنمين. والثاني: أن تكون الوسيلة الأولى التي ندخل بها مع سائر الناس عصر التفكير العلمي الذي يحل المشكلات.
69
ويشدد مفكرنا على الدور الهام والخطير الذي لعبته الكلمة في تراثنا، حيث كانت هي الفكرة، وهي الثقافة، وهي المهارة، «فاللغة هي عزهم، وهي مجدهم، وهي فنهم، وهي علامة إعجازهم، وخصوصا إذا ارتفعت إلى مستوى الشعر.»
70
وقد تكون الكلمة الجميلة مفتاحا يفتح الأبواب المغلقة، ويفتح الطريق إلى مناصب الدولة، ويفتح الخزائن بالرزق، وقد يكفي لصد الرجل عن قضاء حاجته ألا يكون موهوبا بالنطق الجميل، يقول عمر بن عبد العزيز: «إن الرجل ليكلمني في الحاجة يستوجبها، فيلحن فأرده عنها، وكأني أقضم حب الرمان الحامض، لبغضي استماع اللحن، ويكلمني آخر في الحاجة لا يستوجبها فيعرب، فأجيبه إليها التذاذا لما أسمع من كلامه» ... وهكذا كان موقف العربي على إطلاقه.
71
والواقع أن تحليل مفكرنا لظاهرة اللغة في ثقافتنا رائع عميق، لا سيما عندما ينبهنا إلى أن المشكلة الكبرى في اللغة، لا تنحصر في كونها قطعت صلتها بالواقع، وكونت عالما قائما بذاته، بل إنها أصبحت في نظر العرب بديلا عن الواقع، بحيث يكفي أن نتحدث عن الشيء، ولكن نعتقد أنه قد تحقق وهنا يكون الاهتمام منصبا على الصياغة اللفظية وجمال وقعها، لا على ما تؤديه من دور في العالم الفعلي، فالصيغ اللغوية أنما تفعل فعلها كله، ما دامت حسنة التركيب جميلة الجرس، ولا على صاحبها، ولا على قارئها بعد ذلك أن يهتدي بها في تجارة أو صناعة أو سفر أو قتال!
72
فإذا أراد العربي تحولا إلى عصرنا فإن عليه أن ينتقل من حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء. وإذا كان قابيل قتل أخاه هابيل، ففسر ذلك بأنه يرمز إلى أن الزارع قتل الراعي، وأن مرحلة من مراحل الحضارة، وهي مرحلة الزراعة، قد أعقبت مرحلة أكثر منها بدائية هي مرحلة الرعي، فإننا في حاجة اليوم إلى من يقتل قابيل؛ أي المرحلة الزراعية حتى يخلي المكان لمرحلة ثالثة هي مرحلة الصناعة الآلية، الصناعة التي لا تحتاج من الإنسان إلى عضلات، بل إلى آلات، ولو تحقق ذلك انتقل الإنسان من فكر إلى فكر، ومن حياة إلى حياة، أعني، مرة أخرى، أن ننتقل من ثقافة الكلمة إلى ثقافة التشكيل التي تغير بها درجة الأرض.
73
ويلح مفكرنا على أن التحول المطلوب هو الانتقال إلى «المعاصرة»، التي هي «العلم والصناعة»، وهو لا يتشكك لحظة واحدة في أن هذا هو طريق التحول من تخلف إلى عصرية، وهو أن ننتقل من «معرفة» قوامها الكلام إلى «معرفة» قوامها «الآلة التي تصنع»؛
74
ولهذا فلا بد أن تضيف ثقافتنا العربية المعاصرة إلى الجانب الجميل من اللغة العربية، لغة أخرى شائهة قبيحة ينفر منها النظر والسمع، فيسير الإنسان إلى مجاوزتها إلى دنيا الواقع الكائنة على أرض الحوادث.
75
واللغة المقصودة هنا هي لغة العلم والتقنية والصناعة ... إلخ؛ أي لا بد أن نجعل من اللغة أداة غاية في ذاتها، فنضيف بذلك فكرا «إلى أدب»، وننتقل من اللفظ «الجميل» إلى اللفظ «الدال»، ومن جرس اللفظ إلى مدلوله، من تركيب الجملة إلى بنية الواقع، وبذلك نخرج إلى عالم الوقائع والأحداث، فننظر إلى العالم الخارجي تلك النظرة التي تلتمس فيها القوانين المطردة التي تنظمه، والتي على أساسها يمكن التخطيط لمسارات المستقبل تخطيطا يحقق الأهداف المأمولة.
76 (6) إقامة البناء: فلسفة عربية مقترحة
طهرنا الأرض قبل البناء، وفرقنا بين المشكلات التي عالجها الأجداد، ومشكلاتنا المعاصرة التي لا نستطيع أن نجد لها حلولا في تراث القدماء، لكن ذلك كله يمثل الجانب السلبي من المشروع الثقافي الجديد، فما هو الجانب الإيجابي؟ بقي علينا الآن أن نعرض لهذا الجانب الإيجابي، الذي يتمثل في فلسفة عربية جديدة تجمع بين «الأصالة والمعاصرة»، بين «العقل والوجدان»، فلسفة تخرج الأسس الكامنة في أفكارنا، ومعتقداتنا وسلوكنا، وثقافتنا بصفة عامة، تخرجها من حالة الكمون إلى حالة العلن والإيضاح، لتسهل رؤيتها ومناقشتها.
ومفكرنا يضرب بأدواته التحليلية؛ ليصوغ لنا فلسفة تعبر عن جذورنا الثقافية: نقرؤها فنجد أنفسنا منعكسة فيها، وهذا ما حاوله الإمام محمد عبده من قبل، وما حاوله طه حسين، والعقاد، والحكيم ... إلخ، وإن كانت هذه الأمثلة أقرب إلى عالم الأدب والأدباء منها إلى عالم الفلسفة بمعناها الاحترافي.
فما هي هذه الفلسفة الجديدة التي يقترحها مفكرنا، لتكون عربية ومعاصرة في آن معا؟ هي ضرب من الفلسفة الثنائية تعتمد على ركنين أساسيين هما: (أ)
ثنائية الأرض والسماء. (ب)
ثنائية الطبيعة والفن.
وسوف نتحدث عن كل ركن منهما بإيجاز. (6-1) ثنائية الأرض والسماء
يذهب مفكرنا إلى أننا لو تعمقنا ضمائرنا، لوجدنا أن هناك مبدأ واضحا عنه انبعث، وما تزال تنبعث، سائر أحكامنا في مختلف الميادين، وهو مبدأ لو عرضناه على الناس في لغة واضحة بسيطة وصريحة، لما وجدت منهم أحدا يحتج أو يعارض، وأعني به مبدأ الثنائية التي تشطر الوجود شطرين: لا يكونان من رتبة واحدة، ولا وجه للمساواة بينهما، وهما: الخالق والمخلوق، الروح والمادة، العقل والجسم، المطلق والمتغير، الأزلي والحادث، أو قل إنهما، بصفة عامة، الأرض والسماء.
77
وهو ينبهنا إلى أن الثنائية التي يقترحها عن ثنائية أفلاطون التي بلغت حدا من التجريد ألغت معه وجود الأفراد الجزئية، أو على حد تعبير هيجل أن أفلاطون سدد طعنة قاتلة للشخصية الحرة اللامتناهية.
78
بصفة خاصة أفراد البشر، فليس للفرد الإنساني الواحد من حقيقة عنده إلا بمقدار ما يشارك في الإنسانية بمعناها المجرد. وهذا الإلغاء لحقيقة الأفراد لا يتفق مع عقيدتنا التي تلقي على أفراد الناس تبعات خلقية عما يعملون أفرادا، لا أنواعا ولا أجناسا ولا جماعات، وهناك كثير من الآيات القرآنية التي تجعل الإنسان الفرد مسئولا عن معتقداته: فالإيمان فردي، والمسئولية فردية
ولا تزر وازرة وزر أخرى [النجم: 38، الزمر: 7، فاطر: 18، الإسراء: 15 ... إلخ]، ويستخف بالذين يقولون
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون [الزخرف: 23].
79
وذلك يعني اعترافنا الصريح بالوجود الحقيقي لهؤلاء الأفراد، في حياتهم الدنيا، وفي حياتهم الأخرى على حد سواء.
النظرة الثنائية التي تناسبنا هي، إذن، نظرة متميزة وفريدة، تجعل الكائن الحي الواحد المطلق في جهة، وتجعل الأفراد الجزئية في جهة أخرى، ثم تقسم عالم الأفراد هذا إلى كثرة من عناصر، بالنسبة لأفراد الناس، على الأقل، لأنها نظرة تأبى أن ينطمس الفرد الإنساني الحي المسئول في عجينة واحدة مع سائر مفردات العالم الطبيعي. فكأنما هي نظرة تجمع بين الثنائية والكثرة: ثنائية بالنسبة إلى الله الخالق والكون المخلوق، والكثرة بالنسبة إلى أفراد الناس الداخلين في هذا الكون المخلوق، تتضمن نوعين من التفرقة والتمييز، أحدهما تفرقة تميز الخالق، عن مخلوقاته بشرا، كانت تلك المخلوقات أم غير بشر: ثم تفرقة أخرى تميز، في عالم المخلوقات، بين البشر وسائر الكائنات ؛ وذلك لتجعل الإنسان، دون سائر الكائنات، ضربا من الإرادة الحرة المسئولة التي لا تخضع لقوانين الطبيعة كل الخضوع، لكنها في مقابل هذه الحرية، كان عليها أن تحمل عبء الأمانة، أمانة الحرية في شجاعة وإقدام، ويترتب على هذه النظرة الثنائية أربع نتائج على النحو التالي: (1)
أننا لا نطمئن بالا حين يقال عن الإنسان إنه ظاهرة تخضع كلها للقوانين العلمية، ونحرص على أن نبقي جانبا منه يستعصي على ذلك التقنين لأنه جانب فريد خلاق، مسئول عن خلقه وإرادته.
80 (2)
كما أننا نرفض في مجال الأخلاق أن يكون مدار الفعل الأخلاقي السليم منفعة تعود على الناس؛ لأننا نرى أن الفضيلة هي جزاء نفسها؛ ومن ثم نقيم الأخلاق على أساس الواجب لا على أساس الفائدة، ولا ينفي ذلك أن يجيء الواجب مصحوبا بنتائج نافعة، فوق كونه واجبا، لكنه واجب يؤدى من قبل نفكر فيما يترتب عليه من نفع، وهذه الوقفة الخلقية نتيجة مباشرة للصورة الكونية التي تصورناها، إله خالق وعالم مخلوق، وفي هذا العالم إنسان متميز دون سائر المخلوقات بالإرادة الحرة المسئولة، التي تتصرف في إطار التشريع الإلهي، لكنه مع ذلك تصرف فيه حرية الاختيار، التي من شأنها أن تجعل تبعة الفعل واقعة على فاعله. (3)
ويترتب على هذه الصورة الكونية أيضا موقف خاص بمعايير الجمال في الفنون والآداب، فالفن عندنا هو في هندسة تشكيلاته، هندسة يطرب لها الذهن من وراء الحاسة المدركة؛ فالفن العربي في زخارفه ورسوماته تتماثل فيه المربعات والدوائر والمثلثات وغيرها من أشكال الهندسة، بحيث يراعى أنه إذا امتدت عينا الرائي في أحد أطرافه، أحس أنه يستطيع أن يمد تلك التشكيلات الهندسية إلى غير نهاية، وفي هذه الانطلاقة من المحسوس إلى المعقول، من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ومن الطبيعة إلى ما وراءها، يكمن جوهر الروح العربية.
81 (4)
ويترتب على هذه الصورة الكونية أيضا نظرية خاصة في تحليل المعرفة الإنسانية؛ فالفلسفة الثنائية المقترحة تجعل للمعرفة نطاقين: لكل منهما وسيلة خاصة به، فإذا كان الأمر أمر الطبيعة وكائناتها، جاءتنا المعرفة عن طريق آخر، ولا يجوز لأي من النطاقين أن يزاحم الآخر في وسائله، وبعبارة أخرى علينا أن نجعل للعلوم الطبيعية منهجا، ولما يتصل بالحقيقة المطلقة منهج آخر. أما منهج العلوم الطبيعية فقائم على مشاهدة الحواس وإجراء التجارب، وعلى سلامة التطبيق. أما منهج ما وراء الوقائع الصماء من حقائق كالقيم الخلقية، مثلا، فقد نلجأ إلى شهادة الحواس والتجارب العابرة، بقدر ما نلجأ فيه إلى إدراك البصيرة، أو إلى إملاء الوحي أو إلى ما يسري بين الناس من عرف تقليد.
82
ومن الواضح أن قسمة الوضعية المنطقية تعود فتطل برأسها من جديد مع قدر طفيف جدا من التعديل. (6-2) ثنائية الطبيعة والفن
الثنائية الإبستمولوجية التي عانى منها مفكرنا في صدر شبابه، ولخصها في «الشرق الفنان»، والتي تجمع بين نظرة الصوفي ونظرة العالم، أدت الآن إلى ثنائية أنطولوجية، وهو يرى أنها غالبة على الذهن العربي، تشطر الوجود شطرين، فتظهر ثنائية بين الأرض والسماء، وبين الخالق والمخلوق، بين الواقع والمثال، بين الدنيا والآخرة، بين المعقول والمنقول ... إلخ، لكن لا بد أن نكون على وعي بأن هذين الشطرين ليسا من مرتبة واحدة ولا وجه للمساواة بينهما؛ ذلك لأن نظرة العربي، في صميمها، هي أن السماء قد أمرت وعلى الأرض أن تطيع، وأن الخالق قد خط وخطط وعلى المخلوق أن يقنع بالقسمة والنصيب، وأن المثال سرمدي ثابت، وعلى الواقع أن يفسر نفسه على بلوغه، وأنه إذا تعارضت الآخرة والدنيا، كانت الآخرة أحق بالاختيار، وأن المنقول إذا ما تناقض مع المعقول، ضحينا بالمعقول ليسلم المنقول.
83
وعلينا أن نلاحظ هنا عدة أمور هامة:
أولا:
الأمر الأول الذي ينبغي علينا أن نلاحظه أننا أمام ثنائية حادة بين الغيب والشهادة، بين الروح والجسد، بين الإنسان والله.
ثانيا:
أن العربي لم يتصور العلاقة بين الطرفين على أنها علاقة تبادل أو أخذ وعطاء، بل هي علاقة الحاكم والمحكوم، والحاكم هنا مطلق السلطان، والمحكوم معدوم الحول والحيلة.
ولا يغير من الصورة أن يكون الحاكم المطلق عادلا، وأن يكون المحكوم ملاقيا جزاء وفاقا؛ إذ ما يزال طريق السير في اتجاه واحد : يهبط الأمر من أعلى فيصدع به الأسفل.
ثالثا:
أن الصورة الموجودة في السماء انعكست على الأرض، وأصبح النظام السياسي نسخة من النظام السماوي، فإذا كانت قوانين الطبيعة يمكن أن تتعطل أو تطرد بحسب ما يشاء الحاكم السماوي المطلق، فإن حاكم الدولة الأرضية يمكن أن يعبث بقوانين المجتمع فيطبقها أو لا يطبقها حسب مشيئته، فها هنا أيضا في صورة حياة الإنسان في مجتمعه، نجد أن لصاحب السلطان أن يريد، وعلى الناس أن يطيعوا؛ ولهذا تجد أن الكلمة في مجتمعاتنا لصاحب القوة النافذة، ولصاحب الجاه، والحق مع صاحب النفوذ.
رابعا:
سوف يترتب على ذلك أيضا أن تكون الأخلاق هي أخلاق الواجب، والأهم من ذلك أن الواجب مفروض علينا من صاحب السلطان، والأصل أن يكون صاحب السلطان في عليائه من السماء، ثم جاز أن يتمثل، كما رأينا، في المتربع على كرسي الحكم من أفراد البشر؛ ولهذا فإننا لا نتصور أن تكون الأخلاق «أخلاق سعادة»، تعود علينا قيمتها بحياة نافعة سعيدة طيبة، بل الواجب هو الواجب لأن سلطة عليا أوجبته علينا. مهما تغيرت ظروف العيش وتطور المجتمع تبدلت أوضاعه، ونحن لا نتصور أن تتطور معايير الحكم الأخلاقي، فإذا تطور المجتمع انسلخت دنيا الحياة الواقعية عن دنيا القيم الأخلاقية، وأصبح الفعل في ناحية والعقول في ناحية أخرى.
84
ولقد ألفنا هذا الازدواج إلفا توهمنا معه أنه طبيعة الأمور؛ ومن ثم كان النفاق الذي يقع في كل لحظة، لا تكاد نمسه أو نعيه، فلا تثير فينا دهشة أن تنفرج الزاوية بين المدرسة بقيمها والبيت بفعله، أو أن تكون هذه الزاوية أشد انفراجا بين المسجد والسوق.
85
واستكمالا لهذه الصورة جاءت حياتنا الفنية انعكاسا لهذه النظرة الشمولية التي تعلي من شأن الخارج على حساب الداخل؛ فالمعيار يهبط عليك من أعلى، ولا ينبثق من طويتك؛ ولهذا كانت الأولوية في حياتنا الفنية لسلامة الشكل لا لحيوية المضمون: فالرسوم أشكال هندسية، والقصائد تفعيلات موزونة، وتسربت هذه الشكلية إلى مناشط الحياة جميعا، فما دمت قد حافظت على الشكل المقبول، عند القانون أو عند الشرع أو العرف، فقد أديت واجبك بغض النظر عما ينطوي عليه هذا الشكل من لباب الفعل، فنحن نهتم «بالمظهر» لا بالحقيقة: فأظهر للناس في أوضاع الغنى تكن غنيا، وفي أوضاع الحرية تكن حرا، وفي أوضاع العالم تكن عالما، فالمهم هو أن يسلم الشكل من الشوائب.
86
وهكذا ينتهي مفكرنا إلى أن من تصورنا لهذه الثنائية التي تفصل بين السماء والأرض، نشأ طغيان الحاكم بالمحكوم، وانهدمت ضرورة القوانين في الطبيعة والمجتمع على السواء، وعلت الإرادة على الفكر، وسبقت قوة الجاه رجحان الحق، وأصبحت الفضيلة واجبات مفروضة، وبات الفن شكلا بغير مضمون.
87
ولا يرى مفكرنا مانعا أن تبقى هذه الثنائية فيما يختص بعلاقة الإنسان بربه، لكنه يوجب أن تضاف إليها ثنائية جديدة تكفل لنا النتائج المسايرة للعصر الجديد، وهي ثنائية العلم والحرية ... أما «العلم فهو يعني معرفة ظواهر الطبيعة؛ أي العلم بالطبيعة وما فيها من صنوف الكائنات، غير أن ذلك يستوجب أن يكون الإنسان نفسه «ذاتا، عارفة، عالمة، باحثة، منقبة»، فيصبح هناك ذات تعلم وموضوع يعلم: الذات العارفة، والموضوع المعروف، الإنسان والعالم.»
والنتيجة التي تلزم عن هذه القسمة هي ضرورة أن يخضع الإنسان لواقع العالم كما يثبته العلم، مع ضرورة أن تظل للذات حريتها، فترغب وترهب، وتحب وتكره وتختار وتدع، وتقبل وتدبر، وتجرؤ وتجبن ... إلخ.
فالعلم بالطبيعة الخارجية قيد، وانطلاق الطبيعة الداخلية على سجيتها حرية، والجمع بين ذلك القيد وهذه الحرية هي ما تريده للمواطن العربي، وإذا تقيد الناس بحقائق العلم تشابهوا على اختلاف قومياتهم وتباين أجناسهم. أما الحرية نفسها انطلاق الذات وراء طبيعتها، وها هنا يختلف الناس، فردا عن فرد أولا، وأمة عن أمة ثانيا. إنني حين أثبت حقائق الطبيعة الخارجية، فذلك «علم» والعلم واحد للجميع، أما حين اتعقب حقائق الطبيعة الداخلية، فذلك «فن» و«الفن منوع بتنوع الأفراد والأمم»، العلم موضوعي والفن ذاتي، وينبغي أن أحذر خلط العلم بأهواء الذات، أو أن أزيف الفن بموضوع يملى عليه من الخارج، وبالعلم المقيد والفن الحر يتكون الإنسان المعاصر، وعند مفكرنا أن العربي متخلف عن عصره؛ لأنه لم يكتسب العلم بالطبيعة. كما أنه لم ينشئ فنا يعبر عن ذاته؛ فهو إن عرف شيئا عن «العلم» فقد استمده من غيره ثم حفظه حفظ التلميذ لدرسه، والفن كذلك سلعة منقولة عن سوانا (عن أسلافنا أو معاصرينا)، فإذا كان في المنقول فن؛ فالفن لغيرنا عبر به عن ذاته هو، أما نحن فذواتنا مطمورة تنتظر الفنان الأصيل.
فإذا انطلقنا من هذه النقطة: الحقيقة العلمية عن الواقع التي يتشابه الناس في الخضوع لها، والعبارة الفنية التي تصور الذات، فتتشابه جميعا في الحرية عند صوغها، أسلمتنا هذه النقطة إلى نتيجة لازمة؛ وهي أننا سواسية أمام العلم والفن معا، فلا يكون التفاوت بيننا بسبب المنصب أو الجاه أو النفوذ أو الثراء، بل فلانا أصاب الحق في العلم والصدق في الفن، بالعلم المشترك نعرف العالم ونغيره، وبالحق الذاتي نعرف الإنسان ونقومه، بالعلم المشترك تنشأ الحضارة بنظمها ومصانعها وتجارتها ... إلخ، وبالتعبير الفني عن الذات تنشأ الثقافة بقيمها التي تفرق بين الحسن والقبيح، والمقبول والمرذول.
88 (6-3) قيمة العقل في تراثنا
ويضيف مفكرنا إلى هذه الثنائية التي تتميز بها الفلسفة العربية خاصية أخرى، يجعلها تقوم بدور الحلقة الرابطة بيننا وبين الأسلاف في مجال الفكر والثقافة، بحيث تجيء هذه الصلة طبيعية لا متكلفة ولا مصطنعة، وهي خاصية «المحاكاة» بالمعنى الذي فهم به أرسطو الفن، عندما ذهب إلى أن الفن محاكاة للطبيعة، أو بالمعنى الذي وصف فيه «جون ديوي» (1859-1952م) عمله في تجديد الفلسفة، والمنطق بصفة خاصة، «بأنه يريد أن يصنع لهذا العصر، مثل ما صنع أرسطو لعصره ...»
89
ومن ثم فإن علينا أن نتعقب أسلافنا لنرى ماذا صنعوا تجاه دنياهم لنصنع نحن تجاه دنيانا، ويرى مفكرنا أن أهم ما كان يميزه العربي القديم في وقفته تجاه العالم من حوله هو أنه نظر إليه نظرة «عقلية»؛ ومن هنا فإذا أردنا مواصلة السير على هدي تراثنا لنربط الحاضر بالماضي، فإن علينا أن نلتزم بهذه الوظيفة العقلية التي اصطنعوها، وإن اختلفت مشكلاتنا عن مشكلاتهم، وهو يريد أن يفهم «العقل» هنا بأنه الانتقال من مقدمة إلى نتيجة تترتب عليها، ومن وسيلة إلى غاية، ومن شاهد إلى مشهود عليه ... إلخ فالعقل في مجال الاستنباط انتقال من عبارة لفظية إلى عبارة تلزم عنها، وهو في مجال التجربة انتقال من معلوم إلى مجهول، ومن شاهد إلى غائب، ومن ظاهر إلى خفي ... إلخ؛ ومن ثم كان العقل هو الذي يتعقب الحدث إلى أسبابه أو إلى نتائجه، وبهذا التعريف للعقل تستطيع أن نقول إن العربي القديم قد يتميز به كلما تأمل أو نظر، ومن شأن هذه الوقفة العقلية أن ترد الأشتات إلى وحدة تضمها ضمة المبدأ الواحد لنتائجه المتفرعة، أو العلة الواحدة لسلسلة معلولاتها، فقد رأى العالم مؤلف من كثرة من الكائنات؛ فالتمس لها الرباط الموحد، وقل ذلك في قواعد اللغة، وأحكام الشرع. وهكذا طفق العربي يرد الكثرة إلى وحدة تبرز ما فيها من تجانس.
90
ويعتقد مفكرنا أن أرسطو كان في تحليلاته المنطقية يتجه بحديثه إلى المفكر العربي من بعده، ليجعلها هذا المفكر من أهم علامات المثقف في عصره، وهنا يتساءل: «لماذا لم تستجب الهند مثلا، للمنطق الأرسطي استجابة العرب ...؟» ويجيب «جزء من الجواب عندي أن وقفة العربي من الأمور طابعها العقل ...»
91
وهو يعتقد أن الشعب الذي يتميز بالنظرة العقلية إذا ما رأيناه في بعض حالاته يلوذ بطراوة الوجدان ورخاوته، من ضغط العقل وقسوته، فإنما نرجح عندئذ أن قد أصابه شيء من الوهن أو الضعف.
غير أن الاعتراض الرئيسي على الزعم بأن الروح العربي الأصيل روح «عاقل» هو: كيف يتفق هذا الزعم مع سيادة الشعر في الثقافة العربية القديمة، والشعر وجدان أساسا ...؟ ألم يكن للشعر مكانة عليا في الثقافة العربية؟ فكيف نوفق بين صفة الشعر الغالبة، وبين الزعم بأن العرب قد تميزوا بنظرة عقلية.
92
وإجابة مفكرنا على هذا الاعتراض تنبع من خبرته الشخصية؛ فهو هنا كأنما يتحدث عن نفسه، يقول ليس بين الأمرين تناقض يحول دون أن يجتمعا معا «فكم وقع لنا في خبرتنا الشخصية المحدودة من أمثلة لرجال جمعوا بين العقل العلمي، إذا ما كان المجال مجال عقل وعلم، ووجدان الأديب كلما استثارت وجدانهم أحداث الحياة! وإذا صدق هذا على أفراد من الناس، فماذا تكون الأمم إلا مجموعات من أفراد؟ وهو أصدق في الأمة العربية منه في أي أمة أخرى مما نعرف ...»
93
وهكذا يعود مفكرنا إلى فكرة الجمع بين «العقل والوجدان»، وإلى تكرار فكرة «الشرق الفنان»، فلئن غلبت ثقافة الوجدان على تراث الشرق الأقصى من هند وصين، وغلبت ثقافة العقل، فلسفة وعلما، في تراث أوروبا، فقد كان في شرقنا العربي ذلك الجمع المتزن بين عقل ووجدان؛ فالثقافة العربية تمثلت منطق أرسطو بكل ما فيه من ركون إلى الحدس والوجدان. وهذه المزاوجة الثقافية بين العقل والوجدان، تلائم المزاج العربي، واللغة العربية، ملائمة كاملة، فبحكم ذلك المزاج يفصل العربي بين السماء والأرض، بين المطلق والنسبي، بين اللانهائي والمحدود، بين خلود الآخرة وفناء الدنيا. يفصل بينهما ذلك الفصل الذي لا يجعل لكل عالم من العالمين أهلا غير أهل العالم الآخر، بل عنده أن أهل هذا هم أنفسهم أهل ذاك، غير أن الواحد تمهيد للثاني.
وإذا تساءلنا الآن كيف يتاح للولي المعاصر أن يتابع السير على طريق العربي القديم، كانت الإجابة: أن يكون ذلك باتخاذ الوقفة نفسها التي وقفها سلفه لينظر إلى الأمور بالعين نفسها، ألا وهي عين «العقل» ومنطقه دون الحاجة إلى إعادة المشكلات القديمة ذاتها؛ أعني أن يأخذ العربي المعاصر موقفا من العربي القديم صورته لا مادته، فيأخذ الوقفة العاقلة المتزنة ليطبقها لا على مسألة «الكبائر ومرتكبيها»، بل فيما يعرض له هو من مشكلات عصره: كمشكلة الفرد والجماعة، ومشكلات الاقتصاد ... وغيرها.
تلك كانت خلاصة سريعة للفلسفة العربية التي يقترحها مفكرنا الكبير، وعلينا قبل أن ننهي هذا البحث أن نقف قليلا لتقييم هذه المحاولة.
خاتمة: نقد وتقدير (1)
إذا أردنا تقييم المشروع الثقافي، والفلسفة المقترحة لزكي نجيب محمود، فلا بد أن نضع ذلك كله في سياقه التاريخي لنحكم عليه حكما سليما. لو أننا تأملنا مسار نهضتنا لوجدنا أنها بدأت قبل خاتمة القرن الماضي بسنتين، وعلى وجه التحديد مع الحملة الفرنسية على مصر وسقوط الإسكندرية عام 1798م، وما زلنا حتى يومنا الراهن نعيش هذه النهضة.
منذ ذلك التاريخ والأفكار تنهمر على تربتنا الثقافية، فقد بذر رفاعة الطهطاوي (1800-1783م) الكثير من البذور في المرحلة الأولى حول الحرية والمساواة، فاهتم في كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين» بما أسماه «بالحرية العمومية والتسوية بين أهل الجمعية»، وهو يقصد الحرية العامة والمساواة بين أبناء المجتمع.
ولقد عمل مفكرونا بعد ذلك، على نمو هذه البذور وإنضاجها، فعند قاسم أمين (1865-1908م) وصلت الدعوة إلى حرية المرأة إلى ذروتها، وكان أحمد لطفي السيد (1872-1963م) أول من بشر بالديمقراطية السياسية، وظهر جمال الدين الأفغاني (1839-1889م) بدعوته إلى الاحتكام إلى العقل. وواصل الإمام محمد عبده (1845-1905م) النضال ليحرر حياتنا الدينية مما علق بها من خرافة، ولينجو بعقول الناس من ظلمة الجهل.
ثم ظهرت أبعاد جديدة للحرية وللمساواة وللعقل، فدعا عباس العقاد (1889-1964م) إلى تحرير الشعر والفن بصفة عامة، ودعا طلعت حرب (1867-1942م) إلى تحرير الاقتصاد، وكتب طه حسين (1889-1973م) يدعو إلى الحرية الفكرية والالتزام بالمنهج العقلي الصرف ... إلخ إلخ.
هذه كلها أفكار تناثرت في طريق نهضتنا التي بدأت منذ نحو قرنين، لكنها ظلت أفكارا مبعثرة لا تسلك في خيط واحد ولا يجمعها عقد، ولا تحتويها فلسفة؛ ومن هنا فقد كان مشروع زكي نجيب الثقافي، والفلسفة الثنائية المقترحة، عملا غير مسبوق، فليس ثمة، فيما أعلم، محاولة لوضع فلسفة عربية قبله سوى «جوانية» عثمان أمين، وتعادلية الحكيم. (2)
أما جوانية عثمان أمين فهي ليست مذهبا بالمعنى الدقيق ولا محاولة لإقامة مذهب، وهو نفسه يقول: «الفلسفة عندي شيء آخر غير «النسق» المحكم المغلق المحيط ...»
94
وإنما هي مجموعة من الانطباعات الشخصية عن الحياة والمجتمع والثقافة، والإنسان ...إلخ، كونها من مطالعاته الكثيرة متأثرا بمجموعة من الفلاسفة والمفكرين منهم ديكارت، وكانط، وفشته، وبرجسون، ومحمد عبده ...إلخ، وهي ضرب من «التعاطف» مع الأشياء والناس لالتماس «المخبر» لا المظهر، «الباطن» لا «الظاهر»، وتفحص «الداخل» بعد ملاحظة «الخارج»، وتلتفت إلى المعنى «وإلى» القيمة وإلى «الروح» ... إلخ، لكن ذلك كله مجرد انطباعات، كما قلنا، وتجارب شخصية وهذا واضح من «اليوميات الجوانية»، التي يسجل فيها أستاذنا مجموعة من الخواطر والتجارب الشخصية المتصلة بقضايا وأحداث عامة فكرية وأخلاقية.
95 (3)
أما تعادلية توفيق الحكيم التي عرضها في كتيب لا تكاد صفحاته تزيد عن مائة وثلاثين صفحة من القطع الصغير؛ فهي سياحة تطوف على ميادين الفكر؛ لتقف عند كل ميدان منها لحظة تعطيك جرعة تفجر في نفسك بعدئذ تساؤلات وتأملات. إنها سياحة تطوف بك إلى ميادين: الميتافيزيقا، والأخلاق، والاقتصاد، والاجتماع، والسياسة، والجيولوجيا، وغيرها من فروع العلم والمعرفة. لكن هذه السياحة لا يمكن اعتبارها «فلسفة مقترحة» ولا هي «مذهب» يجمع شتات الأفكار التي تبعثرت على طريق نهضتنا منذ نحو قرنين من الزمان.
غير أن الملاحظة التي تستوقف النظر حقا هي أن الحكيم أراد من هذه المحاولة إقامة التعادل بين «العقل والقلب»، حتى إنه ذهب إلى أن اختلال التعادل بينها «كانت له نتجته الطبيعية التي لا بد أن تلازم كل اختلال في الميزان، وهي القلق»، وفضلا عن ذلك فهو يريد إقامة قاعدة أساسية للتعادل بين «الإيمان والعقل»، بين «العمل والفكر» بين «الإرادة البشرية والإرادة الإلهية»، كما يرى أن الخير والشر كليهما ضروري ليعادل الآخر ... إلخ، وكأن الأفكار التي يعرضها إرهاصات بفلسفة ثنائية أو شعور منه بحاجتنا إلى مثل هذه الفلسفة. (4)
المشروع الثقافي عند زكي نجيب محمود غير مسبوق والفلسفة العربية الثنائية المقترحة هي ضرب جديد من التفلسف، يحاول لأول مرة أن يجمع شتات الأفكار التي تناثرت على طريق نهضتنا، دون أن يضمها نسق أو تسلك في عقد واحد، وليكون لنا، بذلك «فلسفة عربية» لا تتجاهل العصر ولا تنفصل عن الماضي. (5)
لا شك أن زكي نجيب محمود كشف لنا في مشروعه، بل في كل ما كتب، عن سمة أساسية من سمات تخلفنا هي الخلط بين مجالات كان ينبغي التمييز بينها بوضوح، فنحن في كثير من الأحيان لا نفرق بين مجال الدين ومجال العلم، وبين مجال الوجدان (والدين وجدان) وبين مجال العقل، وتلك محمدة نحمدها له لأن إدراك الفروق والتمييزات بين المجالات المختلفة هي البداية الحقيقية للانطلاق والتقدم، فكل من أراد أن ينجز عملا عظيما عليه أن يحدد نفسه كما قال هيجل بحق، في حين أن الخلط وعدم التمييز أو التحديد الواضح يؤكد التخلف ويثبت التفكير البدائي الفج. (6)
وضع مفكرنا يده على مشكلة رئيسية عندنا، وهي اللحاق بركب الحضارة مع الإبقاء على هويتنا العربية، وأطلق على هذه المشكلة مرة اسم «الأصالة والمعاصرة»، ومرة أخرى الجمع بين «العقل والوجدان» أو العلم والدين، ومن أجل الوصول إلى حل لهذه المشكلة كتب «تجديد الفكر العربي» و«المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري» و«ثقافتنا في مواجهة العصر» و«ثقافتنا في مواجهة العصر» و«مجتمع جديد أو الكارثة» ... إلخ وهو جهد لم يبذله مفكر آخر في أية مشكلة. (7)
ضغط على «الدمل» عندنا عندما أدرك بوضوح أن «أس البلاء في مجال الفكر هو أن يجتمع السيف والرأي الذي لا رأي غيره في يد واحدة، وتلك كانت الحال في جزء من تراثنا، هو الجزء الذي ندعو إلى طمسه ليموت ...!» (8)
لكن هل الصورة الكونية للعلاقة بين السماء والأرض هي التي نقلناها إلى المجتمع، فانعكست على تصورنا للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، كما يقول مفكرنا الكبير، أم أن العكس هو الصحيح، بمعنى أن الواقع الماثل أمامنا هو التصور الأقوى، والصورة الحية التي ننقلها إلى السماء، وليس العلاقة «المتخيلة» بين صاحب السلطان في علياء سمائه هي التي ننقلها إلى المتربع على كرسي الحكم من أفراد البشر، أيهما أقوى وأشد أثرا: دنيا الواقع التي نعيش فيها أم دنيا المثال التي نتخيلها؟
ومن هنا فلا يجوز أن نقول إن العلاقة بين الله والإنسان التي تصورها العربي في تراثه، هي الشكل المستتر للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، ذلك لأن العكس، في رأينا، هو الصحيح؛ فالإنسان يرتفع من الأرض إلى السماء فيتصور السماء على غرار ما هو على الأرض؛ ولهذا كان المصري القديم يصور السماء على هيئة نهر عظيم أشبه بنهر النيل، ولم يجد غضاضة في تصوير السفن التي تسير في السماء بين الكواكب، وكما كان اليوناني في ديانته القديمة يصور كبير الآلهة «زيوس» على غرار الرجل اليوناني الذي يستمتع بحياته ويجري وراء النساء، ويخون زوجته المخلصة الوفية، وأما زوجته «هيرا» فقد كانت راعية الزواج والأسرة تمثل المرأة اليونانية المتهورة المغلوبة على أمرها. (9)
فليس صورة السماء (أو العلاقة بين العبد وربه) هي التي انعكست في النظام السياسي، وإلا فماذا نقول في أمر الآيات القرآنية الكريمة، التي تذهب إلى أن هذه العلاقة تقوم على الحب:
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم [المائدة: 54]، وفي الحديث القدسي: «لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به»، وغير ذلك كثير مما بنى عليه صوفية الإسلام مذهبهم في الحب الإلهي بنوعيه: حب الله للإنسان وحب الإنسان لله. (10)
أما الفلسفة الثنائية المقترحة فهي ليست مستقرة عند مفكرنا الكبير؛ فهو يعتقد أنها ثنائية لا تسوي بين الشطرين، بل تجعل للشطر الروحاني (الله، الخالق، الروح ... إلخ) الأولوية على الشطر المادي (الكون، المادة، الجسد ... إلخ)؛ فهو الذي أوجده، وهو الذي يسير ويحدد له الأهداف «وواضح أننا هنا أمام واحدية؛ إذ يمكن أن يرد الشطر المادي إلى الشطر الروحاني! ثم يقول أحيانا أخرى أنها نظرة تجمع بين الثنائية والكثرة، ثنائية بالنسبة إلى الله الخالق والكون المخلوق، وكثرة بالنسبة لأفراد الناس الداخلين في حدود هذا الكون المخلوق، ثم نراه يميل، بصراحة ووضوح، إلى الواحدية لا سيما في المقالات التي كتبها تحت عنوان «من إشعاعات التوحيد». (11)
الفلسفة الثنائية، بصفة عامة، تعتمد على عنصرين لا يمكن رد أحدهما إلى الآخر، وها هنا تكمن صعوبتها الرئيسية، التي تجلت في ثنائية ديكارت في العلاقة بين النفس والبدن، والغدة الصنوبرية الشهرية التي اتضح أنها خاطئة بعد ذلك. ولقد بذلت المدرسة الديكارتية بعد ذلك جهودا مضنية لحل المشكلة باءت كلها بالفشل، والصعوبات التي واجهت ثنائية القرن السابع عشر ، سوف تطل برأسها من جديد، مع أي ثنائية تتحدث عن «المادة والروح» أو النفس والبدن ...إلخ. (12)
في ظني أن هذه الفلسفة الثنائية المتقرحة ليست فلسفة تضرب بجذورها في تراثنا، بقدر ما هي مشكلة كان يعانيها زكي نجيب محمود نفسه طوال حياته: فهو يحمل في شخصه حس الفنان وصرامة العالم، وهو يجمع في أعماقه بين شفافية الوجدان، وجفاف العقل الخالص ... إلخ؛ ولهذا كانت المشكلة أساسا هي مشكلة، وزكي نجيب محمود الأديب الفنان صاحب المقال الأدبي الشهير، وعالم المنطق العقلاني الجاف، فكيف يدخل الاثنان في إرهاب واحد؟ (13)
صيغة «الأصالة والمعاصرة» أو «العقل والوجدان» وهي الصيغة المقترحة لحل مشكلاتنا تصطدم بعقبات كثيرة: فهل المعاصرة «هي العقل» والأصالة هي «الوجدان»؟ في هذه الحالة نكون قد حكمنا على التراث كله، بأن أشبه ما يكون بالعمل الفني الذي لا تستطيع أن نتعامل معه إلا بوجداناتنا؛ مع أننا كثيرا ما نعود إليه بوصفه يشتمل على نماذج كثيرة من ثنائية العقل والوجدان معا! (14)
كيف يستقيم القول بأن وقفة العربي من الأمور «وقفة عقلية»، وأن الشعب العربي يتميز بالنظرة العقلية، مع تأكيدنا في الجانب السلبي من المشروع أن هناك عاملا مكبلا لأرجلنا من السير «وهو ذلك الميل الشديد الذي نحسه في نفوسنا نحو أن تكون قوانين الطبيعة لعبة في أيدي أصحاب القلوب الورعة الطيبة» ...؟
96 «ألم نقل أن تعطيل القوانين الطبيعية بالكرامات عقبة بالغة الخطورة في طريقة تقدمنا، وأننا نحس بميل دفين إلى الإيمان بها؟ وأن اللاعقلانية في جماهيرنا مغروزة في طبائعها كألوان جلودها، فجماهيرنا دراويش بالوراثة، ولا عجب أن تروج فيهم الخرافات والكرامات والخوارق.»
97 (15)
وأخيرا مهما يكن من أمر الانتقادات التي يمكن أن توجه إلى هذه الفلسفة العربية الثنائية المقترحة، فسوف يبقى لمفكرنا الكبير أنها أول محاولة لإقامة «فلسفة»، ووضع نسق للأفكار المبعثرة التي اقتصرت عليها نهضتنا حتى الآن.
ولقد كان من الضروري أن تظهر فلسفة تضم شتات الأفكار الكثيرة التي ظهرت عن الحرية، والعدالة، والمساواة، والتقدم، والتراث، والمعاصرة، والعلم، والدين، والوجدان، والعقل ... وعشرات غيرها امتلأت بها الساحة الثقافية منذ نحو قرنين، دون أن تسلك في عقد واحد، ولن يكون في استطاعتنا أن نقول إن عندنا «فلسفة عربية» ما لم تجمع هذه الأفكار في نسق واحد، وتفسرها فكرة واحدة. ولقد أخذ مفكرنا بيدنا ليخطو بنا أول خطوة على طريق التفلسف، ونأمل أن يتلوها خطوات.
الباب الثاني
الفلسفة الثنائية عند زكي نجيب محمود
الفصل الأول
زكي نجيب محمود في تيار النهضة العربية
تمهيد
في ظني أن معظم الأخطاء التي وقع فيها كل من أراد أن يقيم فكر زكي نجيب محمود، إنما ترجع إلى سبب رئيسي واحد هو عدم متابعة تطوره الفكري، والاكتفاء بالنظر إليه من خلال الوضعية المنطقية وحدها؛ ومن ثم اعتباره: «صاحب مدرسة فلسفية يثابر على إثرائها وتدعيمها منذ سنوات في إخلاص ودأب وأناة ...»
1
وما دمنا قد حكمنا عليه بأنه صاحب مدرسة، فمن الطبيعي أن تعارضه «المدارس الأخرى»، سواء أكانت يسارية كالماركسية أو يمينية كالسلفية المتزمتة، وأن ينظر إليه أصحاب اليمين وأصحاب اليسار جميعا، وكأنه لم يفعل شيئا سوى نشر الدعوة التي يقوم عليها مذهبه، وتثبيت دعائمها، على نحو ما يفعلون هم أنفسهم: «حتى استطاع أن ينمي حوله تيارا فكريا مستمدا من أصول هذه الفلسفة، وأن يدعمه بالمقالات والمحاضرات والكتب.»
2
ومن هنا كان نقد الوضعية المنطقية يعني، في الحال، نقدا لزكي نجيب محمود، حتى وإن اعترف فريق من أصحاب هذا النقد أنه «أنشأ مدرسة خاصة في داخل المدرسة الوضعية المنطقية».
3
أو اعترف غيرهم أن الدور الذي لعبه زكي نجيب محمود في ثقافتنا يختلف عما تقوم به الوضعية المنطقية في بلاد أخرى كإنجلترا أو أمريكا، وغيرهما من الدول المتقدمة، التي لا يمكن أن نقول إن هذه الفلسفة تقوم فيها بعملية تنويرية. أما عندنا «فقد كان التصدي للخرافات الغيبية بالنقد شرطا لكل نقد في بلادنا، فيما بدأت علاقات العالم القديم تسير في الاضمحلال (وقام فيها زكي نجيب محمود بدور بارز)، فألحقت سهام نقده ضررا فادحا بالقيم الرجعية ... فضلا عن أنه لم يتهاون طوال فترة ليست بالقصيرة مع الكهانة الجاهلة في الكثير من المسائل العلمية، ووجهت إليه أحجار الاتهامات الطائشة، بخلاف الحال مع ممثلي الوضعية المنطقية في شروط اجتماعية مختلفة ...»
4
ومع ذلك كله فقد أصبح من المألوف أن تصادفك في مجال الدراسات، التي تتصدى لبحث الفلسفة في العالم العربي، «كليشيات» أقرب إلى المسلمات بأن الرجل يحمل لواء الوضعية المنطقية فحسب، وأنه أكبر داعية لها، وهذا هو كل دوره في حياتنا الثقافية ... «من المؤكد أن زكي نجيب محمود هو أبرز ممثل لهذا التيار في الوطن العربي ...»
5
وكأن المسألة أصبحت بديهية لا تحتاج إلى شرح أو تفسير، فقد صدر الحكم وانتهى الأمر بأنه ممثل الوضعية المنطقية، وحامل أختامها ووكيل أعمالها لا أكثر ولا أقل! فإذا ما كتبت عنه أطروحة أكاديمية، فإنها تستهدف دراسة «الوضعية المحدثة وفلسفة زكي نجيب محمود».
6
إذ إنه: «إلى هذا الاتجاه الفكري تقدم الدكتور زكي نجيب محمود بطلب انتساب، وأصبح ممثله في الفكر العربي ...»
7
وعلى هذا النحو يسير معظم الكتاب على اختلاف مذاهبهم، واتجاهاتهم الفكرية، لا نستثني من ذلك أولئك الذين لم يدركوا الفرق بين الوضعية المنطقية، والمذهب الوضعي الفرنسي الذي وضعه أوجست كونت (1798-1857م) في منتصف القرن الماضي، فخلطوا بينهما على نحو ينم عن جهل فاضح، ثم اتهموا مفكرنا بأنه على صلة «بالاستعمار الغربي»، مثله مثل طه حسين وعلي عبد الرازق ومن لف لفهما.
8
والخلاصة أن كل ما يعلمه نقادنا - للأسف الشديد - عن زكي نجيب محمود عندما يرد ذكر اسمه، أنه صاحب «خرافة الميتافيزيقا» التي صدرت عام 1953م؛ أي منذ ما يقرب من نصف قرن. أما زكي نجيب محمود الميتافيزيقي الذي كتب في بداية الأربعينيات بحثا عن حرية الإرادة أخذ فيه بنظرية الجبر الذاتي
Self-Determinaton
وهي نظرية ميتافيزيقية في صميمها،
9
فهم لا يعلمون عنه شيئا؛ لأنهم لم يشغلوا أنفسهم بدراسة الجوانب المختلفة لتطوره الروحي. إنهم يعرفون جيدا زكي نجيب محمود، «صاحب النطق الوضعي» الذي صدر عام 1951م، أما زكي نجيب محمود المفكر التنويري الذي كتب منذ «الشرق الفنان» عام 1960م ما يقرب من عشرين كتابا، تدور كلها حول بعث الفكر العربي وتجديده، فإنهم لا يعلمون عنه شيئا، وما حاجاتهم إلى مثل هذه المعرفة، وقد حبسوا فكره في قوالب محددة واضحة سهلة هي قوالب الوضعية المنطقية، على نحو ما يفهمها أصحابها في إنجلترا والولايات المتحدة؟! في استطاعتهم بعد ذلك أن ينهالوا عليها نقدا وتجريحا مستخدمين انتقاد الماركسيين الإنجليز على وجه الخصوص! وكأنه لا فارق بين ما فعله مفكرنا وما فعله كارنب وآير وغيرهما!
ولو أن الرجل أراد أن يكون مدرسة، كما يزعم هؤلاء النقاد، تنشر مبادئ الوضعية المنطقية، وتترجم نصوصها وتروج أفكارها لوجد عشرات من تلاميذه على استعداد تام للقيام بمثل هذا الدور منذ زمن بعيد.
10
ولا سيما وأن كل من تتلمذ على يديه لم يستطع أن يفلت من سيطرته القوية على عقول الشباب منذ اللحظة التي بدأ فيها التدريس بالجامعة، فهذا واحد من ألمع مفكرينا يصف تأثيره عليه عندما كان تلميذا له في أواخر الأربعينيات فيقول: «الحق أن أصدق وصف ينطبق على التأثير العميق الذي تركه أستاذنا في تلاميذه، هو ذلك الذي أطلقه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط على التغيير، الذي أحدثته في عقله كتابات فيلسوف إنجلترا الأكبر: ديفيد هيوم، وذلك حين قال: لقد أيقظني هيوم من سبات اليقين الجازم الذي لا يتشكك في شيء. ولقد كان هذا بعينه هو ما أحدثته محاضرات الدكتور زكي في عقولنا، ونحن في منتصف تعليمنا الجامعي ...»
11
معنى ذلك أن أثره في تلاميذه كان قويا وعارما: «فمن وراء مظهره الهادئ وصوته الخفيض إعصار مدمر ...!»
12
وتلك شهادة يعلنها تلاميذه في كل مكان، فلو أنه أراد أن يكون مدرسة، كما يقول أصحاب النقد المتسرع، لوجد من تلاميذه من يؤلف ومن يترجم، ومن ينقل الوضعية المنطقية بشتى زواياها وأبعادها إلى الثقافة العربية، لكنه لم يفعل بل كانت معظم الرسائل الأكاديمية التي أشرف عليها إبان أستاذيته بالجامعة، تدور حول موضوعات فكرية لا علاقة لها بالوضعية المنطقية! ...
13
وهذا يدل على أن اهتمامه بهذا المذهب كان لأسباب تنويرية في المقام الأول؛ فهو من المذاهب التي شنت حربا لا هوادة فيها على الخرافة، وهو من أقرب المذاهب إلى العلم والتفكير العلمي، هو في النهاية منهج، لا يتقيد، بمضمون معين.
ولعل سوء الفهم الواسع لفكر هذا الرجل، وما ترتب عليه من نظرات ضيقة تعدت تماما عن تقديره تقديرا سليما، هو الذي اضطره إلى أن يعلن أكثر من مرة توضيحا لموقفه، للذين لم يفهموا الدور الذي يريد للوضعية المنطقية أن تقوم به فيقول: «لقد كنت لسنوات طوال مخطئا بين مخطئين؛ لأنني كنت بدوري أتعصب لتيار فلسفي معين، على ظن مني بأن الأخذ به يقتضي رفض التيارات الأخرى، لكني اليوم، مع إيماني السابق بأولوية فلسفة التحليل على ما عداها من فلسفات عصرنا، أومن كذلك بأن الأمر بين هذه الاتجاهات الفلسفية إنما هو أمر تكامل في نهاية الشوط.»
14
لم يقرأ أصحاب الأحكام المبتسرة السابقة عبارة كهذه، وهي ليست بالقطع تبرؤا من المذهب الوضعي المنطقي، أو التجريبية العمية كما يحلو له أن يسميها، أو تنصلا منه، وإنما هو إعلان بأن المسألة ليست تعصبا لمذهب. إنه تصريح ضمني بأنه استفاد من هذا المذهب، وأنه وظفه «لصالح الفكر التنويري».
15
وأنه تجاوزه بعد أن تطور فكره وصقلته التجارب: «علمتني خبرة السنين، بين ما علمتني، أن من أخطر مزالق الفكر أن أقيد نفسي في حدود إطار مذهبي، تقييدا يجعلني أرجع في كل أموري إلى مبادئ قبلته، وما لم يتفق معها رفضته؛ وذلك لأن الخبرة علمتني أن تيار الحياة أغزر جدا من أن يلم به مذهب واحد بعدد قليل من المبادئ والقواعد؛ ولذلك كان من التطور الطبيعي في حياتي الفكرية، دون أن تعمد شيئا عن تخطيط وتدبير، أن أجدني قد اتخذت لنفسي في اتجاهات الفلسفة المعاصرة اتجاها هو في حقيقته «منهج للتفكير»، لا «مذهب» يورط نفسه في مضمون فكري بذاته، فكنت كمن وضع في يده ميزانا يزن به ما يشاء، دون أن يملأ يديه بمادة معينة لا بد أن تكون هي وحدها موضع الوزن والتقدير ...»
16
لم تكن الوضعية المنطقية، إذن، سوى مرحلة في فكر زكي نجيب محمود، توقف عندها قليلا، وتأملها طويلا، ودرسها بعمق كيما يستفيد منها في هدف أعلى هو المهمة التنويرية التي يقوم بها.
17
ومن ثم فإننا نسيء فهمه أولا، ونظلمه ثانيا، ونغفل الدور الذي قام به ثالثا، إذا ما توقفنا عند هذه المرحلة، أو حكمنا على دوره من خلالها فحسب، بل إن على الباحث الجاد، إذا أراد أن يكون منصفا لهذا المفكر، أن يتتبع تطوره الروحي محاولا أن يضعه في مكانه الصحيح من خارطة النهضة الثقافية العربية، وبين كبار مفكرينا التنويريين الذين قاموا بهذه النهضة منذ أوائل القرن الماضي وحتى يومنا الراهن ...! ومن ثم فلا مندوحة لنا عن القيام بعرض سريع لمسار نهضتنا التي بدأت مع الحملة الفرنسية، إلى أن نصل إلى زكي نجيب محمود المفكر والأديب؛ لنتعرف على إسهاماته في هذه النهضة.
مسار النهضة
إذا كان المؤرخون الغربيون يحددون النهضة الأوروبية بسقوط القسطنطينية عام 1453م على يد الأتراك العثمانيين، بعد أن فتحها محمد الثاني الملقب بمحمد الفاتح، فإننا نستطيع أن نحدد «نهضتنا العربية» بغزو الغرب، هذه المرة للشرق على يد نابليون وسقوط الإسكندرية عام 1798م؛ أي قبيل فاتحة القرن التاسع عشر بسنتين.
18
منذ ذلك التاريخ بدأ عصر نهضتنا الذي ما زلنا نعيشه حتى يومنا الراهن، دون أن نتجاوزه إلى ما يمكن أن نسميه في تاريخنا «بالعصر الحديث»، غير أن هذه الفترة الطويلة، التي طالت أكثر مما كان ينبغي لها، لم تكن كلها مسطحا واحدا متصلا، بل كانت متدرجة في مستويات ثلاثة كل منها يرتفع على سابقه بدرجة؛ كالعمارة الإسلامية حين كانت تجعل الطابق الثاني من البناء أوسع رقعة بدوره من الطابق الثاني، فبرغم ما بين الطوابق الثلاثة المتعاقبة من استمرارية تجعلها عمارة واحدة، كانت بينها فروق في السعة كل منها أوسع من سابقه.
19
وكان كل مستوى من تلك المستويات الثلاثة في مسار نهضتنا ينتهي بثورة تنقلنا إلى المستوى الأعلى، لكن تلك الثورة كانت تجيء نتيجة لازمة للمخاض الفكري السابق عليها، فثورة عرابي هي نهاية المرحلة الأولى، وثورة 1919م هي نهاية المرحلة الثانية، وثورة 1952م هي نهاية المرحلة الثالثة.
فما هي هذه المستويات الثلاثة؟ وكيف كان مسار نهضتنا منذ بدأت حتى الآن؟! وأين يوضع فكر زكي نجيب محمود في هذا المسار؟!
المستوى الأول
عندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر كان العالم الإسلامي عامة، والوطن العربي خاصة يعيش في: «ظلمة حالكة، ومحنة شاملة، وجهل مطبق، وظلم فادح، وفقر مدقع» على حد تعبير أحمد أمين.
20
ولقد وصف مسيو فولني
Volney
السائح الفرنسي الذي زار مصر والشام، هذه البلاد في آخر القرن الثامن عشر بقوله: «إن الجهل في هذه البلاد عام وشامل مثلها مثل سائر البلاد التركية يشمل الجهل كل طبقاتها، ويتجلى في كل جوانبها الثقافية من أدب وعلم وفن، والصناعات فيها في أبسط حالاتها، حتى إذا فسدت ساعتك لم تجد من يصلحها إلا أن يكون أجنبيا» ...
21
ويتحدث غيره عن الذين بلغوا من العلم مرتبة القراءة والكتابة فيقول: «إن مصر حين وليها محمد علي لم يكن بها أكثر من مائتين يعرفون القراءة والكتابة، باستثناء من القبط ...»!
22
وقل مثل ذلك بالنسبة لبلاد الشام؛ إذ يذكر «بورج» أنه لم يكن في دمشق أو حلب بائع كتب واحد!
23
حتى إن الحكومة المصرية تخشى تعليم الرياضة والطبيعة، وتستفتي شيخ الأزهر «هل يجوز تعليم المسلمين العلوم الرياضية كالحساب والهندسة؟!» فيجيب الشيخ في حذر: «يجوز مع بيان النفع من تعلمها»، كأن هذه العلوم لم يكن للمسلمين عهد بها، ولم يكونوا من مخترعيها وذوي التفوق فيها».
24
على هذا النحو كان الوطن العربي منعزلا منغلقا على علوم العصور الوسطى، يحفظ بعض الكتب ويجبرها، ويكتفي بتقديم شرح على متن أو حاشية على شرح! ولم يكن بينه وبين الشعوب الأوروبية اتصال في جوانب الثقافة أو الصناعة أو نظم الحكم، إلخ حتى جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر، تحمل معها صورا جديدة وأفكارا وقيما جديدة، فأسهمت في كسر الحاجز الذي بناه العثمانيون من الخرافات والشعوذة حول عقول الشرقيين.
25
ومن المصادفات الغريبة أن ينسحب الجيش الفرنسي في 15 أكتوبر عام 1801م، وهو نفس اليوم الذي ولد فيه رفاعة الطهطاوي رائد النهضة الحديثة!
كان رفاعة الطهطاوي (1801-1873م) هو باذر البذور في المرحلة الأولى، وهي البذور التي أخذت تنبت نباتها حتى استنفدت طاقاتها، فجاءت في خاتمتها ثورة عرابية، والبذور التي بذرها إنما هي فكرة الحرية في صورة الجنينية الأولى، وهذه الفكرة هي المعيار الدقيق لقياس درجات صعودنا، فكلما ازدادت الحرية عمقا، ازداد ارتفاعنا على طريق النهضة درجة بعد درجة.
26
ويكتب الطهطاوي في كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين» فصلا بعنوان: «في الحرية العمومية والتسوية بين أهالي الجمعية»؛ أي في الحرية العامة والمساواة بين أبناء المجتمع. وهو يقسم هذه الحرية خمسة أقسام: طبيعية في المأكل والمشرب، وسلوكية في إطار الأخلاق، ودينية تكفل حرية العقيدة، ومدنية تنظم التعامل بين الناس، وسياسية وهو أن تكفل الدولة للمواطن الحريات السابقة.
فالحرية السياسية لم تكن تعني عنده مشاركة الشعب في الحكم، فذاك أمل بعيد المنال! على أن هذه الحريات تتضمن «المساواة»، فهي تنصرف إلى جميع المواطنين على حد سواء، لم يفرق بين رجل وامرأة؛ ومن ثم يمكن اعتباره أول من دعا إلى حرية المرأة دعوة انتهت إلى ذروتها عند قاسم أمين. كما أنه كان أول من بشر بالديمقراطية السياسية التي صاغها فيما بعد أحمد لطفي السيد (1872-1963م)، بل كان الطهطاوي بمثابة الصيحة الأولى «نحو الإصلاح الزراعي» بالمعنى الاشتراكي الذي نفهمه اليوم، عندما كتب فصلا عنوانه «مطلب في تقسيم الأرض بين مالكها وزراعها»: «ينحو فيه باللائمة على ملاك الأرض الذين لا يعطون الأهالي إلا بقدر الخدمة والعمل، وعلى مقدار ما تسمح به نفوسهم في مقابل المشقة!»
27
وفي نفس هذه المرحلة ظهر جمال الدين الأفغاني (1839-1897م)؛ ليجد التربة المصرية قد أصبحت صالحة للثورة، بفضل التنوير الذي أحدثه الطهطاوي بتعاليمه: «لقد جرب الأفغاني أن يبذر بذورا في فارس والأستانة فلم تنبت، ثم جربها في مصر فأنبتت ...»
28
ثماني سنوات قضاها الأفغاني في مصر (من مارس 1871 حتى أغسطس 1879م)، كانت من خير السنين بركة على مصر وعلى العالم الشرقي؛ لأنه كان يدفن في الأرض بذورا تتهيأ في الخفاء للنماء، وتستعد للظهور ثم الإزهار، فما أتى بعدها من تعشق للحرية وجهاد في سبيلها فهذا أصلها.
29
والأفغاني، إلى جانب اهتمامه بفكرة «الحرية»، يهتم أيضا بفكرة صاحبتها منذ بداية النهضة حتى الآن، وأعني بها «الأحكام إلى العقل»، فيؤلف رسالة في الرد على الدهريين (أو الماديين)، يحتكم في كل خطوة من خطوات السير إلى ما ظن أنه حجة عقلية، فهو مثلا يحاول البرهنة على أن نظرية التطور تقوم على الصدفة، على حين أن نظام الكون نظام مدبر، ولا يجوز عند العقل أن تلد المصادفات العمياء مثل هذا النظام المحكم. كما أن نظرية التطور تجعل اللامتناهي ينتج عن المتناهي، وهو ما لا يجوز عند العقل ... إلخ.
30
لكن الأفغاني، وإن يكن قد اضطلع بدوره على الضوء الذي ألقاه رفاعة الطهطاوي من قبله، فقد ارتفع بفكرة الحرية على المستوى الأول نفسه، عندما نقل الولاء للحاكم الذي افترضه الطهطاوي ليجعله ولاء للشعب.
31
وهكذا اشتدت الإرهاصات الفكرية في المرحلة الأولى، حتى تمخضت آخر الأمر عن ثورة عرابي، التي كانت أول ثورة رفعت شعار مصر للمصريين، وإن كانت قد اكتفت بإزالة الحرمان عن المصري، دون أن تشكك في حقوق الفئات الأخرى الدخيلة من أتراك وجراكسة!
32
المستوى الثاني
انتهت ثورة عرابي بدخول المستعمر البريطاني مصر عام 1882 لتبدأ المرحلة الثانية في مسار نهضتنا الحديثة، وهنا يظهر على المسرح عمالقة يشدون الأبصار والأسماع: الإمام محمد عبده (1849-1905م).
33
يناضل ليحرر حياتنا الدينية مما علق بها من خرافة؛ ولينجو بعقول الناس من ظلمة الجهل، غير أن أهم ما عني به هو توضيح العقائد الأساسية في الإسلام توضيحا يبين استنادها إلى منطق العقل، فتراه في كتابه «الإسلام والنصرانية» يفصل القول في الأصول التي يقوم عليها الإسلام ، ويجعل الأصل الأول لهذا الدين هو «النظر العقلي» يقول «أول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي، والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح، فقد أقامك منه على سبيل الحجة، وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يثور عليه؟!»
34
أما الأصل الثاني للإسلام فهو «تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض؛ فقد اتفق أهل الملة الإسلامية على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه وتفويض الأمر إلى الله في علمه. والطريق الثاني تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل ...»
35
وعلى المسرح ظهر من العمالقة قاسم أمين (1865-1908م)، بدعوته إلى تحرير النصف المستعبد من الأمة؛ أعني المستعبد مرتين: فهو أولا مستعبد من الرجل ثم هو والرجل مستعبدان للمستعمر! كما ظهر مصطفى كامل (1874-1908م) بزعامته السياسية التي اتجهت نحو تحرير البلاد من المستعمر، وأحمد لطفي السيد (1872-1963م) وإصراره على أن تقيد الحكومة سلطانها، بحيث لا تسيطر إلا على ما تدعو الضرورة إلى سيطرتها عليه، وهي ثلاثة: الجيش، والشرطة، والقضاء، وفيما عدا ذلك من المرافق والمنافع، فالولاية للأفراد والمجاميع الحرة! وكان من أبرز مبادئ الحركة اللبرالية التي قادها لطفي السيد مبدأ: أن تكون السيادة للقانون لا للأشخاص، وأن يحكم الحاكم بإرادة الشعب لصالح الجمهور كله، لا لصالح طبقة معينة أو فرد بذاته، ثم مبدأ أن تكون مصر للمصريين، ولكنه هذه المرة أوسع معنى مما كان عليه في شعار الثورة العرابية: لأن معناه هذه المرة أن تستقل مصر عن الأتراك مع استقلالها عن الإنجليز، وكان من مبادئه أيضا أن حرية الوطن لا تتحقق إلا إذا تحققت حرية المواطن، على أن حرية المواطن لا تتحقق إلا في ظل حرية سياسية، يكون معناها أن يشترك كل فرد في حكومة بلاده إشراكا تاما كاملا، وهذا هو معنى نسميه سلطة الأمة! وهنا نلحظ الوثبة الهائلة التي انتقلنا بها من المعنى الضيق للحرية السياسية كما فهمها الطهطاوي، إلى معناها كما حدده لطفي السيد، هذا كله فضلا عما سعى إليه لطفي السيد من تطوير التعليم، الذي أراد له أن يكون تنمية للحرية الفكرية بعد أن كان منحصرا في إعداد الموظفين للحكومة، وكذلك أيد لطفي السيد دعوة قاسم أمين في حرية المرأة، لكنه هنا أيضا قفز بالمعنى المقصود عاليا، فبعد أن كانت حرية المرأة عند قاسم أمين تعني أن تكشف المرأة عن وجهها برفع الحجاب، أصبحت عند لطفي السيد تعني حق المرأة في التعليم حقا مساويا لحق الرجل فيه، وتمخضت هذه الإرهاصات الفكرية عن ثورة 1919م التي انتقلنا بها درجة أعلى!
36
المستوى الثالث
على الرغم من أن زكي نجيب محمود ولد في المرحلة السابقة 1905م، فإن تكوينه العقلي أولا، ثم إنتاجه الفكري بعد ذلك، كان ولا يزال، داخل هذا المستوى الثالث؛ فهو في مرحلة التكوين في عشرينيات القرن وثلاثينياته، يقبل إقبالا شديدا على متابعة الحياة الثقافية، متابعة كادت ألا تترك كتابا أو مقالا مما كان يكتبه أعلام الحرية الفكرية والأدبية في مصر لا سيما في الفكرتين الرئيسيتين «فكرة الحرية» من ناحية، و«فكرة العقل» من ناحية أخرى.
37
ولقد كانت حياتنا الثقافية في هذين العقدين نشطة، فيذكر أحمد أمين مثلا في كتابه «حياتي»، أنه كانت هناك مدارس الأصدقاء من ذوي الثقافة الإنجليزية، يكثر فيها الحديث عن شكسبير وديكز، وماكولي، وشو، وه. ج. يلز ... إلخ، وجمعية أخرى من أصدقاء من ذوي الثقافة الفرنسية، يكثر فيها ذكر جان جاك روسو، فولتير راسين، وموليير، ودوركايم ... إلخ، ثم التقت الجمعيتان في تحرير جريدة أسبوعية اسمها «السفور»، تدافع عن آراء قاسم أمين في تحرير المرأة وتدعو إليها.
38
غير أن هذه المرحلة تشهد أبعادا جديدة لفكرتي «الحرية» و«العقل»، لم تطرأ للسابقين على خاطر، فها هو عباس العقاد (1889-1964م)، يدعو إلى تحرير الشعر والفن بصفة عامة، وينتهي إلى نظريته الشهيرة التي تذهب إلى «أن الجمال والحرية وجهان لحقيقة واحدة»، في الوقت نفسه فكرة التحرير تشمل الموسيقى، فها هو سيد درويش (1893-1923م) يعمل على تحرير الموسيقى من صيغتها القديمة التي كانت تستهدف الطرب، لتصبح تصويرا أو تعبيرا لما يتردد في صدور الناس بكل فئاتهم. وهذا طلعت حرب (1867-1942م) يدعو للتحرير الاقتصادي بإنشائه لبنك مصر وشركاته، وهنا علي عبد الرزاق يحرر مفهوم الحكومة الإسلامي من تقليد الخلافة، ويصدر كتابه الشهير «الإسلام وأصول الحكم» عام 1952م، يعلن في آخر فقراته أن «الدين الإسلامي بريء من كل ما هيئوا حولها من رغبة ورهبة ومن عزة وقوة، إن هذه الخطط السياسية لا شأن للدين بها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم وقواعد السياسة.»
39
كذلك كان طه حسين فيما كتب داعيا إلى الفكرتين معا «الحرية» و«العقل»، أو قل إنه كان يدعو إلى الحرية الفكرية بالتزام المنهج العقلي الصرف، حتى في البحوث التي قد تبدو غير خاضعة لذلك المنهج، فها هو يقول: «أريد أن أصطنع في الأدب، هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث، والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية في هذا المنهج، هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحث خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما.»
40
وهنا أحمد أمين (1887-1954م) ولجنة التأليف والترجمة والنشر بما رفعته من مصابيح، يرى الناس على أضوائها ثقافة الأقدمين والمحدثين.
41
وأخيرا نصل إلى زكي نجيب محمود الذي يكمل بإنتاجه الغزير وفكره القوي الواضح، وتحليلاته العقلية لكثير من المفاهيم والأفكار السائدة، هذه الحركة التنويرية الكبرى التي بدأت في القرن الماضي وامتدت حتى يومنا الراهن، وهو نفسه يلخص دعوته في عناصر رئيسية تجمع الأفكار التنويرية السابقة وتزيد عليها، يقول: «أنا أدعو بكل قوتي إلى أن نزيد من اهتمامنا «بالعلم»، حتى ولو جاء ذلك على حساب الجانب الوجداني، وأدعو إلى الأخذ بأسس الحضارة العصرية وما يتبعها من ثقافة، ثم أدعو إلى البحث عن صيغة تصون لنا هويتنا، دون أن يضيع منا العيش في عصرنا ... تلك خطوط واضحة أدرت عليها كل ما بذلته من جهود ...»
42
وسوف نرى بعد قليل كيف أنه يلخص في أعماقه مسار النهضة السابقة كلها، وكيف أنه يقدم مشروعا حضاريا يضم كثرة من الثنائيات، هي التي ظهرت في نهضتنا الثقافية طوال قرن ونصف: ثنائية بين «العقل والوجدان»، ثنائية بين «المادة والروح»، «بين السماء والأرض» ... إلخ ... والحق أنه هو نفسه يجسد، بما له من إمكانات في مجالات شتى هذه الثنائية، يقول: «إنني بمثابة عدة أشخاص في جلد واحد، فهناك من تجرفه العاطفة ولا يقوى على إلجامها، ولكن هناك إلى جانبه من يوجه إليه اللوم، ويحاول أن يشكمه حتى يقيد فيه الحركة التي تقذف به إلى الهاوية، على أن هذا الشد والجذب في داخل النفس بين عاطفة تشتعل وعقل يزيد اشتعالها، لا يمنع أن ينعم الإنسان بلحظات هادئة تتصالح فيها العاطفة والعقل، فيسيران معا في اتجاه واحد ...»
43
علينا الآن أن نبدأ من البداية لنعرف قصة هذه الثنائيات، ومحاولة التصالح التي حاول أن يقوم بها مفكرنا الكبير، ناظرا إليها على أنها «قطب الرحى» في نهضتنا الثقافية الحديثة.
الفصل الثاني
الفلسفة الثنائية
(1) ثنائيات كثيرة وجذورها واحدة
للثنائية الفلسفية صور شتى: منها النظرة الثنائية إلى العالم التي تستهدف تفسيره بمنظورين مختلفين: وتلك هي الثنائية الإبستمولوجية، ومنها القول بوجود جوهرين متمايزين في عالم الواقع، وتلك هي الثنائية الميتافيزيقية: ثنائية الله والعالم، المادة والروح، وما يتفرع عنها من ثنائية بين الجسم والذهن ... إلخ. كما أننا نستطيع كذلك أن نقول إن هناك ثنائية ثقافية أو حضارية تتمثل في القول بوجود ثقافتين مختلفتين، لكل منهما خصائص معينة تتميز بها عن الثقافة الأخرى.
غير أن هذه الصور المختلفة من «الثنائية» ليست منفصلة أو متباعدة على نحو ما تبدو لأول وهلة؛ إذ إننا مثلا نستطيع أن نستخلص من النظرة الثنائية إلى الكون، وهي الثنائية الميتافيزيقية أو الأنطولوجية نظرية خاصة في تحليل المعرفة.
1
كما أننا قد نجد أن خصائص الثنائية الثقافية مرتبطة في كل حضارة بنظرة خاصة إلى الواقع وبتحليل معين للمعرفة.
2
وفي استطاعتنا أن نقول إن زكي نجيب محمود المفكر والأديب يجسد في شخصه، وفي إنتاجه الفكري، هذه الثنائيات جميعا التي تعبر أدق تعبير عن مشكلاتنا الفكرية والثقافية منذ بداية عصر النهضة العربية في القرن الماضي، كما سبق أن ذكرنا وحتى يومنا الراهن. ولم تكن الفلسفة العربية التي اقترحها في «تجديد الفكر العربي» بما فيها من ثنائيات بين السماء والأرض، أو بين الله والإنسان، أو بين العقل والوجدان ... إلخ إلخ، إلا تلخيصا للثنائية التي يعيشها مجتمعنا العربي، وخبرها مفكرنا الكبير منذ بداية نضجه العقلي، ولعل المشكلات التي تثيرها هذه الثنائية وما تسببه من حيرة وقلق ، كانت من بين الدوافع التي دفعته إلى «الوضعية المنطقية»، فلم تكن اللحظة النادرة التي تحدث عنها في ربيع عام 1946م، أو أحس فيها بما يشبه اللمحة الذهنية، تتوقد لتضيء له الطريق، سوى عثور على حل لمشكلة الثنائيات التي وجدها في ثقافة مجتمعه، بل أحس بها في أعماقه؛ ومن ثم فليس غريبا أن يصف هذا الموقف الفلسفي الجديد الذي فرق له بين مجال الوجدان، ومجال العقل، بهذه العبارات ذات الدلالة الواضحة: «لقد أراد لي توفيق الله، منذ بدأت حياتي العقلية المنتجة، أن أقع على طريق من طرق التفكير الفلسفي، رأيته كأنما خلقت له وخلق لي، ثم رأيته وكأنه أنسب ما أقدمه في عالم الفكر لأمتي؛ لأنه إذا كان الغموض والخلط بين المعاني أحد الأمراض العقلية التي أصابت أمتي، فتلك الطريقة من طرق التفكير هي من أنجح وسائل العلاج، وأما تلك الطريقة فهي أننا إذا كنا في مجال العلم: فلا بد أن يجيء القول الذي نقوله مما يطابق الواقع عند التطبيق. أما مجالات القول الأخرى فلكل مجال منها معياره الخاص ...»
3
وعلينا أن ننتبه جيدا إلى أمثال هذه العبارات الهامة، التي تدل أولا على أنه كان يعاني من مشكلة الثنائية بين مجالي العلم والوجدان، وأنه كان يعتقد أن الخلط بينهما، بله الخلط بين المعاني والأفكار والمفاهيم مرض يسود ثقافتنا، وأنه وصل إلى الوضعية المنطقية بوصفها حلا منطقيا لما تعانيه هذه الثقافة من اضطراب ومشكلات، لا سيما في تفرقة هذه الفلسفة الأساسية بين هذين المجالين الرئيسين من مجالات القول؛ ولهذا فإننا كثيرا ما نجده يعبر عنها كما لو كان يعرفها من قبل! فهذا الموقف الفلسفي الجديد الذي عثر عليه في لحظة نادرة من ربيع 1946م، كان على حد تعبيره: «كأنما هو ثوب فصل على طبيعة تفكيري، تفصيلا جعل الرداء على قد المرتدي، بل إني شعرت في اللحظة نفسها بأنه إذا كانت الثقافة العربية بحاجة إلى ضوابط تصلح لها طريق السير، فتلك الضوابط تكمن ها هنا ...»
4
ونحن نستشف من هذه العبارات أنه كان يعاني بالفعل مشكلات ثقافية ، هي تلك الثنائيات التي سوف نتحدث عنها بعد قليل، وأن فكره كان يتجه في مجرى معين قبل أن يتعرف على الوضعية المنطقية، فلما عرفها شعر أنها جاءت ملائمة تماما لمجرى هذا التفكير!
ثنائية العقل والوجدان سمة أساسية في حضارة الشرق، وهي كذلك عند مفكرنا؛ ولهذا كان زكي نجيب محمود في أعماقه، وفي حياته، وفكره، كأنما هو التجسيد الحي «للشرق الفنان» الذي يجمع بين النظرة الذاتية المباشرة إلى الوجود، التي تجعله خطرة من خطرات النفس أو نبضة من نبضات القلب ... وهي نظرة الروحاني المتصوف والشاعر والفنان ... وبين نظرة العالم الذي يقيم بينه وبين الكائنات حاجزا من قوانينه ونظرياته.
5
لكن هذا الشق الثاني غير موجود الآن، وتلك هي مشكلة الشرق «الأوسط»، وتلك هي مشكلة الثنائية في الثقافة العربية التي عاناها مفكرنا منذ مطلع نضجه العقلي، ولم يستطع أن يوفق بينها فكيف يجتمع العقل والوجدان في تصور نظري عام ...؟! ثم جاءت الوضعية المنطقية لتعطيه تفرقة بين مجالين كان يستشعرهما بداخله، فكأنما أعطته الإطار النظري الذي كان يبحث عنه، وإن كانت استفادته من هذا المذهب لم تتعد الخطوط العريضة التي تعينه على حل مشكلاته، ومشكلات أمته الفكرية، من حيث هو «منهج»، دون أن يتقيد بحرفيته كمذهب أو يورط نفسه في مضمون فكري بعينه: «فكنت كمن يضع في يده ميزانا يزن به الأشياء، دون أن يملأ يديه بمادة معينة، لا بد أن تكون هي وحدها موضع الوزن والتقدير ...»
6
وعلى ذلك فإن النظرة الثنائية التي لخصها في كتابه «الشرق الفنان» عام 1960م، ووصفها بأنها بمثابة حجر الزاوية في بناء فكري جديد، ظهرت معالمها الكبرى خلال السبعينيات في تجديد الفكر العربي و«المعقول واللامعقول في تراثا الفكري» وثقافتنا في مواجهة العصر.
7
أقول لم تكن هذه النظرة «جديدة» إلا في وضوح معالمها، وتحديد خطوطها الرئيسية، على نحو محدود متميز، ولهذا فقد كان على حق تماما في قوله: إن هذا البناء الفكري الجديد جاء ليكمل، لا لينقض، ما أنجزه خلال الخمسينيات من تحديد لمنهج التفكير العلمي.»
8
ذلك لأن بذور هذه الثنائية كانت قائمة في أعماق وجوده متغلغلة في تفكيره طوال حياته على نحو متوازن بين العقل والوجدان، وهو يرجو أن يحدث هذا التوازن في ثقافتنا العربية، ونحن عندما نقول إنه يجسد في شخصه هذه الثنائية المتوازنة والمرجوة لمجتمعنا، فإننا نقصد المعنى الحرفي لهذه العبارة، فهو عندما أراد مثلا، أن يكتب سيرته الذاتية لم يجد أمامه مفرا من تصويرها في قالب «ثنائي واضح»، فيكتب كتابين منفصلين: «قصة نفس» يحكي أعماق الجانب الذاتي الباطني غير المرئي، ثم «قصة عقل» الذي يروي تطوره العقلي في فترة تزيد على ستين عاما! وإنك لتلمس هنا وهناك، داخل كل كتاب من هذين الكتابين ضربا واضحا من الثنائية لا سيما ثنائية «العقل والوجدان» «ثنائية العالم والفنان» ... وهو عندما يريد، مثلا آخر، أن يصور نفسه من الداخل، في «قصة نفس» يختار لها شخصيتين رئيسيتين تمثلان هذه الثنائية بوضوح كامل: شخصية الأحدب «رياض عطا»، صاحب الوجدان الملتهب، وشخصية «إبراهيم الخولي»، صاحب العقل الواضح والأسلوب العلمي.
9
ويدور حول أحيانا - ينقلب إلى صراع أحيانا أخرى - بين هاتين الشخصيتين بحثا عن الكيفية التي يمكن بواسطتها التوفيق بين «العقل والوجدان»، بحيث يكون هناك انسجام أو توازن بين هذين الجانبين، فلا يطغى جانب على جانب، يقول الثاني للأول توضيحا لموقفه: «لست أقل منك حرصا على مشاعر الإنسان وآماله ومثله العليا، هذه المشاعر والآمال والمثل التي زعمت لي في خطابك الأخير، أنني سائر بمذهبي نحو هدمها ، كل ما هنالك من أمر في هذا الصدد، هو أنني أفرق بين لغة العقل ولغة الشعور، فمن لا يريد أن يتحدث عما يقع في حسه مما يتاح للآخرين أن يراجعوه فيه بحواسهم؛ فهو لا يريد أن يتحدث بلغة العقل، وليس في ذلك رفع ولا خفض للغة المشاعر، بل الأمر أمر تفرقة بين نوعين مختلفين من الكلام، فإذا كان المجال مجال علم فلا يجوز للشعور أن يتسلل إلى سياق الحديث بألفاظه الدالة على وجدان، أما إذا كان مجال أدب وفن فليختر ما يشاء من لفظ ليثير في سامعه المشاعر التي يقصد إلى إثارتها فيه ... فلنعط ما للعقل للعقل وما للشعور للشعور ...»
10
ولعلك تلمح في هذه الوقفة الفلسفية الأثر الواضح الذي تركته الوضعية المنطقية في طريقة تفكيره: فهناك شروط ينبغي مراعاتها في أية جملة يريد لها صاحبها أن تكون ذات معنى مفهوم عن الطبيعة الخارجية، أو أي جزء محدد من تلك الطبيعة؛ ذلك مجال واحد من مجالات الكلام ألا وهو المجال العلمي، أما ما عداه من ميادين القول؛ كالشعر وغيره من ضروب التعبير الفني، فلها شروط أخرى خاصة بها يعرفها المشتغلون بتلك الميادين.
11
ومن ثم فلا يجوز أن يكون هناك خلط بين فلسفة ودين، وبين عقل وإيمان، بين منطق وفن ... إلخ، وهذا هو الموقف الذي أراده لأبناء أمته أن يستخلصوه من تراثهم، شكلا لا مضمونا، وهو ألا يجعلوا بين العقل والإيمان تعارضا، بل أن يجعلوا بينهما تعاونا للوصول إلى هدف واحد، فلكل من الأداتين قسطها من الفهم وتنظيم السلوك.
12
فيكون موقفنا كمن استكثر أن يترك العقل وحده حكما في الميدان فقالوا: نجعل للإيمان قسطا وللعقل قسطا ...
13
فهو إذا كان متحمسا للعقل على نحو ظاهر، فذلك لأن هذا الجانب ناقص في ثقافتنا، لكن ذلك لا يعني أنه يهمل ذلك الجانب الأخر؛ أعني جانب الخيال والوجدان، يقول: «من يقرأ لي فيراني متلفعا بمنطق العقل رائحا وغاديا، وقد لا يعلم أن لي خيالا يشتعل لأتفه المؤثرات اشتعالا يكتسح أمامه كل ما يعترض طريقه من قوى النفس الأخرى ...»
14 (2) البدايات الأولى للثنائية الإبستمولوجية
يحدثنا في «قصة عقل» أنه كان في العشرينيات من عمره، وبعد تخرجه مباشرة، صاحب ملحمة صوفية: «نزع إليها صاحبنا منذ فراغه من دراسته، وأخذت تعاوده حينا بعد حين وامتدت معه أعواما جاوزت أعدادها عشرة.»
15
لكنها لم تنته بعد هذه الأعوام العشرة، كما قد توحي هذه العبارة، وإنما أعيد تشكيلها لتتحول إلى نظرة الفنان التي تحدث عنها فيما بعد، ووصفها بأنها سمة الشرق الصوفي.
16
في هذه الأعوام الأولى نجد أمامنا شابا يؤمن «بوحدة الوجود»، ويكتب عنها مقالا لينشره سلامة موسى في «المجلة الجديدة»، ويكون الدافع إلى كتابة المقال «رؤية ذاتية إلى الوجود»، سوف يتحدث عنها بعد ذلك «في الشرق الصوفي»، فهو يسير وحده بين الحقول في الريف، ويقف طويلا أمام ماشية ألقيت أمامها أعواد الذرة لتطعم، فتدور في ذهنه صور متلاحقة لألوان من الوجود، يعتمد بعضها على بعض ويتحول بعضها إلى بعض، نبات يتغذى من عناصر الأرض، وحيوان يتغذى من النبات، وإنسان يتغذى من لحم الحيوان تغذية تسري في دمائه وفي أعصابه، فإذا هو يخرج غذاءه ذاك علما وفلسفة وشعرا، وتملؤه هذه الفكرة فيعود ليكتب مقالة عن «وحدة الوجود».
17
وعندما تدور الأيام متقلبة به بين سبل الفكر، فإنه يظل مبقيا في أعماقه على فكرة «وحدة الوجود»، التي تعاوده بين الحين والحين، ولعل أجمل ما كتبه فيها بعد ذلك مقال بعنوان «درس في التصوف»، نشر في عدد خاص من الرسالة في 3 مارس 1941، وهو عبارة عن حوار بين أستاذ متصوف مؤمن بوحدة الوجود، وتلميذه الشاب الذي يظهر في أول الدرس عابسا نافرا مما يقوله الأستاذ. ولقد لخص هذا المقال في كتابه «قصة عقل».
18
غير أن هذه النظرة الصوفية التي تجلت في كثير من المقالات، والتي كانت تعاوده حينا بعد حين، وامتدت معه أعواما طويلة (والواقع أنها ما زالت موجودة حتى اللحظة التي كتب فيها «قصة عقل»)، لم تكن قائمة بذاتها، بل صاحبتها نظرة علمية صارمة، يقول عن نفسه إنه: «خلال تلك الأعوام نفسها (الأعوام التي سيطرت فيها النظرة الصوفية)، كانت تغلب عليه النظرة العلمية الصارمة، التي لم تكن تريد له أن يأذن لشيء في الوجود كله أن يفلت من قبضة العلم، لا يستثني من ذلك القيم الخلقية نفسها وما نسميه بالمثل العليا ...»
19
وهذه الثنائية الإبستمولوجية التي عانى منها في صدر الشباب، هي التي لخصها بوضوح شديد في «الشرق الفنان» فيما بعد، ورأى أن جانبا منها وهو «النظرة الصوفية»، يمثل خاصية أساسية في نظرة الشرق الأقصى إلى العالم، في حين أن الجانب الآخر وهو «النظرة العلمية»، يمثل الخاصية الأساسية للفكر الغربي ... أما ثقافتنا العربية فهي تحاول - أو ينبغي لها أن تحاول - الجمع بينهما يقول: «هما إذن، نظرتان ينظر الإنسان بأي منهما إلى نفسه وإلى العالم، أو ينظر بكلتيهما: بهذه مرة وبتلك مرة أخرى؛ ذلك أن الإنسان إذ يقف إزاء الحقيقة الخارجية، فإما أن ينظر إليها خلال ذاته فيشبهها بنفسه تشبيها يدمج الطرفين في كائن واحد، وتلك هي وقفة الفنان أو المتصوف ومن لف لفهما، وإما أن ينظر إليها، وكأنه متفرج يتابع ما يجري أمامه على مسرح الحوادث، فيصفه وصفا يصلح لنفسه ولغيره من الناس على حد سواء، وتلك هي نظرة العالم ومن يجري مجراه في التفكير، وثالث الفروض أن يجمع بين النظرتين ليفرق بين أمرين، فإن كان موضوع النظر وجدانا ينبض به قلبه إزاء الكون نظر إليه بالنظرة الأولى، فكان فنانا أو متصوفا، وإن كان موضوع النظر ظواهر الأشياء الخارجية نظر إليه بالنظرة الثانية، فكان عالما أو ذا نزعة علمية ... والنظرة الأولى هي طابع الشرق الأقصى والثانية هي طابع الغرب.»
20
وأما تآلف النظرتين فهو مميز تميزت به ثقافة الشرق الأوسط في عصور ازدهارها، عندما بلغت حضارتها أوجها.
21
انظر إلى العالم من داخله تكن فنانا، أو انظر إليه من ظاهره تكن من رجال التجربة والعلم، انظر إليه وجودا واحدا حيا تكن من أصحاب الخيال البديع المنشئ والخلاق، أو انظر إليه كثرة من ظواهر يصحب بعضها بعضا، أو يعقب بعضها بعضا، تكن من أصحاب النظر العقلي الذي يستدل النتائج ويقيم الحجج والبراهين، ذلك بطبيعة الحال، بل ينبغي لك إن أردت لنفسك تكامل الجانبين، أن تجمع بين النظرتين، فتصبح الفنان حينا، والعالم حينا. ولقد اجتمع الطرفان: العقل والوجدان، في ثقافة الشرق الأوسط، وهو في قمة مجده، على نحو من التوازن الذي ربما لم يتحقق بالدرجة نفسها في أية ثقافة أخرى. والمشكلة في هذه الثقافة الآن أن كفة الوجدان طاغية، فليس ثمة توازن. وإذا قلنا ثقافة الشرق الأوسط فإنما يعنينا منها الثقافة العربية بصفة خاصة.
22
وهي ثقافة يجسدها مفكرنا الكبير على نحو صارخ؛ ولهذا لم تكن مصادفة، كما يقول هو نفسه : «حين أنشئ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب أن وجد نفسه عضوا في لجنتين من لجانه: لجنة الفلسفة ولجنة الشعر، كما وقع علي اختيار وزارة الثقافة، في الوقت نفسه تقريبا، عضوا في لجنة تفرغ الفنانين والأدباء، وعضوا في لجنة المقتنيات الفنية، ولبثت عضوا في تلك اللجان التي جمعت بين الفلسفة والأدب والفن ما يقرب من عشرة أعوام أو زيد عليها ...»
23
كما أنه ينال التقدير مرتين: مرة جائزة الدولة للفلسفة، وأخرى جائزة الدولة للأدب ...
24
وفي مقالات الأهرام امتزجت الشخصيتان على حد تعبيره، في هوية واحدة: فالفكر ذو أعماق وأبعاد، والانفعال الوجداني ذو حرارة ونبض.
25
لكن ذلك كله لا يعني أن تشخيصه للثنائية المميزة للثقافة العربية، إنما هو «إسقاط» لا أكثر ولا أقل! فسوف نتبين فيما بعد كيف برزت هذه الثنائية واضحة في الحضارة الإسلامية، وسوف نلتقي بكثير من الأمثلة التي تؤيد هذه القضية، فثنائية «العقل والوجدان»، سمة تميزت بها ثقافتنا في عصور ازدهارها، فلما مالت هذه الحضارة إلى الانحدار، حدث الخلل بين الكفتين فرجحت كفة العاطفة والوجدان على نحو صارخ، ومهمتنا أن نعيد التوازن إلى ما كان عليه أيام الازدهار بأن نعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
26 (3) ثنائية أنطولوجية
إذا كانت الفاعلية الفلسفية هي في صميمها حفر تحت أرض الواقع الفكري، لعلنا نصل إلى الجذور الدفينة التي انبثق عنها هذا الواقع، فقد قام فيلسوفنا.
27
بهذا الحفر في الحياة الثقافية المعاصرة، ليرتد بها إلى منابتها، فتكون هذه المنابت هي ما يمكن أن نسميه بالفلسفة العربية المعاصرة، «وتدور عجلة الزمن مع صاحبنا، وإذا هو أمام قضية عقلية خاصة بالرؤية العامة التي ينظر بها الإنسان وينظر إلى العالم على أساسها، تتوقف نتائج فرعية لا حصر لعددها، فماذا تكون تلك الرؤية التي يختارها ...؟! رأى صاحبنا أن أقرب ما يمدنا بالرؤية الملائمة لنا، هو الافتراض الذي يرى أن الروح والعقل ليسا أمورا من مادة، وأن المادة الخالصة لا هي من روح ولا هي من عقل، وأن الإنسان قد اجتمع فيه الجانبان: الروح والعقل من جهة، والجسم من جهة أخرى ...»
28
تلك هي الثنائية الإبستمولوجية الأساسية عند زكي نجيب محمود، لكنها سوف تؤدي في الحال إلى ثنائية أنطولوجية يرى أنها كامنة في أعماق ضمائرنا جميعا، «أحسب أن لو تعمقنا ضمائرنا لوجدنا هناك مبدأ راسخا عنه انبعث - وما تزال تنبعث - سائر أحكامنا في مختلف الميادين، وهو مبدأ لو عرضته على الناس في لغة واضحة صريحة، لما وجدت منهم أحدا يحتج أو يعارض؛ وأعني به مبدأ الثنائية التي تشطر الوجود شطرين، لا يكونان من رتبة واحدة، ولا وجه للمساواة بينهما؛ هما الخالق والمخلوق، الروح والمادة، العقل والجسم، المطلق والمتغير، الأزلي والحادث، أو قل هما السماء والأرض إن جاز هذا التعبير.
29
ومعنى ذلك أن ثنائيتنا الأنطولوجية من نوع فريد، صحيح أنها تشطر الوجود شطرين، كما فعلت الثنائية الميتافيزيقية على مر التاريخ، لكنها تختلف عن المذاهب الثنائية في: «أنها لا تسوي بين الشطرين: بل تجعل للشطر الروحاني الأولوية على الشطر المادي؛ فهو الذي أوجده وهو الذي يسيره، وهو الذي يحدد له الأهداف ...»
30
قد يقال: وماذا كانت ثنائية أفلاطون إن لم تكن هي بعينها ما نسميه «بالثنائية الفريدة» الخاصة بنا ... ألم يشطر أفلاطون الوجود إلى وجود معقول ووجود محسوس، وجعل الثاني معتمدا على الأول، إن لم تكن مجرد «ظل» له يتصف بالتغير والحدوث والعرضية ... إلخ، في حين يتسم الأول بالأزلية والروحية؟ ألم تجعل الأولوية للمطلق المجرد على الأفراد والجزئيات؟ ويجيب الدكتور زكي نجيب بقوله : «إذا قيل إن الفلسفة الأفلاطونية وما جرى مجراها، كانت ضربا من الثنائية التي تجعل الأولوية للمطلق المجرد على الأفراد الجزئيات، قلنا: نعم! ولكن أفلاطون قد بلغ في ذلك حدا ألغى معه وجود الأفراد الجزئية وجودا حقيقيا، بما في ذلك أفراد الإنسان أنفسهم، فليس للفرد الإنساني الواحد من حقيقة عنده إلا بمقدار ما يشارك في الإنسانية بمعناها المجرد ... ولا أظن أن مثل هذا الإلغاء لحقائق الأفراد، متفق مع عقيدتنا التي تلقي على أفراد الناس تبعات خلقية عما يعملون أفرادا، لا أنواعا وجماعات، فهذا معناه اعترافنا الصريح بالوجود الحقيقي لهؤلاء الأفراد في حياتهم الدنيا، وفي حياتهم الآخرة على حد سواء ... وإذن فالنظرة الثنائية التي تناسبنا هي نظرة متميزة فريدة تجعل الكائن الإلهي الواحد المطلق في جهة، وتجعل الأفراد الجزئية في جهة أخرى ...»
31
ومعنى ذلك أننا سنجد أنفسنا أمام ثنائية أنطولوجية تتفق مع الثنائية الإبستمولوجية السابقة؛ لأنه لو كان هناك ضربان من الوجود: وجود «مطلق» ووجود «حادث»، لكان لا بد من وجود طريقين للمعرفة: وإني لأتساءل، على أساس نظرتنا الثنائية المقترحة، لماذا لا يكون للمعرفة نطاقان لكل منهما وسيلة خاصة به؟! فإذا كان الأمر أمر الحقيقية المطلقة جاءتنا المعرفة عن طريق، وإذا كان الأمر أمر الطبيعة وكائناتها جاءت المعرفة عن طريق آخر. ولا يجوز لأي من النطاقين أن يزاحم في وسائله، ولكم نشبت معارك بين أناس أرادوا تطبيق وسيلة العالم الأول على العالم الثاني، أو وسيلة العالم الثاني على العالم الأول، فكانوا يعانون من هذا الخلط شر ما يعاني من تشتت وبلبلة ولبس وغموض ...»
32
وسوف يتفرع عن ذلك بطبيعة الحال ثنائية «المنهج»، بحيث نجعل لدراسة ظواهر الطبيعة - أعني العلوم الطبيعية - منهجا خاصا ذا شروط معينة، ولما يتصل بالحقيقة المطلقة منهجا آخر. أما منهج العلوم الطبيعية فيقوم على مشاهدة الحواس وإجراء التجارب، وعلى سلامة التطبيق، فلا يعنينا من الدنيا إلا ظواهرها، بحيث لا يجوز لأنظارنا عندئذ أن تنفذ إلى ما وراء تلك الظواهر؛ لأنها بالنسبة للعلوم ليس لها وراء؛ فهي الظواهر وحدها ... أما منهج ما وراء الوقائع الصماء من حقائق؛ كالقيم الخلقية مثلا فذلك شيء آخر، قد لا نلجأ فيه إلى مشاهدة الحواس، وإلى التجارب العابرة بقدر ما نلجأ فيه إلى إدراك البصيرة أو إلى إملاء الوحي، أو إلى ما يسري بين الناس من عرف وتقاليد ...
33 (4) ثنائية ثقافية أو حضارية
إذا كانت الثنائيات السابقة، إبستمولوجية أو أنطولوجية، تمثل نظرة معرفية إلى العالم، وفهما خاصا لطبيعة الوجود الذي نعيش فيه، وكانت، من ثم، ترتبط بنظرة الإنسان الفرد إلى هذا الوجود، فإن الثنائية الثقافية أو الحضارية تعكس مشكلة المجتمع العربي الحضارية منذ خروجه من العصور الوسطى وحتى اللحظة الراهنة؛ ومن هنا تحولت هذه الثنائية إلى مشكلة تؤرق مفكرنا الكبير، كما تؤرق كل مفكر تنويري، على مستوى الوطن العربي كله، وهي تتلخص في محاولة الإجابة عن هذا السؤال: «كيف السبيل إلى ثقافة نعيشها اليوم، بحيث تجتمع فيها ثقافتنا الموروثة مع ثقافة العصر الذي نحياه، شريطة ألا يأتي هذا الاجتماع بين الثقافتين تجاورا بين متنافرين، بل يأتي تضافرا تنسج فيه خيوط الموروث مع خيوط العصر نسج اللحمة والسدى؟»
34
تلك هي المعضلة التي تتحدى المثقف العربي في زماننا ولا يدري حتى هذه الساعة كيف يحلها؛
35
ولهذا يسعى مفكرنا إلى الوصول إلى حل يؤدي بمصر خاصة، وبالوطن العربي عامة، إلى بعث جديد نواكب به العصر وفكره وحضارته، دون أن نفقد هويتنا التاريخية.
36
ولهذا تراه يصف هذه المشكلة بأنها أم المشكلات في حياتنا الثقافية: «لست أتردد لحظة حين أقرر بأن أم المشكلات الثقافية الراهنة، هي محاولة الكشف عن صيغة لحياتنا الفكرية والعملية، تجمع لنا في طيها طرفين؛ إذ تحافظ لنا على خصائصنا العربية الأصيلة، وفي الوقت نفسه تفتح لنا الأبواب على مصاريعها، لنستقبل في رحابة صدر أسس الحضارة العصرية كما يحياها اليوم روادها ...»
37
وهو يطلق عليها أحيانا اسم «مشكلة الأصالة والمعاصرة»، وربما كان هو أول من استخدم هذين المصطلحين، ويصف قضية الجمع بين أصالتنا وضرورة معايشتنا لعصرنا، بأنها كانت أهم ما تعرض له من اهتمامات بالتفكير والكتابة، إذا ما استعرض حياته الفكرية من أولها إلى آخرها ...
38
فهذه القضية التي تشغله، قضية الدمج بين الأصالة والمعاصرة، هي التي سوف تشكل لنا «المسلم الجديد»، الذي يكون مسلما يؤدي فرائض الدين ويقوم بأركانه، ثم «يسعى إلى قوة العلم في أحدث صوره، يسعى إليه من أبوابه ومن نوافذه، ومن كل ثقب إبرة يوصله إلى تلك القوة ...»
39
وكانت هذه المشكلة هي السؤال الكبير الذي طرحه أستاذنا في مقدمة كتابه «تجديد الفكر العربي»، كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها ...؟! إنه لمحال أن يكون الطريق إلى هذه المواءمة هو أن نضع المنقول والأصيل في تجاور، بحيث نشير بأصابعنا إلى رفوفنا فنقول: هذا شكسبير قائم إلى جوار أبي العلاء، فكيف إذن يكون الطريق؟ كيف السبيل إلى ثقافة موحدة متسعة يعيشها مثقف حي في عصرنا هذا، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل في نظرة واحدة؟!
40
وفي استطاعتنا أن نقول إن جهوده لا في «تجديد الفكر العربي»، ولا في «المعقول واللامعقول»، وحدهما، بل في كل ما كتبه قبل ذلك وما كتبه بعد ذلك ... إنما استهدفت الإجابة عن هذا السؤال الكبير، الذي فرض نفسه علينا طوال أمد ليس بقريب.
41
فقد فرضت هذه المشكلة نفسها على مثقفي العالم العربي، منذ اللحظة التي شعر فيها هؤلاء بوجود ثقافة ذات طابع عالمي، تجتاح الجو الفكري للبلاد العربية، ويتعين تحدي علاقاتها بالثقافة الموروثة عن الأسلاف.
42
وإن شئنا تحديدا أكثر قلنا إنها المشكلة التي أصبحت تمثل قطب الرحى في نهضتنا الحديثة، منذ جاءت الحملة الفرنسية على مصر ووصلت شواطئ الإسكندرية عام 1798م؛ أي قبيل فاتحة القرن التاسع عشر بسنين، وكان مع الحملة جماعة من العلماء الفرنسيين المتخصصين في ميادين علمية مختلفة، فكان ما صنعه أولئك العلماء أن استدعوا علماء الأزهر الشريف، جماعة بعد جماعة، ليطلعوهم على عجائب العلوم الجديدة؛ من ذلك مثلا، أن يوقفوهم صفا مشتبكي الأيدي جارا مع جاره، ثم يمسون الواقف في أول الصف بسلك مكهرب، فتسري رعدة الكهرباء في جميعهم، فأما هم فيأخذهم العجب، وأما العلماء الفرنسيون فيأخذهم الضحك! ولقد حدث يوما أن اغتاظ من تلك الألاعيب الصبيانية أحد الشيوخ، فقال لهم ما معناه: هل في علمكم الجديد ما يجعل إنسانا موجودا هنا وموجودا في بلاد الغرب في وقت واحد؟! فأجابوا بقولهم أن ليس في علومهم ذلك لأنه محال، فرد هو قائلا: لكن ذلك ممكن في علومنا الروحانية.
43
وكأن هذه الحادثة التاريخية قد رسمت بوضوح ناصع حجم المشكلة الثقافية التي نعانيها: حدودها وأبعادها، كما كشفت عن ثلاثة حلول ما زال لها أنصارها حتى هذه الساعة: فريق استمر - كالشيخ الذي أسلفنا ذكره - يرفض ثقافة الغرب، مكتفيا بأن يملأ أوعيته من كتب التراث، فكان أصيلا لكنه غير معاصر، إذ إنه غض النظر عن العصر بكل ما يضطرب به من قضايا ومشكلات فكرية، ومع هذه الجماعة تذهب عامة الناس من غير المثقفين؛ وفريق آخر - وإن كان قلة قليلة - لم يجد بأسا في أن نمحو صفحتنا محوا لنملأها بثقافة العصر وحده، كما هي معروفة في مصادرها، بغير تحريف ولا تعديل. وهكذا كان هذا الفريق معاصرا يعيش قضايا العصر، لكنه غير أصيل لا يرتبط بجذوره الثقافية الأولى. بقي فريق ثالث اهتم بتراثه اهتماما واضحا، ثم راح يطوع فكر العصر بعض التطويع، فاستكان له ولو إلى حين، وفي رحاب هذا الفريق تقع الكثرة الغالبة من أعلام الأدب والفكر في تاريخنا الحديث: محمد عبده، ولطفي السيد، والعقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وزكي نجيب محمود ... إلخ، وغيرهم مما يزدان بهم مسار نهضتنا، كما سبق أن ذكرنا بالتفصيل، على اختلاف نزعاتهم وأذواقهم، لم يرفضوا العصر، لكنهم حاولوا أن يصوغوه في قوالب الثقافة العربية الأصيلة، مع تفاوت بينهم في درجة النجاح، ومع هؤلاء القادة يذهب معظم المثقفين.
44
ولقد ركز هذا الفريق الثالث في حركته الشاملة، التي استهدفت النهوض بالحياة الثقافية العربية، لكي تواكب العصر من ناحية وترتبط بهويتنا التاريخية من ناحية أخرى؛ ركز خلاصة دعوته في فكرتين أساسيتين هما «الحرية» و«التعقيل»، وهما في الواقع وجهان لحقيقة واحدة. أما الحرية فلا تكون إلا من قيد، والقيد الذي كان قائما عندئذ، بل القيد الذي أخذ يزداد صلابة على مر القرون التي سادها الحكم التركي، هو قيد الجهل والخرافة في فهم الناس للظواهر والأحداث، وهو أيضا قيد النص المنقول الذي يفرض نفسه على الدارسين فرضا، بحيث لا يكون أمام هؤلاء الدارسين من منافذ الفكر المستقل، إلا أن يعلقوا على النص بشروح، ثم على الشروح بشروح ... وهلم جرا. وهي نفسها الحالة التي جاءت النهضة الأوروبية لتجدها جاثمة على عقول الدارسين، فكان التخلص منها والخروج عليها هو نفسه معنى النهضة ولبها .
وأما «التعقيل» فهو أن نجعل احتكامنا إلى العقل دون النزوة والهوى، وإلا وقعنا مرة أخرى عبيدا لسطوة العاطفة والانفعالات، وإذا قلنا «العقل» فقد قلنا أحد أمرين، أو الأمرين معا، فإما أن يستند الإنسان في أحكامه إلى شواهد الحس والتجربة، وذلك إذا كان موضوع البحث ظاهرة خارجية من ظواهر الطبيعة والمجتمع، أو أن يستند الإنسان في أحكامه إلى سلامة الاستدلال في استخراج تلك الأحكام من مقدماتها، وذلك حين يكون موضوع البحث فكرة نظرية، وقد يجتمع الطريقان معا في بحث واحد بعينه، فنجمع شواهد من تجاربنا أولا، ثم نكون فكرة نظرية نستدل منها إلى ما يسعنا من نتائج، وذلك هو سبيل العقل.
45
على أن الفكرتين - فكرة الحرية وفكرة التعقيل - مكملتان إحداهما للأخرى؛ لأنك إذا تحررت من قيود الجهل والوهم والخرافة، كنت بمثابة من قطع من الطريق نصفه السلبي، وبقي عليه أن يقطع النصف الآخر بعمل إيجابي يؤديه؛ كالسجين تخرجه من محبسه، فلا يكون هذا وحده كافيا لرسم الطريق الذي يسلكه بعد ذلك، وكذلك التحرر من خرافة قد يقع في خرافة أخرى؛ ولهذا كان لا بد لتكملة الطريق على الوجه الصحيح، أن تكون أمام المتحرر بعد تحرره خطة مرسومة يهتدي بها، وما تلك الخطة الهادية إلا خطة «العقل» في طريق سيره، ومعنى ذلك أن النهضة الثقافية التي جاءت بالدعوة إلى الحرية والتعقيل، قد كفلت أمامنا سواء السبيل بنصفها السلبي والإيجابي معا ...!
ولا شك أن العلوم المختلفة من طبيعة وكيمياء وطب وهندسة وغيرها، من شأنها أن تكفل «التحرر» من الخرافة، كما تكفل «تعقيل» السير إلى الهدف الذي تريده؛ ومن هنا جاء اهتمام مفكرنا الكبير بالعلم ومناهجه، والتصدي بكل جهد ممكن لإشاعة التفكير العلمي في كل ما يتعلق بالطبيعة وظواهرها، ولعل كتبه الأكاديمية كلها ليست سوى لبنات في هذا الصرح، هكذا كانت أهداف «خرافة الميتافيزيقا»، و«نحو فلسفة علمية»، و«المنطق الوضعي»، بجزئيه، الذي أعلن خطته في مقدمته بكل وضوح «أنا مؤمن بالعلم، كافر بهذا اللغو الذي لا يجدي على أصحابه، ولا على الناس شيئا ، وعندي أن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية يكثر أو يقل بمقدار ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه ...»
46
كان اهتمامه بالعلوم المختلفة نتيجة منطقية لاهتمامه «بالحرية والعقل» معا، وهما الدعامتان الأساسيتان لنهضتنا الحديثة، وهو بذلك إنما يكمل الشوط الطويل الذي قطعه المفكرون التنويريون منذ عصر رفاعة الطهطاوي حتى الآن.
الفصل الثالث
تحت مبضع التحليل
(1) «الحرية» و«العقل»
إذا ما تساءلنا عن الإسهامات الخاصة التي قدمها زكي نجيب محمود في سبيل نهضتنا الثقافية، كان الجواب: إنها كثيرة، لقد أكمل في بعضها الدعوة إلى المفاهيم التي كانت تتبلور في مسار النهضة السابق، ولا سيما فكرتي «الحرية»، و«العقل». لكنه ها هنا كان أكثر تحديدا؛ ولهذا فإننا نراه ولا يكتفي باستخدام هاتين الفكرتين أو الدعوة إليهما، وإنما يأخذ نفسه بتحديد كل لفظ يريد أن يستخدمه، ويطلب من الآخرين أن يفعلوا ذلك «فهو يتشدد في الشروط المفروضة على المتكلم الجاد، إذا نطق بعبارة أراد بها انتقال فكرة من رأسه إلى رءوس الآخرين.»
1
وإذا كانت الدعوة إلى الدقة في تحديد المعاني هي أهم الهموم، التي حملها هذا المفكر طوال ما يزيد على نصف قرن، فقد كان يشعر أن من أوجب واجباته على نفسه أن يتوخى هو مثل هذه الدقة التي يدعو إليها الناس.
2
ولهذا ليس ثمة ما يدهشنا عندما نجده في بداية حديثه عن الحرية، يتساءل «ما المقصود بالحرية»؟ تلك الكلمة التي ترددت على أقلام الكتاب وألسنة الخطباء والمتحدثين منذ أواخر القرن الماضي ... ثم يروح يضرب بمبضع التشريح في هذه الفكرة؛ ليستخرج معانيها المختلفة التي أخذت تزداد مع الأيام اتساعا وعمقا، فقد بدأت وهي تتضمن المساواة بين المواطنين «بحيث يكون للمواطنين حق الشورى في أمور بلادهم، ثم إذا جاء المستعمر البريطاني تحول معنى «الحرية السياسية»، ليصبح تحررا من المستعمر، وظلت هذه القضية هي الشغل الشاغل، إلى أن عبت بها النفوس فتفجرت ثورة 1919م، فأخذ معنى الحرية يتعمق؛ فلم يعد فقط التحرر من المستعمر، بل أصبحنا نتحدث عن «حرية الاقتصاد الوطني»، و«حرية المرأة»، وحرية الفنان والأديب ... إلخ . وهكذا أخذ تيار الحريات يتصاعد قوة وتنوعا، إلى أن جاءت ثورة 1952م، ففتحت أبوابا واسعة لحريات اجتماعية: تحرر الفلاح من تسلط صاحب الأرض، وتحرر العامل من تحكم صاحب العمل ... إلخ.
3
لكن أحدا، طوال هذا التاريخ، لم يضع «هذه الحريات» على مائدة التشريح، وإنما ترك التحليل العقلي لزكي نجيب محمود المنطقي؛ لينظر نظرة فاحصة مدققة في تلك الحريات بكل فروعها؛ ليكشف لنا عن حقيقة لها خطرها؛ وهي أن أهدافنا السابقة من تلك الحريات كانت تنحصر في الجانب السلبي وحده، بمعنى أن تكون المطالبة القومية مقصورة على «التحرر» من قيود تكبلها في هذا الميدان أو ذاك؛ كالتحرر من الاحتلال البريطاني، وتحرر المرأة من طغيان الرجل، وتحرر العامل الزراعي من استبداد مالك الأرض، وتحرر العالم الصناعي من تحكم صاحب رأس المال، وتحكم كذا في كيت ... وبعبارة أخرى أوشكت كل جهودنا المبذولة طلبا للحرية أن تنحصر في تحطيم الأغلال والقيود، وهو أمر واجب ومطلوب، غير أن التحرر ليس سوى جانب واحد فقط من الحرية هو «الجانب السلبي»؛ إنه في حقيقته لا يزيد على أن يفتح باب السجن لينطلق السجين حرا»؛ أي إنه لم يعد مغلول الحركة مقيد الخطى، ولكن ماذا بعد ذلك؟ ماذا «يصنع» ليحيا؟
ها هنا تبدأ الحرية بمعناها الإيجابي الذي لا بد فيه من «قدرة» الإنسان على أداء عمل، ولا قدرة في أي ميدان إلا لمن عرف حقيقة ذلك الميدان وما يتعلق به، إننا نريد «حرية الذين يعلمون».
4
وهكذا ربط مفكرنا ربطا وثيقا بين الحرية بمعناها الإيجابي، وقدرة الإنسان على أداء عمل معين «يعرف» كيف يقوم به؛ فالجانب الإيجابي من الحرية والمعرفة وجهان لعملة واحدة، أن الطفل الذي يظفر بقلم وورقة بعد بكاء عنيد، «حر» في أن يخط بالقلم ما يشاء، والفنان «حر» في إقامة بنائه اللوني على اللوحة، لكن ما أبعد الفرق بين حرية وحرية! لقد أزيلت الموانع التي كانت تحول دون حصول الطفل على ورقة وقلم، فلما بلغ مراده كان حرا، وانطلقت تلك الحرية المجنونة «تشخبط» الخطوط على الورق بلا هدف ، وأما الفنان العارف بأسرار فنه، فقد استطاع بحريته «المقيدة» بقواعد الفن وأصوله، أن يبدع ما قد يضاف إلى كنوز الجمال، وإذن فالتحرر هو الجانب السلبي من الحرية، أما الجانب الإيجابي فهو يرتبط بالعلم والمعرفة؛ ومن هنا كان حق الحرية بمعناها الإيجابي المنتج، مقصورا على أولئك الذين يعلمون!
أما الفكرة الثانية، «فكرة العقل»، فقد وقف مفكرنا عندها طويلا، لما لها من أهمية في بناء حياتنا الثقافية: «فإذا كانت الحرية في جانبها السلبي تعني «التحرر» من القيود، فإنها في جانبها الإيجابي تعني البناء، وذلك يحتاج إلى خطة مرسومة يهتدي بها من تحرر من القيود، وهذه الخطة الهادفة هي التي يرسمها «العقل».»
5
فما هو هذا العقل؟ مهما اختلفت تعريفات الناس للفظة «عقل»، فإنهم في عصرنا الراهن على الأقل متفقون على أبعاد معنى، لا يجوز أبدا أن ينصرف إليه مفكر واحد، وهو المعنى الذي يتصور أن ثمة في عالم الكائنات كائنا مستقلا بذاته قائما برأسه اسمه «عقل»، كما يشير اسم «هملايا» «مثلا» إلى جبل معلوم. بل إن العقل اسم يطلق على فعل من نمط ذي خصائص يمكن تحديدها وتمييزها، والفعل ضرب من النشاط يعالج به الإنسان الأشياء على وجه معين.
6
وإذا كان العقل فعلا فإننا نستطيع تحديده على النحو التالي: «العقل حركة انتقالية تبدأ سيرا من شواهد وبينات ومقدمات، وينتهي عند نتيجة تتولد مما بدأ منه. فليس عقلا ذلك الذي يدرك ما يدركه بلمحة مباشرة أو بلمعة (كما يقولون)؛ لأن أمثال هذه الإدراكات المباشرة لها أسماء أخرى، وطبائع أخرى. أما العقل فإدراكه غير مباشر لأنه قدرة استدلالية، ومعنى ذلك أنه يتضمن قيام طرفين: طرف نبدأ منه، طرف آخر هو النتيجة التي تنتهي إلينا ...»
7
والعقل حر في اختيار الطرف الأول الذي يبدأ منه، ولكنه إذا ما حدد لنفسه نقطة البدء لم تعد له بعد ذلك حرية النتائج؛ لأن هذه النتائج تلزم بالضرورة عن نقطة الابتداء.
8 «على أن للعقل طريقين اثنين، لا ثالث لهما، يلتزم منهما هذا الطريق أو ذاك، بحسب الموضوع الذي يفكر فيه، أما أحدهما فهو الطريق الذي يجعل نقطة ابتدائه معطيات تعطاها حواسنا الظاهرة ...»
9
في الحالة الأولى يجد العقل أمامه عبارة مركبة من كلمات أو رموز الرياضة، فيصب عليها عمله الفكري ... وليس أمامه إلا أن يستخرج من تلك العبارة ... التي تكمن في مفهومات رموزها، إن العقل في هذه الحالة لا يتبرع بفكرة من عنده، بل مهمته أن يفض الأغلفة التي تستر المعاني داخل رموزها، فكما أنك إذا وضعت في طاحونة الغلال قمحا، لم يخرج لك إلا دقيق القمح، وإذا وضعت في عصارة الخضر والفاكهة عنبا، لم يخرج لك منه إلا عصير العنب، كذلك الحال في تركيبات اللفظ أو الرمز تكمن فيها معان، ثم يأتي التفكير العقلي ليستخرج تلك الكوامن، فيأخذ ما يريد ويرفض ما لا حاجة لنا به، والتفكير الرياضي كله هو من هذا القبيل.
10
وذلك أول الطريقين. أما الطريق الثاني فهو حين لا يكون ما بين أيدينا إلا مركبات من ألفاظ ورموز، بل «معطيات» تلقتها حواسنا من مصادرها. وفي هذه الحالة يكون طريق العقل مختلفا عن طريقه في الحالة الأولى؛ ذلك لأن عمله هنا هو محاولة الكشف عن الروابط القائمة بين مجموعة الأشياء، التي رأيناها أو سمعناها أو أدركناها بأية حاسة أخرى من حواسنا، فافرض مثلا أن السماء تمطر، فكل الذي نراه قطرات ماء، ثم نبدأ في الكشف عن الصلة بين هذه القطرات وبقية المحسوسات، كأن نرى العلاقة بينهما وبين درجة الحرارة، وبينها وبين درجة الرطوبة، وبينها وبين درجة ضغط الهواء، وبينها وبين اتجاه الريح ...إلخ فإذا كشفنا عن تلك الروابط كنا أمام ما يفسر المطر تفسيرا عقليا.
11
العقل إذن فاعلية تبدأ من بداية معينة: تعتضد الرموز إذا كانت البداية فكرة رياضية؛ لتقول إنها تنتج كذا وكذا، أو تبدأ من وقائع حسية فتربط بينها وبين وقائع أخرى، لتستخرج لنا ما نسميه بالقوانين.
ويستحيل على العملية العقلية، كائنة ما كانت مادتها، أن تتحرك قيد شعرة إلا إذا كانت بين أيدينا «نقطة الابتداء» التي منها تسير، وقد تكون نقطة الابتداء هذه «وقائع»، وقد تكون «فروضا»، فإن كانت الأولى كانت العملية العقلية من الضرب السائد في علوم الطبيعة. وإذا كانت الثانية كانت من الضرب السائد في علوم الرياضة، ولا ثالث لهذين الضربين في عمليات الفكر، فمهما تنوعت موضوعات البحث، ألفيتها بعد شيء من التحليل، إما منتمية إلى النوع الذي يبنى على الحقائق الواقعة، وإما منتمية إلى النوع الذي يبنى على الفروض.
12
وهكذا نصل إلى ثنائية «المبدأ» أو ثنائية نقطة البداية:
13
التي قد نبدأ فيها من وقائع الطبيعة، وهو ما تفعله مجموعة العلوم الطبيعية، كما ذكرنا، وقد نبدأ من «فروض» كالرياضة: فتكون مبادئ مختارة ليس فيها إلزام لأحد من غير أصحابها، فقد يفرض الرياضي أن المكان مستو ثم يبني النتائج على فرضه هذا، أو قد يفرض أن المكان كري ثم يستنبط، أو أن المكان أسطواني. وهكذا.
14
غير أنه إذا كانت الرياضة هي المثل الكلاسيكي للبداية التي تبدأ من فروض، أو مبادئ مختارة، فإن الديانات المختلفة مثل آخر للنسقات الفكرية التي تبنى على «مبادئ»، فكل منها يضع كتابه أمامه «مبدأ» يسير منه ويستنبط، بحيث تكون الأحكام الفقهية في كل دين صوابا بالنسبة إلى نص كتابها.
15
وهنا نلفت النظر إلى نقطة هامة وخطيرة: وهي أن المنظومات الفكرية المختلفة، وإن تكن كل منها مستقلة عن الآخرين في صواب أحكامها أو خطأ تلك الأحكام؛ أعني أن كلا منها إذا استشهد بصواب حكم معين فمرجعه هو مبدؤه، لا مبدأ المنظومة الأخرى، إلا أننا نستطيع المفاضلة بين هذه المنظومات الكثيرة المتجاورة، على أساس ما تؤديه كل منها للحياة الإنسانية من سعادة أو من تسام أو غير ذلك؛ فالأمر هنا شبيه بأن ترى بيوتا متجاورة، لكل منها أساسه الذي أقيم عليه، ولكل منها أجزاؤه الداخلية التي بنيت على ذلك الأساس، فلا يكون بيت منها حجة على بيت آخر، فقد يهدم أحدهما لضعف أساسه، بينما يبقى الآخر بقوة أساسه، لكن استغلال هذه البيوت المتجاورة بعضا عن بعض، لا يمنع من المفاضلة بينها من ناحية ما تؤديه في حياة ساكنيها.
16
ضربنا مثلين للمبادئ المفروضة نختارها ليبدأ منها العقل سيره، هما «العلوم الرياضية»، و«البناءات الدينية»، ونستطيع أن نسوق مثلا ثالثا من الفكر السياسي، فها هنا كذلك تجد النظرية السياسية تبدأ من «مبدأ» معين تقيم عليها بناءها كله: خذ مثلا فيلسوفين إنجليزيين هما «هوبز» و«لوك»، الأول يقيم نظريته السياسية على أساس أن حق الحكم للأقوى. وهذا، الأقوى إذا ظفر بالسلطان لم يعد من حق الشعب المحكوم أن يقيله أو أن يعترض عليه. أما الثاني فيقيم نظريته السياسية على أساس أن حق الحكم لمن يختاره الشعب، وبذلك يكون للشعب حق إقالة الحاكم إذا انحرف عما أرادوه من أجله، من المبدأ الأول ننتهي إلى حكم الفرد المستبد، ومن المبدأ الثاني ننتهي إلى حكم الشعب لنفسه، هكذا نجد أنفسنا أمام منظومتين فكريتين، كل منهما ترتكز على ركيزة، وكل منهما يحكم على نتائجها بالصواب أو الخطأ بحسب طريقة استنباطها من مبادئها، فكيف تفاضل بينهما إذا أردنا أن نختار لأنفسنا إحداهما دون الأخرى؟ لأننا لا نفاضل بينهما على أساس صواب إحداهما وخطأ الأخرى؛ لأن كلا منهما قد تكون صحيحة الأجزاء، ما دامت هذه الأجزاء مستنبطة استنباطا سليما من المنبع. بعبارة أخرى قد تكون كلتا المنظومتين صوابا على ما بين تفصيلاتهما من اختلاف بعيد، لسنا نفاصل بينهما على أساس الصواب والخطأ لأن كلا منهما مبنية على «مبدأ»، والمبدأ «فرض»، والفرض لا يوصف بصواب أو خطأ، وإنما تكون المفاضلة على أساس النفع للإنسان في حياته ... وقل مثل ذلك في جميع المذاهب الفلسفية الأخرى.
17
العقل، إذن، فاعلية أو نشاط نسير به من «أ» إلى «ب»، وقد تكون «أ» معطيات الحس، و«ب» هي القوانين أو أدوات الربط بين الظواهر الطبيعية، وذلك هو طريق العلم الطبيعي، وقد تكون «أ» بداية مفترضة هي الرموز الرياضية أو هي «النصوص الأدبية» أو «النظريات السياسية»، أو المبادئ النظرية في المذاهب الفلسفية المختلفة ... إلخ، ويكون أساس المفاضلة بينها هو مدى نفعها لحياة الإنسان.
غير أننا إذا نظرنا بهذه الفاعلية «العقلية» إلى أمور الحياة والثقافية معا، كنا كمن يسأل عند كل موضوع مطروح: هل الخطوة الفلانية إذا خطوناها بلغنا الأهداف؟!
وهذه النظرة تستتبع صفات فرعية كثيرة تنتج عنها، كما تنتج الثمرات من شجراتها، وهذه الصفات تشكل ما نسميه «بالنظرة العقلية» أو الوقفة العاقلة، ويمكن تلخيصها فيما يلي: (1)
أولى هذه الصفات، وهي نفسها نتائج نابعة من ذلك المبدأ العقلاني، أن تتحدد الأشياء بنسبها الصحيحة بعضها من بعض، فيبدو الكبير كبيرا كما هو والتافه تافها كما هو، فقد تهتم الدولة المتحضرة بمسألة عملية تريد لها أن تستقر في أذهان الناس، ولكنها تتغاضى عن توافه السلوك التي ربما اختارها هذا الرجل أو ذاك. (2)
ومن النتائج التي تترتب على الوقفة العاقلة أيضا إيثار الآجل على العاجل؛ إذ كان في العاجل خير قليل قد يعقبه شر كثير، أو كان في الآجل خير كثير قد يسبقه شيء من ألم التضحية. (3)
ومن أبرز جوانب النظرة العقلية، وأكثرها أهمية بالنسبة لنا، أن ترد الظواهر إلى أسبابها الطبيعية، فلا يفسر المرض، مثلا، إلا بالجراثيم التي أحدثته، ولا يعلل سقوط المطر إلا بظروف المناخ، وهكذا. ويترتب على هذا الربط السببي الصحيح أن نلتمس للأشياء أسبابها الطبيعية كذلك، فإذا أردنا غلالا زرعنا لنحصدها، وإذا أردنا قتالا حملنا له السلاح بمران واقتدار.
18
ومن هنا كان السحر هو الضد المباشر للنظرة العقلية؛ إذ إنه «اللامعقول»؛ ذلك لأن السحر يعلل الأحداث بغير أسبابها الطبيعية، فإذا كانت علة المطر مثلا، هي مقدار ما يتكثف في الهواء من بخار الماء، جعلها الساحر ورقة يكتب عليها أحرفا يختارها، أو عبارات يزعم لها القدرة على إنزال المطر. وإذا كانت علة الشفاء من مرض معين هو أن تزال الجراثيم التي تحدث، كانت هذه العلة عند الساحر «عفريتا» سكن الجسد العليل، والشفاء من المرض إنما يكون بطرد هذا العفريت بأقوال تقال، وبخور يعطر جو المكان، ويطهره من الكائنات الشيطانية العابثة بأجساد الناس ... وهكذا.
19 (4)
والنظرة العقلية تنظر إلى الواقع كما هو لتحوره إلى واقع جديد إذا أرادت، دون أن تقيم بينها وبين الواقع حائلا تنسجه الأوهام، ثم سرعان ما تنسى أنه أوهام، فإذا كان البدائي يخلق لنفسه الخرافة لينظر بمنظارها إلى واقع الدنيا، فإن المتحضر هو الذي يواجه تلك الوقائع كما تبدو لبصره وسمعه. (5)
على أن أبرز ما تتميز به النظرة العقلية إلى الكون هو حب الإنسان للمعرفة، حيث يلم بأسرار البيت الذي هو ساكنه؛ فالعقلاني في نظرته ذو نهم نحو معرفة الحقائق والطبائع والعلل، ولا يصده عن ذلك شيء من التحريم الذي يفرضه البدائيون على أنفسهم.
أيكون غريبا بعد ذلك أن نقول إن «سلطان العقل» هو مدار القياس لدرجة الحضارة؟ فقل لي كم عقلت أمة في تدبير أمورها، أقل لك كم صعدت في مدارج التحضر ...
20
فالعقلانية في وجهة النظر هي التي تراها ماثلة في كل حضارة مهما اختلف لونها، ولا تراها في أي جماعة بدائية مهما تعددت بعد ذلك صفاتها، فلربما اتجهت النظرة العقلية نحو الأفكار المجردة تنظمها وتنسقها في ترتيب هرمي يضع الأهم منها فوق الأخص، كما حدث عند اليونان الأقدمين أو ربما اتجهت نحو تحليل ما نزل به الوحي من تشريع، كما حدث للعرب الأولين، أو اتجهت نحو ظواهر الطبيعة تستخرج قوانينها النظرية، كما حدث لأوروبا في عصورها الحديثة، أو اتجهت نحو تجسيد تلك القوانين العلمية النظرية في أجهزة يديرها الإنسان، أو تدير نفسها بنفسها كما يحدث لعصرنا القائم.
21
على ضوء هذا الذي أسلفناه نستدير إلى عصرنا وحضارته. إنه ليس بدعا يشذ من القاعدة التي سارت عليها العصور؛ فالحضارة فيه ما زالت قائمة على نفس الأساس، الذي قامت عليه حضارات السالفين، والأساس هو «العقل» ... ونسأل بعد ذلك أين تقف الأمة العربية اليوم من مسيرة الحضارة؟ ... «وأجيب بجواب يختلط فيه قليل من الأسى وكثير من الأمل؛ الأسى للهوة اللاعقلية العميقة التي لا تزال تتخبط في ظلالها، والأمل في جيل جديد أراه على الطريق إلى العقلية العلمية وضيائها ...»
22
على أننا لا نستطيع أن نغادر هذا الجزء الهام، مع ما فيه من جوانب عقلية قيمة، قبل أن نشير إلى مسألة قد نختلف فيها مع أستاذنا الكبير وهي «المفاضلة» بين المذاهب الفلسفية على أساس نفعها؛ ذلك لأن كلمة «النفع» منذ البداية كلمة غامضة، وتثير أسئلة كثيرة: ما هو المذهب «النافع» وبأي معنى؟ ومتى يكون كذلك؟ ألا يمكن أن يكون المذهب «غير نافع» الآن، ثم يتضح أنه «نافع» بعد عشرات السنين؟! ألم يجد فلاسفة النهضة، مثلا، أفكارا نافعة عند فلاسفة اليونان؟!
ثم ألا يجوز لنا أن ننقد المذاهب الفلسفية من منظور غير المنظور النفعي؟ ألم يستعرض أرسطو، مثلا، في كتابه «الميتافيزيقا» الفلاسفة السابقين عليه من طاليس حتى أفلاطون، ناقدا كل فيلسوف على حدة من منظور عقلي لا علاقة له بالمنفعة؟!
ثم ألا يمكن أن يكون «نقد» فلسفة ما، أو دحض مذهب معين لا يعني سوى أن المبدأ الذي يرتكز عليه قد أصبح عاملا مساعدا أو عنصرا مسلسلا في الفلسفة التي تليها. وهكذا تسير المذاهب الفلسفية يعقب بعضها بعضا في تطور جدلي تندثر قشرتها الخارجية، ويبقى مبدؤها ليصبح عنصرا مكونا في مذهب أعلى؟
23
ألم يقل هيجل إن «الفلسفة» كل متصل تدفعه ضرورة داخلية، فكل فلسفة كانت ولا تزال ضرورية؛ وبالتالي فليس منها ما اختفى وزال، وإنما تجدها عناصر إيجابية في كل واحد ... وآخر فلسفة هي نتيجة لجميع الفلسفات السابقة ...
24
فلا يكون، في هذه الحالة، ثمة «مفاضلة بين المذاهب الفلسفية» التي تشبه الشجرة مع نموها، ولم يكن في استطاعة أي مذهب أن يرى النور ما لم تتقدمه المذاهب السابقة كلها! (2) مشكلة الأصالة والمعاصرة
كانت قضية الجمع بين الأصالة الثقافية التي تضرب بجذورها إلى المقومات الأولية التي جعلت من العربي عربيا، وبين المعاصرة التي تجعله جزءا من زماننا بنشاطه الفكري، لا بمجرد وجوده الجسدي، هي قطب الرحى و«أم المشكلات»، كما سبق أن ذكرنا، في حياة مفكرنا الكبير، حتى إنه يقول عنها إنها أصبحت القضية التي يصح أن نقول حيالها قولة هاملت في أزمته النفسية: أن أكون أو لا أكون: ذلك هو السؤال.
25
فإذا كان موضع الإشكال عند أسلافنا هو طريقة اللقاء بين أحكام الشريعة ومنطق العقل، فقد أصبح موضع الإشكال عندنا اليوم هو طريقة اللقاء بين العلم والإنسان.
26
اللقاء بين «العقل والوجدان».
27
والصيغة التي يقترحها مفكرنا الكبير كحل لمشكلة «الأصالة والمعاصرة» هي الصيغة التي تجمع بين «العقل والوجدان»، بحيث يكون واضحا لدينا أن مجال العقل يشمل جميع الظواهر الطبيعية والاجتماعية ... إلخ التي تحتاج إلى تفسير «علمي» بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، وهو المعنى الذي يسوي بين البشر أجمعين، ويكون هناك إمكان لعرض خطوات السير عليهم خطوة خطوة، حتى نصل من نقطة الابتداء إلى النتيجة التي ننتهي إليها، أما مجال الوجدان فهو مجال الفن والشعور بصفة عامة، وهو مجال يتميز بأنه «ذاتي» خاص بالفرد، وليس عاما مشتركا بين الناس؛ ففي بدائع الفن نجد أن لكل فنان طابعه الفردي الخاص، الذي يستمده من حياته الباطنية التي لا يشاركه فيها إنسان آخر، وعلى ذلك فإن علينا أن ندرك أنه في مقدمة الإصلاح، إذا أردنا إصلاحا، أن نربي الأجيال الجديدة على وقفة أخرى، يفرق المرء لنفسه فيها تفرقة واضحة بين ما هو عام، فيحيله إلى العقل وأدواته، وما هو خاص فلا بأس عندئذ في الركون إلى لغة الشعور.
28
فإذا ما تساءلنا: لماذا انقضت على مصر منذ بدأت نهضتها الحديثة حتى الآن مائة وخمسون سنة على الأقل، ومع ذلك لا نستطيع أن ندعي أنها تشربت من ثقافة العصر الجديد ما كنا نتمنى لها أن تتشربه؟! لماذا أصبح المتعلمون في مصر يعدون بعشرات الملايين، ومع ذلك فإن نفورهم من رؤية الحياة بنظرة علمية تلتزم منطق العقل، لا يقل عن نفور أجدادهم الذين غمرتهم موجة الظلام إبان القرون الثلاثة السابقة على بدء النهضة الحديثة ...؟! إذا طرحنا أسئلة كهذه، وجدنا لها جوابا واحدا هو: نقص في تربية العقل وإسراف في إشعال الوجدان.
29
كما لو أن شيئا في تركيبنا الثقافي يوسوس لنا دائما بأن العقل وحده لا يكفي سندا للإنسان في حياته، وأن ظواهر كثيرة تحدث متحدية العقل أن يفسر حدوثها بمنطق العلم، فلا يسع العقل إزاءها إلا أن يقف عاجزا، ومثل هذا الشعور بعجز العقل وقصور العلم، يتملكنا بدرجة قل أن تجد لها نظيرا في شعوب أخرى، وعلى الرغم من يقيني بأهمية الجانب الوجداني في حياتنا فطالما أحسست بواجبي في الإعلاء من شأن العقل، والعقل يتبعه قيام العلم ومناهجه، حتى لو ذهبت في ذلك الإعلاء إلى حد المبالغة، لأحدث نوعا من التوازن في حياتنا بين عقل ووجدان؛ إذ التوازن بينهما مفقود.
30
إن المشكلة الحقيقية التي نصادفها في حياتنا العملية ليست في قبول صيغة «العقل والوجدان»، وإنما في بيان مجاليهما من ناحية، وما يستتبعه الأخذ بهما في دنيانا الواقعية من ناحية أخرى: سل من شئت: هل تحب أن تتابع العصر في عقلانيته وتقنياته؟ يجبك في استعلاء بأن العقلانية وما يترتب عليها هي جزء من ميراثنا الأصيل. لكن قل له: إنها في عصرنا تستتبع عدة أمور؛ منها ألا تلقي بزمامك إلى العاطفة أيا كان نوعها، ومنها أن يتولى العمل من يحسن أداءه، لا من ينتمي إلى أصحاب الجاه بأواصر القربى، ومنها أن يكون الارتكاز كله على الواقع المادي الصارم، ومنها أن نصطنع في حياتنا نظرة علمانية تجعل محورها هنا على هذه الأرض، قبل أن يكون هناك في عام آخر ... قل له هذا، يأخذه الفزع؛ لأنه عندما أعلن أنه من أنصار النظرة العقلية، لم يكن قد تخيل لنفسه أنها نظرة تلد كل هذا النسل العجيب، فهو عقلاني بالاسم، لا بالمضمون والنتائج، أنه يقبل من العصر تقنياته؛ لأنه يريد كسائر عباد الله، أن ينعم بالسيارة والطيارة وأجهزة التدفئة والتبريد، لكن إذا علم أن إدخال هذه الآلات في حياتنا معناه إدخال عادات جديدة، في تلك الحياة، ومعناه إحلال قيم جديدة محل قيم قديمة، أخذه الهلع؛ لأنه في عمق نفسه لا يريد عن قيمه الموروثة بديلا. وهكذا نقع في أزمة حضارية من طراز نادر لأننا في الحقيقة بمثابة من يحيا ثقافتين متعارضتين في وقت واحد: إحداهما خارج النفس والأخرى مدسوسة في حناياها لا تريم، فترى حضارة العصر في البيوت والشوارع والأسواق، بينما تحس حضارة الماضي رابضة خلف الضلوع.
31
والواقع أن علينا أن نسلم بضرورة اللجوء إلى العقل، وإلى العلم الذي هو في حقيقته تجسيد للعقل في رسم السبل الناجحة، ولا يكفي أن نفاخر سائر الدنيا بأننا أصحاب قلوب عامرة بوجدانها، لا فرق في ذلك بين أن يكون الموضوع المعروض للمعالجة مما تنفع أو لا تنفع فيه القلوب ووجدانها: «ومن ثم كانت دعوتي التي ما فتئت أكررها بوجود التفرقة الواضحة بين مجالين: مجال لا يصلح له إلا العقل بكل رصانته وبروده، ومجال آخر من حق المشاعر أن تشتعل فيه ما شاءت لها حرارتها.»
32
علينا أن نبدل ذلك الرأي الشائع فينا الآن، والذي يقول إن العقل وعلوه - وهو لب العصر الذي نعيش فيه - عدو للوجدان ومشاعره، ولما كانت الكثرة الكاثرة منا نصيرة للوجدان فسحقا للعقل ومناهجه.
33
كلا، ليس العقل نقيضا للوجدان وإنما لكل مجاله الخاص، والمشكلة الأساسية عندنا تكمن في خلطنا بين المجالين أو عدم وعينا بالحدود الدقيقة لكل منهما.
وإذا كان من الباحثين من يرى أن «زواج» الأصالة والمعاصرة، أو الصيغة المقترحة للجمع بين العقل والوجدان، أمنية مستحيلة التحقيق، أو هي فكر بالتمني فحسب، فإن مفكرنا الكبير يعتقد أنها قد تحققت بالفعل في تراثنا القديم، وأن لها أمثلة كثيرة في فكرنا الحديث أيضا؛ وبالتالي فهي ممكنة التحقق، بل لا بد من تحققها في فكرنا المعاصر.
لقد ألف الناس قبل ظهور الإسلام ضربين من الحضارة ومن الثقافة، اختلفا فيما بينهما إلى حد التنافر، بل إلى حد الدخول في حروب مستعرة ، وهاتان الحضارتان هما حضارة الفرس وثقافتهم من جهة، وحضارة اليونان وثقافتهم من جهة أخرى، المحور في الحالة الأولى هو «الوجدان»، أو هو «الإملاء» إملاء القلب أو الوحي أو الحدس، يفرض على الإنسان طريقة فكره ونمط سلوكه ... والمحور في الحالة الثانية هو عقل الإنسان يقيم له الحجة على الباطل فيرفضه، ويسوق له البرهان على الحق فيرتضيه ... وكان الظن هو ألا سبيل إلى لقاء بين «شرق» متمثلا في فارس، و«غرب» متمثلا في اليونان، ثم جاء الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي، ومع فتوحاته انهدمت الفواصل بين الثقافتين، أو قل أنها اندمجت في خطوة أولى على طريق المواطن العالمي، وكان ذلك الدمج الباهر هو الذي أخرج إلى العالم، تلك الصيغة الحضارية الثقافية الإسلامية الجديدة التي ألقت في مركب واحد: صوفية الفرس وعقلانية اليونان. وهذه الطبيعة الثالثة الجديدة قد جمعت بين إدراك الحدس الصوفي وإدراك العقل الاستدلالي، بحيث احتملت الحياة الثقافية الإسلامية أن يظهر فيها أعظم المتصوفة وأعظم مناطقة العقل في آن معا.
34
ويتساءل مفكرنا الكبير: «لماذا استطاعت ثقافة المسلمين أن تنقل في عصر المأمون، بصفة خاصة، ما نقلته من فلسفة اليونان وعلومهم إلى اللغة العربية، ولم ينقلها أهل الهند أو أهل الصين إلى لغتهم؟!» ويجيب: «إن العلة لم تكن في لغة تستطيع ولغة أخرى لا تستطيع، بل العلة هي أن ثقافة تتقبل منطق العقل (إلى جانب الوجدان) وتهضمه، وثقافة أخرى لا تتقبله ولا تهضمه.»
35
كان القرآن الكريم هو كتاب المسلمين (والدين لا يلجأ في أية جهة يظهر فيها إلى الاستدلال العقلي، وإنما هو يأتي برسالة موحاة من الله أو غير موحاة مثل أنبياء الشرق الأقصى، فيتقبل الناس فحوى هذه الرسالة فإذا بها دين وعقيدة)، فهو إذن لمحة قلب، أو نبضة وجدان أو «حدس» بالمصطلح الفلسفي أو هو إدراك مباشر.
36
إنه إيمان لا يستند إلى برهان ولا يراد له أن يستند إلى برهان؛ لأن الإنسان لا يريد برهانا على صدق وجدانه، أو صحة شعور يشعر به مباشرة في طوية نفسه: إذا كنت جائعا وأشعر بالجوع فلست أريد البرهان من أحد على أني جائع أو على أني أحب؛ تلك حالات وجدانية داخلية يقبلها صاحبها قبولا مباشرا، لا هو يريد لنفسه أن يبرهن على صدقها، ولا هو متوقع من سواه أن يبرهن له عليها. وهذه الرؤية المباشرة التي لا وسيط فيها لا تقتصر على الدين فحسب، وإنما هي مجال كل ما ينتجه الوجدان من فن وأدب وتصوف ... إلخ.
لكن على أساس هذا الدين الجديد قامت علوم عقلية، فإذا كان الدين ليس علما ولا هو يحتوي على علم لأنه في صميمه رسالة أخلاقية؛ فإن من أعظم ما يفخر به الدين الإسلامي، هو أنه حث الناس على أن يعملوا عقولهم ليكتشفوا قوانين الكون، وبمجرد نزول القرآن لم يكد يمضي ثلاثة أرباع القرن بعد الرسالة، حتى ظهرت حركة عقلية جديدة؛ ففي المناخ الذي نزلت فيه الرسالة المحمدية كان الإيمان مشتعلا في القلوب، وتلك هي الخطوة الأولى، عندما تؤخذ الرسالة الجديدة مأخذ التصديق الذي يؤمن فحسب، ثم تاتي الخطوة الثانية؛ وهو أن يصب أصحاب التحليلات العقلية تحليلاتهم على ذلك الذي كان موضع إيمان في الخطوة السابقة.
في القرن الثاني الهجري ظهرت مجموعة من المفكرين صممت على أن تفهم القرآن الكريم حق فهمه، كيف؟! كان من المنطقي أن يبدءوا بدراسة اللغة العربية نفسها لتجتمع لهم أدوات الفهم الصحيح. فلم يريدوا الوقوف من اللغة موقف المتذوق وكفى، بل أرادوا أن يجعلوا دراسة علمية بأدق ما يكون المنهج العلمي. ولم تكن قواعد اللغة قد استخلصت وجمعت حتى ذلك الحين، فانصرفوا إلى استخلاصها وجمعها. وهنا تشعب الباحثون إلى شعبتين: الأولى مقرها البصرة، والثانية مقرها الكوفة؛ ومن ثم فأول ما نجده من أنشطة عقلية هي هذه الدراسات اللغوية التي رأيناها في مدرسة «الخليل بن أحمد» وتلميذه سيبويه في البصرة، والكسائي في مدينة الكوفة، وكذلك ما بذلته المدرستان في استخراج الأسس التي لا بد من الكشف عنها لكي تفهم اللغة العربية على أساس علمي صحيح. ولنلاحظ جيدا أن هذا الجهد يبذل لأول مرة في التاريخ ، فلم يحدث أن تصدى عالم قبل ذلك لاستخراج قواعد اللغة أو عروض الشعر أو الاشتقاق. فوضع الخليل بن أحمد المعجم الأول عندما جمع المفردات من أفواه الناس لأول مرة. فما الذي كان يستهدفه بهذا الجهد؟! فهم القرآن فهما سليما. ولنلحظ هذه الوقفة نفسها، رجل يبحث في اللغة بحثا علميا ليفهم دينه، ولننظر في هذه الوقفة فقط، ونتخيلها فماذا نجد؟ نجد أمامنا رجلا عالما إذا شئت، متدينا إذا شئت؛ لأن كليهما في «دمج واحد»، بل إنه حين أراد العلم إنما أراده من أجل الدين، وهذا الوجود ذو الوجهين المتكاملين هو جمع للنمطين السابقين في نمط واحد.
37
تلك هي الصيغة المقترحة لحل ثنائية الثقافة التي نعيشها الآن. وفي استطاعتنا أن نضرب أمثلة أخرى كثيرة على وجود هذه الصيغة في ثقافتنا القديمة؛ أعني الجمع بين «العقل» و«الوجدان» بين ثقافة اليونان وثقافة الفرس في ثقافة جديدة، خذ مثلا «علوم الدين»، وهي بناء علمي أقيم لخدمة الدين: الفقه، مثلا، نحن أمام نص قرآني، مجموعة أحاديث نبوية وتزيد أن تستخرج الأحكام الشرعية، وهي ليست ظاهرة كلها لكل إنسان، وإنما الظاهر منها قليل، والباقي يحتاج إلى عقل وعلم يستخلص من الآيات الكريمة ما قد كمن فيها من أحكام شرعية؛ فهي إذن عملية عقلية، وعلينا مرة أخرى أن نمعن النظر في «فقيه» يقوم بهذا الدور، لنجد أنه إنسان متدين عالم في آن معا. وليست المسألة هنا مجرد تجاوز العنصرين، وإنما العنصران متشابكان؛ لأن أحدهما جاء ليخدم الآخر، فإذن هما كيان واحد، فكأنما تجد النمطين السابقين في نمط واحد.
38
خذ مثلا ثالثا «علم الكلام» الذي سمي كذلك؛ لأنه نشاط عقلي ينصب على تحليل «كلام» الله الذي هو القرآن الكريم، فالله «واحد»، لكن هذه الذات الواحدة لها صفات كثيرة من علم وإرادة وقدرة ورحمة، فهل تعدد الصفات في الذات الواحدة لا يعطيها شيئا من التعدد؟! نحن نؤمن «بالواحد» لكنا نحتاج إلى عملية عقلية تبين لنا كيف أن تعدد الصفات لا يتناقض مع الواحدية المطلقة ... إلخ، لكن انظر مرة ثالثة إلى القائمين بهذه العملية العقلية، وحاول أن ترى جوهر الرجل منهم ما هو؟ إنه دمج للنمطين في نمط واحد؛ فهو دين وعقل معا. وقل مثل ذلك في الفلاسفة المسلمين؛ فمن هو الفيلسوف المسلم؟ هو رجل أراد أن يقرأ نتاج العقل اليوناني بلغة الشريعة، أو أن يقرأ الشريعة بلغة العقل، وعنوان كتاب ابن رشد فيه الكفاية: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، حلل رجلا كهذا تجد أنه أراد أن يدمج العقل اليوناني مع الشريعة الإسلامية في كيان واحد.
39
إذا كانت هذه الأمثلة، وغيرها كثير، تتصدر التاريخ الذي ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية ، أيكون من الصعب أن نوفق من جديد إلى الدمج بين «العقل والوجدان»؟! أيصعب علينا أن نرتبط بماضينا عن طريق الوجدان الذي هو بطبيعته لا يتقدم؟! «فالنص الديني» يبقى كما هو، في حين تتقدم علوم الدين أو علوم اللغة لأنها نشاط عقلي. كما أن كلمة «التقدم» قد تكون بغير معنى في الآداب والفنون، «فقد لا يستطيع شاعر من شعرائنا اليوم أن يجاري امرئ القيس، وقد لا يستطيع أحد من رواة الحكايات في يومنا أن يقترب من الذروة الأدبية التي بلغتها ألف ليلة وليلة، لا، إن التقدم لا يكون إلا في معرفتنا العلمية أو العقلية، أما ما هو خاص بالوجدان، فلا تقدم فيه، فلا أظن أن الأم العصرية الثكلى تبكي فقيدها على نحو أكمل من بكاء الأمهات بالأمس، ولا أن يغني عاشق في عشق حبيبته بأكثر مما غنى قيس في عشق ليلاه.
40
وفي ظني أن هذه الفكرة تحل مشكلة الجماعات الدينية التي تدعونا إلى أن نعود إلى الماضي بوصفه أزهى عصور الإسلام، وذلك يكون ممكنا بالنسبة للمسائل الوجدانية التي لا تتقدم: نقاء القلب، وإخلاص السريرة وحلاوة الإيمان ... كذلك ما في الماضي من فن أو أدب، أما العلوم والمعارف بجميع أنواعها فلا بد أن تكون هي علوم العصر؛ لأنها مجال «العقل» وهو وحده الذي يتقدم.
فإذا تساءلنا: «من الذي أراه يا ترى يجسد لنا بشخصه المتعين ذلك الضرب من اللقاء بين تراثنا ومنتجات عصرنا في دنيا الفكر؟! إن أول من يرد إلى خاطري كلما ألقيت على نفسي هذا السؤال هو: طه حسين، فإلى جانب مؤلفاته ذات القيمة الكبرى، أرى في شخصه ما هو أهم منها فيما نحن الآن بصدد الحديث فيه، وأعني بذلك طريقته في الجمع بين موروثنا وروح عصرنا، أما موروثنا فلا أظن أحدا يجادل في سعة إلمامه بذلك الموروث إلماما فيه الدقة وفيه الفهم، وأما روح العصر فظاهر في منهجه وفي رؤيته وفي تصوره ...
41
وأسوق مثالا آخر لرجل جمع في شخصه الحسنيين وهو الشيخ مصطفى عبد الرازق؛ فهو الآخر يلم بالموروث إلماما يجعل ذلك الموروث على أطراف أصابعه، وهو في الوقت نفسه يحيط بأهم ما دار في عقول علماء الغرب في ميدان تخصصه.
42
والحق أننا نستطيع أن نطبق الفكرة نفسها على جميع أعلام نهضتنا الثقافية الحديثة، ابتداء من رفاعة الطهطاوي حتى زكي نجيب محمود نفسه، فكل واحد من هؤلاء المفكرين الأعلام كان أصيلا من حيث إلمامه بالتراث، لكن كان أيضا معاصرا عندما وقف على ثقافة العصر؛ ولهذا جاء فكره مركبا بين الاثنين معا. إننا لا نريد لثقافتنا أن تفنى في ثقافة غيرنا، بحيث نجعل منهم نموذجا لنا نحتذي به، وإنما نريد أن ينحصر تفردنا الثقافي في تلك الجوانب التي تميز الشعوب، والتي هي في الوقت نفسه ليست مقياس التقدم الحضاري، هو جانب العقل، وأعني بها جوانب القصيدة والفن.
43
والخلاصة أنه ليس من المحتم أن يكون إما الحياة كلها للعلم ومنهجه الاستقرائي، وإما الحياة كلها للانضواء تحت مبادئ مقبولة سلفا، فليس من المستحيل أن نحيا في ساحة من قسمين، لكل منهما المنهج الذي يلائمه: فقسم للعلوم وما يتفرع عنها من صناعات، ويكون له منهجه القائم على تقصي الوقائع قبل صياغة القوانين، وقسم آخر لحياة الوجدان والقيم الخلقية والجمالية، وفيها يكون السير مهتديا بمبادئ مسبقة.
44
وفي استطاعتنا أن نقول إن زكي نجيب محمود نفسه، مثل حي متعين لهذه الصيغة التي يقترحها لحل مشكلتنا الثقافية؛ صيغة الدمج بين «العقل» و«الوجدان»؛ ولهذا فإن من الطبيعي أن نسأل الآن: ما هي الإسهامات التي قدمها هذا المفكر في كل مجال من هذين المجالين؟
القسم الأول: مجال التحليل العقلي
يمكن أن نقول إن زكي نجيب محمود قدم الكثير لمجال العقل، ابتداء من محاولاته لتحديد «مفهوم العقل» نفسه - كما سبق أن أشرنا - مبينا مجالات استخدامه، إلى محاولته إشاعة النظرة العقلية على نحو ما حددها في النقاط الخمس السابقة. لكن هناك جانبا بالغ الأهمية هو استخدامه للفاعلية العقلية أو النشاط العقلي، تحديد وتحليل كثير من المفاهيم الشائعة وإلقاء الضوء عليها، وهي مهمة شاقة في مجتمع اعتاد أن يرسل القول على عواهنه، ويستخدم الفكرة الغامضة لمجرد أنها موجودة، أو لأنها تثير وجدانه؛ مع أن الحياة الفكرية بمعنى من أدق معانيها هي تحديد الفواصل بين المعاني المتداخلة، أو المتشابهة: ولك أن تحكم على أمة بدرجتها في مدارج الحياة الفكرية بمقدار ما استطاع أبناؤها تحديد المعاني التي يتداولونها ...
45
وهذا هو الدور الذي تقوم به: «الفاعلية الفلسفية» فمما توصف به الفاعلية الفلسفية، أحيانا أنها محاولة لتوضيح المفاهيم التي تقع عند الناس بين الجهل التام والعلم التام، يعني أنها مفاهيم يتداولها الناس وهم على بعض العلم بها، فلا هم يجهلونها كل الجهل، ولا هم يعلمونها كل العلم، فتتناولها الفلسفة بالتحليل والتوضيح لعلها تبلغ من معانيها مبلغ التحديد الدقيق الحاسم، فهذه المفاهيم التي تقع عند الناس وسطا بين الغموض والوضوح، هي أشبه بمدينة تراها على مبعدة فترى بروزا ممتدا في الأفق.
46
وهكذا قل في كثير جدا من المفاهيم والأفكار التي نتداولها في مجرى حياتنا الفكرية، بل في مجرى حياتنا العملية، والتي نشعر أن الحياة، فكرية أو عملية متعذرة بدونها، ومع ذلك فعلمنا بها لا يكاد يتعدد علمنا بأن الأفق البعيد مدينة كبيرة، وها هنا يكون عمل الفلسفة أن تدنو بنا من تلك المفاهيم لنراها في تفصيلاتها ودقائقها. والعجيب أن يتهمك الناس نتيجة لهذا التحليل بأنك تعقد البسيط وتصعب السهل، حين جاءهم الفيلسوف بتحليل يفكك لهم أوصال المفاهيم التي يتداولونها، فثاروا في وجهه كأنهم كانوا يجدون النعمة في الفهم المبهم، ويخشون أن يفسد تحليل الفلاسفة عليهم ما كانوا به ينعمون!
47
كانت طريقته أن يمسك بعدسة مكبرة تكشف للقارئ عناصر الفكرة التي هي مدار الحديث، فذلك وحده كفيل أن يزيل ضباب الغموض الذي يكتنف المفاهيم المحورية التي عليها تدور ثقافتنا.
48
فالتوضيح معناه تحليل المفهوم الغامض لاستخراج العناصر الداخلة في تكوينه لكي نفهمه، تماما مثل أي عملية كيميائية، فلكي تفهم الماء أو الهواء، أو قطعة الفحم، أو ما شئت، فهما علميا عليك بتحليلها في المعامل، وكذلك التحليل العقلي للأفكار الغامضة، عليك أن تحللها تحليلا عقليا، لكي تكشف عناصرها ومكوناتها التي دخلت في تكوينها.
49
وإذا أردنا أن نقدم نماذج لهذه الأفكار التي قام أستاذنا الكبير بتحليلها لوجدنا أنها كثيرة كثرة لافتة للنظر؛ ولهذا فلا مندوحة لنا عن تقسيمها إلى مجموعات ثم نقدم من كل مجموعة أمثلة قليلة.
المجموعة الأولى: أفكار سياسية (أ) المثقف الثوري
في الستينيات ظهر تعبير «المثقف الثوري»، وشاع على أقلام الكتاب، وكان على مفكرنا الكبير أن يطرح على نفسه هذا السؤال: «متى يكون المثقف مثقفا وكفى، ومتى يكون مثقفا وثوريا معا؟!» ويجيب من خلال منظورين «للإسراء والمعراج». أما الأول فهو حديث للرسول الكريم أورده ابن عربي، يقول فيه: «ما ابتلي أحد من الأنبياء بمثل ما ابتليت به»، مشيرا بذلك إلى رجوعه من حالة الرؤية (رؤية الحق)، إلى دنيا الناس؛ ليخاطب فيهم من ضل ليهديه سواء السبيل، والمنظور الثاني: حديث لواحد من الصوفية يقل: «صعد محمد النبي العربي إلى السموات العلا، ثم رجع إلى الأرض، قسما بربي لو بلغت هذا المقام لما عدت أبدا ...» ونحن هنا أمام نمطين مختلفين من الوعي: الأول تتميز به حالة النبوة، والآخر حالة المتصوف الذي يشاهد «الحق»، ويتمنى ألا يعود إلى الناس، فإذا عاد كانت عودته غير ذات نفع كبير؛ لأنه سيحصر نفسه في ذاته منتشيا بما قد شاهد.
50
وها نحن أمام رجلين: رجل يرى الحق فتكفيه الرؤية، ورجل يرى الحق فلا يستريح له جنب حتى يغير الحياة وفق ما رأى، ولست أرى ما يمنع من التوسع في التطبيق، بحيث نجعلها تفرقة بين المثقف الذي ينعم بثقافته، ثم لا يغير من مجرى الحياة شيئا. والمثقف الذي لا ينعم بثقافته إلا إذا استخدمها أداة لتغيير الحياة من حوله، وفي هذه الحالة الثانية يكون المثقف مثقفا وثائرا معا ...»
51
لكن ذلك يحتاج إلى تحديد أكثر: فصفة «الثورية» حين تضاف إلى المثقف، أكثر انطباقا على ميدان العلوم الإنسانية منها على ميدان العلوم الطبيعية، فلا يجوز أن يقال عن عالم الرياضة الذي درسها وطبقها في بناء الجسور أنه مثقف ثوري؛ لأنه طبق ما تعلم ... كلا! فالتفرقة مقصورة على أصحاب الثقافة الإنسانية؛ لأنها هي التي تشمل القيم، والقيم هي التي يصيبها التغير، حين يقال إن ثورة قامت فغيرت وجه الحياة.
52
لكن هذا التحديد لا يزال غير كاف؛ لأن الذي يغير وجه الحياة قد يغيرها إلى الوراء، لا دافعا بها إلى الأمام، في حين أن الثورية تضاف إلى المثقف الذي يدفع بالحياة إلى الأمام، في مقابل «الرجعية» لمن يريد أن يرد الحياة إلى الوراء. غير أن الدقة تحتم علينا أن نفهم معنى «الأمام» و«الوراء»؛ لأنها لا تكون مفهومة إلا بالنسبة لهدف معلوم. وهكذا نستطيع أن نحدد «المثقف الثوري» تحديدا أكثر دقة، بقولنا أنه من أدرك مثلا جديدة للحياة الإنسانية، وحاول تغيير الحياة وفقا لها، شريطة أن يجيء هذا التغيير في الاتجاه الذي يسير فيه التاريخ، بحيث تتسع الرقعة البشرية التي تتمتع بما كان مقصورا على القلة، من جوانب القوة والحرية والعلم وسائر أوجه الكمال.
53
والطريف أنه يجعل من سقراط النموذج الأول «للمثقف الثوري»؛ لأنه لا يستريح ولا يطمئن، حتى يحمل الناس على قبول ما ارتسم في ذهنه من وجوب أن يكون زمام الأمور كلها لمبادئ العقل: فلا نزوة ولا رغبة ولا عاطفة أجدى على الإنسان من عقله.
54 «ومثلنا الثاني للمثقف الثوري هو أفلاطون: ارتسمت في ذهنه صورة عقلية للدولة المثلى كيف تكون، بحيث تجيء دولة قائمة على دعامة العدل»، وأخذ في محاورة «الجمهورية» يفصل القول في صورة هذه الدولة العادلة ... ولو اكتفى أفلاطون بهذه الصورة لعددناه «مثقفا»، يرى الفكرة ويحللها فيسترخي ويستريح، لكنه كان مثقفا ثوريا وهو يلتمس طريق التنفيذ لفكرته التي ارتآها عند تلميذه ديونيسيوس، الشاب الذي آل إليه الحكم في سراقوصة بجزيرة صقلية ...»
55
كذلك كان الغزالي في تاريخ الفكر الإسلامي هو خير الأمثلة التي تضرب للمفكر الثوري؛ لأنه غير بفكره حياته وحياة الناس من بعده لعدة قرون ... وفي حياتنا الفكرية الحديثة يقوم «جمال الدين الأفغاني» بدور سقراط: يجادل ويناقش ويخلق التلاميذ والأتباع، ويشعل الروح ويوقظ النفوس ... كذلك كان تلميذه «محمد عبده» يدرس ليصلح ويبني وينشئ ويعلم ويربي، ولم يكن «مثقفا» وكفى، بل كان «مثقفا ثوريا». وقل مثل هذا في قاسم أمين ولطفي السيد، الأول يكتب ليغير نصف الشعب «المرأة»، والثاني ليؤصل حياة سياسية على أصول ديمقراطية.
وهكذا يسير بك في تحليله العقلي لمفهوم ظهر في حياتنا الثقافية إلى آفاق لم تكن في الحسبان. بل لم يتصور من استخدموا هذا المفهوم أنه يمكن أن ينسل هذا النسل كله! (ب) إرادة التغيير
لم يكن زكي نجيب محمود في يوم من الأيام منتميا إلى حزب سياسي معين، ولكن كان يتخذ على حد تعبيره «موقفا سقراطيا»، هو أن يكون صاحب رأي مستقل، من حقه إبداء الرأي وتوجيه النقد لكثير من أوضاع مجتمعه، دون أن يلتزم بأفكار حزب معين أو بموقف «أيديولوجي خاص». ولقد أمده هذا «الموقف المستقل» بحرية الحركة، في نقد وتحليل أي مفهوم يظهر على مسرح حياتنا الثقافية أو السياسية، دون أن يجد في هذا التحليل حرجا ولا غضاضة؛ ولهذا تراه قابعا مع قلمه ممسكا بمبضع التحليل يتلقف كل ما يظهر من أفكار ومفاهيم ليبدأ عمله! لا يهمه بعد ذلك المصدر الذي أطلق الفكرة - رئيس الجمهورية أو جمهور الناس في الشارع - فبعد حرب السويس تحدث الرئيس جمال عبد الناصر في إحدى خطبه داعيا إلى «إرادة التغيير» التي نحن أحوج ما نكون إليها، ويتلقفها مفكرنا الكبير ويضعها تحت عدسته المكبرة، فإذا بهذا التعبير يتحول إلى تحصيل حاصل! فهما مترادفان! «إرادة التغيير» كلمتان صيغتا على صورة المضاف والمضاف إليه كما نقول: قراءة الكتب أو «رؤية الشمس» ... وهما معا تكونان أحد المبادئ التي نستهدفها في بناء حياتنا الجديدة، وهما من ذلك الضرب من المفاهيم التي يكون الناس منها على درجة وسطى بين «الجهل والعلم»، ومن ذا لا يستخدم كلمة «إرادة» وكلمة «تغيير» في حديثه الجاري، وهو على بعض العلم بما تعني هذه الكلمة أو تلك؟!
56
وينتهي من تحليله إلى أنه لا انفصال بين الإرادة والعمل، حتى ليصبح من اللغو أن نقول عن إنسان أن له «إرادة»، لكنها لا تجد العمل الذي تؤديه ، وإلا كنت كمن يقول إنه يأكل ولا طعام أو يشرب ولا ماء!
الإرادة هي نفسها العمل الذي يحقق الهدف، ويزيل ما قد يحول دون تحقيقه، شريطة أن يكون الهدف هو هدفك أنت، وإلا كنت آلة مسخرة في يد صاحب الهدف. إنك في الفعل الإرادي أنت الآمر والمأمور، إنك أنت تعمل العمل الذي تسعى به إلى تحقيق أهدافك، فأنت عندئذ بجميع سلوكك تجسيد للإرادة وتنفيذها.
57
وهكذا نجد أن قولك «إرادة التغيير» لا يزيد شيئا عن قولك «الإرادة» ... لأن هذه لا تكون بغير فعل، ولا فعل بدون تغيير، فسواء أكان التغيير الحادث ضئيلا، أم جسيما فهو تغيير؛ لأنك لا تفعل الفعل في خلاء، بل لتحرك به شيئا فيتغير مكانه، وباختصار كل إرادة فعل، وكل فعل حركة وتغيير! ومن ثم فلا ينبغي أن نتحدث عن «إرادة التغيير»، بل عما نريد تغييره، أو الهدف الذي من أجل تحقيقه تغير ما تغير، وهو يقترح أن يتجه التغيير إلى المعايير والقيم التي تسود حياتنا، ويضرب لها مثلا بالتوحيد بين العام والخاص «فنحن بما ورثناه من تقليد اجتماعي أحرص ما نكون على «الملك الخاص»، وأشد ما نكون إهمالا «للملك العام»، كما هي الحال في العناية الواجبة بالابن والعناية الواجبة بالمواطن البعيد، والعناية بتنظيف الدار من الداخل والعناية بتنظيف الطريق العام، بين المال الذي نملكه والمال الذي تملكه الدولة، بين العيادة الخاصة يديرها الطبيب الذي يستغلها ، والمستشفى العام يديره الطبيب نفسه، ولكنه يديره باسم الدولة.»
58
وقل مثل ذلك في معاني «الجاه» و«الصدارة في المجتمع» والزهو بعدم الخضوع للقانون ... إلخ.
59 (ج) أخلاق القرية
وعندما تحدث الرئيس السادات عن أخلاق القرية.
60
زاعما أنها الأخلاق المثلى، وأنه يريد أن يعود بالمجتمع إلى مثل هذه «الأخلاق الرفيعة»؛ تصدى مفكرنا الكبير لتحليل الفهم الغريب لأخلاق القرية، وكان مما قاله: «إن أخلاق القرية هي الأخلاق التي أفرزتها الحضارة الزراعية الريفية، وبمقدار ما نريد المحافظة على شيء من هذه الحضارة، تكون الحكمة في المحافظة على أخلاقها. غير أن الاتجاه العام الذي يسود عصرنا هو تحويل القرية إلى مدينة لا تحويل المدينة إلى قرية؛ فالأقرب إلى التصور أن يتحول الفلاح إلى عامل زراعي، بكل ما تحمله كلمة عامل الآن من حقوق الأجور والتأمينات والانتماء النقابي وغير ذلك. لقد جاءت قيم الحضارة الصناعية، لتبقى وتسود وليس لنا عن ذلك محيص.»
61
ثم يستطرد أستاذنا الكبير فيعدد «مساوئ» أخلاق القرية، التي يشيد بها رئيس الجمهورية: (1)
أبناء القرية في تمسكهم بأخلاق الريف الزراعي يعدون أنفسهم أسرة واحدة أو كالأسرة الواحدة؛ ومن هنا كان مصدر صلابتهم، لكن من هنا أيضا كان مصدر التخلف الحضاري عندهم؛ ذلك لأن الشعور الأسري هو في الأساس مصدر «المحسوبية». فيكفي صاحب الحكم أن يعلم أن بينه وبين فلان تلك العلاقة الوثيقة، ليجعله «محسوبا» عليه؛ مما يلزمه إلزاما خلقيا أن يسانده ولو بغير حق، وهي مساندة غالبا ما يجيء ثمنها أن يدين المحسوب لولي نعمته بالولاء ... وهكذا تظهر النتائج الضارة! (2)
العلاقة بين أفراد القرية قائمة على ما تقضيه روابط الدم؛ أعني روابط القربى، وكثيرا ما يكون ذلك على حساب المصلحة القومية التي تجاوز القرية وأبناءها، فالحضارة الصناعية أدت إلى تجمع ألوف العمال في مصنع واحد، بل ويسكنون عادة في حي واحد؛ مما أدى إلى علاقات اجتماعية من نوع جديد هي العلاقات التي تتمثل في النقابات، وسرعان ما يصبح الهدف المشترك لا خدمة أسرة واحدة، بل خدمة حرفة صناعية معينة، وخدمة القائمين بها. وهنا تتغير معاني طائفة كبيرة من الألفاظ الخلقية كالعدل والكرامة والتعاون.
62 (3)
إذا كان في الدعوة إلى أخلاق القرية رومانسية تشبع الخيال، فإن فيها الكثير من جوانب القصور: ليس فيها مثلا مكان لدقة الزمن باعتبارها فضيلة؛ فأدق ما تعرفه أن يقال صبح، ضحى، وعصر، ومغرب؛ ولذلك يضيق ابن القرية عندما تطالبه بتوقيت يلتزم الساعة والدقيقة ... فإذا عرفنا أن دقة الزمن من الركائز الأساسية في الحضارة الصناعية القائمة، علمنا أن أخلاق القرية لم تعد تسعف من أراد المشاركة في حضارة هذا العصر.
63 (د) يمين الفكر ويساره
ومن المفاهيم الغامضة التي استخدمت بدلالات سياسية أيضا «اليمين واليسار »، فهما كلمتان تستعملان على نطاق واسع للتفرقة بين الأفكار والمواقف والأشخاص: فهذه الفكرة من اليمين وتلك من اليسار، وكذلك هذا الموقف وذلك. وهذا الرجل وذاك، وكثيرا ما يوصف من وضع في زمرة اليمين بالرجعية واللاعلمية؛ لأن اليسار وحده هو التقدمي والعلمي، وليس الأمر من قلة الشأن بحيث نتركه يمضي بغير تحديد ...
64
وينتهي من تحليله لهذين المفهومين إلى نتيجة: «أراها محتومة حتما؛ وهي أن ليس هناك فواصل فارقة في ميدان الفلسفة بين يمين ويسار، وكذلك لست أعتقد أنه يطوف لأحد ببال أن يكون في «العلم» يمين ويسار ...»
65
لكن هذه التفرقة تكون واضحة في مجال الاقتصاد والاجتماع والسياسة ... فضلا عن مضمون الأدب دون الشكل، ومضمون الفن التشكيلي، وشكله معا عند من يطالبون الفنان بأن يحمل فنه رسالة في الاقتصاد والاجتماع.
66 (ه) الطاغية
لست أرى أن أنهي هذا القسم بأفكاره ومفاهيمه السياسية قبل أن أتحدث بسرعة عن تحليل مفكرنا الكبير لمولد الطاغية كيف يكون؟! فهو يراقب عصفورا جاء يلتهم حبات أرز، وضعت في وعاء في الشرفة الخارجية للمنزل، فما إن حط العصفور على مقربة قريبة من الأرز، حتى أخذ يتلفت بحركة سريعة هنا وهنا، قبل أن يقدم على التقاط الحب، كأنما أراد أن يستوثق من غيبة الرقيب، حتى إذا اطمئن بعض الشيء خطا خطوتين بحذر شديد، وأصبحت حبات الأرز على ملقط منه، لكنه مع ذلك تريث لحظة وراح من جديد يلتفت يمنة ويسرة، فلما لم يجد ما ينذر بالخطر، التقط حبة واحدة بلقطة سريعة، ثم سكن لحظة وعاد يلتفت، فلما لم يجد إلا الهدوء والأمان، انكب على الأرز يلتهم منه ما يملأ حويصلته وطار.
67
وهو هنا يصور لنا كيف يبدأ المعتدي بالحذر والخوف، حتى إذا ما أمن مغبة الاعتداء ملأته الشجاعة، فأقبل على العدوان بكل قدرته وهو مطمئن آمن، أو قل إنه كالمطمئن الآمن، لا يحول شيء بينه وبين السير في الشاطئ إلى آخر المدى. إن سكوت صاحب الحق المنهوب سرعان ما يجعل الناهب صاحب حق في الاعتداء: «والقاعدة التي أريد أن أضعها بين يديك هي أنه حيثما فرط إنسان في حقه، ظهر لذلك الحق طاغية يستبد به.»
68
المجموعة الثانية: مفاهيم دينية (أ) التطرف الديني
في تحليله لهذا المفهوم مثال واضح لارتباط التحليل عنده، بما يظهر في حياتنا الثقافية أولا بأول من مفاهيم وأفكار؛ فهو يستخدم الفاعلية الفلسفية فيما يظهر على سطح هذه الحياة، من أفكار أيا كان نوعها، فعندما بدأ الناس يتحدثون عن «التطرف الديني»، كتب في الحال «متطرف تحت المجهر»، يحاول أن يسأل مع الناس عن معنى هذا التعبير، وتكون الإجابة عنده على النحو التالي:
إن علينا بادئ ذي بدء أن نفرق بين طرفين: «الدين» كما هو قائم في الكتب السماوية من ناحية، و«المتدين» بذلك الدين من جهة أخرى. فبينما الكتاب واحد فإن المتدينين به كثيرون، وليس هو من الأمور الشاذة في طبيعة الناس، أن يختلفوا في طريقة فهمهم لنص واحد قرءوه. وهذا ما حدث للمسلمين؛ فهم متفقون على الكتاب الكريم لكنهم مختلفون في فهمهم لبعض آياته، ومن هنا نشأت المذاهب المتعددة؛ ومن ثم يكون معنى التطرف أن يأخذ المسلم بطريقة معينة في الفهم، أو بمذهب معين، ثم يعلن أنه هو وحده الصحيح، وقد أخطأ الآخرون، ولو وقفت المسألة عند هذا الحد لهان الأمر، لكنه ينقلب «متطرفا» إذا هو أراد أن يحمل الآخرين بالقوة - كائنة ما كانت صور القوة - على مشاركته فيما يعتقد.
69
وينتهي مفكرنا الكبير من تحليله لمفهوم التطرف إلى أن هناك أربع خصائص للمتطرف في مجال الدين أو في أي مجال غير الدين، وهي:
أولا:
سمة أساسية للمتطرف وهي سمة تؤخذ عليه أن يقوم بإرهاب الآخرين، لإرغامهم على قبول ما يدعو إليه هو وزمرته، وفي ذلك الإرهاب يسكن جوهر التطرف، فليست المسألة أنه يختار لنفسه وجهة نظر، يرى الأفكار والمواقف من خلالها، وإنما المسألة أنه يريد أن يرغم الآخرين بالقوة للأخذ بها، فقد كانت وجهة نظر «الخوارج» مثلا خالية مما يؤخذ عليهم، ومع ذلك فقد نفرت منهم الأمة الإسلامية، لماذا؟! كانت العلة في تطرفهم هي اللجوء إلى القسوة العنيفة إرهابا لكل من وقعت عليه أيديهم حتى يوافق على وجهة نظرهم، وإذا لم يفعل قتلوه بأفظع صور القتل وأبشعها؛ مع أنهم كانوا لا ينقطعون عن عبادة الله لحظة واحدة، ويديمون الصلاة حتى لقد كانوا يعرفون بما كانت تتقرح به جباههم من السجود على حصباء الأرض العارية.
70
ثانيا:
إذا كان اتخاذ الإرهاب وسيلة لإرغام الخصوم هو العلامة الحاسمة التي تميز المتطرف عمن سواه، كان محالا أن يلجأ إليه إنسان قوي واثق بنفسه وعقيدته، وإنما يلجأ إليه من به ضعف في أي صورة من صوره؛ لماذا؟! لأن الإنسان إذا أحس في نفسه ضعفا تملكه الخوف من أن يطغى عليه أصحاب المواقف الأخرى، وكأي خائف آخر ترى المتطرف هلعا جزوعا، يسرع إلى أقرب أداة للفتك بخصمه إذا استطاع قبل أن تسنح الفرصة أمام ذلك الخصم.
71
ثالثا:
لا يتطرف بالمعنى السابق إلا من حمل على كتفيه رأسا فارغا وخاويا، اللهم إلا أضغاثا دفع بها إلى ذلك الرأس عن فهم أو غير فهم، وذلك لسببين:
الأول:
أن تكون الأفكار التي شحن بها رأسه غير علمية لأن الفكرة العلمية مقطوع بصوابها.
الثاني:
أن ما يمتلئ به رأس المتطرف، ما دام لا يمت إلى العلم بصلة، لا بد أن يكون فيه الخصائص المضادة للعلم، ومنها «حرارة الانفعال»، وغموض المعنى واحتمال أن تتعدد فيه وجهات النظر.
72
رابعا:
السمة الأخيرة أن التطرف في الواقع، حالة من حالات التكوين النفسي، ولا نقول إنه وجهة نظر إلا من باب التساهل، وإنما هو في حقيقته الدفينة «حالة نفسية»، تجعل صاحبها على استعداد لأن يتطرف وكفى! فليس المهم هو الموضوع الذي يتطرف فيه، بل المهم في تكوينه هو أن يتطرف للتطرف في حد ذاته؛ ومن هنا رأينا أمثلة كثيرة لمتطرفين يقفزون بين يوم وليلة، من تطرف في فكرة إلى تطرف في الفكرة التي تناقضها؛ فتراه اليوم متطرفا في رؤية إسلامية معينة، ثم نراه غدا متطرفا في رؤية شيوعية، أو العكس؛ مع أن الإسلام والشيوعية ضدان لا يلتقيان.
73 (ب) فلسفة الشهادة
ماذا تعني شهادة «لا إله إلا الله» التي هي أصل ثابت في حياتنا الدينية والثقافية؟! هي من الشجرة العقلية بمثابة الجذع وجذوره، ثم تنبت الغصون وتنمو وتورق؛ فهي شهادة تدل - من بين ما تدل عليه - على ثلاثة أركان دفعة واحدة لإقامة هيكل ثقافي كامل، لو كسوناه لحما لأصبح حياة فكرية، تحمل طابعا يميزها عن كثير مما عداها؛ فهي تدل على ذات إلهية مشهودة، وذات إنسانية شاهدة، ومجموعة من أفراد الناس تتم الشهادة في حضورهم: (1)
أول ركن تدل عليه الشهادة، وجود الذات الإلهية، التي تشهد أن ليس ثمة من آلهة سواها، ثم نجد لهذه الذات صفات كثيرة، تتوحد في نسق معين، هي ما نطلق عليه أسماء الله الحسنى، وهذه المجموعة من الصفات هي لله على نحو مطلق، وهي كذلك للإنسان على نحو نسبي؛ أي إن المسلم لا بد أن يعمل على أن يكون في حياته عالما فريدا قديرا مهيمنا عزيزا جبارا ... إلخ، وإلا كانت شهادته باللفظ دون المعنى. (2)
أما الركن الثاني الذي تتضمنه الشهادة فهو وجود الذات الإنسانية الشاهدة، ولا بد من الوقوف المتأمل عند «الذات الإنسانية» هذه، لنرى متى يتحقق وجودها وكيف؟! إنه مهما يكن من أمر التشابه والتجانس بين أفراد البشر، فلن يكون الفرد الإنسان «ذاتا»، إلا إذا بقيت له بقية يختلف بها عن جميع من عداه، وهي بقية لها كل الأهمية والخطورة؛ لأنها هي التي تحدد هويته، وهي التي نعدها مسئولة أمام الله والناس. وهذا الجانب الفريد من كيان الإنسان، هو الذي «يشهد ألا إله إلا الله».
74 (3)
يبقى الركن الثالث المتضمن في «الشهادة»؛ أعني به وجود الآخرين الذي هو ركن أساسي في حياة هذا الإنسان، ولك أن تقدر الفرق الشاسع بين إنسان يتصرف كما لو لم يكن في الدنيا إنسان سواه، وآخر يضع في اعتباره عند كل خطوة يخطوها وكل فعل يؤديه، أن هناك آخرين اعترف بهم ضمنا حين شهد ألا إله إلا الله. وهكذا تنشأ لنا عن أصل واحد ضروب ثلاثة: الحقيقة الدينية، والفردية الإنسانية، وروابط المجتمع.
75 (ج) الضمير الديني
الغاية التي يجب أن نستهدفها من التربية الدينية هي إيجاد ذلك الضرب من الوجدان الديني الذي من شأنه أن يهدي صاحبه كلما جد موقف في الطريق، إلى اختيار السلوك الذي يعينه على تكامل شخصيته، تكاملا ينم عن «وحدانية تلك الشخصية»؛ لأن ما يحقق إسلام المسلم هو في المقام الأول، أن يجسد في شخصه رسالة الإسلام، و«التوحيد» من تلك الرسالة هو في صميم الصميم.
لكن ماذا نعني بكلمة «الضمير»؟! نعني بها ما استخلصناه لأنفسنا مما وعيناه وعشناه: إما من خبراتنا المباشرة أو مما علمنا إياه آباؤنا ومعلمونا، «فأضمرناه» في نفوسنا لنحمله معنا أينما توجهنا، فنكون بمثابة من يحمل معه دليلا هاديا، يرشده إلى سواء السبيل إذا ما أشكل عليه الأمر.
76
فما هو المبدأ الذي يستخلصه المسلم من أحدية الله ويضمره في صدره ليكون مرجعه في مسلك حياته؟ كيف نحول عقيدة «التوحيد» بالتربية إلى «ضمير»، يكون به المسلم مسلما فيما يدع وفيما يختار؟! هذا المبدأ هو أن يختار الفعل الذي يتسق مع غيره في بناء شخصية موحدة. فالتوحيد الإسلامي هو في أعماقه تناسق في حياة الإنسان الأخلاقية، بمعنى أن تنظم مجموعة القيم الروحية في ترتيب معين، يبين أيها أولى من أيها إذا ما تعارضت في موقف معين؛ ومن ثم فعقيدة المسلم إذا ما رسخت في صدره ضميرا يهديه إلى جادة الطريق، ضمنت له ألا تتعدد معاييره الأخلاقية، فمعيار أمام ولي الأمر ومعيار آخر أمام الناس، ومعيار ثالث يقيمه حين يخلو لنفسه! إننا إذا استطعنا تربية هذا «الضمير الديني» عند أبنائنا وبناتنا، كان ذلك درعا تحميهم من أن يذل صغيرهم لكبيرهم، أو أن يذل فقيرهم لغنيهم، أو أن يذل محكوم لحاكم.
77
مفاهيم متفرقة
هناك مفاهيم دينية كثيرة تعرض لها مفكرنا بالتحليل والتشريح؛ من ذلك مثلا التفرقة بين «الفكر الإسلامي» من ناحية، «وفكر المسلمين» من ناحية أخرى، فلكي يكون الفكر إسلاميا لا بد أن يكون منصبا على مسائل متصلة بعقيدة الإسلام وشريعته، منها مثل وجود «الله» وصفاته كالوحدانية، والعدل، والقدرة، والعلم ... إلخ ،
78
كذلك فكرة الإمامة، خلق القرآن ... إلخ إلخ. هذا هو الفكر الإسلامي الذي ينصب على موضوعات متعلقة بالعقيدة، إلا أن المسلمين كان منهم علماء ذوو فكر إنساني عام لا يتقيد بصفة، تقصره على ديانة دون ديانة أخرى، وها هنا نرى للمسلمين فكرا في شتى نواحي العلم والمعرفة؛ مما لا يختص بالعقيدة والشريعة، وليس فيه من الإسلامية إلا إسلام صاحبه مثل عالم الرياضة، وعالم الفلك، وعالم الكيمياء والبصريات، والطبيب، والمهندس، بل ونستطيع أن نضيف أنواعا أخرى مثل كتاب الرحلات، ونقد الأدب، وعلم الحيوان والنبات ...إلخ كل ذلك ضروب من العلم والمعرفة قام بها مسلمون، حتى أصبحت جزءا هاما فيما نسميه بالتراث العربي، إلا أنه لا يندرج فيما نسميه بالفكر الإسلامي ...
79
ومن المفاهيم الدينية التي عالجها أيضا «الدين» و«التدين» و«علوم الدين»، عندما رأى خلطا في رؤية الناس لها حتى أهل التخصص منهم «فالدين قائم في نصوصه المحددة ... ثم يأتي الطرفان الآخران: من يؤمنون بذلك الدين وهم من يصفونهم «بالتدين»، ثم علوم الدين التي تقام على النصوص كما سبق أن رأينا. فعلم الدين لا هو «الدين» ولا هو «التدين»، إنما هو فاعلية عقلية تقوم على الدين. ولقد لبث الإسلام «دينا» للمؤمنين «يتدينون» بمبادئه وتعاليمه، قبل أن يظهر الفقهاء ليقيموا عليه العلم بمنهج التفكير العلمي، وعندما نزلت الآية الكريمة:
اليوم أكملت لكم دينكم ، «كان قد كمل دين الإسلام ودخل الناس أفواجا ، ولم يكن قد كتب بعد سطر واحد في أي علم من علوم الدين؛ مما يقطع بأن الدين نفسه شيء، والمتدينون به شيء ثان، والعلوم التي تقوم عليه شيء ثالث.»
80
ولك أن تقرأ مقال «الشيطان الأخرس» لترى كيف كان يتصدى مفكرنا للمفاهيم الدينية الخاطئة بالتحليل والتفنيد فور ظهورها في الصحف اليومية؛ فلو نشر واحد من أئمة الدين في جريدة الأهرام «أن رجال الشريعة قادرون على أن يقولوا كلمتهم في كل شيء»، يكون تحليل مفكرنا «لو كان الأمر كما قال القائل لوجب منذ الغد أن تغلق الجامعات جميعا، ومراكز البحث وغيرها مما يريد أن يبلغ شيئا من الحق، لا نبقي إلا على كلية الشريعة لأنها تعلمنا «كل شيء» ...!»
81
المجموعة الثالثة: مفاهيم قومية وأفكار وطنية (أ) العروبة
في اعتقادي أن مفكرنا الكبير كان متحمسا لجعل «العروبة» مفهوما ثقافيا، وليس فكرة سياسية، فقد كتب يقول: «ليست عروبة العربي قرارا سياسيا تصدره مؤتمرات القمم أو مؤتمرات السفوح والوديان ... بل هي مركب ثقافي يعيشه في حياته اليومية، ولا يستطيع العربي نفسه أن ينسلخ عنه إذا أراد ... وأن يعيده إليه إذا أراد ... لا ... ليست عروبة العربي قميصا يلبسه إذا شاء ويخلعه إذا شاء، بل هي خصائص توشك أن تبلغ منه ما يبلغه لون الجلد والعينين ...»
82
فما هي هذه الخصائص:
أولا:
أولى خصائص العروبة لغتها على أنه لا يكفي في هذا الجانب بأن تكون لغة الكلام والكتابة عربية؛ فالأوروبي الدارس للغة العربية قد يتكلمها ويكتبها، ومع ذلك لا تدرجه في العروبة ابنا من أبنائها ... إذ المهم هنا هو اللفتات العقلية أو الإدراكية العميقة التي تكمن في كيان العربي، فتميل به إلى اكتساب الصفات المتمثلة في اللغة العربية. فمن خصائص اللغة العربية مثلا أنك إذا عرفت الأصل الثلاثي، عرفت كيف تفجر منه شجرة المشتقات على كثرة فروعها، فإذا عرفت كلمة «كتب» فجرت منها كاتب وكتاب وكتابة ومكتوب ... إلخ، فكأنها القبيلة أو العشيرة بتعدد أفرادها، لكن هؤلاء الأفراد ينتمون إلى رأس واحد ...
ثانيا:
ثانية الخصائص ميل العربي إلى القفز السريع من الأفراد الجزئية إلى تجريدها وتعميمها في أنواع وأجناس؛ فهو لا يهمه هذا الطائر المعين بل يكفيه أن يعرف الطائر في عمومه من حيث هو نوع ... إن العربي في تكوينه العقلي لا يعبأ كثيرا بالأفراد أو المفردات، وإنما يريد «الخلاصة» العامة المجردة ليسهل حملها معه، وهو مسافر في الفلاة على ظهور الإبل! ولقد بلغ ميل الشاعر العربي إلى التجريد حدا جعله إذا تغزل في امرأة لا يقصد امرأة بعينها، بل إن غزله منصب على «نوع» المرأة بأسره، وكذلك إذا وصف جوادا أو بعيرا أو ما شئت.
83
ثالثا:
وثالثة الخصائص إيمان العربي أن الحضارة الصحيحة إنما تدار على محور الأخلاق، فليس المهم فيمن هذبته الحضارة أن يكون قويا بسلاحه ولا قادرا بماله، بل المهم هو أن يقوم بالتعامل بين الإنسان وربه، والإنسان والإنسان على أنماط رسمتها السماء لأهل الأرض؛ ومن هنا كان جوهر العروبة الاعتقاد بأن الخالق يشاء ويأمر، والمخلوق يطيع بغير سؤال!
رابعا:
ليس عند العربي مقابلة بين واقع ومثال، بل بين «واقع» و«واقع»؛ فكلمة مثال العربية تعني كائنا ماثلا أمامنا نراه ونلمسه. وأما كلمة «واقع» فهي تعني «الوقوع» الذي هو الهبوط والسقوط؛ ومن هنا كان العربي يقصر نظرته على دنيا الكائنات الفعلية، يوازن بين بعضها وبعضها الآخر، وهي بأجمعها «واقع» سواء في ذلك ما هو أدنى وما هو أعلى!
لكن علينا أن نلاحظ أن تحديد تلك الخصائص لا ينفي أن نحاول تغيير ما نريد تغييره منها، لقد أردنا فقط أن نقول: «إن عروبة العربي هو وجوده الثقافي المميز؛ فهي لا تمنح بقرار كما قد يتوهم الواهمون!»
84 (ب) الشخصية المصرية
لا تناقض بين عروبة العربي من جهة ومميزاته الإقليمية من جهة أخرى؛ فالمصري مصري وعربي معا، كما يكون السوداني سودانيا وعربيا، والعراقي عراقيا وعربيا في آن ... فليس على هذه الأرض إنسان واحد وحداني الانتماء، وإنما الأمر في هذا يشبه الدوائر التي تتدرج اتساعا.
85
وإذا صح ذلك فما هي أهم الخصائص الممميزة للذات المصرية ...؟! أهمها عمق الشعور الديني، ويتبعه عند المصري اتساع النطاق الذي يتعامل فيه مع «الغيب»، إما بالإيمان الرشيد أحيانا، وإما بتهاويم الخرافة أحيانا أخرى.
86
ثم تجيء بعد ذلك خاصة انتمائه الأسري، وهو انتماء لا يقف معه عند حدود «الأسرة النواة»، كما يصفها كثير من كتاب الغرب اليوم بمعنى الوالدين والأخوة، بل يوسع المصري من حدود الأسرة التي يشتد بها الانتماء إليها، لتشمل كذلك أبناء العمومة والخئولة ومن يتصل بهم.
87
ثم يتميز المصري كذلك بحبه لأرضه ليس فقط من حيث هي أرض يزرعها، بل من حيث هي كذلك أرض يتصل بها ولادة ونشأة وذوي قربى ... ولقد تفرع عند المصري من عمق إيمانه الديني وقوة انتمائه لأرضه وأصله، حب يشبه الحب الصوفي للعمل الذي يؤديه، زراعة كانت أو صناعة، وأعني بالحب الصوفي هنا حبا للشيء في ذاته ولذاته، لا للأجر الذي ترتب عليه.
88
ثم يلخص مفكرنا مفتاح الشخصية المصرية في عبارة موجزة هي «المصري صانع عابد»، يتعامل مع هذه الدنيا وكائناتها بحواسه وجوارحه، ويتعامل مع الغيب بقلبه وإيمانه، هو واقعي في الحالة الأولى صوفي في الحالة الثانية، هو مادي في أحد جوانبه روحاني في الجانب الآخر. وكأن مفكرنا يريد أن يقول إن شخصية المصري مثال حديث للصيغة التي اقترحها حلا لمشكلتنا الثقافية المعاصرة؛ وأعني بها صيغة الجمع بين «العقل والوجدان». ولقد ساعده على هذا الجمع بين الجانبين في شخصية واحدة متكاملة، أنه نموذج فريد يجمع في صيغة حضارية واحدة خصائص فلاحة الأرض وبداوة الصحراء ومجتمع المدينة.
89
لكن أين يا ترى نجد ذلك المصري الذي هو «صانع وعابد» في آن معا؟! يجيب: «إنك تراه فيما صنعت يداه، تراه في كل مسلة قدت من الصخر العتي بإزميل عبقري جبار، وارتفعت برأسها نحو السماء، وكأنها كلمة دعاء في صلاة! إنك تراه في أخناتون يشهد أن الله واحد وراء كثرة الظواهر على الأرض في السماء. إنك تراه في راهب الدير الذي يزرع ويعبد الله في حياة واحدة. إنك تراه في المساجد ومآذنها، التي لا تدري وأنت شاخص ببصرك إليها في روعة بنائها، أهي صلاة تجسدت في عمارة أم هي عمارة ذابت في صلاة.
90 (ج) الولاء للوطن
عندما شاهد في التليفزيون جماعة من الشباب تهتف بالفداء بأرواحها ودمائها «ولاء» لهذا أو ذاك، شعر أن في هذه الصورة شيئا يثير القلب ويتطلب التصحيح.
91
فيكتب على لسان سقراط: «إن الولاء لا يكون لشخص، وإلا فماذا لو غاب هذا الذي أعلنت له إخلاصك؟ أتصبح بغير إخلاص لأحد؟! إن الولاء الصحيح يا أصدقائي لا يكون لشخص بقدر ما يكون لقضية معينة أو لفكرة أو لعقيدة دينية، أو غير ذلك مما يحيا من أجله الإنسان ويشعر ألا حياة له بغيره ...»
92
ثم يحلل معنى الولاء ليجد أنه في حقيقته يتضمن أساس الأخلاق كلها ... أما سر الولاء فهو أن الفرد يشعر عن عمق وجدانه، أنه لا يستطيع العيش وحده فريدا في هذا الكون الفسيح، ويريد أن يجد «آخر» يتحد معه ليوسع من وجوده، فإذا وجد هذا «الآخر»، تمسك به وأخلص له؛ ومن هنا كان الولاء ضرورة حيوية لكل ما من شأنه أن يجعل وجودنا أغزر معنى وأوسع نطاقا.
93 «فالولاء يكون لله لأنه مالك يوم الدين، والولاء يكون للوطن الذي بغيره ينعدم أهم أركان الهوية في هذه الدنيا، والولاء يكون لأي مجموعة تمثل فكرة لها دوام، وأنتمي إليها عضوا فيها عاملا مع غيري على تحقيق هذه الفكرة ...»
94
وهكذا تندمج الذات الفردية في ذات أوسع منها وأشمل؛ ليصبح الفرد بهذا الدمج جزءا من أسرة أو جماعة أو من أمة أو من الإنسانية كلها ... إلخ.
لكن ماذا نحن صانعون إذا تعارض ولاء وولاء، كأن يتعارض في موقف معين ولاء فرد لأسرته وولاؤه لأمته؟! الجواب: أن نختار الطريق الذي يتيح للفرد تكاملا في شخصيته بدرجة أعلى، فهل يكون إنسانا أكمل إذا هو انتمى إلى أسرة قوية وأمة ضعيفة، أو إذا انتمى إلى أسرة ضعيفة وأمة قوية؟! الإجابة تكاد تدل على نفسها؛ وهي أن البديل الثاني أفضل وأكمل وأسمى؛ ومن هنا لك أن تسأل نفسك: أيكون الولاء والتضحية بدمائنا وأروحنا لمصري أم لمصر؟!
95
المجموعة الرابعة (أ ) وضع المرأة
لا نريد أن نسهب طويلا في أمر المفاهيم الاجتماعية، بل يكفي أن نقول إنه كان يتلقف ما يظهر في حياتنا الاجتماعية من أفكار وقيم، ليقوم بتشريحه بنفس الفاعلية العقلية التي قدمنا لها فيما سبق مجموعة من الأمثلة. ولقد كتب عما أسماه «بالردة في عالم المرأة»، ورسم لها صورة في غاية الأهمية، ذهب فيها إلى أن «أبشع جوانب الردة في حياة المرأة اليوم ليس هو أنها تريد أن تتعلم إلى آخر المدى فيمنعها أحد، وليس أنها تريد أن تعمل بما تعلمته فيمنعها أحد ... وإنما الجانب البشع من تلك الردة هو أن المرأة اليوم تريد أن تجعل من نفسها وبمحض اختيارها، حريما يتحجب وراء الجدران أو يتستر وراء حجب وبراقع، وكأنها الفريسة السهلة تخشى أن تتخطفها الصقور. أما أن تحصن نفسها بقوة الروح، وبالشعور بكرامتها إنسانة واعية مستنيرة، فذلك زمن أوشك على الذهاب مع ذهاب رائدات الجيل الماضي. ألا ما أبعد الفرق في حياة المرأة المصرية بين الليلة والبارحة؛ ففي بارحتها ألقت بحجابها في مياه البحر عند شواطئ الإسكندرية.
96
إيذانا بدخولها عصر النور، وأما في ليلتها هذه فباختيارها تطلب من شياطين الظلام، أن ينسجوا لها حجابا يرد عنها ضوء النهار ...»
97 (ب) الرأي العام
ولعل من أجمل التحليلات التي قام بها في الميدان الاجتماعي تحليله لفكرة «الرأي العام»، الذي وصفه بأنه «الإله الزائف الجديد»، وقال عنه إنه «ذو وجهين» وهو بوجه منهما لا عيب فيه إذا نزعت عنه شوكة التأليه، ولكنه بوجهه الآخر الذي يتسلح فيه بتلك الشوكة الرهيبة، ينقلب إلى طاغية يسحق فردية الأفراد سحقا ليحيلهم إلى أشباح وظلال: «فقد يحدث أن نرى العالم من علمائنا قديرا في علمه وهو في ميدانه، لكنه ما إن يفرغ واجبه إزاء تخصصه العلمي، حتى يسرع الخطى لينخرط مع الرأي العام فيما هو غارق فيه، من تهاويم قد تبلغ أحيانا كثيرة حد الخرافة.»
98
ويفند مفكرنا «عمومية» الرأي العام بقوله: «إن وجود فرد واحد لا يرى الرأي الذي هو عام، ينفي عن الرأي العام عموميته ، وحتى لو كان من حق الرأي العام أن يضغط بقوته العددية في اتخاذ القرارات، وفي انسحاب النواب الذين ينوبون عنه، وهو حق للناس لا شك فيه، فليس له الحق نفسه في منع الآراء والأفكار التي لا تعجب جمهوره.»
99
إن الذي يربط أفراد الجمهور بعضهم ببعض في تكوين رأي عام، يغلب أن يكون هو «الانفعال» لا «العقل»؛ فالانفعال ينتقل من فرد إلى فرد بالعدوى، أما الفكرة العقلية فينقلها صاحبها إلى متلقيها بالإقناع، والإقناع بحكم طبيعته عملية فردية وليست عملية جماعية.
100 (ج) العلمانية
من المفاهيم التي شاعت في مجتمعنا أيضا، وتعرض لها مفكرنا بالتحليل العقلي، مفهوم «العلمانية». وهو يرى أنه ينطق بفتح العين لا كسرها، وأنه في هذا التحريف في النطق يكمن معظم الخلط؛ ولهذا يكتب مقالا عنوانه، «عين، فتحة، عا»، ليشد انتباه القارئ إلى أن الكلمة لا تنسب إلى «العلم» بل إلى «العالم»، وأنها جاءت بهذا المعنى من اللغات الأوروبية، بعد أن خرجت من العصور الوسطى، حيث أقام رجال الدين من حياة الرهبان مثلا أعلى؛ فالزهد في الدنيا، لا الإقبال عليها، هو ما ينبغي للإنسان الكامل أن يهتدي به؛ وذلك لأن عقيدتهم تسمح لهم بأن يفصلوا بين الأرض والسماء، بين الدنيا والآخرة، في الأولى تكون السيادة لقيصر وفي الثانية يكون الأمر لله، فما لنا نحن بهذا كله وليس في عقيدتنا ما يدعونا إلى إهمال هذا العالم ...؟! بل العكس هو الصحيح، فقد أمرنا بأن نحتفل بالدنيا وكأننا نعيش فيها أبدا، وأن نعمل للآخرة كأننا منتقلون إليها غدا!» تلك هي العلمانية التي لم تكن تحتاج منا إلا أن نفتح لها العين، فإذا هي جزء من حياتنا، ومقوم جوهري من مقومات تاريخنا في فترات عزه ومجده، فمن الذي يحاربه أولئك الذين ركبوا جيادهم، وحملوا قسيهم ورماحهم ليقاتلوا «العلمانية» حتى يقتلوها ...؟!»
101
لكن إذا كانت مقاومة من يقاوم العلمانية بفتح عينها مصيبة أعظم فيمن يقاومونها بكسر العين؛ لأن عينها إذا كسرت كانت الإشارة عندئذ إلى العلم وإلى الحياة التي تقيمها العلوم: «فهل يرضيكم، أيها السادة، أن نزرع أرضنا بغير علم، وأن ندير مصانعنا بغير علم، وأن ننشئ مدارسنا وجامعاتنا بغير العلم، وأن نعد عدتنا العسكرية بغير العلم؟! هل يرضيكم أيها السادة أن نمحو أسماء العلماء من تاريخنا، فلا يكون فيهم بعد اليوم جابر بن حيان ولا الخوارزمي ولا ابن الهيثم ولا ابن النفيس؟! وإذا رأيتم في هؤلاء موضع فخر لنا، فلماذا لا تريدون لأحفادهم المعاصرين أن يعيدون سيرتهم الأولى؟!»
102
ويمكن أن نسوق، فضلا عن هذه المجموعات التي ذكرناها، أمثلة تفوق الحصر لأفكار ومفاهيم قام مفكرنا الكبير بوضعها على مائدة التشريح العقلي، منها فكرة «التراث»
103
و«الثقافة».
104
والفرق بين «الفرد والمواطن والإنسان».
105
ومعنى التكنولوجيا.
106
و«القيم الثلاث: الحق والخير الجمال».
107
وارتباطها بأوجه الحياة الواعية للإنسان، وهي «الإدراك والسلوك والوجدان»، وعن معنى «الهوية» في مقاله: «نافخ النار».
108
وعن معنى «الفكر وحريته»، و«وحدة التفكير»، و«رجل الفكر ومشكلاته».
109
و«العقل الحر»، و«أزمة العقل»، و«سلطان العقل»، ومعنى «الروحانية».
110
وعن معنى «الديمقراطية» ...
111
إلخ، لكن تكفينا هذه القطرات من هذا البحر الزاخر؛ لننتقل إلى جانب آخر هو «الوجدان»، لنسوق كلمة سريعة عما قدمه لدينا زكي نجيب محمود الأديب.
القسم الثاني: مجال الوجدان
يتمثل الجانب الوجداني عند مفكرنا في الفن بصفة عامة، والأدب بوجه خاص، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن زكي نجيب محمود هو واحد من أبرع كتاب المقالة الأدبية في أدبنا المعاصر، وهو صاحب رأي خاص في نقد الأدب وكتابة المقال الأدبي، وسوف نعرض لرأيه هذا بعد قليل مع نماذج من المقالات الأدبية عنده، لكنا نريد الآن أن نفرق بين الأدب بوصفه ممثلا لجانب «الوجدان»، والعلم بوصفه معبرا «عن العقل» ... فأين يختلفان وكيف يلتقيان؟!
أولا: الأدب والعلم
كثيرا ما عقد مفكرنا مقارنات مطولة بين الأدب والعلم لكي يفرق بينهما من ناحية، ولكي يهاجم من ناحية أخرى أصحاب «الأدب العلمي»، مبينا أنهم يخلطون بين أمرين لا يجوز الخلط بينهما؛ ذلك لأننا نجد أنفسنا، في حالة الأدب والعلم، أمام ضربين من الكلام يختلف أحدهما عن الآخر أتم الاختلاف، ويستحيل أن يتحول إليه «كما يستحيل أن تتطور الأغنام وتصبح أبقارا»؛ لا لأن الأدب متميز عن العلم بجمال أسلوبه، مع جواز اتحادهما في مادة القول؛ بل لأن الاختلاف أعم من ذلك بكثير؛ فالعبارة العلمية من طراز والعبارة الأدبية من طراز آخر، ولن يستطيع جمال الأسلوب أن يعبر ما بينهما من فجوة واسعة سحيقة.
112
ونحن هنا إنما نعود بطريقة أخرى إلى ثنائية «العقل والوجدان»، وإلى ثنائية المجالين المختلفين من مجالات القول، ينبغي علينا أن نفرق بينهما بدقة وعناية، فالعلم تعميم والفن تخصيص، العلم تجميع والأدب تفريد، العلم يلاحظ الأشياء والنظائر ليستخلص منها أوجه الشبه فيصوغها في قانون واحد ينظمها، والفن يلاحظها جزئية واحدة يقف عندها، العلم يستبعد نفس الخصائص التي يستبقيها الفن؛ فالخصائص الفريدة التي تميز فلانا من الناس دون سائر الأفراد، هي التي يستبقيها الفنان ليحللها ويصورها، وهي نفسها التي يستبعدها العالم؛ لأنها ليست مشتركة بين سائر أفراد النوع الإنساني، يقول عالم النبات عن الزهر ما ينطبق على الزهر كله ما دام منتميا إلى فضيلة واحدة، أما الفنان فيقف عند زهرة واحدة في لحظة زمنية واحدة، يلقفها من تيار حوادثها الدافق، قبل أن تمضي إلى غير عودة، فيصورها رسما أو أدبا أو مشاءت له مادته التي يستخدمها وسيلة لإثبات ما يريد أن يثبته.
113
وفي استطاعتنا أن نقول ذلك بصدد كل ما يعالجه الفن بشتى صنوفه، وعلى أساس هذا المعيار تستطيع أن تقيم «النقد الأدبي»، هب أنك بصدد قصيدة نظمها شاعر عن الحب، فانظر إلى أي حد قد تفردت العاطفة التي يعبر عنها، بحيث أصبحت كائنا وحدها قائما بذاته، لا تشاركها لحظة أخرى من لحظات الحب، لا أقول عند سائر المحبين، بل عند هذا المحب نفسه، فلا يكفي أن يتحدث عن «الحب» بصفة عامة تقول أنه أجاد؛ لأن الحب بصفة عامة من حيث هو عاطفة يشترك فيها أفراد البشر أجمعون بدرجات متفاوتة، هو من شأن علم النفس لا من شأن الفنان، فعالم النفس هو الذي يتحدث عن هذه العاطفة «بصفة عامة»، أو أنه يتكلم عنها كما تبدو آثارها عند هذا الفرد من الناس، وهذا وذاك، في كل زمان ومكان، هذا التعميم في الأحكام يكون علما ولا يكون فنا ولا أدبا. أما الفنان أو الأديب فهو ينظر إلى حالاته النفسية في حبه ليلقف منها حالة واحدة، ثم يبرز هذه الحالة الواحدة العابرة، وهو بذلك يصور لنا ما لا يتكرر في سائر الحالات، ولا حالاته هو الشخصية دع عنك حالات الآخرين! إن المحب لا يشعر بعاطفة الحب على لون واحد وبنغمة واحدة، وأصداء واحدة، وأثرا واحد، بل نراه إزاء حبيبه الآن بما لم يكنه بالأمس وما لن يكونه غدا، ومع ذلك فهي كلها مواقف من حبه، فلا يكفي أن يقول: «إني أحب، أو إني في جحيم أو نعيم من الحب» ليكون أديبا، بل يتحتم أن يخصص لنا خيوط العناصر النفسية، التي جعلت حبه جحيما أو نعيما، ولو أجاد الملاحظة، وأجاد الوصف، لعلم أن شبكة هذه الخيوط محال أن تلتقي على صورة واحدة في لحظتين متباعدتين.
114
الواقع أن مجرى العواطف والمشاعر عند الإنسان قريبة مما كان يصف به الفيلسوف اليوناني هيراقليطس الكون كله، تيار متدفق، كل شيء فيه تتغير حالاته تغيرا دائما دائبا، ويحاول «العالم» أن يتلمس وسط هذه التيارات الدافقة من الحوادث اطرادات تتكرر على غرار واحد، فإن وجد جعله قانونا ثم راح يقيس الأبعاد المكانية والزمانية في ذلك الاطراد، لينتهي إلى صيغة قانون فيه دقة كمية ... أما الأديب أو الفنان، فشأن آخر: إنه لا يلتمس اطرادا في الحوادث، بل تستوقفه حادثة واحدة، أو حالة واحدة فيثبتها على اللوحة رسما، أو يثبتها باللفظ أدبا، أو في أنغام الألحان موسيقى.
وليست كل حالة جزئية في صلاحيتها للفن على حد سواء مع سائر الحالات، بل إن الفنان ليقع على الجزئيات ذات الدلالة؛ أي الجزئيات التي تكون أكثر إيماء عند القارئ أو الرائي، فكاتب القصة أو المسرحية، مثلا، لا يجيد فنا إذا راح يسرد التفصيلات عن شخصياته سردا بغير تمييز، بل صحيح الفن هو الاختيار الموفق، فأي التفصيلات في حياة هذا الشخص الذي أصوره أهدى إلى حقيقة شخصه وسر نفسه وكنه وجوده؟ سل نفسك ما سر الجودة الفنية في هذه الشخصيات الأدبية: هاملت، الملك لير، دون كيشوت، وغيرهم؟ تجد أنه اختيار التفصيلات التي يجريها الأديب كلاما وسلوكا، بحيث يتكون له في النهاية شخص متكامل فريد؛ فهو لا يرسم الإنسان بصفة عامة وإلا كان عالما، بل يرسم «هاملت» أو «لير» فردا واحدا ذا طابع متميز، يستحيل أن يتكرر له في الوجود مثال يطابقه كل المطابقة.
115
سبيل العلم، إذن، وسبيل الأدب مختلفان ولن يتطور هذا إلى ذاك أبدا، ولسنا نريد أن نتتبع شتى الفروق التي تباعد بينهما وتباين، لكنا نريد أن نضيف خاصية هامة أخيرة، وهي أن الأدب بمقدار ما يكون الكلام فيه وصفا للواقع والحقائق الخارجية بمقدار ما يبعد عن الكمال الفني، أن الصور الفوتوغرافية تصور الحقيقة الواقعية تصويرا أمينا؛ ولذلك لم تكن فنا بالمعنى الذي نقصده، إنك كثيرا ما تقف أمام صورة رسمها «بيكاسو» أو «ماتييس»، فلا تدري ماذا أراد المصور أن يصوره؛ لأنه لم يرد قط أن يصور شيئا خارجيا عن ذاته، فهذا الخليط اللوني قد تردد في خياله كما تردد الأنغام في أذن الموسيقى، فرسمها على لوحته لتجيء موسيقى للعين في أنغام من ضوء.
إن الآلام والأفراح لا تكون إلا داخل نفوس أصحابها، وكذلك يكون الحب وتكون الكراهية، وكل عاطفة إنسانية أخرى، فماذا يريد أصحاب الأدب العلمي أن نصنع بالعواطف إذا هممنا بكتابة الأدب؟
ثانيا: النقد الأدبي
هناك مدارس كثيرة في النقد الأدبي يحسن أن نسوق عنها كلمة لتعرف أين يقف مفكرنا من هذه المدارس.
116
فافرض أن أمامنا ديوان شعر أخرجته المطابع وراح النقاد يعالجونه كل على طريقته الخاصة، فكم زاوية للنظر يمكن أن ننظر منها إلى هذا الديوان؟ (1)
هناك الزاوية التي ينظر منها الناقد إلى الديوان المنقود، نظرة يحاول بها أن ينفذ ببصره خلال الشعر الذي يقرؤه إلى «نفس» الشاعر الذي أنشأ الديوان ما طبيعتها؟ أهي نفس مرحة متفائلة؟ أم هي مكتئبة متشائمة؟ أم هي كيت؟ فالناقد في هذه الوقفة يتخذ الشعر «وسيلة» لغاية يهتم بها، وليس الشعر هنا غاية في ذاته بل هو عند ناقد من هذا الطراز وسيلة للكشف عن نفسية صاحبه، وبعبارة أجلى وأوضح، المهم عند الناقد هنا هو «علم النفس» لا «الشعر»، ومن أمثلة ذلك وقفة العقاد في كتابه «ابن الرومي من شعره» ... وقد تسمى هذا الاتجاه في نقد الأدب والفن بالاتجاه «النفسي»، ويمكن أن نقول إن «فرويد» وهو يقرأ مسرحية «أوديب» لسوفكليس كان ناقدا أدبيا من هذا الطراز. (2)
وهناك زاوية أخرى للنظر إلى الديوان المفقود، وهي شبيهة بالزاوية الأولى في كون الناقد يتخذ من الشعر الذي بين يديه «وسيلة» لغاية تثير اهتمامه في المقام الأول، وكل الفرق بين الرؤيتين أنه بينما الناقد في الحالة الأولى يبحث من خلال الشعر عن «نفسية» الشاعر، نرى النقد في الحالة الثانية يبحث خلال الشعر عن «الحالة الاجتماعية»، التي كانت تحيط بذلك الشاعر، فكأنما شعر الشاعر هنا هو بمثابة وثيقة تاريخية لصورة من صور الحياة الاجتماعية، ويمكن اعتبار كتاب طه حسين عن المتنبي مثلا لهذا الاتجاه الاجتماعي في النقد. (3)
وهناك، ثالثا، زاوية أخرى للنظر يبحث الناقد منها لا عن «نفسية» الشاعر ولا عن «الحالة الاجتماعية» التي أحاطت به، بل يبحث في نفسه هو - نفس الناقد - عن وقع هذا الشعر فيها، فماذا ترك في جوانحه من أثر؟ هل خرج من قراءة الديوان وهو على وعي بالغايات العليا التي استهدفها الكون؟ هل خرج من قراءته راضيا عن نفسه أو ساخطا عليها، ثم يسطر الناقد وصفا لطوية نفسه، والأغلب أن يجيء هذا الوصف وكأنه في ذاته «أدب» بني على أدب، ويمكن تسمية هذا الاتجاه في النقد «بالاتجاه التأثري» ...
117 (4)
هناك وقفة أخيرة، وربما تسبق منطقيا، جميع المواقف السابقة، فقبل أن يقف الناقد من الشعر المنقود وقفة نفسية أو اجتماعية أو تأثرية، كان عليه أولا أن يتأكد أن الذي بين يديه «شعر» يستحق المعالجة بهذا الطريقة أو تلك؛ ومن هنا فإن الناقد عليه - في رأي مفكرنا، وتلك هي وجهة نظره في النقد - أن يفحص الشعر نفسه؛ أي إن ينصب النقد الأدبي على الأثر الأدبي ذاته أو منحصرا في النص ذاته؛ فأمام الناقد ترقيم على صفحات من كتاب ومهمته أن يحلل هذه التشكيلات اللفظية التي انتشرت أمامه على صفحات الكتاب؛ أي النص ولا شيء غير النص، فالكلمات المرقومة على الصفحات هي موضوع النقد، وتحليلها وتشريحها وفحصها من جميع وجوهها هو مهمة الناقد بالأثر الأدبي، لا ينبغي أن يعتمد في فهمه على شيء وسواه «إنني لا أكون ناقدا أدبيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، إذا ما اتخذت الأثر الأدبي نافذة أنظر من خلالها إلى شيء سواها؛ كأن أنظر إلى البيئة والظروف الاجتماعية والسياسية التي هي قائمة وراء الأثر المدروس؛ إذ لو فعلت لكانت القطعة الأدبية التي أمامي بمثابة الوثيقة التاريخية لا أكثر ولا أقل، ولا أجعل من الأثر الأولي نافذة أنظر منها إلى دخيلة نفسه، أو دخيلة نفس الناقد؛ إذ لو فعلت لكنت أشبه بعالم النفس يحلل لمريضه أحلامه وردود أفعاله وخواطره ومشاعره ... الناقد لا هو عالم اجتماع ولا سياسة ولا عالم نفس ولا طبيعة؛ وإنما هو ناقد أدبي غايته دراسة قطعة أدبية يختارها للدراسة.»
118
وتلك وجهة نظر في النقد يدافع عنها كثيرون، عندما يذهبون إلى أنه «لا بد من اتخاذ العمل الفني ذاته محورا لكل ما يقال في ميدان النقد وأساسا لكل تذوق؛ فالاستطراد في الكلام عن شخصية الفنان أو وقائع حياته أو ظروف مجتمعه، دون أن تربط بين ما تقوله وبين العمل الفني ذاته، لا تعدو أن تكون استطرادات ذات قيمة تاريخية أو نفسية أو اجتماعية، ولكنها ليست نقدا بالمعنى الصحيح ...»
119
على أن النقد الأدبي يدخل في مجالات أشد تعقيدا كما تفعل «البنيوية» مثلا؛ مما يجاوز هذه التحديدات العامة التي وضعها أستاذنا؛ ولذا سنكتفي بهذه الفكرة لننتقل إلى أدب المقال.
ثالثا: أدب المقال
قلنا إن زكي نجيب محمود يكاد يكون من أبرع كتاب «المقالة الأدبية»، في أدبنا المعاصر. ولقد كان له تصور خاص لهذا اللون من الأدب، تأثر فيه بأدباء المقال الإنجليز بصفة خاصة، لكن اهتمامه بهذا الطراز من الفنون الأدبية جاء مسايرا لاهتمام أدباء عصره بالمقال «فأديبنا قصير النفس، تكفيه المقالة الواحدة يفرغ في أنهرها القليلة كل ما يتأجج به صدره من عاطفة وما يخلج به رأسه من فكر: فإن غضب أدبينا من نقص يلمحه في بناء الجماعة أو أخلاق الفرد، فزع إلى المقالة يصب فيها ثورة غضبه، وإن افتتن أديبنا بمجال الطبيعة الخلاب، لجأ إلى المقالة يبث فيها ما أحس من عجب وإعجاب ...»
120
فالمقال عندنا ملاذ الأديب، بصفة عامة، باستثناء قلة قليلة عمدت إلى القصة أو المسرحية ... إلخ، ولا بأس أن يلجأ الأديب إلى المقال إذا سار على قواعد الأدب الصحيح ... فما هي؟
هناك ثلاثة شروط للمقال الأدبي من حيث الشكل: (1)
أول شرط للمقال الأدبي أن يكون له «فورم
Form »؛ أي شكل أو صورة معينة، يضع فيها الأديب فكرته؛ فهو لا يسرد تحليلاته كما يفعل رجل المنطق؛ أعني أن الانتقال لا يكون بحيث تأتي الفكرة الثانية عن طريق الاستدلال من الفكرة الأولى حتى نصل إلى النتائج، بل الأديب محكوم بتداعي المعاني بحيث لا يكون لها ضابط من نظام، هي قطعة لا تجري على نسق معلوم، فقد تجيء على شكل «حلم»، يرى فيه الأديب نفسه مرة في القاهرة وأخرى في أوروبا، بل وفي أماكن لا رابط بينها سوى ما يريد أن يثيره في نفس قارئه من وجدان. (2)
الشرط الثاني أن يصدر المقال عن قلق يحسه الأديب مما يحيط به من صور الحياة وأوضاع المجتمع، على شرط أن يجيء السخط في نغمة هادئة خفيفة هي أقرب إلى الأنين الخافت منها إلى العويل والصراخ «فإن التمست في مقالة الأديب نقمة على وضع من أوضاع الناس فلم تجدها، وإن افتقدت في مقال الأديب هذا اللون من الفكاهة الحلوة المستساغة فلم تصبه، فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع، في كثير ولا قليل، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة.»
121 (3)
الشرط الثالث أن تعبر المقالة الأدبية عن ضرب من السمر بين الكاتب والقارئ؛ فهو صديق يحادث صديقه عن حادثة شهدها في الترام؛ ملاحظة هنا أو هناك مما يقع عليه البصر، بحيث لا يكون القارئ أمام «معلم» يعنفه، ولا أمام واعظ يخطب فوق منبره، يميل صلفا وتيها بورعه وتقواه، ولا مؤدب يصطنع الوقار حين يصب في أذن سامعه الحكمة صبا ثقيلا؛ ومن هنا فلا بد أن يشعر القارئ، وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيف استقبله الكاتب في حديقته ليمتعه بحلو الحديث؛ ولهذا لا بد أن يكون أسلوبها عذبا سلسا دفاقا بلا زخرفة!
أما من حيث المضمون فإن كاتب المقالة الأدبية على أصح صورها، هو الذي تكفيه ظاهرة ضئيلة مما يعج به العالم من حوله، فيأخذها نقطة ابتداء، ثم يسلم نفسه إلى أحلام يأخذ بعضها برقاب بعض، دون أن يكون له أثر فوري في استدعائها عن عمد وقصد وتدبير؛ ومن هنا فلا يجوز أن تبحث المقالة الأدبية في موضوع مجرد، كأن تبحث فضل النظام الديمقراطي أو معنى الجمال أو قاعدة في علم النفس أو أصول التربية. بل لا بد أن تعبر عن تجربة معينة مست نفس الأديب، فأراد أن ينقل الأثر إلى نفوس قرائه؛ أما الموضوعات الاقتصادية أو السياسية أو العقلية، فلها أنواع أخرى من المقالات الخاصة بالدراسات الأكاديمية، تقربها من البحوث بقدر ما تبعدها عن «المقال الأدبي»، الذي يميل فيه الأديب الحق إلى أن يخدع القارئ كي يمعن في القراءة، وكأنه هو يسري عن نفسه المكروبة عناء اليوم، وهو كلما قرأ تسلل إلى نفسه ما شاع في سطور المقالة من نكتة خفيفة وسخرية هادئة، وقد يعجب القارئ: كيف يمكن أن يكون في النفوس البشرية مثل هذه اللفتات واللمحات؟ ولكنه لن يلبث حتى يتبين أن هذا الذي عجب منه إنما هو جزء من نفسه أو نفوس أصدقائه، فيضجره أن يكون على هذا النحو السخيف، فيكون هذا الضجر منه أول خطوات الإصلاح المنشود.
122
رابعا: نماذج من أدب المقال
علينا الآن أن نستعرض بعضا من المقالات الأدبية؛ لنرى كيف كان يطبق الشروط السابقة، ويتقيد بها فيما كتب من مقالات أدبية ، كان يطلق عليها هو نفسه اسم القنابل المتفجرة؛ لأنه أراد لها أن تنسف جزءا من ألف جزء من الإطار الثقافي العتيق الذي كنا وما نزال نعيش فيه يقول: «صورت في إطار أدبي، في أوائل الخمسينيات ما انطبعت به نفسي حينئذ من فوضى القيم في حياتنا، بحيث انقلبت أعلاها على أسفلها، فيعاقب المحسن ويكافأ المسيء، وربما أكون قد أسرفت في القسوة، لكنها قسوة المواطن يحب وطنه، ويثيره أن يراه قد تنكب عن جادة الطريق ...»
123
سوف أسوق أمثلة قليلة «للمقالة الأدبية»، وإن كان علينا أن نضع في ذهننا ملاحظتين: الأولى أن المقالات التي كتبها زكي نجيب محمود، وهي تبلغ المئات ليست كلها مقالات أدبية، تنطبق عليها الشروط السابقة، بل فيها المقالات التي تعالج «أفكارا» أو «مفاهيم اجتماعية»، وتقوم بتحليلها تحليلا عقليا مستخدما الفاعلية الفلسفية، على نحو ما أشرنا من قبل. والملاحظة الثانية أن المقالة الأدبية يصعب تلخيصها؛ لأن المهم في القطعة الأدبية إنما هو الأثر الذي يخرج به القارئ؛ ولهذا لا بد أن يقرأها في مكانها وكما عرضها صاحبها، لكننا سوف نسوق نماذج قليلة على النحو التالي: (أ) بيضة الفيل
من أمتع المقالات الأدبية التي كتبها أستاذنا الكبير مقالة بعنوان «بيضة الفيل»، يسخر فيها من المناقشات «البيزنطية»، التي تحتد بين بعض الناس في موضوعات في غاية التفاهة من ناحية، ثم هي تخلق مشكلات من عدم من ناحية أخرى، يبدأ المقال على النحو التالي: «قال الشيخ: الفيلة تلد ولا تبيض، والمشكلة المراد حلها هي هذه: لو كانت الفيلة تبيض فماذا يكون لون بيضها؟
124
لاحظ أن أول سطر في المقال يقرر حقيقة علمية واقعة هي «أن الفيلة تلد ولا تبيض»، لكنا اعتدنا أن نخلق مشكلات من عدم: فافرض أنها تبيض فماذا يكون لون بيضتها؟ يستمر المقال فيقول: «في الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء: يقول عمارة بن الحارث بن عمارة: تكون بيضاء، واستدل على صحة قوله بدليل من القياس ودليل من اللغة.
125
أما دليل القياس فهو أن كافة مخلوقات الله التي تبيض بيضها أبيض ، وليس في طبيعة الفيل ما يدل على أنه لو باض أخذت بيضته لونا آخر غير البياض ... أما دليل اللغة فهو أن البيضة مشتقة من البياض، وإذن فالبياض أصل والبيضة فرع منه ... وأخيرا تساءل عمارة: ما حكم الشرع في بيضة الفيل، أيحل أكلها للمسلمين أم يحرم عليهم؟ وهنا أجاب بدقته المعهودة أن بيضة الفيل حلال أكلها بشرط، حرام بشرط ...» على هذا النحو الجميل يصور الأديب مشكلاتنا التافهة التي نخلقها من لا شيء، وهو يخدع القارئ بأن يذكر أسماء العلماء كما لو كانوا من التراث فعلا؛ ليشعر القارئ أن مناقشاتنا لا تزال هي نفسها مناقشات العصور الوسطى، انظر مثلا إلى المقال يستمر جادا مع أنه يسخر سخرة مريرة، «وتصدى معسرة بن المنذر لتفنيد ما قال عمارة بن الحارث في بيضة الفيل من حيث لونها، فقال عن دليل القياس الذي ساقه عمارة ... إنه ليس صحيحا أن كافة الحيوان الذي يبيض لونه أبيض؛ فبيض البط فيه خضرة خفيفة، وبيض الدجاج في بعضه حمرة خفيفة، ومن الطير ما بيضه أرقط، ومنه ما بيضه أزرق ... أما دليل اللغة فهو استنتاج معكوس ومغلوط في آن معا ... إلخ»، وكان من بين تلاميذ ابن الحارث تلميذ نجيب، فتصدى للرد على نقد معسرة، فقال إنه زل زلة ما كان ينبغي أن يقع في مثلها رجل مثله، وهو شيخ المناطقة في زمانه ...» وتستمر المحاورة، وهذا هو «الفورم» أي الشكل الذي اتخذه المقال، بأسلوب ساخر لاذع عن إهدار القدرات العقلية في مناقشات لا معنى لها؛ لأنها تتناول موضوعات نخترعها من ناحية، وهي أتفه من أن تكون موضوعا لحوار من ناحية أخرى. ويختتم المقال بما يريد الكاتب أن يفتح عين القارئ عليه، وهو بعدنا من مشكلات العصر، فيقول إنه حدثت رجفة عنيفة «وزلزلت الأرض زلزالها، وقال الشيخ ما لها؟ فقيل: يا مولانا قنبلة ذرية، في لمحة تقضي على الأصل والذرية، فعجب الشيخ أن كان في الدنيا علم غير علمه!»
126 (ب) جنة العبيط
وفي استطاعتك أن تقول الشيء نفسه عن مقالة «جنة العبيط»، التي تعالج فكر العصر الوسط الفج، الذي ما زلنا نعيش فيه فضلا عن عادته الاجتماعية البالية، ويبدأ المقال: «أما العبيط فهو أنا، وأما جنتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهب فيها النسائم عليلة بليلة، فإذا ما خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال أو أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها الكاوية، عدت إلى جنتي أنعم فيها بعزلتي، كأنما أنا الصقر الهرم تغفو عيناه، فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه، فإذا بغاث الطير تفري جناحيه، ويعود فيغفو لينعم في غفوته بحلاوة غفلته ... إلخ.» لاحظ السجع الواضح ذا الدلالة. (ج) نفوس فقيرة
من أمتع المقالات التي تهزك هزا عنيفا مقاله عن «النفوس الفقيرة»، الذي يبدأ تصوير الأنواع المختلفة للفقر:
الفقر صوره شتى ... منها اليباب القفر الذي تلتهب رماله بوقدة الشمس، حتى لتنقلب حبات الرمل على سطحه جمرات من نار ...
ومنها الصخر الأجرد الذي صلد عوده وتصلبت أطرافه، فلا يتفجر جوفه عن قطرة أو نبته ...
ومنها السماء لا تجود بالغيث، تيبس الأرض من تحتها وتتشقق، ويجف الزرع ويموت، وتشخص الأبصار إليها ضارعة، وتصعد الدعوات إليها مسترحمة، لكنها كالحة مصفرة الوجه لا تجود ...
ومنها الوردة تذبل وتذوي، طار عنها الشذى وجف من عرقها الماء ... ومنها الجدول غيض ماؤه، تعبره ماشيا على قدميك فترن أصداء خطاك بين صخور لخلائه وفراغه ... ومنها الجيوب تخلو من المال ...
لكن لا اليباب القفر الذي تلتهب رماله بوقدة الشمس، ولا الصخر الأجرد الذي صلد صدره، ولا السماء اليابسة ولا الوردة الذابلة، ولا الجدول غيض ماؤه ولا الجيوب الخالية من المال، بمستطيعة أن تعبر عن الفقر بأبلغ مما تعبر عنه النفوس الفقيرة.
فقيرة هي تلك النفوس التي يعيش أصحابها فيما نعيش فيه ولا تتأثر، كأنما تنظر العين ولا ترى، وتسمع الأذن ولا تعي، وكأنما قد القلب من صوان ... صاحب النفس الفقيرة كالمذياع التالف، فيه المفاتيح والصمامات والأسلاك، لكن الهواء من حوله يعج بموجات الصوت، وهو أبكم لا يلتقط ولا يذيع ... فقيرة هي النفس التي تنظر إلى باطنها فتجد خواء، فتمتد إلى خارجها لتقتني ما يسد لها هذا الخواء، فتتصيد أناسا آخرين لتخضعهم لسلطانها. إنها علامة لا تخطئ في تمييز أصحاب النفوس الفقيرة من سواهم، فحيثما وجدت طاغية - صغيرا كان أو كبيرا - فاعلم أن مصدر طغيانه هو فقر نفسه، أن المكتفي بنفسه لا يطغى ... فقيرة هي النفس التي لا تستطيع أن تقف موقف سواها، لترى ما ترى وتحس ما تحس ... فقيرة هي تلك النفوس التي لا يستطيع أصحابها أن ينظروا من وراء الأشخاص إلى حيث ظروفهم، ولو قد فعلوا لاشتد بهم التسامح واتسع فيهم العفو والمغفرة.
فقيرة هي تلك النفوس التي تبطش بالأشياء والأحياء بطش الصبيان؛ فقيرة، يا أبا العلاء، هي تلك النفوس التي لا تخفف الوطء؛ لأنها لا تدري أن أديم الأرض هو من هذه الأجسام ...
127 (د) الكوميديا الأرضية
وهو في مقال عنوانه «الكوميديا الأرضية» يتخيل أن دانتي «قد بعث حيا، وأنه كتب هذه القصيدة الجيدة، التي اتخذ فيها أيضا من أستاذه القديم «فرجيل» دليلا وهاديا، ويصور أستاذنا بسخرية مريرة كيف وجد دانتي في الجحيم كل من فعل خيرا أو قال صدقا، لأنه أراد أن يصور القيم المقلوبة في مجتمعنا، فماذا وجد الشاعر في أول حلقة من حلقات الجحيم: «ها هنا وجد عبدة المبادئ الذين أنهكوا قواهم وأضاعوا حيواتهم في سبيل مبادئهم ... ولهذا فقد حق عليهم الحرمان من نعيم الفردوس!» وماذا وجد في الحلقة الثانية من الجحيم «أولئك الذين شغلتهم في الدنيا عقولهم عن إشباع شهوات أجسادهم ...» أما في الحلقة الثالثة فقد أعد العقاب لمن عف فلم يلحف في السؤال عن حقه لدى أصحاب السلطان، وفي الحلقة الرابعة جماعة كانت تشغل نفسها بالإصلاح فتفسد على غيرهم نعاسهم وأحلامهم، أما الحلقة الخامسة فقد خصصت لمن أخذ زمانه بالدقة، فلا يؤخر موعدا ولا يؤجل عملا إلى غد ... وهكذا نجد في كل حلقة من الجحيم «أفاضل الناس»، حتى الحلقة العاشرة تجد فيها من لم يتشفعوا بشفيع أو يتوسطوا بوسيط وعملوا في صمت.
وفي استطاعتك أن تقول إن خصائص المقالة الأدبية بارزة في كثير جدا من المقالات التي كتبها في كتبه المتقدمة: «جنة العبيط» و«الثورة على الأبواب»، و«شروق من الغرب» حيث تغلب النغمة الأدبية، ولك أن تقرأ فيها «ظلم» و«خيوط العنكبوت»، و«عروس المواد»، و«الكراهية الصامتة»، و«عند السفح» ... إلخ، وفي كتبه المتأخرة «رؤية إسلامية»، «عن الحرية أتحدث» و«تحديث الثقافة العربية» ... مقالات «أستاذ يحلم»، و«ذبابة تعقبتها»، و«نافخ النار» ... وغيرها كثير.
خاتمة
بعد هذه الرحلة الطويلة التي قطعناها في فكر زكي نجيب محمود، علينا أن نقف في هذه الخاتمة لنتأمل مجموعة من الملاحظات، أهمها ما يأتي: (1)
لقد حاول هذا الباحث تأكيد القضية التي أثارها في البداية؛ وهي أننا نخطئ كثيرا عندما نحكم على فكر زكي نجيب محمود من منظور الوضعية المنطقية وحدها، وأن كل من يأخذ بهذا المنظور، فإنه يكشف عن خطأ أساسي أو قصور شديد؛ لأنه لم يتتبع التطور الروحي لهذا المفكر، أو أنه اكتفى بالتوقف عند مرحلة واحدة من مراحل تطوره. (2)
أن زكي نجيب محمود مفكر تنويري يقوم بمواصلة المهمة التنويرية، التي بدأها رفاعة الطهطاوي وسار فيها أعلام نهضتنا الحديثة؛ فهو يستكمل الطريق نفسه الذي سار فيه رواد كبار من أمثال محمد عبده ولطفي السيد وطه حسين والعقاد، وغيرهم من الذين جمعوا بين الثقافة العربية الأصيلة والفكر المعاصر في دمج واحد؛ ومن هنا قدم مفكرنا صيغة ثنائية هي «العقل والوجدان» والتفرقة بين هذين المجالين حلا لمشكلتنا الثقافية، وقد عرض هذه الصيغة في «الشرق الفنان»، وجسدها هو نفسه بحياته ومؤلفاته. (3)
في هذه الصيغة الثنائية «العقل والوجدان» حرص على خلق طريقة عقلية جديدة، يحلل بها المثقف العربي لنفسه ولمجتمعه، إذا أراد، مفاهيمه وأفكاره بأن يفكها إلى مكوناتها الأصلية، ليلقي عليها الضوء، فلا نستخدم مفاهيم غامضة يمكن أن تكون عقبة أكثر مما تكون دافعا للتطور، ثم قدم لنا نماذج من اهتماماته الأدبية لا سيما «المقال الأدبي»، الذي يهدف إلى إثارة الوجدان عند القارئ.
فأي منهج نطبقه في الحالات التي يتداخل فيها اللامتناهي مع المتناهي ويتصل به؟!
128 (4)
نستطيع أن نقول أيضا إن «فكرة الثنائية»، لا سيما الأنطولوجية، غير مستقرة عند مفكرنا الكبير؛ فهو أحيانا يرى أنها ثنائية لا تسوي بين الشطرين، بل تجعل للشطر الروحاني الأولوية على الشطر المادي؛ فهو الذي أوجده، وهو الذي يسيره ويحدد له الأهداف.
129
وواضح أننا هنا أمام واحدية؟! إذ يمكن أن يرد الشطر المادي إلى الروحاني! ثم يقول في أحيان أخرى: «إنها نظرة تجمع بين الثنائية والكثرة، ثنائية بالنسبة إلى الله الخالق والكون المخلوق والكثرة بالنسبة لأفراد الناس الداخلين في حدود هذا الكون المخلوق ...»
130
ثم هو يميل، بصراحة ووضوح، في مقالاته الأخيرة في جريدة الأهرام ، إلى الوحدانية؛ ولك أن تقرأ مجموعة المقالات التي كتبها بعنوان «من إشعاعات التوحيد ...»
131 (5)
يقترح أستاذنا الكبير صيغة «العقل والوجدان» حلا لمشكلة «الأصالة والمعاصرة»، وإن قلنا إن هذه الصيغة هي المفتاح «السحري» لحل مشكلتنا الثقافية، فسوف نصطدم بكثرة من المشكلات، منها مثلا أن ثنائية «العقل والوجدان» زوجان مختلفان من المقابلات يختلفان أتم الاختلاف عن الأصالة والمعاصرة! فهل نقول إن المعاصرة هي العقل والأصالة هي الوجدان؟! في هذه الحالة نكون قد حكمنا على التراث كله بأنه أشبه بالعمل الفني الذي لا نستطيع التعامل معه إلا بوجداننا؛ مع أننا كثيرا ما نعود إليه بوصفه يشتمل على نماذج كثيرة من ثنائية «العقل والوجدان» معا!
ثم ألا نستطيع أن نقول إن في المعاصرة عقلا ووجدانا، وفي الأصالة عقلا ووجدانا؟! وفي العقل أصالة ومعاصرة، وفي الوجدان أصالة ومعاصرة؟! ألا يجعلنا ذلك ننتهي إلى أن مشكلة الأصالة والمعاصرة، ربما كانت «شبه مشكلة» أو «شبه زائفة»؛ لأن المثقف العربي الحقيقي هو في الوقت نفسه أصيل ومعاصر معا؟! (6)
لكن أيا ما كانت الانتقادات التي توجه إلى هذه الفلسفة الثنائية، فسوف يبقى لهذا الرجل أنه حمل مشعل التنوير ما يقرب من ستين عاما يضيء به العقول والقلوب معا في مؤلفاته ومحاضراته وأحاديثه ولقاءاته ... وأنه كان مفكرا عربيا مخلصا في عروبته ووطنيته، كما يقول واحد من أشد معارضيه: «كتابات زكي نجيب محمود ترفض الاستعمار والاحتكار والإرهاب بالفكر والسياسة. إنه يريد الآلات المتقدمة والتكنولوجيا الراقية، ولا يريد أن يستجلب معها استعمارا ولا احتكارا، بل لقد شارك الناس زمنا في الاستماع إلى أغنيات الاشتراكية ولم يرفضها، كما دعا إلى حرية اجتماعية وإلى إنصاف العمال والفلاحين، وهو يقدم بشخصه نموذجا نادرا للمفكر الحر ...»
132
مراجع البحث
أولا: مؤلف الدكتور زكي نجيب محمود (1)
زكي نجيب محمود، «في تحديث الثقافة العربية»، دار الشروق، عام 1987م. (2)
زكي نجيب محمود، «رؤية إسلامية»، دار الشروق، عام 1987م. (3)
زكي نجيب محمود، «عن الحرية أتحدث»، دار الشروق، عام 1986م. (4)
زكي نجيب محمود، «في مفترق الطرق»، دار الشروق، عام 1985م. (5)
زكي نجيب محمود، «قيم من التراث»، دار الشروق، عام 1984م. (6)
زكي نجيب محمود، «قصة نفس»، دار الشروق، ط2 عام 1983م. (7)
زكي نجيب محمود، «قصة عقل»، دار الشروق، عام 1983م. (8)
زكي نجيب محمود، «أفكار ومواقف»، دار الشروق عام 1983م. (9)
زكي نجيب محمود، «تجديد الفكر العربي»، دار الشروق، عام 1982م. (10)
زكي نجيب محمود، «هذا العصر وثقافته»، دار الشروق، عام 1982م. (11)
زكي نجيب محمود، «من زاوية فلسفية»، دار الشروق، عام 1982م. (12)
زكي نجيب محمود، «مجتمع جديد أو الكارثة»، دار الشروق، عام 1983م. (13)
زكي نجيب محمود، «جنة العبيط»، دار الشروق، ط2، عام 1982م. (14)
زكي نجيب محمود، «في حياتنا العقلية»، دار الشروق، ط2، عام 1981م. (15)
زكي نجيب محمود، «هموم المثقفين»، دار الشروق، عام 1981م. (16)
زكي نجيب محمود، «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، دار الشروق، ط3، عام 1981م. (17)
زكي نجيب محمود، «مع الشعراء»، دار الشروق، عام 1978م. (18)
زكي نجيب محمود، «أرض الأحلام»، دار الهلال بالقاهرة، عام 1977م. (19)
زكي نجيب محمود، «ثقافتنا في مواجهة العصر»، دار الشروق، عام 1976م. (20)
زكي نجيب محمود، «الشرق الفنان»، العدد رقم 2 في سلسلة المكتبة الثقافية، دار القلم، القاهرة، عام 1960م. (21)
زكي نجيب محمود، «المنطق الوضعي»، ج1، ج2، مكتبة الأنجلو، عام 1957م. (22)
زكي نجيب محمود، «نحو فلسفة علمية»، مكتبة الأنجلو، عام 1958م. (23)
زكي نجيب محمود، «قشور ولباب»، مكتبة الأنجلو (وقد أعاد طبعه في دار الشروق، الطبعة الثانية)، عام 1958م. (24)
زكي نجيب محمود، «والثورة على الأبواب»، مكتبة الأنجلو (وقد أعاد طبعه في دار الشروق، بعنوان «الكوميديا الأرضية»)، عام 1954م. (25)
زكي نجيب محمود، «شروق من الغرب»، مكتبة الأنجلو (ثم أعاد طبعه في دار الشروق)، عام 1951م. (26)
زكي نجيب محمود، «خرافة الميتافيزيقا»، النهضة المصرية، عام 1953م. (وقد أعاد نشره في دار الشروق، بعنوان «موقف من الميتافيزيقا»، ط2، عام 1983م). (27)
مجموعة مقالات الأهرام، لعام 1987م بعنوان «بذور وجذور»، وقد صدرت في كتاب عن دار الشروق، عام 1984م. (28)
مجموعة مقالات الأهرام، لعام 88 بعنوان «عربي بين ثقافتين»، وقد صدرت في كتاب عن دار الشروق، عام 1984م.
ثانيا: مراجع عامة (1)
أحمد أمين، «زعماء الإصلاح في العصر الحديث»، مكتبة النهضة المصرية، عام 1979م. (2)
أحمد أمين، «حياتي»، دار الكتاب العربي بيروت، عام 1971م. (3)
د. أحمد ماضي «الوضعية المحدثة والتحليل المنطقي»، ضمن بحوث الفلسفة في الوطن العربي المعاصر، بحوث المؤتمر الأول أصدرها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، عام 1985م. (4)
د. حسن فوزي النجار، «رفاعة الطهطاوي»، سلسلة أعلام العرب، عدد 53، القاهرة. (5)
جيروم ستولنيتز، «النقد الفني»، ترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية، القاهرة، عام 1981م. (6)
الإمام محمد عبده، «الإسلام والنصرانية»، مكتبة صبيح، عام 1954م. (7)
د. محمد البهي، «الفكر الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» دار الفكر، بيروت، عام 1970م. (8)
د. محمد عمارة، «رفاعة الطهطاوي، رائد التنوير الحديث»، أعلام، عدد 3، القاهرة، عام 1984م. (9)
محمود أمين العالم، «معارك فكرية»، دار الهلال، ط2، عام 1970م. (10)
طه حسين، «في الشعر الجاهلي»، مطبعة دار الكتب المصرية، عام 1926م، وفي طبعته الثانية «في الأدب الجاهلي»، ضمن المجلد الخامس من المؤلفات العامة التي نشرت في دار الكتاب اللبناني، عام 1974م. (11)
د. عاطف أحمد «نقد العقل الوضعي، دراسة في الأزمة المنهجية لفكر زكي نجيب محمود، دار الطليعة، بيروت، عام 1980م. (12)
علي عبد الرزاق، «الإسلام وأصول الحكم»، المؤسسة العربية للدراسات، نشرة د. محمد عمارة مع وثائق المحاكمة. (13)
د. يحيى هويدي، «الفلسفة الوضعية في الميزان»، مكتبة النهضة المصرية، عام 1972م. (14) «أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي، بحوث ندوة الكويت في أبريل، عام 1974، مطابع دار السياسة بالكويت. (15) «الدكتور زكي نجيب محمود: فيلسوفا وأديبا ومعلما»، الكتاب التذكاري الذي أصدره قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة الكويت، عام 1987، مطابع الوطن.
الباب الثالث
متفرقات
(1)
زكي نجيب محمود كما عرفته. (2)
زكي نجيب محمود مفكرا تنويريا. (3)
سقراط مصر أو مشعل الفكر الذي انطفأ.
الفصل الأول
الدكتور زكي نجيب محمود كما عرفته معلما ... وإنسانا
تمهيد
لست أريد لهذا المقال أن يكون دراسة لجانب من الجوانب الفكرية عند الدكتور زكي نجيب محمود، فسوف يكون لذلك مجال آخر.
1
وإنما أود أن يتخذ شكل الحديث الخاص مع القارئ، أروي له فيه مجموعة من الانطباعات الشخصية، التي خبرتها بنفسي خلال علاقتي الطويلة بهذا المفكر العملاق. وإذا كانت مؤلفات الدكتور زكي نجيب تشتمل، بصفة عامة، على معرفة فلسفة يجدر بنا تحصيلها؛ فإن هناك جوانب أخرى في شخصيته تخفى على كثيرين ممن لم تتح لهم فرصة الاتصال به على نحو مباشر، وهي أيضا تعطينا مجموعة من القيم الأخلاقية، والاجتماعية، والأكاديمية، التي يجمع بنا الإلمام بها، حتى تكتمل لدى القارئ صورة الدكتور زكي نجيب محمود المفكر، والأستاذ، والمعلم، والإنسان، وسوف أقصر حديثي على هذه الجوانب الثلاثة الأخيرة، كما لمستها خلال تجربتي الشخصية، بحيث أتحدث عنها فرادى، رغم أنها في الواقع تعبر عن جوانب متعددة لشخصية واحدة؛ ولهذا فسوف يبدو واضحا ما بين هذه الجوانب الثلاثة من تداخل.
زكي نجيب محمود ... الأستاذ
عندما صدر كتابي «المنهج الجدلي عند هيجل» عام 1968م كان يحمل على صدره الإهداء التالي:
إلى من كان لتلاميذه أبا قبل أن يكون أستاذا...
إلى الفيلسوف ... والمعلم ... والإنسان ...
إلى الرجل الذي قلبه جميع ... وروحه حر ...
إلى أستاذي الدكتور زكي نجيب محمود ...
وكنت في الواقع أعبر عن شعوري نحو الرجل بلا أدنى مبالغة، وسوف يتضح خلال هذا الحديث كيف كان أثره في تكويني قويا وعارما، بحيث تجاوز حدود العلم والمعرفة إلى مجالات الأخلاق والسلوك، وأذكر أنني ذهبت ذات صباح إلى كاتب من كتابنا أهديه نسخة من الكتاب، وكان يعمل وقتها في دار «أخبار اليوم»، وهو نفسه واحد من خريجي قسم الفلسفة القدامى، وأخذ الرجل يقلب صفحات الكتاب ثم قرأ الإهداء وابتسم وهو يقول مداعبا: «ألست ترى شيئا من التناقض في إهداء كتاب عن هيجل، الميتافيزيقي الأكبر، إلى الدكتور زكي نجيب محمود عدو الميتافيزيقا الأول؟» وكان الكاتب يشير، كما هو واضح، إلى المفارقة التي قد يجدها القارئ عندما يجد اسم الدكتور نجيب محمود، صاحب «خرافة الميتافيزيقا»، يتصدر الصفحة الأولى من كتاب يعالج منطق هيجل الذي هو نفسه ميتافيزيقاه، وأجبته بأنني قصدت ذلك عامدا، فأنا هنا أبرز، بهذا الإهداء، خاصية هامة عند الدكتور زكي نجيب محمود، «الأستاذ»؛ وهي أنه أفادني فائدة كبرى في «منهج البحث» دون أن يلزمني باتباع مذهبه، وهذا هو «الأستاذ على الأصالة»: يوجه، ويرشد، لكنه لا يفرض فكرا، أنه يفيد طلابه في طريقة البحث، في كيفية جمع المادة العلمية، وتقييمها، وعرضها عرضا واضحا ... إلخ؛ أعني أنه يفيد في «المنهج» دون المذهب، وتلك حقيقة خبرتها بنفسي في الدكتور زكي نجيب محمود «الأستاذ» لسنوات طويلة، عملت فيها تحت إشرافه، وبتوجيه منه، وكتبت في النهاية أفكارا «وعبارات» تعد من منظور الوضعية المنطقية كلاما فارغا لا معنى له، ولو أن الدكتور زكي نجيب قد حكم على بحثي «المنهج الجدلي عند هيجل» بمعيار الوضعية المنطقية لنسفه من جذوره، ولتحول البحث إلى مجموعة من العبارات الغامضة التي ترادف قولنا: «إن المزاحلة مرتها خمالة أشكار»، والتي وصفها بأنها رموز سوداء تملأ الصفحات بلا دلالة ولا مدلول.
2
لكن الرجل لم يفعل، واستطاع بمقدرة الأستاذ وبراعته، أن يفصل بين المذهب الذي يعتنقه هو وبين أفكار البحث الذي يكتبه تلميذه، أو قل إنه قدم للتلميذ «المنهج» وأمسك عن تقديم «المذهب».
هذا الموقف الأكاديمي الذي وقفه الدكتور زكي نجيب عندما كان مشرفا على رسالتي للماجستير، إنما يعبر عن خاصية حقيقية وأصيلة للأستاذ الجامعي. وهو يذكرني بموقف مماثل وإن كان أسبق منه زمنيا، عندما كنا طلابا بالجامعة، في منتصف الخمسينيات، وعرفنا الرجل لأول مرة وبهرتنا محاضراته القوية الواضحة التي يستحيل أن تمر عليك دون أن تترك فيك أثرا ملموسا؛ فهو يحمل معولا ضخما ينهال به على أفكار ومفاهيم، كنا نظن أن لها صفة «القداسة»، وأنها لا يمكن أن «تمس» وإذا بها تتحول بين يديه إلى كلمات لا معنى لها «كالسوح» «والمشقرات» «واللاذبية» وغيرها، وبحماس الشباب الذي يقبل على التغيير بقوة، اندفعنا نحو تبني المذهب الذي يعتنقه الأستاذ ويبشر به، وسعينا إليه في منزله نعلن له عن رغبتنا في تكوين «جماعة فينا جديدة»، على أن يكون مقرها هذه المرة مدينة القاهرة تعمل على نشر الوضعية المنطقية في الوطن العربي كله عن طريق ترجمة بعض النصوص الهامة تحت إشراف الأستاذ، والتعريف بأهم فلاسفتها وإقامة الندوات، وترتيب المحاضرات التي يقوم هو فيها، بطبيعة الحال، بالدور الرئيسي في عرض المذهب ... إلخ.
3
واستقبلنا الرجل في منزله بترحاب شديد، وكنت لأول مرة أصادف أستاذا كبيرا يعامل تلاميذه الزملاء رغم صغر السن وضآلة الثقافة (ولقد كان أستاذ الجامعة عندنا في ذلك الوقت يقترب في تصورنا من مستوى الآلهة). وعرضنا عليه في فرح ممزوج بالفخر والحماس المشروع الذي ننوي القيام به، وكم كانت المفاجأة كبيرة بالنسبة لنا عندما وجدناه يرفض، بأدب جم، ما عرضناه عليه من أفكار. وما زالت أصداء كلماته الإنجليزية ترن في مسامعي حتى الآن بعد ما يقرب من ثلاثين عاما: «ما زال الوقت مبكراجدا بالنسبة لكم لاعتناق مذهب ما.» ثم قال بحنان الأب وأمانة الأستاذ: «... هل تعلمون كيف وصلت أنا إلى هذا المذهب؟ لقد كانت رحلة طويلة جدا وشاقة جدا حتى اهتديت إلى المذهب الذي ارتاح له فكري. أما أنتم فلماذا تحصرون أنفسكم في هذه السن المبكرة في إطار مذهب ضيق أيا كان نوعه؟ ... لا ... لا ... نصيحتي إليكم أن تواصلوا القراءة والدراسة، اطلعوا على المذاهب جميعا وتمثلوها جيدا، ثم اتركوا عملية اختيار المذهب إلى آخر لحظة ممكنة ...» ولم أكن أعلم يومها حقيقة موقفه، الذي ما زال يغيب عن كثيرين حتى الآن؛ وهو أن الرجل يقوم بمهمة تنويرية في المقام الأول، استكمالا لنفس الطريق الذي سار فيه كثرة من الرواد من قبل، مثل أحمد لطفي السيد، وطه حسين، والعقاد، وهيكل وغيرهم، أنه لا يستهدف نشر مذهب اسمه «الوضعية المنطقية»، وإنما هو يريد أن «ينير» عقول الناس، أن يغير من طريقة التفكير السائدة عندهم. إنه يسعى إلى نشر «منهج» جديد يحلل الناس بواسطته أفكارهم، وأفكار غيرهم، ليقبلوا ما له معنى فحسب، وليزيحوا عن أنفسهم هذا الركام الهائل من الخرافة، الذي ما زال يعشش في صدورهم. إنه باختصار يريد «توظيف» الوضعية المنطقية لصالح الفكر التنويري الذي يدعو إليه، لكنه لا يقبل أن يكون هو نفسه «موظفا» عند هذا المذهب، ولا عند غيره من المذاهب. إنه يستخدم المذهب لدفع الفكر العربي إلى الأمام، لكنه يرفض أن يستخدمه المذهب بحيث يكون كل همه الدعوة إليه، ونشر أفكاره بكل السبل؛ ومن هنا فإن الدور الحقيقي والهام الذي يقوم به الدكتور زكي نجيب محمود في فكرنا العربي، يغيب تماما عن كل من يظن أن هدف الرجل كان «تكوين مدرسة فلسفية (هي الوضعية المنطقية العربية) يثابر على إثرائها وتدعيمها في إخلاص ودأب وأناة.»
4
أو أنه أراد «أن ينمي حوله تيارا فكريا مستمدا من أصول هذه الفلسفة، وأن يدعمه بالمقالات والمحاضرات والكتب» ...
5
لم أكن أدرك عن «وعي» حقيقة الدور الذي يؤديه عندما ذهبنا إليه نعرض تكوين حلقة «فينا» جديدة، وقل مثل ذلك في الحوار الذي دار ذات يوم بينه وبين السيدة زوجته، التي كانت ترى أن المجرم أقل «ذكاء» من غيره، ويتجلى ذلك في عدم إدراكه للنتائج البعيدة المدى، التي تترتب على سلوكه الإجرامي، ومدى ما يؤدي إليه مثل هذا السلوك في مستقبل حياته، وكان رأي الأستاذ مختلفا، وكان عليه أن يدافع عنه بقوة، فبعض المجرمين الآن، في أوروبا وأمريكا، (وكان الحوار يدور يومها بمناسبة سرقة قطار في إنجلترا، كان يحمل عدة ملايين من الجنيهات الإسترلينية)، عليهم تتبع التطورات التكنولوجية الحديثة، حتى يمكن وصفهم بأنهم «علماء» في مجالهم، بمعنى أنهم على درجة عالية من المعرفة، تمكنهم من فهم أجهزة الإنذار الحديثة، وكيف تعمل، وكيف يمكن إبطالها. كما أن عليهم أن يعرفوا دقائق الأمور عن خزائن المال، والتعقيدات المتناهية في فتحها؛ إذ قد تحتاج بعض هذه الخزائن إلى مليون عملية حسابية لكي تفتح. وذلك كله دليل على ذكاء حاد وقدرة عقلية فائقة. أما مسألة عدم تقدير المجرم للآثار والنتائج المترتبة على سلوكه الإجرامي، فقد يصدق ذلك على صغار المجرمين، أما كبارهم، وهم موضوع حديثنا الآن، فهم ينظرون إلى المسألة على أنها «مغامرة»، فإن نجحت رفعتهم إلى السماء السابعة، وعاشوا بقية عمرهم في رغد (وبعضهم يغير ملامح وجهه، ويذهب للحياة في مكان ما بعيدا عن وطنه)، وإن فشلت قضت عليهم؛ فالمسألة حياة أو موت. ثم إنه يقول لنفسه أنها لن تفشل، إن الحالات التي فشلت فيها الجريمة من قبل (كحالات فشل بعض الانقلابات العسكرية)، كانت بسبب أخطاء وقع فيها المدبرون، وربما كانوا أقل ذكاء، أما هو فقد درس العملية التي سيقوم بها دراسة جيدة يتعذر معها الفشل.
زكي نجيب محمود ... المعلم
في استطاعتي أن أقول، في اطمئنان وثقة: إن زكي نجيب محمود ليس أستاذا عاديا يلقنك معلومات، أو مجموعة من المعارف وينتهي دوره، وإنما هو معلم من الطراز الأول؛ إنه المعلم الذي يهز تلاميذه هزة عنيفة يستحيل بعدها أن يعودوا كما كانوا؛ من هنا كان الطالب الذي تتلمذ عليه ولم يتأثر بما يقول، ولم ينفعل، سلبا أو إيجابا، بكلماته؛ كالصخر الأجرد الذي يسيل عليه الماء فينحسر عنه؛ لأنه مغلق أصم ولا رجاء فيه!
زكي نجيب محمود هو «المعلم» الذي يثيرك بكلماته، ويدعوك إلى نزاله ومحاورته، وهو لا يشعر بضيق ولا ملل من كثرة الأسئلة التي يطرحها عليه طلابه بالغة ما بلغت بساطتها - وأحيانا سذاجتها - شريطة أن يتابعوه، وأن يفهموا عنه ما يقول، وأذكر أننا كنا نتعمد الإكثار من الأسئلة في موضوعات نظن أنها «تحرجه»: «هل يمكن أن يترجم الفقر ترجمة حسية مادية؟! وهل ينطبق المعيار الحسي نفسه على مفهوم «الحرية»؟! وماذا يكون مصير الدين وقضاياه الأساسية؟! هل أنت مؤمن؟! وكيف نطبق على الإيمان معايير الوضعية المنطقية؟! وكان «المعلم» يتحمل هذه الأسئلة الساذجة جميعا، ويجيب عنها بهدوء وبغير انفعال. لم يكن ينفعل إلا عندما يشعر أن شرحه قد ضاع أدراج الرياح، وأن سؤال الطالب يكشف عن عدم فهمه لما قيل! وأضرب مثلا على ذلك بهذه الواقعة الطريفة التي يكشف عنها هذا الحوار الذي دار بينه وبين أحد الطلاب في قاعة الدرس: - إن سؤالك ينم عن أنك لم تفهم شيئا مما قلت! - كلا! لقد فهمت كل ما قلت! - أؤكد لك أنك لم تفهم! - أقسم بالله العظيم أنني فهمت! - يمين على يمينك أنك لم تفهم شيئا!
وضجت القاعة بالضحك!
على أن أشد ما أثار عجبنا وإعجابنا في هذا «المعلم» هو وضوحه الفكري، وقدرته الفائقة والمدهشة معا، والتي لا تخطئها العين العابرة، على طحن «جلاميد» الفلسفة من أفكار معقدة أو تصورات مجردة أو مفاهيم عقلية جافة، وتقديمها إلى الطلاب على شكل «مسحوق» لا يرهق الذهن كثيرا، وإن كان يدفعه إلى التأمل والتفكير!
ويرتبط بذلك خاصية أخرى ملفتة للنظر؛ وهو أنه حاضر البديهة للغاية، قادر على أن يذكر لك الأمثلة العينية الحسية لأكثر الأفكار الفلسفية تجريدا، بقدر ما يستطيع الواقع الحسي أن يصور التجريد العقلي، وبسرعة مذهلة! أذكر أننا، في السنوات الأولى من دراستنا الجامعية، كنا نطالع كتابا في الفلسفة عند صديق، واعترضتنا لأول مرة فكرة الفيلسوف الألماني «فشته» عن العلاقة بين «الأنا واللاأنا»، وكان التعبير غامضا علينا، فقال قائل منهم: «ما رأيكم في الاتصال بالدكتور زكي نجيب هاتفيا نرجوه أن يوضح لنا العلاقة بمثال؟! فقلنا: لكنه، من ناحية، أستاذ للمنطق، ولا يدرس الفلسفة الحديثة، وهذه من ناحية ثانية فلسفة ألمانية «ميتافيزيقية»، لا يطيق أن يسأله عنها أحد، ونحن من ناحية ثالثة قد بلغنا العاشرة مساء ولم نعتد محادثته في مثل هذا الوقت المتأخر ... إلخ، لكن الصديق قام إلى الهاتف وهو يقول: لا أظنه يمانع رغم ذلك كله! وطلب الرجل في منزله وسأله، وكانت إجابة «المعلم» بالبديهة الحاضرة سريعة كالعادة: «أنت الآن حين تتحدث في الهاتف خير مثال لهذه العلاقة التي تسال عنها: فشخصك هو «الأنا» والهاتف هو «اللاأنا»! فشكره الصديق وجلس، وشعرنا جميعا بالحرج الشديد؛ لأن الفكرة لم تكن غامضة ولا معقدة كما تخيلنا، ففيم كل هذا الإزعاج، ولم ندرك أن الوضوح جاء نتيجة لشرح «المعلم»!»
ولقد علمني أنا شخصيا أن أحترم الرأي الآخر، وألا أسخر أبدا من الفكرة المعارضة، وعندما رفض جماعة «فينا الجديدة»، لم أكن أعرف بوضوح أنه هو نفسه يرفض المذهبية، وأنه ظل طوال حياته يحارب التمذهب والجمود والتقوقع في مذهب معين، وأنه يطلق على الذين يحصرون أنفسهم في مذاهب خاصة اسم «عبيد المذاهب». ولم أتبين ذلك بوضوح إلا بعد أن قرأت مؤلفاته في مرحلة متقدمة من حياتي الثقافية، ووقفت طويلا عند ذلك المقال الرائع «عبيد المذاهب». ويا ليت أصحاب «الكليشيهات» الذين يريدون أن يدمغوا الرجل بخاتم معين، وأن يحصروا كل فكره في إطار «الوضعية المنطقية»، أن يقرءوا هذا المقال قبل أن يخوضوا في شرح فكره وتحليله، وقبل أن يتطوعوا بالإفتاء! والحق أنني عندما قرأت هذا المقال شعرت كأنما قد سقطت الفترة الزمنية التي انقضت بين اللحظتين، اللحظة الأولى في مسكنه ونحن نعرض عليه تأليف جماعة الوضعية المنطقية، واللحظة الثانية التي أقرأ فيها هذا المقال، وتخيلته وهو ينصحنا بعدم الانتماء إلى مذهب. وليسمح لي القارئ أن أقتبس فقط افتتاحية المقال التي يقول فيها: «علمتني خبرة السنين، بين ما علمتني، أن من أخطر مزالق الفكر أن أقيد نفسي في حدود إطار مذهبي، تقييدا يجعلني أرجع في كل أموري إلى مبادئ مذهب معين، فما وجدته متفقا مع تلك المبادئ قبلته، وما لم يتفق معها رفضته؛ وذلك لأن الخبرة علمتني بأن تيار الحياة أغزر جدا من أن يلم به مذهب واحد محدد بعدد قليل من المبادئ والقواعد ... إلخ.»
6
بل إنه ليرفض المذهبية، في السياسة؛
7
ولهذا تراه يقول في مقال آخر: «إننا نبالغ في المذهبية حتى لنجاوز بها في كثير من الأحيان حدود السياسة إلى ميادين ما كان ينبغي لها قط أن تتورط في المذهبية كميادين التعليم والأدب والفن ...»
8
وهو يردد مع الإمام الغزالي أنه: «لا خلاق لنا إلا في الاستقلال»، وهو يقصد هنا استقلال الرأي، وأن نطالب بمكان مشروع في أي نظام سياسي نختاره لصاحب الرأي المستقل، إذا دل تاريخه الفكري على أنه قادر على الاستقلال.»
9
هذا الموقف الفلسفي الرائع، الاستقلال في الرأي، والاستقلال في التفكير، هو الذي كان يحاول زكي نجيب محمود «الأستاذ» أن يغرسه في تلاميذه، ولم يحاول قط أن يكون تلاميذه مجرد «نسخ» منه.
ومعنى ذلك كله أن إحدى الخصال الأساسية في زكي نجيب محمود «الأستاذ» نفوره من المذهبية، وإقباله على الاستقلال في الرأي، وفي استطاعتك أن تضيف إلى ذلك خاصية أخرى هي أنه لا يعرف في الحق لومة لائم، لا يجامل على حساب الجانب العلمي على الإطلاق، ولا يتحاشى المواجهة الصريحة مع أي إنسان كائنا من كان تلميذا أو صديقا، وبالغا ما بلغت درجة حبه له، ولكم شهدت مناقشات حول بعض قضايا لا تروقه في علم النفس، أو أفكار لبعض علماء النفس لا يوافق عليها؛ من ذلك مثلا ما يقوله البعض من أن المجرم يكون، في الأعم الأغلب، ضعيفا من الناحية العقلية، أو كثيرا ما يكون أقل، وأشهد أنه انفعل مرة انفعالا ملفتا لأنني كتبت رأيا يخالف رأيي ثم أردفته بعلامة تعجب (!) وثار «المعلم» ثورة لم أكن أتوقعها قط وهو يقول: علام تتعجب؟! وماذا فعل بك الرجل حتى تتعجب من كلامه؟ وحتى لو افترضنا جدلا أن فكرتك أصدق من فكرته، وهذا غير صحيح، أيجيز لك ذلك أن تتعجب منه؟ إنني أود أن ألقن كل من يستخدم علامات التعجب في صحفنا وكتبنا درسا لا ينساه؛ أود أن أقول له: يا رجل، إن علامة التعجب انفعال يجوز أن نستخدمه في مجال الأدب أو الفن عموما، أما مجال الفكر والعقل والمنطق واختلاف الرأي، فلا يجوز لك أن تتعجب فيه أبدا من فكر يخالف فكرك أو رأي يعارض رأيك! إنك إذا ما تصفحت كتابا باللغة الأجنبية فإنه يندر جدا أن تجد فيه علامة تعجب واحدة.
علمني الدكتور زكي نجيب «المعلم» الاهتمام باللغة، وكان يقول باستمرار إن الفكرة الخصبة العميقة التي توضع في إطار لغوي رديء لهي أشبه بالفتاة الجميلة التي ترتدي أسمالا بالية، وتترك شعرها أشعث أغبر، فيضيع جمالها وسط هذا الإطار القبيح! أما الفكرة الخصبة العميقة التي توضع في إطار لغوي سليم يعبر عنها بوضوح ناصع؛ فهي أشبه بالفتاة الجميلة التي تبرز ثيابها وزينتها ما عندها من جمال!
ومن القيم التي بثها فينا زكي نجيب «المعلم» قيمة «الإخلاص». ولقد رأيته مؤخرا في حلقة تليفزيونية، وهو يجيب عن سؤال للأستاذ فاروق شوشة: «وما الحل في رأيكم لكل ما نعانيه من مشاكل!» رأيته منفعلا بعنف وهو يقول: «الإخلاص! الإخلاص يا أخي!» وأخذ الرجل يكررها مرارا وهو يعدد ضروب النفاق والجهد العابث «نجلس ونجتمع، ونعقد لجانا وراء لجان، ونكدس أوراقا فوق أوراق، ونحن نعلم أن ذلك كله سوف يضيع في أدراج المكاتب، نحن ندرك مقدما أن ذلك كله لن ينفذ منه شيء! إننا ينبغي أن نخلص الفكر والعمل معا فنكتب المذكرات التي تنفذ، ونضع التقارير والاقتراحات الصالحة للتنفيذ، ثم نسعى جاهدين إلى تحويلها إلى عمل!»
ذكرتني هذه الثورة الانفعالية الشديدة بثورته عندما كان يشعر أن طالبا ينافقه أو يتملقه، عندئذ كان يشعر أنه أهين إهانة بالغة! أذكر أنني كنت في منزله في بداية عملي في رسالة الماجستير تحت إشرافه، عندما حضر أحد الطلاب الذين يعدون رسالة علمية أيضا تحت إشرافه، وكان الطالب قد اعتمد على كتاب «قصة الفلسفة الحديثة»، وفوجئت بالرجل يثور بعنف ويتهم الطالب بالتملق الرخيص: «أتظن أنك بذلك ترضيني أو تجاملني؟ إذن فاعلم أنني كتبت هذا الكتاب وأنا أصغر منك سنا!» (أين ذلك الموقف من أساتذة اليوم الذين يقيمون الطلاب بمقدار اعتمادهم على كتبهم أو ذكر مؤلفاتهم في قائمة المراجع!) وعندما هممت بالوقوف مستأذنا في الانصراف (وكان الموعد الذي حدد لمناقشتي فيما كتبت قد انتهى)، حتى لا أحرج الزميل الفاضل فوجئت بالدكتور زكي يشير إلي بيده أن أجلس! ثم قال: «أود أن تشهد ما وقع فيه زميلك من أخطاء، وما أسوقه من ملاحظات حتى لا تقع فيها، فكلكم تقريبا تقعون في الأخطاء نفسها مع فوارق قليلة، وأنا لا أريد أن أكرر كلامي مرتين!» وهكذا أردت أن أتجنب إحراج الزميل فأحرجت نفسي!
وإذا كان المعلم يكره النفاق والتزلف من تلاميذه، فإنه هو نفسه يفاخر بأنه لم يكن ذات يوم منافقا أو متزلقا، ويحمد الله الذي أغناه عن هذه العادة القبيحة بأن كانت رغباته قليلة محدودة يقول: «الحمد لله الذي أغناني بهذه القدرة العجيبة على ألا أجعل للرغبة سلطانا يستعبد نفسي، ويسوقها وهي راغمة في طريقة النفاق والزلفى، وإني لأكون شاكرا وذاكرا للفضل، إذا ما ذكرني أحد بخطوة واحدة خطوتها على طول السنين نحو بشر مثلي ألتمس عنده الرضا ...»
10
زكي نجيب محمود ... الإنسان
كنا في السنة الرابعة من دراستنا الجامعية، وكان الوقت فترة الاستراحة بين محاضرتين للدكتور زكي، ولم يكن يخرج فيها من قاعة الدرس، عندما رأيته يضحك حتى تنفرج أسارير وجهه، ولست أذكر الآن على وجه الدقة سبب الضحك، لكني أذكر جيدا كيف انقلبت هذه اللحظة السارة إلى شعور بالأسى والمرارة، عندما قال له أحد الطلبة: «هذه هي المرة الأولى في حياتي الجامعية التي أراك تضحك فيها يا دكتور!» والحق أن الألم كان يعتصره عندما يسأله سائل: «ما لي أراك واجما؟» وكان يجيب باستمرار: «لا! ليس ما بي من وجوم، وإنما هي خلقة طبعها الله على وجهي، فأبدو واجما ولست بواجم!»
11
غير أن الجدية التي كانت ترتسم على وجهه، فتجعله يبدو واجما أحيانا، حزينا أحيانا أخرى، كانت في الواقع تخفي وراءها قدرة هائلة على «السخرية والتهكم»، وربما ظهر ذلك واضحا فيما يكتبه من مقالات أدبية.
12
كما أنها تحجب قدرا كبيرا من الفكاهة التي يتميز بها الدكتور زكي، وكانت فكرتي السابقة عنه أنه لا يعرف سوى الجاد من الأمور، ولا يهتم إلا بالأفكار الفلسفية الصلبة التي لا تلين! أما زكي نجيب الإنسان المرح الضاحك، الذي يستعذب الملح والفكاهة ويرويها؛ فهو جانب لم أكن أعرفه إلا عندما اقتربت منه واستمتعت بأحاديثه الخاصة! والواقع أنني كنت قريبا من زكي نجيب محمود منذ أن عرفته طوال سنوات الدراسة الجامعية أولا، ثم بعد تخرجي وإلى يومنا هذا، وطوال هذه الفترة وأنا ألمس فيه جوانب إنسانية متعددة، تزداد في ثرائها وعمقها يوما بعد يوم؛ من ذلك مثلا أنني كنت أستشيره في أمور كثيرة من حياتي ومشاكلي الخاصة، وعندما أخبرته، بعد تخرجي مباشرة، بعزمي على الزواج كنت أتوقع أن يسألني: ولم العجلة قبل أن تكون نفسك ماديا؟ لكني وجدته يصمت قليلا ثم يقول: «نعم! تزوجوا! واستمتعوا بحياتكم قبل أن تخيبوا كما خبنا!» وكان يشير بذلك إلى الفترة الطويلة التي قضاها مضربا عن الزواج، وكيف أنه ندم على ذلك فيما بعد.
ومن المواقف الإنسانية التي لا أنساها للدكتور زكي، أنني كنت يوما أروي له بعض المشاكل المالية التي اعترضتني بعد الزواج، فوجدته بعد أن انتهت جلستنا يأتي بمظروف حكومي أصفر، وهو يقول: «إنني أقرضك هذا المظروف!»، وشكرته شكرا جزيلا، وأنا في غاية الحرج، ورفضت أن أتناول المظروف من يده، ولا أدري حتى الآن ماذا كان بداخله على وجه التحديد! وظلت هذه الحادثة مؤثرة في نفسي غاية التأثير، حتى إنني رويتها لصديق وزميل بعد ذلك بعدة أشهر! وكم كانت دهشتي عندما قال: أنت رفضت تناول المظروف لأنك تعمل ولك دخل شهري. أما أنا فقد أخذت ما قدمه لي عندما كنت طالبا، وذهبت إليه في منزله أشكو ما أنا فيه من ضائقة مالية، فإذا به يفعل معي ما فعله معك: يأتي «بالمظروف الحكومي الأصفر»! وأخذته شاكرا إذ لم يكن في استطاعتي أن أرفض! وعجبت من هذا الأستاذ «الإنسان»، الذي اعتاد أن يقرض تلاميذه المال «على سبيل السلف»! على حد تعبيره، وكنت قد اعتدت من قبل أن أقترض منه ما أحتاج إليه من كتب، أما مسألة المال فقد كان موقفا جديدا بالنسبة لي!
لزكي نجيب محمود الإنسان المجامل المتواضع، الذي يصر على أن يصحبك إن كنت في زيارته حتى باب مسكنه، وهو في هذه السن المتقدمة، الكثير من المواقف الإنسانية التي تدهشك. أذكر، مثلا، أنني ذهبت لزيارته ذات صيف، وكان عائدا من الكويت، حيث كان يعمل أستاذا بجامعتها في ذلك الوقت، فوجدته يومها على شيء غير قليل من الضيق، ولما استفسرت عن سبب هذا الحزن البادي، أجابني بقوله: أنا الذي أود أن أستفسر منك عن شيء، وأرجو أن تطلعني عليه دون أن تخبر أحدا: «هل صحيح أن فلانا قد مات؟»
وكان يقصد واحدا من الزملاء يعمل الآن بحقل النقد الأدبي، وسألته مندهشا: ومن أين جئت بهذا النبأ؟» فقال: «قرأته في جريدة الأهرام وأنا في الكويت منذ أيام.»
قلت لعله مجرد تشابه في الأسماء! - وهل أنت متأكد! - تمام التأكد! لقد التقيت به بالأمس فقط مصادفة في أحد شوارع القاهرة!
هنا فقط تنهد الرجل وهو يقول: «الحمد لله!» ثم سكت برهة وقال في أسى: «هذا العاق! تألمت كثيرا لهذا النبأ السيئ مع أنه لم يزرني منذ سنين!»
كان يتابع تلاميذه ويخاف عليهم كأبنائه تماما، يحزن إذا مسهم سوء، أو سمع عنهم مكروها، ويشعر بالأسى الشديد لغيابهم عنه، وكان وما يزال يحب أن يزوره تلاميذه، وأن يعرف أخبارهم ويسره أن يعرضوا عليه مشاكلهم، فالسمر مع هؤلاء الأحباب هو عزاؤه الوحيد، بعد أن عز عليه خروجه من داره ...
هذا هو زكي نجيب محمود كما عرفته: أستاذا، ومعلما، وإنسانا، صاحب الخلال الرفيعة، التي شهد له بها خصومه قبل أصدقائه. ولست أجد عبارة أختم بها هذا الحديث أفضل مما قاله الأستاذ إبراهيم فتحي، الذي انتقد أفكاره نقدا شديدا من زاوية ماركسية، لكنه، مع ذلك، يؤمن بأن زكي نجيب محمود: «يقدم بشخصه نموذجا رفيعا نادرا للمفكر الحر: فما استعدى سلطانا على خصم، وما تعلق بأذيال ذوي الجاه، وما حاول أبدا أن يفرض رأيه على تلاميذه، أو يجندهم لمذهبه، وما لجأ في جدال إلا إلى قوة الحجة، ولم تعرف المهاترة والمكابرة أبدا طريقها إلى قلمه الفياض، الذي لم يتخذ غيره سلاحا، ولا شيء أبعد عن الحقيقة من وصفه، بأنه يمثل استعمارا قديما أو جديدا، أو بين المطابقة بين الوظيفة الاجتماعية للوضعية المنطقية في بلاد بعيدة، وبين الدور الذي يقوم به زكي نجيب محمود في مصر والوطن العربي.»
13
هذه شهادة واحد من الخصوم، ولست أجد بعدها ما يمكن أن يقال تحية لهذا المفكر العملاق!
الفصل الثاني
زكي نجيب محمود مفكرا تنويريا
في الخامس من ديسمبر عام 1784م كتب الفيلسوف الألماني العظيم «أمانويل كانط» (1724-1804م) مقالا في «مجلة برلين الشهرية» عنوانه: «ما التنوير؟» (كما كتب مندلسون وغيره في الموضوع ذاته).
1
ردا على مقال لأحد القساوسة الألمان يتساءل فيه عن معنى هذه الكلمة، التي شغلت أذهان الناس في ذلك الوقت، وقد يكون من المفيد، ونحن نتحدث عن زكي نجيب محمود المفكر التنويري، أن نبدأ بتلخيص مضمون هذا المقال لنرى في ضوئه ما الذي نعنيه بالفكر التنويري عند مفكرنا الكبير.
الفكرة المحورية في التنوير هي القول بأن الإنسان قد بلغ سن الرشد، وأنه ينبغي أن ترفع عنه «الوصاية»؛ لأنه لم يعد قاصرا بحيث يحتاج إلى غيره ليفكر نيابة عنه، والمقصود بالإنسان هنا «الإنسان المفرد»، أو المواطن العادي الذي بلغ عقله مرحلة النضج، ويستطيع إذا ما استخدم عقله استخداما جيدا، أن يصل إلى الحقيقة. وهذا يعني أن العقل البشري ليس بحاجة إلى سلطة ترشده أو تهديه سواء السبيل؛ ومن هنا كان شعار عصر التنوير «لتكن لديك الشجاعة لتستخدم عقلك» أو تشجع واعرف بنفسك ولنفسك، وأعمل العقل في كل مناحي الحياة، وفي أي موضوع يطرح عليك، ولا تركن إلى الكسل والجبن الشائعين عند بعض الناس، الذين يعتقدون أن في القصور راحة، وأن التفكير العقلي المستقل أمر خطير جدا، ولا تقل لنفسك: إنني لست بحاجة إلى التفكير إذا كان هناك من يقوم عني بهذه المهمة الثقيلة.
ومضمون هذه الدعوة رفض السلطة التي توشك أن تكون العدو اللدود للعقل، سواء تمثلت هذه السلطة في التقاليد الموروثة، أو في سلطة الحكام أو تراث الأقدمين أو حتى المحدثين، وهذا يعني استحداث أساليب جديدة في التفكير، فلا نهضة حقيقية إذا ما ظلت طرق التفكير القديمة باقية، كما هي معتمدة على الاستنباط من سقف معين (تراث الأقدمين، أو السلطة الدينية، أو سلطان الحكام أو حتى المفكرين ) هابطة إلى نتائج ليس فيها جديد، لا نهضة حقيقية إلا بإحداث «ثقوب» داخل هذا السقف للنفاذ منها إلى آفاق جديدة، ولتحقيق هذه الغاية لا بد من استحداث أساليب جديدة في التفكير تضع كل شيء تحت محك النقد، وترفض القبول الأعمى لكل ما يقال بغير فحص أو تمحيص، وتتجه إلى الاستقلال العقلي الذي يجعلنا نبدع ونبتكر. وماذا عساه أن يكون الإبداع إن لم يكن كسرا لما هو قائم، وإضافة جديدة لم تكن مسبوقة من قبل؟!
ويتفرع عن الاستخدام الجيد للعقل بعيدا عن أي سلطة نتيجتان هامتان:
الأولى:
الاهتمام بالعلم الطبيعي، والاعتماد عليه وحده في تفسير ظواهر الطبيعة؛ وبالتالي محاربة الخرافة في شتى صورها، ويمكن أن نقول إن هذه النتيجة ليست جديدة تماما، لا سيما إذا عرفنا أن العلم «عقل» في نهاية المطاف.
أما النتيجة الثانية:
فهي سياسية واجتماعية؛ إذ من البديهي أن تؤدي الدعوة السابقة إلى نتائج سياسية واجتماعية كثيرة، وأن يكون من بين هذه النتائج مناهضة الحكم المستبد، ومحاربة الظلم الاجتماعي في شتى صوره لتحقيق العدالة بين الناس، والدعوة إلى المساواة والديمقراطية، والحرية السياسية لا سيما حرية التفكير والتعبير، فليس هناك شيء اهتم به فلاسفة التنوير قدر اهتمامهم بالحرية، وذلك لارتباطها الواضح بالاستخدام العلني للعقل في جميع المجالات!
والحق أن المتتبع للجهد الهائل الذي بذله زكي نجيب محمود لأكثر من ستين عاما يجد هذه الأفكار المحورية للفكر التنويري مبثوثة في جميع كتاباته، بل إنه ليزيد عليها كثرة كثيرة من الأفكار التي وصل إليها من تأملاته الخاصة في مشكلات مجتمعه؛ ومن هنا كان التنوير الذي تشيعه كتابات هذا المفكر الكبير ليس شعاعا واحدا، وإنما هو حزمة من أشعة تتجه نحو كتل الظلام الهائلة، التي رانت على نفوسنا أجيالا طويلة، وهو في ذلك كله «لا يعظ» و«لا يدعو» ولا يكتفي بأن يقول للناس استخدموا عقولكم! وإنما يضرب بمبضع التحليل في أعماق المشكلات الاجتماعية ليخرج الخبء منها وليصل إلى جذورها، بل وبذورها أيضا، ملقيا الضوء الكاشف على ما في حياتنا من جوانب «لاعقلية»، وما في تفكيرنا من أساليب منافية للعلم وحضارة العصر، مؤمنا بأن الفكر ليس ترفا يلهو به أصحابه، وإنما لا بد له أن يرتبط بالمشكلات التي يحياها الناس حياة يكتنفها العناء، فيريدون لها حلا حتى تصفو لهم المشارب، وبمقدار ما تكون للفكرة صلة عضوية وثيقة بإحدى المشكلات تكون فكرة بالمعنى الصحيح.
2
ولنبدأ من البداية لنراه يحدد بوضوح اللبنة الأولى التي يقوم عليها صرح المجتمع الجديد، الذي يريد لنا بناءه؛ ألا وهي «الفردية العاقلة المسئولة»، التي يتفرع عنها كل شيء آخر؛ فالفرد الذي يستخدم عقله بحرية ويكون مسئولا عما يفعل هو الأساس في كل نهضة، فلا أحد يفرض عليه رأيا، ولا هو بدوره يتهرب من مسئولية عمله؛ ومن هنا نرى مفكرنا الكبير يرسم الخط الذي سار فيه تفكيره بكلمات لا لبس فيها ولا غموض ... «الخط الفكري الذي تنطوي عليه كتاباتي على اختلاف موضوعاتها، وعلى طول الأمد الذي امتدت خلاله هو الإيمان بأن الفرد الإنساني مسئول عما يفعل، وأن هذه المسئولية لا تعني شيئا إذا لم يكن العقل وحده هو مدار الحكم في كل المسائل التي تطلب فيها التفرقة بين الصواب والخطأ. أما الموقف الذي تسوده عاطفة فلا خطأ فيه ولا صواب؛ لأن المرجع فيه إلى القلب وما ينبض به ...»
3
وها هنا نراه يلتقي مع المضمون المحوري للفكر التنويري لكنه يضيف إضافة جديدة، وهي التفرقة الواضحة بين المجال الذي يستخدم فيه العقل، والمجال الذي يستخدم فيه الوجدان والخيال سوف نعود إليها بعد قليل، ومرة أخرى نراه يلخص مضمون التنوير كله في عبارة جامعة «... كل دعوة تدعوني إلى أن أترك غيري يفكر لي نيابة عني، وما علي إلا التنفيذ، هي دعوة تدعوني إلى إهدار آدميتي والتفريط في حق نفسي ...»
4 «فالعقل وحده كفيل بأن يجد الحكم الصحيح لكل ظرف جديد، وإذا قلت إن الأمر موكول إلى العقل، فكأنما قلت بالتالي إنه ليس من حق أحد أن يقيم النموذج الذي نسوق على غراره أفكارنا وأفعالنا، إلا إذا كان من حق الآخرين كذلك أن يناقشوه، وفي المناقشة قد تتعدد الآراء وتختلف وجهات النظر ...»
5
وإذا كانت الدعوة إلى استخدام العقل والاحتكام إليه في شتى جوانب الحياة، قد بدأت مع بداية الحركة التنويرية في فجر نهضتنا الحديثة، فإن زكي نجيب محمود قد واصل هذه الدعوة بقوة من ناحية، ثم استخدم التحليل العقلي في إلقاء الضوء على مشكلاتنا ومفاهيمنا الشائعة من ناحية ثانية، ثم حاول أن يحدد مفهوم «العقل» وطرق استخدامه من ناحية ثالثة، وهي كلها إضافات غير مسبوقة.
6
فهو مثلا يحاول تحديد «معنى العقل» الذي كثر الحديث عنه بأن يبدأ باستبعاد المعنى الذي شاع طويلا في حياتنا الثقافية، والذي يتصور أن ثمة في عالم الكائنات كائنا مستقلا قائما بذاته اسمه «عقل»، يمكن أن نشير إليه كما يشير اسم «الهملايا» إلى جبل معلوم. ويرى أن العقل يطلق على فعل من نمط ذي خصائص يمكن تحديدها وتمييزها فهو «فاعلية»، تسير في طريقين لا ثالث لهما يلتزم منهما هذا الطريق أو ذاك بحسب الموضوع الذي يفكر فيه: أما أحدهما فهو الطريق الذي يجعل نقطة ابتدائه كلمات بعينها أو رموزا رياضية يصعب عليها عمله الفكري. أما الآخر فهو الطريق الذي يجعل نقطة ابتدائه معطيات تعطيها حواسنا الظاهرة، وهذا هو طريق العلم؛ فالعقل إذن فاعلية تبدأ من بداية معينة، تعتصر الرموز إذا كانت البداية فكرة رياضية، لتقول لنا أنها تنتج كذا وكذا، أو تبدأ من وقائع حسية فتربط بينها وبين وقائع أخرى؛ لتستخرج لنا ما نسميه بالقوانين.
7
وما فعله مفكرنا الكبير بالنسبة لتحديد معنى «العقل»، قام به أيضا فيما يتعلق بمفهوم «الحرية»، وهي فكرة دعا إليه أيضا كثير من المفكرين التنويريين منذ فجر نهضتنا الحديثة ابتداء من رفاعة الطهطاوي إلى لطفي السيد وقاسم أمين حتى طه حسين والعقاد، لكنهم جميعا تركوا لزكي نجيب محمود مهمة وضع فكرة الحرية تحت مجهر التحليل، لينتهي أن لها جانبين: جانب سلبي، الذي يركز على «التحرر» من القيود التي كبلتنا في هذا الميدان أو ذاك (كالتحرر من الاحتلال، وتحرر المرأة من طغيان الرجل، أو تحرر العامل من تحكم صاحب رأس المال ... إلخ). لكن هناك جانبا إيجابيا يتمثل في قدرة الإنسان على أداء عمل ما، ولا قدرة في أي ميدان إلا لمن يعرف حقيقة هذا الميدان وما يتعلق به؛ إنها «حرية الذين يعلمون».
8
وهكذا ربط مفكرنا ربطا وثيقا بين الحرية بمعناها الإيجابي، وقدرة الإنسان على أداء عمل معين «يعرف» كيف يقوم به، فالجانب الإيجابي من الحرية والمعرفة وجهان لعملة واحدة.
9 •••
وإذا كانت الدعوة إلى الاستخدام العقلي الحر عند مفكري التنوير عموما قد أفرزت نتيجة هامة، كما سبق أن ذكرنا، هي الاهتمام بالعلم الطبيعي، وتفسير الظواهر الطبيعية تفسيرا علميا؛ فإننا نجد نفس الدعوة العقلية عند زكي نجيب محمود، قد ارتبطت بالاهتمام بالعلم (وقد سبق أن رأينا أن العلم عقل في نهاية المطاف)، حتى أصبحت هذه القضية الشغل الشاغل عند مفكرنا منذ أكثر من أربعين عاما، قد أطلق صيحته «أنا مؤمن بالعلم كافر بهذا اللغو الذي لا يجدي على أصحابه ولا على الناس شيئا ...»
10
حتى قوله : «أنا أدعو بكل قوتي إلى أن نزيد من اهتمامنا بالعلم، حتى ولو جاء ذلك على حساب الجانب الوجداني، فأنا أدعو إلى الأخذ بأسس الحضارة العصرية وما يتبعها من ثقافة ...»
11
غير أن الاهتمام بالعلم عند زكي نجيب محمود لا يتوقف عند تفسير ظواهر الطبيعة تفسيرا علميا، وإنما يتعداه إلى إشاعة التفكير العلمي بين الناس، بحيث ينظرون بأساليب فكرية جديدة إلى مشكلاتهم ومشكلات مجتمعهم؛ ومن هنا فإننا نجد مفكرنا الكبير لا يرضى عما أحدثته الثورة المصرية، عام 1952م، من تغييرات هائلة في الهيكل الاجتماعي؛ لأن ذلك في رأيه لم يكن كافيا لإحداث نهضة حقيقية، فما دامت أساليب التفكير البالية قائمة، فلا أمل لنا في إحداث تغيير حقيقي في المجتمع، بالغا ما بلغت ثورتنا على الإقطاع أو أصحاب رءوس الأموال أو الأخذ من الأغنياء لإعطاء الفقراء ... إلخ، ومن هنا كتب يقول: إننا نريدها ثورة فكرية يتغير منها المنوال الفكري، الذي سار في الماضي وهو يقارن بين الثورة في صناعة النسيج ماذا تعني؟ والثورة في المجتمع فيقول ...
12 «... إذا كانت لدينا أنوال قديمة لنسج القماش، فهل تحدث ثورة في صناعة النسيج إذا نحن أبقينا على الأنوال القديمة كما هي، ثم زدنا كمية القماش المنسوج، وغيرنا من ألوانه وزخارفه، ومن طريقة توزيعه على الناس، فإذا كان القماش الناتج من تلك الأنوال القديمة يوزع على المدن وحدها نشرناه في القرى، أو كان يخص الأغنياء وحدهم جعلنا منه للفقراء نصيبا، وكان للكبار وحدهم فصنعنا شيئا منه للأطفال؟! أيجوز لنا في مثل هذه الحالة أن نقول إن ثورة قد حدثت في صناعة النسيج؟!
كلا! فالثورة الحقيقية هي ثورة فكرية، وهي تعني أن نقوم بتغيير «أنوال» التفكير القديم، التي ظلت باقية معنا على عهدها القديم؛ ولذلك بقيت طبيعة الفكر على حالها ... الذي أزعمه أن منوالنا الفكري لم يتغير، وأن النمط الذي نسوق نشاطنا الفكري في إطاره ما زال كما كان منذ قرون. وهذا المنوال قوامه عناصر كثيرة لعل أهمها جميعا الركون إلى «سلطة» فكرية نستمد منها الأسانيد، ومثل هذه السلطة تتمثل عادة في نصوص بعينها محفوظة في الكتب، كما تتمثل كذلك في أقوال يتبادلها الناس، وهي التي تسمى العرف أو التقاليد. وبناء على هذا الموقف تكون الفكرة صوابا، إذا استقت مع ما أقرته السلطة الفكرية في الكتب المحفوظة أو في الأقوال المأثورة، كما تكون الفكرة خطأ إذا جاءت مخالفة لما أقرته تلك السلطة؛ ومن هنا اشتد سلطان الماضي على الحاضر، وأصبح البرهان الذي لا يرد هو أن نسوق «الشواهد» من سجل الأقدمين، وانحصرت قوة الإبداع الفكري في القدرة على إيجاد السند من القول المأثور. ولن تكون لنا ثورة فكرية إلا إذا أحللنا نمطا جديدا محل هذا النمط القديم، فيكون معيارنا هو: ما هي النتائج العملية المستقبلية التي تترتب في حياتنا الفعلية، على هذه الفكرة أو تلك مما يقدمه لنا رجال الفكر.
13
وهو هنا يريد لنا ثورة حقيقية لا مجرد تعديل لأوضاع اجتماعية معينة؛ فالثورة الحقيقية هي «ثورة فكرية» تأخذ بأساليب جديدة في التفكير، وتستحدث لنفسها منطقا جديدا، أهم معالمه أن تكون الخبرة المباشرة (عقلية كانت أو حسية) هي نقطة الابتداء، ولا تكون نقطة الابتداء أقوالا حملتها موجات الزمن؛ ذلك لأن «عبقرية الإنسان هي في مواجهة للحياة الجديدة بالجديد المبتكر. ولقد أراد الله لهذا الإنسان أن ينظر إلى أمام؛ ومن ثم كانت أبصارنا في جباهنا ولم تكن في مؤخرة رءوسنا.»
14
ومعنى ذلك أن الاهتمام بالعلم عنده لا يعني «حفظ» مجموعة من القوانين العلمية تسير بها ظواهر الطبيعة، وإنما يعني «تشرب» الأسلوب العلمي في التفكير، أن يكون لدينا منهج ذلك العلم لنستخدمه أولا في المشاركة الإيجابية في المكتشفات العلمية، وثانيا ليحمل ذلك المنهج العلمي في صدوره ميزانا تزن به الأفكار العامة، كلما نشأت عند الناس فكرة يقبلون بها مشكلة عرضت لهم في حياتهم.
15
وهو يشعر بقلق بالغ من موقف الإنسان العربي نحو «العلم» حدوده وقدراته، ونمو «العقل» وعجزه ... إلخ، وهو يرى أن الخطير في الأمر أن العربي كثيرا ما يسخر من منجزات العلم الحديث، وأنه بذلك يهزأ بالعقل الإنساني وقدراته على ظن منه أن مثل هذه الوقفة ترضي ضميره الديني، وأنها وقفة تتضمن أن اعتزاز الإنسان بعقله واعتداده بقدرته العلمية - كما تشهد بها منجزاته الحديثة - فيه جرأة على رب العالمين الذي هو العليم القدير؛ مع أن أحدا على مدار الكوكب الأرضي لم يدر في خياله أنه خالق عقل نفسه، أو أنه صاحب الفضل في كل ما ينتج من علم ومنشآت ...
16
ومن المفارقات الغريبة أن العربي الذي يرفض «المنهج العلمي» هو من أكثر أهل الأرض شراء لتلك المنجزات الحديثة التي يأتي بها العلم!
17
ويواصل مفكرنا الكبير عرض الفكرة نفسها لأهميتها في مقال عنوانه «ينقصنا منهج العلم»، فيفرق بين مجموعة الحقائق العلمية التي ننقلها عن الغرب، ونحفظها عن ظهر قلب في مدارسنا وفي جامعاتنا، وبين «المنهج العلمي» الذي استطاع الإنسان بواسطته أن يصل إلى ما قد وصل إليه من حقائق، وها هنا يكمن الداء الذي تولدت لنا منه ضروب من الأورام الخبيثة في حياتنا العقلية، أو قل حياتنا اللاعقلية، فكان لنا ما كان من بطء شديد في حركة التقدم مع حضارة عصرنا في ركضها السريع.
18
وهو في موضع آخر يجعل هذه المشكلة «موطن الداء» في حياتنا العقلية، فمن اليسير أن نلقن الدارسين «مقررا» بعينه وضعت مادته في كتاب، ويطلب من الدارس حفظها عن ظهر قلب، ويعيدها في ذلك الهيكل العظمي في ورقة الامتحان، فيخرج الدارس وفي جعبته معلومات و«نقط» مبعثرة، وليس في عقله «نهج» للنظرة العلمية أيا كان الموضوع الذي ينظر إليه ابتغاء تعليله (18). وعندما قال فرنسيس بيكون: «العلم قوة»، فإنه كان يقصد لفت أنظار الناس إلى أنه ليس من العلم في شيء ذلك التحصيل الذي كان رجال العصور الوسطى في أوروبا يجمعونه من الكتب ويحفظونه، ما دام عاجزا عن أن يضيف إلى دارسه «قوة»، يستطيع بها أن يلجم ظواهر الطبيعة ليجعلها طوع أمره؛ فالتحكم في نبات الأرض نوعا ومحصولا يحتاج إلى «علم»، والتحكم فيما يخرجه الإنسان من جوف الأرض «علم»، واختراع وسائل النقل السريعة والمريحة يحتاج إلى «علم»؛ لأنه ضروب من «القوة» التي يقوى بها الإنسان على إخضاع الأشياء لصالحه ... والوسيلة إلى ذلك تبدأ من الطفولة، أن ندرب الطفل منذ الصغر أن تكون حواسه هي أبوابه ونوافذه.
19 •••
وإذا كانت النتيجة الثانوية المترتبة على الفكر التنويري واستخدامه العلني للعقل، هي محاربة الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي في شتى صوره، فإننا نجدها بارزة أيضا في كل ما كتب مفكرنا الكبير، فهناك عشرات من المقالات التي تتحدث عن «الظلم» المتفشي في كل مكان، وعن الطغيان ابتداء من «الطاغية الصغير» الذي هو نموذج لطغيان الشرق، وبيانا للأجواء التي تؤدي إلى ظهور الطاغية، إلى «النفوس الفقيرة» التي تبطش بالأشياء والأحياء بطش الصبيان.
20
والتي يلخص فيها ضروب الطغيان في مجتمعنا «... الحاكم الشرقي طاغية، والرئيس الشرقي طاغية، والوالد الشرقي طاغية، والزوج الشرقي طاغية، والموسر الشرقي طاغية، طغاة هؤلاء جميعا لأن في نفوسهم هزالا يعوضونه بمظاهر الاستبداد بسواهم ...»
21
وفي مقالة «عند سفح الجبل» يتحدث عن الهوة الواسعة التي تفصل في بلادنا بين «القادة» وأبناء الشعب، وهو يصور القادة يتربعون فوق قمة جبل شاهق، يحيط به سحاب كثيف يعزل القمة عن السفح، ويشكل هؤلاء القادة مجموعات منوعة من اللجان التي تتحدث عن «الشعب» ومصالحه، ويتجادلون في نوعه الإصلاح الدستوري الذي يستوردونه من فرنسا وبلجيكا، ثم يتساءلون: هل يبدع الفنان فنه لنفسه، أو يصوغه لصالح الشعب.
22
وفي سخرية مريرة يصور الشعب عند سفح الجبل متجسدا في امرأة عجوز متداعية، ترتدي كومة من أسمال سوداء بالية، تجلس على جانب الطريق، وأمامها صندوق خشبي صغير تناثرت على ظهره سبع قطع قذرة من الحلوى! وهذا هو النموذج الحي للشعب الذين يبحثون كيف يهيئون له مصيفا، يستمتع فيه بهواء عليل حين تشتد الحرارة في يوليو وأغسطس ...
23
وليسمح لي القارئ أن أقدم له مثالا واحدا فقط يوضح لنا كيف يوجه مفكرنا الكبير سهام نقده إلى «السادة الحكام» أولا، ثم كيف يوظف فكرة فلسفية هي فكرة أفلاطون عن الجمال وارتباطه بالخير في نقد الأوضاع السياسية والاجتماعية المتردية عن بلادنا؛ وأعني بهذا المثال مقاله «إلى سادتي الحكام ...»
24
كان يقرأ لأفلاطون فكرته عن العلاقة الوثيقة بين الخير والجمال، وسأل نفسه عن معنى هذه العلاقة «... وانتهيت إلى تحليل أرضاني تترتب عليه نتيجة هامة، هي التي أردت أن أسوقها إلى سادتي الحكام في هذا البلد؛ وهي أن كل ما في هذا البلد المسكين قبيح ذميم بفعل هؤلاء السادة أنفسهم، وعجبت أن يعنى السادة بالجمال في مساكنهم الخاصة، وفي ملابسهم، ومآكلهم، ومشاربهم، وشتى جوانب حياتهم الشخصية، ثم لا تمتد هذه العناية قليلا، لتشمل شئون الشعب الذي ألقى إلى أيديهم بزمامه ...»
25
وهو بعد أن يعرض فكرة أفلاطون عن الجمال التي تذهب إلى أن الجمال تناسب بين أجزاء الشيء، فإذا ما تحققت هذه النسب الصحيحة بين الأجزاء كان الشيء جميلا وتحقق معه الخير أيضا؛ ومن ثم كان اضطراب النسب شرا وقبحا في آن معا، أقول إنه بعد أن يعرض هذه الفكرة يعود إلى السادة من أصحاب الحكم والسلطان قائلا: «... أيها السادة، لقد اختل في أيديكم الميزان، فاضطربت النسبة الصحيحة بين الأشياء والأوضاع، فامتلأت البلاد بالقبح الذميم؛ لأنها امتلأت بصنوف الشر، وقد أوضحنا لكم أن الشر هو القبح وأن الخير هو الجمال ... إنكم عشاق للجمال في كثير من صوره تعشقونه في جميلات النساء وفي الطعام الجيد ... إلخ، وبقي يا سادة شيء واحد لو عشقتم فيه الجمال لصلح الأمر كله؛ ذلك هو العدل! فالظلم أيها السادة يملأ حولكم أركان البلاد، الظلم بمعناه الذميم وهو اضطراب النسبة بين الأشياء والأحياء؛ وبالتالي يملأ القبح جنبات هذا الوادي المبارك الذي أراد له الله أن يكون جميلا. أنه لا تناسب يا سادتي بين المناصب وشاغليها، فصغير عندكم يملأ منصبا كبيرا، وكبير يشغل منصبا صغيرا، ولا تناسب بين المرتبات والعاملين، فعامل منتج ضئيل الكسب، وخامل لا ينتج عظيم الكسب، يستمتع بما لم يرد له الله، ولا طبائع الأشياء أن يستمتع به من طيبات ... العدل، العدل، يا سادتي الحكام؛ فالعدل خير؛ ولذلك فهو جميل، وأنتم من عشاق الجمال ...»
26 •••
أردنا في هذا المقال أن نبين أولا خصائص المفكر التنويري، كما حددها كانط وغيره، من فلاسفة الغرب ، وهي خصائص تنطبق على كل مفكر تنويري حقيق بهذا الاسم في الشرق أو الغرب على السواء، ثم أن نتبين ثانيا أنها تصدق على مفكرنا الكبير، بحيث لا نجاوز الصواب لو قلنا إنه يتربع على قمة المفكرين التنويريين.
لكن ينبغي علينا أن ننتبه جيدا إلى الفارق الهام للدور الذي قام به المفكرون التنويريون في أوروبا، والدور الذي لعبه زكي نجيب محمود في حياتنا الثقافية؛ ففي عصر التنوير الأوروبي اندفع المفكرون إلى الاعتزاز «بالعقل» وإهمال «الوجدان»؛ مما أدى إلى ظهور حركة مضادة عنيفة للتنوير، ترفض الإنسان الذي لا يظهر منه إلا عقله، وتطالب بالطبيعة والخيال والوجدان والشعور، تمثلت أولا في حركة العاصفة والاندفاع، التي مهدت بعد ذلك للحركة الرومانسية، ثم جاء «هيجل» الذي اعتز «بالعقل» لكنه سلك فيه خيطا رومانسيا واضحا، فكان عقلا جدليا مرنا لا عقلا أرسطيا جافا.
لقد استطاع زكي نجيب محمود أن يتجنب ببراعة هذا الخطأ، الذي وقع فيه المفكرون الأوروبيون في عصر التنوير؛ فهو إذا كان عقلانيا متحمسا للعقل على نحو ظاهر ؛ فذلك لأن هذا الجانب ناقص في ثقافتنا، لكن ذلك لا يعني أنه أهمل ذلك الجانب الآخر، أعني جانب الخيال والوجدان، يقول: «من يقرأ لي فيراني متلفعا بمنطق العقل رائحا وغاديا، قد لا يعلم أن لي خيالا يشتعل لأتفه المؤثرات اشتعالا، يكتسح أمامه كل ما يعترض طريقه من قوى النفس الأخرى ...»
27
ومن هنا هو يجعل شعاره: «... فلنعط ما للعقل للعقل، وما للشعور للشعور ...»
28
ويجعل شغله الشاغل بعد ذلك الاهتمام بالتفرقة بين المجال الذي لا بد لنا أن نستخدم فيه العقل والمجال الذي نحتكم فيه إلى الشعور والوجدان؛ «فمن لا يريد أن يتحدث عما يقع في حسه مما يتاح للآخرين أن يراجعوه فيه بحواسهم؛ فهو لا يريد أن يتحدث بلغة العقل. وليس في ذلك رفع ولا خفض للغة المشاعر، بل الأمر أمر تفرقة بين نوعين مختلفين من الكلام، فإذا كان المجال مجال علم، فلا يجوز للشعور أن يتسلل إلى سياق الحديث بألفاظه الدالة على الوجدان، أما إذا كان المجال مجال أدب وفن، فليختر ما يشاء من لفظ ليثير في سامعه المشاعر التي يقصد إلى إثارتها فيه ...»
29
ولهذا فإننا لا نراه يطلق صيحة «فولتير» الشهيرة: «هيا نلتهم بعض اليسوعيين»، قاصدا التهكم بالطبع من رجال الدين، بل نراه على العكس يهتم بالتفرقة بين «الدين»، و«التدين»، و«علوم الدين» ليزيل ما يقع فيه الناس من لبس، حتى أهل التخصص منهم، فتحديد الفواصل بين هذه المعاني المختلفة من أوجب الواجبات التي يقوم بها المفكر التنويري، وهو يضرب كثرة من الأمثلة لإزالة هذا الغموض العالق بأذهان الناس؛ فالشجرة يستظل بها عابر سبيل، ويدرسها عالم النبات، ونحن هنا أمام ثلاثة أطراف متميز بعضها عن بعض، ولكنها موصولة: الدين هو هذه الشجرة، والرجل المتدين كمن يستظل بظلها، وعالم النبات هو أشبه بعلماء الدين. وهكذا نجد أن الدين شيء والتدين شيء آخر وعلوم الدين شيء ثالث! كذلك المصباح الذي يبعث بالضوء للقارئ ويدرسه علم الضوء؛ المصباح هو الدين، والقارئ هو المتدين، وعالم الضوء هو الممثل لعلماء الدين ... وهكذا وهكذا .
واهتمامه بهذا الجانب الوجداني هو الذي جعله يقدم لنا تحليلات دينية بالغة العمق، ولك أن تقرأ له «فلسفة الشهادة»، وماذا تعني شهادة «لا إله إلا الله» التي هي أصل ثابت في حياتنا الثقافية.
30
أو أن تقرأ «الضمير الديني».
31
أو تفرقته بين «الفكر الإسلامي» من ناحية وفكر المسلمين من ناحية أخرى، أو أن تقرأ تفسيره الرائع للآية الكريمة:
اقرأ باسم ربك الذي خلق ...
32
وكيف يذهب إلى أن القراءة، بنص الآية، نوعان: قراءة الكلمات وقراءة المخلوقات؛ أي قراءة كتاب الله وقراءة لكتاب الكون، وهي فكرة رددها كثير من المتحدثين في شئون الدين في أجهزة الإعلام المختلفة دون أن ينسبوها إلى صاحبها، كما فعلوا في فلسفة الشهادة: لماذا تكون للمفرد «أشهد أن لا إله إلا الله»، بينما تكون العبادة للجمع «إياك نعبد وإياك نستعين»، وغير ذلك كثير مما أبدعه هذا المفكر الكبير، واستباح الآخرون استخدامه دون أن يشيروا إليه ولو إشارة عابرة، كما تقضي الأمانة العلمية والدينية معا ظنا منهم أن الناس لا تقرأ، وأن أحدا لن يهتدي إلى صاحب هذه الأفكار؛ مع أنه لن يصح في نهاية الأمر إلا الصحيح، وسوف يخلد التاريخ زكي نجيب محمود المفكر التنويري العملاق، ويشيح بوجهه عن هؤلاء المتطفلين الذين لن يزيدوا الأرض إلا حفنة من تراب!
الفصل الثالث
نهاية الرحلة
«سقراط مصر أو مشعل الفكر الذي انطفأ ...!» «أي مشعل للفكر قد انطفأ ...» «أي قلب قد توقف عن الخفقان ...!»
مات زكي نجيب محمود! مات شيخ الفلاسفة بعد حياة حافلة بالعطاء والخلق والإبداع! مات سقراط مصر الذي جعل الفلسفة على كل لسان!
وسقراط مصر - مثل سقراط أثينا - رفض أن تكون الفلسفة في بطون الكتب، وأروقة المعاهد والجامعات، وأطلقها من «خارج الأسوار»، على حد تعبيره، لتؤدي دورها المهم في الحياة اليومية، ملايين القراء على امتداد الوطن العربي، كانت تنتظره صباح كل ثلاثاء على صفحات الأهرام لسنوات طويلة! فقد كان مقاله يطبع في خمس صحف عربية في اليوم نفسه! قالت لي عجوز حظها من الثقافة ضئيل: إنني لا أفهم كثيرا مما يكتب، لكنني أحب أن أقرأ له: أرجوك أن تبلغه عني هذه الحقيقة! وأبلغته فابتسم في صمت المحيط، تواضع العلماء!
المنهج ... لا المذهب ...!
وسقراط مصر - مثل سقراط أثينا - كان يرى أن الفلسفة منهج أو طريقة في التفكير تمارس، قبل أن تكون مذهبا يعتنق! يقول: «علمتني خبرة السنين - بين ما علمتني - أن من أخطر مزالق الفكر، أن أقيد نفسي في حدود إطار مذهبي، تقييدا يجعلني أرجع في كل أموري إلى مبادئ مذهب معين؛ ولذلك كان التطور الطبيعي في حياتي الفكرية أن اتخذ اتجاها هو في حقيقته «منهج للتفكير» لا «مذهب» يورط نفسه في مضمون فكري بذاته. فكنت كمن وضع في يده ميزانا يزن به ما يشاء، دون أن يملأ يديه بمادة معينة، لا بد أن تكون هي وحدها موضع الوزن والتقدير» (مجتمع جديد أو الكارثة، ص246).
أقرأ على شفتيك، عزيزي القارئ، اعتراضا في صيغة سؤال: أين، إذن، زكي نجيب محمود رائد الوضعية المنطقية، وصاحب «المنطق الوضعي» الذي أصدره عام 1951م، وصاحب «خرافة الميتافيزيقا» عام 1953م، وصاحب المقالات الطويلة عن «القطة السوداء» و«هذه الكلمات وسحرها» وغيرها كثيرا؟! وجوابي هو أن أحيلك «بدوري» إلى مقالاته الرائعة بعنوان: «قلم يتوب» (أفكار ومواقف، ص171 وما بعدها)، و«عبيد المذاهب» (مجتمع جديد أو الكارثة، ص246 وغيرها) ... وغيرها ... لتعرف أن الوضعية المنطقية لم تكن سوى مرحلة في تطوره الروحي، استفاد منها منهجا ونبذ المذهب، ولك أن تقرأ عبارة كهذه، «كنت لسنوات طوال مخطئا بين مخطئين؛ لأنني كنت بدوري أتعصب لتيار فلسفي معين، على ظن مني بأن الأخذ به يقتضي رفض التيارات الأخرى، لكني اليوم مع إيماني السابق بأولوية فلسفة التحليل على ما عداها من فلسفات عصرنا، أومن كذلك بأن الأمر بين هذه الاتجاهات الفلسفية، إنما هو أمر تكامل في نهاية الشوط» (هموم المثقفين، ص45-46).
والعبارة ليست بالقطع تبرؤا من المذهب الوضعي المنطقي، أو التجريبية العلمية كما كان يحلو له أن يسميها، أو تنصلا منه، وإنما هي تفسير لتلك اللمحة الذهنية التي توقدت لتضيء له الطريق، على حد تعبيره، عندما وقع في ربيع عام 1946م على المذهب الوضعي أو ذلك المنهج الفلسفي الجديد، الذي فرق له بين مجال الوجدان، ومجال العقل: «لقد أراد لي توفيق الله، منذ بدأت حياتي العقلية المنتجة أن أقع على طريق من طرق التفكير الفلسفي، رأيته كأنما خلقت له وخلق لي، ثم رأيته وكأنه أنسب ما أقدمه في عالم الفكر لأمتي؛ لأنه إذا كان الغموض والخلط بين المعاني، هو أحد الأمراض العقلية التي أصابت أمتي، فتلك الطريقة من طرق التفكير هي أنجح وسائل العلاج» ... (قيم من التراث، ص117-118).
علينا أن ننتبه جيدا إلى أمثال هذه العبارات المهمة التي تدل أولا على أنه أخذ منهج الوضعية المنطقية في التحليل دون المذهب، وعلى أنه أراد ثانيا أن يوظف هذا المنهج لصالح الفكر التنويري، ولو أن الرجل أراد أن يكون مدرسة، كما يزعم نقاده، تنشر مبادئ الوضعية المنطقية، وتترجم نصوصها وتروج أفكارها، لوجد عشرات من تلاميذه على استعداد للقيام بهذا الدور منذ زمن بعيد (راجع ذلك بالتفصيل في مقالنا «زكي نجيب محمود كما عرفته» فيما سبق)، ولوجد من تلاميذه من يؤلف، ومن يترجم، ومن ينقل الوضعية المنطقية من شتى زواياها وأبعادها إلى الثقافة العربية، لكنه لم يفعل، بل كانت معظم الرسائل الأكاديمية التي أشرف عليها إبان فترة أستاذيته بالجامعة، تدور حول موضوعات فلسفية لا علاقة لها بالوضعية المنطقية.
كانت رسالة كاتب هذه السطور عن «المنهج الجدلي عند هيجل»، ورسالة د. محمود زيدان عن «وليم جيمس»، ورسالة فرحات عمر عن «القانون العلمي»، ورسالة المرحوم عزمي إسلام عن «جون لوك»، ورسالة د. أحمد فؤاد كامل عن «ليبنتز» ... إلخ.
الوضعية المنطقية ... في خدمة التنوير ...!
وسقراط مصر - مثل سقراط أثينا - لم يكن يريد للناس أن تستخدم لفظا واحدا بغير تحديد، وتحليل، وتعريف، فكانت الدعوة إلى الدقة في تحديد الأفكار والمفاهيم وعدم الخلط بين المعاني. ومن أثقل الهموم التي حملها شيخ الفلاسفة طوال ما يزيد على ستين عاما، وهو يتشدد على الشروط المفروضة على المتحكم الجاد، إذا نطق بعبارة أراد بها انتقال فكرة من رأسه إلى رءوس الآخرين («موقف من الميتافيزيقا»، مقدمة الطبعة الأولى).
وها هنا يكون عمل الفلاسفة أن تدنو بنا من تلك المفاهيم لنراها في تفصيلاتها ودقائقها: والعجيب أن يتهمك الناس نتيجة لهذا التحليل أو التحديد، بأنك تعقد البسيط، وتصعب السهل، حين جاءهم الفيلسوف بتحليل يفكك لهم أوصال المفاهيم التي يتداولونها، فثاروا في وجهه، وكأنهم كانوا يجدون النعمة في الفهم المبهم، ويخشون أن يفسد تحليل الفلاسفة عليهم ما كانوا به ينعمون! (هموم المثقفين، ص66)، منهج التحليل الذي أخذه من الوضعية المنطقية، والذي لاءم تفكيره ملاءمة جعلته يقول: «كأنما هو ثوب فصل على طبيعة تفكيري تفصيلا جعل الرداء على قد المرتدي، بل إني شعرت في اللحظة نفسها، بأنه إذا كانت الثقافة العربية بحاجة إلى ضوابط تصلح لها طريق السير، فتلك الضوابط تكمن ها هنا ...» (قصة عقل، ص92)، هذا هو المنهج الذي ارتضاه لنفسه، فكيف استخدم شيخ الفلاسفة هذا المنهج؟!
كانت طريقته في التحليل أن يمسك بعدسة مكبرة تكشف للقارئ عناصر الفكر التي هي مدار الحديث، فذلك وحده كفيل بأن يزيل ضباب الغموض الذي يكتنف المفاهيم المحورية التي تدور حولها ثقافتنا (قصة عقل، ص133)؛ فالتوضيح معناه تحليل المفهوم الغامض لاستخراج العناصر الداخلة في تكوينه لكي نفهمه، تماما مثل أي عملية كيميائية؛ فلكي تفهم الماء أو الهواء، أو قطعة الفحم، أو ما شئت، فهما علميا، عليك بتحليلها، في المعامل، وكذلك التحليل العقلي للأفكار الغامضة، عليك أن تحللها تحليلا عقليا لكي تكشف عناصرها ومكوناتها التي دخلت في تكوينها.
ولما كان سقراط مصر - مثل سقراط أثينا - صاحب رأي مستقل، فقد راح يبدي وجهة نظره، ويوجه سهام النقد، أثناء عملية التحليل، لكثير من أوضاع مجتمعه، دون أن يلتزم بأفكار حزب معين، أو بموقف أيديولوجي خاص. ولقد أمده هذا الموقف المستقل بحرية الحركة في نقد وتحليل أي مفهوم، يظهر على مسرح حياتنا الثقافية أو السياسية، دون أن يجد في هذا التحليل حرجا ولا غضاضة! فأنت تراه قابعا ممسكا بالقلم، يتلقف كل ما يظهر من أفكار ومفاهيم ليبدأ عمله، لا يهمه بعد ذلك المصدر الذي أطلق الفكرة: رئيس الجمهورية أو جمهور الناس في الشارع.
التطرف والإرهاب
ويضع شيخ الفلاسفة «التطرف الديني» تحت المجهر، لينتهي من تحليله إلى أن هناك أربع خصائص للمتطرف في مجال الدين أو في أي مجال غير الدين، هي:
سمة أولى للمتطرف، وهي سمات تؤخذ عليه، أن يقوم بإرهاب الآخرين، لإرغامهم على قبول ما يدعو إليه هو وزمرته، وفي ذلك الإرهاب يسكن جوهر التطرف ... فليست المسألة أن يختار لنفسه وجهة نظر، يرى الأفكار والمواقف من خلالها، وإنما المسألة أنه يريد أن يرغم الآخرين بالقوة على الأخذ بها، فقد كانت وجهة نظر «الخوارج» مثلا خالية مما يؤخذ عليهم، ومع ذلك فقد نفرت منهم الأمة الإسلامية، لماذا؟ كانت العلة في تطرفهم هي اللجوء إلى القسوة العنيفة، إرهابا لكل من وقعت عليه أيديهم، حتى يوافق على وجهة نظرهم، وإذا لم يفعل قتلوه بأفظع صور القتل وأبشعها؛ مع أنهم كانوا لا ينقطعون عن عبادة الله لحظة واحدة! إذا كان اتخاذ الإرهاب وسيلة لإرغام الخصوم هو العلامة الحاسمة التي تميز المتطرف عمن سواه، كان محالا أن يلجأ إليها إنسان قوي واثق بنفسه وعقيدته، وإنما يلجأ إليه من به ضعف في أي صورة من صوره، لماذا؟ لأن الإنسان إذا أحس في نفسه ضعفا تملكه الخوف من أن يطغى عليه أصحاب المواقف الأخرى، وكأي خائف آخر ترى المتطرف هلعا جزوعا، يسرع إلى أقرب أداة للفتك بخصمه إذا استطاع، قبل أن تسنح الفرصة أمام ذلك الخصم!
لا يتطرف بالمعنى السابق إلا من حمل على كتفيه رأسا فارغا وخاويا، اللهم إلا أضغاثا دفع بها إلى ذلك الرأس عن فهم أو غير فهم. وذلك لسببين؛ الأول: أن تكون الأفكار التي شحن بها رأسه غير علمية؛ لأن الفكرة العلمية مقطوع بصوابها، والثاني: أن ما يمتلئ به رأس المتطرف، ما دام لا يمت إلى العلم بصلة، لا بد أن يكون فيه الخصائص المضادة للعلم، ومنها حرارة الانفعال، وغموض المعنى، واحتمال أن تتعدد فيه وجهات النظر.
السمة الأخيرة، أن التطرف، في الواقع، حالة من حالات التكوين النفسي، ولا نقول إنه وجهة نظر إلا من باب التساهل، وإنما هو في حقيقته الدفينة حالة نفسية، تجعل صاحبها على استعداد لأن يتطرف وكفى! فليس المهم هو الموضوع الذي يتطرف فيه، بل المهم في تكوينه هو أن يتطرف للتطرف في حد ذاته؛ ومن هنا رأينا أمثلة كثيرة لمتطرفين يقفزون بين يوم وليلة، من تطرف في فكرة إلى تطرف في الفكرة التي تناقضها، فتراه اليوم متطرفا في رؤية إسلامية معينة، ثم تراه غدا في رؤية شيوعية، أو العكس؛ مع أن الإسلام والشيوعية ضدان لا يلتقيان! (انظر في ذلك كله مقاله الرائع «متطرف تحت المجهر» في كتابه «رؤية إسلامية»، ص257، ص268.)
تشجع ... وفكر!
وسقراط مصر - مثل سقراط أثينا - كان فليسوفا تنويريا، يدعو إلى رفع «الوصاية» عن الإنسان، المصري أولا والعربي ثانيا؛ لأنه بلغ سن الرشد، ولم يعد قاصرا بحيث يحتاج إلى غيره ليفكر نيابة عنه؛ ولهذا كان شعاره «لتكن لديك الشجاعة لتستخدم عقلك»، تشجع، وفكر ... تشجع واعرف بنفسك ولنفسك، وأعمل العقل في كل مناحي الحياة، وفي أي موضوع يطرح عليك، ولا تركن إلى الكسل والجبن الشائعين عند بعض الناس الذين يعتقدون أن في القصور راحة، وأن التفكير العقلي المستقل أمر خطير جدا، ولا تقل لنفسك إنني لست بحاجة إلى التفكير، إذا كان هناك من يقوم عني بهذه المهمة الثقيلة! فالتفكير هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان، والله العليم بكل شيء، هو الذي وهب الإنسان العقل ليستخدمه استخداما جيدا ليكون خليفة له على الأرض! وشيخ الفلاسفة يجعل هذه الفكرة جوهر دعوته في كل ما كتب: «الخط الفكري الذي تنطوي عليه كتاباتي، على اختلاف موضوعاتها، وعلى طول الأمد الذي امتدت خلاله هو الإيمان بأن الفرد الإنساني مسئول عما يفعل، وأن هذه المسئولية لا تعني شيئا إذا لم يكن العقل وحده هو مدار «الحكم» في كل المسائل التي تطلب فيها التفرقة بين الصواب والخطأ. أما الموقف الذي تسوده عاطفة فلا خطأ فيه ولا صواب؛ لأن المرجع فيه إلى القلب وما ينبض به» ... (مجتمع جديد أو الكارثة، ص5)، وها هنا نراه يلتقي مع المضمون المحوري للفكر التنويري، لكنه يضيف إضافة جديدة وهي التفرقة الواضحة بين المجال الذي يستخدم فيه الوجدان والخيال، «فإذا كان المجال مجال علم فلا يجوز للشعور أن يتسلل إلى سياق الحديث بألفاظه الدالة على الوجدان، أما إذا كان المجال مجال أدب وفن، فليتخذ ما يشاء من لفظ؛ ليثير في مسامعه المشاعر التي يقصد إلى إثارتها فيه ... فلنعط ما للعقل للعقل، وما للشعور للشعور» ... (قصة نفس، ص182).
لقد كان الفيلسوف الألماني هيجل يقول: «إن العبقري هو ما يدرك متطلبات العصر ويلبيها» ... ولقد أدرك فيلسوفنا أن مطلبنا الأساسي هو استخدام العقل، بعد أن غرقنا في «التفسيرات اللاعقلية» حتى الأذنين! ومن هنا كان حرصه على استخدام العقل والاحتكام إليه في جميع مناحي الحياة، باستثناء الأمور الوجدانية، والاستخدام الجيد للعقل يؤدي إلى نتيجتين مهمتين: الأولى الاهتمام بالعلم الطبيعي، والاعتماد عليه وحده في تفسير ظواهر الطبيعة؛ وبالتالي محاربة الخرافة في شتى صورها (لأن الخرافة باختصار شديد هي تفسير أي ظاهرة من ظواهر الطبيعة خارج نطاق العلم)، غير أن الاهتمام بالعلم لا يعني «حفظ» مجموعة من القوانين العلمية، نفسر بها ظواهر الطبيعة، وإنما يعني «تشرب» الأسلوب العلمي في التفكير، وأن يكون لدينا منهج ذلك العلم لنستخدمه أولا في المشاركة الإيجابية في المكتشفات العلمية، وثانيا ليحمل ذلك المنهج العلمي في صدورنا ميزانا نزن به الأفكار العلمية، كلما نشأت عند الناس فكرة يقابلون بها مشكلة عرضت لهم في حياتهم» (عربي بين ثقافتين، ص107)، وهو يشعر بقلق بالغ من موقف الإنسان العربي نحو «العلم» حدوده وقدراته، ونحو العقل وعجزه ... إلخ، وهو يرى أن الخطير في الأمر أن العربي كثيرا ما يسخر من منجزات العلم الحديث، وأنه بذلك يهزأ بالعقل الإنساني وقدراته، على ظن منه أن مثل هذه الوقفة ترضي ضميره الديني، وأنها وقفة تتضمن أن اعتزاز الإنسان بعقله، واعتداده بقدرته العلمية، كما تشهد بها منجزاته الحديثة، فيه جرأة على رب العالمين، الذي هو العليم القدير؛ مع أن أحدا على مدار الكوكب الأرضي لم يدر في خياله أنه خالق عقل نفسه، أو أنه صاحب الفضل في كل ما ينتج من علم ومنشآت (المرجع نفسه). ومن المفارقات الغريبة أن العربي الذي يرفض «المنهج العلمي» هو من أكثر أهل الأرض شراء لتلك المنجزات الحديثة التي يأتي بها العلم (المرجع السابق).
إن ما ينقصنا هو «منهج العلم» والفرق واسع بين مجموعة الحقائق العلمية التي ننقلها عن الغرب، ونحفظها عن ظهر قلب في مدارسنا وفي جامعاتنا، وبين «المنهج العلمي» الذي استطاع الإنسان بواسطته أن يصل إلى ما قد وصل إليه من حقائق، وها هنا يكمن الداء الذي تولدت لنا منه ضروب من الأورام الخبيثة في حياتنا العقلية، أو قل في حياتنا اللاعقلية، فكان لنا ما كان من بطء شديد في حركة التقدم مع حضارة عصرنا في ركضها السريع (أفكار ومواقف، ص208، 209). وهو في مقال آخر يجعل هذه المشكلة «موطن الداء» في حياتنا العقلية، فمن اليسير أن نلقن الدارسين «مقررا» بعينه وضعت مادته في كتاب، ويطلب من الدارس حفظها عن ظهر قلب ، ويعيدها في هذا الهيكل العظمي على ورقة الامتحان، فيخرج الدارس وفي جعبته معلومات، و«نقط» مبعثرة، وليس في عقله «منهج» للنظرة العلمية أيا كان الموضوع الذي ينظر إليه ابتغاء تعليله ووضعه في سياق ليفهم (بذور وجذور ص69).
أما النتيجة الثانية المترتبة على استخدام العقل استخداما جيدا فهي نتيجة واجتماعية كثيرة، وأن يكون من بين هذه النتائج مناهضة الحكم المستبد (انظر «كيف يولد طاغية»، أفكار ومواقف، ص164 وما بعدها)، ومحاربة الظلم الاجتماعي في شتى صوره لتحقيق العدالة بين الناس، والدعوة إلى المساواة، والديمقراطية، والحرية السياسية لا سيما حرية التفكير والتعبير.
الثورة الحقيقية
فإذا جمعنا بين هاتين النتيجتين المترتبتين على الاستخدام الجيد للعقل، تحققت لدينا ثورة حقيقية: «لأن الثورة الحقيقية هي ثورة فكرية»، وهي تعني أن نقوم بتغيير «أنوال» التفكير القديم التي ظلت باقية معنا على عهدها القديم؛ ولذلك بقيت طبيعة الفكر على حالها، الذي أزعمه أن منوالنا الفكري لم يتغير، وأن النمط الذي نسوق نشاطنا الفكري في إطاره، ما زال كما كان منذ قرون. وهذا المنوال قوامه عناصر كثيرة لعل أهمها الركون إلى «سلطة» فكرية نستمد منها الأسانيد، ومثل هذه السلطة تتمثل عادة في نصوص بعينها محفوظة في الكتب، كما تتمثل كذلك في أقوال يتبادلها الناس، وهي التي تسمى العرف أو التقاليد، وبناء على هذا الموقف نكون الفكرة صوابا إذا استقت مع ما أقرته السلطة الفكرية في الكتب المحفوظة أو الأقوال المأثورة، كما تكون الفكرة خطأ إذا جاءت مخالفة لما أقرته تلك السلطة؛ ومن هنا اشتد سلطان الماضي على الحاضر، وأصبح البرهان الذي لا يرد هو أن نسوق «الشواهد» من سجل القديم، وانحصرت قوة الإبداع الفكري في القدرة على إيجاد السند من القول المأثور، ولن تكون لنا ثورة فكرية إلا إذا أحللنا نمطا جديدا محل هذا النمط القديم، فيكون معيارنا هو: ما هي النتائج العلمية المستقبلية التي تترتب في حياتنا العلمية على هذه الفكرة، أو تلك مما يقدمه لنا رجال الفكر؟ (مجتمع جديد أو الكارثة، ص15، 17).
الرائد ...!
كان زكي نجيب محمود رائدا في مجالات كثيرة منها:
أنه أول من طحن «جلاميد» الفلسفة، وما فيها من أفكار عسرة الهضم، وقدمها للقارئ سهلة واضحة في عبارة أدبية مشرقة، فيستحيل أن تجد في كل ما كتب فكرة واحدة يصعب عليك فهمها لغموضها أو لعبارتها الملتوية. وإذا كان بعض المشتغلين بالفلسفة قد دافع عن «الغموض»، بحجة أن هذه هي طبيعة الفلسفة، فإنه فند هذه الحجة، عمليا، ورفضها في كل ما كتب!
وداعا شيخ الفلاسفة: وداعا يا أعز الناس! يا من كنت لي أبا قبل أن تكون أستاذا ...!
Unknown page