Al-Rawḍ al-Zāhir fī sīrat al-malik al-Ẓāhir
الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر
Genres
أين توجهه، وسار إلى أرسوف، فنزل بها مستهل جمادى الآخرة وأمر بنقل الأحطاب، فصارت حولها كالجبال الشاهقة، والتلال السامقة، وما إذا ظل الأعداء لها يشاهدون، قالت لهم الأقدار : وحصب جهنم أنتم لها واردون. فعملت منها الستائر، وأمر بحفر سرابين من خندق المدينة إلى خندق القلعة، وسقفت [ كذا بالأخشاب. ولما فرغ من السرابين سلم أحدهما للأمير شمس الدين سنقر الرومي، وللأمير بدر الدين بيسري، والأمير بدر الدين الخزندار الظاهري، والأمير شمس الدين الدكز الكركي، وجماعة الأمراء السنجقية وغيرهم ؛ وسلم السرب الآخر للأمير سيف الدين قلاون الألفي، والأمير علم الدين الحلبي الكبير، والأمير سيف الدين کر مون، وجماعة من الأمراء. وعمل طريق من الخنادق إلى القلعة، فخرج الفرنج لإحراق الأحطاب، فطلبهم الأمير سيف الدين قلاون وغيره، وقلب عليها المياه بنفسه، وبجماعة الأمراء، وطفيت تلك النار. ولما تكامل ودم الأحطاب بالخندق تحيل الفرنج بأن نقبوا من داخل القلعة إلى أن وصلوا إلى تحت الردم، فخرقوا الأرض إلى الأحطاب، وعملوا بتاني ملانة أدهانا وشحومة وأوقدوا النيران، وعملوا في النقوب المنافخ، ولم يعلم العسكر بهذه الحيلة إلا بعد تمكن النيران، وكان ذلك في الليل، فحفر السلطان بنفسه في الليل، ورمي الناس تقوسهم في النار لإطفائها، وسكبت المياه بالر وايا فما أفادت شيئا، واشتعل جميع ما بالخندق من الأحطاب، وصارت هباء منشورة، وتمت الحيلة لافرنج ؛ ولكن أحدث الله بعد هذا اللندر أمورة، وهو بأن السلطان تقدم إلى الأمير شمس الدين سنقر الرومي ومن معه، وهم نصف أمراء السنجقية، وميمنة الأمراء البحرية، وميمنة الحلقة، وميمنة الأمراء الحاضرين، غير من هو مجرد في البيرة وغيرها بأنه يأخذ هو والجماعة المذكورون من مكانه في باب السرب من حافات الخندق، من جهة سوره حفرة إلى البحر المالح. وتقدم إلى الأمير سيف الدين قلاون الألفي) بأن يأخذ هو ونصف السنجقية من جهة الميسرة، وميسرة الحلقة، وميسرة البحرية بأنهم يحفرون إلى آخر الخندق من الجهة الأخرى، وأن يحفروا من كل ناحية من هذه النواحي سربما يكون حائط خندق العدو ساترة له، ويحفر في هذا الحائط أبواب، ويرمي التراب منها، وينزل في هذا السرب حتى يساوي أرضها بأرض الخندق. وطلب عز الدين أيبك الفخري، أحد أصحاب الأتابك، وأحضر المهندسين وعذق هذا الأمر به.
فاستمر العمل في هذه الخنادق، والسلطان طائف بنفسه، وملازم الخندق يعمل فيه بيده، ويساوي الناس في جر المنجنیقات، ورمي التراب، ونقل الحجارة ؛ قال القاضي محيي الدين مؤلف السيرة : « فتعست أم الجبان، ولقد رأيت السلطان يبذل من نفسه كل مصون، ويهون منها ما لا يهون ؛ وهو بمفرده ماش في يده ترس، وهو تارة في السرب، وتارة في الأبواب التي تفتح، وتارة على حافة البحر رامي مراكب الفرنج، ويجر في المجانيق، ويطلع فوق، الستائر، يرمي من فوقها ويرى كل أحد حقه من المباشرة، والأمر بالجهاد، وشكر من يجب شكره والخلع على كل من يفعل فعلا حسنة من سائر الناس ؛ ومع هذا رحم الله الأمة بسلامته، ومن عليهم بوقايته.
قال مؤلف السيرة القاضي محيي الدين : «حكي لي الأمير جمال الدين بن نهار قال : رأيت السلطان في هذا النهار رمی ثلاثمئة سهم نشابة ». وقد قال، صلى الله عليه وسلم : «ألا إن القوة الرمي ». وقال - صلى الله عليه وسلم ! - « من رمى بسهم في سبيل الله كان كعتق رقبة ». وقال - صلى الله عليه وسلم ! - « إذا أكثبوکم فارموهم بالنبل، ولا تستوا السيوف حتى يغشوكم ».
Page 237