(6) فصل في أن كل صناعة تحتاج إلى الفكر والتعقل
واعلم يا أخي أنا إنما ذكرنا هذه الصنائع والمهن ونسبنا هذه الرسالة إلى رسائل العقل والمعقول؛ لأن هذه الصنائع يعملها الإنسان بعقله وتمييزه ورويته وفكرته التي كلها قوى روحانية عقلية، وأيضا إن كل عاقل إذا فكر في هذه الصنائع والأفعال التي تظهر على أيدي البشر، فيعلم أن مع هذا الجسد جوهرا آخر هو مظهر هذه الأفعال المحكمة، وهذه الصنائع المتقنة من هذا الجسد؛ لأن الجسد قد يوجد بعد الممات برمته تاما لم ينقص منه شيء، وقد فقدت منه هذه كلها، فيعلم أن معه جوهرا آخر فارقه، فمن أجل ذلك فقدت هذه الفضائل كلها؛ لأنه هو الذي يحرك هذا الجسد وينقله من موضع إلى موضع في الجهات الست.
وكان يحرك أيضا بتوسطه أشياء خارجة من ذاته، وكان أيضا يحمل معه حملا على ظهره وكتفه، فلما فارقه احتاج هذا الجسد إلى أربعة نفر يحملونه على لوح مطروحا عليه لا يطيق قياما ولا قعودا ولا حركة ولا يحس بوجوده ولا ما يفعل به من غسل ودفن.
وقد زعم كثير من أهل العلم ممن ليست له خبرة بأمر النفس ولا معرفة بجوهرها؛ أن هذه الصنائع المحكمة والأفعال المتقنة التي تظهر على أيدي البشر الفاعل لها هو هذا الجسد المؤلف من اللحم والدم والشحم والعظام والعصب بأعراض تحله مثل الحياة والقدرة والعلم وما شاكلها، ولم يعرفوا أن هذه الأعراض ليس حلولها في الجسم، وإنما هي أعراض نفسانية تحل جوهر النفس، وذلك أن الإنسان لما كان مجموعا من جسم ميت ونفس حية، وجدت هذه الأعراض في حال حياته وفقدت في حال مماته وليست الحياة شيئا سوى استعمال النفس الجسد، ولا الممات شيئا سوى تركها استعماله، كما أنه ليست اليقظة سوى استعمالها الحواس الخمس ولا النوم شيئا سوى تركها استعمالها.
(7) فصل في شرف الصنائع
اعلم يا أخي بأن الصنائع يتفاضل بعضها على بعض من عدة وجوه؛ إحداها من جهة الهيولى التي هي الموضوع فيها، ومنها من جهة مصنوعاتها، ومنها من جهة الحاجة الضرورية الداعية إلى اتخاذها، ومنها من جهة منفعة العموم، ومنها من جهة الصناعة نفسها. فأما التي شرفها من جهة الحاجة الضرورية إليها فهي ثلاثة أجناس، وهي: الحياكة والحراثة والبناء كما ذكرنا قبل. وأما التي شرفها من جهة الهيولى الموضوع فيها فمثل صناعة الصاغة والعطارين وما شاكلها. وأما التي من جهة مصنوعاتها فمثل صناعة الذين يعملون آلات الرصد، مثل الأسطرلاب وذوات الحلق والأكر الممثلة بصورة الأفلاك وما شاكلها؛ فإن قطعة من الصفر قيمتها خمسة دراهم إذا عمل منها أسطرلاب يساوي مائة درهم، فإن تلك القيمة ليست للهيولى، ولكن لتلك الصورة التي جعلت فيها.
وأما الذهب والفضة اللذان هما الهيولى الموضوع في صناعة الصواغين أو الضرابين إذا ضرب منهما دراهم ودنانير أو صياغة ما، فليس مبلغ تفاوت القيمة ما بين الموضوع والمصنوع مثل ما يبلغ في صناعة أسطرلاب وغيرها.
وأما التي شرفها من جهة النفع منها للعموم فهي مثل صناعة الحمامين والسمادين والكناسين وغيرهم ، وذلك أن الحمام المنفعة منه للصغير والكبير والشريف والوضيع والمدني والغريب والقريب والبعيد كلهم بالسوية لا يتفاضلون في الانتفاع به.
وأما أكثر الصنائع فأهلها متفاوتون في منافعها كاختلافهم في الملبوسات والمأكولات والمشروبات والمسكونات وأمثالها من الأمتعة المصنوعة، حال الغني فيها خلاف حال الفقير إلا الحمام المزين وأمثالهما، وأما صناعة السمادين والزبالين فإن الضرر في تركها عظيم عام على أهل المدينة؛ وذلك أن العطارين الذين الموضوع في صناعاتهم مضاد للموضوع في صناعة السمادين لو أنهم أغلقوا دكاكينهم وأسواقهم شهرا واحدا لم يلحق من ذلك من الضرر لأهل المدينة مثل ما يلحق من الضرر من ترك السمادين صناعاتهم أسبوعا واحدا؛ فإن المدينة تمتلئ من السماد والسرقين والجيف والقاذورات وما يتنغص عيش أهلها من أجله.
وأما التي شرفها من الصناعة نفسها فهي مثل صناعة المشعبذين والمصورين والموسيقيين وأمثالهم، وذلك أن الشعبذة ليست شيئا سوى سرعة الحركة وإخفاء الأسباب التي يعملها الصانع فيها حتى إنه مع ضحك السفهاء منها يتعجب العقلاء أيضا من حذق صانعها. وأما صناعة المصورين فليست شيئا سوى محاكاتهم صور الموجودات المصنوعات الطبيعية أو البشرية أو النفسانية، حتى إنه يبلغ من حذقهم فيها أن تصرف أبصار الناظرين إليها عن النظر إلى الموجودات أنفسها بالتعجب من حسنها ورونق منظرها، ويبلغ أيضا التفاوت بين صناعها تفاوتا بعيدا، فإنه يحكى أن رجلا في بعض المواضع عمل صورا وتماثيل مصورة بأصباغ صافية وألوان حسنة براقة، وكان الناظرون إليها يتعجبون من حسنها ورونقها، ولكن كان في الصنعة نقص حتى مر بها صانع فاره حاذق، فتأملها فاستزرى بها وأخذ فحمة من الطريق ومثل بجانب تلك التصاوير صورة رجل زنجي كأنه يشير بيديه إلى الناظرين، فانصرفت أبصار الناظرين بعد ذلك عن النظر إلى تلك التصاوير والأصباغ بالنظر إليه والتعجب من عجيب صنعته وحسن إشارته وهيئة حركته.
Unknown page