113

Rasāʾil Ikhwān al-Ṣafāʾ wa-Khillān al-Wafāʾ

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

Genres

ثم تفكرت وعرفت وتبين لي أني إذا قبلت وصية ربي ونصيحة نبيي واقتديت بهما، واستعنت بربي وشمرت واجتهدت وخالفت هوى نفسي الشهوانية وعاديت نفسي الغضبية وحاربت أعدائي المخالفين لنفسي الناطقة؛ فإني أظفر بهم وأغلبهم بقوة ربي وأملكهم بإذنه وأستعبدهم بحوله وقوته، وأكون ملكا عليهم وسلطانا، ويصيرون كلهم عبيدا لي وخدما وخولا، فأصرفهم تحت أمر نفسي الناطقة ونهيها، وتكون هي عند ذلك ملكا من الملائكة بإظهار أفعالها الحسنة وأعمالها الزكية وأخلاقها الجميلة وآرائها الصحيحة ومعارفها الحقيقية ، وتكون هاتان النفسان الباقيتان؛ أعني: الشهوانية والغضبية، عبدين مقهورين لها وتحت أمرها ونهيها، ويكون جميع أخلاقهما وسجاياهما كالجنود والأعوان والخدم والعبيد للنفس الناطقة، مسوسين بسياسة عادلة، جارية على هذا السداد، كما رسم في الشريعة الوضية أو في الموجبات العقلية، فأكون عند ذلك قد فعلت ما وصاني به ربي بقولي وفعلي بقوله: @QUR05 وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الآية، وقال لنبيه - عليه السلام: @QUR06 قل هذه سبيلي أدعو إلى الله الآية.

فلما تبين لي ما ذكرت وعرفت حقيقة ما وصفت؛ نظرت عند ذلك في أحوالي، وتفكرت في تصاريف أموري؛ فوجدت بنية هيكلي مركبة من أخلاط ممتزجة، متضادة القوى، مركوزة فيها شهوات مختلفة، فتأملتها فإذا هي كأنها نيران كامنة في أحجار كبريتية، ووجدت وقودها هي المشتهيات من ملاذ الدنيا ونعيمها، ووجدت اشتعال تلك النيران عند الوقود كأنها حريق لا يطفأ، ولهب لا يخمد، أو كأمواج بحر متلاطمة، أو رياح عاصفة تدمر كل شيء، أو كعساكر أعداء حملت في غارة؛ وذلك أني وجدت حرارة شهوات المأكولات والمشروبات في نفسي عند هيجان نار الجوع والظمأ كأنها لهب النيران التي لا تطفأ.

ووجدت نفسي الشهوانية عند الأكل والشرب من الشره؛ كأنها كلاب وقعت على جيف تنهش، ووجدت حرارة الحرص في نفسي عند هيجان نار الطمع كأنها حريق تلهب الدنيا كلها، ووجدت نفسي عند ذلك كأنها وعاء لا يمتلئ من جميع ما في الدنيا من المتاع، ووجدت حرارة الغضب في نفسي الحيوانية عند هيجان نار الحركة كأنها حريق ترمي بشرر كالقصر، ورأيتها عند هيجان حرارة نار الافتخار والمباهاة كأنها خير خليقة الله وأشرفهم، ورأيتها عند هيجان نار حرارة شهوة الرياسة وتملكها لها كأن الناس كلهم عبيد لها وخول، ورأيتها عند هيجان حرارة نار شهوة الكرامة وطلبها لها كأنها دين لازم حال.

ورأيتها عند هيجان نار طلب خدمة خولها كأنها ترى الطاعة لها حتما فريضة كالطاعة لله، وكالحتم والفريضة، ورأيتها عند قضاء ما يجب عليها من حق من حقوق غيرها متوانية في تأديته كأنها ناقلة أجبال، وكأنها عليها أحمال ثقيلة، ورأيت حركتها عند اللهو واللعب كأنها مجنونة والهة سكرانة، ورأيتها عند محبة المدح والثناء عليها كأنها أعقل الناس وأفضلهم وأجلهم، ورأيتها عند هيجان نار الحسد كأنها عدو يريد خراب الدنيا وزوال النعم عن أهلها وحلول النقم بهم، وعلى هذا المثال وجدت ورأيت سائر أخلاقها الرديئة وخصالها المذمومة وأعمالها السيئة وأفعالها القبيحة وآرائها الفاسدة، فعلمت عند ذلك أن هذه كلها نيران لا تخمد، وحريق لا يطفأ، وأعداء لا يتصالحون، وحرب لا تهدأ، وقتال لا يسكن، وداء لا يبرأ، ومرض لا يشفى، وعناء طويل، وشغل لا يفرغ منه إلى الموت.

فشمرت عند ذلك بالعزم الصحيح والنية الصادقة، وشددت وسطي بإزار الحزم، وأخذت سلاح الاجتهاد، وارتديت براءة الورع، ولبست قميص الحياء وتسربلت سربال الجد، ووضعت على رأسي تاج الزهد في الدنيا، وأثبت قدمي على التقوى، وأسندت ظهري إلى الله بالتوكل عليه، وجعلت شعاري الخوف منه والرجاء، وزممت قوى نفسي بالنهي، وفتحت عيني بالنظر إلى إشارة المعلم، وجعلت دليلي حسن الظن بربي، وسلكت منهاج السنة، وقصدت الصراط المستقيم للقاء ربي، وناديته نداء الغريق، ودعوته دعوة المضطر، وأقررت بالعجز والتقصير، وطرحت نفسي بين يديه بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وتضرعت إليه مثل الصبي إلى والده الشفيق الرفيق، فلما رآني ربي على تلك الحال سمع ندائي، وأجاب دعائي، ورحم ضعفي، وأعطاني سؤلي، وأمدني بجنوده، ودلني على مكايد أعدائي، فغزوتهم مع ملائكته، وأظفرني بهم، وأعانني عليهم، وحرسني من غرورهم، وأحرزني من خطواتهم، وسلمت من خطر كيدهم، وفزت بالغنيمة سالما غانما، @QUR016 ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وجند الله كانوا هم الغالبين، وحزب الشيطان كانوا هم الخاسرين، وكل هذا @QUR018 من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم.

(17) فصل في حكاية أخرى

عن ولي من أولياء الله تعالى لما تفكر في معنى التكليف والبلوى، ولم يتجه له وجه الحكمة فيهما، قال في مناجاته : رب خلقتني ولم تستأمرني، وتوفيتني ولم تستشرني، وأمرتني ونهيتني ولم تخيرني، وسلطت علي هوى مؤذيا وشيطانا مغويا، وركبت في نفسي شهوات مركوزة، وجعلت في عيني دنيا مزينة، وخوفتني وزجرتني بوعيد وتهديد، وقلت لي: فاستقم كما أمرت، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيلي، واحذر الشيطان لا يغوينك، والدنيا لا تغرنك، وتجنب شهواتك لا تردك، وأمانيك وآمالك أن تلهيك، وأوصيك بأبناء جنسك فدارهم، ومعيشة الدنيا فاطلبها من وجه الحلال.

وأما الآخرة فلا تنسها، ولا تعرض عنها فتخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، فقد حصلت يا رب بين أمور متضادة، وقوى متجاذبة، وأحوال متغالبة، فلا أدري كيف أعمل، ولا أي شيء أصنع، وقد تحيرت في أموري، وضلت عني حيلتي، فأدركني يا رب وخذ بيدي، ودلني على سبيل نجاتي وإلا هلكت.

فأوحى الله سبحانه إليه وألقى في سره وألهمه وقال: يا عبدي ما أمرتك بشيء تعاونني فيه، ولا نهيتك عن شيء كان يضرني إن فعلته، بل إنما أمرتك لتعلم بأن لك ربا وإلها هو خالقك ومصورك ورازقك ومنشيك وحافظك وهاديك وناصرك ومعينك، ولتعلم بأنك محتاج في جميع ما أمرتك به إلى معاونتي وتوفيقي وهدايتي وتيسيري وعنايتي، ولتعلم أيضا بأنك محتاج في جميع ما نهيتك عنه إلى عصمتي وحفظي ورعايتي، وإنك محتاج في جميع متصرفاتك وأحوالك في جميع أوقاتك من أمر دنياك وآخرتك ليلا ونهارا إلى تأييدي لك، وأنه لا يخفى علي من أمرك صغيرة ولا كبيرة سرا وعلانية، وليتبين لك وتعرف أنك محتاج ومفتقر إلي وأنك لا بد لك مني، فعند ذلك لا تعرض عني ولا تنساني، بل تكون في دائم الأوقات في ذكري، وفي جميع أحوالك تدعوني، وفي جميع حوائجك تسألني، وفي جميع متصرفاتك تخاطبني، وفي جميع خلواتك تناجيني وتشاهدني وتراقبني، وتكون منقطعا إلي عن جميع خلقي ومتصلا بي دونهم، وتعلم أني معك حيث ما تكون أراك ولا تراني، فإذا عرفت هذه كلها وتيقنت وبان لك حقيقة ما قلت وصحة ما وصفت، تركت كل شيء وراءك وأقبلت علي وحدك، فعند ذلك أقربك مني وأوصلك إلي وأرفعك عندي وتكون من أوليائي وأصفيائي وأهل جنتي في جواري مع ملائكتي مكرما مفضلا فرحا مسرورا منعما ملتذا آمنا أبدا دائما سرمدا.

فلا تظن بي يا عبدي الظن السوء، ولا تتوهم علي غير الحق، واذكر سالف إنعامي عليك وقديم إحساني إليك وجميل آلائي لديك؛ إذ خلقتك ولم تكن شيئا مذكورا خلقا سويا، وجعلت لك سمعا لطيفا وبصرا حادا وحواس دراكة وقلبا ذكيا وفهما ثاقبا وذهنا صافيا وفكرا لطيفا ولسانا فصيحا وعقلا رصينا وبنية تامة وجنانا ثابتا وصورة حسنة وأعضاء صحيحة وأدوات كاملة وجوارح طائعة.

Unknown page