وهكذا فعل فرح، نزح إلى مصر وأنشأ الجامعة، كانت في عامها الأول عثمانية تدعو الشرق إلى الالتفاف حول عرش الأستانة وتكرهه بأوروبا، فكان فيها فرح شرقيا يحب الكثير من عقائد الغرب الاجتماعية، كان كالبستاني الخبير يؤصل ويطعم، أذاع مبادئ جول سيمون، بل أعلن في مقدمة مجلته أنها لسان حال هذا الفيلسوف، ورأى معه أن تربية المرأة والنشء تمنع كل فساد، فانصرف إلى بحث التربية فرآها في ثلاثة أقانيم: بدنية، وعقلية، وروحية، وحيث لا تتجمع ثلاثتها يظل الإنسان ناقصا.
ونظر فرح إلى التعليم فرأى المدارس كافية، فكان أول الداعين إلى إصلاح تربيتها وتعليمها، لا إلى زيادة عددها، والإكثار منها. وأنشأ في السنة الأولى بابين يدلان على ذوقه السليم؛ الأول: غذاء المعد القوية، وفيه نشر حكم مفكري الشرق والغرب (وخصوصا لابروير)، والثاني: غذاء المعد الضعيفة، وهو للفكاهات والنوادر.
وما أطلت الجامعة حتى قالت فيها مجلة الهلال: «إن الجامعة جاءت الشرق في إبان حاجته إليها.» ورأى فرح في القصة معلما ومهذبا للناس، فدعا إلى إنشائها، وألف قصة «الحب حتى الموت»، أقامها دليلا على أمانة المرأة المحصنة، وعرب رواية البرج الهائل، لتكون برهانا على خيانة الفاجرة وقتلها النفوس إشباعا لشهوتها.
ففرح أنطون أديب اجتماعي قبل كل شيء، وفي كل شيء؛ في مجلته، ومقالاته، وقصصه، ومسرحياته، وهو رسول الديمقراطية في الشرق العربي، نشر تراجم الرجال، شرقيين وغربيين، ليجعلها أمثولة للشرق الغافي، وكثيرا ما كان يذكر مزايا الحيوان ليبكت أخاه الإنسان، وإن ذكر خبرا علميا فليعجب بالعقل البشري ويتفاءل.
شكا في أول عدد من الجامعة قلة الإيمان بالله وضعف الثقة به، ولكنه نسي ذلك أخيرا حين اعتنق مبادئ نيتشه كما سيأتي، ولم يهمل فرح الشعر والشعراء، فهو أول من أطرى أحمد شوقي، لا لأنه شاعر الأمير، بل لأنه رأى أنه سيكون عظيما إذا كد واجتهد، ونشر كثيرا من سير الشعراء المتقدمين والمعاصرين حتى حشر الأمير عبد القادر الجزائري في هذا المضيق وأورد شيئا من نظمه.
فرح كاتب ثوري وعملي بروح رومنتيكية، فالتربية والمدرسة حديثه الدائم منذ مولد الجامعة حتى موتها، يشبهه من كتابنا اليوم الذين لهم عقيدة لا ينفكون عنها، الكاتبان الشهيران أمين الريحاني ويوسف يزبك، وكلاهما يتفقان معه في التأليف عن الثورة الفرنسية، الريحاني في نبذته، وهي أول آثاره الأدبية، ويزبك في «14 تموز»، كما لا يختلفان عنه في المثابرة على خطة لا يحيدان عنها.
كل ما خطه قلم فرح أنطون يتفق وروحه، بل قل لم يكتب كلمة تخالف عقيدته، وروحه الحية ظاهرة في جامعته، فكأنها كتاب خاص لا مجلة جامعة.
طبع على نصرة الضعفاء، فما نشبت حرب البوير حتى كتب تحت عنوان «الترانسفال ظالمة أم مظلومة»؛ سلسلة مقالات طار فيها على أجنحة الخيال، وعنف الإنكليز تعنيفا معقولا، وتكلم بلغة أشعيا وأرميا ينذر الدنيا بالويل. ثم رأى حاجة الشرق إلى معرفة سير أصحاب الأديان؛ فنشر المقالات الضافية عن بوذا وفلسفة الصينيين ... إلخ، فأثار الأذهان وفتح العيون.
وكان حرم السينودوس - المجمع المقدس - للفيلسوف تولستوي، فقام فرح يكتب عن هذا المعلم العظيم، نشر سيرة حياته، وحلل فلسفته ومحيطه، ولخص رواية «البعث» رأس كتبه، ثم أذاع ما دار حول «حرمه» من مناقشات، ورده على المجمع ودفاع زوجته عنه، وبعض رسائل تبادلها الفيلسوف ومعاصريه.
ففي الجامعة يتعرف القارئ رجال الفكر العظام، ولا أظلم صاحبي فرح أنطون إن قلت - معرفة وجه - أو كما يلم ناظر السينما بما يعرض عليه من مشاهد، لخص فرح كتبا كثيرة في فصول، وهو إن أساء إلى أصحابها والفن، فقد أحسن إلى الجمهور؛ إذ كان كمن يعطي المريض درهم كينا بدلا من حزمة قنطاريون.
Unknown page