ليس الكمال من هذا الوجود، وكفى الذكاء البشري أنه فاز بتصوره، فإذا ما طمع في الحصول عليه رمت به شهوته إلى الخبل والجنون.
افتح نافذة غرفتك، يا أوكتاف، وتطلع! أفما تشرف منها على مدى لا نهاية له، فتشعر أن لا حد لهذه الآفاق؟ ولكن هل لك بالرغم من تصديق عقلك لشعورك أن تتصور ماهية اللانهائية؟ أيمكنك أن تدرك ما لا يحد وأنت ولدت في الأمس وغدا ستموت؟
لقد جن الكثيرون في أنحاء العالم أمام هذا المدى الفسيح، وما نشأت الأديان إلا من الاستغراق في أسراره. ما قطع كاتون عنقه، وما استسلم المسيحيون للأسود، والبروتستانت للكاثوليك، إلا لإدراك المطلق المتعالي عن كل حصر وتحديد.
إن جميع شعوب الأرض يبسطون الأكف نحو هذا المدى الفسيح قاصدين الارتماء إليه، وفاقد الرشد يطمح إلى امتلاك السماء، أما العاقل فيكتفي بالإعجاب والخشوع، ويرتمي جاثيا على ركبتيه كابحا جماح شوقه.
إذا كان فسيح المدى يعجز إدراكنا، فكيف نتوسل به إلى نيل الكمال، وقد حتم علينا ألا نتجه إليه في أي شيء، وألا نتطلبه من أي شيء، لا في المحبة، ولا في الجمال، ولا في السعادة، ولا في الفضيلة، ولكننا مع ذلك ملزمون أن نتوق إليه لنبلغ في المحبة والجمال والسعادة ما يمكن لنا أن نناله.
افترض، يا أوكتاف، أن في غرفتك لوحة من ريشة رفائيل، لوحة تحسبها سالمة من كل عيب، فاقتربت منها يوما مدققا فيها، فوجدت في رسم أحد أشخاصها خطأ فاضحا كعضو مكسور، أو عضلة نافرة من مركزها الطبيعي - كما يقال عن إحدى العضلات في ساعد مصارع فيها - فإنك لتشعر بالكدر ولا ريب، ولكنك لا ترمي بلوحتك إلى لهيب الموقد من أجل هذا العيب، بل تكتفي بأن تقول: إنها غير كاملة، وإن في أقسامها الأخرى ما يثير الإعجاب.
إن في العالم نساء تردهن طبيعتهن وما في عواطفهن من الإخلاص عن اتخاذ عشيقين في زمن واحد. ولقد خيل إليك أن عشيقتك من هذه الفئة، ولقد كان خيرا لك لو أنها منها، ولكنك تحققت خيانتها، فهل في ذلك ما يدعوك إلى احتقارها، والإساءة إليها ، وإلى الاعتقاد بأنها تستحق حقدك ونقمتك؟
افترض، يا أوكتاف، أن عشيقتك لم تخدعك، وأنها لا تزال تحبك دون سواك، أفلا ترى حتى في هذه الحالة أن حبها بعيد جد البعد عن الكمال، وهو حب بشري حقير يتحكم فيه خبث هذا العالم وأضاليله؟ أفتنكر أن هذه المرأة قد استسلمت قبل ما نلتها أنت إلى رجل ورجال، وأن غيرك سينالها بعدك أيضا؟
ارجع إلى رشدك! إن ما يدفعك إلى اليأس الآن إنما هو اعتقادك بكمال كنت حليت به من تحب، فإذا هي ساقطة لا حلية لها.
ولكنك إذا ما رأيت اعتقادك على حقيقته، واتضح لك أنه توهم واغترار بشري، تدرك أن لا فرق بين السقوط دركة، وبين التدهور دركتين على شفير العيوب البشرية.
Unknown page