تمهيد
إهداء
الجزء الأول
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الجزء الثاني
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الجزء الثالث
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الجزء الرابع
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الجزء الخامس
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
تمهيد
إهداء
الجزء الأول
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الجزء الثاني
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الجزء الثالث
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الجزء الرابع
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الجزء الخامس
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
اعترافات فتى العصر
اعترافات فتى العصر
تأليف
ألفريد دي موسيه
ترجمة
فليكس فارس
ألفريد دي موسيه.
تمهيد
في سنة 1836، أي منذ قرن تقريبا، نشر ألفريد دي موسيه كتابه الخالد «اعترافات فتى العصر»؛ ليصف الأدواء التي استحكمت بأبناء جيله بعد أن اجتاحت أوروبا بأسرها أعاصير الحروب، فوقفت على أطلالها شبيبة تعثرت آمالها وتزعزع إيمانها.
ومنذ ثلاثين عاما، عندما وقفت الطليعة الأولى من فتيان القرن العشرين في الأقطار العربية تستشرف غدها حائرة بين تذكاراتها وآمالها، قرأت اعترافات موسيه، فرأيت «داء العصر» الذي يصفه فيها متجليا بأوائل أعراضه بين شبيبة موتورة عن ماضيها، حائرة في حاضرها، يستهويها الإلحاد في إيمانها والتسيب في عواطفها، فبادرت إلى ترجمة الفصول الأولى من هذه الاعترافات، وبدأت أنشرها في جريدتي لسان الاتحاد، وإذا بزعازع السياسة تهب دافعة الأقلام إلى معاركها، محولة لها عن الإصلاح الاجتماعي، إلى أن اجتاحت الدنيا كارثة الحرب العظمى تزيد داء العصر استفحالا في هذه البلاد ككل بلاد ضرب حولها نطاق النار والدم مكرهة أو مختارة، وما انقشع عثير الروع ملقيا بياضه على لمم الطليعة الأولى، حتى بدأ فتيان الكتيبة الثانية يقتحمون الحياة، وفي كل موطن من بلادهم رجة لم تستقم لهم معها طريق، وفي كل أفق من آفاقهم لمعات بروق، وحالكات غيوم.
إن شبيبتنا اليوم تعاني داء روع الغرب في أوائل القرن التاسع عشر، وهو لما يزل يقوض في أساس مجتمعاته، غير أنه استحال هنالك إلى علة مزمنة أدمنها الشعور، وما من علة أقتل للفرد وللمجتمع من علة لا تؤلم ضحاياها. ولقد يقرأ فتيان الغرب في هذه الأيام اعترافات موسيه، فيضحكهم جحوده المتألم وضلاله الباكي، ومن من أبناء الحضارة الناضجة يجيز للألم أن يلمس قناعة إلحاده وجامحات أهوائه؟
أما هنا فداء العصر لم يزل يراود تفكير الشبيبة وعواطفها مراودة لا تستسلم لها العقول والقلوب؛ فإن شمس هذه السماء لم تشرق يوما على جيل جحد ربه، وقتل صيانة حبه بالقضاء على غيرته المقدسة.
ويقيني أن كل فتى يقذف به تيار التقليد إلى هذه الحياة التي يصفها موسيه في اعترافاته، تجتاحه نوب من صراع الحقيقة مع الباطل في أعماق سريرته؛ لذلك أكملت نقل الاعترافات إلى العربية لأهديها إلى الشبيبة الحائرة المتألمة في أوطاني شهادة على المدنية الزائفة التي تراود حياتهم وتغالبها فطرتهم، شهادة حق يؤديها للتاريخ شاعر تسامى بإلهامه فوق إلحاد «فولتير»، ويأس «غوته»، وشكوك «بيرون».
ليقرأ فتيان عصرنا الحائرون هذه الاعترافات الخالدة التي كتبها موسيه بدماء قلبه عبرا، لا بد أن يجد فيها كل فتى صورة لحادث من حوادث حياته، إن لم يجد فيها صورا لمعظم حوادثها ...
ليقرءوا بإمعان نصائح «ديجنة»، فما هي إلا نبرات الوساوس الداوية في آذانهم من المشارب والمراقص والشواطئ والمواخير، وكل ظاهرة اجتماعية تدل على تفكك روابط الأسرة وتسيب الأخلاق، وليصغوا بعد ذلك إلى أقوال «أوكتاف»، وما هي إلا صوت الحياة يهتف به موسيه شاعر الآلام، بل شاعر الحقيقة المتألمة، صارخا من أعماق الضلال، مفتشا على جنتي إيمانه وحبه.
إن على شبيبة اليوم، وهي الكتيبة التي تلت طليعتنا الأولى في القرن العشرين، أن تتم جهادنا وتحقق أحلامنا؛ فنحن نتطلع إليها كتباشير الضحى بعد ليلنا الطويل؛ لنراها تنفض عنها ما علق بها من «أدواء العصر»، متنكبة مزالق العقول والقلوب، عاملة بالدعوة والقدوة المثلى على إقامة الحضارة الصحيحة، راسية على الحرية ومكارم الأخلاق.
إن من جحد إيمانه جحدته حياته!
ومن اتخذ الحب ألعوبة طرده الحب من جناته.
فليكس فارس
الإسكندرية، أول سبتمبر سنة 1938
إهداء
إن كتابا ينقل إلى العربية قطعة من روائع البيان الفرنسي لجدير بأن يتوج باسم وطني يتحف هذا البيان كل يوم بما يعزز العروبة وأبناءها.
لذلك أصدر كتابي هذا باسم صديقي: «الكونت عزيز دي صعب»
صاحب جريدة «لاريفورم» اليومية الكبرى التي تصدر في هذا الثغر لخدمة مصر وسائر الأقطار العربية.
إن الإسكندرية ملتقى الشرق والغرب تحت علم «الفاروق» العظيم، وليست الأقلام الوطنية العاملة فيها ببيان الجاليات الأجنبية على تأييد حق البلاد وثقافتها بأقل فضلا وفائدة من الأقلام العربية، تبعث هذه الثقافة من مثاويها لاستعادة الأمجاد القديمة.
فلا يستغربن حضرة الكونت مفاجأتي بإهدائي كتابي إليه؛ لأنها مفاجأة تحمل ما يسيغها، فتفرض نفسها فرضا بصراحتها وإخلاصها.
فليكس فارس
الكونت عزيز دي صعب.
لقد كان الفضل في إكمالي ترجمة «الاعترافات» لفقيد الأدب العربي، المغفور له العميد مصطفى صادق الرافعي، وللأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات، العلم الخفاق في أجواء هذا الأدب، وقد نشر الترجمة تباعا في مجلته الرواية.
وإنني لأرى من واجب الوفاء لصديقي الفقيد الخالد «مصطفى صادق الرافعي»، أن أدون له كلمة كتبها عن الاعترافات في آخر رسالة بعث بها إلي قبل وفاته بأسبوع، قال رحمه الله:
أما الاعترافات فهي جيدة جدا، ولو كان مؤلفها هو المترجم لما استطاع أكثر مما استطاع الشيخ فليكس فارس.
قضيت أيام الشباب مطاردا
غسق الدجى والنور ملء إهابي
حتى إذا لاحت تباشير الضحى
لم يبق مني غير رسم شبابي
فليكس فارس
الجزء الأول
الفصل الأول
لا يدون تاريخ حياته من لم يبتل الحياة، فما أكتبه ليس تاريخا لحياتي. •••
منيت في شرخ الصبا بعلة نفسية تروعت لها ثلاثة أعوام، وها أنا ذا أسرد ما تحملته منها.
ولو أنني كنت المصاب وحدي بهذه العلة لاخترت كتمانها، ولكن الكثيرين يشكون الداء الذي أشكو. فإلى هؤلاء أوجه رسالتي، وسواء استوقفهم بياني أو مروا به غافلين؛ فإن هذا البيان سينهش ما أطبقت النوائب عليه مني كما ينهش الثعلب رجله ليتركها للفخ وينجو بنفسه.
الفصل الثاني
في إبان الحروب الإمبراطورية، بينما كان الآباء والإخوة في بلاد الألمان، قذفت الأمهات المضطربات هذا الوجود بسلالة شاحبة عنيفة مستعرة الأحشاء؛ تلك سلالة تمخضت الحياة بها بين معركتين، وربيت في المدارس على دوي الطبول، فكان إذ ذاك ألوف من الأولاد يحدج بعضهم البعض الآخر شزرا، وهم يمرنون على القوة عضلاتهم الضعيفة، وكان الآباء الملطخون بالدماء يلوحون للأبناء من حين إلى حين، فيرفعونهم لحظة إلى صدورهم المحلاة بالذهب، ثم يتركونهم إلى الأرض ويعودون إلى صهوات الجياد.
ولم يكن في فرنسا غير رجل واحد يتمتع بالحياة، أما الباقون فكانوا يجتهدون أن يملئوا صدورهم من الهواء الذي كان ينشقه ذلك الرجل ثم يزفر به إلى الناس. وكانت البلاد تقدم له كل سنة ثلاثمائة ألف من شبانها جزية فرضت للقيصر؛ ليتمكن وهو يجرها كالسائمة وراءه من بلوغ الأمجاد التي يطمح إليها، بل ذلك هو الركب الذي كان يحتاج إليه ليجتاز الدنيا متجها إلى الوادي الحقير حيث ترامى على جزيرة قفراء تحت أغصان الصفصاف الباكي.
وما مرت في التاريخ ليال ساهدة كالليالي التي مرت في عهد هذا الرجل! وما شوهد في أي زمن من الأزمان مثل هذا العدد الغفير من الأمهات ينتحبن متفجعات باكيات على الأسوار والحصون! وما أصغى الناس برهبة إلى من يتحدثون عن الموت إصغاءهم في تلك الأزمان. ومع ذلك لم يشهد التاريخ مثلما تجلى في ذلك العهد من سرور ومن قوة حياة، وما أوقدت موسيقى الحروب من حماس في كل القلوب، وما لمعت في فرنسا شموس كتلك الشموس التي جففت على الأرض أنهارا من الدماء، وكان الناس يصفونها بشموس أوسترلتز، ويعتقدون أن الله إنما يشرقها لخدمة ذلك الرجل، غير أنه هو كان يطلقها من أفواه مدافعه المرعدة، فلا تنعقد من نيرانها الغيوم إلا في اليوم التالي لمعاركه.
وكان أبناء ذلك العصر ينشقون الحياة تحت تلك السماء الصافية الأديم، حيث لمعت الأمجاد، وتموجت الأنوار منعكسة على الفولاذ، وما جهلت تلك الشبيبة أنها معدة للمجازر، ولكنها كانت تعتقد أن «مورات» أرفع من أن يناله الموت - وكانت رأت الإمبراطور يمر بين كرات المدافع، ويقطع أحد المعابر هازئا بنفثات البنادق، فداخلها الشك في إنسانيته، وحسبته من أبناء الخلود.
وما كان ملك الموت ليلقي الذعر في روع هذه الشبيبة وهو متشح برداء البهاء والجلال، تتصاعد منه أبخرة النجيع كأنه بشير الأمل لا نذير الفناء، وكأنه وقد حصد بمنجله حقولا من السنابل الخضراء، استمد منها الفتوة فلاح غض الإهاب، ناضر الشباب.
لقد أصبحت الشيخوخة وهما من الأوهام، واستحالت المهود كما استحالت النعوش أيضا دروعا، فخلت فرنسا ممن يدب على أرضها من العاجزين، فلم يبق على تلك الأرض إلا أنصاف آلهة أو أشلاء أموات.
وقف يوما هذا الإمبراطور - الذي حسبه الناس خالدا - على أكمة أشرف منها على سبعة شعوب تتناحر، وما كان يدري أيمتد حكمه إلى آخر العالم أم يقف عند نصف العالم، فمر به عزرائيل، وبلمسة من طرف جناحه دفع به إلى عباب الأقيانوس الفسيح.
وبلغ دوي سقوطه آذان الدول المنطرحة على أسرة الاحتضار، فجلست تقاوم أوجاعها، ومد الملوك راحاتهم المتقلصة، فاقتسموا أوروبا، واتخذوا من وشاح القيصر مرقعات يستترون بها.
يوصل المسافر السير بالسرى، ويقتحم الحر والقر ووجهته مقر عياله، دون أن يشعر بثقل السهد، أو يبالي بما يحدق به من أخطار إلى أن يستقر بين أهله ويجلس أمام الموقد. حينئذ يحل عليه التعب، فلا يجد في عضلاته من القوة ما يستعين به على الزحف إلى مرقده. وما كانت فرنسا حينذاك إلا مثل هذا المسافر حين مات قيصرها فترملت، شعرت فجأة بما أثخنها من جراح، فسقطت لا تعي، واستغرقت في نومها حتى حسبها ملوكها الشيوخ ميتة، فطرحوا عليها الأكفان البيضاء.
ورجع الجيش القديم، فلولا أرهقها العياء، وعلا المشيب مفارقها، فعادت الأنوار تشع حزينة في باحات القصور المقفرة.
حينئذ أقبل رجال الإمبراطورية الذين جابوا الأقطار وملئوها دما على نسائهم الشاحبات، وقبلوهن متحدثين عن الغرام القديم، وتحولوا إلى مياه الغدران ينظرون فيها إلى وجوههم وقد خددها الهرم، فتذكروا أبناءهم وهم يقتربون إلى الحين الذي يذكر الإنسان فيه من يغمض له أجفانه.
وخرج الأبناء من المدارس، وإذ لم يجدوا لا سيوفا ولا دروعا ولا فرسانا، أجالوا الطرف مفتشين عن آبائهم، فقيل لهم إن الحرب قد انقضى عهدها؛ لأن القيصر قد مات، وإن صورتي ولنكتن وبلوخر معلقتان على جدران السفارات، وقد كتب تحت كل منهما: «مخلص العالم».
في ذلك الحين ربضت على أطلال العالم القديم شبيبة تتنازعها الهموم، وكان كل هؤلاء الشبان نقطا من الدماء المحرقة التي غمرت وجه الأرض، ولدوا في أحضان الحروب للحروب، وراودت أحلامهم طوال خمس عشرة سنة ثلوج موسكو وشمس الأهرام. وما كانوا خرجوا من مدائنهم، ولكن قيل لهم: إن أبواب كل من هذه المدائن تقود إلى عاصمة من عواصم أوروبا. لقد كان العالم بأسره ماثلا في خيال تلك الشبيبة، ولكنها كانت تجيل أبصارها على الأرض والسماء والطرق، فتراها كلها مقفرة خالية، ولا تسمع إلا رنين أجراس الكنائس تقرع الهواء من بعيد.
واجتازت الحقول أشباح ناحلة تتخطر على مهل ساحبة أردانها السود.
وطرقت الأشباح أبوابا أخرى لتبرز للسكان أوراقا أخلقها الزمان، وتأمرهم بإخلاء منازلهم، وانفرجت الحدود المقفلة عن رهط المهاجرين الذين هرعوا إلى فرنسا، ولم تزل على وجوههم آثار ما نزل من الخوف منذ عشرين سنة، وساد الصخب وعلا الضجيج، فدهش العالم لميتة واحدة تستجلب مثل هذا العدد الغفير من الغربان.
وجلس ملك فرنسا على عرشه وهو يقلب نظره في رياش قصره؛ خشية أن يكون قد تبقى عليه أثر من شارات الأمجاد البائدة ، فتألب حوله رهط الممالئين يمد بعضهم يد الاستجداء، فينفحهم بالمال، ويقدم البعض الآخر له صليبا فينحني مقبلا هذا الصليب.
وناجاه البعض بالمديح والإطراء، فأشار إلى مثل هؤلاء بالذهاب إلى القاعة الكبرى حيث تتكفل الأصداء بإذاعة مجد الملك العظيم ... وزحف آخرون عند أقدام العرش عارضين ما أخلق الزمان من أرديتهم، وقد نزعوا عنها شارات العهد البائد، فكان الملك يأمر لهؤلاء الخونة بالخلع السنية ...
وكانت الشبيبة تشهد هذه المهازل متوقعة ظهور خيال القيصر على شواطئ «كان» ليرسل عاصفته الكاسحة على هذه الحشرات.
تعثرت الآمال، وطال السكون، فلم تلح في الآفاق غير الزنابق الصفراء شارة الملكية المتحكمة.
وسأل الفتيان عن الأمجاد فقيل لهم: اعتنقوا الكهنوت.
وسألوا عن الأماني فقيل لهم: اعتنقوا الكهنوت.
وسألوا عن الحب والقوة والحياة فقيل لهم: صيروا كهنة.
واعتلى المنبر في ذلك الزمن رجل يحمل عقد اتفاق بين الملك والشعب، فقال: جميلة هي العظمة والمطامع والحروب! ولكن هنالك ما هو أجمل منها جميعا: هنالك الحرية.
فرفع الفتيان رءوسهم وتذكروا أجدادهم الذين تكلموا هم أيضا عن الحرية، وعادت إلى مخيلتهم تلك الدمى الرخامية التي كانوا يرونها في زوايا بيوت آبائهم، وقد تدلت شعورها ونقشت على قواعدها تواريخ رومانية.
وتذكروا أيضا أنهم شاهدوا أجدادهم في ليلة سمر يهزون رءوسهم، ويذكرون معارك تفجرت فيها الدماء بما يفيض عن النهر الذي أساله الإمبراطور؛ لذلك دوت كلمة الحرية في آذان هؤلاء الفتيان بصوت نبضت له قلوبهم، كأنهم يصغون في آن واحد إلى صوتين: أحدهما صوت الذكرى البعيدة المروعة، وثانيهما صوت الأمل المنشود يتراجع من مستقبل أبعد من الماضي.
هزت كلمة الحرية هؤلاء الفتيان بنشوتها السحرية، ولكنهم شاهدوا وهم عائدون إلى مساكنهم ثلاث جثث لثلاثة شبان تجرءوا على التلفظ بكلمة الحرية؛ فمرت على الشفاه ابتسامة ملؤها الأسى.
وارتقى المنابر بعد ذلك خطباء آخرون، فتكلموا عن مساوئ الحروب وأخطار الانتقاض، وأفاضوا بذكر المطامع وتكاليفها قائلين إن الحروب مذابح، والمعارك مجازر، وتكلموا تكرارا وتكلموا طويلا حتى تعرت النفوس من أمانيها كما تتعرى أشجار الخريف من أوراقها، فكان السامعون يمدون أيديهم إلى جباههم يتلمسونها كما يتلمس المحموم موضع شعوره وهو يفيق من غيبوبته.
وقال البعض: لقد سقط الإمبراطور لأنه أرهق الشعب، وقال آخرون: إن الشعب أراد الملكية بل الحرية، بل سيادة العقل، بل سيادة الدين، بل الدستور الإنكليزي، بل الحكم المطلق. فارتفع بين هؤلاء المفترضين صوت قائلا: لا، لم يرد الشعب شيئا، إن ما أراده الشعب هو أن يرتاح.
وكانت عوامل ثلاثة تتنازع عواطف الشبيبة حينذاك: ماض منقض لم يزل يرتجف ظله على الأطلال حيث ثوت قوات الأثرة وعصور العنف، ومستقبل منفرج الأفق بعيد المجال لا يلوح منه غير أوائل ذرات النور، ومدى بين هذين الحدين أشبه بالمحيط الفاصل بين العالم القديم والعالم الجديد: مدى مضطرب كالبحر الزاخر تتلاعب به العواصف، فيهدد بالغرق كل ما يحمل، ولا يلوح عليه إلا بعض البواخر الجريئة تجتازه صاخبة من حين إلى حين.
ذلك هو العصر العتيد الفاصل بين ما كان وما سيكون، وقد تمازج فيه الماضي والمستقبل، فبات أهله لا يدرون أيمشون فيه على زرع أم على هشيم!
في مثل هذه المفاوز كان على أبناء العصر أن يهتدوا، وتلك هي المشاهد التي انتصبت أمام فتيان ملء إهابهم العزم والقوة، وهم أبناء الإمبراطورية وأحفاد الثورة. أما الماضي فما كانوا ليرتضوا به، وما يتحكم الإنسان في عقيدته، ولكنهم عشقوا المستقبل عشقا شبيها بشغف بيكماليون، عاهل صور القديمة بشبح فاتنة من عالم الجن، فكان المستقبل في بصيرتهم كدمية من رخام هاموا بها، فباتوا يتوقعون تورد عروقها بدم الحياة. وهكذا لم يكن لهؤلاء الفتيان إلا زمانهم تسوده روح العصر، ملاك غسق لا ينفصل عن النهار ولا يتصل بالليل، وقد شهدوا هذا الملاك مقتعدا كومة من العظام، متلفعا برداء أنانيته، وأعضاؤه ترتجف من لفحات الصقيع.
فشعروا بغصة الموت عندما لاح لهم هذا الشبح نصفه مومياء ونصفه جنين، فاقتربوا منه والروع يملأ قلوبهم كما يقترب السائح من مومياء ابنة أحد أشراف سارفاندان في ستراسبورغ حيث تعرض محنطة بحلي خطبتها، وما يتمالك من يشاهد هيكل هذه الطفلة من الارتعاش وقد تحلت يدها الممتقعة بخاتم العرس، وانتثر رماد رأسها على أزاهر الليمون البيضاء.
وكان نابليون بمروره على العالم قد زعزع كل ما فيه، كالعاصفة تجتاح الغابات فتهز باسقات أدواحها، وتغادرها واجمة في صمت رهيب، وكان الملوك قد شعروا بتيجانهم تميد، فمدوا إليها أيديهم، فلم تعثر إلا على شعورهم، وقد وقفها الذعر على رءوسهم.
وكان بابا رومة قد قطع ثلاثمائة فرسخ ليبارك الإمبراطور ويضع التاج على مفرقه، فلم يتورع هذا الإمبراطور من اختطاف التاج من يده.
وهكذا كان كل شيء قد ارتعش في غابة أوروبا القديمة المروعة، وعقب السكون هذه العاصفة الهوجاء.
يقال: إذا ما صادف السائر كلبا هائجا فتابع السير برباطة جأش، وبخطوات متزنة دون تردد، لا يلبث الكلب أن ينبح بهدير مختنق ثم ينصرف، ولكن إذا بدرت من عابر الطريق بادرة تدل على خوفه، فأخل بانتظام خطواته مسرعا بخطوة واحدة؛ فإن الكلب يتأثره مستأسدا، وإذا ما نشب فيه أنيابه؛ فإنه لا يقف حتى يفترسه.
لقد رأت أوروبا أكثر من ملك ظهرت منه بادرة الخوف في تاريخها أمام شعبه، فذهب فريسة لهذا الشعب، ولكن مثل هذه الكارثة لم تكن تقع على الملوك جملة في آن واحد؛ لذلك سقط الملوك على التتالي، ولم تسقط الجلالة الملكية، ولكن أمام نابليون ارتعشت الجلالة الملكية نفسها، فبدرت منها البادرة التي تؤدي إلى الهلاك، وما ارتعشت جلالة الملك وحدها حينذاك، بل ارتعش معها الدين والشرف وكل سلطة إلهية وبشرية.
ولما مات نابليون، استعادت السلطات الإلهية والبشرية روعها، ولكنها لم تجد في الشعب من يعتقد بها بعد.
إن في معرفة ما يمكن أن يقع لخطرا؛ لأن الفكر يتجاوز الإمكان بافتراضاته، وليس القول بإمكان وقوع أمر كالقول إنه لا بد واقع، وما التأكد إلا أول عضة للكلب المستأسد.
لم يكن نابليون العاتي إلا آخر شرارة من نار الاستبداد، فقد أعدم الملوك لينسج على منوالهم، ففعل بهم ما فعله فولتير بالكتب المقدسة.
وسمعت الدنيا بعد ذلك ضجة هائلة هي صوت صخرة القديسة هيلانة تسقط على العالم القديم، ولاحت نجمة التفكير في السماء بأشعتها الباردة كوشاح آلهة الليل، فغمرت بها الدنيا كأنها الكفن المروع.
كانت أوروبا قد رأت من قبل عددا وفيرا ممن يمقتون الأشراف، ويتهددون الكهنة، ويتآمرون على الملوك، ولكنها ما عرفت ابتسامة الاحتقار قبل أن مر الإمبراطور وتوارى عن العيان، فكان إذا اخترق الجمع شريف أو كاهن أو عاهل يهز الفلاحون رءوسهم، متذكرين ما شهدوا من معارك ويقولون: لقد نظرناهم في غير هذا الزمن، وفي غير هذا المكان، وقد كانت وجوههم على غير ما نراه اليوم.
وإذا ما ذكر أحد العروش والهياكل كانوا يقولون: إنها عوارض من خشب سمرناها نحن ثم اقتلعناها.
وحينما كان الخطباء يقولون: لقد رجعت عن غوايتك أيها الشعب، فدعوت إليك ملوكك وكهنتك، كان الشعب يجيب قائلا: «نحن لم ندعهم، وما دعاهم إلا هؤلاء المتشدقون.»
وإذا قيل للشعب: «عد إلى الطاعة والسكون، افلح الأرض واخضع.» كان الشعب ينتفض وتتحرك السيوف في أغمادها وقد علاها الصدأ في زوايا الأكواخ.
ولكن الخطباء كانوا يضيفون إلى كل هذا قولهم: «عد إلى السكون أيها الشعب، فقد أضناك الجهاد بلا جدوى، ولا تطلب الاعتداء وليس من يعتدي عليك.»
فكان الشعب يرتضي بهذا القول. أما الشبيبة فما كانت لترضى به.
لا ريب في أن الإنسان تتنازعه قوتان مجهولتان تصليان داخله حربا عوانا إلى آخر حياته، فإحداهما تبحث وتسبر المستقبل بسكون متحسبة تستنبط أحكامها من العبر، والأخرى تتحفز للوثوب إلى المستقبل منجذبة إلى ما لا تعلم، وعندما تسود الإنسان عاطفته يتبعها العقل منذرا باكيا، وإذ يقف الإنسان مجيبا لدعوة العقل تهتف الأهواء قائلة: «وأنا، هل يجب أن أموت؟»
وابتداء الأسى يختمر في القلوب الفتية؛ إذ حكم ملوك الأرض على الشبان بالراحة والسكون، وقذفوهم بأشد الأمراض أوجاعا: بالبطالة والضجر، فأحسوا باضمحلال الأمواج التي كانوا أعدوا لمصارعتها سواعدهم القوية، وسادت المسكنة على هؤلاء المصارعين الذين كانوا مرخوا أعضاءهم عبثا بالزيوت، فاندفع الأغنياء منهم إلى ميادين الفحشاء، وخضع المتوسطو الحال للقضاء، وتحولوا إلى الكهنوت والجندية. أما الفقراء فلم يجدوا سوى الحماس البارد، فارتموا فيه بالأقوال الجوفاء كما يترامى المجازف إلى البحر الذي لا ساحل له: بحر الابتلاء بالجدل بعيدا عن العمل.
إن الضعف البشري يقود الناس إلى الاجتماع والتعاون، فلم يلبث هؤلاء الشبان أن اجتمعوا، فوجدت السياسة مرعاها الخصب بينهم، وهكذا كانت الشبيبة تخرج من مصارعة حراس المجلس التشريعي لتتجه إلى المسارح؛ حيث تشاهد «تالما» لابسا قبعة تشبه قبعة الإمبراطور، أو تسير إلى المدافن لتحتفل بمأتم نائب من الأحرار، وتعود إلى مساكنها كل مساء شاعرة بفراغ حياتها وعبث محاولتها.
وما كانت حياة المجتمع الداخلية بأقل بؤسا من الحياة الخارجية، فساد الناس الأسى والجمود، وتسلط الرياء على العادات، وأصبح الدين مشوبا بالأفكار الإنكليزية، فاكتسح الحزن كل ما كان من دلائل المرح القديم.
ولعل العناية كانت تمهد بذلك طرقها الجديدة، فظهر الملاك المبشر بالمجتمع المنتظر ملقيا في قلوب النساء بذور الحرية التي كانت ستطالب المرأة بها في آتي الزمان.
وانشق الرجال عن النساء في المجتمعات الباريسية، فلبست النساء البياض كالعرائس، واتشح الرجال بالسواد كالأيتام، وتبادل الفتيان لفتات العداء، وما هذا الثوب الأسود الذي يلبسه رجال عصرنا إلا دليل انقلاب مريع؛ لأنهم ما لبسوه قبل أن تساقطت شارات الشرف، فتمزقت الأزياء القديمة، وتناثرت أزهار الأثواب المزركشة على الحضيض، فكأن الإنسان بعد أن تحكم بعقله وهدم ما كان يغتر به من الآمال، وقف متشحا بالسواد ليتلقى كلمات التعزية على المفقود، وسادت عادات طلاب العلم وأرباب الفن تطورات نشأت من التطور العام، بعد أن كانت تلك العادات مجلى الحرية الحقيقية، ومسرات الشباب النقية. انفصل الرجال عن النساء فأصلت بينهما الاحتقار نصلا لا شفاء لجراحه: فقد الرجل حب المرأة فاندفع إلى الكئوس ليستعيض ما فقد، ونظر الناس إلى الحب نظرهم إلى الدين والمجد، فرأوا كل ذلك أوهاما تلاشت مع الزمان القديم.
وغصت المواخير بالرجال، فأصبحت الفتاة مهملة بعد أن كانت تغذي الشبيبة بحبها الطاهر السامي، وعندما احتاجت إلى غذاء ورداء باعت نفسها. فيا للشقاء! ويا للعار! لقد أهمل الشاب الفتاة، وكان في وسعه أن يستنير وإياها بأشعة شمس الله، وأن يقاسمها لقمته مأدومة بعرق جبينه، ولكنه تركها وسار إلى مزابل الإنسانية ليجد هنالك تلك الفتاة نفسها مثقلة بالهموم، شاحبة مضعضعة يجول على فمها الجوع، ويرعى قلبها الابتذال.
في ذلك الزمان ظهر شاعران هما أعظم عباقرة العصر بعد نابليون، فخصصا حياتهما لجمع ما تبدد في الأرض من مبادئ الشقاء والآلام، فكتب جوته عميد الأدب الجديد «آلام فرتر»، واصفا الوله الذي يقود إلى الانتحار، ثم عاد فرسم في «فوست» أعظم صورة تمثل الشر والشقاء، واجتاحت كتاباته فرنسا كلها وهو جالس في بيته تحوطه السعادة، وتخدمه الثروة، فكان يرسل إلينا رشاش قلمه الأسود وعلى شفتيه ابتسامة الأب لبنيه ...
وجاء بيرون من جهته يرفع صوت الحروب والفجائع، كأنه لم يجد من حل لسر الوجود غير كلمة العدم المروع.
عفوا أيها الشاعران العظيمان! أنتما الآن ذرات رماد يفترش القبور، أنتما في عداد أنصاف الآلهة، أيها الشاعران، وما أنا إلا فتى يضنيه العذاب، ولكنني وأنا أسطر هذه الكلمات لا أمتلك نفسي من إرسال اللعنة عليكما.
لماذا لم تتغنيا بعطر الأزهار وأناشيد الطبيعة، وبالأمل والحب وبالكروم، وشعاع الشمس، وبأنوار الشفق، وروعة الجمال؟ لقد عرفتهما كنه الحياة، ورأيتما الدنيا تتداعى فبكيتما على الأطلال، وأرسلتما أنين البائسين. لقد ذقتما خيانة الخليلات، وجفاء الأصدقاء، واحتقار أبناء الوطن، فدارت بكما أشباح الموت، وشعرتما بعفاء القلب. لقد كان كل منكما جبارا من جبابرة الأحزان، ولكن قل أنت يا جوته! أما سمعت أذناك صوتا واحدا يؤاسي الحزين في هدير الأحراج المقدسة في بلادك؟ أفما تمكنت - وأنت من يعرف أن الشعر صنو الفلسفة - من العثور على زهرة السلوان في هذه الطبيعة الواسعة؟ ألم تلهمك الروح - وأنت المتصوف المعتقد بوحدة الوجود - ما يعينك على سكب قليل من العسل في تلك الكئوس الرائعة التي نحتها للأجيال، وقد كانت ابتسامة واحدة منك كافية لاستهواء النحل فتنزل بجنيها على شفتيك.
وأنت يا بيرون! ألم تكن عائشا تحت سماء إيطاليا الجميلة؟ ألم تكن تناجي أمواج الإدرياتيك وإلى جنبك المرأة التي أحببت؟
أنا الذي أوجه إليك هذه الكلمات الآن، وما أنا إلا فتى ضعيف تحمل من الحياة ما لم تتحمله أنت من مصائبها وآلامها، إنني أؤمن بالأمل وأبارك الله.
وما هبت زعازع الأفكار الإنكليزية والألمانية على رءوسنا حتى سادنا الاشمئزاز برهة، ثم عقبه الاختلاج المريع. لا شيء يحول أملاح العواطف إلى بارود منفجر كالتلاعب في مواطن الشك بالمبادئ العامة، وكان جوته برأسه الجبار قد اعتصر كل ما في الثمرة المحرمة من خلاصة، فخيل للناس أن من لم يقرأ جوته لا يعرف من الحياة شيئا، ويل لهؤلاء الناس! لقد انفجرت أفكارهم بملامسة أفكار جوته، فتناثرت ذرات تائهة في مهاوي الشكوك.
وساد الجحود تلك الأزمنة، فأنكر الناس كل ما على الأرض وكل ما في السماء، وما الجحود إلا آمال عاثرات تدور بها الأحزان، فكأن الإنسانية كانت قد تراخت عزائمها فدخلت طور الاحتضار، فانحنى عليها المفكرون يجسون مواضع أنباضها ليتحققوا موتها.
وكانت شبيبة فرنسا شبيهة بذلك الجندي الذي أجاب من سأله: بم تؤمن؟ فقال: إنني أؤمن بذاتي. تجيب من يورد هذا السؤال عليها: إنني لا أؤمن بشيء.
وانشطر المجتمع إلى فئتين: فئة النفوس المضطربة المتوجعة التائقة إلى المثل العليا، فكان أبناؤها يحنون الرأس، ويبكون متلفعين بأحلامهم المؤلمة كأنهم مقصبة تتمايل على مستنقع من الشقاء. أما الفئة الثانية فكانت مؤلفة من رجال المادة والشهوات يقفون بلا مبالاة على ركام الملاذ، ولا هم لهم غير إحصاء الأموال التي حشدتها أطماعهم، وما كان يتصاعد من هذا المجتمع المؤلف من الفريقين سوى زفرة وضحكة: تلك ترسلها الروح، وهذه يقذفها الجسد، وكانت الروح تقول في زفرتها: إن الدين يتداعى، وهذه سحب السماء أصبحت غيوما تتساقط أمطارا. لقد فقدنا الأمل وحرمنا حتى قطعة من الخشب الأسود نرفعها صليبا لنمد أيدي الضراعة نحوها. لقد تلفعت نجمة الصبح بالغيوم الكثيفة على مطلع الفجر، فكأن الشفق يقبض عليها ليصدها عن الارتفاع، وكأنها شمس الشتاء ألقت الثورة عليها براقع الدماء.
لقد فني الحب واضمحلت الأمجاد، فما أحلك الظلام في هذا الليل المترامي بأطرافه على الأرض! ولسوف ندرك الموت قبل أن يتداركنا نور الصباح .
أما الأجساد فكانت تقول في ضحكتها: لقد وجد الإنسان للتمتع بحواسه، ولديه من القطع الصفراء والبيضاء ما يقيس به حق تمتعه بالكرامة، وما الحياة إلا الطعام والشراب والرقاد. أما العلاقات الاجتماعية فمنها المودة القائمة على استقراض المال، وقد تجد صديقا تدفع العواطف به إلى هذه التضحية، ومنها صلات القربى، وهي نافعة للحصول على الميراث، ومنها الحب، وما الحب إلا رياضة بدنية. وليست اللذة العقلية إلا نوعا من الغرور والكبرياء، وهكذا كان اليأس يتمشى بخطواته الواسعة ذارعا أرض أوروبا كأنه الطاعون ينتشر في نهر الكانج في آفاق آسيا، وكان شاتوبريان قد قبض على صولجان إمارة الشعر، فلف اليأس برداء أسفاره ورفعه كالصنم على هيكل تتعالى حوله عبقات البخور، فانحنت شبيبة فرنسا على قواها المكبوتة يائسة تكرع كأس الآلام حتى الثمالة، وملأت الأقطار نفثات الأقلام المضللة بأدب لا لون له، فكأنه رشاش من دم آسن يرسل لتغذية مسوخ الحياة.
ومن له أن يصف ما كانت عليه المدارس في ذلك الزمان؟ لقد كان الشك يسود الرجال، أما الشبيبة فقد كانت اجتازت مرحلة الشك، واستقرت على الجحود، وكان الشعراء يتغنون بالخيبة وعثرات الآمال، والشبان يتركون مقاعد المدارس، ويواجهون الحياة بسيماء تطفح بالبشر، وعلى لسانهم لعنة الكفر. وكان الطبع الفرنسي المائل إلى المرح ينيل الأدمغة مناعة تحتمل الأفكار الإنكليزية والألمانية، غير أن القلوب لم تكن منيعة لتقتحم النضال في الأوجاع فذبلت وانحنت على ذاتها كأنها أزاهر مقصوفة.
وهكذا اتجه مبدأ الموت إلى الأحشاء منسربا إليها بهدوء من الأدمغة، فأنكرنا الخير بعد أن كنا نؤمن بالشر، وبلغ اليأس مرحلته الأخيرة فاستقر على الشعور الميت، وجلس أبناء الخامسة عشرة تحت ظلال الأشجار المزهرة يتجاذبون من الأحاديث ما يهز أشجار فرسايل الهرمة.
طوبى لمن لم تدركهم هذه الأزمنة فنزلوا إلى الهاوية وهم يتطلعون إلى السماء! إن من حالات الحياة ما يصدع القلوب بالشقاء فلا تجد هذه القلوب ما يفرج كربها إلا بإرسال اللعنات والتجديف.
وقف ملحد أمام السماء وقبض على ساعته متحديا صاعقة الموت، وقد منح ربه مهلة ربع ساعة، وبات ينتظر. إنها لفترة ملؤها أشد غضب، وأفظع لذة. إنها لقحة بدايتها تناهي اليأس تحتك بقوات السماء، وهل كان ذلك الرجل إلا مخلوقا شقيا يتململ تحت الأرجل التي تركله؟ وهل كان صوته إلا نداء هائلا تدفع به المحن والآلام؟ من يدري لعل هذا التحدي الموجه إلى السماء كان في عين من ينفذ إلى خفايا القلوب نوعا من الصلاة ...؟
وما كانت الشبيبة إلا كهذا الجاحد تفتح لقواها المكبوتة منافذ الفرج باليأس. إن من لا يجد أمامه ما يشغل به قواه يتخذ تسلية له من التجديف، فيتهكم على الدين والمجد والحب وعلى كل ما في العالم، تلك الوسيلة هي السبيل الذي يتبعه الإنسان ليخادع نفسه، فيتهكم عليها وهو يجدف على كل شيء.
يلذ للمرء أن يضع نفسه في مصاف الأشقياء حين يحكمه الضجر فيندفع إلى الفحشاء؛ لأنها أول ما تخطر على بال العاطلين، وهي الآلة التي تتلمسها الأعصاب الهائجة لتشد بها على نفسها تسكينا لاختلاجها.
وكان الأغنياء يقولون: لا حقيقة إلا بالثروة، وأما ما سواها فأحلام؛ فلنتمتع بالثروة ولنمت.
وكان متوسطو الحال يقولون: لا حقيقة إلا بالسلوان، وأما ما بقي فأحلام؛ فلنسل ولنمت.
أما الفقراء فكانوا يقولون: لا حقيقة إلا في العذاب، وأما ما سواه فأحلام، فلنجدف ولنمت.
إنه لوصف مريع قد يحسبه البعض مبالغة، وما أنا إذ أورده مندفع بالعداء للإنسانية، فهو وصف للواقع. وهذا هو البرهان.
كل من طالع التاريخ وسبر غور الأسباب التي أدت إلى سقوط إمبراطورية روما، لا بدل له أن يرى ما انبعث عن المسيحيين من قوات دمرتها تدميرا؛ فإن العظمة التي تجلت في هؤلاء المؤمنين أيام جهادهم ومحنتهم كانت قد استحالت إلى ضربات قاضيات عندما صارت القوة إلى أيديهم.
قال مونتسكيو: «لا يسعني وأنا أفتكر بحالة الشعب وهو رازح تحت استبداد الكهنوت اليوناني إلا أن يخطر ببالي أولئك العبدان الذين أتى هرودوت على ذكرهم، وهم من كانوا يمخضون اللبن لاستخراج زبدته، وكان أسيادهم يقتلعون أعينهم كيلا يتلهوا بالمشاهد عن متابعة العمل دون انقطاع، وهكذا كان الكهنة في روما يمنعون النور عن كل مبصر، فلم يكن يقرر القيام بحرب، أو عقد هدنة أو قرض، أو الإتيان بأي عمل دون أن تنظر الرهبنة فيه أولا. إن القلم ليكل دون وصف الأضرار التي نتجت عن هذه الأعمال.»
على أن مونتسكيو كان بوسعه أن يتم كلامه قائلا:
إذا كانت المسيحية قد هدمت العروش، فإنها أحيت الشعوب. إذا كانت قد فتحت للبربر أبواب القسطنطينية، فإنها قد فتحت أيضا أبواب الأكواخ باسم المسيح. وما كان بالأمر الضروري أن تحتفظ روما بمجدها المتداعي وهي المومياء المحنطة بعطر نيرون، والمكفنة بوشاح تيباريوس وقد رعى أحشاءها دود الفساد.
إنما عمل المسيحية، أيها السياسيون، كان يتجه «إلى إدخال السلام على قلوب الفقراء البائسين، وإلى إخراج الأمل من أحشاء المومياء الفاسدة قوة حية تعضد كل مظلوم»، وذلك ما قامت به المسيحية على أنقاض روما، ولكن ماذا فعل خلفاء هادمي روما بعد مرور السنين؟ إنهم لبثوا ينظرون إلى الفقير يرهقه الغني، وإلى القوي يستبد بالضعيف، ويسمعونه يقول: «إن الأقوياء سيسحقونني على الأرض، غير أنني سأقف في وجوههم عندما سيحاولون دخول السماء، فأشكوهم إلى الله.»
هكذا صبر هؤلاء المؤمنون فيما مضى، ولكن أعداء المسيح وقفوا وصاحوا بالفقير قائلين: إنك صابر تتوقع ظهور العدل، والعدل لا وجود له. إنك تنتظر البعث لتخلص من الظلم في الخلود وليس من خلود. أنت تدخر دموع أطفالك ونواح امرأتك لتحملها إلى أقدام عرش الله بعد موتك، وما بعد الموت من حياة، فإن الله غير موجود.
وعندما سمع الفقير هذا؛ جفف أجفانه وقال لامرأته أن تكف عن النواح، ونادى بأولاده ليقف معهم على الخرق البالية كالثور الهائج، وصرخ في وجه الغني قائلا: «ما أنت إلا رجل أيها الظالم.»
ثم التفت إلى الكاهن وقال له: «لقد كذبت أيها المعزي.»
وهذا ما كان يقصده أعداء المسيح، ولعلهم حسبوا أنهم يسعدون الفقير بإرساله على سبيل المطالبة بالحرية.
ولكن إذا فهم هذا البائس أن الأغنياء يسلبونه حقه، وأن الكهنة يتاجرون بجهله، إذا ما عرف أن للناس حقا واحدا في الحياة، وأن الفقر هو الكفر بعينه، فإن إيمانه لينحصر حينئذ بقوة ساعده، فيهتف قائلا: لأصلين الأغنياء حربا عوانا. إن اللذات للجميع على السواء، إن الأرض لي أنا أيضا ما دامت السماء خاوية خالية.
أيها المفكرون الذين يقودون الفقير إلى هذا الموقف، أية كلمة تدخرونها لشقائه إذا هو اقتحم المعترك فسقط مغلوبا على أمره؟
لقد يكون حبكم للإنسانية المعذبة قد أهاب بكم إلى المناداة بهذه المبادئ، ولقد يجيء يوم يبارككم الناس فيه. أما اليوم فلا يسعنا أن نرسل البركة إليكم.
لقد كان الغني يقول للفقير فيما مضى: لي الأرض، فيجيبه الفقير: أما أنا فلي السماء. فبأية كلمة سيجيب الفقير الغني الآن؟
إن علل هذا العصر كلها قد نشأت عن سببين، فإن الشعب الذي مر على ثورتي سنة 1793 و1814 قد خرج منهما بجرحين. كل ما كان قد زال، وكل ما سيكون ليس كائنا بعد. هذان هما السببان، فمن العبث أن نفتش عن ثالث لهما.
ما حالنا إلا حال رجل تداعى مسكنه إلى الحضيض وقد بعثر أنقاضه ليقوم ببناء جديد. شمر الرجل عن ساعد الجد، وبدأ العمل وهو منتظر ورود الحجارة البيضاء الجديدة لرفع البناء، ولكن قيل له: إن الحجارة البيضاء بعيدة المنال؛ فعليه أن يصلح الحجارة السوداء القديمة. وسطا الذهول على هذا العامل الذي لا يريد أن يرفع بيته بمواد أخلقها الدهر، وموهتها الأيام بالسواد، ولكن ما العمل والمحجر عميق، ولا أدوات لديه لاستخراج الحجارة منه؟
وقف المتفرجون حوله وقالوا له: استخرج الحجارة من حين إلى حين، واشتغل على مهل.
وتكاثرت النصائح تبذل لهذا الرجل وهو واقف تحت سماء الله. لقد تهدم بيته القديم ولا بيت جديد له، فهو عرضة للحر والقر، لا يعلم أين يعمل، وأين يرتاح، وأين يأكل، وأين ينام، وأين يحيا، وأين يموت، وهو متعب مضطرب، وأطفاله يبكون في أسرتهم في العراء.
ومن أشبه بهذا الرجل منا؟
أي بني القرون المقبلة، إنكم ستنحنون في زمانكم على المحاريث تمزق أحشاء الأرض، فتبسم لكم بمروجها ونباتها أما بارة بالعاملين تغني لهم وهي تجر برود الأنوار في الصباح. في تلك الأزمنة سيكلل العرق جبينكم بالفرح والحبور، وإذ تسرحون أنظاركم على الآفاق الواسعة، فإنكم لن تجدوا في حقول الإنسانية إلا السنابل تتماوج متساوية وقد رصعتها الأزهار.
في ذلك الحين، عندما ترفعون رءوسكم لتؤدوا الشكر لله، أيها الأحرار؛ لأنه أوجدكم في عصر الحصاد، افتكروا فينا نحن الراحلين، وتذكروا أن ما تتمتعون به من هناء وسلام قد كلفنا كثيرا من الشقاء.
ترحموا علينا أكثر مما تترحمون على سائر من تقدموكم في مراحل الأجيال؛ لأننا تحملنا أوجاع أجدادكم دون أن نتمتع بما كان لهم من عزاء ...
الفصل الثالث
سأقص الحوادث التي أدت إلى ابتلائي بداء العصر:
بعد أن مرت المساخر في ليلة راقصة، جلست إلى مائدة مع أصحابي وقد ارتدوا أفخر ملابسهم، والقاعة تغص بالشبيبة الغضة تشع مرحا وجمالا، وعلى جانبينا موائد عديدة تحمل أفخر الطعام والشراب، تغمرها الأنوار، وتكللها الأزهار، والموسيقى تملأ القاعة بصخب الأنغام، وكانت على المقعد المقابل لمقعدي الخليلة الرائعة الجمال التي أقمتها معبودا لقلبي.
وكنت وقتئذ في التاسعة عشر من ربيع الحياة، وما كنت عرفت شقاء ولا ابتليت بداء، وكنت أنوفا لا أعرف المصانعة، وفؤادي طافح بالآمال.
وفعلت الخمرة فعلها في عروقي، فبدا كل ما حولي كأنه موسوم بطابع المرأة التي أحب؛ ففي مثل هذه النشوة تلوح الدنيا للعاشق جوهرة تتألق بسيماء المحبوب من كل جهاتها، فيكاد الثمل يقبل كل من يبتسم له، إذا يشعر بأنه أخ لكل مخلوق في الوجود.
وكانت خليلتي قد ضربت لي موعدا للاجتماع بها بعد انقضاء السمر، فكنت أرفع الكأس إلى شفتي ولحاظي تغور في أحداقها.
وأدرت ظهري للمائدة لأتناول طبقا فسقطت الشوكة عنها، وحين انحنيت لأرفعها عن الأرض مزيحا الغطاء المتدلي، رأيت قدم خليلتي مشتبكة بقدم الشاب القاعد بقربها، وكانت الساق على الساق تشد إحداهما الأخرى.
جلست بكل هدوء، وطلبت شوكة غير التي سقطت وعدت إلى تناول طعامي، وكانت خليلتي والشاب محتفظين بالسكون التام، فلا ينظر أحدهما إلى الآخر ولا يتحادثان، بل كان الشاب متكئا على المائدة وقد أدار وجهه إلى جارة له كانت تريه عقدها وأساورها، وكانت خليلتي جامدة وقد شخص بصرها وتراخت على مقعدها، وما انقطعت لحظة عن مراقبتها إلى نهاية الطعام، فلم تبدر منها بادرة تنم عن حالها.
وعندما قدم الخادم الحلوى زحلقت المنشفة وانحنيت لأخذها عن الأرض، فرأيت الساقين وهما لم تزالا تتشادان مترابطتين، وكنت وعدت خليلتي أن أرافقها بعد الطعام إلى منزلها، وما كان ما يحول دون ذلك وهي أرملة وليس لها إلا صهر طاعن في السن يرافقها أحيانا إلى المجتمعات، وبوصولنا إلى الدهليز أمام المخرج وقفت وقالت: «هيا بنا يا أوكتاف.» فقهقهت ضاحكا وخرجت دون أن أفوه بكلمة.
اندفعت إلى الشارع، وبعد أن مشيت خطوات جلست على قارعة الطريق واجما كأنني أصبت بالعته من خيانة هذه المرأة التي لم تثر غيرتي يوما، ولا نبهت شكوكي، وما كان الذي رأيت ليترك في أقل ريب، فأصبحت لذلك كمن فوجئ بضربة فأس على أم رأسه. ومرت الساعات وأنا جالس على الحجر تمر بذهني أمور لم أكن لأذكر منها شيئا فيما بعد، غير أنني رأيت شهابا ينزلق في السماء، فرفعت قبعتي مسلما عليه، والشعراء يرون في كل شهاب هاو عالما يندثر.
ورجعت بكل سكون إلى منزلي وأنا لا أعي، وبدأت أخلع أثوابي، ثم انطرحت على سريري، وما ألقيت رأسي على الوسادة حتى استولت علي فكرة الانتقام، فانتفضت وجلست وقد توترت عضلاتي فأصبحت كقطعة من خشب. قفزت إلى الأرض ومددت ذراعي وبدأت أصرخ، وما كانت أصابع رجلي تلمس الأرض لشدة تشنج أعصابي، ومرت علي ساعة وأنا على هذه الحالة من الهياج والجنون، وكانت هذه أول نوبة غضب شعرت بها في حياتي.
وكان الرجل الذي باغته مع خليلتي من أعز الأصدقاء علي، فذهبت إليه في اليوم التالي وقد استصحبت شابا يمتهن المحاماة اسمه ديجنه، فأخذ خصمي لنفسه شاهدا آخر، وتوجهنا جميعا ومعنا الأسلحة النارية إلى غابة فنسين، وكنت أثناء الطريق أتحاشى توجيه الخطاب إلى خصمي أو الاقتراب منه، كيلا أندفع إلى شتمه أو ضربه ؛ إذ لم يكن من موجب لهذا الاعتداء ما دام القانون يجيز لنا الاشتباك بمعركة منظمة، ولكنني ما كنت أمتلك نظراتي من التوجه إليه. وكان هذا الشاب من أصدقاء الصبا، وقد تبادلنا الولاء طوال السنين، وما كان يجهل علاقتي بخليلتي، وقد كان صرح لي مرارا بأنه شديد الاحترام لمثل هذه العلاقات، وأنه لا يقدم على مزاحمة صديق له حتى ولو برح العشق به، وكانت ثقتي شديدة بهذا الصديق، وقد لا أكون صافحت يدا بمثل الولاء الذي كنت أضمره له، وحدقت مليا في الرجل الذي سمعته يتكلم عن الصداقة كأنه أحد الأبطال الأقدمين، ثم رأيته بعد ذلك يتمتع بخليلتي، فإذا هو في عيني أول مسخ أصادفه في حياتي، فكنت أثبت النظر فيه لأرى كيف تكون المسوخ، وكان يخيل إلي أنني لم أر قط هذا الرجل الذي عرفته وهو في العاشرة من عمره، فمرت بنا الأيام من ذلك العهد توثق روابط الولاء بيننا، وإنني لأورد هنا تشبيها ينطبق على حالتي:
إن في رواية إسبانية معروفة مشهد شخص من حجر يرسله العدل الإلهي ليتناول طعام العشاء مع رجل عاهر، فيتجلد هذا الرجل كيلا يلمح جليسه اضطرابه، ولكن الجليس يتقدم لمصافحته، وعندما يقبض على يده يشعر الرجل بصقيع الموت، ويرتعش حتى يفقد شعوره.
ولقد كنت طوال حياتي كلما تكشف لي صديق أو خليلة عن غدر وخديعة أشعر بما لا أجد له شبيها سوى مصافحة يد التمثال، فكأني كنت أقبض حقيقة على يد من رخام تشعرني بصقيع الحقيقة المروعة.
تلك هي مصافحة اليد الباردة، ولكم طرقت بابي وا أسفاه! ولكم نزل الرجل الحجري في ضيافتي فتناولنا العشاء معا!
وتمت المعدات فوقفت من خصمي موقفه مني، وتقدم كل منا ببطء نحو الآخر، وأطلق هو النار أولا فأصابني في ساعدي الأيمن، فتناولت السلاح بيدي اليسرى، ولكن خانتني القوى فجثيت راكعا على ركبة واحدة، وعندئذ رأيت خصمي يتقدم إلي بسرعة وقد امتقع لونه، وبدت عليه دلائل الاضطراب الشديد، وتراكض الشاهدان فأبعدهما هو وقبض على يدي الجريحة، وقد صرف بأسنانه واختنق صوته، فرأيت الألم يرتسم على وجه بأشد مما كنت أشعر به.
فصحت به: اذهب عني، اذهب إليها وامسح يدك بغطاء فراشها، وبقينا كأن على صدر كل منا حجرا.
ونقلت إلى عربة حيث عاينني طبيب فوجد أن الجرح غير خطر؛ لأن الرصاصة كانت استقرت بعيدا عن العظم، غير أنني كنت أتململ إلى درجة جعلت كل محاولة لتضميد الجرح مستحيلة، وعندما تحركت العربة للمسير رأيت يد خصمي قابضة على عارضة الباب وهي ترتجف، وكنت أشعر أنه مخلص في ندمه، ولكنني لم أكن بحالة تمكنني من التغلب على ثورة أعصابي لمنحه الغفران.
ولما وصلت إلى مسكني كان قد نزف من دمي ما يكفي لتهدئة فوران الغضب، وكان أشد علي من آلام جرحي. استلقيت على فراشي مرتاحا، وتناولت من الماء كأسا لم أشعر بلذة مثل لذته في أية كأس شربتها في حياتي.
وبعد برهة شعرت بنار الحمى، فتساقطت دموعي وتسلط الأسى علي، لا لتحول خليلتي عني، بل لإقدامها على خداعي، وهل يسهل علي أن أدرك السبب الذي يحفز امرأة لا يقيدها واجب ولا غاية بادية إلى مخادعة رجل وهي تحب سواه؟
وكنت أعلن استغرابي هذا لديجنه عشر مرات في اليوم، فأقول له: لو أنني كنت زوجا لهذه المرأة، أو لو كنت أبذل المال لها لكنت أفهم سبب خيانتها. فما الذي كان يصدها - يا ترى - عن إعلان انتهاء حبها لي؟ وما الذي دعاها إلى خيانتي؟
وما كنت أتصور وقوع الكذب في الغرام. كنت لم أزل في شرخ الشباب في ذلك الزمن، غير أنني أعترف بقصوري حتى الآن عن إدراك هذا السر، ولقد كنت كلما أحببت امرأة أعلن لها حبي، وكلما شعرت بزوال الحب أعلنه أيضا؛ إذ كنت أعتقد أن مثل هذه الأمور لا سيطرة لإرادتنا عليها، وأن لا جريمة إلا في الكذب.
أما ديجنه فما كان يجيب على كل هذا إلا بقوله: إنها لشقية؛ فعدني ألا تنظر إلى وجهها فيما بعد.
وكنت أقسم له باتباع نصيحته، وقد أشار علي - فضلا عن عدم مقابلتها - ألا أكتب إليها حتى ولو بقصد توبيخها، وألا أجاوبها إذا هي كتبت إلي، وما ترددت في وعده بما أراد وأنا مندهش بل متألم في عزة نفسي لافتراضه إمكان مخالفتي لهذه الخطة الرشيدة.
ولكنني ما تمكنت من النهوض من فراشي ومبارحة غرفتي حتى هرعت إلى منزل خليلتي، فرأيتها وحدها على مقعد في غرفتها، وقد ظهر التعب على ملامحها، والإهمال في ترتيب أثوابها، فاندفعت أشبعها لوما وتقريعا، وقد بلغ مني اليأس أقصاه، فكنت أصرخ بملء صوتي ودموعي تتساقط بغزارة، وخنقني الزفير فانطرحت على السرير وأنا أقول: لقد كنت تعلمين أن خيانتك تقضي علي أيتها الخائنة الشقية، فهل لذت لك هذه الجناية؟ وما هو ذنبي إليك يا ترى؟
أما هي فانطرحت علي تعانقني قائلة: لقد اندفعت بالرغم مني؛ لأن ذلك الشاب كان قد أسكرني على المائدة، ولكنني لم أستسلم إليه، بل كل ما وقع هو أنني تراخيت في ساعة ضلال، ولقد أكون أخطأت ولكني لم أرتكب جرما. إنني أقدر الضرر الفادح الذي أنزلته بك، ولكنني أطمع في عفوك، فإذا أنت منعته عني قتلتني.
وما ادخرت شيئا من دموع التوبة الصادقة ولا من فصاحة الألم توصلا لتعزيتي، وارتمت على ركبتيها في وسط القاعة وقد امتقع لونها، وتفتق ثوبها، وتهدل شعرها، فرأيت فيها من الجمال ما لم أره من قبل، فارتعشت كرها واشمئزازا بينما كانت الشهوة تثور في دمي.
خرجت من لدنها وقد تحطمت قواي وصممت على ألا أقابلها أبدا، ولكنني رجعت إليها قبل مضي ربع ساعة وأنا مندفع بقوة خفي كنهها علي، وقد تسلطت علي شهوة التمتع بهذه المرأة مرة أخيرة لأشرب على جسدها الرائع كل ما ذرفت من مرير الدموع ثم أنتحر.
كنت أكرهها وأعبدها، كنت أشعر أن غرامها يوردني الهلاك، وأشعر أيضا أنني لا أقوى على الحياة بدونها. صعدت إلى غرفتها بسرعة السهم المنطلق دون أن التفت إلى الخدم في طريقي، ودفعت باب غرفتها فجأة، فرأيتها جالسة إلى المرأة وقد تحلت بجميع جواهرها، وكانت وصيفتها واقفة وراءها تمشط شعرها، فخيل إلي أنني أشهد حلما ، إذا امتنع علي أن أتصور أن المرأة التي أراها أمامي هي المرأة نفسها التي كانت منذ هنيهة ساقطة على الأرض تحت وقر آلامها.
تحجرت كالتمثال مكاني، وعندما سمعت انفتاح الباب التفتت وقالت قبل أن تراني: أهذا أنت؟
وكانت تنتظر خصمي ليذهب بها إلى مرقص، وإذ عرفتني قطبت حاجبيها وتبرمت، وتراجعت قاصدا الانسحاب، ولكنني رأيت رقبتها الناعمة وقد عقص عليها شعرها، وربط عليه مشط من الماس، والتفت فوقه خصلتان ركزتا بسنبلتين من الفضة، ولاح كتفاها وعنقها بأنصع بياض، فكأن شعرها المعقوص مرتفعا لبدة أسد تهزأ بالمشهد الذليل الذي وقفت عنده منذ هنيهة.
وجمت لحظة ثم تقدمت فجأة إلى هذه المرأة وأنزلت بقبضتي ضربة قاسية على رقبتها، فلم تصرخ، بل سقطت إلى الأمام مرتمية على يديها، وعندئذ أسرعت بالانصراف.
وما إن وصلت إلى منزلي حتى عاودتني الحمى بشدة، فلزمت الفراش وقد نكئ جرحي فآلمني كثيرا، وجاء ديجنه لعيادتي فأطلعته على ما جرى، وبعد أن أصغى إلي بكل هدوء أخذ يتمشى في الغرفة كمن عزم على أمر يتردد في تنفيذه، وأخيرا وقف أمامي وأطلق ضحكة عالية وقال: أهذه المرأة أولى خليلاتك؟
فقلت: لا، بل هي الأخيرة.
وعند منتصف الليل بينما كنت مستغرقا في نومي المضطرب خيل إلي أنني أسمع تنهدا عميقا، وإذ فتحت عيني رأيت خليلتي واقفة قرب سريري وقد شبكت يديها على صدرها كأنها شبح من العالم الثاني، فما ملكت روعي فصرخت حاسبا أن ما أراه خيال جسمه دماغي المحموم، فنهضت مذعورا وهربت إلى زاوية الغرفة، ولكنها تبعتني وقالت: أنا هي، وضمتني إليها، فصحت بها: ماذا تطلبين؟ دعيني وشأني وإلا قتلتك.
فقالت: لك أن تقتلني؛ فإنني خنتك وكذبت عليك، وما أنا إلا شقية حقيرة، ولكنني لا أطيق الحياة بدونك.
ونظرت إليها فإذا هي مجسم الجمال، وقد ارتعشت أعضاؤها واشتعلت عيناها بنيران الشهوة، وكان عنقها عاريا وشفتاها تحترقان، فطوقتها بذراعي وقلت لها: ليكن ما تريدين، ولكنني أقسم بالله الذي يرانا، وبروح أبي، أنني سأقتلك وأنتحر بعدك.
وأخذت خنجرا كان على رف الموقد ودسسته تحت الوسادة، فابتسمت وقبلتني قائلة: ما لك ولهذه الحماقة يا أوكتاف؟ تعال إلي! إنك ترهق نفسك وأنت محموم، أعطني هذا الخنجر.
ولما رأيت أنها تحاول أخذه قلت لها: أصغي إلي. إنني لا أعرف من أنت، ولا أية مهزلة تمثلين. أما أنا فليس من المهازل ما أفعل. لقد بلغ حبي إياك أقصى حد يصل إليه حب إنسان على الأرض، فكان ذلك لشقائي وموتي، فاعلمي أنني لم أزل أتفانى في هواك. تقولين إنك تحبينني أيضا، فأنا أطاوعك في رغبتك، وأقسم بأقدس ما في الكون بأنني إذا ما اندمجت بك هذا المساء فلن يلمسك أحد سواي غدا. سأتمتع بك أمام الله إذا ما رضيت، ولكني سأقتلك قبل انفلاق الصباح ...
وارتميت على الأرض مرتعشا، فرأيتها تلقي معطفها على كتفيها بسرعة وتولي الأدبار.
وعندما أخبرت ديجنه بهذه الحادثة، قال لي: ولماذا رددتها؟ إنها لجميلة حقا. فهل بلغ كرهك لها إلى هذا الحد؟
فأجبته: أمازح أنت؟ وهل لهذه المرأة أن تكون خليلتي بعد الآن؟ وهل تعتقد أن بإمكاني أن أشترك فيها مع سواي؟ أفلا تذكر أنها أقرت بتمتع غيري بها؟ فهل بعد ذلك تريد أن أنسى، وأستبقي حبي لها، وأتمتع بها أيضا؟ إذا كان هذا هو الحب عندك، فإنني أشفق عليك.
فقال ديجنه إنه ما أحب إلا نساء المواخير، فهو لا يدقق في مثل هذه الأمور، وأضاف إلى ذلك قوله: إنك لم تزل فتيا، يا أوكتاف، وتريد الحصول على أشياء كثيرة تنطبق على ما تتوهم، ولكن هذه الأشياء لا وجود لها؛ فإنك تعتقد بالحب، بل بنوع غريب من الحب، ولعل لك ما يجعلك قادرا على الشعور به، غير أنني لا أتمناه لك. إنك ستتمتع بخليلات غير هذه الخليلة يا صديقي، فتأسف لما فعلت الليلة الماضية؛ إذ لا ريب في أن هذه المرأة كانت تحبك عندما جاءت إليك، وقد لا تحبك في هذه الساعة، ولعلها الآن بين ذراعي رجل آخر، غير أنها في تلك الليلة وفي هذه الغرفة كانت مولهة بك، فماذا كان يهمك من الدنيا ؟ لقد أفقدت نفسك ليلة من ليالي العمر، ولسوف يشجيك ذكرها؛ لأنها مضت ولن تعود.
إن المرأة تغتفر كل إساءة، ولكنها لا تنسى ذنب من تهرع إليه فيردها، ولو أن الغرام لم يذهب بها كل مذهب، لما جاءت إليك مقتحمة صدودك وهي تعلم أنها مجرمة وقد اعترفت بجرمها.
لا ريب في أنك ستأسف على هذه الليلة؛ لأنك لن تقع بعد على مثلها.
وكان ديجنه يقول هذا بكل ما فيه من قوة العقيدة وبرود الاختبار، فكنت وأنا أستمع إليه أحس بارتعاش في جميع أعضائي، وبحافز يهيب بي إلى الذهاب لمقابلة عشيقتي أو الكتابة لاستقدامها إلي، ولكنني لم أكن قادرا على النهوض من فراشي، فوفرت على نفسي التعرض لمشاهدتها تنتظر خصمي، أو لأرى بابها موصدا عليه وعليها، ولكنني كنت قادرا على توجيه رسالة إليها، فكنت أفكر بالرغم مني فيما سأخاطبها به.
وما بارحني ديجنه حتى شعرت باضطراب شديد دفعني إلى التفكير في وضع حد لهذه الحالة مهما كلفني الأمر، وبعد نزاع عنيف تغلب الاشمئزاز فيه على الحب، كتبت إلى عشيقتي بأنني لن أراها بعد، وطلبت منها ألا تحضر إلي إذا كانت تتحاشى أن أوصد بابي في وجهها.
قرعت الجرس وسلمت الكتاب إلى خادمي لإيصاله بلا إبطاء إلى البريد، ولكنه ما كاد يغلق الباب حتى ناديته فلم يسمع صوتي، وما تجاسرت أن أدعوه ثانية، فسترت وجهي بيدي واستسلمت لليأس العميق.
الفصل الرابع
وعند بزوغ الشمس في اليوم التالي، كان أول ما خطر لي مناجاة نفسي بما يمكن لي أن أفعله بعد الآن.
لم يكن لي مهنة، وما كنت أتعاطى عملا؛ لأنني كنت درست الطب والحقوق، وبقيت مترددا بين احتراف إحدى هاتين المهنتين، ثم اشتغلت ستة أشهر في إحدى الحرف غير أنني لم أوفق إلى العمل بدقة، فتداركت أمري بالاستعفاء قبل أن أطرد، وكنت درست كثيرا، غير أن علومي كانت سطحية، وكنت أنسى العلم بالسهولة التي أتلقنه بها.
وكان استقلالي أعز شيء علي بعد الحب، وقد تعشقت حريتي منذ نعومة أظفاري.
وكان والدي يخاطبني يوما بشأن مستقبلي عارضا علي مسالك عديدة للعمل، فاتكأت على عارضة النافذة وحدقت في شجرة من الحور ممشوقة تتمايل في الحديقة مع الهواء، وأخذت أفكر في اختيار مسلك لي، وإذ لم يقف ذوقي عند واحد منها، أطلقت لمخيلتي العنان، فشعرت فجأة كأن الأرض تميد بي، وكأنني لمست القوة الخفية الصماء التي تدفع بهذه الكرة في الأجواء، فخيل إلي أنها ترتفع نحو السماء وأنا عليها كواقف على مركب يمخر العباب، وتراءت لي شجرة الحور كسارية لهذا المركب، فتراجعت عن مستندي ومددت ذراعي هاتفا: أية أهمية لمسافر لا يمضي إلا حينا من الزمن على هذا المركب؟ فما هو الإنسان؟ ما هي هذه النقطة السوداء على ظهر هذه العائمة التائهة في الأثير، أفليس حسبي في الحياة أن أكون إنسانا؟ لا، إنني لا أريد أن أصبح رجلا له صفته الخاصة وطابعه الخاص.
ذلك ما تمنيته أمام الطبيعة، فكان رجائي الأول وأنا ابن أربعة عشر ربيعا، منذ ذلك الزمن لم أقم بأي عمل إلا طاعة لأمر أبي، ولكنني ما تمكنت يوما من التغلب على طبيعتي المتمردة.
لم تكن حريتي إذن بنت كسلي، بل كانت بنت عزمي وإرادتي، وكنت أحب جميع ما خلق الله، ولا أحب ما صنع الناس إلا يسيرا، وما كنت عرفت من الحياة سوى الحب، ومن العالم غير معشوقتي، فاكتفيت بما عرفت.
خرجت من المدرسة، فعشقت واعتقدت بملء الإخلاص أن هذا الحب سيسود حياتي بأسرها، وهذا الاعتقاد أزال كل ما سواه من تفكيري.
وكنت أعيش منعزلا، فأقضي أيامي لدى عشيقتي، وكان ألذ شيء عندي أن أذهب بها إلى الحقول أيام الصيف فأتوسد المروج الناضرة إلى جنبها؛ إذ كنت أجد في مشاهد الطبيعة الرائعة أشد مجدد للقوى، وفي أيام الشتاء كنت أذهب بها من مرقص إلى آخر، وهكذا كانت تمر أيام حياتي متتابعة دون أن أقوم بأي عمل.
كانت جميع أفكاري متجهة إلى العشيقة التي خدعتني؛ لذلك رأيتني عندما انهتك خداعها كأنني أحيا ولا فكر لي.
لا أجد ما أصور به حالتي النفسية سوى تشبيهها بحالة مساكن هذه الأيام؛ حيث تجد الرياش مؤلفا من طراز جميع البلدان وجميع الأزمان، فنحن في عصر لا طراز له؛ لأننا لم نضع طابع زماننا، لا على مساكننا، ولا على حدائقنا، ولا على أي شيء لنا؛ فإنك لتصادف في الشوارع رجالا أطلقوا لحاهم على طراز عصر هنري الثالث، كما ترى رجالا حلقوا الذقون، وآخرين أرخوا شعورهم على زي أيام رفائيل، وسواهم أرخوها على طراز زمن المسيح.
وهكذا يخيل إليك أن مساكن الأغنياء معارض فنون؛ إذ تجد فيها الطراز القديم، وطراز عصر النهضة، وعصر لويس الثالث عشر، فلدينا من كل عصر أشياء، ولا شيء لدينا من عصرنا، وما شوهدت مثل هذه الحال في أي زمن من قبل، فنحن نذهب مذهب المتخيرين فنأخذ من كل ما نجد: هذا لجماله، وهذا لموافقته للراحة، وآخر لقدمه، وآخر لما فيه من القبح ... وهكذا نعيش على أنقاض كأن العالم قد اقترب من الزوال.
على مثل هذا كان تفكيري. كنت طالعت كثيرا، وتعلمت الرسم، وحفظت أشياء تراكمت في دماغي بلا ترتيب، فكان رأسي كالإسفنجة متضخما على فراغه.
وعشقت جميع الشعراء واحدا بعد واحد، غير أن إغراقي في تأثري كان يحول كل إعجابي إلى آخر شاعر عرفته، ويدفعني إلى كره سائر الشعراء، وثابرت على هذا المنهج حتى أنشأت من نفسي مستودعا للعاديات، وكنت اغترفت من كل حديث مجهول حتى بشمت؛ فإذا أنا طلل بال عليه شيء لم يزل في مهيع الصبا، هو أمل هذا القلب في طفولته. ذلك هو أملي الذي سلم من كل وصمة، ومن كل فساد، وسكب الحب فيه كل قوى الحياة، فإذا الخيانة تصيبه بالجرح القاتل، ومكر العشيقة يرميه بأحد سهم وهو يطير في أرفع أجوائه.
وكنت أشعر أن في نفسي شيئا يتشنج في استرخائه كأنه طير جريح يحتضر. إن المجتمع الذي ينزل الدواهي بأفراده لشبيه بالأفعى الهندية التي تستقر في الأعشاب الشافية للسعاتها، فإنك كثيرا ما تجد قرب الأدواء نفسها أنجع علاج لها، فالرجل الذي يتبع نظاما ينطبق على حالة المجتمع في حياته، فيعين وقتا لأعماله، ووقتا لزياراته، وميعادا لممارسة الحب ... لا يتعرض لأي خطر إذا هو فقد من يهوى؛ لأنه اتخذ لأعماله وتفكيره نظاما وترتيبا كصفوف الجنود المهيأة للكفاح، فإذا سقط جندي منها انكمش الصف، وقام آخر مكانه، فلا يشعر أحد بفراغ ذلك المكان.
أما أنا، فما كان لي ما ألجأ إليه منذ أصبحت وحدي، فكنت أقف أمام الطبيعة وهي أمي التي أحب فأراها تتسع حولي وتزداد فراغا، ولو أمكنني أن أنسى عشيقتي كل النسيان لكنت نجوت.
كثير من الناس يجدون الشفاء على أهون سبيل؛ لأنهم يصمدون للخيانة متغلبين على الحب الجريح، ولكن أنى لابن التاسعة عشرة أن يقتبس هذه الطريقة في حبه وهو يجهل كل شيء، ويشتهي كل شيء، وهو الشاعر بنمو جراثيم الشهوات كلها في نفسه. هل لمثل هذا الفتى أن تساوره الشكوك، وهو كيفما التفت يمينا أو شمالا أو علق نظره على الآفاق يسمع هاتفا يدعوه إلى الشهوة والأحلام؟ وما من حقيقة يمكنها أن تتسلط على القلب في فتوته. كل شيء ينبت الأزهار للشباب حتى العقد المتصلبة في أغصان السنديانة الهرمة، ولو كان للفتى ألف ذراع لمد بها إلى الفضاء، حتى إذا التفت على عشيقة أصبح هذا الفضاء في نظره مليئا عامرا.
وما كنت أحسب أن في العالم من عمل سوى الحب، وعندما كان أحد الناس يخاطبني عن غير الحب كنت أدير ظهري والتزم السكوت.
وكان ولهي بمحبوبتي ولها وحشيا ألقى على حياتي طابع الرهبنة والنسيان.
ولأوردن حادثة واحدة تثبت ما صورت من حالتي:
كانت محبوبتي أعطتني ذخيرة ضمنها رسمها المصغر، وكنت أحمل هذه الذخيرة على مخفق قلبي أسوة بكثير من الرجال، ولكنني وجدت يوما عند أحد الباعة سلسلة حديدية علقت في طرفها دائرة على ظهرها نتوءات شائكة، فابتعتها وربطت الذخيرة عليها، وحملتها مديرا النتوءات لجهة صدري، فكانت تغرز في جلدي فأشعر من ألمها بلذة غريبة، وكثيرا ما كنت أضغط عليها بكفي مستزيدا لذتي وآلامي ...
وما كنت لأجهل ما في عملي من جنون، ولكن هل من جنون لا يقدم الحب عليه ؟ وعندما عرفت بخيانة حبيبتي، خلعت هذه الذخيرة عني. ويعلم الله ما كان عذابي عندما تحررت من قساوتها، فكنت أزفر قائلا: إن أثرك سيمحى، أيها الجرح الدامي الحبيب، فأي بلسم سأسكب عليك؟
وما كان تزايد كرهي لهذه المرأة ليزيل تذكارها من كياني، فكأنه بقي يتمشى مع دمي في عروقي.
كنت ألعنها ثم أحلم بها، ومن له أن يقاوم الأحلام، وأن يحكم عقله في تذكارات قوامها لحم ودم؟
عندما قتل مكبيت دوكانان هتف قائلا: إن مياه المحيط لن تغسل يدي، وأنا أيضا كنت أرى أن مياه البحار كلها لن تغسل جراحي.
وصارحت ديجنه بحالتي فقلت له: دعني وشأني، إنني عندما أستسلم للكرى أرى رأسها ملقى على وسادتي.
ما كنت أحيا إلا من أجل هذه المرأة، فما كنت أرتاب بها حتى ولو ارتبت بنفسي، فإذا ما لعنتها فكأنني أجحد كل شيء، وإذا ما فقدتها فكأنني أرى الوجود بأسره مندثرا خاليا.
وقبعت في منزلي منقطعا عن الناس؛ إذ كنت أحسب العالم يغص بالمسوخ والحيوانات المفترسة، وكنت أقول لكل من يحاول تسليتي: إن ما تقوله حق، ولكن كن واثقا من أنني لن أتبع نصحك.
وكنت أستند إلى النافذة وأقول لنفسي: سوف تأتي، لا ريب في أنها قادمة إلي، لقد دارت بمنعطف الشارع. إني أحس باقترابها مني. إنها لا تستطيع أن تحيا بدوني كما لا أستطيع أنا أن أحيا بدونها. ماذا عساني قائلا لها؟ وبأي وجه أستقبلها؟
وبينما أكون مستغرقا في هذه النجوى كان خداعها يفاجئ تذكاري؛ فأهتف قائلا: لا، لا أريد أن تجيء، لا أريد أن تقترب مني، فإنني أقتلها.
وما كنت سمعت عنها شيئا بعد أن أرسلت لها كتابي الأخير، فكنت أتساءل: ما تفعل الآن؟ أتراها مشغولة بعشق سواي؟ فما علي إذن إلا أن أعشق سواها.
ولكنني كنت أسمع صوتا يهتف بي من الأبعاد قائلا: ألك أن تحب سواي أنت؟ لعلك جننت! أذلك ممكن لشخصين سادهما الحب فتعانقا واتحدا؟ أنت لم تعد أنت بعد، وأنا لم أعد أنا!
وكان ديجنه يقول لي: متى تسلو هذه المرأة أيها الجبان؟ أفترى في فقدك إياها خسارة لا تعوض؟ وهل كان عشقها لك اللذة الوحيدة في الدنيا؟ اتخذ لك عشيقة أخرى ولينته الأمر.
فكنت أقول له: لا، ليس فقدي لها بالخسارة العظمى، أما فعلت ما وجب علي فعله؟ أما طردتها من هنا؟ فهل لك ما تقوله بعد؟ أما الباقي فلا شأن لأحد فيه سواي. أليس للثيران إذا جرحت في الصراع أن تذهب بالنصل المغمد في كتفها إلى زاوية لتموت؟
قل لي بربك: إلى أين أذهب؟ ومن هن هؤلاء النسوة اللواتي تسوقهن الصدف إليك؟ أنت تشير إلى السماء الصافية، والأشجار الباسقة، والمساكن العالية، وإلى رجال يعربدون ويسكرون ويغنون، وإلى نساء راقصات وخيول تتراكض في السباق، وما كل ما تشير إليه هو الحياة، بل هو صخب الحياة، اذهب عني ودعني وشأني.
الفصل الخامس
وعندما رأى ديجنه أن لا دواء ليأسي، وأنني أرد كل نصح، وأقبع في داري أدرك خطورة الموقف، فجاءني في إحدى الليالي ودلائل الاهتمام بادية على وجهه، فذكر عشيقتي بلهجة المزدري، وأسرف في التقريع بوجهه إلى كل امرأة مجاريا حوافز عقيدته، وكنت منطرحا على فراشي فجلست وأسندت رأسي إلى كفي، وأصغيت بكل انتباه لأقواله.
وكانت ليلة، بدأت تهب فيها الرياح فتسمعك أنين المدنفين، وكان المطر يضرب برشاشه زجاج النوافذ، ثم ينقطع فجأة، فتحسب الطبيعة قد فقدت الحياة في فترات السكون.
في مثل هذه الساعات يحكم الألم جميع الكائنات، فتهتز الأشجار كأنها تتلوى في أوجاعها، وتحني رءوسها حزينة عاجزة، وتهرع أطيار الحقول إلى صغيرات الأشجار متزاحمة على الملجأ الأمين، فتقفر الشوارع من كل عابر.
وكنت لا أزال أتألم من جرحي.
لقد كان لي بالأمس حبيبة، وكان لي صديق، فخانتني الحبيبة، وصرعني الصديق فألقاني على فراش الأوجاع، فأصبحت وفي رأسي من الاضطراب ما لا أهتدي معه إلى حقيقة حالي، فكنت أحسب أن ما مر بي لم يكن سوى حلم مروع، وأنني سأجد سعادتي المفقودة إذا ما فتحت عيني لأنوار الصباح، ثم أعود فأرى حياتي بأسرها حلما طائشا ساخرا يتكشف لي بغتة عما استتر فيه من خداع وأكاذيب.
وكان ديجنه جالسا على مقربة مني وقد أنارت أشعة المصباح وجهه، فلاحت أمارات الجد عليه بالرغم من استمراره على الابتسام كعادته.
وما كان ديجنه بالرغم من صلابته وجموده إلا الرجل المخلص العطوف، غير أن الاختبار كان قد نال منه ونثرت الحادثات طرته، وما جهل هذا الصديق الحياة، فإنه خبرها وأسالت كثيرا من دموعه، غير أنه ادرع الصبر، فاستحجرت آلامه، وبات يتوقع الموت.
وقال ديجنه: إنني وقد نفذت ما انطوت عليه سريرتك، أراك تعتقد بالحب كما تصوره القصصيون والشعراء، فأنت إذن تصدق ما يقال لا ما يقع في هذه الحياة. لقد ضللت السبيل السوي في تفكيرك، فإن أمعنت في السير وقفت بوجهك المصائب والويلات.
وهل يصور الشعراء الحب إلا كما يجسم النحاتون الجمال، وكما يبدع الموسيقيون الأنغام؟
إن أرباب الفنون وقد دقت أعصابهم، ووهبوا الحس المرهف يختارون أنقى عناصر الحياة، وأبدع رسوم المادة، وأروع ما في الطبيعة من نبرات.
قيل: إنه كان في أثينا عدد كبير من الغانيات الفاتنات، فعمد «براكستيل» إلى تصويرهن الواحدة بعد الأخرى، ثم استعرض مجموعته مستبعدا عيوبها، ومستنبطا منها مثالا كاملا جامعا للمحاسن على أنواعها، فكان رسم الزهرة آلهة الجمال.
وعلى هذه الوتيرة جرى أول إنسان أوجد آلة للموسيقى مقررا قواعدها وأحوالها، فإنه ما وضع الأنغام إلا بعد أن تنصت طويلا إلى تغريد البلابل وحفيف الغصون.
وهكذا أوجد الشعراء أيضا الأسماء السرية التي مرت على شفاه البشر من جيل إلى جيل، كدفنيس وكلويه وهيرو ولياندر وبيرام وتيسبه.
تلك أسماء لم يبدعها الشعراء إلا بعد أن ابتلوا الحياة، وعرفوا من المحبة سريعها وبطيئها في الزوال، وبعد أن شهدوا إلى أية درجة من الهوس يبلغ الهيام أحيانا منقيا الطبيعة البشرية من أدرانها.
فإذا أنت فتشت في الواقع عن مثل هذا الحب المطلق الثابت؛ فكأنك تفتش في ميادين الجماهير عن نساء يضارعن الزهرة في روعة جمالها، أو كأنك تكلف بلبلا إنشاد أجمل مقطوعات بيتهوفن إيقاعا.
ليس الكمال من هذا الوجود، وكفى الذكاء البشري أنه فاز بتصوره، فإذا ما طمع في الحصول عليه رمت به شهوته إلى الخبل والجنون.
افتح نافذة غرفتك، يا أوكتاف، وتطلع! أفما تشرف منها على مدى لا نهاية له، فتشعر أن لا حد لهذه الآفاق؟ ولكن هل لك بالرغم من تصديق عقلك لشعورك أن تتصور ماهية اللانهائية؟ أيمكنك أن تدرك ما لا يحد وأنت ولدت في الأمس وغدا ستموت؟
لقد جن الكثيرون في أنحاء العالم أمام هذا المدى الفسيح، وما نشأت الأديان إلا من الاستغراق في أسراره. ما قطع كاتون عنقه، وما استسلم المسيحيون للأسود، والبروتستانت للكاثوليك، إلا لإدراك المطلق المتعالي عن كل حصر وتحديد.
إن جميع شعوب الأرض يبسطون الأكف نحو هذا المدى الفسيح قاصدين الارتماء إليه، وفاقد الرشد يطمح إلى امتلاك السماء، أما العاقل فيكتفي بالإعجاب والخشوع، ويرتمي جاثيا على ركبتيه كابحا جماح شوقه.
إذا كان فسيح المدى يعجز إدراكنا، فكيف نتوسل به إلى نيل الكمال، وقد حتم علينا ألا نتجه إليه في أي شيء، وألا نتطلبه من أي شيء، لا في المحبة، ولا في الجمال، ولا في السعادة، ولا في الفضيلة، ولكننا مع ذلك ملزمون أن نتوق إليه لنبلغ في المحبة والجمال والسعادة ما يمكن لنا أن نناله.
افترض، يا أوكتاف، أن في غرفتك لوحة من ريشة رفائيل، لوحة تحسبها سالمة من كل عيب، فاقتربت منها يوما مدققا فيها، فوجدت في رسم أحد أشخاصها خطأ فاضحا كعضو مكسور، أو عضلة نافرة من مركزها الطبيعي - كما يقال عن إحدى العضلات في ساعد مصارع فيها - فإنك لتشعر بالكدر ولا ريب، ولكنك لا ترمي بلوحتك إلى لهيب الموقد من أجل هذا العيب، بل تكتفي بأن تقول: إنها غير كاملة، وإن في أقسامها الأخرى ما يثير الإعجاب.
إن في العالم نساء تردهن طبيعتهن وما في عواطفهن من الإخلاص عن اتخاذ عشيقين في زمن واحد. ولقد خيل إليك أن عشيقتك من هذه الفئة، ولقد كان خيرا لك لو أنها منها، ولكنك تحققت خيانتها، فهل في ذلك ما يدعوك إلى احتقارها، والإساءة إليها ، وإلى الاعتقاد بأنها تستحق حقدك ونقمتك؟
افترض، يا أوكتاف، أن عشيقتك لم تخدعك، وأنها لا تزال تحبك دون سواك، أفلا ترى حتى في هذه الحالة أن حبها بعيد جد البعد عن الكمال، وهو حب بشري حقير يتحكم فيه خبث هذا العالم وأضاليله؟ أفتنكر أن هذه المرأة قد استسلمت قبل ما نلتها أنت إلى رجل ورجال، وأن غيرك سينالها بعدك أيضا؟
ارجع إلى رشدك! إن ما يدفعك إلى اليأس الآن إنما هو اعتقادك بكمال كنت حليت به من تحب، فإذا هي ساقطة لا حلية لها.
ولكنك إذا ما رأيت اعتقادك على حقيقته، واتضح لك أنه توهم واغترار بشري، تدرك أن لا فرق بين السقوط دركة، وبين التدهور دركتين على شفير العيوب البشرية.
إنك لن تستطيع أن تنكر أن حبيبتك قد نالها غيرك قبلك، وسينالها غيرك بعدك أيضا، ولكنك ستقول لي: إنك لا تهتم لهذا ما دام حبها لا يشرك بك أحدا. أما أنا فأقول لك: إذا كان سواك قد تمتع بها، فما يهمك أن يكون وقع ذلك في الأمس أو منذ سنتين؛ وبما أن سواك سيتمتع بها بعدك، فما يهمك وقوع ذلك في هذا المساء أو بعد سنتين. إذا كانت هذه المرأة لن تحبك إلا إلى حين، فما يهمك إن قصر حبها على ليلة أو طال إلى سنين.
ألست رجلا يا أوكتاف؟! أفما ترى الأوراق تتساقط عن أغصانها، والشمس تشرق فتغرب؟ أفما تسمع نبضات ساعة الزمان في كل خفقة من خفقات فؤادك؟ فأي فرق لدينا إذن بين غرام سنة وغرام ساعة من الزمان؟ أفليس مجنونا من يتطلع من نافذة تقدرها الكف ليرى المدى الذي لا نهاية له.
أنت تلقب المرأة التي تحبك عامين دون أن تخونك بالمرأة الشريفة، ولعل لديك مقياسا خاصا تعرف منه ما تقتضيه قبلات الرجال من الزمن لتجف على شفاه النساء.
إنك لتجد فرقا كبيرا بين المرأة التي تستسلم للحصول على المال، وبين من تستسلم طلبا للذة، وتجد مثل هذا الفرق أيضا بين من تبذل نفسها إجابة لداعي الكبرياء، ومن تبذلها في سبيل إخلاصها. إن بين من تشتري من النساء من تقدر لها ثمنا يزيد على ثمن سواها، وبين اللواتي تطلب فيهن تمتع حواسك من تنال ثقتك دون سواها، وبين من يدفعك الغرور إلى نيلهن من تباهي بالظفر بها بأكثر مما تباهي بامتلاك أخرى سواها، وبين من تخلص لهن أنت من تهبها ثلث قلبك، في حين أنك لا تهب الأخرى سوى ربعه، وتهب غيرهما نصف هذا القلب، وذلك تبعا لما تقدره لإحداهن من التهذيب والعادات، وما تراه لها من كرامة الأصل، وروعة الجمال، واعتدال المزاج، وتبعا للظروف الطارئة أيضا لما يقوله الناس، وبحسب تأثير الساعة وما تناولت من مشروب مع عشائك.
إن النساء يستسلمن إليك، أيها الصديق، لا لسبب إلا لأنك في شرخ الشباب المتقد، ولأن استدارة وجهك لا عيب فيها، ولأن شعرك مسرح باعتناء، ولكنك لاتصافك بهذه الصفات لا تعرف من هي المرأة.
إن أول ما ترمي الطبيعة إليه إنما هو استبقاء النوع؛ لأن الحياة أينما تجلت من قمم الراسيات إلى قعر البحار تفزع من الموت، وتنفر من الفناء، وما فرض الله هذا الناموس إلا استبقاء لخليقته، فوضع اللذة العظمى في الاتصال الجنسي بين الأحياء.
إن النخيل يرتعش غراما عندما يرسل إلى أنثاه ذرات الحياة تحملها سافيات الرياح، وإذا قاومت الوعل أنثاه فإنه لا يني ينطحها حتى يبقرها، والحمامة تنتفض تحت جناحي زوجها كأرق العشيقات إحساسا.
وهكذا الرجل، عندما يضم رفيقته بين ذراعيه أمام عظمة هذا الوجود يشعر بالشرارة الإلهية التي خلق منها تهب مشتعلة في صميم فؤاده.
أيها الصديق، إذا ما ضممت إلى صدرك امرأة ملؤها الصحة والجمال، وشعرت بسكرة الغرام تفجر الدمع من مآقيك، وبالخلود في صميم فؤادك يدفع إلى شفتيك بالقسم تزفره زفرا بثبات حبك إلى الأبد، فلا تكبح جماح نفسك، حتى ولو كانت المرأة التي تضم بين ذراعيك من بنات المواخير، ولكن حذار ألا تميز بين الخمرة التي تكرعها، والثمل الذي يسود مشاعرك منها، ولا تحسبن الكأس هي الكوثر الذي تشربه. وهكذا لن تتفجع إذا ما رأيت هذه الكأس محطمة أمامك في إحدى الليالي، فما المرأة إلا وعاء من صنعة الخزاف سريع سقوطه، وسريع انحطامه.
وجه شكرك لله؛ لأنه سمح لك بأن تلمح السماء، فلا يخدعنك في جوانحك خفقان تحسبه خفوق جناح؛ فإن الأطيار نفسها لا يمكنها أن تخترق السحاب، وفي الأعالي طبقات لا هواء فيها. أفما رأيت القنبرة ترتفع محلقة إلى مسارح الضباب وهي تغرد لترتمي بعد تحليقها ميتة إلى أخاديد الحقول؟
اكرع من الحب ما يكرعه الشارب المعتدل، وإياك أن تصبح سكيرا.
إذا كانت عشيقتك أمينة مخلصة، فأحببها من أجل أمانتها وإخلاصها، وإذا لم تكن فيها هذه الصفات وكانت فتية وجميلة، فأحببها من أجل فتوتها وجمالها، وإذا لم يكن لها مزية سوى الملاحة وخفة الروح، فأحببها من أجل ذلك أيضا، وإذا لم يكن لها شيء من جميع هذه الصفات، ولها تعلقها بك؛ فلا تمنع حبك عنها، فما يجد الرجل في كل مساء امرأة تتعشقه.
وإذا ما عرفت أن لك مزاحما في حب من تهوى؛ فلا تشد ناصيتك، ولا تعلن أنك ستنتحر. إن غرورك يخدعك فيخيل إليك أن حبيبتك تخونك بالتصاقها بسواك، غير أنك إذا عكست نظريتك المكذوبة فقلت في نفسك: إن حبيبتك تخون مزاحمك بالتصاقها بك؛ فإنك لترى النصر في جنبك لا في جنبه.
إياك أن ترسم لنفسك خطة تلتزم سلوكها، فلا تقل إنك تريد حبا مطلقا لا شرك فيه؛ لأنك إذا قلت بهذا المبدأ ستضطر - وأنت إنسان متقلب بالطبع - أن تستدرك خطأك فتضيف إلى قولك كلمة: «على قدر المستطاع.»
كن راضيا بالزمان كما يجيء، وبالهواء كما يهب، وبالمرأة على ما هي عليه.
إن المرأة الإسبانية، وهي من الطراز الأول في النسوية، تحب بلا شك، فقلبها مخلص مضطرم، ولكنها تخفي خنجرا تحت أثوابها فوق هذا القلب، والإيطالية تتقد شهوة، ولكنها تفتش عن عريض المنكبين، وتقدر قدر عشيقها كما يأخذ الخياط قياس زبائنه، والإنكليزية متحمسة تستسلم للكآبة، ولكنها باردة متعجرفة، والألمانية رقيقة الشعور، ولكنها باهتة جامدة. أما الفرنساوية فإنها ظريفة رشيقة ، ولكنها أكذب من الشيطان.
لا تلق على المرأة تبعة ما هي عليه؛ لأننا نحن أوجدناها في حالتها بتشويهنا في كل سانحة ما أوجدته الطبيعة فيها، وما الطبيعة بغافلة في عملها، فإنها تعد العذراء للعشق، حتى إذا خرج الولد من أحشائها تساقط شعرها، وهبط نهدها، واحتفظ جسمها بآثار جراحه، فالمرأة لم تخلق إلا لتكون أما. ولقد يبتعد الرجل عنها بعد أن تكون أدت مهمتها، فيستفزه الجمال المفقود، ولكن طفله يتعلق بأذياله، ويشده إلى مسكنه باكيا. هذي هي الأسرة، وذلك هو الناموس الطبيعي، وما يهتدي إلى السبيل السوي من تحول عنه.
إن فضيلة أهل القرى قائمة على أن المرأة في مجتمعهم إنما هي آلة للتوليد وللإرضاع، كما أنهم هم أنفسهم آلات حرث وزرع. فليس هنالك شعور مستعارة ولا أصباغ ولا أدهان، غير أن العشق عندهم سليم من الجرب، فلا يخيل لهم أنهم في اقترانهم يكتشفون عالما جديدا، وإذا كانت نساؤهم محرومات من الحس المرهف في الشهوة؛ فإنهن سليمات من العلل، وإذا ما خشنت ملامس أيديهن؛ فإن خشونتها لم تتطرق إلى قلوبهن.
لقد ذهبت الحضارة مذاهب لا تأتلف والنظم الطبيعية، فإن العذراء الكاعب سجينة وراء الأقفال، وهي المخلوقة للشمس والهواء الطلق، ومن حقها أن تشهد مصارعة الشباب كما كانت تشهدها بنات لاسيديمونيا لترجح حرة وتحب مختارة، ولكن سجنها لا يحول دون تطرق العشق إليها، فإنها تجد الفساد في وقوفها أمام مرآتها، فيدب إليها النحول من جمودها، ويذوي في سكون الليالي جمالها المختنق متشوقا إلى الهواء، إلى أن يأتي يوم تسحب فيه من سجنها فجأة وهي لا تعرف شيئا، ولا تحب شيئا، وتشتهي كل شيء، وتتولى إحدى العجائز تعليمها بإلقاء كلمة سفيهة في أذنها، ثم تؤخذ بعد هذا الدرس لتلقى على فراش رجل مخبول يغتصبها اغتصابا.
ذلك هو الزواج، أو بالأحرى ذلك هو منشأ الأسرة المتمدينة ...
وتمر الشهور فإذا بالفتاة تقذف إلى الوجود بطفلها، وإذ بشعرها يتساقط وبصدرها يتدلى فوق جسم شوهته التجاعيد.
لقد فقدت هذه المسكينة جمال العاشقات قبل أن تعشق، فهي لا تعرف لماذا حبلت، ولماذا أصبحت أما ...
يقدم الطفل لهذه المرأة ويقال لها: أنت الآن أم، فتجيب قائلة: لست أما. اذهبوا بهذا الطفل إلى مرضع فما في ثديي لبن له.
وهل يدر اللبن صدر مثل هذا الصدر المغتصب؟
ويؤيد الزوج هذا الرأي معلنا أن تعلق الطفل بأمه ينفره منها.
تجلس هذه المرأة على سرير مخاضها الدامي، فيوشى بالأطالس، وتبذل العناية لشفائها من داء أمومتها، وما يمر الشهر حتى تراها تجوب المسارح، وتنتقل من مرقص إلى مرقص، ويرسل الطفل إلى مرضع في إحدى القرى. أما الزوج فيدلج إلى المواخير تحت جنح الظلام.
ويدور بالمرأة عشرات الشباب يتدفق بيانهم بكلمات الحب والإخلاص والوله والعناق الدائم، فتسمع من أفواههم كل ما كان يدور في خلدها، فلا تلبث أن تختار أحدهم لتضمه إلى صدرها، ويندفع هذا المختار إلى تدنيسها، ثم يتحول عنها ليداعب الحظ في مؤسسات القراطيس المالية.
قضي الأمر، فليس لهذه المرأة أن تعود أدراجها، تستخرط في البكاء ليلة، ثم ترى أحداقها حمراء مما ذرفت من دموع، فتتخذ عشيقا آخر تسلو به همها، فيسلمها الثاني إلى ثالث إلى أن تبلغ الثلاثين أو تتجاوزها، فيدب الفساد قاضيا فيها حتى على الاشمئزاز، وتصادف في ليلة من ليالي جموحها يافعا يتدفق الجمال من محياه، وتتدلى طرته السوداء على إشراق جبينه، ترسل عيناه شرارات الحياة، وتخفق في فؤاده الأماني العذاب، فترى فيه جمال شبابها، وتتذكر ما تحملت من شقاء، فتسارع إلى تلقين هذا الفتى ما تلقنته هي من الحياة، فتقضي عليه بألا يحب طوال عمره.
هذه هي المرأة كما أردناها، وما عشيقاتنا إلا من هذا الطراز، ولكننا نمضي معهن أطيب الأوقات. فإذا كنت ذا حزم ولك ثقة برجولتك، فاتبع ما أشير به عليك، استسلم بلا وجل لتيار الحياة، تمتع ببنات الحانات والمواخير، وبسيدات البيوت والقصور. كن ثابتا ومتقلبا، كن حزينا ومرحا في وقت واحد، ولا تبال أخدعتك المرأة أم حفظت عهدك، ما دمت واثقا من أنها أولتك حبها.
إذا كنت رجلا عاديا لا مزية لك، فكن محترسا في اختيارك ، وعلى كل لا تضع نصب عينيك أية صفة من الصفات التي تتمنى وجودها في عشيقاتك.
أما إذا كنت ضعيفا، وفي فطرتك صفات المسود لا مزايا السيد، وإذا كنت تشعر أن في جذورك اندفاعا إلى التغلغل حيث تعثر بحفنة من تراب، فالأجدر بك أن تتخذ عدتك للمقاومة؛ لأنك إذا ما استسلمت لضعفك، فلا تتوقع نمو فروعك حيث علقت أصولك؛ لأنك ستجف كالنبتة العليلة لا تورق أغصانها، ولا تنور أزهارها، فينسرب نسغ حياتك إلى الجذوع الغريبة، وتبقى أوراقك كأوراق الصفصاف باهتة متراخية صفراء، وعندئذ لن تجد ما يرويك غير دموعك، وما يغذيك سوى قطع قلبك.
أما إذا كنت متحمسا تؤمن بالأحلام، وتطمح إلى تحقيقها؛ فإنني أقول لك بكل صراحة: إن الحب وهم لا حقيقة له.
وما أنا بمنكر عليك صحة مذهبك في الحب؛ لأنه عبارة عن أن يهب الإنسان جسده وروحه معا، بل هو اندغام شخصين في ذات واحدة تتمشى تحت الشمس، وتجول في الحقول المزهرة، تلتف بأربعة معاصم، وتفكر برأسين، وتشعر بقلبين.
ما الحب إلا إيمان وعقيدة بوجود السعادة على هذه الأرض.
ما الحب إلا المثلث المتألق بالنور على قبة هيكل الوجود، فإذا أنت أحببت مشيت حرا تحت قبة هذا المعبد، وإلى جنبك المرأة التي لا يفوتها إدراك سر خشوعك عند وقوفك لفكرة تخطر لك، أو عند زهرة تلمحها، فتتوجه بنظرة استغراق إلى هذا المثلث السماوي.
إن خير ما في الوجود هو أن يتمتع الإنسان ببذل ما أعطي له من قوة؛ لذلك كانت العبقرية أروع ما يستهوي النفوس، ولكن إذا ما ضاعف الإنسان هذه القوة بضمه فكرا إلى فكره، وعاطفة إلى عاطفته؛ فإنه يبلغ السعادة العظمى، وفيها يتناهى ما وهب الله للناس في هذه الحياة؛ لذلك كانت المحبة أفضل من العبقرية.
تلك هي المحبة، فقل لي الآن إذا كانت العاطفة العليا هي ما نسميه محبة في قلوب نسائنا.
وكيف يكون حبهن حبا؟ وما المحبة في نظرهن إلا الخروج مقنعات من بيوتهن، وتوجيه الرسائل السرية، والسير بذعر على رءوس الأقدام، وإنشاء الدسائس ، وبذل التهكم، ورشق اللحاظ الفواتر، وإرسال تنهدات العذارى، وارتداء الأثواب النفيسة، وخلع هذه الأثواب أخيرا وراء الأقفال لإذلال مزاحم، وخيانة زوج، والنكاية بعشيق.
أجل، ما المحبة في نظر نسائنا إلا التلهي بالأكاذيب كما يتلهى الأطفال بلعبة الكمين. تلك هي فحشاء القلب، وهي أقبح من الدعارة الرومانية، وذلك هو المسخ المولود سفاحا من الفضيلة والرذيلة، تلك هي مهزلة الحياة التي تمثل بالهمس والغمز؛ حيث يتجلى كل شيء صغيرا لا شكل له في رشاقته، فكأنه تمثال صيني لخلقة من عجائب المخلوقات، تلك هي الجنة تتحكم في الجمال والقبح، وفي كل ما هو سماوي وجهنمي في الأرض، تلك هي الأظلال التي لا حقيقة لها، بل هي رمة العظام المتداعي من كل هيكل أقامه الله في الحياة.
هذا ما قاله ديجنه بعباراته اللاذعة متوهجة تحت جنح الظلام.
الفصل السادس
وفي اليوم التالي ذهبت قبل العشاء إلى غابة بولونيا، وكانت السماء متلبدة بالغيوم، ولما وصلت إلى باب مالو ألقيت عنان فرسي على عنقه، وذهبت تائها بين الأشجار مستغرقا أستعيد أقوال ديجنه في ذهني، وما توغلت في أحد المنعطفات حتى لاحت لي عربة تستقلها إحدى صديقات خليلتي، فمدت إلي يدها لتصافحني، ثم دعتني إلى تناول العشاء معها إذا لم يكن من مانع لدي.
وكانت هذه المرأة - وتدعى مدام ليفاسور - قصيرة بدينة شقراء، وكنت أنفر منها دونما سبب، ولكنني لم أملك نفسي من قبول دعوتها؛ لأنني كنت أتوقع حديثا معها عن عشيقتي، وأمرت رفيق السائق بقيادة فرسي فذهب به، وجلست أنا قربها وعدنا إلى باريس.
وبدأ المطر يتساقط، فأنزلنا الغطاء وأصبحنا في عزلة، وقد ساد علينا السكوت، وكنت أنظر إليها فأشعر بحزن عميق؛ لأنها لم تكن صديقة عشيقتي فحسب، بل كانت أيضا مستودع أسرارها، وكثيرا ما كانت تمضي ساعات السمر فأستثقلها، وأتمنى أن تخلي لنا المكان، ولعل نفوري منها تولد من صبري على فضولها. وما كان تساهلها معي ومع عشيقتي، بل وما كان وقوفها مرارا موقف المدافع عني تجاهها ليمحو سيئة هذا الفضول، فكنت أراها قبيحة ثقيلة ، ولكنني أنعمت النظر فيها هذه المرة فلاحت لي وعليها مسحة من الجمال، فكنت أحدق في يديها وأثوابها فأشعر بأنها تحرك ساكنا من فؤادي، وكانت هي تحدق في فلا يخفى عليها أمري وما يفعل التذكار بعواطفي، وقطعنا مسافة الطريق وأنا أنظر إليها وهي تبتسم لي، ولما بلغنا المدينة قالت: وأخيرا، فقلت: أخبريها إذا شئت، وانهمر الدمع من عيني.
وبعد أن تناولنا العشاء جلسنا أمام الموقد، فقالت: أقضي الأمر وانقطع كل رجاء؟ فقلت: وا أسفاه! إن الأمر المقضي إنما هو فجيعتي، وستودي هذه الفجيعة بي، ولا أطيل بوصف حالي. لقد امتنع علي أن أحبها وأن أحب سواها، وأن أعيش بلا حب.
واستلقت على مقعدها متراخية وقد لاحت على وجهها علائم الإشفاق، واستغرقت لحظة كأنها تناجي نفسها وتتنصت من قلبها إلى أصداء بعيدة، ثم مدت إلي يدها، فاقتربت منها، فقالت: وأنا أيضا قد أصابني ما أصابك. وتهدج صوتها فقطعت حديثها.
إن للمحبة أخوات عديدات أجملهن الشفقة.
صافحت هذه المرأة وتدانينا حتى كاد أحدنا يلتصق بالآخر، فبدأت تتكلم مثنية على عشيقتي تنتحل لها الأعذار، وتوجه إلي كلمات الإشفاق، وازداد حزني فلم أجد ما أجيبها به، وذهب بها الحديث إلى التكلم عن نفسها، فأسرت إلي أن رجلا أحبها ثم تركها منذ أمد غير بعيد، بعد أن ضحت في سبيله صيتها والكثير من ثروتها، وأن زوجها - وهو رجل حقود - كان يتهددها، وكانت تذرف الدموع وهي تسرد حكايتها حتى نسيت همي بهمها، ثم استطردت فقالت: إنها تزوجت مرغمة، فقام النضال طويلا بين عقلها وعواطفها، وهي الآن لا تأسف على شيء أسفها لبقائها محرومة من الحب، ولاح لي أنها كانت تلوم نفسها لأنها لم تعمل على الاحتفاظ بقلب عشيقها؛ إذ عاملته بشيء من الاستخفاف.
وعادت فاستسلمت للصمت بعد أن فرجت عن قلبها، فقلت لها: ما هي بالصدف العمياء تلك القوة التي قادتني إلى غابة بولونيا هذا الصباح. إن الآلام البشرية أخوات تائهات، ولعل هنالك ملاكا كريما يضم هذه الراحات المرتجفة المبسوطة نحو الله تتوسل إلى رحمته. لا تندمي على ما بحت لي من سرك، فما للإنسان أن يندم على دمعة ذرفها أمام أي مخلوق كان، وما سرك الذي أودعتنيه إلا دمعة سقطت من عينيك فاستقرت في فؤادي، فاسمحي لي أن أرجع إليك أحيانا لنتشاكى ونتألم معا.
وشعرت بعطف شديد يجذبني إلى هذه المرأة وأنا أتكلم، حتى رأيتني مكبا على وجهها أقبلها، وما خطر لي أنها ستستاء مني. أما هي فبقيت بلا حراك كأنها لم تنتبه إلى ما أفعل.
وكان يسود سكوت عميق حول البيت التي تقطنه هذه السيدة؛ إذ كان يسكن أحد أقسامه مريض، ففرش التبن على الطريق المجاورة منعا لقرقعة العربات، وكنت أنا مطوقا هذه المرأة بذراعي وقد أذهلتني عاطفة اقتسام الأشجان، وطالت محادثتنا، فكنا نتشاكى فأشعر أن بين آلامي وآلامها شيئا من اللذة، وأسمع صوتا مواسيا كأنه نشيد سماوي يتعالى من أنين متوجعين، وكان دمعانا يتمازجان وأنا مكب عليها، فما كنت أرى غير وجهها، ولكني عندما تراجعت عنها رأيت أنها كانت في هذه الأثناء رفعت إحدى رجليها وأسندتها على رف الموقد، فانسحب رداؤها حتى بدت ساقها عارية.
ولما رأت اضطرابي لهذا المشهد لم تغير وضعها، فأدرت ظهري ليتسنى لها ستر ما انكشف منها، فتجاهلت الأمر، فوقفت إلى الموقد أتفرس فيها واجما، وإذ اتضح لي أنها مدركة ما تفعل، أدركت بدوري أن هذه المرأة قد شاءت أن تلعب دورها لإغوائي، فما كانت دموعها وما نقلته عن آلامها إلا اختلاقات تستكمل بها فنها.
أخذت قبعتي وتوجهت إلى الباب، فأرخت رداءها على مهل، فلم أنبس بكلمة، بل أومأت مسلما وخرجت.
الفصل السابع
وعندما رجعت إلى مسكني وجدت وسط غرفتي صندوقا كبيرا، وكانت إحدى عماتي انتقلت إلى ربها، ولم تكن حصتي من ميراثها ذات شأن، فوجدت في الصندوق أدوات وأشياء مختلفة بينها عدد من الكتب القديمة علاها الغبار، وكنت إذ ذاك أتململ ضجرا، فرأيت أن أتصفح بعض هذه الكتب، وأكثرها روايات نشرت في عهد لويس الخامس عشر. ولعل عمتي - وهي من الصالحات العابدات - كانت ورثتها من أقارب لها، فاحتفظت بها دون أن تطالعها؛ لأن هذه الكتب كانت عبارة من مجموعة دروس في الغواية والفحشاء.
أعهد بنفسي ميلا لا قبل لي برده إلى تحليل جميع ما يقع لي من حوادث، سواء أكانت هامة أم تافهة، فأطمح دائما إلى إيجاد ارتباط بينها، فأجيء بتسلسل لها وأنظمها في سلك واحد كعقد لا بد من ضم شتاته، ولعلني ذهبت مع الوهم إذ اعتقدت بوجود علاقة بين حالتي ووصول هذه الكتب، فاندفعت إلى مطالعتها مبتسما وفؤادي ينفطر حزنا. وكنت أناجي هذه الصفحات قائلا: إنك دون سواك تعلنين حقيقة الحياة، وتجسرين على القول بأن لا حقيقة إلا بالتمتع بالملذات والمراوغة والفساد. كوني لي نعم الصديق، وانفثي على جراح نفسي سمومك الكاوية، فأتعلم منك أن أومن بما تعلنين.
وهكذا بدأت باقتحام المسالك المظلمة مهملا مطالعة دواوين أحب الشعراء إلي، فعلا الغبار كل كتاب كنت أجالسه من قبل كأستاذ أتلقن الحقيقة عنه، وكثيرا ما أخذتني سورة الغضب فدست على هذه الكتب بقدمي كأنني أنتقم من مؤلفيها فأقول لهم: أيها التائهون في الأحلام، إنكم لا تعلمون الناس غير الألم. إذا كنتم عرفتم الحقيقة فما أنتم إلا منمقو عبارات مخادعون، وإذا كنتم جهلتموها فما أنتم إلا بلهاء ... وفي الحالين أنتم كاذبون لأنكم أوجدتم من قلب الإنسان أساطير ضلال وأوهام. مهلا! إنني سأدفع بكل ما كتبتم إلى ألسنة اللهيب.
وما كنت أجد من منجد في ثورتي غير دموعي، فأتيقن وأنا أسكبها أن الحقيقة التي لا حقيقة سواها إنما هي الأوجاع والآلام؛ فأهتف قائلا: أجيبيني أيتها العبقريات المنقسمة على الخير والشر لأعرف إلى أية ناحية أتجه. أقيمي بينك حكما يفصل في خلافك فأهتدي من حكمه إلى المنهج السوي.
وتناولت توراة قديمة كانت على الخوان ففتحتها قائلا: أجبني أنت أيها الكتاب المقدس وامددني بأحكامك، فوقع نظري على الإصحاح التاسع من سفر الجامعة، فإذا فيه:
لأن هذا كله جعلته في قلبي، وامتحنت هذا كله. إن الصديقين والحكماء وأعمالهم في يد الله. الإنسان لا يعلم حبا ولا بغضا. الكل أمامهم، الكل على ما للكل ، حادثة واحدة للصديق والشرير، للصالح وللطاهر والنجس، للذابح وللذي لا يذبح، كالصالح الخاطئ، الحالف كالذي يخلف الحلف. هذا أشر كل ما عمل تحت الشمس. إن حادثة واحدة للجميع، وأيضا قلب بني البشر ملآن من الشر، والحماقة في قلبهم وهم أحياء، وبعد ذلك يذهبون إلى الأموات.
ما يقول الفلكيون عندما يتنبئون عن مرور مذنب في ساعة معينة، وهو الكوكب التائه في الأفلاك؟ ما يقول علماء الطبيعة عندما يرون حيوانات سابحة في قطرة ماء؟ أيعتقدون بأنهم هم مخترعو ما يتجلى لهم، وأن مرصدهم ومجهودهم يضعان للكون نواميسه؟
ما قال في نفسه - يا ترى - من وضع أول شرعة للناس عندما فتش عن حجر يضعه أساسا لبناء المجتمع، فهتف به هاتف من أعماق أحشائه يقول له: إن الحق للقوة؟ أمن أوجد العدل هو هذا المشرع يا ترى؟ وهل اخترع العار أول رجل اقتطف الثمر من أرض جاره وأخفاه تحت ردائه ملتفتا يمينا وشمالا وقد دب الرعب في قلبه؟ وما قولك في صاحب الحقل الذي سرقت أثماره فحرم نتاج جهوده؟ يلتقي السارق فلا يرفع عليه يدا، بل يشمله بعفوه ويقول له: إليك بما تريد من أثمار حقلي، فيرد الشر بالخير، ثم يرفع رأسه إلى السماء شاعرا بارتجاف في قلبه، وبدموع في عينيه، وبخشوع يطوي ركبتيه. أترى هذا الرجل أول من اخترع فضيلة المعروف؟
يا الله! لقد سمعت أذناي امرأة تكلمني بالحب ثم تخونني، وسمعت أيضا رجلا يكلمني عن الصداقة وهو يشير إلي بالانغماس في حمأة الدنس، ورأت عيناي امرأة تستخرط في البكاء ثم تطمع في مؤاساتي بعضلات ساقها، وهذه التوراة التي تحمل اسم الله ترد على سؤالي قائلة: «من يدري؟ وأية أهمية لكل هذه الأمور؟»
وسارعت إلى غرفتي المفتوحة أنظر إلى الفضاء الفسيح الباهت في وجومه صارخا: أصحيح أن العدم وراءك؟ أجب أيها الفضاء، أفليس فيك شيء سوى الأوهام تدفع بها إلى صدري وقد مددت إليك ذراعي؟
وكان الصمت العميق يسود جميع ما تطل نافذتي عليه.
ومر طير بجناحيه السوداوين ذاهبا في الهواء بصراخ يشبه الأنين ، فاتبعته بعيني وهو يمرق كالسهم إلى الأفق البعيد، ثم مرت فتاة صغيرة في الشارع وهي تغني.
الفصل الثامن
ومع هذا فقد أبت نفسي أن تستسلم لحياة اللهو والاستهتار؛ إذ كنت أتمثلها حالكة مفجعة، فقررت أن أحاول اجتنابها، وهكذا اقتحمت كثيرا من الآلام، وساورتني مرهقات الأحلام. ولو لم يكن غير حرارة الشباب ما يحول دون شفائي لكفتني أوجاعا وجهادا، فقد كنت أنى توجهت بلا عمل يشغل نفسي لا أفكر إلا في النساء، وإذا نظرت إلى إحداهن شعرت بهزة أنتفض لها انتفاضا، ولكم أفقت من نومي وجسدي يتصبب عرقا، فأترامى على جدران غرفتي بشهيق مختنق يطلب الهواء!
لقد كان من خير ما أسعدت به، وقلما يسعد الشبان بمثله، أنني أسلمت عفتي للحب، غير أن هذا الحظ قضى علي بأن أشرك طوال حياتي كل شهواتي بعاطفة الغرام، وذلك ما كان يدفع بي إلى الهلاك، فكنت وقد تسلط علي التفكير المستمر بالمرأة لا أملك خيالي من الجموح ليلا ونهارا في مآزق الحب الضلول، وفي مهاوي خيانة النساء.
امتنع علي أن أتصور إمكان الوصال بلا حب، فكنت لا أرعوي عن التفكير في المرأة قاطعا الرجاء من وجود الحب الصحيح، وذهبت الآلام في نفسي مذهبا أورثني شيئا من الخبل، فكنت أشتهي تارة أن أعذب جسدي أسوة بالرهبان لأميت شهواتي، وتارة أريد أن أندفع إلى الشارع أو الحقول أو أي مكان آخر لأنطرح على قدمي أول امرأة أصادفها مقسما لها أنني أحبها حبا أبديا.
والله يعلم كم حاولت أن أسلو لأنال الشفاء، فكان أول ما لجأت إليه انعزالي عن العالم جريا مع نفوري من مجتمع رأيت جميع الناس فيه يشبهون عشيقي رزيلة وختلا، فرجعت إلى ما كنت أهملت من دروسي، فتوغلت في مجاهل التاريخ، واستغرقت مع الشعراء الأقدمين، كما عدت أيضا إلى درس التشريح.
وكان يقطن الدور الرابع من مسكني شيخ ألماني واسع الاطلاع، فألجأته بالرغم من محبته للوحدة إلى تدريسي اللغة الألمانية، فبدأ عمله بكل جد وإخلاص، ولكنه ما لبث أن اصطدم بفكري المشتت، فكان - وأنا أجلس إليه تحت نور مصباحه الضئيل - يضع كفيه على كتابه ويشخص بي متجلدا مندهشا، وأنا سابح في أحلامي لا أشعر لا بصبره ولا بإشفاقه على حالي، وأخيرا قلت له: أنت أطيب الناس قلبا، ولكنني أرى العبث فيما تحاول؛ دعني لما قدر لي، فما أستطيع أنا ولا تستطيع أنت تبديل هذا المقدور.
وما أدري أأدرك الرجل ما أعني أم فاته ما ألمح عنه، غير أنه صافحني بحرارة، ولم يعد يذكر لي اللغة الألمانية ودرسها.
وبدأت أشعر أن العزلة لن تسوقني إلى الشفاء، بل إلى الهلاك، فتحولت عنها إلى طريق أخرى، وهجرت المدينة إلى الحقول شاغلا نفسي بالصيد، متوغلا في الغابات أقطعها خببا على ظهر جوادي، ومارست المبارزة بالسيف مجهدا نفسي حتى العياء، فما كنت أعود المساء إلى مسكني إلا لأنطرح على فراشي وروائح البارود والإصطبل تنبعث من أثوابي، فأستر وجهي بلحافي هاتفا: إليك عني، أيها الشبح ... أفما أستريح منك ليلة على الأقل؟
وما كانت جميع هذه المحاولات لتجديني نفعا؛ لأن العزلة أسلمتني إلى الطبيعة، فقذفتني الطبيعة إلى الحب.
وعندما كنت أرتاد قاعات التشريح، كنت أرى نفسي محاطا بالجثث، فأمسح يدي بمئزري الدامي فيعلو وجهي الاصفرار، وأشعر بأنني أختنق من الروائح الكريهة المنبعثة من الأشلاء الفاسدة، فكنت أعرض عن النظر إليها لأتمثل أمامي الحقول الخضراء تموج سنابلها، والمروج يفوح عبيرها في سكون الغسق، فأقول في نفسي: لن أجد في العلم سلوتي، فإنني باستغراقي في هذه الطبيعة التي لا حياة فيها سأموت كمن أنقذ من لجة البحر فلف بجلد حيوان سلخ حديثا لاستعادة الحرارة المفقودة. لقد قضي علي بألا أشفى، فحسبي أن أموت هنالك في الحقول تحت أشعة الكوكب المنير.
وكنت أنطلق على صهوة جوادي قاصدا متنزهات سفر وشافيل، فأترجل هنالك لأنطرح على مرج نضير، أو لأتوه في واد مقفر، فما كنت أسمع من الأدواح والمروج إلا صوتا واحدا يقول لي: ماذا أتيت تطلب هنا؟ أنا نرتدي الحلل الخضراء، وما الخضرة إلا رمز الآمال.
فكنت عندئذ أفزع إلى المدينة لأتوه في أزقتها المظلمة ، فأتطلع إلى بصيص الأنوار من نوافذ المساكن المقفلة على أسرار الأسر وخفاياها، ثم أسرح الطرف على العربات تلوح وتختفي، وعلى المارة تزدحم وتتبدد، فأراني بين كل هذا وحيدا شريدا أشهد الدخان يتصاعد حزينا من السطوح، وأشعر بالآلام تجول في هذه الأزقة الملتوية حيث يتراكض الناس وقد كللهم عرق الجهود، ويتلامس الألوف دون أن يعرف أحدهم الآخر. فما السبيل العام إلا مزلج تتعارف فيه الأجسام، وتتناكر عليه الأرواح، هنالك لا تمد للغريب يد إلا يد بنات المواخير.
إن ما تهتف به المدن إنما هو قولها: هيا إلى الفساد ... هيا إلى الفواحش، فما يسكن الآلام سواها.
ذلك ما تقوله المدن، وما يقرؤه المارة مكتوبا بالفحم على جدرانها، وبالأوحال على أرصفتها، وبالدم المتجمد في عروق الأوجه الشاحبة.
وكنت أجلس أحيانا على مقعد منفرد في قاعات المراقص، فأنظر إلى النساء يتمايلن بأثوابهن الحمراء والزرقاء والبيضاء، وقد عرين المعاصم وضفرن الشعور كأنهن الحور يسكرهن النور في أجواء التناسق والجمال، فكنت أقول في نفسي: ما أروع هذه الزهرات تقطف وتستنشق! وما ستكون كلمة هذه الأقحوانات الأخيرة إذا ما نثرت وريقاتها واحدة واحدة لتستنطقها سرها. إنها لتقول لك: قليلا ثم قليلا، ثم لا أحبك حتى ولو قليلا.
تلك هي حقيقة العالم، تلك هي نهاية ابتساماتك، أيتها الأزهار.
على هذا الشفير المروع تتمايلن بأوشحتكن المزيفة بالأزهار، أيتها الراقصات، وعلى هذه الحقيقة الشنعاء تتمايلن كألمها على رءوس أرجلكن الصغيرات.
وكان ديجنه لا يفتأ يقول لي: والله ما رأيت سواك من ينظر بجد إلى كل هذه الأمور. إنك ترفع عقيرتك شاكيا لفراغ الحق من شرابه، وإذا فرغ الحق ففي الأقبية من الشراب دنان، وإذا فرغت الدنان فالروابي مكسوة بالكروم تعتصر لتملأها. اتخذ لك من الكلام المعسول صنارة، وتقدم إلى نهر السلوان متصيدا فيه امرأة جميلة تلهو بها، حتى إذا أفلتت من يدك لا يفوتك اصطياد سواها. تمتع بالحب الذي تتوق إليه بكل جوارحك، ولا تضيع أيام شبابك، ولو كنت أنا مكانك لكنت اختطفت ملكة بدلا من التلهي بدرس التشريح . هذه هي النصائح التي كنت أسمعها في كل حين، وعندما كان يحين زمن الرقاد كنت أتلفع بردائي وقلبي يتفجر ألما، فأهرع إلى سريري لأجثو أمامه باكيا مصليا ضاربا على هذا القلب كما كان غاليله يضرب الأرض قائلا: ومع هذا فإنها تتحرك ...
الفصل التاسع
وكنت وصلت إلى أشد المهاوي ظلاما عندما دفعني اليأس وثورة الشباب إلى فعلة قررت اتجاه حياتي.
كنت كتبت إلى عشيقتي أنني لا أريد أن أراها بعد، فقمت بما عاهدت النفس عليه، غير أنني ما امتنعت من تمضية الليالي تحت نافذتها جالسا على مقعد أمام بابها؛ لأراها تلوح لي كالخيال من حين إلى حين بين منفرجات ستائرها.
وبينما كنت في إحدى الليالي جالسا على عادتي وقد تملك الألم كل مشاعري، رأيت عاملا يسير على الطريق في ساعة متأخرة وهو يترنح سكرا، ويتمتم بكلمات لا تفهم تتخللها هتافات نشوة وحبور، ووقف هذا العامل بغتة وأطلق صوته مترنما، ثم عاود السير ورجلاه تقودانه تارة إلى يمين الطريق، وتارة إلى شمالها، حتى بلغ مقعدا مواجها لمقعدي أمام بيت آخر فانطرح عليه، وبعد أن تقلب برهة على ساعديه استغرق في الكرى.
وكان الشارع مقفرا، والهواء الجاف يهب على الأرض فيثير غبارها، وكان القمر في كبد السماء الصافية، يرسل أشعته الفضية على الرجل النائم، ولم يكن هنالك أحد سوانا، أنا والنائم الثمل، الذي لم يكن يشعر بوجودي وهو يتوسد الحجر القاسي كأنه على فراش وثير، وشعرت بأن حال هذا الرجل زادت في آلامي، فتمكنت من مبارحة مكاني الذي ما كنت لأبرحه، وما كنت لأستفيد من وجودي به لأطرق الباب، حتى ولو أغريت على ذلك بمملكة وتاج، وذهبت إلى قرب هذا الرجل النائم أتفرس فيه وأقول في نفسي: ما أعمق نومه! لا ريب أن رقاد هذا الرجل لا يقلقه شيء من الأحلام، ولعل زوجته تفتح في هذه الساعة لجار لها باب المسكن الوضيع.
إن أثواب هذا الإنسان عبارة عن أطمار بالية، وقد نحل خداه، وتجعدت يداه، فمن يكون هذا المخلوق إن لم يكن واحدا ممن لا يجدون كل يوم كسرة خبز يقتاتون بها، فهو إن نهض غدا من نومه ستعاوده جميع همومه، وتجتاحه جميع مصائبه، ولكنه هذا المساء كان يملك دريهمات مكنته من الدخول إلى حانة، فابتاع النسيان لأوجاعه. لقد ربح هذا الرجل في مدى أسبوع ما أناله ليلة رقاد هنيء، ولعله حرم بذلك أطفاله عشاء ليلتهم، ولكنه الآن بمأمن من آلامه، فلرفيقته أن تخدعه، ولصديقه أن يلج مسكنه الحقير كاللص، بل لي أنا إذا شئت أن أضرب على كتفه لأقول له: إن عدوا يهدد حياته، وإن النيران تلتهم مسكنه، فإنه لينقلب على جنبه الآخر ويعود مستغرقا في نومه.
وذهبت أذرع الشارع بخطوات واسعة قائلا: وأنا ... وأنا ... وأنا المحروم لذة النوم، وفي جيبي من المال ما يكفي لتنويم هذا الرجل سنة كاملة، يسودني الغرور بل الجنون؛ فأترفع عن دخول الحانات، وأتجاهل أن التعساء يدخلونها ليخرجوا بالسعادة من بين جدرانها.
يا الله! إن عناقيد من الكرمة تعصرها الأقدام كافية لتبديد أحلك الهموم، ولتقطيع الأشراك التي تمدها روح الشر على مسالكنا. إننا نعول كالنساء، ونتألم كالشهداء، فيخيل إلينا حين تساورنا المصائب أن العالم قد تهدم على رءوسنا، فننطرح منتحبين كما انطرح آدم أمام الباب الموصد يبكي النعيم المفقود، في حين أنه ليس علينا إلا أن نمد يدنا إلى الكأس لأطفال لهب أحشائنا، وشفاء أوسع جرح فتحته فيها الحياة. ما أحقر هذه الهموم التي تداوى برشفة من مثل هذا الدواء!
إننا لنعجب من أن العناية الإلهية لا ترسل جميع ملائكتها لتتنصت لابتهالاتنا، وما العناية بحاجة إلى إرسال طغمة أملاكها إلينا، فهي قد رأت أوجاعنا، وما خفيت عنها شهواتنا، وغرور روحنا الساقطة، وما يحيق بنا من غمرات الآلام، فاكتفت بأن تنبت ثمرة صغيرة سوداء تتدلى على جوانب طريقنا.
إذا كان هذا الرجل ينام ملء جفونه، فلماذا لا أنام أنا مثله ملء جفوني؟
لقد يكون مزاحمي متوسدا فراش خليلتي الآن، فيخرج منه عند الفجر، وتشيعه هي حتى الباب فينظران إلي وأنا أغط في نومي على هذا المقعد، فلا أنتبه لصوت قبلاتهما، وإذا ما ضرباني على كتفي؛ فإنني أنقلب على جنبي الآخر واستمر في الرقاد.
وتحكم المرح في فذهبت مفتشا عن حانة أستقر فيها، وكان نصف الليل مر وأقفلت أكثر الحانات، فثار ثائري وقلت في نفسي: لعلني لن أفوز حتى بهذه التعزية، فكنت أتراكض من باب دكان إلى باب دكان آخر هاتفا: أريد خمرا ... أريد خمرا ...
واهتديت أخيرا إلى حانة مفتوحة، فطلبت زجاجة خمر، وجلست أكرعها دفعة واحدة دون التفات إلى نوعها، وأتبعت الأولى بثانية وبثالثة، فكنت أقلب الكأس تلو الكأس مكرها، كمريض يتجرع دواء فرض عليه فرضا لإنقاذ حياته.
وما مضت برهة حتى شعرت بأبخرة هذا الشراب - الذي كان ولا شك مغشوشا - تتصاعد إلى رأسي، وتورثني السكر فجأة، فيتوالى على ذهني الصفاء والاضطراب، حتى فقدت قوة التفكير، فشخصت بأبصاري إلى ما فوق كأنني أودع شعوري بنفسي، وتراخى ساعدي على الخوان، فلم أستطع تحريكهما، وعندئذ لاحظت أنني لم أكن منفردا في الحانة؛ إذ رأيت في طرفها كتلة رجال تجلى القبح في وجوههم الشاحبة، وتعالت النبرات الشاذة في أصواتهم. وكنت أرى من أثوابهم أنهم ليسوا من العامة، ولا من متوسطي الحال، وكل ما فيهم يدل على أنهم من أحقر الطبقات، من الطبقة التي لا مكانة لها ولا ثروة، حتى ولا مهنة سوى مهنة البطالة الدنيئة، من الطبقة التي لا تنتمي إلى الفقراء ولا إلى الأغنياء، وقد انتمى إليها بؤس الفقر ورزيلة الغنى.
وكان بين أيدي هذه الجماعة ورق قذر للمسير، وكان الخلاف قائما بينهم، فيخنقون أصواتهم في مجادلاتهم، وبينهم فتاة غضة الصبا، بهية الطلعة ترتدي أثوابا نظيفة، وليس في مظهرها ما يشبه من حولها من الناس سوى صوت أبح يتعالى كأنه صوت مناد امتهن المناداة في الأسواق ستين سنة، وحدقت هذه الفتاة في وقد أدهشها ولا ريب وجودي في هذه الحانة وأنا مرتد ما أرتديه من أنيق الأثواب، وما لبثت أن تقدمت نحو مجلسي، وعندما رفعت الزجاجات الثلاث عن الخوان ورأتها فارغة افتر ثغرها عن در نضيد، فقبضت على يدها ورجوتها أن تجلس قربي، فجلست مسرورة، وطلبت أن يحضر الخادم لها العشاء.
وحدقت في الفتاة صامتا وعيناي مغرورقتان بالدموع، فسألتني عما يحزنني، وما كنت قادرا على إيراد الجواب، فهززت رأسي كأنني أريد أن أطلق القطرات الحائرات من مدامعي، فتساقطت على خدي، وأدركت الفتاة أنني أكتم أمرا مؤلما فما حاولت اكتشافه، بل أخرجت منديلها - وهي تتناول طعامها - لتمره على وجهي آنا فآنا.
وكان في هذه الصبية شيء لا يحدد إلا بأنه مزيج من أخشن الأشياء وألطفها، وقد تغلغل العطف في فحشائها، فوجمت حائرا في تقديرها، ولو أنها كانت التقت بي في شارع ومدت يدها إلي لتراجعت عنها مشمئزا، غير أنني وأنا في حالتي كنت أرى من الغرائب أن تتقدم نحوي فتاة ما رأيتها من قبل، فتجلس صامتة إلى خواني، وتتناول طعامها أمامي، ثم تجفف مدامعي بمنديلها؛ لذلك بت أمامها واجما ثائرا مخلوبا.
وسمعت صاحب الحانة يسائلها عما إذا كان لها معرفة بي، فأجابته إيجابا وطلبت ألا يتدخل أحد في أمري، وبعد قليل من الزمن انصرف اللاعبون، وأقفل صاحب الحانة أبوابها من الداخل، ثم انسحب إلى غرفته الخاصة، وهكذا بقيت لوحدي مع الفتاة.
وكانت هذه الحوادث، التي أثرتها بما فعلت وأنا مستسلم لليأس، قد مرت بسرعة توهمت معها أنني أشاهد حلما، فاضطربت أفكاري حتى حسبتني جننت، أو استولت علي قوة مجهولة.
وصحت بالفتاة فجأة: من أنت، وما تريدين مني؟ وأين عرفتني من قبل؟ من كلفك بمسح دموعي؟ أهذه واجبات مهنتك؟ وهل تظنين أنني أرضى بك؟ إنني لن أمسك بأطراف أناملي. ماذا تفعلين هنا؟ أجيبي، أمالا تطلبين؟ وبأي ثمن تبيعين إشفاقك؟
ونهضت طالبا الخروج، ولكنني شعرت بأن رجلي لا تقدران على حملي، وأن غشاوة أسدلت على عيني، ونفدت قواي فارتميت على مقعد مستطيل عثرت به.
أخذت الفتاة بيدي وقالت: أنت متألم ... لقد شربت كما يشرب الأطفال أمثالك، فما عرفت ماذا فعلت ... انتظر على هذا المقعد إلى أن تمر عربة ... قل لي عنوان أمك لأرسلك إليها.
ثم تضاحكت قائلة: اذهب إلى بيتك ما دمت قبيحة في نظرك ...
والتفت إليها وهي تتكلم، وما أعلم إذا كان السكر أراني ما رأيت، ولم أتبين إذا كان ضلالي سبق هداي أم هداي سبق الضلال، فرأيت في وجهها صورة لوجه خليلتي، وعند ذلك شعرت بصقيع الجليد في أعضائي.
إن الإنسان ليشعر أحيانا بارتعاش في شعر رأسه، ويقول السذج: إن ذلك دليل على مرور ملاك الموت، وما كان الموت ما مر على رأسي بل «داء العصر»، وما كانت هذه الفتاة إلا ذلك الداء بعينه تجسم فيها شاحبا هازئا بنبرات الصوت الأبح، وجاء يجالسني في زاوية من هذه الحانة.
الفصل العاشر
وما كدت ألحظ مشابهة هذه المرأة لعشيقتي حتى اجتاحت دماغي فكرة فظيعة لم أجد بدا من تنفيذها.
وكانت خليلتي في أوائل عهد غرامنا تأتي خلسة إلى غرفتي للاجتماع بي، فكنت أملأ هذه الغرفة أزهارا، وأضرم النار في الموقد، وأعد العشاء، ولا أغفل عن تزيين السرير وإعداده للحبيبة المنتظرة.
ولكم شخصت إلى هذه الحبيبة الساعات الطوال وهي جالسة على المقعد أمام المرآة، وكلانا صامت يناجي الآخر بخفقان فؤاده! فكنت أراها كملكة من عالم الجن تحول إلى جنة هذا المسكن الصغير حيث أرقت كثيرا من الدموع، ولكم تألقت بروعة جمالها بين هذه الجدران الأربعة الحزينة، والرياش القديم، وقد تبعثرت حولها كتبي وأثوابي!
وكان تذكار هذه الليالي لا يفارقني لحظة منذ فقدت بهجتها، فكانت كتبي وجدراني تناجيني بهذه الذكرى وأنا مسهد مفجوع؛ فتزهقني حتى أذهب هاربا منها إلى الشارع نافرا من سريري الذي لم أكن ألجأ إليه إلا لأذرف عليه الدموع.
اقتدت هذه الصبية إلى غرفتي، وأجلستها على المقعد محولا ظهرها نحوي، وأبقيتها هناك وهي نصف عارية، ثم شرعت أرتب كل ما حولي على النمط الذي كنت اخترته في أعمق الليالي ارتساما في خيالي.
إن لذكريات السعادة صورة واحدة تتغلب على سائر صورها، فهي خيال يوم أو ساعة فاقت سواها في جمال المؤثرات، فتبقى كأنها الأنموذج المستقر، ولكل إنسان في حياته ساعة وقف فيها صارخا: اضرب سهما مذهبا في عجلتك الدائرة، أيها الزمان.
وبعد أن تم ترتيب الغرفة طبقا لما ذكرت، أوقدت نارا، وجلست القرفصاء أكرع كأس يأسي حتى الثمالة، وأسبر صميم فؤادي لأشعر بتململه وانقباضه، وكنت أستعيد في ذهني أنشودة تيرولية كانت تتغنى خليلتي بها وهي:
كنت في روض دلالي
زهرة فيها ضرام
أحرق العشق جمالي
هكذا يقضي الغرام
وكانت نبرات هذه الأنشودة ترن في أذني كأنها صرخة تتعالى في قفار قلبي، فأناجي نفسي قائلا: هذه هي سعادة الإنسان. هذه هي جنيتي أصبحت صبية من بنات المواخير، وهل خليلتي أفضل منها؟ هذه ثمالة الكوثر الذي نحتسيه، هذه جيفة الغرام ...
وأطلقت الفتاة الشقية صوتها بالإنشاد إذ سمعتني أتمتم بإنشادي، فعلت وجهي صفرة الموت؛ إذ سمعت عواطفي نفسها تنشد بهذا الصوت الأجش المتعالي من فم فتاة تشبه من أحببت، فكأنه الفحشاء تغرغر في صدر نورت فيه أزاهر الشباب ... وخيل إلي أن صوت خليلتي قد أصبح منذ سقوطها شبيها بهذا الصوت، وخطر ببالي ما يحكى عن «فوست» من أنه رأى فارة حمراء تنشب من فم ساحرة عارية كان يخاصرها في ليلة راقصة، فصرخت بالفتاة: اسكتي، وهرعت إليها، فترامت ضاحكة على سريري، فانطرحت بدوري إلى جانبها، وإذا بي أرى جسدي كتمثال ممدد على لوح مدفن.
أي رجال هذا الزمان المتسارعين وراء ملذاتكم في المراقص والمسارح، إنكم ستعودون في آخر الليل إلى مساكنكم لتقرءوا قبل استسلامكم للوسن أشياء من كفر الشيخ فولتير، أو مداعبات كوريه، أو خطب مجلسنا النيابي عن الاقتصاد السياسي، فأجيزوا لي أن أوجه إليكم هذا الرجاء، ولكل منكم ما يكسح به عن نفسه رائحة هذه النبتة السامية التي زرعها العقل في قلب حضارتنا، إذا ما وقع هذا الكتاب الوضيع صدفة بين أيديكم، فلا توجهوا إليه بسمة الاحتقار، ولا ترفعوا أكتافكم مستهزئين. لا تقولوا وأنتم تخالون أنفسكم في حرز أمين: إن واضع هذه الفصول مصاب بداء الأوهام، ولا تظنوا أن العقل أو ما تعتبرونه عقلا هو خير ما في الإنسان من قوى، وإن حقائق الحياة قائمة على حركة المضاربات المالية، وورق الميسر، ولذيذ الخمر، وصحة الجسم ، وعدم المبالاة بالسوى، وعلى فراش وثير تمددون عليه عضلات توترت بالشهوات تحت جلد ناعم يعبق بالعطور.
لا تغتروا، فقد تهب يوما عاصفة هوجاء على حياتكم الهادئة، ولقد ترسل العناية الإلهية صرصرا على الأدواح الباسقة التي تسقونها من مياه النسيان الراكدة. لستم بمأمن من عثرات الآمال؛ فإن في أعماق عيونكم دموعا، أيها المتحصنون بالجمود! وأنا أقول لكم: إنكم معرضون لخيانة خليلاتكم، وما تهتمون لهذه الخيانة اهتمامكم لموت أحد جيادكم، ولكن اذكروا أن المضاربات المالية معرضة للخسارة، وأن أقوى ورقات الميسر قد تصطدم بأقوى منها، وإذا كنتم من غير فئة المضاربين، فلا تنسوا أن سعادتكم وذهبكم وفضتكم مودعة عند صيرفي قد ينزل به الإفلاس، أو ممثلة بقراطيس مالية قد تسقط قيمها.
اذكروا أنكم قد تعشقون شيئا بالرغم من صقيع عواطفكم، ولقد ينقطع عرق في أعماق أحشائكم فتصرخون صراخا يشبه أنين المتألمين. لقد يجيء يوم تشردون فيه إلى الأزقة الموحلة عندما تطلبون ملذاتكم لتستنزفوا فيها قواكم البائرة، فلا تجدون من المال ما يبلغكم إياها، فتذهبون بنظراتكم الحائرة ووجوهكم الشاحبة المخددة لتنطرحوا على مقعد منفرد تحت ظلام الليل.
أيها الأنانيون المنتصبون كتماثيل من مرمر، المتفردون بإخضاع كل شيء لتفكيركم، أنتم المباهون بترفعكم عن اليأس، وبعصمتكم في حساب الأرقام، إذا ما سطا اليأس عليكم، وأخطأتم في حسابكم يوم يزعزعكم الإفلاس، تذكروا «أبلار» وقد اختطف القضاء منه «هلويز»، التي بلغ هيامه بها ما لا يبلغ معشاره حبكم لجيادكم ودنانيركم وخليلاتكم، فإن هذا العاشق قد فقد بافتراقه عمن يعبد ما لا يمكن لكم أن تفقدوه أنتم، حتى وما لا يمكن أن يفقده أميركم إبليس لو عاد إلى الجنة ليسقط منها مرة أخرى. ذلك لأن أبلار قد أحب هلويز حبا لا تقرءونه في أية جريدة تتصفحونها، ولا يلوح حتى كخيال لنسائكم وبناتكم، لا في كتبنا، ولا على مسارحنا؛ ذلك لأن هذا العاشق أمضى نصف حياته يلقي قبلاته على جبين الحبيبة الطاهر وهو يلقنها المزامير والأناشيد؛ ذلك لأنه لم يكن له سواها على الأرض.
تذكروا هذا المبتلى، واعلموا أن الله قد أرسل إلى قلبه العزاء والسلوان، فإذا تذكرتم هذا العاشق والمحنة التي حلت به، فإن كفر فولتير ودعابات كوريه تفقد معناها في نظركم، فتعلمون أن العقل يمكنه أن يشفي الإنسان من أوهامه، ولكنه أعجز من أن يشفيه من آلامه.
إنكم لتدركون إذ ذاك أن الله قد أوجد الحكمة مدبرة لشئونكم كراهبة محبة تحنو على أسرة الأعلاء منكم. إنكم لتدركون بأن قلب الإنسان لم يقل كلمته الفصل عندما أعلن أنه لا يؤمن بشيء؛ لأنه لا يرى شيئا ...
إنكم في ذلك الحين لتجيلون أنظاركم على ما حولكم مفتشين عما تتوسمون الأمل فيه، ولتذهبون إلى أبواب المعابد محاولين فتحتها، فتجدونها مقفلة في وجوهكم، فيخطر لكم أن تلجئوا إلى الرهبنة التي لا يخرج المنذرون منها إلا إلى قبورهم، ولكن الأقدار تسخر بكم، وتقذف إليكم بزجاجة خمر وامرأة عاهرة، فإذا ما كرعتم الخمر، وقدتم العاهرة إلى فراشكم، فتبينوا مصيركم، واعلموا إلى أية هاوية تنحدرون.
الجزء الثاني
الفصل الأول
وعندما صحوت في اليوم التالي رأيتني بلغت من الانحطاط والدناءة ما جعلني كارها لنفسي، فاستهوتني فجأة فكرة مروعة دفعتني من فراشي فهببت وأنا أصيح بالمخلوقة التي قضيت معها ليلي قائلا لها: ارتدي أثوابك واخرجي حالا من هذا المكان.
وجلست أحدق بالجدران حتى بصرت بأسلحتي المعلقة على الزاوية.
عندما تترامى فكرة متألمة إلى أحضان الفناء، فتقدم الروح على الكبائر تشعرها الحركة الآلية للتنفيذ بشيء من الرهبة يصطدم بالإرادة فيزعزعها، ومن يهاجم الانتحار يقبض الذعر على أنامله، وتتقلص عضلات يده عندما يحس بصقيع الحديد، وما أقدم إنسان نحو الموت إلا وأحس بإحجام الطبيعة عن مجاراته.
يصعب علي الآن إيضاح ما كنت أشعر به وأنا أنتظر فراغ الصبية من ارتداء أثوابها، وكل ما يمكن لبياني أن يؤديه، هو أنني كنت أسمع القاذف الناري يقول لي: عد إلى رشدك لإدراك ما أنت فاعل.
ولقد فكرت مرارا فيما كان سيقع لي لو أن الفتاة أسرعت بمغادرة الغرفة كما أمرتها. لا ريب في أنني كنت سأجد سكوني بعد ثورة الخجل التي ساورتني ، فإن الحزن شيء واليأس شيء آخر، ولكن الله قد جمع بينهما كيلا يتسلط أحدهما منفردا دون رفيقه على النفس المروعة؛ فقد كان يكفي أن تخلو غرفتي من هذه المرأة ليضعف يأسي ويقوي حزني بالندم، وللندامة ملاكها المانع الغفران عمن يقتلون النفوس، ولو جرت الحوادث على هذا الوجه لكنت وجدت الشفاء، وأوصدت بابي دون كل فاحشة بعد أن أبقت لي زيارة الفاحشة الأولى مثل هذا الخجل وهذا الاشمئزاز.
ولكن الحوادث اتخذت مجرى آخر.
كنت لم أزل جالسا أنتظر خروج الفتاة وفي نفسي مراجل من الكره والخوف والغضب. أما هي فبقيت منهمكة في ترتيب شعرها، وتنسيق طيات ثوبها، تبتسم لخيالها في المرآة. ومرت ربع ساعة وأنا أتبع شاردات أفكاري حتى نسيت وجود شخص آخر في غرفتي، وبدت من الفتاة حركة أشعرتني بوجودها، فانتبهت من غفلتي وزجرتها، فذعرت وقامت تطلب الباب وهي ترسل إلي قبلة الوداع من بعيد. وفي هذه اللحظة قرع جرس الباب الخارجي بشدة، فنهضت مسارعا إلى إخفاء الفتاة في غرفة داخلية ما كدت أدفع مزلاجها حتى دخل ديجنه ومعه رفيقان من شباب الجيرة.
إن بعض حوادث الحياة تشبه التيارات المندفعة في عباب البحر، فهي قضاء أو صدفة أو عناية إلهية، سمها ما شئت، ولكنها كائنة، وما ينفيها التعارض في معنى كلماتها. على أن جميع من يذكرون قيصر ونابوليون لا يفوتهم أن يصفوا كلا منهما برجل العناية الإلهية، فكأنهم يرون الأبطال دون سواهم من الناس يستحقون عناية السماء بهم، ولعل الآلهة في اعتقادهم كالثيران في حلبة الصراع لا يستهويها سوى الأوشحة الأرجوانية.
إن ما ينتج عن أحقر الحوادث في هذه الحياة، وما تبدل في مسالكنا أتفه الأمور لمعضلة تفتح أعمق المهاوي أمام المفكرين.
إن أفعالنا لشبيهة بالسهام الصغيرة التي نتلهى بتفويقها نحو الهدف حاسبين أنها ستتجه طوع اختيارنا ومهارتنا، ولكن لفحة من الهواء تهب على أحدها فجأة فتحوله عن مجراه، وترفعه لتدفع به إلى مجاهل الآفاق.
إننا نشعر بصدمة مروعة عندما يتضح أن كبرياءنا الواثقة من ذاتها ليست إلا شبحا يتجلى مهارة وعزما ...
إن القوة نفسها، وهي سيدة العالم التي يقبض الإنسان عليها وينتضيها سيفا يناضل به في معترك البقاء، إنما هي خاضعة ليد خفية تحولها عن الهدف الذي نرمي إليه، فإذا جهدنا منطلق كالسيف خلا أمامه مضربه فرمى بحامله إلى الحضيض.
هكذا بينما كنت أتجه بكل إرادتي إلى تطهير نفسي من أدران خطيئتي - ولعلني كنت أتجه أيضا إلى إنزال العقاب بنفسي - رأيتني ماثلا أمام تجربة خطرة قدر علي أن أسقط فيها.
وكان البشر يطفح من وجه ديجنه، فانطرح على المقعد وهو يتهكم لما ينم عليه وجهي من اضطراب ومن سهد، وما كنت في حالة أحتمل معها المزاح، فرجوته بلهجة جافة أن يعفيني من مزاحه، فما اهتم لقولي، بل تناول الموضوع الذي جاء من أجله، وما جاء إلا ليعلمني أن خليلتي لم تكتف باتخاذ عشيقين في آن واحد؛ إذ بلغ عشاقها الثلاثة، وذلك معناه أنها لم تعامل من خدعتني لأجله بأحسن مما عاملتني.
قال ديجنه: إن مزاحمك لم يتورع من نشر الخبر، وقد عرفت باريس كلها بخيانة الخليلة له أيضا. وما أدركت لأول وهلة معنى هذا القول حتى استعدته الحكاية ثلاث مرات، وإذ فهمتها صعقت ولم أجد سوى الضحك ألجأ إليه حين أيقنت أن من أحببت امرأة ساقطة، ولكنني وجمت حين قالت لي نفسي إنني أحببتها، بل لم أزل أحبها إلى الآن.
وأيد رفيقا ديجنه ما قاله هو، فعرفت منهما أن خليلتي كانت في منزلها، وقد التقى العاشقان فيه فكان عراك شديد اشتهر أمره، حتى اضطرت المرأة إلى مغادرة باريس هربا من الفضيحة والعار.
وما كان ليخفى علي ما يصيبني من كل هذه المهازل؛ إذ أصبحت مبارزتي من أجل هذه المرأة، وتولهي بها، وجميع ما فعلته من أجلها سخرية وهزؤا، وما كان ما توصف به من أحط الصفات، وما يفترض من عهرها فوق ما اشتهر منه إلا ليشعراني بأنني لم أكن إلا واحدا من عديد من تناولهم خداع هذه المرأة الساقطة.
ولاحظ الشابان امتعاضي فوقفا عن التمادي في السخرية، غير أن ديجنه لم يقف؛ إذ كان مصمما على معاملتي معاملة الطبيب يعالج مريضه بقسوة لا بد من الأخذ بها، وكان يرى لنفسه هذا الحق - وهو الصديق الحميم الذي محضني الود، وبادلني الخدمات العديدة - وقد اعتقد بحسن نيته، فما زاده اضطرابي إلا إيغالا في الشدة ليقذف بي إلى السبيل الذي يريده لي، ولكنه ما لبث أن شعر بنفاد صبري فاختار السكوت، وما كان سكوته هذا إلا ليزيد من ثورتي، فبدأت بدوري أتحرش بزائري مستفهما وأنا أتمشى ذهابا وإيابا في الغرفة، متوقعا سماع التفاصيل عن هذه الحوادث التي صعقت لها، وكنت أتكلف الابتسام ثم أتظاهر بالسكون، فما نجحت محاولاتي؛ لأن ديجنه تمنع بالصمت فجأة بعد أن ذهب بثرثرته إلى مدى بعيد، فكان ينظر إلي بهدوء وأنا أذرع غرفتي بخطواتي كالثعلب أطبق قفصه عليه.
وشعرت بعجزي عن بيان ما كان يدور في خلدي: أصحيح أن تلك المرأة التي تربعت صنما معبودا في صميم فؤادي، والتي ذقت من هجرها الأمرين، تلك المرأة التي حصرت فيها كل هيامي، وأردت أن أبكيها ما دمت حيا، قد استحالت ما بين ليلة وضحاها فاحشة تلوك اسمها ألسنة الشبان، مهتوكة تعلن بنفسها فضائحها على ملأ الأشهاد؟
وكنت وأنا أستعرض هذه الأمور بذهني أحس كأن كاويا يطبع على كتفي علامة العار، وكلما استغرقت في التفكير كانت تتكاثف الظلمات حولي، فأدير رأسي عن جلسائي وأنا شاعر بابتساماتهم ولحاظهم تنصب علي لاستجلاء سريرتي.
وكان ديجنه يتبع حركاتي وسكناتي وهو لا يجهل إلى أين يتجه بما يفعل؛ لأنه كان يعرفني ويعرف أنني أقدم على كل أمر، وأتجاوز كل حد بما في من اندفاع، إلا حدا واحدا، وهو الشرف؛ لذلك كان يقصد أن يصم الآمي بالعار مستعينا على عواطفي بتفكيري.
ولما رأى أنني وصلت إلى الحد الذي يريد صوب آخر سهم من جعبته إلي فقال: أفما أعجبتك هذه القصة؟ إليك الآن بآخر فصل منها، وهو مسك الختام: فاعلم، يا عزيزي أوكتاف، أن العراك بين عاشقي خليلتك القديمة إنما وقع في ليلة مقمرة، وبينما كان كل منهما يهدد الآخر بقطع عنقه، لاح في الشارع خيال يتمشى على مهل، وقد عرف أن هذا الشبح لم يكن سواك أنت ...
وصحت به: ومن قال هذا؟ من رآني في الشارع؟ أنا ...؟
فقال: هي خليلتك بعينها التي رأتك ... وهي نفسها أخبرت بذلك وهي تضحك وتؤكد للناس أنك لم تزل هائما بها، وتقضي الليل كالعسس أمام بابها. أفلا يكفيك أن تعلم أنها تعلن هذه الأمور على ملأ الأشهاد؟
ما تمكنت يوما أن أكذب في حياتي، وفي كل مرة حاولت أن أموه الحقيقة كان يفضحني وجهي، ولكنني هذه المرة شعرت بتسلط الخجل علي من إعلان ضعفي، فقلت في نفسي: «ما كنت لأقف أمام بابها لو أنني عرفت أنها تدهورت إلى هذا الحد.» واجتهدت أن أقنع ذاتي بأنه لم يكن بإمكان أحد أن يراني ويعرفني، فحاولت إنكار الواقع، ولكن الاحمرار علا جبيني فاضحا أمري، وحدق ديجنه بي وهو يبتسم فصحت به: حذار، يا هذا؛ فإنك تتجاوز الحد.
وذهبت في الغرفة أذرعها طولا وعرضا كمن فقد صوابه، وحاولت أن أضحك فعصاني الضحك، وأخيرا وجدت نفسي تجاه ستر مهتوك فقلت: وهل كنت أعلم أن هذه الشقية ...
فانقبضت شفتا ديجنه كأنه يصر على قوله: أفما كان يكفيك ما عرفت؟
وجمت وكان الدم - وقد انقبضت عليه عروقي ربع ساعة - يتصاعد إلى صدغي نابضا فيهما، فبدأت أكرر القول وأنا لا أعي: أبينما كنت في الشارع غارقا بدموعي، كان العراك قائما بين العاشقين؟ أفي تلك الليلة جرى هذا؟ وقد هزأت بي! لقد سخرت بي! هي؟
أما رأيت هذا في حلم يا ديجنه؟ أيمكن أن يكون مثل هذا صحيحا؟
وكنت وأنا أدفع بهذا الهذيان أشعر بالغضب يساورني حتى استولت علي هزة عنيفة اضطرتني إلى القعود ويداي ترتعشان.
وقال ديجنه: مالك ولهذه المهزلة تقابلها بالجد، يا أوكتاف؟ لقد أرهقتك هذه العزلة منذ ثلاثة أشهر، والأمر ظاهر، فأنت بحاجة إلى التسلية. تعال لتناول العشاء سوية، وغدا نذهب للتنزه في الضواحي.
وكان يقول هذه الكلمات بلهجة فعلت في نفسي ما لم تفعله أوجاعي؛ إذ شعرت بأنه يعاملني معاملة طفل عليل.
وبقيت ساكنا أحاول التغلب على ذاتي بمناجاتها قائلا: لقد خدعتني هذه المرأة فجاءت بعدها النصائح السيئة تعلل قلبي، وما وجدت لي ملجأ لا في العمل ولا في إرهاق قواي، فلم يبق لي وأنا في العشرين من ربيع الحياة ما يقيني التدهور في القنوط أو الفساد إلا ذخيرة آلامي المريعة أستعيذ بها، وقد جاءني الآن من يريد تحطيمها بين يدي. إنهم لا يوجهون الإهانة إلى حبي الآن، بل إلى يأسي. لقد أصبحت سخرية، وتلك المرأة نفسها تهزأ بي ... وأنا أبكي.
وما كنت لأصدق بوقوع مثل هذه الفرية، فكان الماضي بأسره يجتاح تذكاري؛ فأرى ليالي غرامنا القديم تمر أمامي كأشباح تتوالى مترامية على شفير جرف لا قرار له غير صخور مظلمة كالعدم.
وكنت أسمع قهقهة تتجاوب أصداؤها فوق هذه الهاوية السحيقة تهتف هازئة: هذا هو جزاؤك.
لو جاء هؤلاء الصحاب فقالوا: إن الناس يهزءون بك لكنت أجيبهم: مالي وللناس؟ ولكنهم جاءوا يقولون: إن خليلتك لا زمام لها ولا عهد.
إذن لقد اشتهرت الفضيحة، وثبتت بشهادتين ما كان يمكن لمؤدييها أن يعلنا وجودي على ما كنت عليه دون أن يحدثا بما كانا هما عليه أيضا، فبماذا أكذب الناس؟ وما بوسعي أن أقول لهم؟ وأين أجد لي ملجأ وقد أصبح قلبي - وهو مركز حياتي - طللا متهدما؟ وهل لي ما أقول إذا كانت المرأة التي ما كنت لأتردد في اقتحام أية سخرية وأية ملامة من أجلها، واحتمال جبال المصائب تنهار علي في سبيلها: هذه المرأة التي أحببتها فأحبت سواي، فما طالبتها بالنور المنطفئ، بل قنعت بأن أقف باكيا أمام بابها، لا لشيء إلا لألمح فيها وأنا بعيد عنها شبابي المضيع وقد استحال إلى أطياف تذكار، ولأحفر اسمها دون سواه على لوح قبر دفنت فيه جميع آمالي ...؟ هل لي ما أقول إذا كانت هذه المرأة هي نفسها أول من أشار إلي ببنانه، قاضيا علي بالتشهير أمام من لا عمل لهم إلا الاندفاع إلى الاستهزاء بمن يحتقرهم ...؟
أجل، هي نفسها من رمى بالإهانة إلي خارجة من شفتين طالما التصقتا بشفتي، ومن جسد كان روحا لحياتي، بل دما من دمي، ولحما من لحمي، وهل إهانة أفظع من هذه الإهانة؟ وما هي إلا قهقهة لا رحمة فيها تصفع الجبين الوجيع برشاش نفثاتها ...
وكنت كلما استغرقت في آلامي يحتدم غضبي، وتضطرم ثورتي، وما أدري أيصح أن أصف ما كنت أشعر به من الغضب، وكل ما أعرف عنه هو شعوري بعاطفة الانتقام، ولكن أنى لي أن أنتقم من امرأة؟ وأين السلاح الذي يمكن لرجل أن ينال به من امرأة لأشتريه بما عز وهان؟ أية ضربة أوجهها إليها وأنا أعزل حتى من السلاح الذي رشقتني بناره؟ وهل لي أن أنازلها بما نازلتني به من وقيعة واغتياب؟
ولاح لي فجأة وراء الباب الزجاجي خيال الفتاة التي كانت لم تزل تنتظر الإفراج عنها، وكنت نسيتها تماما، فنهضت من مقعدي وصحت بأصحابي: اسمعوا ... لقد أحببت ... أحببت كمجنون بل كأحمق؛ فاستحققت كل ما ترشقونني به من عار، غير أنني سأعرض عليكم الآن ما يثبت لكم أنني لم أعد ذلك الأحمق الذي تتوهمون.
ودفعت باب الغرفة الصغيرة برجلي، فانكشف مخبأ الفتاة وقد لجأت إلى زاوية لتتقي الأنظار.
وصحت بديجنه: ادخل، أنت يا من رآني مجنونا لهيامي بامرأة، أنت يا من لا تحب إلا بنات المواخير ... أفما ترى حكمتك تختال هنا في هذه الغرفة؟ سل هذه الحكمة، سل هذه الفتاة عما إذا كنت قضيت ليلتي كلها تحت نافذة تلك المرأة، فإنها أخبر من سواها ... ولكن ليس هذا كل ما أريد أن أقوله. إنك تدعوني إلى تناول العشاء معك هذا المساء، وإلى نزهة في الضواحي غدا، فأنا أقبل دعوتك، ولكنك لن تبارحني منذ الآن، لنمض النهار سوية، فأقدم لكم ما تشاءون من خمر وورق ميسر وأزهار. أنتم لي وأنا لكم؛ فلنتعاهد على هذا الشعار. لقد شئت أن أرفع في قلبي مزارا أحنط به غرامي، ولكنني سأنزل الآن هذا الغرام إلى قبر أدفنه فيه، ولو اضطررت إلى حفر هذا القبر في صميم فؤادي.
قلت هذا وارتميت على مقعد أنظر إليهم يدخلون الغرفة وأنا أشعر بالمسرة الرائعة التي يشعر بها كل إنسان يفرج كرب الاحتقار عن نفسه، وإذا ما خطر لإنسان أن يعجب لاتخاذي منهجا جديدا في حياتي، فما ذلك الإنسان بمطلع على خفايا القلب البشري، ولا هو يعلم أن للمرء أن يقف عشرين سنة على تردده، ولكن ليس له أن يتراجع إذا هو دفع بالخطوة الأولى على أي سبيل.
الفصل الثاني
ما أشبه من يصاب بالدوار بمن يتتلمذ للخلاعة والفحشاء! وما أوائل الدرس إلا رعب تمازجه لذة المشرف مرتجفا من برج مرتفع على الأعماق.
إذا كانت الرذيلة المستترة تنال من نبالة الخلق، وتحط من معزة النفس، فإن في الخلاعة الصريحة التي تقتحم الهواء الطلق شيئا من كبر الجسارة تراه متجليا في أشد الخلعاء فسادا. إن من يسير تحت جنح الليل ساترا أنفه بأردانه ليلطخ حياته متنكرا نافضا رياء نهاره خلسة، إنما هو كبعض الإيطاليين الذين يرسلون خناجرهم رشقا إلى ظهر من لا يجرءون على منازلته. إن في الزوايا المظلمة، وفي التلاقي تحت جنح الليل ما يشبه كمين الأشرار، في حين أنك ترى في مقتحم الدعارة الصاخبة شيئا من صفات المحاربين، فتحسب أنك تشاهد عراكا في موقعة، وتهتف بك الكبرياء قائلة: إن جميع الناس يفعلون هذا مستترين، فاهتك الستر أنت، وافعل علانية ما يرتكبونه في الخفاء.
وإذا ما ادرع الخليع هذه النجوى؛ فإن شعاع الشمس لينعكس ملتمعا على درعه.
قيل إن ديموكليس كان يحيا وفوق رأسه سيف معلق، وما حال الخلعاء إلا مثل حاله؛ فإن فوق كل منهم سيفا يقول: تقدم ... تقدم أبدا؛ فأنا معلق بخيط على وشك الانقطاع.
وما أرى ما أصور به حياة الخلعاء إلا وصف عجلة يقتعدها في أعياد المرافع رهط المقنعين، وهي تخترق الطرق مكشوفة يلعب الهواء بما عليها من مشاعل تنير الوجوه المكلسة، وعلى هذه العجلة فئة تغني، وفئة تضحك، وبين الفئتين تلوح مخلوقات كأنها نساء، وما هي في الواقع إلا بقايا نساء عليهن من الإنسانية آثار عافية. ويا لهن من نساء يلقين بين القبل كل أنواع الإهانات والتحقير، ولا يعرف المحتضن لهن هوية ولا اسما.
وكل هذا الرهط تسير به عجلة المساخر مقرقعة تنيرها مشاعل الغاز الملتهب، وقد تحكم السكر في الرءوس فجمد فيها كل تفكير. ولقد يخيل إليك من حين إلى حين أن هنالك ما يشبه الاحتضان والتقبيل، وإذا تدحرج أحد من هذه العجلة فما يهتم أحد بأمره، وهل يهتم لشيء من يرى نفسه خارجا من عدم سائرا إلى عدم؟ على هذه الوتيرة تسير خيول العربة خببا، ويمر رهط المسافرين ...
إذا كان الدهش هو أول ما يشعر به المنخرط في سلك الخلعاء، فما يشعر به بعد ذلك إنما هو الاشمئزاز يقبض على القلب ليجره جرا إلى الإشفاق.
إن ميدان الخلاعة مجلى للقوة، أو بالأحرى مجال لاستنفاد الحياة، وذلك ما يجتذب الكثيرين من عشاق المجازفة، فيقدمون إلى هذا الميدان ليبذلوا نفوسهم مبددين ما فيهم من قوى، فهم كالفارس العنيد يمتطي فرسا جموحا، وينطلق غير شاعر بما يعلق من لحمه ومن دمه على أشجار الطريق، ولا بالشرر يتطاير من محاجر الذئاب تتبعه في الأرجاء المقفرة، ولا بالغربان تحوم ناعبة فوق رأسه.
لقد سردت الحوادث التي رمت بي إلى هذه الحياة، فعلي الآن أن أقص ما رأيت فيها:
لأول مرة رأيت فيها المجتمعات التي يدعونها مراقص مقنعة، كنت سمعت من يقول إن فيها دعارة القصور، وإن إحدى ملكات فرنسا تنكرت فيها بزي بائعة أزهار، ولكنني ما شهدت في هذه المراقص إلا بائعات أزهار متنكرات بزي خادمات الجنود. كنت أحسب أنني سأجد فيها الدعارة، فكذب الواقع حدسي، وما يمكن أن ندعو دعارة هبابا متساقطا من دخان، ولكما وصفعا وفتيات سكارى منطرحات كالأموات على ركام الكئوس المحطمة.
لأول مرة رأيت فيها فسق المائدة، كنت سمعت أحاديث الشراهة في الولائم، وبلغني اسم فيلسوف يوناني أقام دين الفطرة على لذة الحواس، فكنت أتوقع أن ألاقي في هذه الولائم شيئا من الاستغراق المنسي إذا امتنعت الأفراح الحقيقية فيها، فما وجدت إلا أقبح ما في الحياة، ما وجدت إلا ملالا يحاول أن يتمتع بالعيش، فكان هنالك قوم يسودهم الخلق الإنكليزي يتحدثون عن أعمالهم، ويجدون التسلية في هذا الحديث وهم يقدرون ملذاتهم على ما بذلوا من مال، وعلى هذه الوتيرة تدور عليهم رحى الحياة.
لأول مرة رأيت فيها بنات الهوى بعد أن كنت سمعت قصة «إسبازي» يحتضنها «السيبياد» وهو يتناقش مع «سقراط»، كنت أتوقع أن أرى انطلاقا وقحا فيه شيء من المرح وخفة الروح، كنت أتوقع أن أشاهد ما يغلي ويطفو كحباب الراح المعتقة، فما وجدت إلا شفاها متراخية، وعيونا جاحظة، وأنامل متشنجة.
لأول مرة رأيت فيها السيدات المتهتكات، كنت قرأت «بوكاس» و«باندللو» بعد أن طالعت «شكسبير»، فكنت أتخيل هؤلاء السيدات ملائكة جحيم يواجهن الحياة بالرشاقة والمرح، وكنت أرسم منهن أشكالا تنم عن الجنون في الخيال، وقوة الإبداع والقحة بعيون ساحرات تثير برشقة لحظ فاتر أحاديث شجون وغرام. كنت أحسبهن في الحياة تموجا واهتزازا كآلهات البحار، وأراهن مرنحات ثملات، أو منطرحات سكرا من خمرة الحب والهيام. هذا ما كنت أتصور وما كنت أتوقع أن أرى، فما رأيت إلا محررات رسائل وضاربات مواعيد، دأبهن إرسال الأكاذيب لرجل مجهول بعد رجل مجهول، وستر الدنايا بالرياء، وكلهن لا يرمين إلا إلى هدف واحد: الاستسلام والنسيان.
لأول مرة ارتدت فيها أندية الميسر، وكنت سمعت الأحاديث عن جداول الذهب والثروات المحققة بلحظة من الزمان، وعن سيد من قصر هنري الرابع ربح بورقة واحدة مئة ألف ريال - وهي قيمة ما كان يرتدي من ملابس - لم أجد في هذه الأندية إلا دكان أثواب يستأجر منه العمال المرتدون قميصا ليس لهم سواه ثوبا بعشرين درهما لتمضية سهرة واحدة، وما رأيت إلا جلاوزة يحرسون باب ناد فيه رهط الجائعين يقامرون مجازفين بطلقة عيار ناري على أدمغتهم مقابل رغيف ...
لأول مرة رأيت فيها مجتمعا للخاصة أو للعامة من ثلاثين ألف بغي حاملات الإجازات لبيع أعراضهن في باريس، وكنت سمعت بكل فيالق الفحشاء في كل زمان من عهد بابل إلى أيام روما وقد كتبت على أبوابها «اللذة»، لم أر لا في هذا الزمان ولا في الزمان المنصرم إلا كلمة «البغاء»، وما حفرت هذه الكلمة على الذهب المتوهج بشعاع الشمس، بل على الفضة التي تبدو لعينيك باهتة كأنها مغشاة بكدورة أنوار الليل.
لأول مرة رأيت فيها الشعب، كان ذلك في صبيحة المرفع «أربعاء الرماد» عند منحدر «كورتيل»، وكانت السماء قد أمطرت الأرض رذاذا منذ المساء فأصبحت الأزقة كأنها مزالق أوحال، وكانت العجلات الحاملة رهط المقنعين تمر متدافعة بلا انتظام بين المتفرجين على جانبي الطريق، وهم واقفون رجالا ونساء يعرضون أنواعا من القبح على الرصيفين، وكانت تلمع في محاجر هؤلاء الناس عيون أعارتها الخمر لونها فبدت فيها نقمة الوحوش الكاسرة. وما كانت صدمات العجلات تنال صدورهم لترجعهم قيد أنملة إلى الوراء، وكنت أنا واقفا على مقدم إحدى هذه العجلات المكشوفة، فكنت أرى من حين إلى حين أحد المتفرجين يتقدم نحونا من صفه وهو يتخطر بأسماله؛ ليوجه إلينا أفظع الشتائم، ثم يرمينا بحفنة من الدقيق ويعود أدراجه، وما طال سيرنا حتى بدأ الناس يرشقوننا بكتل من الأوحال، فما تراجعنا؛ بل داومنا التقدم نحو جزيرة الغرام وغابة «رومانفيل» موطن العناق والسرور، وسقط أحد أصحابنا عن مقعد العجلة إلى بلاط الشارع، فهرع الشعب إليه قاصدا تحطيم عظامه ... فترجلنا وأحطنا به لوقايته، وكان حامل النفير يتقدم العجلات ممتطيا جواده، فرشقه الشعب وقد فرغ ما لديه من الدقيق بحجر خدش كتفه.
وما كنت سمعت بمثل هذا من قبل، فبدأت أتعرف حالة العصر الذي نعيش فيه.
الفصل الثالث
وكان ديجنه قد أعد في بيته في الضاحية حفلة للشباب مستكملة من خمر وطعام ولعب وصيد ورقص وسباق. وكان غنى هذا الصديق مجملا بحب الضيافة والكرم، وله مكتبة مجهزة بأثمن الكتب، وكان إذا حادثك نم حديثه عن علم واسع، وأدب جم.
وحملت إلى هذه الحفلة كآبتي أغالبها فلا تغلب، وقد احترم ديجنه حزني إذ سكت أنا عن استفساره فلم يعاود الكرة علي.
وما كان يهتم ديجنه إلا لأمر واحد، وهو أن يراني ناسيا خليلتي، فكان يرضيه أن أتناول الطعام كسواي، وأرافق الأصحاب في ألعابهم وصيدهم.
إن في العالم أناسا مثل هذا الصديق يحاولون جهدهم أن يخدموا من يودون، فلا يترددون في أن يرشقوا وجهه بحجر إذا رأوا ذبابة تلسع خده ... فهم لا يفترون يمنعونه عن ارتكاب ما يعدونه خطأ، ولا يطيب لهم عيش إلى أن يتوصلوا إلى طبع هذا الصديق على غرارهم، فإذا هم ظفروا بغايتهم فركوا أيديهم ونفضوا أناملهم دون أن يخطر لهم ببال أن يتساءلوا ما إذا كان صديقهم قد خرج بفضلهم من مأزق ليقع في مأزق أشد حرجا وضيقا.
تلك هي واجبات الصداقة في نظر هذا النوع من الأصدقاء.
من مصائب الشبيبة أنها تتوهم الحياة قائمة على مثال الحوادث الأولى التي طرأت عليها. وهنالك نوع من أشقياء المجتمع تراهم على أهبة ليقولوا للفتى المصدوع: إنك على حق في اعتقادك بالشر، ونحن نعلم حقيقته.
ولقد سمعت رجالا وخط الشيب شعورهم يتكلمون عن نوع من علاقات الرجل بالمرأة يصفونه «بالعاطفة الجوالة»، فكانوا يتحدثون عن هذه العاطفة كأنها آلة حديثة اخترعها مهندس، فيصورون كيفية استعمالها، ويذكرون ما يجب أن يقول العاشق، وما عليه أن يجيب به، مقررين قواعد رسائل الغرام، وكيفية الركوع لاستعطاف المرأة المشتهاة. وهكذا كان هؤلاء الأفاضل ينظمون حركات الهجوم والدفاع.
وما كانت هذه الأصول الموضوعة إلا لتجعلني أقهقه ضحكا؛ لأنني ما تمكنت يوما أن أقول لامرأة أحتقرها: إنني أحبها، حتى ولو كان هذا المتعارف المعمول به مما تعرف المرأة نفسها زيفه. ما جثوت يوما أمام امرأة دون أن يجثو قلبي معي؛ لذلك ما عرفت حياتي هذا النوع من النساء المبتذلات، وإذا ما كنت وقعت لإحداهن فما كان ذلك إلا دون قصد مني، وعن جهل بحال المرأة التي أغوتني.
ليس من المستغرب لدي أن يهمل الإنسان نفسه، ولكن ما أستغربه هو أن يقدم على تدنيسها. ولقد يكون في هذا القول شيء من الكبرياء، ولكنني أربأ بذاتي أن أرفعها فوق موقعها، أو أن أحط بها إلى أدنى من مستواها. وليس أكره إلي من المرأة التي تهزأ بالحب ، ولمثل هذه المرأة أن تبادلني عاطفتي هذه؛ فإنني لن أنازعها هذا الحق.
إن مثيلات هذه المرأة لأحط من العاهرات. وقد تكذب العاهرة كما تكذب المرأة المحتقرة للحب، ولكن الأولى قد تحب، أما الثانية فلا تفقه للحب معنى.
أذكر امرأة تعلقت بي فكانت تقول للرجل الغني الذي تعايشه: لقد مللتك، وها أنا ذي ذاهبة إلى حبيبي.
إن مثل هذه المرأة لخير من النساء اللواتي لا يتقاضين عن أعراضهن ثمنا.
وقضيت فصل الصيف عند ديجنه؛ حيث بلغني أن خليلتي بارحت فرنسا، ومنذ ذلك اليوم الذي بلغني فيه هذا الخبر استولى علي خمول لم أجد لنفضه عني سبيلا.
وكنت في وسط هذا المجتمع الجديد أتطلع كالفرس الجموح إلى كل ما حولي.
وكان لديجنه خليلة على غاية من الجمال، وكنت أتمشى معه في إحدى الليالي فقلت له: إنني أقدر جمال عشيقته، وتعلقها به، وإخلاصها له، وأشعرته أنني أغبطه على هذه النعمة. فسكت على عادته وابتسم، وعندما دخلت إلى غرفتي لأرقد في المساء نفسه، سمعت طرقة على بابي، فأذنت بالدخول ظنا مني أن أحد الصحاب أخذه الأرق فلجأ إلي، وفتح الباب فرأيت امرأة تتقدم مترددة وقد امتقع لونها، وتعرى نصف جسدها، وبيدها طاقة أزهار قدمتها إلي، وبين الأزهار ورقة أخذتها فإذا عليها:
إلى أوكتاف من ديجنه، بشرط المعاملة بالمثل.
وما قرأت هذه الكلمات حتى أدركت ما يرمي إليه ديجنه من إهدائه إلي خليلته كما تهدى الجواري ... وما كان ديجنه على ما أعرف به من الصراحة ليفعل ما فعل تضليلا أو هزؤا، فهو لم يقدم على فعلته إلا ليلقنني درسا.
إن هذه المرأة كانت تحبه، وقد سمعني أثني عليها، فأراد أن يردعني عن التعلق بها في حالتي قبولي لها ورفضي.
فوجمت أتفرس في هذه المرأة ودموعها تنحدر على خديها ولا تجرؤ على مسحها؛ خشية أن أنتبه إلى بكائها، وما كنت لأعلم بماذا تهددها ديجنه حتى أطاعت؟ فقلت لها: لا بأس عليك؛ أيتها الآنسة؛ ارجعي من حيث أتيت.
فقالت: إذا أنا خرجت من غرفتك قبل بزوغ الفجر فإن ديجنه سيعيدني إلى باريس، وليس بوسعي أن أخالف أمره؛ فوالدتي فقيرة.
فأجبتها: إن فقرك يدفعك إلى تنفيذ أمر ديجنه إذا ما وافقت أنا عليه، ولقد يستهويني جمالك الرائع، ولكنك تبكين، وما تذرفين دموعك من أجلي، وأنا لا شأن لي في غير هذه الدموع. اذهبي وأنا كافل لك أن لا يرجعك ديجنه إلى باريس. •••
إذا كان التأمل صفة ثابتة من صفات العقل في أكثر الناس، فما هو عندي إلا كغريزة لا تتحكم إرادتي فيها، فإن التأمل يجتاحني كنوب عاطفية شديدة لا قبل لي بردها، فعندما خرجت هذه المرأة من غرفتي جلست وقد اعترتني نوبة التأمل، فإذا أنا أناجي نفسي قائلا: هذا قضاء الله فيك يا هذا ... لعل ديجنه كان على حق لاعتقاده بأنه إذا لم يرسل خليلته إليك لكنت تقع أسيرا في هواها.
أفما دققت في حسنها وجمالها فأدركت أنها آية في الخلق، وما تجود الطبيعة بمثلها إلا نادرا؟ ومع ذلك فإن الرجل الذي يريد أن يشفيك من دائك لم يجد وسيلة أجدى عليك من إلصاق شفتيك بشفتيها؛ ليمحو آثار الحب من قلبك.
ولكم رأى هذه الفتاة رجل قبلك فما استهدفوا للخطر الذي تراميت أنت عليه!
وهذا ديجنه تعبد جمالها، ولكنه لم يؤخذ به، فهل يحيا هذا الرجل بلا قلب؟ إن لهذا الرجل قلبا، ولكنه يختلف عن قلبك شعورا؛ لأنه لا يعتقد في شيء، ولا يهتم بأي أمر كان، ولكنه إذا أصيب بلسعة في رجله فإنه يرتعش خوفا، وهو المعتقد بانحصار الحياة في جسده، فإذا ما فقده فقد الكون بأسره. أيمكن للإنسان أن يحيا على هذه الوتيرة، فيجلد روحه بالسياط كما يجلد المتعبدون أجسادهم!
افتكر يا هذا واعتبر؛ إنك لترى رجلا يضم بين ذراعيه أجمل امرأة وهو مشتعل بحرارة الشباب، يعلن لهذه المرأة إعجابه بها، وتعلن هي حبها له، فيجيئه يوما صديق يثق به ويقول له: إن هذه المرأة مبتذلة، فيزول كل إعجاب وحب من قلبه، ولو أن هذا الصديق قال له: إن هذه المرأة جانية لما فعل هذا الوصف في قلبه ما فعلته كلمة «مبتذلة».
فما هي قوة هذه الكلمة يا ترى؟ إنها ولا ريب تحمل العار، وتنزل العقاب العادل بالمرأة التي استحقتها، ولكنها ليست إلا كلمة! وهل للكلمة أن تقتل جسدا؟
ولكنك قد تكون عاشقا لهذا الجسد، فلا تجد أمامك إلا من يقول لك: اترع الكأس واذهب في سبيلك، فإن للجسد الذي تحترق من أجله ثمنا معينا، ولكن ديجنه يحب خليلته، فهو لا يضن عليها بشيء، فهل لهذا الرجل حب خاص به دون سواه؟ لا، إن هذا الرجل لا يعرف الحب، ولا فرق عنده بين امرأة تستحقه وأخرى لا تستحقه؛ لأنه لا يحب أحدا.
وما الذي أبلغ ديجنه هذه الدركة من الشعور؟ فهل هو خلق بهذه العاهة أم أصيب بها بعد ولادته؟ إن ديجنه ليس رجلا ما دام الحب ألزم للإنسان من الماء والهواء. أهو أحد الجبابرة أم أحد الصعاليك؟ فهو يرتمي على أحضان امرأة تعشقه دون أن يشعر بأية رعشة، ودون أن يتوقع أي خطر؟ وما الحب لديه إلا سلعة جسد ببدرة مال. أية وليمة هي حياته؟ وأي شراب يتدفق في أقداحه؟ إن هذا الرجل لم يتجاوز الثلاثين من عمره وقد أصبح مدمنا على السم، مكتسبا مناعة تهزأ بزعاف الأفاعي التي يداعبها.
إن في الأمر لغزا عميقا يا بني، وعليك أن تجد له حلا. مهما اجتهد أنصار الفحشاء بالتعليل فإنهم قد يثبتون ليوم من الأيام، ولليلة من الليالي، ولساعة من الساعات أنها ناموس طبيعي، ولكن إثباتهم هذا لا يصمد لوجه الزمان؛ لأنه ليس من شعب على الأرض لم يعتبر المرأة رفيقة الرجل وسلواه، أو المنبت المقدس لحياته، وقد استحقت التمجيد في الصفتين.
ومع هذا، فإنك لترى من الناس من ينتصب كالمحارب المدجج بالسلاح ليندفع قافزا فوق الهاوية التي فصل الله بها بين الإنسان والحيوان، ومن يقدم على هذا العمل فإنما هو ينكر النطق على نفسه، فيصبح كالوحش الأعجم خانقا المحبة المفكرة الناطقة بقبلات الجسد وشهواته؛ إذ يضع على فمه ما على أشداق الحيوان من طابع الصمت الأبدي .
إن مثل هذا المسخ يقف أمام أشرف كلمة وجب عليه أن يتعلمها فينفخ عليها عاصفات من دياجي الغابة السوداء؛ حيث يأتمر شياطين الفناء بالحياة.
لقد تجاوز هذا الرجل الحد الذي أوقف الله الإنسان عليه، فهو قد تقهقر عن هذا الحد أو اندفع إلى ما وراءه ... وقد أصبحت أحشاؤه كأحشاء المرأة العاقر أوجدتها الطبيعة ناقصة، أو تسربت إليها قطرات أعشاب سامة تقضي على جرثومة الحياة.
إن العمل والمطالعة قصرا عن شفائك يا بني، وقد أصبح شعارك أن تنسى وتتعلم، وقد كنت تقلب صفحات الكتب الميتة وأنت لما تزل قاصرا عن دراسة الخرائب والأطلال. انظر ما حولك من قطعان البشرية، وإلى عيني أبي الهول تشعان بين ما خطته اليد المستترة. طالع كتاب الحياة، أيها الطالب، وارم بنفسك في تيار الحياة، فما الحياة إلا كنهر الستيكس في الأساطير تولي مياهه المناعة لمن يجرؤ على اقتحامه من الأبطال. أقدم؛ فإما أن يقودك هذا التيار إلى الموت، أو يرفعك إلى الله.
الفصل الرابع
قال القديس أوغسطينوس - وهو الرجل الكامل عند ذكراه أيام شبابه: وما كانت جميع هذه المسرات والملذات الكاذبة إلا بذورا لا تنبت غير المرارة والأوجاع، وقد استنفدت قواي حتى مللتها.
إنها لكلمات لا يتفوه بها إلا القلائل ممن مشوا في الحياة حيث مشى هذا الرجل، فهم يحفظونها في قلوبهم، وأنا أيضا لا أجد سواها في صميم فؤادي.
وبعد أن عدت إلى باريس في أول الخريف بدأت حياة الشتاء مندفعا إلى الملاهي والمآدب والمراقص، فما كنت أفترق عن ديجنه إلا نادرا، وكان هو يبدي مزيد ارتياحه إلي، وما كنت أنا مرتاحا إلى نفسي؛ لأنني كنت كلما توغلت في هذه الحياة تتزايد همومي، فما طال بي الأمر حتى بدأ هذا العالم الذي حسبته لأول وهلة واسع الأرجاء يضيق بي في كل خطوة، فكنت كلما لامست شبحا من أشباحه يضمحل ويتوارى أمامي.
وكان ديجنه يستفسرني عن حالي فأقول له: وأنت مالك أيها الصديق؟ لعلك تتذكر قريبا بارحك إلى القبور، أم أن في صدرك جراحا نكأتها رطوبة الشتاء ؟
وكنت أراه أحيانا يتظاهر بعدم سماع ما أقوله، فكنا نهرع إلى الموائد ونشرب حتى نفقد الشعور، أو نستأجر فرسين وننطلق إلى الحقول قاطعين عشر مراحل لنتناول طعامنا هنالك، ثم نعود لنستحم ثم نتناول العشاء، ثم نتراكض إلى موائد القمار، ثم ننسحب إلى أسرتنا، وما كنت أصل إلى سريري وأوصد الباب علي حتى أنطرح جاثيا أذرف الدموع. وتلك كانت صلاتي في كل مساء.
ومن غرائب حالتي أنني كنت أشعر بشيء من الغرور عندما كنت أتمكن من الظهور على غير الحقيقة التي أعهدها في نفسي، فكنت أباهي بالإغراق في وصف شروري، وأجد لذة شاذة يشوبها الحزن العميق. وما كنت أشعر إلا بالملال عندما كنت أسرد حوادثي على حقيقتها، وما أدري كيف أصف هذه اللذة التي كنت أستغرق فيها عندما كنت أقص وقائع جنون وفحشاء لا حقيقة لها.
وما كنت أتألم لشيء تألمي لاضطراري إلى ارتياد الأماكن التي كنت أرافق خليلتي إليها فيما مضى، فكنت أظهر كالمعتوه أمام رفاقي، وأذهب إلى مكان منفرد لأحدق في أصول الأشجار ونبات الأرض، حتى إذا مللت تأملي ضربتها برجلي وحاولت تحطيمها، ثم أعود إلى حيث أتيت وأنا أتمتم قولي المألوف: «إن الله لا يحبني.» وكانت تنتهي هذه النوب بي إلى سكوت يطول مدى ساعات.
واحتلت دماغي فكرة ملكت جوانبي، وهي أن لا حقيقة إلا في العري، فكنت أقول: إن العالم يسمي أصباغه وأدهانه فضيلة، ويدعو سبحته دينا، وأثوابه أدبا ولياقة، وما الشرف والأخلاق إلا وسائل لقضاء حاجته، فالعالم لا يشرب خمرته إلا من دموع المساكين الذين يؤمنون به؛ فهو يمشي مطرقا ما دامت الشمس تتكبد السماء، فيذهب إلى الكنائس والمراقص والمجتمعات، وعندما ينسدل ستر الظلام يسقط عنه دثاره، فإذا هو مومس تتخطر على مثل قوائم التيوس ...
ولكنني كنت أحتقر نفسي بهذا القول؛ إذ كنت أشعر أن تحت هذا الجسد الذي تستره الأثواب هيكلا من عظام، فكنت أرتعش وأسأل نفسي ما إذا كان هذا كل الوجود.
وكنت أعود إلى المدينة، فأصادف في طريقي فتاة تمسك بيد أمها وتسير معها، فأتبعها بأنظاري متنهدا، وأشعر أنني رجعت إلى الأيام التي كنت فيها طفلا.
وبالرغم من أنني كنت أتبع دقة النظام الذي قررته أنا وأصدقائي في حياتنا المشوشة، فما كنت أهمل الذهاب إلى بعض المجتمعات العائلية؛ حيث كنت أشعر باضطراب شديد عندما أنظر إلى أية سيدة، فما كنت ألمس أيدي النساء إلا مرتعشا بعد أن صممت على هجر الحب إلى الأبد.
ومع هذا، فإنني رجعت ليلة من أحد المراقص وفي قلبي من الألم ما أشعرني بعودة الحب إليه؛ لأنني كنت جلست إلى المائدة بقرب سيدة لها من الجمال والأدب الجم ما لا قبل لي بنسيانه. وعندما أغمضت عيني لأنام انتصب خيالها أمامي، فحسبتني مقضيا علي بالهلاك؛ ولذلك صممت على أن أجتنب أية فرصة تمكنني من الاجتماع بها، وبقيت أغالب نفسي خمسة عشر يوما ما بارحت فيها مقعدي، فكنت أنطرح عليه ساهيا فتمر في مخيلتي جميع حركات هذه المرأة وكلماتها.
وما طال الأمر حتى ذاع صيتي في باريس؛ حيث يترصد الناس سكنات الناس وحركاتهم بأنني سيد الخلعاء، وكان ذكاء العالم في هذا مدعاة لإعجابي به؛ لأنني بعد أن كنت في عينه أشد الناس حماقة عندما وقعت لي حادثة خليلتي، أصبحت الآن الرجل المتصلب الذي يتحكم في شعوره، وذهب البعض إلى القول بأنني ما كنت عاشقا لهذه المرأة، بل كنت ألعب دوري بمهارة، فكان ذلك خير ثناء يوجهه هؤلاء الناس إلي.
والأنكى من هذا أنني أصبحت أنا نفسي أنتفخ غرورا بهذا الشرف المكين، وأتلذذ بغروري.
وكنت موجها كل جهدي إلى أن يراني الناس واصلا إلى مقام من تحجرت عواطفهم، في حين أنني كنت أشتعل بالشهوات، وتذهب تخيلاتي الجامحة بي كل مذهب.
بدأت أعلن أن ليس للمرأة أقل شأن في نظري، وكنت أبذل الجهد لخلق أوهام أعلنها للناس وأقول إنني أفضلها على الحقائق، فكأنني لم أكن أرى لذة إلا في تشويه ذاتي، وكان يكفيني أن تلوح لي فكرة تصدم الرأي العام لأتطوع للدفاع عنها مهما كلفني الأمر.
وهكذا بليت بأعظم النقائص والعيوب: بليت بتقليد كل ما كان يستوقف انتباهي، لا لجماله بل لغرابته، وبما أنني لم أكن أرضى أن أظهر في مظهر المقلد التابع كنت أندفع إلى المغالاة لأثبت أنني مبتدع لا تابع مقلد، فلم أكن أرى شيئا حسنا حتى ولا مقبولا، فأبدي عجبي ممن يفقدون رزانتهم في إعجابهم، ومع ذلك لم أكن أتورع في حماستي عندما كنت أدافع عن نظرية أريد أن آخذ بها، فكنت أندفع في بياني حتى تضيق اللغة عن إمدادي بالتعابير اللازمة لإبداء إعجابي، وكان يكفي أن يسلم أخصامي بما أرمي إليه لأفقد كل فصاحة وكل حماس.
وما كانت هذه الحال الفكرية إلا نتيجة ملازمة لحياتي التي كرهتها، وما قدرت على تبديل خطتي فيها، فكنت أعذب تفكيري كأنني أنتقم منه، وأتخذ كل وجهة طلبا للتهرب من نفسي.
ولكن بينما كان غروري يداعب ذاته على هذه الوتيرة، كان فؤادي يتقلب على أوجاعه، فكأنني كنت أنطوي على رجلين أحدهما ضاحك والآخر باك، وكان الصراع مستمرا بين دماغي وقلبي، فكان مزاحي يدفعني إلى الحزن المفرط كما كان حزني يثير مزاحي فأستغرق في ضحكي.
وسمعت ذات يوم رجلا يتبجح بأنه لا يعتقد بأية خرافة، وأنه يسخر بكل تفاؤل وكل تشاؤم، فجاء أصحابه إلى غرفته، ومددوا على فراشه هيكل رمة بشرية، وكمنوا في غرفة مجاورة، ودخل الرجل إلى غرفته في ساعة متأخرة، فلم يسمع الكامنون أية حركة حتى الصباح؛ إذ شاهدوا صديقهم جالسا على فراشه وهو يلعب بالعظام. وكان الرجل قد جن.
لقد كان في داخلي شيء يشبه هذا الرجل يلعب بعظام رمة محبوبة، وما تلك الرمة إلا أنقاض غرامي، وهي كل ما تبقى لي من سالف أيامي.
وما كانت هذه الحياة المضطربة تخلو من أويقات لها لذتها وصفاؤها، فقد كان معاشرو ديجنه من الطبقة الراقية، وأكثرهم من أرباب الفنون، فكنا نمضي ليالي عديدة يسود سمرنا الخليع فيها ما يبعد جد البعد عن الفحشاء، وكان أحد الصحاب عاشقا مغنية مشهورة تشجينا بصوتها الساحر الحزين. ولكم جلسنا إلى المائدة فنسينا ما عليها من طعام مستغرقين فيما يثير إنشاد هذه المغنية في نفوسنا من حنين! ولكم درنا بأقداح الشراب ونحن نصغي إلى أحدنا يلقي علينا بصوت عميق رائع بعض مقطوعات من لامارتين، فكنا نؤخذ بمعانيها كأن تفكيرنا حصر في دائرة منها، وكانت تمر الساعات دون أن نشعر بها، حتى إذا جلسنا بعدها إلى المائدة سادنا سكوت رهيب، وعلقت بأهدابنا الدموع.
وكان يتجلى هذا التأثير في مثل هذه الأوقات على ديجنه بأكثر من تجليه في الآخرين، وهو المعروف بيننا بصلابة خلقه، وبرودة طبعه، فكانت العواطف تتدفق من كلماته ولفتاته كأنه شاعر ساعة نزول الإلهام عليه. وما كانت تنتهي نوبة استسلامه لشعوره حتى يبدأ رد الفعل في أعضائه، فينقلب إلى المرح الجنوني كارعا من الخمر ما يفقده رشده، فيستولي عليه روح الهدم والتحطيم، ولكم رأيته يختتم نوبه هذه بقذفه كرسيا إلى نافذة مغلقة يحطم زجاجها بفرقعة تصم الآذان.
وكنت أراني مندفعا بالرغم مني إلى تشريح أخلاق هذا الرجل، فكان يلوح لي كأنه فرد من مجتمع غريب لا أعرف له مقرا على هذه الأرض. فما كنت أعلم أكان هذا الإنسان مسيرا في عمله بيأس مريض، أم بدلال ولد صغير.
وكان ديجنه يبدو - بخاصة في أيام الأعياد - كأنه مأخوذ بثورة عصبية، فيأتي بأعمال صبيانية يحتفظ فيها بكل برودة خلقه، فكان من يراه لا يتمالك من الاستغراق في الضحك، وقد أقنعني يوما بأن أخرج للتنزه معه وحدنا عند الغسق، فارتدينا أثوابا غريبة الشكل، وقنعنا وجهينا، وحمل كل منا آلة موسيقية، وذهبنا على هذه الصورة تائهين في الأحياء الصاخبة، محتفظين برصانة أرباب الفنون، وصادفنا في تجوالنا عربة كان سائقها قد دب فيه النعاس فنام على مقعده، فسارعنا إلى حل أربطة الفرسين، ثم تقدمنا إليه وصحنا به فأفاق، وركبنا العربة طالبين منه إيصالنا، وما لوح المسكين بسوطه في الهواء حتى ذهب الفرسان خببا، وبقي هو في عربته مشدوها، وتوجهنا بعد ذلك إلى الشانزليزيه، فرأى ديجنه عربة تتقدم نحونا، فاعترضها وأمر السائق بالوقوف، وتهدده بالقتل إن لم يترجل عن مقعده، وإذ نزل الرجل عند إرادته مذعورا أمره بالانبطاح على الأرض معرضا نفسه لأوخم العواقب، ثم فتح باب العربة كأنه قاطع طريق، فرأينا شابا وسيدة استولى عليهما الرعب الشديد، وأمرني ديجنه بمجاراته فيما سيفعل، فأخذ يقفز من الباب ليعود فيقفز من الباب الآخر، وأنا أتبعه حتى خيل إلى من في العربة والظلام سائد أن المهاجمين عصابة من اللصوص.
يقول لك بعض الناس: إن الحياة تولي من يبتليها اختبارا، ولعلهم يعجبون في سرائرهم إذ يصدقهم سامعوهم. وهل العالم إلا عاصفات إعصار لا تشبه إحداها الأخرى؟ وكل ما في الحياة يذهب بددا كسرب أطيار ينتشر في الفضاء الفسيح، فما تجد مدينة تتشابه أحياؤها، ومن عرف أحدها يبقى جاهلا لسائرها، غير أن هذه الأعاصير التي تدور منذ وجود العالم لم تزل تخترقها سبعة أشباح لا تتغير على ممر الأجيال: أولها يسمى الأمل، والثاني الضمير، والثالث الرأي، والرابع الشهوة، والخامس الحزن، والسادس الكبرياء. أما الأخير فيسمى الإنسان.
وما كنت وأصحابي إلا كسرب أطيار، فبقينا سوية إلى أن جاء الربيع نلعب حينا، ونركض أحيانا.
ولعل القارئ يتساءل: أين النساء في هذه الحوادث؟ وأين هي الفحشاء؟
وماذا عساني أقول عن هذه المخلوقات الحاملات اسم النساء، واللواتي راودن حياتي كأشباح أحلام؟ أيمكن للإنسان أن يحتفظ بالذكريات من وقائع لم يكن فيها شيء من الأماني والآمال؟
وأين أجد هذه الوقائع الآفلة لأثير منها تذكارا؟ وهل من شبح أشد صمتا منك أيتها المرأة العابرة كالظل؟ وهل من انطباع أسرع إلى الزوال منك في صفحة الذكريات؟
وإذا كان لا بد من إيراد شيء عن النساء، فلأذكرن منهن اثنتين:
وإليك الأولى:
أسألك أولا عما يمكن أن تئول إليه عاملة بالخياطة لها من العمر ثمانية عشر ربيعا، تتدفق شهوة الصبا من إهابها الغض، وعلى خوان عملها رواية كل صفحاتها صبابة وغرام، وهي لم تتلقن علما، ولا تعرف عن الآداب والأخلاق شيئا، فتقضي حياتها تخيط الأثواب أمام نافذتها؛ حيث تمتد طريق منع رجال الشرطة المرور عليها؛ ليجيئها عند المساء رهط من بنات الهوى الحاملات الإجازات يخطرن عليها ذهابا وإيابا ، ما تفعل هذه الفتاة بعد أن تكون قطعت أصابعها، واستنفدت نور عينيها منذ الصباح حتى المساء، عاملة في رداء أو في قبعة، إذا هي اتكأت عند الغسق إلى نافذتها فرأت ما عملت فيه يداها الشريفتان لكسب قوت من حولها يرتديه قوام فاجرة ورأس عاهرة؟
ولكم من عربة تقف أمام بابها كل يوم فتترجل منها فتاة لها رقمها كالعربة التي تستقلها! وتدخل على هذه العاملة المسكينة لتحدجها بلفتات الاحتقار، وتقف أمام مرآتها لتجرب مرارا الرداء الذي انكبت عليه سواد الليالي لإنجازه، وتخرج العاهرة من كيسها ستة دنانير يتوهج ذهبها، وهي العاملة لا تكسب إلا دينارا طوال أسبوعها، فلا تملك نفسها من التفرس فيها، والتأمل فيما تلبس من حلي، ثم تتبعها بأنظارها حتى تركب عربتها وتتوارى.
ويجيء يوم ينقطع فيه العمل عنها، ويسود الظلام على البيت الذي تظلله الفاقة، وقد انطرحت في إحدى زواياه الأم المريضة، فتفتح العاملة البائسة بابها، وتمد يدها قابضة على مجهول يمر على الطريق ...
هذه هي حكاية الفتاة التي تعرفت إليها، وكانت تحسن العزف قليلا على البيانو، وتعرف شيئا من فن الرسم، ومن التاريخ والصرف، فكانت كل معارفها على هذا النحو شيئا يسيرا من كل شيء، ولكم كنت أنعم النظر في هذه المخلوقة والأسى يرين على قلبي؛ إذ أتمثل فيها بداية عمل الطبيعة، ونهاية ما يأتيه المجتمع من التشويه! ولكم شخصت بشخوصي أمامها إلى ليل مدلهم تلوح فيه شرارات ضئيلة من نور عليل!
ولكم حاولت أن أشعل بعض الجمرات الخامدة تحت هذا الرماد، وقد كانت حلة شعرها بلونه، فكنا ندعوها «ساندريون»!
وما كانت ثروتي تسمح لي بأن أعين لها معلمين، فتولى ديجنه الإنفاق على تعليمها، ولكنها عجزت عن بلوغ أي نجاح، فما كان المعلم يتوارى عن نظرها حتى تكتف يديها وتبقى الساعات الطويلة محدقة بما وراء نافذتها. وكانت تمر الأيام على هذه الوتيرة، فتهددتها يوما بأنني سأقطع عنها المال إذا هي لم تجتهد، فبدأت بالعمل دون إبداء أية مقاومة، ولكني عرفت بعد ذلك أنها كانت تخرج خلسة من البيت، ولا يعلم إلا الله إلى أين كانت تذهب، فرجوتها قبل أن أسرحها أن تطرز لي كيسا، وقد احتفظت بهذا الكيس مدة طويلة كذخيرة حزينة، وأبقيته معلقا على جدار غرفتي كأنه رسم لكل طلل عاف في هذه الحياة.
أما الثانية فهذه قصتها:
وكانت الساعة العاشرة مساء، وكنا قضينا نهارنا في الرياضة المتبعة، فتوجهنا إلى منزل ديجنه، وكان هو قد سبقنا إليه لإعداد ما يلزم لليلة راقصة، ولما دخلنا البهو رأيناه مزدحما بالمدعوين، وبينهم عدد وفير من الممثلات، وقد بين لي الصحاب السبب في دعوتهن إلى الحفلات فقالوا: إن الرجال يتزاحمون عليهن.
وما وصلت إلى القاعة حتى اندفعت مع تيار الراقصين، وكنت شديد الميل إلى رقصة «الفالس»؛ إذ ليس بين أنواع الرقص ما يماثلها خفة ورشاقة، وليس غيرها إلا حركات لا معنى لها يقصد منها انتهاز الفرصة للأخذ بأحاديث لا طائل تحتها. أما «الفالس» فرقصة تتيح لك أن تتمتع بالمرأة التي تضمها نصف ساعة بين ذراعيك، وتسير بها بين تصادم الراقصين وهي خفاقة الجوارح، فتكاد لا تعلم إذا كنت تغتصب إرادتها أو تحمي ضعفها، وكم بين الراقصات من يستسلمن إلى قيادتك بخفر تتدفق الشهوة منه، فلا تعلم ما يدور في خلدك: أشهوة هو أم حذر، وتقف مرتابا في نفسك فلا تدري حين تشد بالراقصة إلى قلبك: أتترنح ثملة أم تنقصف كالقصبة الضعيفة بين يديك.
لا ريب في أن ألمانيا التي اخترعت هذا النوع من الرقص بلاد ما خفيت حقيقة الحب عن أهلها.
وكنت أخاصر راقصة رائعة الجمال تنتمي إلى المسرح الإيطالي، جاءت إلى باريس لتمضية أعياد المرفع، وكانت بزي الراقصات في هيكل إله الخمر ترتدي قفطانا من جلد النمور، وما كنت رأيت في حياتي امرأة تشبه هذه المرأة في دلالها، فقد كانت ممشوقة القد، ناحلة القوام، تنطلق في خطواتها بسرعة، ولكنك تخالها تنسحب انسحابا وهي تتقصف في دلها، ولقد يحسب الناظر إليها أنها تتعب مراقصها، في حين أنه لا يحس بها إلا كخيال ميال بين ساعديه.
وكانت هذه الغانية مزينة صدرها بطاقة كبيرة من الورد تورثني نشوة أين منها نشوة الراح، وكانت تنطوي على ساعدي لأقل حركة كأنها من الأماليد عاشقات الشجر، فإخالها بما فيها من ليونة وعذوبة خلابة وشاحا من ناعم الحرير يلفني كأذيال الغمام. وكان عقدها المتدلي من عنقها يهتز في كل دورة من دوران الرقص ضاربا على نطاقها المعدني، فأسمع له صوتا خافتا كحفيف الغصون. وكان في حركاتها من الجلال ما يوقفني منها أمام كوكب رائع يبتسم لي؛ فإخالها جنية تنشر جناحيها لتعود أدراجها، وكأن الموسيقى الشجية الهائمة كانت تصدح من بين شفتيها وهي مائلة برأسها إلى الوراء تكللها الضفائر السوداء، وقد أرهق عنقها من ثقلها فالتوى.
وما انتهى دور الرقص حتى ارتميت على مقعد في زاوية القاعة، وكان قلبي ينبض بسرعة قطعت أنفاسي، فهتفت قائلا: يا الله مما رأيت! يا للمسخ الرائع! ويا لك من أفعى كلها حسن وجمال، تعرف كيف تلتف، وكيف تتململ بجلدها اللين الأرقط! لقد علمتك حية الجنان المغوية كيف تلتفين على شجرة الحياة وبين أسنانك ثمرة الموت. يا لك ساحرة تتحكمين في قلوب الناس، وتعلمين ما يفعل بهم هذا الدلال وهو يتجاهل قوته! وهلا تعلمين أنك تهلكين وتغرقين، وأن كل من لمسك سيحل به العذاب، وأن ابتسامك وعبق أزهارك والاقتراب إلى ملاذك يؤدي إلى الموت ... ذلك هو سر الحلاوة في افترار ثغرك، وتفتق أزهارك، فأنت تعرفين هدفك عندما ترسلين معصمك متراخيا على الكواهل.
لقد أعلن الأستاذ هاللي حقيقة مروعة حين قال: «إن المرأة عصب البشرية، والرجل عضلها.» وقد قال هومبولت العالم الجدي نفسه: إن أعصاب البشر يحوطها إشعاع خفي، وأتباع سبلانزاني يعتقدون أيضا أنهم اكتشفوا الحاسة السادسة. إن في هذه الطبيعة التي تقذف بنا إلى الوجود، ثم تدفعنا إلى الموت وهي هازئة بنا، من القوات الخفية ما يكفيها، فلا نضيفن إلى ما نتسكع به من ظلمات ظلمات أخرى.
ولكن أي رجل يعتقد أنه تمتع بالحياة إذا هو أنكر سلطان المرأة عليه، إذا هو لم يحس بارتعاش ساعديه بعد أن يكون خاصر امرأة جميلة وراقصها، وإذا هو لم ينفذ إليه ذلك الشيء المجهول، أو تلك الكهارب المسكرة التي تنتشر في المرقص حين تتعالى النغمات، ويكسف لهب الجسوم أنوار المصابيح. وما تنتشر هذه الكهارب إلا من أجسام الحسان فيتكهربن بها أولا، ثم تهب منهن كالعبق المتصاعد من مبخرة تتمايل مع الرياح.
واستولى علي خبل مريع، وما كنت أجهل أن الحب يورث هذا الثمل، وما كانت هذه أول مرة عرفته، ولكنني ما كنت أعلم من قبل أن بوسع امرأة أن تدفع بالقلب إلى مثل هذا الخفوق، وأن تثير في المخيلة مثل هذه الأشباح بجمالها، وبأزهارها، وبثوب مخطط كجلد الحيوان المفترس، وبحركات دوران اقتبستها من أحد المهرجين، وبالتفاف معصم بض على كتف، وذلك دون أن تنبس بكلمة أو تبدي فكرة واحدة كأنها تترفع عن الاعتراف بعزتها وسلطانها.
وما كان ما أشعر به من الحب، بل من الظماء المحرق؛ فإنني لأول مرة في حياتي كنت أشعر باهتزاز أوتار مشدودة مني على غير قلبي، فإن تجلي هذا الحيوان الرائع لعيني كان قد استنطق وترا غير أوتار القلب في أحشائي، وما كنت أحس بنفسي ما يدفعني إلى أن أقول لهذه الغانية: إنني أحببتها، أو أعجبت بها، أو حتى لأعلن لها تقديري لجمالها، بل كنت أشعر أن على شفتي تعطشا للالتصاق بشفتيها لأقول لها: منطقيني بهذين المعصمين المتراخيين، وألقي على كتفي رأسك المائل، وارشقي بهذه البسمة العذبة شفتي.
لقد عشق جسدي جسدها، فكنت من جمالها في سكرة كسكرة الراح.
ومر بي ديجنه فسألني عما أفعل حيث كنت، فأجبته: من هي هذه المرأة؟ فقال: وأية امرأة تعني؟ فقبضت على ساعده وسرت به في القاعة، ولحظت الإيطالية أننا نتجه نحوها فابتسمت، وإذ تراجعت قليلا قال ديجنه: آه! لقد رقصت مع ماركو ... - ومن هي ماركو؟ - هي تلك المدللة الضاحكة هنالك ... فهل أنت معجب بها؟ - لا، لقد رقصت معها، وأحب أن أعرف اسمها. وهذا كل إعجابي بها.
وما قلت هذا إلا لأنني شعرت بشيء من الخجل، وإذ تولى ديجنه عني ذهبت أنا نحو الإيطالية فاستوقفني قائلا: رويدك، يا أوكتاف، ليست ماركو كسائر البنات، فهي في عهدة سفير ميلانو، وتكاد تكون زوجة له، وقد جاءت إلى هذه السهرة مع أحد أصحاب السفير، غير أنني سأكلمها في شأنك فلا أدعك تموت، إلا إذا لم يكن بد من موتك. سأحاول إبقاء ماركو عندنا للعشاء.
قال هذا وتوجه إليها، فسادني اضطراب يعجز بياني عن تحديده، وما بدأ بمحادثتها حتى تمشيا سوية وغابا عن عياني بين زرافات المدعوين.
وكنت أناجي نفسي قائلا: أيمكن أن يصيب حدسي؟ أتكون هذه المرأة هي من سأحب؟ ولكن ما لقلبي ولهذا، فإن حواسي وحدها تعمل عملها بمعزل عنه.
وكنت أحاول بمثل هذا التفكير أن أهدئ روعي، وما طال انتظاري حتى شعرت بيد ديجنه على كتفي وهو يقول: سنذهب إلى المائدة، وعليك أن تشبك ساعدك بساعد ماركو؛ فهي تعرف أنك معجب بها، وقد تم الاتفاق ...
فقلت: اسمع، يا ديجنه، إن ما أشعر به يفوت إدراكي، فكأنني في رؤى أشهد «فولكان» فيها يسحب رجله العرجاء ليطبق على «فينوس» ويشبعها تقبيلا، ولحيته تعبق بدخان مصنعه، وهو يحدج بنظراته الزائغة جسم إلهة الجمال البض مستغرقا في التحديق بها وهي كل ما يملك، فيحاول أن يبتسم ويتظاهر بالارتعاش مسرة وحبورا، ولكنه في الوقت نفسه يتذكر أباه كبير الآلهة «جوبيتير» الجالس على عرشه في السماء.
وحدق ديجنه في وجهي، ولكنه لم يجب، بل قبض على يدي وجرني قائلا: إنني جد متعب وأشعر بحزن؛ فإن هذا الصخب يقتلني. هيا بنا إلى المائدة نستعد قوانا.
وجلسنا إلى مأدبة جمعت ما لذ وطاب، ولكنني كنت أشاهدها ولا أتمتع بها؛ إذ كانت شفتاي ترتجفان في انقباضهما، وسألتني ماركو عما بي، فبقيت شاخصا كالصنم أسرح أبصاري من رأسها إلى قدميها صامتا ذاهلا.
وما تمالكت ماركو نفسها من الضحك، فضحك ديجنه معها من بعيد وهو يرقبنا، وكانت أمامها كأس كبيرة من البلور تنعكس عليها الأنوار فتتكسر على أضلاعها لتشع بالسبعة الألوان، ومدت يدها المتراخية فملأت الكأس بخمرة قبرصية فيها حلاوة الشرق ونكهته، وقدمتها إلي قائلة: هذه لك يا بني.
أخذت الكأس ثم أعدتها إليها قائلا: بل لك ولي.
ورطبت شفتيها من الحباب وأعادتها إلي، فكرعتها دفعة واحدة وأنا أنظر إليها نظرات حزينة فاتتها معانيها.
فسألتني: أرديئة هي؟ - لا. - أمتعب أنت؟ - لا. - أتشكو صداعا. - لا.
ما بك إذن إلا هموم غرام.
وظهرت على وجهها علائم الجد، وكنت أعلم أنها وليدة نابولي؛ لذلك نبضت إيطاليا في قلبها عندما تفوهت باسم الغرام.
وفي هذه الأثناء كانت الدماء تتصاعد إلى الرءوس، والأقداح تتصادم بين الأنامل، وبدأت الخدود تصطبغ بلون الخمر، فكأنها كانت تبرقع أشد الوجوه اصفرارا كيلا تعلوها من الخجل حمرته، وكانت الضجة تتعالى وتنخفض كأنها هدير أمواج، والأحداق ترسل لمعانها إلى كل صوب ثم تذهب تائهة ... فكأن في القاعة نسمات خفية كانت تخفق فيها كل هذه الأرواح الهائمة في نشوتها، وكل روح تتلمس طريقها إلى سواها.
وهبت إحدى النساء من مكانها بين الحشد كما تتعالى على صفحة البحر الساكن أول موجة تتنسم العاصفة فتعلو منذرة باقترابها. وقفت وأشارت بيدها لينصت الحضور إليها، وكرعت كأسها ثم حولت أناملها إلى شعرها تنثر غدائرها الذهبية على كتفيها وعلى صدرها المتهدج بأنفاسه، فما أسمعتنا سوى نبرتين مختنقتين وامتقع لونها فجأة فتراخت على مقعدها.
وقامت قيامة الحاضرين، فسادهم الهرج والمرج حتى نهاية السمر، فما كان لأحد أن يتميز شيئا وقد اختلط الضحك بالغناء والصراخ.
وسألني ديجنه عما أقول في هذا، فأجبته بأنني لا أجد ما أقوله، فما لي إلا أن أسد أذني وأسرح أبصاري ...
وبقيت ماركو ساكنة وسط هذه المعمعة، فلم تتكلم ولم تشرب، بل أسندت رأسها بيدها وتاهت في أحلامها، وما كان يلوح على وجهها ما يدل على تأثر أو استغراب، فقلت لها: أما تريدين أن تفعلي ما يفعلون؟ لقد سقيتني خمرة الشرق، فهل لك بتذوقها؟
قلت هذا وملأت كأسها دهاقا، فرفعتها ببطء إلى فمها وارتشفتها حتى الثمالة، وبعد أن أعادت الكأس إلى المائدة عادت إلى استغراقها.
وكنت كلما أدمت النظر إلى هذه الغادة أزداد استغرابا لحالها، فهي لا تسر لشيء ولا يضايقها شيء ، بل تفعل ما يطلب منها، ولا تقوم بأية حركة من تلقاء نفسها، فذكرتني بتمثال الراحة الأبدية، فقلت في نفسي: لو نفخت روح في هذا التمثال لما كان يبدو لنا إلا كماركو ثانية.
وكنت أقول لها: أأنت طيبة القلب أم أنت شريرة ... أحزينة أنت أم مرحة ... أيروقك أن تحبي ... أتهوين المال والملذات ... وأي نوع منها تفضلين ... أسباق الخيل أم الخمر أم الرقص ... أي شيء يعجبك ... وبماذا تحلمين؟
فما كنت أظفر منها إلا بجواب واحد على جميع هذا، وهو ابتسامة لا حزن فيها ولا سرور، كأنها تعني الاستسلام وعدم المبالاة.
وقربت إلى مبسمها شفتي، فألقت عليهما قبلة متراخية تشبهها، ثم رفعت منديلها إلى فمها، فصرخت بها: ويل لمن سيحبك يا ماركو ...!
فألقت إلي بنظرة من مقلتها السوداء، ثم رفعتها إلى العلا وأشارت بأصبعها بحركة إيطالية لا تقلد، ولفظت بتمهل الكلمة الكبرى الخاصة بنساء بلادها: لقد يكون ...
وقدمت أشكال الحلوى والفاكهة، ونهض فريق من المدعوين إلى القاعة يدخنون ويلعبون، وما بقي على المائدة إلى العدد القليل، وكانت بعض النساء تستسلمن للرقص، والبعض الآخر للنعاس، وعادت جوقة الموسيقى إلى العزف، وتضاءلت أنوار الشموع، فاستبدلت بها سواها، فتذكرت وليمة «بترون» حيث ما كانت تطفئ المصابيح حول من طرحهم السكر على مقاعدهم، حتى يتسلل الخدم إلى المائدة ليسرقوا ما عليها من الأواني الثمينة.
ودام الإنشاد يتعالى من أفواه الثلاثة المغنين الإنكليز ذوي الوجوه الشاحبة.
ودعوت ماركو إلى الانصراف فنهضت واستندت إلى ذراعي، فشيعنا ديجنه قائلا: إلى الغد.
وخرجت بها من القاعة، وكنت كلما اقتربت إلى منزلها يزداد خفوق فؤادي، ويستولي الصمت علي لحيرتي في هذه الغانية التي تترفع عن الشهوة كما تترفع عن الكره، وما كنت أدرك السر في ارتجاف يدي وهي تلف هذه المخلوقة الساكنة الجامدة.
وبلغنا غرفة ماركو، فإذا هي على مثالها قاتمة تنتشر الشهوة في جوها، وكانت منارة بمصباح من الرخام الناصع البياض يرسل في جوانبها أشعة منكسرة، وكانت المقاعد كأنها أسرة وثيرة مشدودة بالحرير على زغب الطيور، وما دخلت إلى هذا المسكن حتى هبت في وجهي رائحة عطور تركية أصلية مستوردة من القسطنطينية، وهي أقوى العطور تهييجا للأعصاب، وأشدها خطرا.
وقرعت ماركو جرسا، فجاءتها وصيفتها الفتية، وسارت وإياها إلى الخدر، وما لبثت حتى انطرحت فيه على سريرها وقد أسندت وجهها بيدها متراخية على عادتها.
ووقفت أمامها أمعن النظر فيها، وكنت كلما أوغلت في إعجابي، وكلما ازداد انجلاء محاسنها لعيني، يستولي علي شعور غريب يبدد ما تثير هذه المحاسن من شهواتي.
ولعلني كنت مأخوذا باستهواء من الإشعاع الخفي، فتحكم في ما في هذه الغانية من سكون وجمود، وانطرحت متمثلا بها على المقعد المستطيل قبالة سريرها، وتغلغل صقيع الموت في روحي.
إن نبضان الدم في العروق ليشبه حركة ساعة غريبة لا تسمعك خفقانها إلا في الليل، ففي طيات الظلام تتوارى مشاغل الإنسان حوله فيعود منكمشا على نفسه ليسمع حركة الحياة فيه.
وامتنعت جفوني عن الغمض بالرغم مما تحملت من متاعب نهاري وأحزانه، وكانت عينا ماركو تحدقان بي، فكان كل منا شاخصا في الآخر وقد خيم علينا السكون.
وقالت: ماذا يشغلك هناك؟ أفما تريد أن تجيء إلى جانبي؟
فقلت: بلى ... إنك رائعة الجمال يا ماركو ...
وسمعت صوتا كأنه نبرة أنين، وكان ذلك صوت انقطاع وتر من قيثارة ماركو، وأدرت وجهي نحو مصدر هذه الأنة، فرأيت أوائل أشعة الفجر تلوح بنورها الباهت ستائر النوافذ.
نهضت فأزحت إحدى الستائر، فانتشر الضياء في جوانب الغرفة، ووقفت لحظة أنظر إلى السماء فإذا هي مجلوة صافية الأديم.
وكررت ماركو دعوتها إلي، فأشرت إليها بأن تنتظر.
وكانت هذه الغادة اختارت لسكناها هذا الحي البعيد عن مركز المدينة احتراسا، وكان لها منزل آخر تستقبل فيه أصدقاء عشيقها، ولعل الغرفة التي كنا فيها ليست سوى موضع خلوة، فقد كانت تشرف على حديقة اللوكسنبور التي رأيتها منبسطة أمامي.
وكنت أشعر في قرارة نفسي بقوة أغالبها فلا أستطيع التحكم فيها، فكأنني منها كالقابض على قطعة من الفلين يريد إغراقها في الماء، فتتململ بين أصابعه وتأبى طبيعتها إلا الانفلات إلى سطحه، ولكنني عندما مددت بأنظاري إلى مسارح الحديقة انتفض قلبي بين جنبي، فهب التذكار بي يبدد كل فكرة تراودني. لكم هربت من المدرسة وأنا صغير لألجأ إلى ظلال هذه الأشجار؛ حيث كنت أنطرح وبيدي كتاب من جامحات الأشعار! وتلك كانت جميع ضلالات صباي، وا أسفاه ...! وتنبهت ذكرياتي البعيدة تشارفني من الأشجار الباسقة العارية من أوراقها، وتتطلع إلي من خلال الأعشاب الذابلة تحت ظلالها. إلى هنا أتيت مرة للتنزه مع أخي ومعلمي، وكنت في العاشرة من عمري، فكنا نرمي بقطع الخبز إلى زرافات الطيور الجائعة، وهنا جلست مرة منزويا أتفرج على رهط الفتيات يرقصن فيرقص قلبي لنغماتهن: نغمات نشيد الأطفال، وهنا أيضا مررت ألف مرة على الطريق ذاتها في رجوعي من المدرسة وأنا أقذف الحصى برجلي، وأطارد بذهني بيتا من قصائد فرجيل.
شخصت مليا أمام هذه المشاهد فهتفت: هذه أنت يا طفولتي، وها أنت هنا يا إلهي.
وأدرت طرفي في الغرفة فإذا ماركو نائمة وقد انطفأ المصباح، وكان ضوء النهار قد بدل منظر الغرفة تبديلا، فإذا الورق الملصق على الجدران، وكنت حسبته في الليل مستعيرا زرقة الآفاق، يكتسي لون الأوراق الخضراء وقد أحالها الذبول، ورأيت ماركو، التمثال الرائع، منطرحة على سريرها، ووجهها ممتقع كوجه الأموات.
وملكتني رعشة لم أقو على امتلاكها، فكنت أنظر تارة إلى السرير، وطورا إلى الحديقة، فأشعر بثقل هائل يخفض رأسي المتعبة.
وتقدمت بضعة خطوات إلى مكتب كان مفتوحا قرب نافذة أخرى، فجلست مسندا ساعدي إليه، والتفت بلا قصد أحدق برسالة تركت مفتوحة عليه، وهي لا تتضمن إلا كلمات قليلة، فقرأتها مرارا دون أن أفهم معناها حتى انجلت تدريجيا؛ فذعرت منها فجأة، وأخذت الورقة بيدي أقرؤها، فإذا هي مشحونة بأغلاط الإملاء، وقد ورد فيها:
لقد ماتت أمس عند الساعة الحادية عشرة ليلا. شعرت بانقباض فدعتني وقالت لي: لويزون، أنا ذاهبة للقاء رفيقي. افتحي الخزانة وخذي منها الغطاء المعلق بمسمار؛ فإنه كذلك الغطاء ...
جثوت باكية أمامها، فمدت إلي يدها صارخة: لا تبكي ... لا تبكي ... ثم أرسلت زفرة ...
وكان باقي الصفحة ممزقا.
يصعب علي بيان ما فعلت بي هذه الأسطر الفاجعة. قلبت الرسالة بيدي فإذا على ظهرها عنوان ماركو، وتاريخ اليوم المنصرم، فصرخت: لقد ماتت ... ومن هي التي ماتت؟
وتقدمت نحو السرير مناديا: من هي التي ماتت ...؟
وفتحت ماركو عينيها فرأتني مستندا إلى سريرها والرسالة في يدي، فقالت: هي أمي ... أفما تريد أن تأتي إلى جنبي ...؟ ومدت ذراعيها نحوي، فقلت لها: اسكتي ... نامي ودعيني هنا، فانقلبت على جنبها لتستغرق في نومها ثانية.
وشخصت إليها حتى تأكدت أنها لن تسمع حركتي، وتراجعت رويدا وانسحبت من المكان.
الفصل الخامس
وكنت وديجنه جالسين ذات مساء قرب الموقد والنافذة مفتوحة؛ إذ كنا في أوائل مارس وقد انقطع مطر النهار، فهبت علينا من الحديقة طلائع عبقات الربيع.
وقلت لديجنه: ماذا تريد أن تفعل في الربيع؛ فإنني أشعر بحاجة إلى السفر؟
قال: سأفعل ما فعلته السنة الماضية، فأذهب إلى الضاحية عندما يحين الزمان.
فقلت: أفتريد أن تسير في كل سنة على وتيرة واحدة.
فقال: وماذا تريد أن أفعل؟
فنهضت فجأة وصحت به: أجل، قلت حقا يا ديجنه ... فأنا قد تعبت من كل هذا، أفما مللت أنت هذه الحياة؟
فأجاب: كلا!
وكنت واقفا أمام رسم للمجدلية في الصحراء، فضربت يدا بيد بحركة اغتصابية، فسألني ديجنه: ما هذا؟
فقلت: لو كنت رساما ولاح لي أن أصور السآمة والضجر، لما كنت أرسم رمزهما فتاة مستغرقة في التفكير وفي يدها كتاب.
فقال: هل تكيد لأحد هذا المساء؟
ولم تستوقفني ابتسامته فقلت: إن هذه المجدلية الغارقة بدموعها لم يزل صدرها ناهدا بالأمل، ويدها الناحلة التي تسند إليها رأسا لم تزل تعبق بالعطر الذي سكبته على قدمي المسيح، وهذه الصحراء وما حولها آهلة بأشباح أفكار تتجه بالصلاة إلى الله، فقل لي: أهذا هو رمز السآمة والضجر؟
فقال بصوت لا أثر للشعور فيه: ليس هنا إلا امرأة تطالع كتابا.
فقلت: ولكن هذه المرأة سعيدة، والكتاب الذي تطالعه جليل.
وأدرك ديجنه ما أرمي إليه وأنا مستسلم للأسى، فسألني عما ألم بي، ولكنني ترددت في الجواب، فكأن يدا ربطت على قلبي .
وبعد صمت قصير قال ديجنه: إذا كان هنالك ما يؤلمك فلا تكتمه عني وأنت تعلم أنني لك خير صديق.
فقلت: أعلم أن لي صديقا، ولكن آلامي لا صديق لها.
وألح علي فقلت: إذا أعربت لك عما يخالجني، فما يفيدك ذلك وأنت عاجز عن تفريج كربي، وأنا أعجز منك؟ أفتريد سبر أعماق سريرتي، أم أنت تطلب كلمة أنتحل لك فيها الأعذار؟
فقال: كن حر الضمير.
فقلت: اسمع إذن ... لقد بذلت نصحك لي فيما مضى، فاصغ إلي الآن كما أصغيت حينئذ إليك.
قف أمام أي رجل كان وقل له: إن في الحياة أناسا يمضون أيامهم في احتساء الخمر وركوب الخيل والضحك واللعب، واغتنام فرص الملذات بأنواعها، فلا شيء يحول دون مضيهم على السبيل الذي اختاروه؛ لأن شريعتهم تقوم على استحسانهم، يملكون من يشاءون من النساء لأنهم أغنياء، ولا هم لهم، فكل أيامهم أعياد.
فإذا لم يكن هذا الرجل الذي تخاطبه من أهل الورع والتقى؛ فإنه ليقول لك: إن هذه الحياة نهاية ما يتصوره الإنسان من سعادة على الأرض.
خذ بهذا الرجل واقذف به إلى الحياة التي وصفت، أجلسه إلى مائدة قرب امرأة، وضع كأسا في يده، وانفحه كل صباح ببدرة من الذهب وقل له: هذه هي حياتك: بينما تكون نائما إلى جنب عشيقتك تكون خيولك تحفش على مرابطها، وبينما تكون ممتطيا جوادك يقرع المنتزهات بحوافره، يكون شرابك يغلي مختمرا في دنانه، وبينما تحيي ليلك شاربا ثملا، يكون أرباب المصارف يعملون على إنماء ثروتك، فما عليك إلا إبداء رغباتك لتنقلب أمانيك حقائق. أنت أسعد الناس، ولكن حذار أن تفرط في الشرب في ليلة من لياليك، فتجد جسدك بعيدا عن تذوق ملذاتك؛ لأن كل مصيبة تجد عزاءها ما عدا هذه المصيبة الدهماء. لقد يكبو جوادك في الغاب وأنت تلهو بالطراد مع رفاقك فتتدهور إلى مستنقع، وإذ تستغيث لا يصل صوتك إلى آذان هؤلاء الصحاب وقد أصمهم السكر وجلبة الحبور. حذار أن يمروا بك دون أن يعثروا عليك فيتوارون عنك وأنت تزحف بأعضائك المحطمة تحت جنح الليل.
لا بد أن تخسر بالمقامرة في ليلة من لياليك؛ فللحظ ساعاته السوداء، فإذا ما عدت إلى منزلك لتجلس أمام موقدك، فحاذر أن تضرب جبينك بيدك، وأن تدع الأسى يبلل أجفانك، وأن تدير لحاظك مفتشا عن صديق. احذر بخاصة ألا يجمح بك خيالك إلى كوخ ينام فيه زوجان على فراش الطمأنينة، وقد اشتبكت أنامل أحدهما بأنامل الآخر حتى في الرقاد؛ لأنك لن ترى أمامك على فراشك الفخم الوثير من تسر إليه نجواك سوى المخلوقة الشاحبة التي تتعشق دنانيرك، وإذا ما لجأت إليك لتشرح صدرك؛ فلن يخفى عليها أمرك وسبب حزنك. إنها لتشعر بفداحة خسارتك؛ فتذهب دموعك مثيرة في قلبها الشجون؛ لأن في دموعك هذه خطرا يتهدد ثوبها بألا يتجدد، والخواتم التي تلمع في أناملها بأن تسقط منها.
حذار، يا هذا، أن تفوه أمامها باسم من ربح مالك هذا المساء، فلقد تلتقيه هي غدا فترسل إليه لحظات الإغواء من خلال ما يحوطك من خرائب وأطلال.
ذلك هو الضعف البشري، أيها الرجل، فهل لك من قوة تحتمل مثل هذا الضعف؟
إذا كنت رجلا فاحذر السآمة، إنها لداء عياء، والميت خير من حي سئم الحياة.
احذر الحب إذا كان لك قلب؛ لأن الحب عار الفاسقين، وخير لهم أن يصابوا بأي داء من أن يصبحوا مهزلة في أعين أمثالهم المقدرين لكل خليلة ثمنا، وليس للمرأة التي تبيع نفسها أن تحتقر أحدا إلا الرجل الذي يحبها ...
إذا ما شعرت بالحب يجتاح قلبك فاحذر أن ينم وجهك عليه ... فما يتخلى عن درعه إلا الجندي الجبان، وعلى الفاسق ألا يظهر تعلقه بشيء؛ لأن ظفره قائم على أن لا يمس شيئا إلا بيد من رخام دهنت بالزيت؛ كيلا يعلق عليها أثر مما تقبض عليه.
إذا كنت نزقا وأردت أن تحيا، فتدرب على القتل؛ لأن في الخمر ما يقودك إلى المشاغبة، وإذا كان لك ضمير فاحترس من الساعة التي تلقي فيها رأسك على الوساد؛ لأن الفاسق النادم بعد فوات الأوان يشبه مركبا اخترقته مياه البحر، فليس له عن موقفه متقدم ولا متأخر، فلا يسير إلى العباب، ولا يعود إلى البر، وعبثا تدفعه الرياح إذا جذبته اللجج. إنه ليدور على نفسه ويغور ...
إذا كان لك جسد فاحذر الأوجاع، وإذا كان لك روح فاحذر القنوط، بل احذر الناس بأسرهم - أيها الشقي - فإنك ما دمت سائرا في طريقك التي تخيرت لتشهد سهلا فسيحا تدور عليه حلقات الراقصين متماسكات متتابعات كدوائر الأزهار، ولكن ما تشهده ليس إلا سرابا خادعا في قاحل الصحراء.
إن الناظرين إلى مواطئ أقدامهم يعلمون أنهم ينسحبون على صراط ممتد فوق نهر عميق، ولكم تهاوى إليه السائرون فضمهم إلى سكونه، فانطبقت عليهم صفحته الهادئة دون أن تتجهم.
حذار أن تزل بك القدم؛ فإن الطبيعة لتتراجع عنك بما في أحشائها من حياة فتنكرك حتى الأشجار الباسقة، وأماليد الغاب.
لقد خرقت شريعة أمك، فأنكرك كل رضيع من إخوتك في الحياة.
احذر غضب الله، أيها المنفرد؛ لأنك تنتصب أمام وجهه الكريم متحجرا كالصنم على قاعدة إرادتك المتمردة، فما تغدق السماء عليك رشاشها إلا لتفت من أعضائك، وتذيب هيكلك، وما يهب الهواء عليك لينفحك بقبلة الحياة، وهي قبلة التوحيد بين جميع الأحياء، بل يعصف عليك عصفا ليهزك ويقوضك تقويضا. إن كل امرأة تضمها إليك ستجتذب شرارة من قوتك دون أن تبادلك شرارة من قوتها؛ فما أنت إلا حقيقة تترامى متهالكة على أشباح، وحيث تسقط نقطة من عرق جبينك تنبت شجرة من مظللات القبور.
مت، فما أنت إلا عدو لكل من يحب، ولكل ما يحب ... انقبض على ذاتك في عزلتك وانفرادك، ولا تتوقع أن تبلغ نهاية عمرك. اذهب ولا تبق منك على الأرض نسلا تستبقي فيه للحياة دما من دمك المفسود.
تبدد كالدخان ولا تحرم بظلك حبة القمح النابتة من نور الشمس.
وما انتهيت من هذا الخطاب حتى استلقيت على المقعد وقطرات الدموع تتساقط من عيني، وأنا أعول قائلا: أليس هذا ما قلته لي أنت يا ديجنه؟ أفما كنت تعرف هذا من قبل؟ وإذا كنت عرفت فلماذا لم تتكلم؟
وكان ديجنه مشبكا أنامله وقد علته صفرة الموت وانهمر الدمع من عينيه.
وساد بيننا السكوت، وقرعت الساعة فذكرتني فجأة أنني في مثل هذا اليوم وهذه الساعة منذ سنة تكشفت لي خليلتي مخادعة خائنة.
فصحت بديجنه: أتسمع دقات هذه الساعة؟ أتسمعها ... إنني لا أعلم بماذا تنذرني؟ ولكنني أشعر أنها ساعة رهيبة سيكون لها شأنها في حياتي.
وكنت أتفوه بهذه الكلمات وأنا مسلوب الإرادة، مضعضع الحواس، وفتح الباب فجأة في تلك اللحظة نفسها، ودخل القاعة أحد الخدم، فأخذ بيدي وانتحى بي إلى زاوية وأسر إلي قوله: أتيت لأخبرك يا سيدي بأن أباك على فراش الموت؛ فقد أصيب بالشلل، ولا أمل للأطباء في حياته.
الجزء الثالث
الفصل الأول
وكان والدي يقطن ضاحية قريبة من باريس، وعندما وصلت إلى المسكن رأيت طبيبا واقفا أمام الباب فقال لي: لقد وصلت متأخرا، وكان أبوك يتمنى لو يراك للمرة الأخيرة.
دخلت فإذا والدي مسجى وقد فارقته الحياة، فقلت للطبيب: أرجوك أن تبعد كل من في الغرفة. دعني وحدي؛ فقد كان لوالدي ما يقوله لي، ولسوف يقول كلمته الآن.
وخرج الخدم فتقدمت إلى السرير ورفعت الغطاء عن وجه الميت، ولكنني ما ألقيت نظري عليه حتى تراميت لتقبيله فأغمي علي.
ولما أفقت على فراشي في غرفة أخرى سمعت من حولي يقولون: لا تدعوه يذهب وإن أصر. انتظرت حتى رقد جميع من في البيت، وأخذت مصباحا وتوجهت إلى غرفة الميت، فوجدت فيها كاهنا فتيا جالسا قرب السرير، فقلت له: لا حق لك بأن تنازع ولدا ليلة أخيرة يقضيها قرب أبيه. لا أعلم ماذا قيل لك بشأني، غير أنني أرجوك أن تدخل إلى الغرفة المجاورة، وأنا اتخذ على عاتقي كل تبعة قد تقع عليك.
ذهب الكاهن، فقعدت مكانه ومددت يدي أكشف للمرة الثانية عن هذه الملامح التي قضي علي بألا أراها بعد.
وخاطبت الميت قائلا: ماذا كنت تريد أن تقوله لي يا أبي؟ لقد أدرت لحاظك مفتشا عني قبل انطفاء عينيك، فما كانت فكرتك الأخيرة يا ترى؟
وكان والدي يكتب مذكرات يدون فيها وقائع أيامه ، وكان كتاب هذه المذكرات مفتوحا على الخوان، فتقدمت إليه وجثوت، فإذا على الصفحة الأخيرة هذه الكلمات:
الوداع يا ولدي ... أحبك ... وأموت.
جمدت دموعي، واختنقت زفراتي، فكأن يدا شدت على عنقي وختمت على فمي، فوقفت شاخصا بالميت المسجى أمامي، وما كان في حياته يجهل ما كانت عليه حياتي، فقد كان يشكوني إلى نفسي ويوجه إلي التقريع، وما اجتمعت به مرة إلا وحدثني عن مستقبلي، وتناول باللوم مآتي شبابي، ولكم أنقذتني نصائحه من تهلكة! فقد كان لإرشاده قوته المستمدة من فضيلته؛ لأنه كان مثال الدعة ومكارم الأخلاق، وقد كان يتمنى لو يراني قبل موته ليردني عن السبيل الضلول الذي توغلت فيه، ولكن المنية عاجلته فلم تدع له إلا كلمة واحدة يقولها، فقال: إنه يحبني ...
الفصل الثاني
وكان قبر والدي يحوطه سور من خشب؛ لأنه أراد أن يدفن في القرية، فكنت أذهب كل يوم لأقضي ساعات على مقعد صغير موضوع داخل السور، ثم أعود إلى المسكن الذي كان يقطنه ولا رفيق لي إلا خادم واحد.
مهما فعلت أحزان الشهوة في النفوس، فما هي إلا آلام حياة، وهل تقاس آلام الحياة بأحزان الموت؟ إن أول ما تبادر إلى ذهني حين وقفت إلى جنب سرير والدي الميت هو أنني ولد جاهل لا يعلم شيئا، ولا يعرف شيئا، وعندما ربط الأسى على قلبي شعرت به كألم في جسدي حتى كنت أتلوى كمن أفاق من غفلة، فشعر بجهله، وأحس بآلامه.
ومضت الشهور الأولى علي في الضاحية وأنا ذاهل لا أذكر الماضي ولا أبالي بالمستقبل؛ فما كنت أشعر أن من عاش فيما مضى كان إياي، وما كان ما يستولي علي في ذلك الحين ليشبه آلام اليأس الثائر التي كانت تقبض علي من قبل، بل كان نوعا من الجمود والتعب، فكأنني كرعت السآمة فوجدت لها مرارة تتشنج لها أحشائي.
وكنت أجلس طيلة نهاري إلى كتاب أتصفحه ولا أقرأ، بل أنظر إليه لأسبح في أجواء تشبه العدم؛ لأنني كنت فقدت التفكير، فاستغرقت في سكينة مطبقة؛ فإن ما صدمت به كان من العنف والاستمرار على قوة نالت مني حتى غدوت كالمسلوب تنقر أعصابه فلا تجيب.
وكان خادمي «لاريف» شديد التعلق بوالدي، ولعله كان خير الناس بعده في تقديري، وكان من سنه ومن قده، ويلبس ما يهبه إياه من أثوابه، وقد وخط الشيب شعره بعد أن قضى عشرين سنة في خدمته، فاقتبس شيئا من حركاته.
وكنت بعد العشاء أتمشى في الغرفة فأسمع وقع أقدام خادمي يتمشى أيضا في الدار، وما كان يدخل إلى الغرفة بالرغم من تركي الباب مفتوحا، ولكنا كنا نلتقي من حين إلى حين فيرى أحدنا الآخر من خلال دموعه، وهكذا كانت تمر ليالينا، فما كنت أطلب من الخادم إشعال المصباح إلا بعد أن يكون مضى وقت طويل على غروب الشمس.
وكان البيت لم يزل على ترتيبه القديم، فما زحزح الخادم ولا أنا ورقة من موضعها، فكان مقعد والدي لم يزل قرب الموقد، وبقي الخوان والكتب والرياش في مواضعها. وكنت أحترم الغبار الذي علا هذه الأشياء، وعندما كنت أرتدي مباذل أبي وأسترخي على مقعده كان يخيل إلي أن في الجدران عيونا ترمقني بلحظات الإشفاق، وأنني أسمع همسا يقول: أين مضى الوالد ... فما يتربع على كرسيه إلا اليتيم ...؟
ووردت إلي بعض الرسائل من باريس، فأجبت الجميع أنني أنوي تمضية الصيف في الضاحية وحدي جريا على عادة أبي، وبدأت أدرك أن في كل شر بعض الخير، وأن الآلام العظمى مهما قيل فيها راحة عظمى، فإذا ما تكشف المقدور لنا من علم غيب الله؛ فإنه ليصدعنا لينبهنا من غفلات الحياة، وإذا ما تكلمت هي أسكت صوتها كل صوت، وإذا كانت الآلام الموقوتة تجدف شاكية ظلم السماء؛ فإن الآلام المستمرة الكبرى لا تجدف ولا تشكو، بل تخضع وتتنبه لتسمع وتعي.
وكنت كل صباح أقف الساعات الطوال متأملا في مشاهد الطبيعة، وكانت نوافذ غرفتي تطل على واد عميق يرتفع من وسطه جرس المعبد على قبابه، فكان كل ما يمتد نظري عليه ينم عن البساطة والفقر، وما كانت مشاهد الربيع بأزهاره المتفتقة وأوراقه الغضة لتثير في نفسي ما يتخيله الشعراء من التفجع؛ إذ يرون في انجلاء الحياة ابتسامة ساخرة بالموت، ولا أرى من يقول بهذا القول إلا مغالطا، أو شاعرا بقلب لم يتكامل الشعور فيه.
إن من يخرج عند بزوغ الفجر من قاعة المقامرة وقد فرغت يده يمكنه أن يشعر أن بينه وبين الطبيعة عداء ونضالا، فهو أمام أنوار الشفق كمصباح ليلة فاجرة ... ولكن ما يمكن أن تسر به الأوراق المطلة من غصون الربيع للولد المنتحب على أبيه؟ وما دموع عينيه إلا أخوات الأنداء، وهل أوراق الصفصاف نفسها إلا قطرات دموع؟
لقد نظرت طويلا إلى السماء والغاب والمروج، فأدركت أن تعزية الناس للناس إنما هي تعلة من بنات الخيال، وما كان لاريف ليخطر له أن يعزي نفسه، أو يوجه إلي عبارات التعزية؛ فقد كان هذا الرجل يخشى أن أبيع البيت وأذهب به إلى باريس، ولعله كان مطلعا على حقيقة حياتي الماضية؛ إذ كانت تبدو عليه دلائل القلق في أول الأمر، ولكنه عندما رآني أعد المنزل لأقيم فيه شعرت بنفوذ نظراته إلى أعماق قلبي، وكان ذلك يوم استحضرت من باريس صورة كبيرة لأبي علقتها على جدار غرفة الطعام. ولما دخل لاريف ورأى هذه الصورة أخذه الذهول، وبدأ ينقل نظراته من رسم والدي إلى وجهي، وفي هذه النظرات من تساوي الحزن والفرح ما يصعب التعبير عنه، فكأنه يقول لي: يا للسعادة! لسوف نستغرق بسكون في حزننا.
ومددت له يدي فأوسعها تقبيلا، وكان هذا الخادم يعتني بأحزان سيده كأنها سيدة أحزانه، وكنت كلما ذهبت في الصباح إلى القبر أرى أنه سبقني إليه وسقى أزاهره؛ لينسحب عند وصولي ويخلي لي المكان.
وكان يتبعني عندما أمتطي جوادي وأذهب متنزها في الغاب، فأراه قد أطل علي في الوادي ماشيا يسير ورائي وهو يمسح عرق جبينه لاهثا، فاشتريت له فرسا من أحد الفلاحين، وهكذا أصبحنا كلانا نذهب متجولين في الغاب.
وكان في القرية من معارف أبي من كانوا يزورونه أحيانا، ولكنني اضطررت إلى قفل بابي دون كل زائر، وإن صعب ذلك علي، فما كان لي جلد على مقابلة أحد.
وفكرت يوما أن أطلع على أوراق والدي، فقدمها لي لاريف بيد خاشعة مرتجفة، ففك رباطها ونثرها أمامي، وما تلوت الصفحات الأولى منها حتى شعرت بانتعاش كأن نسمات عليلة هبت علي من جوانب بحيرة صافية ساكنة، وكنت كلما قلبت صفحة ونفضت عنها غبار الزمان عبقت منها كالعطر حياة أبي تتوالى يوما بعد يوم، فأعد فيها خفقان فؤاده، وأستعرض وقائعها كحقول مساع كلها جد، وقد نبتت في كل جوانبها أزاهر العطف والنبل، وتمازجت ذكريات حياته بتذكار موته، فكنت أتتبع هذه الحياة تتحدر كالجدول الصافي نحو بحر الموت.
وهتفت في صمتي: أيها الرجل الصالح الذي لم يعرف الخوف، ولم يتدنس بلؤم، لكم كنت طاهرا في جهادك، ومخلصا في ولائك، ووفيا في حبك لزوجك أمي، لكم كنت معجبا بالطبيعة، ومتعبدا لربك! فحصرت في هذه العواطف كل حياتك، ولم تدع لسواها منفذا إلى قلبك، فما كانت الثلوج على أعالي الجبال بأنقى من ناصع شيبك في شيخوختك الصالحة، ألق هذا الشيب على رأسي يا أبي؛ فإن فيه من الشبيبة ما ليس على شعري الذهبي. هبني أن أعيش كما عشت أنت، وأن أموت كما مت، فإنني أريد أن أغرس في التراب الذي يواريك غصنا ناضرا لحياتي الجديدة، فأسقيه من دموعي، والله راعي كل يتيم، ينمي هذا الغرس المقدس ليظلل أوجاع ولد، وتذكار شيخ.
وبعد أن اطلعت على الأوراق جميعها، قررت أن أدون أنا أيضا تذكارات أيامي، فأعددت لها كتابا على مثال كتاب والدي، وبدأت بالسير على آثاره، وطبع حياتي على غرار حياته، فكانت الساعة كلما دقت تذكرني بحركة من حركات أبي، وسكنة من سكناته، فكنت أتبع في الطعام والقراءة والتنزه الخطة التي اتبعها هو، فتعودت الحياة الهادئة المنظمة تدخل الطمأنينة إلى قلبي طول نهاري، حتى إذا جاء المساء رقدت مستكنا وأنا أشعر بالغبطة حتى في أحزاني.
وكان والدي شديد الميل إلى العمل في الحديقة، فيوزع أوقاته بعد حرثها توزيعا متساويا بين المطالعة والتنزه، فيعطي لعقله ولجسده ما يحق لكل منهما، واقتديت بأبي أيضا في أعمال البر متمما ما بدأ به، فكنت أذهب مفتشا عمن أتمكن من مد يد المساعدة لهم، وعددهم وفير في الوادي حتى اشتهرت بينهم، وهكذا - لأول مرة في حياتي - شعرت بالسعادة، فليس كالرحمة ما يطهر الأحزان ويقدسها؛ فقد بارك الله دموعي، فتعلمت الفضيلة من الآلام ...
الفصل الثالث
وكنت أتمشى ذات مساء عند مدخل القرية تحت ظلال الزيزفون، فرأيت سيدة فتية تخرج من أحد المساكن المنفردة، وكانت مقنعة ومرتدية أثوابا على غاية من البساطة، غير أن قامتها الهيفاء، وخطراتها الرشيقة استوقفتني، فاتبعتها بنظري، وعندما وصلت إلى المرج كان هنالك جدي أبيض يرتعي منفردا، فلما رآها قفز لملاقاتها، فأمرت يدها على رأسه وتلفتت يمينا وشمالا كأنها تفتش عن أوراق خضراء تقتطفها له، وكان قربي شجرة من التوت البري، فقطعت منها غصنا وتقدمت به نحو الجدي، فتقدم هو أيضا نحوي ولكن بخطوات متمهلة، حتى إذا دنا من الغصن وقف وجلا ينظر إلى صاحبته كأنه يتوقع صدور أمرها، فأشارت إليه لتشجعه على الإقدام، غير أنه لبث خائفا حتى جاءت ووضعت أناملها على الغصن، فاختطفه الجدي من يدي، والتفتت المرأة المجهولة إلي مسلمة وسارت في طريقها.
ورجعت إلى البيت، فدعوت لاريف ووصفت له المسكن المحاط بالحديقة الصغيرة عند مدخل القرية، واستفسرت منه عن سكانه، فقال: إن من يقطنه سيدتان: إحداهما عجوز مشهورة بالتقوى، والأخرى تدعى مدام بيارسون، وهي السيدة التي رأيتها، ولما استعلمت عنها وعما إذا كانت زارت والدي من قبل قال: إنها تعيش منعزلة، وإنه قليلا ما رآها عند والدي.
ولم استزده إيضاحا، بل عدت إلى ممشى الزيزفون وجلست على مقعده، فاقترب الجدي مني يلاطفني، فشعرت بحزن عميق يستولي علي، ونهضت أرسل بصري على الطريق التي كانت مدام بيارسون قد اتجهت إليها، ثم اندفعت أتخطاها وأنا ذاهل حتى توغلت في الجبل.
وكانت الساعة الحادية عشرة مساء عندما خطر لي أن أعود أدراجي، ولكنني رأيت مزرعة قريبة مني، فتوجهت إليها لأتناول فيها قدح لبن وقطعة خبز، وكنت من جهة أخرى شعرت بنقط كبيرة تتساقط من الغمام منذرة بعاصفة شديدة، فقصدت بيت المزرعة وطرقت بابه، فما أجابني أحد بالرغم من وجود نور فيه، فتقدمت إلى النافذة، وتطلعت فإذا في الباحة نار مشبوبة، والزارع الذي كنت أعرفه جالس قرب فراشه، وضربت على زجاج النافذة لأناديه، فإذا بالباب يفتح فجأة ومدام بيارسون تظل منه سائلة: من الطارق؟
وما كنت لأتوقع أن أرى هذه السيدة، فما خفي عليها اندهاشي.
دخلت الغرفة لاجئا من المطر، وإذ كنت أتساءل عن سبب وجود هذه السيدة في هذا المكان في مثل هذه الساعة المتأخرة، سمعت أنينا، فأدرت وجهي نحو مصدره، فإذا امرأة الزارع منطرحة على سريرها وقد رسم الموت طابعه على وجهها.
وقعدت مدام بيارسون تجاه زوج العليلة وقد انهدم في جزعه وحزنه، وأشارت إلي بعدم الإتيان بأقل حركة؛ لأن المريضة كانت نائمة، فأخذت مقعدا وجلست منتظرا مرور العاصفة.
وكانت مدام بيارسون تنهض من آن لآخر لقرب فراش المريضة، ثم تعود لتقول للزارع بعض كلمات بصوت خافت، وكان أحد أطفال البيت قد اقترب مني فأجلسته على ركبتي، فقال لي: إن هذه السيدة تجيء كل مساء لعيادة أمه، وإنها تمضي الليل عندهم بعض الأحيان؛ لأنها كانت تعتني بالمريضة لعدم وجود راهبات في هذه الأنحاء، وأضاف الولد إلى هذه المعلومات قوله بصوت جد منخفض: ليس من ممرضة سواها، ولا طبيب عندنا إلا الطبيب الجاهل ... أما هي فتدعى بريجيت الوردية، أفلا تعرفها؟
فقلت: لا، ولكن لماذا يلقبونها بالوردية؟
فقال: لا أدرى، ولعلها احتفظت بهذا اللقب منذ كانت بائعة ورود.
وكانت مدام بيارسون نزعت قناعها، ولما نزل الولد عن ركبتي نظرت إليها، فإذا هي واقفة أمام سرير المريضة تقدم لها كأسا لتشربها وقد انتبهت هذه المريضة من نومها. وكانت الممرضة شاحبة الوجه، ممتقعة اللون، ذات شعر أشقر يضرب إلى الرمادي، وما أدري ما أقول عن جمالها، غير أنني حين رأيتها تحدق بعينيها السوداوين بعيني المريضة، والمريضة تعلق أبصارها بها، رأيت بين لحظات هذا الإحسان وهذا الامتنان نوعا من الجمال يقصر عن وصفه كل بيان.
واشتد انهمار المطر، وغرقت الحقول المقفرة بالظلام تمزقه من حين إلى حين بروق خاطفة تتبعها قعقعة الرعود، فكان زئير العاصفة، وأزير الريح، وثورة العناصر خارج الكوخ يزيد رهبة ما في داخله من صمت خاشع، فيبدو المشهد أمامي أشد روعة في قدسيته.
وكنت أجيل الطرف فيما حولي على الجدران الحقيرة، وزجاج النوافذ تقرعه الأمطار، والضباب الكثيف تقذفه العاصفة كالدخان، فأرى يأس الزارع في جزعه الجامد، وذعر الأطفال، وهذه المدنفة تحاصرها كل هذه العناصر الثائرة الصاخبة، وأرى قربها على هذا المسرح الفجيع هذه المرأة المنتصبة بشحوبها ولطفها تذهب وتجيء كأنها تجس الأرض جسا وهي مستغرقة بما تهتم به، فلا تبالي بالعاصفة ولا بأحد ممن ينظرون إليها حتى كأنها لا تبالي بجرأتها وإقدامها، فكنت أشعر أن بهذا العمل المبرور من الصفاء في رصانته ما هو أبهى من صفاء السماء وقد انقشعت عنها الغيوم، فأنظر إلى هذه المرأة كأنها مخلوق أسمى من البشر؛ لأنها وقد أحاطت بها كل هذه المفجعات لم يداخلها الشك لحظة في وجود ربها ورحمته.
من هي يا ترى هذه المرأة؟ ومن أين أتت؟ وهل هي هنا منذ زمن بعيد؛ إذ يذكر الناس أنها كانت بائعة ورود؟ لماذا لم أسمع بها من قبل؟ لقد جاءت وحدها إلى هذا الكوخ في مثل هذه الساعة، فهي إذن لا تسارع إلا إلى حيث تدعوها المصائب والأخطار، فتتجول تحت العواصف بين الغابات في الجبال مقنعة تحمل الحياة لمن يحتاجون إلى الحياة، وبينما تحمل كأس الدواء للأعلاء لا تنسى أن تلاطف جديها الأبيض في طريقها.
إن هذه المرأة تسير بخطواتها المتزنة الهادئة لمكافحة الموت ماشية بالخطوات نفسها إلى موتها.
هذا ما كانت تفعله هذه المرأة في هذا الوادي بينما كنت أنا أرتاد قاعات الميسر، وأمشي على سبيل الضلال، ولعلها ولدت في هذا الوادي، وستدفن في مقبرته بالقرب من لحد أبي المحبوب، فتذهب من الدنيا دون أن يعرفها الناس، وهي التي يسألك الأطفال وهم يذكرونها: أفما تعرف بريجيت الوردية؟
ليصعب علي بيان ما كنت أشعر به وقد وقفت في زاوية لا أبدي حراكا ولا أتنفس إلا مرتجفا، ولاح لي أنني إذا تقدمت لمساعدة هذه المرأة لأوفر عليها خطوة من خطواتها، أرتكب خرقا، وألمس بيدي الدنسة آنية مقدسة.
ودامت العاصفة ساعتين حتى سكنت، فأفاقت العليلة وجلست على فراشها وهي تقول: إنها تشعر بالراحة، فقد أفرج عنها بعد أن تناولت الدواء، فتراكض الأطفال إلى أمهم ينظرون إليها، وقد تمازج في عيونهم الفرح والاضطراب، وأمسكوا برداء مدام بيارسون.
وقال الرجل وهو لا يتزحزح من مكانه: كنت أتوقع هذا لأننا عهدنا إلى الكاهن بأن يصلي، وقد كلفنا ذلك كثيرا من المال.
وعندما سمعت هذه الكلمات الدالة على الخشونة والحمق، التفت إلى مدام بيارسون فرأيت من تعب جفونها، ومن التواء قامتها وامتقاع وجهها أن التعب والسهر ذهبا بكل قواها، وسمعت العليلة تجاوب زوجها قائلة: جزاك الله خيرا يا زوجي المسكين.
ونهضت من مكاني وقد ثار ثائري لحماقة هؤلاء الناس الذين يعبرون عن امتنانهم لملاك بتوجيه الثناء إلى بخل كاهن، وكنت على وشك تقريعهم على عقهم، ومعاملتهم بما يستحقون، ولكنني رأيت مدام بيارسون ترفع بذراعيها أحد الأطفال لتقدمه إلى أمه قائلة له: قبل أمك فقد زال عنها الخطر.
وجمت إذ سمعت هذه الكلمات، وتفرست في وجه هذه المرأة، فرأيت عليه أوضح اغتباط تنم عنه روح محسنة كريمة، وكانت آثار التعب قد زالت عن ملامحها، فطفح وجهها بالبشر، ورفعت شكرها لله أيضا. إن كل ما كانت تطمح إليه هذه الممرضة هو أن تتكلم المدنفة. أما وهي تتكلم فلتقل ما تشاء ...
وبعد برهة طلبت مدام بيارسون من الأولاد أن ينهضوا خادم المزرعة من رقاده ليوصلها إلى بيتها، فتقدمت أطلب إليها أن أسير معها حارسا ما دمت ذاهبا في الطريق نفسها، وأعلنت لها أنني أعد قبولها شرفا لي، فسألتني: أفأنت أوكتاف ت؟ فأجبتها: أنا هو، وسألتها ما إذا كانت تذكر والدي، واستغربت ابتسامها عندما أوردت هذا السؤال، ولكنها أخذت بساعدي وخرجنا بسرور إلى الطريق.
الفصل الرابع
وكنا نقطع الطريق صامتين، وسكنت العاصفة، فارتعشت الأشجار تنفض عن أغصانها قطرات الأمطار، وكان لم يزل على الأفق البعيد ومضان لبقايا البروق، وهبت من الأعشاب الرطيبة عبقات نشرها الهواء وقد دبت الحرارة فيه، وانقشعت السحب عن وجه السماء، فغمر القمر بأنواره قمم الجبال.
وذهب فكري يتلمس من الصدف أسرارها، وقد عجبت لها تجمع في ساعات بيني وبين امرأة ما كنت لأظن أنها موجودة عندما أشرقت الشمس، وها أنا ذا أصحبها في طريقها المقفر في العراء تحت جنح الليل.
لقد قبلت هذه المرأة أن ترافقني لوثوقها من شرف محتدي، فهي الآن تستند إلى ذراعي وتسير معي مستسلمة مطمئنة.
وكنت أرى في هذه الثقة كثيرا من الجرأة، أو كثيرا من السذاجة، وشعرت أن رفيقتي تجمع بين هذه وتلك؛ لأنها بهذه القوة المزدوجة دفعت بقلبي إلى عاطفة الطهر والافتخار.
وبدأ حديثنا يدور على المريضة التي تركنا في الكوخ، ثم تحول إلى مشاهد الطريق، وما خطر لأحدنا أن يوجه إلى الآخر ما يوجهه المتعارفان حديثا، وتكلمت مدام بيارسون عن أبي باللهجة نفسها التي ذكرته بها للمرة الأولى؛ أي بلهجة فيها شيء من السرور الرصين، فبدأت أفهم كلما توغلت في الحديث معها سبب تكلمها بهذه اللهجة، لا عن الموت فحسب، بل أيضا عن الحياة وما فيها من حوادث وآلام، فأدركت أن ليس في الأرض من ألم تراه مبعثا للشكوى من الله؛ لذلك كان ابتسامها عبادة وتسليما لإرادته.
وحدثتها عن حياة العزلة التي اختارتها فقالت: إن عمتها كانت تجتمع بوالدي أكثر مما كان يتسنى لها أن تجتمع به هي؛ لأن عمتها كانت تلعب وإياه بالورق في السهرات، وأخيرا دعتني إلى زيارتها.
وعندما وصلنا إلى منتصف الطريق أحست بالإعياء، فجلست على مقعد كانت وقته الأغصان الغضة بلل الأمطار، فوقفت أمامها أنظر إلى أشعة القمر الباهتة تنير جبينها، وبعد دقائق نهضت، وإذ رأتني ذاهلا قالت: بماذا تفكر؟ أفما آن لنا أن نستأنف السير؟ - كنت أفكر في الغاية التي خلقك الله لها؛ فأدركت أنه أوجدك رحمة للعالمين. - إنها لكلمة لا أحملها منك إلا على محمل الإطراء. - ولماذا؟ - لأنه يلوح لي أنك لم تزل في ريعان العمر. - أفليس في العالم من بلغوا من العمر أكثر ما تدل سيماؤهم عليه؟ - لقد يكون ذلك، كما أنه يمكن للإنسان أن يأتي بأقوال أنضج منه. - أفما تعتقدين بالاختبار؟ - إن ما أعرفه عنه هو أن أكثر الناس يلقون اسمه على أحزانهم، أو على أعمالهم الجنونية، فما هو مبلغ المعرفة التي يتوصل إليها من كان في سنك؟ - رب رجل في العشرين رأى من الدهر ما لم تره امرأة في الثلاثين، فإن ما يتمتع به الرجال من الحرية يصل بهم إلى صميم الحياة بأسرع مما تصل النساء؛ فالرجال يتهافتون على ما يجتذبهم دون حائل، فيختبرون كل الأمور، فإذا ما لاح لهم أمل مشوا إليه، حتى إذا بلغوه ارتدوا عنه تاركين الأمل مضيعا على الطريق، وقد خدعتهم السعادة بما منتهم من مواعيد.
وكنت أسير في كلامي على هذا النمط حتى بلغنا أكمة ينحدر الطريق منها إلى الوادي، وكأن الانحدار استهوى رفيقتي، فبدأت تقفز برشاقة، فجاريتها، وسرنا ركضا وساعدانا مشتبكان والعشب المبتل تحت أرجلنا يزيد في انزلاقنا، وهكذا انحدرنا كطيرين أصابهما الدوار حتى بلغنا قاعدة الأكمة.
وقالت: لقد كنت متعبة فزال تعبي الآن، فهلا عالجت اختباراتك بما أعالج به تعبي ... لقد سرنا بسرعة فسنتناول الطعام بشهية.
الفصل الخامس
وذهبت لزيارتها في اليوم التالي فوجدتها جالسة إلى البيانو، ورأيت العمة الشيخة قرب النافذة منهمكة في الحياكة، وكانت الغرفة الصغيرة مليئة بالأزهار، وشعاع الشمس يغمر العرائش المحيطة بها حيث نصب قفص كبير تتطاير فيه العصافير.
وكنت أتوقع أن أرى زاهدة عابدة، أو على الأقل امرأة قروية لا علم لها بشيء مما يجري وراء ضاحيتها، ولا تحيد عن عادات محيطها، وقد كنت أنظر إلى من يعيشون منعزلين كأنهم يختفون عن الناس هنا وهنالك في المدن بشيء من الحذر كأنني أرى فيهم بئرا آسنة فسد فيها الهواء، فإن في كل ما يتلفع بالنسيان على الأرض شيئا من الموت، غير أنني رأيت على مكتب مدام بيارسون جرائد ومجلات حديثة كانت ترصد لها ما يتبقى لديها من الوقت. وقد كان كل ما حولها من الرياش وما تلبسه من ثياب يدل على التجديد في الزي والحياة، فكانت تتمتع بكل ذلك وكأنها منسلخة عما حولها. وقد استرعى انتباهي ما في ذوقها من التناسق الذي يند عن كل مستغرب، فلا تأنس إلا للجدة والحسن، وكان حديثها يدل على علم مستكمل، فما كانت تتناول موضوعا دون الإجادة فيه، فكنت أحس بأن وراء هذه السذاجة غورا مليئا بالكنوز، وأن ذكاء طليقا وافرا يرف فوق قلبها الهادئ في عزلتها، فكأن هذا الذكاء طير من أطيار السواحل يتعالى إلى السحاب مرفرفا فوق طحلب الصخور حيث ابتنى عشه.
ودار حديثنا حول الأدب والموسيقى، وكدنا نتناول السياسة، وكانت قد ذهبت في الشتاء إلى باريس، وما كانت تتصل بالمجتمع إلا في فترات متقطعة، غير أن القليل الذي كانت تشاهده كان يكفيها لفتح مجال وسيع أمام تفكيرها.
وكان خير ما يجملها سرور هادئ لا يصل إلى المرح الذي يثب وثبا، فكأنها خلقت زهرة عبيرها السرور.
ويعجز بياني عن وصف ما كانت تفعل عيناها السوداوان وهما تلتمعان على صفحة وجهها الشاحب، ومما كان يزيد في بهائها سكنات وحركات تأتي بها عفوا؛ فتدل على أنها عركت الدهر وبلت الحياة.
وما أدري أية قوة كانت تعلن أن السرور المكلل لجبين هذه المرأة لم يأتها من هذا العالم، بل أنزل عليها من السماء، وأنها ستعود بهذا السرور كاملا إلى الله بالرغم من الناس، فكانت هذه المرأة تتجلى لي في بعض اللحظات كحاملة قبس تتنسم هبوب الريح لتقي النور المشع في يدها.
وما أمضيت ساعة في الغرفة الصغيرة حتى اندفعت أحدث صاحبتها عن كل سرائري، ذاكرا حياتي الماضية وما تركت لي من أصحاب، وما تحملت فيها من الأحزان، وكنت أتمشى في الغرفة، فتارة أنحني على الأزهار أنشق عبيرها، وتارة أرفع رأسي إلى السماء محدقا بالشمس، ثم تقدمت إلى مدام بيارسون أخيرا ورجوتها أن تسمعني إنشادها، فما ترددت وبدأت تنشد، فذهبت إلى النافذة لأتطلع إلى الطيور بينما أتنصت إلى الإنشاد، وخطرت على بالي كلمة «لمونتان»، وهي: «لا أحب الحزن ولا أحترمه بالرغم من إجماع الناس على تمجيده، فما الحزن إلا كلمة حمقاء جعلها الناس حيلة للحكمة والفضيلة.»
وسمعت صوتي يتعالى بالرغم مني قائلا: يا للسعادة! ويا للراحة والمسرة والسلوان!
فرفعت العمة رأسها ونظرت إلي نظرة استغراب، وتوقفت مدام بيارسون فجأة عن الإنشاد، فعلا احمرار الخجل جبيني إذ شعرت بما أتيت من جنون، فارتميت على المقعد صامتا.
ثم نزلت وإياها إلى الحديقة، فرأيت هنالك الجدي الأبيض راقدا على العشب، ولما رآنا هب نحوها ومشى ليتبعنا، وما قطعنا أول ممشى في الحديقة حتى لاح لنا قرب المدخل شاب طويل القامة، شاحب الوجه، ملتف برداء أسود، فاجتاز الحاجز دون أن يقرع الجرس، وتقدم إلى مدام بيارسون مسلما، ولحظت أن غمامة سوداء مرت على ملامح هذا الرجل عندما رآني، وقد تشاءمت أنا لمرآه. وكان القادم كاهنا يدعى مركانسون - كنت شاهدته في القرية - وهو من خريجي سان سولبيس، ومن أنسباء الكاهن خادم الرعية.
وكان هذا الرجل بدينا شاحب اللون، وما كنت حياتي إلا مستقبحا هذا النوع من الصحة العليلة. وكان هذا الرجل فضلا عن هذا التناقض في شخصه يتكلم بلهجة تدل على الادعاء، فكان يورد ألفاظه متوثبة متمهلة، وكان في مشيته شيء من التصنع المتثاقل زاد في نفوري منه. أما نظراته فلا يسعني أن أقول عنها إنها نظرات؛ لأنها ما كانت لتعني شيئا.
ذلك كان حكمي على هذا الرجل من ملامحه، وما كذبت الأيام فراستي فيه، وا أسفاه ...!
جلس هذا الرجل على مقعد وبدأ بالتحدث عن باريس، وكان يدعوها بابل العصر، فقال: إنه جاء منها وهو يعرف جميع من فيها، وإنه كان يتردد على مدام «ب»، وهي ملاك كريم، فيقوم بالوعظ والإرشاد في قاعتها الكبرى؛ حيث كان الناس يأتون زرافات ليصغوا إلى أقواله وهم ساجدون - وما كان الذي يقوله هذا الرجل كذبا، ويا للأسف!.
وذهب في حديثه فقال: إن من عرفه إلى هذا البيت الكريم إنما كان أحد زملائه، غير أن هذا الزميل كان قد أغوى فتاة، فطرد من المدرسة لهذا الجرم الشنيع.
ثم انقلب هذا المحدث يكيل الثناء لمدام بيارسون لما تتصف به من حب الخير، وما تأتيه من أعمال البر بالاعتناء بالمرضى والسهر عليهم بنفسها قائلا: إنها لأعمال جليلة لن أغفل عن ذكرها في سان سولبيس.
فكأنه كان يقول: إنه لن يغفل عن ذكر هذه الأعمال عند أقدام عرش الله.
وكنت تعبت من سماع هذا الخطاب فاستلقيت على العشب وبدأت أداعب الجدي الأبيض، فأنزل مركانسون نظره المنطفئ علي قائلا: لقد كان فارينو الشهير يحب أن ينطرح على العشب ويداعب الحيوانات.
فقلت: هذا نوع من الهوس الطاهر يا حضرة القس، ولو أن هوس الناس كله من هذا النوع لكانت الأمور تجري مجراها، ولا تحتاج لتدخل أحد فيها.
وما أعجبه جوابي، فقطب جبينه وغير الحديث قائلا: إنه موفد من قبل كاهن القرية ليحدث مدام بيارسون عن رجل فقير لا يملك ما يقتات به، وبعد أن دل على مسكن الرجل قال إنه يؤمل أن تهتم السيدة الفاضلة بأمره.
وكنت أتوقع أن تتكلم هي ليزيل صوتها أثر صوت الكاهن الأبح من أذني، فما أبدت جوابا، بل انحنت مسلمة، فنهض الكاهن وذهب في سبيله.
وما توارى حتى عاودنا الحبور، فدعتني للذهاب معها إلى حجرة النبات في طرف الحديقة، وكانت هذه السيدة تعتني بأزهارها عنايتها بالأطيار والفلاحين؛ لأنها كانت تود أن ترى كل شيء حولها متمتعا بالصحة، فلا يحرم أحد أو شيء قطرة الماء وشعاع الشمس، فما كانت تشعر بالسعادة إلا إذا بلغت ما يريده الملاك الكامن فيها.
وكانت حجرة أزهارها على غاية من الجمال، وبعد أن مررنا بها قالت: هذه هي مملكتي الصغيرة، وقد رأيت كل ما فيها؛ لأن هنا آخر حدودها.
فقلت لها: لقد تذرعت باسم والدي لدخول هذه المملكة، فاسمحي لي باسمه أيضا أن أعود لأومن بالسعادة وأتأكد أنها لم تدفع بي إلى زاوية النسيان.
مدت يدها إلي فلمستها دون أن أجسر على رفعها إلى شفتي، وأمسى المساء فعدت إلى مسكني، وعندما أوصدت بابي واستلقيت على فراشي، لاح البيت الأبيض الصغير أمام عيني، فكنت أراني أخترق القرية متجها إلى الحاجز لأقرع بابه، وهتفت قائلا: تبارك الله، يا قلبي، فإنك لم تزل فتيا، ويمكنك أن تحيا، ويمكنك أن تحب بعد.
الفصل السادس
وكنت في ذات ليلة عند مدام بيارسون، وكان قد مر علي ثلاثة أشهر لم يفتني منها يوم دون أن أجتمع بها، وما أذكر من هذه الأيام إلا أنني كنت أراها، وقد قال لابرويير: يكفي الإنسان أن يوجد قرب من يهوى، سواء استغرق في تفكيره أو تكلم، وسواء اتجه فكره إليه أو إلى أي موضوع كان.
ومرت علينا ثلاثة أشهر ونحن نتمتع بالتنزه ساعات طويلة، فاطلعت على أسرار أعمالها المبرورة، وكنا نجتاز الغابات وهي ممتطية مهرا وأنا أمشي وراءها وبيدي عصا صغيرة، فكنا نذهب حاملين همنا وحبورنا لنقرع أبواب الأكواخ.
وكان على مدخل الغاب مقعد خشبي، كنت أذهب فأجلس عليه كل مساء بعد العشاء، فالتقى بها هنالك كأن الصدفة تسوقنا إلى هذا المكان بلا وعد.
وفي السهرة كنا نلعب بالورق مع عمتها قرب الموقد كما كان الحال في عهد والدي، وهكذا كانت أمامي في كل آن ومكان تملأ ابتساماتها جوانب قلبي.
بأي قضاء قدتني إلى الشقاء أيتها العناية العلياء؟ وماذا كان علي أن أقتحم من قبل لأصل إلى هذه الحياة الحرة، إلى مثل هذا الولاء والراحة حيث تنبثق أوائل ذرات الآمال.
علام يشكو الناس الحياة؟ لهم الله! أليس لديهم الحب؟ وهل من شيء أعذب من الحب؟
أفما يكفي الحب إحسانا أنه يجعل الإنسان شاعرا بالحياة، مدركا بأنه خليقة ربه؟
حذار أن تشك في الحب؛ فهو سر لن تجد له تفسيرا، ومهما قيده الناس بأنواع الأغلال، وأحاطوه بالدنايا والأقذار، ومهما تراكم فوقه من المعتقدات السخيفة ما يشوهه ويفسده، فإنه ليبقى بين هذه الأقذار القوة العنيفة المسيطرة، والناموس السماوي الذي يتسامى بقدرته وتعاليه عن الإدراك؛ لأنه الناموس الذي يسير الشمس في أفلاكها.
ما هي هذه الرابطة التي تشد الناس بقيود أصلب وأمتن من الحديد وهي لا تلمس ولا ترى؟
يصادف رجل امرأة ، فما هي إلا نظرة وكلمة فإذا هذه المرأة راسخة في تذكاره لا يجد إلى محوها من صفحاته سبيلا.
من الذي قضى بأن يحدث هذا الانطباع من ذات هذه المرأة دون سواها؟
ارجع إلى العقل والاعتياد والحس، الجأ إلى رأسك وإلى قلبك وعد بالإيضاح إذا تمكنت منه، فإنك لن تجد أمامك إلا جسدين يواجه أحدهما الآخر، وليس بينهما إلا الهواء والمدى.
ما أسخف من يعتقد بإنسانيته ويجسر على اقتحام الحب لتحليله! أرأيتم الحب لتصفوه؟
إن أحدا لم يره، بل شعرتم به شعورا: لقد تبادلتم النظرات مع شخص مجهول مر بكم، فشعرتم فجأة بانطلاق شيء منكم لا يحيط به اسم، ولا يحدده تعبير، فوقف الهوى بكم يشد بأعراقكم إلى الأرض كأنكم حبة الحنطة تشعر بحياة تستنبت منها سنابلها.
وكنا جالسين سوية أمام النافذة المفتوحة نطل على حديقة يخر في طرفها ينبوع صغير تصل سقسقته إلى آذاننا، ولكم أتمنى لو أنني أعد الآن ما أسالت هذه العين من قطرات ونحن نتبادل الحديث، تلك أويقات كنت أثمل منها حتى لا أعي.
يقولون: إن لا شيء أسرع إلى القلب من الشعور بالنفور، غير أنني أرى أسرع منه إلى القلب الشعور بالتفاهم، وبترصد الحب للمتفاهمين، فإن لكل كلمة في هذه المرحلة الأولى قيمة تفوت كل تقدير، وما يقف الفكر عندما تنطق به الشفاه حينما تتجاوب في أحاديثها القلوب.
لله ما أحلى هذه النظرات الأولى يبادلها العاشق نظرات امرأة تجتذبه! ولله أوائل حديث كأنه محاولات تفكير متردد، وتجاوب بيان؛ إذ يشعر العاشقان بفرح غريب، ويتحقق كل منهما أن صوته قد أهاج صدى كامنا في قلب الآخر، فيحيا حياة مزدوجة يدهشه تقاربها وتلامسها، وعندما يثق أحدهما بالآخر، ويتيقن من حبه، ويعلم أنه ظفر بالتآخي المنشود؛ تفيض الروحان غبطة، فتتعطل لغة الكلام؛ يسبقها الحس الباطن بإدراكه وبيانه، وإذا تخاطبت الروحان أسكت تخاطبهما الشفاه. فيا لها من أويقات صمت يمحى فيها من التذكار كل الوجود!
وكان الحب قد قبض على مشاعري منذ أول لقيا وتزايد حتى بلغ الهيام! ولكنني استحييت هذه المرأة، فوجمت أمامها لا أبدي ولا أعيد.
ولو أن هذه الحسناء لم تفتح لي بيتها بمثل هذا الولاء، لكنت عززت عاطفتي بشيء من الإقدام، ولم أكبت هذه الأشواق العنيفة التي كانت تهزني هزا كلما فارقتها ولو إلى حين، ولكن ما كان يبدو لي من صراحة وإخلاص في معاملتها لي كان كافيا لصدي عن كل إقدام، وفضلا عن ذلك، فإن مدام بيارسون لم تبذل لي صداقتها إلا استنادا إلى اسم والدي، وما كان هذا الاعتبار إلا ليزيد في احترامي لها، وفي ميلي إلى المحافظة على كرامة هذا الاسم.
قيل: «إن من تحدث عن الغرام فقد كاشف من يحدثه بغرامه.» لذلك لم أذكر الغرام إلا عرضا، وكنت كلما تعرضت لكلمة الحب أرى جليستي تقتضب الكلام وتتحول إلى موضوع آخر، وما كنت لأعرف لذلك سببا، غير أنني كنت في مثل هذه المواقف ألمح على وجهها التجهم المتألم، وما كنت سألتها شيئا عن حياتها الماضية، ولا خطر لي أن أفاتحها في هذا الأمر؛ لذلك ضربت صفحا عن كل محاولة.
وكان يقام مرقص في كل يوم أحد في القرية، فكانت تذهب إليه في أغلب الأحيان، وما كانت لتبدل شيئا من بساطة ملابسها لهذه المناسبة، بل تكتفي بوضع زهرة تربطها على شعرها بشريطة زاهية فتزيد في رونق شبابها، وكان الرقص يثير فيها المرح؛ لأنها كانت تحبه كرياضة بريئة، وكان لها مقعدها الخاص قرب جوقة الموسيقى، فكانت تتوجه إليه قافزة ضاحكة لتجتمع بصويحباتها، ثم تندفع إلى الرقص دون انقطاع، وكنت ألاحظ زوال الكلفة بيني وبينها في هذه الأوقات، فلا أشترك في الرقص؛ لأنني لم أزل في مدة الحداد. ولكم خطر لي حين أراها مرحة أن أنتهز الفرصة لأبوح لها بحبي، ولكنني ما كنت أحاول ذلك حتى أشعر برهبة لا أستطيع مقاومتها، فأعود إلى موقفي الجدي، وعزمت مرارا أن أكتب إليها، ولكنني مزقت جميع رسائلي قبل أن أصل إلى نصفها.
وفي هذا المساء، كنت تناولت العشاء معها، فبت أنظر إلى ما حولي من هدوء وسلام، وأفكر في الراحة التي ذقتها منذ تعرفت إليها، فقلت في نفسي: ولماذا أطلب مزيدا على هذا؟ أفما يكفيني ما أتمتع به؟ فما أدري لعل الله لم يقدر لي مزيدا، ولعل هذه المرأة تصدني إذا أنا أعلنت حبي لها فأحرم مشاهدتها، وهل إذا قلت لها: إنني أحبها سأزيد في سعادتها؟ وهل أبلغ أنا سعادة أوفر من التي أتمتع بها الآن؟
وكنت أفكر في هذه الأمور وأنا مستند إلى البيانو، فشعرت بحزن شديد يستولي علي، وبدأ الغسق يمد ظلاله، فأوقدت شمعة، ثم عادت نحو مقعدها فرأت دمعة تتدحرج على خدي فقالت: مالك؟ فأدرت وجهي.
والتمست عذرا فما عثرت على ما أعتذر به، وحاذرت أن تقع عيناها على عيني، فتوجهت نحو النافذة، وكان الهواء يهب بليلا، والقمر يطل وراء أشجار الزيزفون حيث كنت رأيتها لأول مرة، فحكمني الذهول، ونسيت كل شيء حتى وجودها هي، ورفعت ذراعي نحو السماء فخرجت زفرة كأنها الأنين من أعماق فؤادي.
ونهضت من مكانها فإذا هي واقفة ورائي تقول: ما هذا؟ فقلت لها: لقد تذكرت أبي وفجيعتي بموته عندما رأيت هذه الأشجار، واستأذنت بالانصراف وخرجت.
وما كنت أعرف سببا لإصراري على الصمت، وبدلا من أن أتوجه إلى مسكني ذهبت شاردا في القرية وفي الغاب، فكنت أجلس حيث أجد مقعدا ثم أنهض فجأة، وما انتصف الليل حتى رأيتني أقترب من بيت مدام بيارسون، فرأيتها مطلة من النافذة فارتعشت وأردت أن أنكص على أعقابي، فوقفت كالمأخوذ ثم تقدمت على مهل وقعدت تحت نافذتها - ولا أعلم إذا كانت عرفتني - ومرت دقائق على وجودي، فسمعت صوتها الناعم الرنان يتعالى بنشيد هيام، وشعرت بزهرة تسقط على كتفي؛ فإذا هي وردة كانت تحلي بها صدرها في المساء، فرفعتها إلى شفتي فقالت: من هنا في مثل هذه الساعة؟ أهذا أنت؟
ونادتني باسمي، وكان الحاجز مفتوحا فنهضت دون أن أجيب، ودخلت الحديقة، وإذ وصلت إلى وسط المرج توقفت؛ لأني كنت كسائر في المنام لا أعي ما أفعل.
ولاحت على باب الدرج وهي تحدق بإشعاع القمر وقد بدا التردد على ملامحها، ومشت نحوي فتقدمت إليها وعصاني الكلام، فانطرحت جاثيا وقبضت على يدها.
فقالت: اصغ إلي. أنا عارفة، ولكن إذا كان بلغ الأمر منك هذا الحد فيجب أن تذهب. أنت تجيء كل يوم فنرحب بك. أفما يكفيك هذا؟ وما بوسعي أن أفعل من أجلك؟ أفما بذلت لك صداقتي؟ ولكم كنت أتمنى لو أنك حافظت على صداقتك لي إلى أمد أطول!
الفصل السابع
قالت هذا وسكتت كأنها تتوقع جوابا؛ وإذ رأتني لا أزال متهدما تحت وقر أحزاني، سحبت يدها من يدي على مهل، وتراجعت خطوات، ثم وقفت لحظة وتولت إلى بيتها.
وبقيت على المرج وكنت أتوقع أن أسمع منها ما سمعت؛ لذلك لم أتردد في التصميم على الذهاب، وقفت وفي قلبي غصة، وانطلقت أجوب أنحاء الحديقة وأنا أحدق بالمسكن وبنافذة غرفة مدام بيارسون، ثم عدت أدراجي إلى الحاجز وخرجت مغلقا الباب ورائي، وقبل أن أبتعد وضعت شفتي على القفل وقبلته طويلا.
وعندما وصلت إلى مسكني طلبت من لاريف أن يعد متاعي لأنني أزمعت السفر في الصباح، فدهش المسكين لهذه المفاجأة، فأشرت إليه بأن ينفذ الأمر دون أي استفهام، فأحضر صندوقا كبيرا وأخذنا نضع المتاع فيه.
وكانت الساعة الخامسة صباحا وقد لاحت تباشير الصباح، فوقفت أسأل نفسي إلى أية جهة سأسافر؟ وما كان خطر لي هذا الأمر حتى الساعة، فاضطربت له ووهى تجلدي، فسرحت أنظاري على الحقول وما وراءها من آفاق، فاستولى الوهن علي، فاستلقيت على مقعد وتبلبلت أفكاري. رفعت راحتي إلى جبيني فإذا هو يتصبب عرقا، وشعرت بحمى شديدة تهز جميع أعضائي، فنهضت أطلب فراشي وأنا أستند إلى ذراع لاريف، وطرأ علي الذهول فما كنت أذكر شيئا مما جرى لي، ومر النهار وأمسى المساء، فإذا بنغمات موسيقية تصل إلى أذني، فتذكرت أن اليوم يوم أحد، فأدركت أن المرقص قد دار، فأرسلت لاريف ليرى ما إذا كانت مدام بيارسون موجودة فيه، فعاد لاريف قائلا: إنها ليست هناك. أرسلته إلى بيتها فرأى النوافذ مقفلة، وقالت له الخادمة: إن سيدتها سافرت مع عمتها لقضاء بضعة أيام عند أحد الأنسباء في مدينة ... وهي مدينة صغيرة تبعد مسافة ليست قصيرة عن القرية، ودفع إلي لاريف بكتاب سلمته إياه الخادمة جاء فيه ما يأتي:
منذ ثلاثة أشهر لم أنقطع عن مشاهدتك، ومنذ شهر اتضح لي أنك أخذت بالعاطفة التي يدعوها من في سنك غراما، وكنت أحسب أنك مصر على كتمان أمرك، والتغلب على نفسك. لقد كنت أحترمك، وليس لي أن أوجه أية ملامة إليك عما حدث، وعلى تضعضع عزمك.
إن ما تحسبه حبا ليس إلا شهوة، ولا أجهل أن كثيرات من النساء يحلو لهن تنبيه مثل هذه الشهوة، وكان الأجدر بهن أن يرضين كبرياءهن باكتساب الإعجاب دون إثارة الشهوات، ولكنني أرى الآن أن هذه الكبرياء نفسها خطرة، وقد أسأت باندفاعي معها تجاهك.
إنني أسبقك في مرحلة العمر بسنوات، فأطلب منك ألا تحاول الاجتماع بي؛ لأن من يستسلم لضعفه لن يجد بعد ذلك للنسيان سبيلا. إن ما جرى بيننا لا يمكن العود إليه، ولا يمكن أن ينسى تماما.
إنني لا أفارقك بلا حزن، فأنا سأتغيب عدة أيام. فإذا بارحت البلد أثناء غيابي؛ فإنني لأشكرك على ذلك كدليل على ما تشعر به نحوي من صداقة واحترام.
بريجيت بيارسون
الفصل الثامن
وألزمتني الحمى الفراش أسبوعا كاملا، ولما استعدت قواي كتبت إلى مدام بيارسون أقول لها: إنني أطيع أمرها. فأبرمت هذا العهد وأنا عازم على القيام به، غير أنني ما لبثت حتى عدلت عنه.
استقللت عربة فسارت تبعدني عن القرية حتى إذا أصبحت منها على مسافة ميلين صرخت بالسائق فأوقف السير، وترجلت أتمشى على الطريق وأنا معلق أبصاري على البلد الذي قررت مبارحته، ووقفت تتنازعني عوامل بلبلت من خاطري، فشعرت بأنني أعجز من أن أتابع طريقي، وأن مواجهتي الموت في مكاني أسهل علي من ركوب العربة المولية، وأصدرت أمرى إلى السائق بالنكوص، وبدلا من الاتجاه نحو باريس انطلق الفرسان يقطعان الأبعاد إلى قرية ... حيث تقيم مدام بيارسون.
وصلت إلى هذه القرية عند الساعة العاشرة ليلا، وما كدت أنزل في الفندق حتى طلبت من الخادم أن يدلني على بيت نسيب بريجيت، فذهبت إليه، وإذ قرعت الباب قابلتني الخادمة فقلت لها أن تبلغ سيدتها أن رسولا من قبل دسبريس كاهن القرية يطلب مواجهتها.
وتوارت الخادمة في الدهليز، فوقفت في الباحة. وكان المطر يتساقط، فتقدمت إلى قبو تحت الدرج أتقي فيه البلل، وبعد فترة نزلت مدام بيارسون تتبعها خادمتها، فما رأتني وأنا في الظلمة، فتقدمت إليها ووضعت يدي على ساعدها، فرجعت مذعورة ونادت: «ماذا تريد مني؟»
وكان صوتها يرتجف، وإذ تقدمت الخادمة بالنور رأيت وجهها ممتقعا إلى درجة حسبتها نافرة مني، لولا أنني ملت إلى الظن بأن ارتياعها ناشئ عن المفاجأة ليس إلا.
ولكنها تمالكت روعها وكررت كلمتها بكل هدوء، فقلت لها: أطلب إليك أن أراك للمرة الأخيرة؛ فإنني سأسافر وأترك هذه البلاد فأصدع بأمرك، بل أذهب إلى أبعد مما تقصدين. أقسم لك بأنني سأبيع بيت أبي وكل ما يملك لأهاجر إلى البلاد الأجنبية! ولن أنفذ هذا القسم إلا إذا قبلت رجائي، وإلا فإنني أبقى ... لا تخافي؛ فإنني مصمم على هذا.
فقطبت حاجبيها، وأجالت نظرات غريبة فيما حولها، ثم قالت بشيء من اللطف: تعال غدا في النهار فأقابلك، وذهبت.
ذهبت إليها في اليوم التالي عند الظهر، فأدخلتني الخادمة إلى غرفة قديمة الرياش حيث وجدت مدام بيارسون وحدها، فجلست تجاهها وقلت: ما أتيت لأشرح ما أعاني أو لأنكر ما فعل حبك بي. لقد قلت لي في كتابك إن ما جرى بيننا لا يمكن نسيانه، فما أصدق ما عبرت عنه، غير أنك قلت بعد ذلك إن اجتماعنا على ما كنا عليه من قبل أصبح مستحيلا، وهذا ما لا أراك على حق فيه. أنا أحبك، وما في ذلك إهانة لك، فموقفك لم يتغير ما دمت أنت لا تحبينني، فإذا ما عدت إلا الالتقاء بك فلن يكون مدار الأمر إلا علي وحدي، وحبي لك كافل لك صيانتك.
وأرادت أن تقاطعني فلم أتوقف، بل تابعت قائلا: بحقك، اسمحي لي أن أذهب إلى آخر حديثي، إنني أعلم - ولا يعلم أحد أكثر مني - أن حبي سيتغلب على كل ما لك من حرمة عندي، وعلى كل عهد أقطعه تجاهك على نفسي، وأنا أكرر لك القول بأنني ما أتيت لأنكر عليك ما يضمره فؤادي، وأنت أعلنت لي أنك عارفة بحبي منذ زمان، فما الذي ردني حتى اليوم عن إعلان هذا الحب لك؟ إن ما ألزمني الصمت إنما كان خوفي من فقدك، وحرماني من الاجتماع بك. وهذا الذي حاذرته قد وقع. فأنا أرضى بشرطك على أن توصدي بابك في وجهي إذا ما بدرت مني بادرة تنحرف عن احترامي الشديد لك.
لقد تمكنت من السكون فيما مضى، فلن أتكلم بعد الآن. أنت تظنين أنني أحببتك منذ شهر. لا؛ لقد أحببتك منذ أول يوم، وأنت عرفت حبي فما دعاك ذلك إلى منعي من مشاهدتك، فإذا كنت في هذه الأثناء واثقة من أن حرمتك لن تجيز لي أن أسيء إليك، فلماذا تفقدينني هذه الثقة اليوم؟ لقد أتيت مطالبا بهذه الثقة، فما الذي ارتكبته تجاهك؟ ألأنني طويت ركبتي على الأرض دون أن أنبس بكلمة أعد جانيا؟ وهل عرفت من هذه الحركة شيئا كنت تجهلينه قبلها؟
لقد وهنت قواي لأنني كنت متألما؛ فأصغي إلي يا سيدتي: إنني في العشرين من عمري، ومع ذلك فقد رأيت من الحياة ما أورثني كرهها حتى غدوت لا أرى لي فيها مقاما أرتاح فيه، لا بين الناس ولا في العزلة والانفراد، وليس لي من مستقر أتنفس الحياة فيه إلا هذا المدى الذي تحده جدران حديقتك. إنك دون سواك الكائن الذي أومن قربه بالله، ولقد كنت أعرضت عن كل شيء قبل أن عرفتك، فلماذا تريدين حرماني من الشعاع الوحيد الذي منحني الله إياه من الشمس؟ فإذا كان الخوف يدعوك إلى هذا الاحتياط، فهل أتيت ما يبرر هذا الخوف؟ وإذا كان سببه نفرة مني، فبأي عمل استحققت هذا النفور؟ أما إذا كان ما دعا إلى هذه المعاملة إشفاقا على ما احتملته من الآلام؛ فإنك منخدعة في اعتقادك بإمكان شفائي، لقد فات إمكان الشفاء منذ شهرين، ولكنني فضلت أن أحتمل آلامي بقربك، ولست بنادم الآن ولا غدا على هذا مهما فعلت بي الأيام. إن الشفاء الذي أحاذره هو فقداني إياك. ألقي التجارب علي، فإذا ما بلغ بي الألم حدا لا قبل لي باحتماله، فإنني لن أتردد في الرحيل. وأنت واثقة من خضوعي؛ لأنني مستعد اليوم للسفر تنفيذا لأمرك.
وتوقفت أنتظر جوابها، فنهضت من مكانها فجأة، ثم عادت فاستلقت على مقعدها، وبعد صمت قصير قالت: كن واثقا من أن الأمر ليس على ما تظن.
ولحظت أنها تتلمس في تذكارها كلمات تخفف من صرامة بيانها، فوقفت وقلت لها: هي كلمة واحدة لا غير أطلبها منك. أنا لا أعرف من أنت، فإذا كان في قلبك رحمة فأنا أشكرك من أجلها. قولي هذه الكلمة؛ فإن حياتي متوقفة عليها.
وهزت رأسها بتردد، فأردفت قائلا: إنك تظنين أنني سأشفى، وأنا أسأل الله ألا يحرمك من هذا الظن إذا أنت طردتني الآن.
ونظرت إلى الأفق فرأيت العزلة تنتصب أمامي، ورأيتني طريدا شريدا، فشعرت بتجمد الدم في عروقي، ونظرت إليها وأنا واقف أعلق عليها أبصاري وأنتظر جوابها، وكانت كل حياتي معلقة على شفتيها.
فقالت: اصغ إلي. إن قدومك كان مجازفة، فيجب ألا يعلم أحد أنك أتيت من أجلي، وسوف أعهد إليك بمهمة تقوم بها، فإذا ما رأيت السفر في هذه المهمة طويل الأمد؛ فلك أن تقصره، ولكن إلى حد، وعلى كل حال أرى أن سفرك إلى حين سيسكن من اضطرابك.
إنك ستذهب إلى «الفوج»، ومنها إلى ستراسبورغ، وعندما تعود بعد شهر، أو على الأصح بعد شهرين تطلعني على نتيجة مهمتك، وعندئذ أتمكن من أن أعطيك جوابي بأصرح مما يمكنني أن أفعل الآن.
الفصل التاسع
وأرسلت لي مدام بيارسون في المساء كتابا موجها إلى «ر. د» في ستراسبورغ، وما مضت ثلاثة أسابيع حتى كنت قد قمت بالمهمة وعدت من سفري، وما كنت انقطعت عن التفكير فيها أثناء غيابي، فعلمت أن لا أمل لي في نسيانها يوما، غير أنني كنت مصمما على الاحتفاظ بصمتي أمامها؛ لأن ما أقدمت عليه من المجازفة، وما تلاها من خطر فقدي لها، وما تحملت من الآلام في موقفي، كل ذلك كان يصدني عن التعرض مرة أخرى لهذه الأخطار، وما كان احترامي لها ليدع مجالا لارتيابي بإخلاصها، وما خطر لي قط أن إقدامها على مبارحة البلاد كان تصنعا؛ ولذلك كنت على ثقة من أن أول كلمة غرام أتفوه بها ستكون سببا لإيصادها الباب في وجهي.
ولما لقيتها رأيتها شاحبة متغيرة، وكانت بسمتها كأنها ترتمي ارتماء على شفتيها الممتقعتين.
وقالت لي: إنها كانت مريضة.
ولم يدر بيننا أي حديث عما جرى، وكان يلوح لي أنها تتحاشى تناول ما وقع، وما كنت أنا لأعود إلى البحث فيه، ومع ذلك فقد كان ما بيننا شيء من الاحتراس بالرغم من أننا عدنا إلى ما كنا تعودناه من علاقات الجوار، فكان في عدم تقيدنا شيء من الكلفة وكأننا كنا نسر إلى نفسنا: «لقد كانت الحال على هذا المنوال من قبل؛ فلنستمر عليه.»
وكانت تمنحني ثقتها كأنها تعيد إلي حرمتي، فأرى في وضعها شيئا ترتاح نفسي إليه، غير أن أحاديثنا تولاها شيء من البرود؛ لأن عينينا كانتا تتناجيان خلسة، فلا يبقى وراء الحديث ما يتكلف الفكر اكتشافه. وقد كان كل منا يحاول من قبل أن ينفذ بحديثه ما يجول في خاطر الآخر، فأصبحنا ولا تقدير لكل منا يتجسس به ما تنطوي عليه الكلمات، وما تضمره العواطف. وقد كانت تعاملني بكل لطف فأحاذر لطفها، وكنت أذهب متمشيا معها في الحديقة، ولكنني انقطعت عن مرافقتها إلى الخارج، فلم يعد لنا أن نجتاز الغابات والوديان معا، وعندما كنت أنفرد بها كانت تفتح البيانو وتنشد، غير أن صوتها لم يعد يثير في قلبي من الشباب ما يستخفه ليدفع بأنين كأنه هتفة الآمال.
ولما كنت أخرج من بيتها مودعا كانت تمد يدها إلي، وحين أقبض على أناملها أحس أن لا حياة فيها؛ فلقد كان في ارتياحنا كثير من المجالدة، وفي كلامنا كثير من التفكير، ويسود كل ذلك كثير من الأسى المكبوت.
لقد كنا نشعر بأن ما بيننا ثالثا هو حبي لها، وما كنت لأبديه بأية إشارة مني، غير أن وجهي كان ينم عنه، وفقدت مرحي وقوتي، وما كان على خدي من نضارة العافية، وما مضى شهر علي حتى تبدل حالي ولم يبق من شبه بيني وبين من كنته.
غير أنني كنت لا أزال أذكر كرهي للعالم ونفوري من العودة إليه، فكنت أحاول جهدي أن أقنع مدام بيارسون بأنها تحسن صنعا بإرجاعي إليها، وكنت أصور لها أحيانا ما مر من أيامي بأقتم الألوان، ملمحا لها بأنني سألجأ إلى عزلة خير منها الفناء إذا ما اضطررت يوما إلى الافتراق عنها، وكنت أقول إنني أكره المجتمع، فيؤيد قولي ما كنت سردته لها تفصيلا من وقائع حياتي، وكنت أحيانا أتظاهر بمرح كاذب لا يصدقه قلبي، كأنني أريد أن تعلم أنها أنقذتني من أفظع المصائب، وكنت كلما ذهبت لزيارتها لا أغفل عن تكرار شكري لها؛ لأتمكن بذلك من العودة إليها في المساء وفي صباح اليوم التالي، فكنت أقول إن جميع آمالي ومطامحي محصورة في الحديقة الصغيرة التي تقطنين، فليس لي أن أحيا إلا حيث الهواء الذي تستنشقين.
وما كانت آلامي لتعزب عن شعورها، فأراها لا تستطيع مقاومة إشفاقها على ما أبدي من مجالدة وحزم، فكانت كل حركاتها وسكناتها أمامي تنم عن لينها، فإنها كانت تشهد العراك القائم بين جنبي فتبدو فخورة بإطاعتي لها، غير أن شحوب وجهي كان يثير في قلبها ما انطوى عليه من إشفاق الممرضات، فكانت تبدو أمامي في بعض الأحيان مضطربة إلى حد الدلال، فتقول بلهجة مداعبة: لن أكون هنا غدا، أو تعين يوما تمنعني الحضور فيه، وإذا كانت تراني مستغرقا في الحزن تتلطف قائلة: لا أعلم، على كل حال تعال، أو تزيد في رقتها وتذهب لتشيعني حتى الحاجز، فتزودني بنظرة تترقرق العذوبة في حزنها.
وكنت أقول لها: ثقي أن العناية قادتني إليك، ولو أنني ما عرفتك لكنت عدت إلى ضلالاتي. لقد أرسلك الله ملاك أنوار رفعني من اللجة المظلمة، فما رسالتك إلا سبيل الخير، ومن يدري إذا حكم علي بالابتعاد عنك إلى أية المهاوي تطرحني أحزاني وما اختبرته من الحياة في أوائل صباي، وما سيفعل بي تضجري وملالي.
وكان لهذه الفكرة التي أعبر عنها بإخلاص شديد التأثير على امرأة لها مثل هذه التقوى ومثل هذه الروح المضطرمة في عقيدتها.
وكنت أستعد يوما للذهاب إليها، فإذا بالباب يقرع، وبمركانسون يدخل علي - وهو الكاهن الذي كنت رأيته من قبل في حديقتها - فبادرني باعتذارات أثقل من شخصيته عن إقدامه على زيارتي دون سابق معرفة، فقلت له: إنني أعرفه وأعرف عمه كاهن القرية، وسألته عما يريد.
فظهرت عليه الحيرة، وبدأ يقلب عينيه يمينا وشمالا ويداعب الأوراق الموجودة على الخوان أمامه كمن يفتش على ما سيقول، وأخيرا وفق إلى القول: إن مدام بيارسون مريضة، وإنها كلفته أن يبلغني عدم إمكانها مقابلتي في ذلك اليوم.
فقلت: أمريضة هي؟ وكيف ذلك وقد فارقتها أمس في ساعة متأخرة وهي على أحسن حال.
وانحنى الكاهن مسلما فاستوقفته قائلا: هب أنها مريضة، فهل من موجب لإرسال من يبلغني ذلك؟ وهل بيتها بعيد عني لتقصد توفير العناء بوصولي إليه؟
وبقي صامتا وبقيت مستغربا، فقلت له أخيرا: لا بأس! سأراها غدا فتطلعني على جلية الأمر.
وعاد إلى حيرته فقال: إن مدام بيارسون قد عهدت إليه أيضا بإبلاغي أنها جد مريضة، ولا يمكنها أن تستقبلني إلى أسبوع.
وانحنى مسلما وولى.
ولم يكن من ريب عندي في أن وراء هذه الزيارة سرا. إن مدام بيارسون تريد ألا أقابلها لسبب لا أعرفه، فهل كان مركانسون يقوم بهذه المهمة من تلقاء نفسه؟
ومضى النهار وتبعه الليل، فنهضت مبكرا وقصدت بيت مدام بيارسون، فوجدت الخادمة أمام الباب، وإذ استوضحتها الأمر قالت: إن سيدتها مريضة، وحاولت عبثا أن أجرها إلى الاعتراف حتى بنفحها ببدرة من المال، فلزمت الصمت ولم تبح بشيء.
وفي عودتي إلى القرية صادفت مركانسون على المتنزه وحوله تلامذة عمه، فدعوته إلى كلمة أقولها له على انفراد، ومشيت فتبعني إلى الميدان، وهنالك رأيتني مترددا حائرا لا أعلم ما أقول لأنتزع منه سره ، وأخيرا قلت: أرجوك يا سيدي أن تعلن لي الحقيقة عما أخبرتني به أمس؛ أهي مريضة أم أن هنالك أمرا آخر؟ فأنت تعلم أن ليس في هذه الجهات طبيب يعتمد، وفوق ذلك فإن لدي أسبابا أخرى لها أهميتها تدعوني إلى الوقوف على جلية الأمر.
فصمد الرجل بوجهي لا يحول عما قاله أولا، وأضاف إلى ذلك قوله: إنها هي دعته إليها، وكلفته إبلاغي ما أعلنه لي. وكنت وصلت وإياه إلى ممر ضيق عند مدخل الشارع وضقت ذرعا بهذا الرجل المتصلب، فقبضت على ساعديه فجأة فذعر وقال: أتريد إرغامي بالقوة؟ - لا، ولكنني أريد أن تتكلم. - إنني لا أخاف أحدا، وقد قلت ما يجب أن أقوله. - لقد قلت ما يجب لا ما تعلم. إن مدام بيارسون ليست مريضة. - وكيف عرفت ذلك؟ - عرفته من الخادمة. فما هو السبب يا ترى في إيصادها الباب دوني، وفي إرسالك بمثل هذه المهمة إلي؟ ورأى مركانسون أحد الفلاحين مارا بنا فناداه باسمه قائلا له: لي معك كلام فانتظر.
وتقدم الفلاح نحونا، وكان ذلك ما يرجوه الكاهن؛ لعلمه بأنني لن أتمادى في الحديث أمام ثالث، وهكذا اضطرني إلى سحب قبضتي عن ساعده، ولكنني دفعته بشدة حتى إنه تراجع فجأة واصطدم ظهره بشجرة وقته السقوط، فحرق الأرم وذهب دون أن يفوه بكلمة.
ومضى الأسبوع علي وأنا على أحر من الجمر، أذهب كل يوم إلى باب مدام بيارسون فأراه موصدا بوجهي، وتلقيت أخيرا منها كتابا تقول فيه: إن تكرار زيارتي لها قد أصبح موضوع قال وقيل في البلد؛ فهي لذلك ترجو أن أقلل من عدد هذه الزيارات. وكان كتابها مقصورا علي ذلك، فهي لم تأت على ذكر مرضها ولا على ذكر مركانسون.
وكدت لا أصدق أن الكتاب منها لأول وهلة لما أعلمه من أخلاقها وعدم مبالاتها بالأراجيف، وترفعها عن إخضاع ضميرها لغيرها، ولكنني اضطررت أخيرا إلى إرسال كتاب أقول لها فيه: إنني لا أجد بدا من إجابة نداء قلبي والخضوع، وما كانت عباراتي إلا لتنم عن مرارة لم يسعني كتمانها.
ولم أذهب لزيارتها في اليوم الذي سمحت لي فيه بالقدوم إليها؛ لأثبت لها أنني لم أخدع بخبر مرضها، وما كنت لأعرف السبب الذي دعاها إلى إقصائي عنها، فذهب بي الحزن كل مذهب حتى سئمت الحياة، وخطر لي أن أتحرر منها، فكنت أمضي طوال الأيام في الغاب حتى مرت ذات يوم صدفة حيث كنت، فرأتني على أسوأ حال، وما جسرت على طلب الإيضاح منها إلا تلميحا، فلم تجب بصراحة، وهكذا أكرهتني على ألا أحاول تناول الموضوع مرة أخرى.
وكنت أعد الأيام التي تفصلني عنها حتى إذا جاء ميعاد الزيارة هرعت إليها وأنا مصمم على الانطراح أمام قدميها لأشرح لها حالي، وما وصلت إليه من اليأس آملا إثارة إشفاقها، ولكنني كنت أذكر ما فعلت أولا، ويتمثل أمامي رحيلها وقسوتها فيستولي على الذعر، وأحاذر فقدها، وكنت أفضل الموت على هذا البلاء.
وهكذا كان مقضيا علي أن أتعذب ولا أتنفس بالشكوى، فما طال بي الحال حتى تهدمت قواي، وكنت أحس بوهن ركبتي عن حملي إلى بيتها؛ لأنني كنت أشعر بأن ليس فيه غير ما يستذرف شئوني، وما عدت مرة من زيارتها إلا لأطلق عنان مدامعي كأنني أبارحها كيلا أراها بعد.
أما هي فكانت تخاطبني بلهجة لم أعهدها فيها من البرود، فتسألني رأيي في مبارحتها البلاد، ولا تتردد في أن تقول لي: إنها أصبحت تشتهي الرحيل، فأقف واجما أمام هذه المحادثة وأنا أقرب إلى الموت مني إلى الحياة، وما كانت تعود لحظة إلى حالتها الطبيعية حتى أراها ترتد فجأة إلى تصنع البرود القتال، وخانني الجلد يوما فتساقطت دموعي أمامها، وشكوت بالرغم مني، فرأيت الاصفرار يعلو وجهها، ولما وقفت على بابها مودعا قالت: إنني سأذهب غدا إلى سان لوس - وهي قرية على مسافة غير بعيدة - وبما أنني أفضل الذهاب راكبة، فاحضر غدا على فرسك لمرافقتي إذا لم يكن لديك ما يمنعك.
وحضرت في الميعاد المضروب مبكرا، وكنت قضيت الليل متقلبا على مهاد السرور، ولكنني عندما خرجت من مسكني شعرت باستيلاء الحزن علي، وكنت لا أعلم ما تقصد هذه المرأة من إعادتها إلي ما سلبتني إياه من معاملة، وأرى في عملها شيئا من القسوة؛ لأنها إذا كانت لا تزال على حالها ولا حب في قلبها، فأية تسلية كانت تطلبها من تحدي مجالدتي وهي تعلم أنني أهواها.
وتسلطت هذه الفكرة علي فبدلتني تبديلا، وما وضعت راحتي تحت رجلها لأساعدها على اعتلاء صهوة جوادها حتى شعرت بخفقان شديد في قلبي، وما عرفت أكان هذا القلب يختلج شهوة أم غضبا، وكنت أقول في نفسي: «إذا كانت هذه المرأة أصيبت بدائي فلم هذا التجني؟ وإذا كانت سليمة فلم هذا الدلال؟»
وهكذا هم الرجال، ولاحظت هي لأول وهلة أنني أرمقها شزرا، وأن في سيمائي تغيرا، وانتحيت الجهة الثانية من الطريق وسرت لا أنطق بكلمة، وكنا نقطع السهل فأراها هادئة تدير لحاظها نحوي من حين إلى آخر لتتأكد أنني ما أزال أتبعها، ولكننا ما بدأنا نصعد الجبل متوغلين بين الأشجار، وما بدأت حوافر فرسينا تقرع الصخور حتى أصبحت على مقربة منها، فانطلقت مسرعة وأنا أتبعها حتى وصلنا إلى المنحدر، فاضطرت إلى تخفيف السير، وعندئذ اقتربت حتى حاذيتها وكنا كلانا مطرقين، فشعرت بأن الزمن قد حان، فقلت: هل أتعبتك شكواي يا بريجيت؟ وهل أزعجك مني أنني بعد أن عدت إلى مشاهدتك لا أرجع من مسكنك إلى مسكني مرة دون أسأل نفسي ما إذا كانت لم تزل بعيدة عن الموت؟ لقد قضيت شهرين وأنا أذوق الأمرين وأكتم ما أعانيه من هذا الحب الذي يرتعي حشاشتي ويقتلني، وأنت ساهية كأنك لا تعلمين بحالي. ارفعي رأسك قليلا وانظري إلي. أفي حاجة أنت لأبثك ما ألقى من الأوصاب، وما تفعل بي الليالي أقضيها باكيا على نفسي.
لقد مررت يوما في هذا الغاب المروع، فرأيت شقيا موجعا أسند جبينه إلى راحتيه؟ أفما نظرت إلى رشاش دمعه فوق هذه الأعشاب؟ انظري إلي وإلى هذه الجبال، أفما خطر لك أنني أهواك، وقد عرفت بتولهي هذه الصخور، وهذه الأرجاء المقفرة، وكلها شهود غرامي.
لماذا أتيت بي أمام شهودي عليك؟ أفما كفاك ما أتحمل من بلاء؟
أيخونني الجلد الآن؟ أفما ترين أنني ذهبت إلى أبعد مدى في طاعتك؟
إلى أي التجارب تعرضينني؟ بل أي تعذيب تعدينه لي على جناية لا أعرفها؟ ماذا أتيت تفعلين هنا إذا كنت لا تحبينني؟
فصاحت: فلنذهب من هنا. أرجعني من حيث أتيت.
فقبضت على زمام فرسها قائلا: لا، لن نعود؛ لأنني بحت بما أضمر، فإذا رجعنا فقدتك إلى الأبد، وهذا ما لا أجهله، وأنا أعرف مقدما ما ستقولينه لي عندما ندخل بيتك. لقد أردت ابتلاء صبري، وتحديت آلامي. ولعلك قصدت بذلك إيلاء نفسك حق طردي. لقد أتعبك هذا العاشق الحزين يتحمل آلامه كاتما أمره كارعا حتى الثمالة كأس احتقارك، وكنت تعلمين أنني إذا ما انفردت بك أمام هذا الغاب في هذه العزلة التي نشأ فيها غرامي ونما لن أتمكن من التغلب على نفسي، فأردت أن تعرضي نفسك للإهانة. أصغي إلي يا سيدتي، وليكن ما أقوله سببا لفقداني إياك. لقد كفاني غرامي دموعا وآلاما، وقد طال الأمد علي وأنا أكتم حبا جنونيا برى أحشائي، وقد بلغت بك القسوة ...
ورأيتها تتحفز للوثوب من صهوة جوادها، فتقدمت والتقيتها بذراعي ملصقا شفتي بشفتيها، وعلا وجهها الاصفرار، فأطبقت جفونها، فسقط الزمام من يدها وارتمت على الأرض.
وصحت: يا الله! إنها تحبني.
وكانت قد بادلتني قبلتي، فسارعت إلى رفعها عن المرج، ففتحت عينيها ومشى الارتعاش فيها يهزها هزا، فدفعت يدي عنها وانهمرت دموعها، فهبت تطلب الفرار.
وكنت لا أزال واقفا جنب الطريق أنظر إليها وهي أجمل من الضحى، وقد استندت إلى جذع شجرة، وانحل شعرها متساقطا على كتفيها، ويداها ترتجفان، وقد علا الاحمرار وجهها كأنه الأرجوان تلتمع عليه لآلئ الدموع.
وصاحت: لا تقترب مني. لا تتقدم خطوة واحدة نحوي.
فقلت: لا تخافي يا حبيبتي! إذا كنت أسأت إليك فانزلي بي عقابك. لقد تولاني ثائر الألم لحظة؛ فافعلي بي ما تشائين، ولك أن تذهبي الآن، كما لك إرسالي إلى أية جهة تريدين، فأنا أعرف الآن أنك تحبينني يا بريجيت، فأنت في هذا المكان تتمتعين بأمان لا يتمتع به الملوك في قصورهم المنيعة.
ونظرت إلي عندئذ بعينيها الداميتين، فرأيت سعادة الحياة تغمرني، فتقدمت إليها وجثوت أمامها.
وما يحب الحب الجم من بوسعه أن يتذكر الكلمات التي أعلنت بها من يهوى أنها تهواه ...
الفصل العاشر
لو أنني كنت صائغا وأردت أن أقدم عقدا من اللؤلؤ مما اكتنزت، لما كان يبلغ سروري أشده إلا إذا أنا قلدته بيدي للمهدى إليه، ولو كنت أنا من يتقبل الهدية لكنت أفضل الموت على أن أنتزعها انتزاعا من مقدمها.
ولكم رأيت من الناس من يسارعون إلى وصال من يعشقون من النساء! أما أنا فكنت أسير على عكس هذه الطريقة مدفوعا إلى اختيارها بداهة لا تعملا وقصدا، فإن المرأة التي تحب قليلا وتقاوم لم يبلغ الحب منها مداه. أما التي يتملكها الهيام؛ فإنها لا تقاوم إلا لشعورها بعدم تكامل الحب في قلب مراودها.
وازدادت ثقة مدام بيارسون بي، وما كنت أعهد بها بمثل هذا الاستسلام من قبل أن تعترف لي بحبها، وما كان ما أبديه لها من احترام إلا ليثير فيها سرورا شديدا تظهر أماراته على وجهها الصبوح كأنه زهرة تنور من انتعاش فؤادها، وكانت تذهب بعض الأحيان بسرورها إلى المرح الصاخب لتقف فجأة مستغرقة في التفكير، ثم تعود إلى معاملتي كأنني طفل تداعبه، فلا تلبث حتى تغرورق عيناها بالدموع، فتجهد خيالها لتخترع كلمة أو حركة ملاطفة تعلل بها حالها، وتبتعد بعد ذلك عني منتحية مقعدا لتستسلم عليه لتفكيرها.
أفي العالم مشهد أجمل من هذا المشهد؟ وكنت كلما التقينا تحت ظلال الشجر أهتف بها قائلا: إن الله نفسه ليسر مما تثيرين بي من حب لك.
وما كنت مع هذا لأتمكن من إخفاء ما تفعل بي أشواقي، وما أعاني من مغالبة شهواتي.
وكنت عندها ذات ليلة فقلت لها: إنه بلغني أنني خسرت دعوى هامة لها شأنها في أعمالي.
فقالت: أتخبرني بمثل هذا وأنت ضاحك؟ فقلت: لقد أعلن أحد شعراء الفرس أن من تحبه حسناء لا ينال منه القدر.
فأطرقت ولم تجب، وحاولت أن تظهر بمظهر السرور أكثر من عادتها ذلك المساء، وجلست إلى عمتها ألعب بالميسر، فكانت هي تداعبني وتعمل على نكايتي منتقدة ضروب ألعابي، وراهنت ضدي حتى خسرت كل ما كان معي من المال.
وعندما انسحبت العجوز إلى غرفتها خرجت بريجيت إلى الشرفة فلحقت بها، وهنالك شملنا الصمت أمام ذلك الليل الرائع وقد جنح القمر إلى مغربه، ولمعت النجوم في قبته، وقد اكفهرت آفاقه الزرقاء، وسكن النسيم عن الأشجار، فما لاح لها أملود، فعبق الجو بعطر الأزهار.
وكانت مسندة ذراعها إلى متكأ الشرفة متطلعة إلى السماء، فانحنيت إلى جنبها أتفرس في ملامحها، فجذبت عيناي إلى هدف عينيها في العلاء، وشعرنا كلانا بنشوة من عبق الأزهار ونحن نشيع بأبصارنا آخر ما أبقى القمر على الأفق من نوره الباهت وهو يتوارى وراء غاب الكستنا السوداء.
وتذكرت اليوم الذي شخصت فيه إلى هذا الأفق الوسيع الباهر حين قبض اليأس على مشاعري، فلم أجد فيه غير الفراغ، فارتعشت وأنا أراه الآن ولا فراغ في أية ناحية فيه، وخيل إلي أنني أسمع نشيد الحمد يرتفع من قلبي، وأن غرامنا يتعالى مع هذا النشيد إلى عرش الله.
وطوقت محبوبتي بذراعي، فأدارت وجهها نحوي على مهل وقد انهمرت من عينيها الدموع، فالتوى خصرها وارتمت بشفتيها المنورتين على فمي، وتوارى أمامنا الوجود ...
الفصل الحادي عشر
من له أن يصف ما في صمتك من معان أيها الملاك الناشر جناحيه أبدا على ليالي الملذات؟ أيتها القبلة تتساقى الشفاه بها الرضاب المسكر كأسا تندفق على كأس، لأنت خالدة كمبدأ الوجود.
يا لنشوة الغرام، وأنت حافزة كل كائن وصلة جميع الكائنات، بأي بيان تناولك من تجشموا وصفك؟ لقد دعوك عاطفة زائلة، وأنت الدائمة المبدعة، فقالوا: إنك التماعة خاطفة أنارت وشيكا أيامهم الدابرات. قالوا: إنك كلمة أقصر من لفظة الحياة على شفاه المدنفين، بل صرخة حيوان يهزه الشبق، ويعجب لقصر بقائه ناظرا إلى شعاع المصباح الأبدي نظره إلى شرارة تنقدح من حصاة.
لا عجب إذا دنس الناس اسمك أيها الحب وأنت روح الوجود، وأنت الشعلة المقدسة قضت الطبيعة على نفسها إمدادها بالوقود في هيكل الله فلا يخبو لها نور.
أنت محور الوجود، أيها الحب، وبك قوام كل موجود. إن أرواح الفناء لتفنى إذا هي نفخت على لهبك، وإنني لا أعجب أن يدنس اسمك من جهلوك إذ حسبوا أنهم عاينوك؛ لأنهم فتحوا عيونهم على الحياة، وأنت عندما تمر بتابعين أخلصا لك تجمعهما بقبلة، وتأمر أجفانهما بالانسدال على أحداقهما، كيلا يبصرا بالسعادة على هذه الغبراء.
ولكن أنت يا من نراك وأنت لنا، أيتها البسمات المتراميات على الشفاه، أيتها اللمسات الحائرة، أيتها المناغاة الأولى المترددة على شفة الحبيبة، أمحررة أنت من سلطان الله بأكثر من سائر ما في الوجود؟ وهل أنت إلا ملاك يرف في مأوى عاشقين لينزع النوم من أجفانهما فينتبها من السبات الذي ألقاه الله عليهما؟
أي بنات نشوة الهوى ... لكم أنتن عزيزات على قلب أمكن! أيتها النجوى بين عاشقين، الهاتكة أوائل الأسرار بالملمسات المرتجفة متملصة على مهل من عفافها، أيتها النظرات الشرهة ترسم على صفحات القلب أوائل الخطوط الغامضة لصورة المحبوب.
أيتها المملكة العظمى القائمة على الفتح المبين، وفي أرجائك وتحت أعلامك ينشأ العاشقون.
أيها التاج الذي يعصب رأس المحبين بالغبطة والحبور، فيلقون من تحته أول نظرة على الوجود، فينجلي لهم من خلال عاطفتهم الثائرة. أيتها الخطوات الأولى يسير بها العاشق إلى قرب من يهوى، من يقدر على تناولك ببيانه، وأية كلمات بشرية تصل إلى تصوير أضعف لمساتك؟
إن من خرج في صبيحة بليلة بغض إهابه من باب سري تدفع مزلاجه يد محبوبة، فمشى بخطواته الحائرة إلى حيث لا يدري، فاجتاز مجتمع الناس ولم يسمع صوت صديق يناديه، واتجه إلى مكان منعزل ضاحكا باكيا دون أن يعلم ما يضحكه وما يبكيه، ومسح وجهه بكفه مستنشقا آثار ما عبق عليه من عبير، ونسي فجأة جميع ما أتاه على الأرض إلى ذلك الحين. إن من وجه خطابه إلى الأشجار النائمة على جانب طريقه، وما يرفرف عليها من أطيار، ثم رأى نفسه بين الناس مضيعا رشده في حبوره، فجثا شاكرا ربه على ما أنعم عليه، لهو هو العاشق، وله أن يموت غير متذمر من القضاء؛ لأنه امتلك المرأة التي يحبها.
الجزء الرابع
الفصل الأول
علي أن أقص الآن ما آل إليه غرامي وما طرأ على نفسي من تغيير بالرغم من عجزي عن تعليله، ولكنها الحقيقة آليت ألا أكتمها.
وما كان مضى على استسلام مدام بيارسون لي أكثر من يومين، وكنت خرجت من الحمام في الساعة الحادية عشرة ليلا، وسرت أجتاز المنتزه قاصدا بيتها وقد استولى علي المرح حتى جعلني أقفز على الطريق قفزا ويداي ممدودتان نحو السماء.
ووجدت بريجيت واقفة على قمة السلم مسندة ذراعها إلى عارضته وأمامها شمعة تتقد، وقد كانت في انتظاري، فما لمحتني حتى سارعت إلى لقياي، وما مضت لحظة حتى كنا في غرفتها وقد أوصدنا الباب علينا.
وبدأت تعرض علي ما بدلت من زي شعرها مجاراة لذوقي، وتشير إلى إطار أسود نزعته عن الجدار لأنني رأيته قاتما محزنا، وإلى ما وضعت من الأزهار في جوانب الغرفة، وأخذت تسرد علي ما فعلت إذ كانت تشهد عذابي، مؤكدة لي أنها أرادت مرارا مبارحة البلاد هربا من غرامها، ولجأت إلى كل حيطة تقيها مني، واستشارت عمتها ومركانسون والكاهن، وأنها كانت حلفت أن تموت ولا تستسلم، وعادت تذكر من كلماتي ولفتاتي ما جعل كل هذا الحذر هباء. وكانت ترفق كل قسم من اعترافاتها بقبلة تلقيها على وجهي، وكنت أبديت استحساني لبعض ما في غرفتها من التحف، فأصرت على إعطائي إياها لأضعها على رف غرفتي، وطلبت مني أن أضع لها منهاجا تسير عليه في حياتها اليومية؛ لأن ما يهمها في الحياة إنما هو رضاي، فما تعبأ بأقوال الناس، وصرحت لي بأنها كانت فيما مضى تعللت بالقيل والقال، فما كان ذلك إلا بقصد إبعادي عنها. أما الآن فهي تصم أذنيها عن كل صخب، ولا تسمع إلا لهاتف قلبها يحدو بها إلى التمتع بالسعادة؛ إذ إنها بلغت الثلاثين وما يفسح العمر لها مجالا طويلا للتنعم بحبي لها، كانت تقول هذا ثم تسألني: هل ستحبني طويلا؟ أصادقة هذه الكلمات العذبة التي أسكرتني بها؟
وتعود عاتبة علي لتأخري في الحضور إليها، وتنتقد العطر الذي يفوح مني، فتراه حينا قويا، وآونة ضعيفا، ثم تقول إنها ألقت الخفين عن رجليها لأرى أن بياضهما يضاهي بياض يديها، ثم تستدرك قائلة: إنها ليست جميلة، وتتمنى لو أن لها أضعاف هذا الجمال، وقد كانت على مثل ما تتمنى وهي في الخامسة عشرة من سنيها.
وكانت تتكلم وهي تخطر في الغرفة يطير بها المرح، ويشعل خديها الغرام، فكأنما لم تكن تعلم ما يجب أن تقول وأن تفعل لتهب روحها وجسدها وكل مالها.
وكنت مستلقيا على المقعد أستمع إلى أقوالها فأشعر عند كل عبارة من عباراتها أن ساعة سوداء من ساعات حياتي الماضية تنفصل عني، فكنت أتطلع إلى كوكب السعادة يطل من الأفق علي وكأنني شجرة جرى في أعراقها نسغ الحياة، فهي تنفض أوراقها الجافة لتكتسي خضرة جديدة.
وجلست إلى البيانو وقالت: إنها ستعزف مقطوعة «ستراديلا»، وكنت - ولا أزال - أحب الموسيقى الخاشعة، وكانت أسمعتني هذه القطعة من قبل فهزت أوتار قلبي.
وبعد أن أتمت عزفها التفتت إلي وقالت: إن هذه القطعة من تأليفي أنا. - أأنت واضعة هذه الأنغام؟ - أجل، وكنت أوهمتك أنها من موضوعات «ستراديلا» لأعلم رأيك فيها، وما تعودت أن أوقع على البيانو الأنغام التي أتوصل أحيانا إلى تأليفها، وقد أردت هذه المرة أن أعرف مبلغ نجاحي، فجاء انخداعك مؤيدا حسن ظني.
يا للإنسان وما فيه من غرائب!
إن هذه الحيلة البريئة التي تخطر لولد يريد مفاجأة معلمه نشرت أمام عيني غماما، ولحظت هي أن سحنتي تغيرت فسألتني، فأخفيت عنها ما بي ورجوتها أن تكرر العزف.
وبدأت أخطر ذهابا وإيابا في الغرفة وأنا أستمع إلى الأنغام، فأمرر راحتي على جبيني كأني أحاول طرد ما يخيم على عيني من ضباب، فكنت أضرب الأرض بقدمي وأهز كتفي كأنني أوقع على ما يساورني من جنون، وجلست أخيرا على وسادة على الأرض فهرعت بريجيت إلي وأنا أنازع تفكيري فيما يجتاحه من لبدات الظنون فقلت لها : الحق أنك ماهرة في الكذب. أأنت واضعة هذه الأنغام؟ أبمثل هذه السهولة تكذبين؟
فنظرت إلي باستغراب متسائلة عما يدور في خلدي وهي لا تصدق أن بي من الجنون ما يدفعني إلى تقريعها على مثل هذا المجون البريء، وكانت تعلم تفاهة السبب في كدري، فزاد هذا الكدر أهمية في تقديرها، ولاح لها أنني أردت مقابلة مجونها بمثله، ولكنها رأت على جبيني من الشحوب ما منعها من الأخذ بهذا الافتراض، فانفرجت شفتاها وانحنت فوقي وقد خانتها القوى فقالت: يا الله! أهذا ممكن؟
لقد تبتسم أيها القارئ وأنت تطالع هذه الصفحة، ولكنني - أنا كاتبها - لا أزال أرتعش منها حتى الآن.
إن للمصائب ما للأمراض من أعراض تدل عليها، ولا شيء أشد خطرا في البحر من نقطة سوداء تلوح على أفقه.
ولما طلع الفجر وضعت بريجيت في وسط الغرفة خوانا صغيرا أعدت عليه طعام العشاء أو بالحري فطور الصباح؛ لأن العصافير كانت بدأت بالزقزقة في الحديقة، وأسراب النحل بدأت في الطنين.
وما كنت أرفع الكأس إلى فمي قبل أن ترطب مرشفه بشفتيها.
واخترق نور الضحى الستائر المفوفة فاستقر على ما في وجهها من بهاء، وما على جفونها من استرخاء، وشعرت بالنعاس، فألقت رأسها على كتفي تقبل عنقي متمتمة كلمات هيامها.
وغلبت على شكوكي أمام هذا الاستسلام، فحسبتني تخلصت من أشباحها المزعجة، فطلبت العفو عن لحظة ثار فيها جنوني قائلا بكل إخلاص: يؤلمني أن أكون وجهت إليك التقريع، فقد ظلمتك من أجل مزاح بريء، غير أنني أطلب إليك إذا كنت تحبينني ألا تكذبي علي حتى في أتفه الأمور، فلا شيء أفظع لدي من الكذب، وما لي طاقة باحتماله.
وانطرحت على سريرها تطلب الوسن، فأردت البقاء إلى جنبها إلى أن تنام، ورأيت جفنيها ينسدلان على جمال عينيها، ولاحت ابتسامة الهجوع على شفتيها، فانحنيت ملقيا على وجهها قبلة الوداع، وخرجت مرتاح القلب أعلل النفس بالتمتع بسعادتي دون أن أعكر صفوها.
وفي اليوم التاني قالت لي بريجيت دون أن تقصد: إن لدي كتابا أدون فيه مذكراتي وما يعن لي من خواطر، وسأعطيك هذا الكتاب لتقرأ فيه ما كتبته في الأيام الأولى التي تعرفت فيها إليك.
وقرأنا سويا ما يتعلق بي، وأضفنا إليه ما عن لنا من سانحات، وأخذت بعد ذلك أقلب الصفحات بحركة آلية، فإذا بنظري يقع على عبارة كتبت بأحرف كبيرة، فقرأت بعض كلمات ليس فيها ما يسترعي الاهتمام، حتى إذا تجاوزتها استوقفتني بريجيت قائلة: لا تقرأ هذا. فرميت الكتاب إلى الخوان قائلا: لك الحق، فما كنت أعلم ما أفعل، فقالت - وقد لاحظت امتعاضي: أتواجه هذا أيضا كأنه جد؟ خذ الكتاب؛ فإنني أريد أن تقرأ. فقلت: لنضرب صفحا عن هذا، فما عساني أجد ما يثير اهتمامي في هذا الكتاب؟ إن أسرارك تعنيك أنت يا عزيزتي.
وبقي الكتاب على الخوان، غير أن عيني كانتا منصبتين عليه، وسمعت فجأة صوتا يهمس في أذني، ولاح لي أنني أرى وجه ديجنه في قساوته، وعلى شفتيه ابتسامته المتجمدة في صقيعها.
فتساءلت عما أتى يفعل ديجنه هنا، كأنني رأيته منتصبا أمامي حقيقة لا خيالا، وقد ظهر لي كما رأيته ذات ليلة وقد انحنى جبينه أمام شعاع مصباحي واندفع يلقي بصوته الأجش دستور العاشقين.
وكنت لا أزال معلقا أبصارى على الكتاب، وقد ترددت على حافظتي بعض كلمات مبهمة لا أذكر أين سمعتها، فقبضت على فؤادي وشعرت أن روح الشك الحائمة حول رأسي قد قطرت سمها الزعاف في عروقي، وتصاعدت أبخرة هذا السم إلى دماغي فأورثني دوار السكر القاتل.
أي سر تخفيه بريجيت عني؟ وكنت أعلم أن ليس لي إلا أن أمد يدي لأفتح الكتاب، ولكنني ما كنت أعرف أين يجب أن أفتحه لأصادف الصفحة التي وقعت أنظاري عليها.
وقد كنت فضلا عن ذلك أرى كبريائي تحول دون رجوعي إلى فتح الكتاب، ولكن هل الكبرياء وحده كان السبب في امتناعي عن اقتحامه؟
واجتاحني حزن شديد فهتفت في نفسي قائلا: هل الماضي طيف يبعث من الفناء؟ فيا الله! ويا لشقوتي! هل سأقف عاجزا عن الشعور بالحب فيما بعد؟
واجتاز خاطري فجأة جميع ما كنت رددته من أمثال احتقار النساء، والهزؤ بهن أيام كنت ضاربا في بيداء الفحشاء. ومن الغرائب أنني في ذلك الزمن كنت أردد هذه المأثورات مباهيا بها دون أن أعتقد بصحتها، فأصبحت الآن أعتقد أنها تصور حقيقة ما يقع الآن أو على الأقل ما وقع فيما مضى.
وكانت مرت أربعة أشهر على تعرفي بمدام بيارسون دون أن أعرف شيئا عن حياتها الماضية، ودون أن أسألها شيئا عنها، فكنت مستسلما لحبها بثقة عمياء، فأجد لذة في تمنعي بالصمت تجاهها وتجاه كل ما يتعلق بها، وما كان في طبيعتي أن تساورها الشكوك وتحكمها الغيرة؛ لذلك كنت أشد استغرابا من بريجيت لما تجلى بي من غيرة وشكوك، وما كنت يوما في سابق غرامي أو معاملتي للناس رجل محاذرة ووساوس، بل كنت مقداما أذهب في طريقي صريحا لا أحاذر شيئا، ولا أظن السوء في شيء، ولولا أنني رأيت بعيني خيانة عشيقتي لما كان خطر ببالي أنها تخدعني. وقد كان ديجنه وهو يلقي علي مواعظه يضحك من سذاجتي، ويراني أسهل الناس انخداعا، وما كانت وقائع حياتي إلا دليلا على سلامة طويتي وبعدي عن كل وسواس؛ لذلك شعرت وأنا أحدج كتاب مذكرات بريجيت بعين الارتياب أن شخصية غريبة مثلت في ذاتي، وأن تفكيري يتمرد على هذا الحافز، وقد أرعبني الهدف الذي رأيته يدفعني إليه.
فكأنني وجدت نفسي فجأة تجاه ما كنت أحسبه قد توارى في من أوجاع تحملتها، ومن ذكرى مخادعات شهدتها، ومن دواء كان أفظع من العلة في نتائجه، ومن أقوال رددها الأصحاب على مسامعي، ومن انطباعات ألقاها علي المجتمع الذي مررت بفجائعه، ومن مفاسد أدركتها استنتاجا بنافذ بصيرتي، وأخيرا تجاه الفحشاء واحتقار الحب والإفراط في كل شيء ... وهكذا بينما كنت أؤمل الرجوع إلى الأمل والحياة هبت من نفسي هذه القوى الكامنة ثائرة تقبض على عنقي لتصيح بي قائلة: أنا لم أزل هنا.
ومددت يدي ففتحت الكتاب، ثم طويته ورميت به إلى الخوان، وكانت بريجيت شاخصة إلي وليس في لحاظها ما يدل على عزة جريحة، أو بادرة غضب، بل كان بها ما ينم عن اضطراب أم تنظر إلى طفل مريض، وقالت وهي تطوقني بذراعها: أتحسب أن لدي أسرارا؟ فقلت: لا، إنني لا أظن شيئا، وليس بي إلا اعتقاد واحد؛ وهو أنك جميلة، وأنني أود أن أموت وأنا غارق في بحار حبك.
وعدت إلى مسكني، ولما جلست لأتناول طعامي قلت لخادمي لاريف: من هي مدام بيارسون؟
فالتفت إلي والدهش باد على محياه، فقلت: إنك في هذه البلاد منذ سنوات عديدة، ولا ريب في أنك تعرفها أكثر مني؛ فماذا يقول أهل القرية عنها يا ترى؟ وماذا كانت حياتها قبل أن عرفتها؟ ومن هم الأشخاص الذين ترددوا عليها؟ فقال لاريف: والله يا سيدي إنني ما رأيتها يوما تفعل إلا ما تفعله في هذه الأيام، فهي تذهب إلى النزهة في الوادي، وتلعب بالورق مع عمتها، وتقوم بأعمال البر محسنة إلى الفقراء، ويدعوها القرويون بريجيت الوردية، وما سمعت قط كلمة سوء عنها، فكل ما يقال إنها تتجول في المزارع وحدها نهارا وليلا لغاية حميدة، فهي رسول العناية في هذه البلاد. أما معاشروها فهما الكاهن والمسيو دالانس أثناء العطلة. - ومن هو دالانس هذا؟ - هو صاحب القصر القائم وراء الجبل، وهو لا يزور هذه الأرجاء إلا للصيد. - أهو شاب؟ - نعم يا سيدي. - أبينه وبين مدام بيارسون صلة قرابة؟ - لا، بل كان صديقا لزوجها. - أمنذ زمن طويل مات زوجها؟ - في عيد جميع القديسين تكون قد مرت خمس سنوات على وفاته، وقد كان رجلا طيب الخلال. - وهل سمعت أن المسيو دالانس يتحبب إليها؟ - والله يا سيدي ... قال هذا وسكت مترددا. - تكلم. - قال الناس هذا وما قالوه ... أما أنا فما رأيت شيئا. - قلت لي أولا أن أحدا في القرية لم يقل شيئا عن مدام بيارسون. - لم يقل أحد شيئا، وكنت أعتقد أن سيدي عارف بالأمر. - وأخيرا هل تكلم أحد عن هذا؟ - أجل، أظن أن الناس تكلموا.
نهضت عن المائدة، وسرت إلى المتنزه فوجدت مركانسون هناك، وحسبت أنه سيتحاشى ملاقاتي، فرأيته يتقدم نحوي قائلا: لقد أظهرت نحوي ذلك اليوم من الغضب ما لا يمكن لمثلي أن يذكره حاقدا، فأنا أقدم إليك الآن اعتذاري لاضطراري إلى القيام بمهمة مكدرة، فكنت مشوشا في الأمر على غير مناسبة.
فأجبته متلطفا ظانا أنه سيذهب عني، ولكنه تابع مسيره إلى جنبي، فبدأت أردد في ذهني اسم دالانس قائلا في نفسي: إن لاريف لم يقل لي عنه إلا ما يمكن لخادم أن يسرد نقلا عن خادمة أو عن مزارعين، وأنا أريد شاهدا يكون رأى هذا الرجل عند مدام بيارسون. وتحكمت هذه الفكرة في دماغي فقررت أن أفاتح بها مركانسون.
وما تمكنت أن أعرف يوما حقيقة خلق مركانسون وفطرته من المراوغة أو السذاجة، غير أنني ما ارتبت قط في أنه يضمر لي البغضاء، ويعمل على نكايتي ما وسعه. أما مدام بيارسون فكانت تنيل هذا الرجل قسطا مما تبذل من مودة لعمه الكاهن، وهو جدير بالاحترام، وتملك مركانسون شيء من الغرور لالتفات مدام بيارسون إليه فأصبح غيورا، وبعض الناس لا يملكون أنفسهم من الافتتان لكلمة عطف أو لابتسامة تبذل لهم من شفة تفتر عن نور الجمال.
ما طرحت أول سؤال على مركانسون حتى بدت عليه من دلائل الدهشة على ما بدا على خادمي لاريف، وما كنت أنا أقل اندهاشا منهما مما أفعل، ولكن من من الناس يدرك ما في أغوار نفسه؟
وعرفت من أول جواب أورده مركانسون أنه نفذ إلى قصدي وقرر ألا يرضيني؛ إذ قال: أنت تعرف مدام بيارسون منذ زمن طويل، وتزورها بلا كلفة، فكيف لم تصادف المسيو دالانس عندها؟ ولعل لديك الآن أسبابا أجهلها تدفع بك إلى الاستعلام عنه. أما أنا فكل ما بوسعي أن أقول عن هذا الرجل هو أنه كريم المحتد، ومن أهل الصلاح والبر، وقد كان مثلك يا سيدي يزور مدام بيارسون بلا كلفة، وهو صاحب أملاك واسعة، ومضياف في بيته، وكان مثلك يعزف أجمل القطع الموسيقية عندها، وما أعلم أنه قصر في شيء من واجباته في سبيل الإحسان، فقد كان أثناء وجوده في هذه البلاد يرافق مدام بيارسون في رحلاتها كما ترافقها أنت يا سيدي.
ولأسرة هذا السيد سمعة طيبة في باريس، وكنت كل مرة أزور فيها مدام بيارسون أصادفه عندها، والمعروف عنه أنه حسن السيرة والأخلاق. وما أعني بالصداقة التي ذكرتها إلا الصداقة الشريفة اللائقة بأمثال هذا الرجل، وأظن أنه لا يأتي إلى هذه الأرجاء إلا للصيد، وقد كان صديقا لزوج الأرملة، ويقال: إن دالانس ذو ثروة كبيرة، وإنه جد كريم، أما أنا فأكاد لا أعرفه إلا بما سمعت عنه ...
بمثل هذه العبارات المشوشة كان هذا الجلاد الثقيل يجهز علي، ونظرت إليه وهو يتكلم وقد استولى الخجل علي فما قدرت أن أوجه إليه أي سؤال، كما عجزت عن وضع حد لثرثرته، فذهب في أقواله - وقد أوردت مثالا منها - إلى أبعد حد من النميمة والاغتياب، دافعا بنصله المتعرج إلى قلبي حتى اخترقه إلى أقصاه، ثم تولى عني، فما تمكنت من إمساكه، فذهب وكأنه لم يقل لي شيئا.
وبقيت وحدي على طريق المتنزه أرقب الظلام ينسدل على تلك الأرجاء وأنا أتردد بين عاطفتي الغضب والأسى؛ إذ لم يكن بوسعي أن أعتقد بضلال هذه الثقة العمياء التي استسلمت لها في حبي لبريجيت، فذقت منها مثل هذه اللذة الصافية، وكنت أرى في اندفاعي نحو هذه المحبوبة اندفاعا شلت مقاومتي أمامه دليلا كافيا على أنها أهل لتعلقي بها؛ لذلك كان يصعب علي التصديق بأن هذه الأشهر الأربعة الطافحة بالسعادة لم تكن إلا أحلاما.
وتساءلت فجأة في سريرتي عما إذا كانت هذه المرأة مخلصة عندما ظهرت في مظهر المتمنع، في حين أنها استسلمت بعد ذلك بسرعة، وقد كفت كلمة واحدة لتبديد مقاومتها، ولاح لي أن من شغلتني لم تكن إلا واحدة من بنات الدلال المغريات، أو أن الدلال وسيلة كل امرأة تريد أن تتبع غريزة الدفاع أسوة بكل أنثى.
أفما باحت بريجيت بغرامها من تلقاء نفسها في حين اعتقدت أنها أفلتت إلى الأبد من يدي؟
أفما رضيت في أول يوم عرفتها فيه أن تستند إلى ذراعي قبل أن تعرف من أنا بشيء من الخفة كان علي أن أتنبه له لإثارة ريبتي؟
إذا كان هذا المدعو دالانس قد توصل إلى امتلاكها، فالأرجح أنه لم يزل يتمتع بها حتى الآن، فإن من هذه العلاقات ما لا بداية لها ولا انتهاء في المجتمع، فإذا ما التقى عاشقان قديمان استسلما لما تعوداه، وإذا افترقا نسي أحدهما الآخر.
إذا كان هذا الرجل يأتي إلى هذه الأرجاء في كل موسم صيف؛ فإنها ستجتمع به عند قدومه، وقد لا تقطع علاقتها بي.
من هي عمة هذه المرأة يا ترى؟ وما معنى هذه الحياة السرية المستترة وراء أعمال البر والإحسان؟
أفلا تكون هذه المرأة وعمتها من مشعوذات المجتمع تتوسلان إلى اكتساب المقام السامي بهذا البيت الصغير، والتظاهر بالوداعة والحكمة؟ إنني ولا ريب قد علقت في شرك غاوية وأنا مغمض العينين أحسب أن في قلبها حبا وهياما. فما علي أن أفعل الآن وليس أمامي سوى هذا الكاهن الذي يتذرع بالإبهام تجاهي، وإذا أنا لجأت إلى عمه فلا بد أن يكون أشد تكتما منه؟
من سينقذني من هذه الورطة؟ من سيمزق ستار الريب فتنجلي الحقيقة لعيني؟
بهذا كانت تخاطبني غيرتي، فتنسيني كل ما ذرفت من دموع، وما تحملت من أوصاب، فأصبحت وما مر يومان بعد على استسلام بريجيت لي أضطرب لتوصلي إلى التمتع بها. وما كنت في هذا إلا كسائر المتشككين، أضرب صفحا عن العواطف والأفكار لأصارع الوقائع نفسها، مقدما على تشريح من أهوى كأنها جثة لا روح فيها.
وكانت تجول هذه الأفكار في دماغي ورجلاي تقودانني إلى مسكن بريجيت، ولما اجتزت الحاجز الحديدي لاح لي نور من نافذة المطبخ، وخطر لي أن أستجوب الخادمة، فاتجهت نحوها وأنا أتلمس بعض القطع الفضية في جيبي، غير أنني ما وصلت إلى العتبة حتى وقفت واجما - وكانت هذه الخادمة امرأة مسنة، ناحلة، حفر العمر في وجهها أثلاما، وأصبح ظهرها مقوسا لفرط ما انحنى - ونظرت إليها فإذا هي تعمل في غسل الأواني على مصب قذر، وفي يدها شمعة ترتجف أشعتها، وحولها أوعية الطبخ والصحون، وبقايا طعام يحدجه كلب دخل ورائي متجسسا خجولا. وكانت تفوح من الجدران الرطبة رائحة تعفن تملأ المكان، وما لمحت الخادمة وجودي حتى ابتسمت ابتسامة معنوية؛ لأنها كانت رأتني منسلا من غرفة معلمتها عند الفجر، فارتعشت والاشمئزاز يملأ نفسي مما أتيت أطلب في هذا المكان من أمر يشبه حقارته، فوليت الأدبار هاربا من هذه المرأة ومن غيرتي، كأن الروائح الكريهة المنتشرة هنالك خارجة من قلبي.
وكانت بريجيت أمام النافذة تسقي أزهارها وبقربها طفل إحدى جاراتها جالسا بين المساند اللينة، وقد أمسك بكمها وهو يسرد لها حديثا طويلا لا يفهم وفمه محشو بالحلوى، فتقدمت وقبلت الطفل على خديه كأنني أستعيد لنفسي بعض الطهارة منهما.
فاستقبلتني بريجيت بشيء من الحذر؛ لأنها رأت شخصها منطبعا في عيني وقد غشيتها الشكوك، وكنت من جهتي أحاذر أن ألتقي بنظراتها؛ لأنني كنت كلما أمعنت في جمالها ومظاهر إخلاصها أذهب إلى القول بأن: هذه المرأة شيطان رجيم إذا هي لم تكن ملكا كريما. وكنت أستعيد في ذهني كلمات مركانسون لأقابل بينها وبين ملامح عشيقتي وإشراق وجهها الرائع، فأقول في نفسي: «إنها لبديعة الحسن، ولكنها جد خطرة إذا هي أتقنت المخاتلة، ولسوف تجد خصما عنيدا يقاتلها بمثل سلاحها.»
وبعد أن صمت طويلا قلت لها: قبل أن أجيء إليك تلقيت كتابا من صديق يسألني نصيحة في أمره، وهو شاب ساذج يقول: إنه اكتشف أن المرأة التي تستسلم له تستسلم أيضا لعاشق آخر. - وبماذا أجبته؟ - ألقيت عليه سؤالين؛ وهما: أهي جميلة؟ وهل أنت تحبها؟ فإن كنت عاشقا لها فاتركها، وإن كانت جميلة ولست ولوعا بها؛ فاحتفظ بها وتمتع بجمالها، ولك أن تسرحها حين تشاء؛ إذ ما الفرق بينها وبين سواها؟
وما سمعت بريجيت كلماتي حتى ابتعدت عن الطفل، ومشت أمامي إلى الغرفة وجلست على مقعد لا تصل إليه أشعة القمر، وكنت أنا أشعر بشدة ما ألقيت من كلمات وقد امتلأ فؤادي مرارة من معانيها القاسية.
وذعر الطفل فبدأ ينادي بريجيت وينظر إليها من بعيد بعين ملؤها الحزن، وما لبث حتى سكت عن مناغاته واستغرق في النوم على مقعده ، وهكذا حكمنا الصمت نحن الثلاثة، ومرت غمامة على القمر حجبت أنواره.
وبعد هنيهة دخلت خادمة تحمل مصباحا لتأخذ الطفل من مرقده، فوقفت وبريجيت في آن واحد، ورأيتها تربط على قلبها براحتيها وتهوي إلى الأرض أمام السرير، فهرعت إليها مذعورا، وكانت لم تزل محتفظة بوعيها، فرجتني ألا أدعو أحدا وقالت: إنها تصاب بالخفقان منذ صباها دون أن يكون من هذه النوبات التي لم تجد لها علاجا أقل خطر على حياتها، وجثوت بقربها، ففتحت لي ذراعيها، فألقيت رأسي على كتفها، وعندئذ قالت لي: إنني أشفق عليك يا صديقي! فهمست في أذنها: يا لشقاوتي! ويا لجنوني! ولكنني لا أستطيع كتمان أمر تضمره سريرتي. من هو يا ترى المسيو دالانس الذي يقطن الجبل ويأتي لزيارتك أحيانا؟ ولاحت دلائل الاستغراب على وجهها عند سماعها هذا الاسم فقالت: دالانس هو صديق لزوجي.
وحدجتني كأنها تريد الاستفهام عن سبب سؤالي وقد امتقع لونها، فعضضت شفتي بأسناني وقلت في نفسي: إذا كانت ترمي إلى مخادعتي فقد أسأت التصرف بإعلان ما أضمرت.
ونهضت بريجيت متثاقلة تتمشى في الغرفة مستروحة بمروحتها، وقد تهدجت أنفاسها، وشعرت بأنني رميتها بسهمي فحكمها الصمت، وتلاقت نظراتنا وفيها برود وفيها شيء من العداء، وتوجهت إلى مكتبتها وفتحت الدرج، وأخرجت منه لفافة أوراق مربوطة بشريط من حرير فألقتها إلي دون أن تفوه بكلمة.
وبقيت ذاهلا عنها وعن رزمة الأوراق التي ألقتها إلي؛ إذ كنت مستغرقا كمن طرح حجرا في هاوية وصمد يتنصت إلى دويه.
ولاحت لأول مرة أمامي أمارة الكبرياء الجريحة على وجه بريجيت، وقد محيت عنه سطور الاضطراب والإشفاق، فشعرت أنني منها تجاه شخص غريب، وقالت: اقرأ هذا.
فتقدمت نحوها مادا يدي، فكررت قولها: اقرأ هذا، بلهجة باردة.
وشعرت وأنا أقبض على الأوراق أن شكوكي قد زالت، فاعتقدت ببراءة بريجيت، ورأيتني ظالما يخترق الندم قلبه.
وقالت: أنت تذكرني بأن علي أن أسرد تاريخ حياتي، اصغ إلي لأقصه عليك، وبعد ذلك تفتح أدراج مكتبي لتقرأ كل ما فيها من رسائل كتبتها أنا وكتبها سواي.
وجلست مشيرة إلي بالجلوس، ورأيتها تتجلد لتبدأ بحديثها وقد علت وجهها صفرة الموت، وتشنج عنقها فتهدج صوتها.
فصحت بها: بريجيت ... بريجيت ... أستحلفك ألا تتكلمي، ويشهد الله أنني ما خلقت على ما ترين، وما كنت من قبل لا متشككا ولا متحديا. لقد ضللني الناس وأفسدوا قلبي، لقد مرت بي غيرة مفجعة ألقت بي إلى الهاوية، فأنا منذ سنة لا أرى من الحياة إلا شرورها، ويعلم الله أنني ما كنت حتى صدمني هذا الاختبار لأعتقد بإمكان استسلامي إلى الغيرة، وهي أفظع ما يمثله الإنسان من أدوار الحياة. يشهد الله أنني أهواك، وليس لسواك أن يشفيني من علل أيامي الماضيات، وما عرفت فيها من النساء إلا من خدعنني وكن قاصرات عن إدراك الحب. لقد عشت فيما مضى كعاشق وفي قلبي من التذكارات ما لا قبل لي بمحوها. فما الذنب ذنبي إذا كانت أضعف التهم وأبعدها عن التصديق تقرع من هذا القلب أوتارا لم تزل تهتز بآلامها، وهي مهيأة لقبول أية ضربة تستنطق الأوجاع.
لقد ذكر هذا المساء أمامي اسم رجل لا أعرفه ولا علم لي بوجوده، وقيل لي إن شائعات لا طائل تحتها دارت حولك وحوله، وأنا الآن لا أسألك شيئا عن هذا الأمر الذي آلمني؛ لأنني ارتكبت فيه ذنبا لا يغتفر، وأتيت معترفا به أمامك، وبدلا من قبول ما تعرضينه علي سألقي بهذه الأوراق إلى النار.
بحقك لا تحاولي تبرير نفسك لئلا أذل أمام نفسي. لا تنزلي بي العقاب وما لي من ذنب غير فجيعتي وآلامي.
وهل لي أن أرتاب فيك وأنت على هذا البهاء، وعلى هذا الإخلاص، فإن لفتة واحدة منك تحمل من الإفصاح ما لا يمكن أن أستجليه بنفسي لتثبيت هيامي. آه لو تعلمين بما ابتلي من الفجائع والأكاذيب هذا الفتى الماثل أمامك الآن! لو تعلمين كيف عامله الناس، وكيف هزئوا به وبخير صفاته، وكم اجتهدوا لتعليمه كل ما يقود إلى الشكوك والغيرة واليأس!
وأسفاه أيتها الحبيبة! إنك لا تعرفين من هو هذا الذي تعشقينه، لا توجهي إلي اللوم والتقريع، بل تجلدي وأشفقي علي؛ إذ لا بد لي من أن أنسى وجود كل كائن على الأرض إلا إياك، فإن أمامي مآزق من الآلام يجب علي اجتيازها، وما كنت أتوقع أن أراها معترضة سبيلي تتحدى قواي للمجادلة والنضال. إنني ما عرفت ما في ماضي إلا منذ ضممتك بين ذراعي؛ إذ شعرت وأنا أضع قبلاتي على شفتيك بما على شفتي من أوضار. المعونة يا بريجيت! إنني ألجأ إليك فساعديني بحق ربك على الحياة؛ فإن ربك قد خلقني خيرا مما ترينني الآن.
وفتحت بريجيت معصميها وضمتني إليها طالبة مني اطلاعها على الوقائع التي أدت بي إلى هذا الموقف، فما سردت لها إلا ما قاله لاريف؛ لأنني جبنت عن الإقرار لها بأنني استنطقت مركانسون. وعادت فأكرهتني على سماع إيضاحها فقالت: إن دالانس أحبها، ولكنها رأت ما هو عليه من خفة وتقلب، فأعلنت له أنها لا تقصد الزواج، ورجته ألا يعود إلى ذكر عواطفه؛ فخضع لإدارتها، ومنذ ذلك الحين أصبحت زياراته نادرة حتى انقطع عنها.
قالت هذا وسحبت من الرزمة كتابا عرضته علي، وهو يحمل تاريخا حديثا، فما ملكت وجهي من الاحمرار إذ رأيت فيه إثبات ما أعلنته من الحوادث.
وأكدت لي أنها تعفو عني، غير أنها فرضت علي كعقاب أن أوافيها بلا إبطاء بكل ما يدعو إلى ثورة شكوكي فيما بعد، وتبادلنا العهد بقبلة، وعندما بارحتها عند انبثاق الفجر كنا نسينا أن في الوجود رجلا يدعى دالانس.
الفصل الثاني
إن للعاشقين شيئا من الركود الآسن يطفو عليه مرح كله مرارة وألم، وما حالتهم هذه إلا نتيجة حياة تتحكم فيها شاردات الأهواء لا حاجة الأجساد؛ فما جسد الفاسق إلا مطية تفكيره الجموح، وما تقيه الإرادة وقوة الشباب مغبة التفريط إلا إلى حين؛ لأن للطبيعة انتقامها الدساس الخفي، وإذا انتبهت القوة يوما لاستعادة ما هدر منها؛ فإنها تجد الإرادة المشلولة تترصدها لتدفع بها من جديد إلى التفريط.
إن الفاسق الذي أفلت زمام التمتع من يده لا يجد غير ابتسامة الازدراء يقابل بها كل ما كان يثير شهواته ، فهو يقتحم ملاذه بثورة الأعصاب لا برصانة القوة، وما يستولي الفاسق على ما يحب إلا عنوة واغتصابا، وقد أصبحت حياته ملتهبة محمومة، فيلجأ إلى المسكر وإحياء الليالي في المواخير ليرتفع بأعضائه المنهوكة إلى مستوى الملذات.
إن مثل هذا الرجل يحس في أيام ضجره وتراخيه بالمجال السحيق بين قوته وشهوته بأكثر مما يشعر به أي رجل آخر، وإذا ما أراد مقاومة ما حوله من مغريات فإنه يلجأ إلى الكبرياء مستمدا منها الاعتقاد الوهمي بأنه يزدري هذه المغريات، ولا يأبه لها.
وهكذا لا يني الفاسق متنقلا على ولائم حياته، وقد قبض الغرور على عنقه ليجره جرا بين سعارى شهوته وكربته حتى يدفعه إلى هاوية الفناء، وبالرغم من أنني كنت أفلت من زمرة الفاسقين؛ فإن جسدي تذكر فجأة أنه كان محشورا بينهم، وما كنت لأشعر بمثل هذا الانبعاث من قبل حين اجتاحني الحزن الشديد لوفاة والدي، ثم جاء الحب المبرح يشغلني فارتد الملل عني وأنا في عزلتي. وما يهم المنفرد إن دار به الفرح أو ساورته الأحزان.
إن «الزنك» لا يدفع بالشرر الكامن فيه إلا إذا احتك «بالنحاس» النقي، وقد جاءت قبلات بريجيت كهذا النحاس تقدح ما كمن في أعماق فؤادي، فكنت وأنا أواجهها أستجلي حقيقتي فأعرف نفسي.
وقد كنت أصبح أحيانا وأنا شاعر بحالة جد غريبة في تفكيري، فأحسبني قضيت ليلي في وليمة ترك بي طعامها وشرابها ما أنهك قواي، فتتعبني أضعف المؤثرات الخارجية، وكل الأشياء التي عرفتها واعتدت النظر إليها تورثني الملل والنفور، فإذا تكلمت سخرت بأقوال الناس وبخواطري نفسها، فكنت أستلقي على مقعد مستسلما للكسل، معارضا في تنفيذ ما قررناه من تنزه، مستعيدا ما كنت قلته فيما مضى لحبيبتي من كلمات التودد والإخلاص، مفسدا بذلك تذكار أيام الهناء.
وكانت بريجيت تنظر إلي حزينة وتقول: بالله دع هذا يا أوكتاف، إذا كنت تضمر شخصيتين مختلفتين؛ أفما بوسعك أن تدع الشخصية الطيبة وشأنها عندما تتبين فيك الشخصية الشريرة؟
وما كانت معارضة بريجيت لضلالي إلا لتزيدني استغراقا في مرحي المزعج، وما أغرب طبيعة الإنسان المتألم! فهو يرمي أبدا إلى إيلام من يهوى، وهل من داء أفظع من داء العجز عن التحكم في الذات؟
وما أشد ما تحتمل المرأة إذ ترى الرجل الذي ضمت إلى صدرها ينقلب هازئا بلا مبرر بأقدس ما في ليالي الهناء من أسرار! وكانت بريجيت تتجلد فلا تتهرب مني، بل تبقى إلى جنبي منحنية على قطعة تطرزها، وأنا ذاهب بمهازلي القاسية أنال من الحب، وأنزل به أوجع الإهانات، وهي تنظر بصبر إلى فمي ولما يزل مرطبا بقبلاتها يتدفق تحقيرا وجنونا.
وكنت في الأيام التي تجتاحني فيها مثل هذه النوب أندفع إلى ذكر ما قضيته في أيام الفحشاء في باريس، فأصورها كأنها خير حياة، وأقول لبريجيت: ما أنت إلا قانتة متعبدة؟ وهل لك أن تعرفي ما هي هذه الحياة؟ فليس في الناس خير ممن لا تنالهم الهموم إذ يمارسون الحب دون أن يعتقدوا به.
فكأنني كنت أعلن لها بصراحة أنني لا أعتقد بالحب أنا أيضا.
وتقول لي بريجيت عندئذ: إذ كان الأمر على ما تقول، فما عليك إلا أن تعلمني ما أرضيك به، ولعلي لست أقل جمالا من معشوقاتك اللواتي تأسف لفراقهن، وإذا رأيت أنني محرومة من المعرفة التي كن يبدينها لتسليتك على طريقة خاصة، فأنا مستعدة لاقتباسها، ولتكن معاملتك لي كأنك لا تحبني، ودعني أحبك دون أن أعلن لك حبي، فما أنا أقل عبادة في هيكل الحب مني في هيكل الصلاة. قل لي ما يجب أن أفعل لتؤمن بما أقول.
وأراها بعد ذلك تقف إلى مرآتها لترتدي في رائعة النهار ملابس السهرات والمراقص متظاهرة بالتدلل - وما هي من بنات الدلال - محاولة تقليدي، فتضحك وتطفر في الغرفة قائلة: أتراني على ذوقك الآن؟ وأية خليلة من خليلاتك أشبه؟ أفما بي من الجمال ما يكفي لإقناعك بإمكان الاعتقاد بالحب؟ أفما تلوح علي دلائل من لا يبالون بالحياة؟ وإذا بي أرى الأزهار المكللة ضفائر شعرها المعقوص ترتجف وهي مولية ظهرها لإخفاء تصنعها، فأنطرح على قدميها قائلا: كفاك تقليدا، إنك لتذهبين بعيدا في محاكاة من لم يتورع فمي عن ذكرهن أمامك. انزعي هذه الأزهار، واخلعي هذا الثوب، ولنغسل هذا المرح بدمعة صادقة، دعيني أنسى ... أنني الولد الآبق؛ فقد كفاني ما أتمثل من ماضي حياتي.
غير أن هذا الندم نفسه كان جافيا؛ إذ يبين لها ما لأشباح الماضي من رسوم متغلغلة في سريرتي، وما كان ما أبديه من اشمئزاز إلا ليعلن لها الدنس المروع في الصور التي كانت تحاول تقليدها لإرضائي.
وكنت أجيء إلى بيت بريجيت وقلبي طافح سرورا، وأنا أقسم أن أنسى بين ذراعيها آلام أيامي الماضيات، فأجثو أمامها مبديا كل دلائل الاحترام، وأزحف خاشعا إلى سريرها كأنني من هيكل الصلاة، مادا إليها ذراعي والدموع تنهمر في عيني، غير أنني كنت أراها عند ذلك تتفوه بكلمة، أو تخلع ثوبها بحركة لها طابع خاص، فينتصب أمامي فجأة خيال غانية تفوهت بمثل هذه الكلمة، أو أتت بمثل هذه الحركة وهي تتجه إلا سريري.
يا لك من روح مخلصة! ويا للعذاب الذي تحملته عندما كنت أفتح ذراعي لضمك إلى صدري فتسقطان - كأن لا حياة فيهما - على كتفيك الناعمتين! وعندما كانت تنطبق شفتاك على شفتي فأحس بأن نظرات الهيام في عيني، وهي شعاع من نور الله، تتراجع عن هدفها كأنها سهام هبت الريح عليها فلوتها في انطلاقها!
أواه يا بريجيت! لكم انهمرت لآلئ في أحداقك عندما كنت تسقين براحتيك ذلك الحب الحزين الشغوف من معين أرفع بر وأصدق إحسان!
وتوالت الأيام ما كدر منها وما صفا وأنا فيها ذلك المتقلب المنتقل من الجفاء والاستهتار إلى العطف والولاء، ومن الكبرياء والقسوة إلى الندم والخضوع.
وكان وجه ديجنه الذي تجلى أمامي أولا كأنه ينذرني بما سأفعل لا يبارح توهمي، فأناجيه في أيام شكوكي وبرود هيامي. ولكم قلت في نفسي بعد توجيه التقريع إلى بريجيت مستهزئا جافيا: لو أن ديجنه مكاني لذهبت إلى أبعد من هذا.
وكنت إذا ما تهيأت للذهاب إلى بيت بريجيت أنظر إلى وجهي في المرآة وأنا أضع قبعتي على رأسي فأقول: أي شر في هذا؟ لي خليلة استسلمت إلى فاسق؛ فعليها أن ترتضي به.
وكنت أصل إليها والابتسامة على شفتي، فأستلقي على مقعد متراخيا عن قصد لأنظر إليها تتقدم نحوي بعينيها الواسعتين وقد ملأهما الاضطراب، فأقبض على راحتيها الصغيرتين لأذهب تائها في أحلامي.
أيمكن لأي بيان أن يأتي باسم لشيء لا اسم له؟ فهل أصف نفسي بطيبة القلب أم بسوء النية؟ أحزما كان ما أفعله أم جنونا؟ ما يفيد التبصر؟ فما علي إلا السير على السبيل المخطوط.
وكان لنا جارة تدعى مدام دانيال، عليها مسحة من الجمال، وفيها شيء من الدلال، وهي فقيرة تحاول الظهور بمظهر الغنى، وكانت تأتي لزيارتنا وتلعب الميسر مضاربة معنا بمبالغ كبيرة، فإذا خسرت صعب الأمر عليها فلجأت إلى الإنشاد بصوت ليس فيه شيء من الجمال. وقد كانت هذه المرأة التي اضطرتها المقادير لتمضية حياتها في هذه الغابة الضائعة بين الجبال ظامئة إلى المسرات والملاذ، فما كانت تتكلم إلا عن باريس؛ حيث تذهب لتمضية ثلاثة أيام كل سنة، وكانت تدعي أنها تتبع الأزياء الحديثة فتساعدها بريجيت بآرائها وهي تبتسم شفقة عليها. وكان زوج هذه المرأة موظفا في دائرة تسجيل الأملاك، فيذهب بها أيام الأعياد إلى مركز الناحية لترقص بكل ما في قلبها من شوق مع ضباط الفصيلة في قاعة الحكومة، وكانت تعود من هذه المراقص وقد وهنت قواها، وازداد بريق عينها، فتهرع إلينا لتخبرنا بما صادفت من نجاح، وبما أثارت من أشجان. أما ما تبقى لها من الوقت فكانت تقضيه بمطالعة الروايات غير ملتفتة إلى شيء من مشاغل بيتها.
وكنت كلما التقيت بهذه المرأة أسخر بها لغرابة حياتها، ولكم قاطعتها في حديثها عن المراقص لأسألها عن زوجها ووالده، وهي تكره الأول لأنه زوجها، والثاني لأنه من زمرة الفلاحين، كما تقول، وهكذا لم يخل أي اجتماع لنا بها دون أن ينشأ بيننا خلاف شديد.
وخطر لي في أيامي السوداء أن أتحبب إلى هذه المرأة نكاية ببريجيت، قأقول لهذه: أفما ترين أن مدام دانيال تفهم معنى الحياة؟ فهي ناعمة البال مرحة، وأراها خير معشوقة يتمناها الرجال .
وهكذا كنت أبدأ بالثناء على هذه المرأة، فأصف ثرثرتها بسهولة البيان، ودعواها العريضة بميل بديهي إلى التمتع بالحياة، وأرى أن لا ذنب عليها إذا كانت فقيرة ما دامت تعترف بهذا الفقر، إلى أن أقول أخيرا: إنها لا تسمع مواعظ الناس، ولا تبذل المواعظ لهم، ثم أطلب من بريجيت أن تتخذ هذه المرأة مثالا تحتذي به، مدعيا أن هذا النوع من النساء يوافق ذوقي.
ولاحظت مدام دانيال أن في نظرات بريجيت بعض الأسى، وكانت هذه المرأة طيبة القلب مخلصة؛ إذ هي تملصت من فكرة الأزياء التي كانت تثير حماقتها، فأقدمت على عمل سداه الإخلاص ولحمته الحماقة؛ إذ انتهزت فرصة اختلائها ببريجيت في نزهة لتقول وهي تعانقها: إنها لاحظت ميلا مني للتحبب إليها، وإنني أسمعتها بعض كلمات لا مجال للارتياب في مقصدي منها، وأضافت إلى ذلك قولها: إنها عارفة بأنني عاشق لامرأة أخرى، وأنها تفضل الموت على إتيانها أمرا يهدم سعادة صديقة لها.
وقد رأت بريجيت أن تشكر مدام دانيال على صراحتها، فذهبت هذه مرتاحة الضمير، غير أنها لم تنقطع عن إرسال لحظاتها إلي لتزيد في نكايتي.
وبعد أن بارحتنا مدام دانيال عند المساء، أخبرتني بريجيت بلهجة قاسية عما جرى في المتنزه بينها وبين هذه المرأة، وطلبت إلي أن أوفر عليها تحمل مثل هذه الإهانة فيما بعد قائلة: إنني لا أعلق كبير أهمية على مثل هذه المهازل ولا أصدقها، غير أنني أرى من الفضول - إذا كنت تحبني - أن تدع امرأة أخرى تشعر بأن محبتك لا تحتفظ بمستواها كل يوم، فأجبتها ضاحكا: أيمكن أن يكون لهذا الأمر شأن عندك؟ أفما ترين أنني لا أقصد سوى الهزل لتمضية الوقت؟ فقالت: أواه يا صديقي، إن من البلية أن يرى الإنسان ضرورة لتمضية وقته.
وبعد أيام عرضت علي بريجيت أن نذهب إلى قاعة الحكومة لمشاهدة مدام دانيال في رقصها، فقبلت على مضض، وبينما كانت ترتدي أثوابها قرب الموقد بدأت أوجه إليها اللوم؛ لأنها تخلت عن مرحها القديم، فقلت لها وأنا لا أجهل حالها: ما لك يا بريجيت ؟ لقد أصبح القطوب مستحكما في ملامحك، فإذا دام الحال على هذا المنوال فلا بد من أن يسود الحزن ساعات انفرادنا، لقد عرفتك من قبل أكثر مرحا وحرية وصراحة، وليس مما يوجب افتخاري أن أكون أنا علة هذا الانقلاب الطارئ على أخلاقك، ومع ذلك فإنني أتوسم فيك خلال أهل الزهد، فكأنك خلقت لسكنى الدير.
وكان ذلك اليوم يوم أحد، فاستقللنا عربة وسرنا، حتى إذا وصلنا إلى المتنزه رأت بريجيت رهطا من صديقاتها بنات الحقول سائرات إلى مرقص أشجار الزيزفون، ونضارة الشباب تتدفق من وجوههن، فاستوقفت عربتها وحيت الفتيات، وإذ استأنفنا السير أطلت من نافذة العربة مشيعة بأنظارها رهط الصبايا، كأنها تتشوق إلى المرقص القديم، وإذ توارين عنا رأيتها ترفع منديلها إلى عينيها.
وصلنا إلى مرقص الحكومة فرأينا مدام دانيال تطفر فرحا وحبورا، فبدأت بالرقص معها، وكررت ذلك بصورة تسترعي الانتباه، وكلت لها عبارات الإعجاب، فكانت تجيب على مجاملتي بمثلها، وكانت بريجيت تتبعنا بأنظارها أنى سرنا، ويصعب علي أن أصف ما شعرت به في ذلك الحين؛ إذ تمازج سروري بألمي لما تجلى لي على سيماء بريجيت من غيرة، فكأن هذه الغيرة كانت تحفزني إلى التمادي في إضرامها.
وتوقعت بعد عودتنا أن تلجأ بريجيت إلى لومي، ولكنها بقيت ممنعة بجمودها وصمتها في اليوم التالي وما بعده، فكانت تستقبلني بقبلتها المعتادة، ثم نجلس وكل منا مستغرق في نفسه، فلا نتبادل الكلام إلا قليلا. وفي اليوم الثالث، عيل صبر بريجيت؛ فاندفعت تهاجمني بعتبها المر قائلة: إنها لا تجد ما تبرر به معاملتي، ولا يسعها إلا الاعتقاد بزوال حبي، ثم أعلنت لي بصراحة أنها أصبحت لا تطيق هذه الحياة، وقد عزمت على الالتجاء لأية وسيلة تنقذها من أطواري الشاذة، ومعاملتي الباردة، ورأيت الدموع تنسكب من عينيها بغزارة، فكدت أجثو أمامها لأطلب عفوها، غير أنها استمرت في إرسال تقريعها متفوهة بكلمات ذهبت إلى كبريائي فجرحتها، وثار ثائري فأجبتها بكلمات من طراز كلماتها، حتى اتخذت مناقشتنا شكل جدال لا هوادة فيه، فقلت لها: إن من المستغرب ألا يكون عندها من الثقة ما يجيز لي إتيان أبسط الأمور، فلا بد إذن أن يكون هنالك سبب آخر غير السبب الذي تتمسك به؛ لأنها تعلم أنني لا أبالي بمدام دانيال، فليس تقريعها لي إلا الاستبداد بعينه، ومع ذلك فإذا كانت متعبة من هذه الحياة ففي وسعها أن تضع حدا لها بالفراق.
فقالت: «ليكن ما تقول؛ لأنك تنكرت لعيني منذ بذلت لك نفسي، فقد لعبت دورك بمهارة لإقناعي بحبك لي، وها قد أتعبك هذا الدور فلا تجد من الأعمال إلا ما تسيء به إلي. لقد ارتبت في إخلاصي لكلمة واحدة مرت على أذنك، ولا حق لي بتحميل نفسي ما توجهه من إهانة إليها. لقد تبدلت فما أنت الرجل الذي أحببت.» - إنني لا أجهل نوع آلامك، وأراها ستتجدد لكل خطوة في حياتي، وسوف لا يطول الأمر حتى أحرم حق التكلم مع أي مخلوق سواك، فأنت تتظاهرين باحتمال سوء المعاملة لتجيزي لنفسك توجيه التقريع إلي، وما تشكين استبدادي إلا طلبا لاستعبادي. أما وقد أصبحت أشوش عليك حياتك؛ فاستعيدي السكينة لها. إنك لن ترينني بعد الآن.
وافترقنا على غضب، ومر النهار دون أن أراها.
وفي اليوم التالي، شعرت عند انتصاف الليل بحزن لم أجد لاحتماله سبيلا، فذرفت الدموع سخينة، وأخذت ألوم نفسي وألعنها قائلا: إن من الجنون المطبق أن أعذب أشرف النساء وأطيبهن قلبا، ثم نهضت راكضا إلى بيتها لأنطرح عند قدميها.
دخلت الحديقة وإذ رأيت النور من نافذة غرفتها ساورتني الشكوك فيها، فقلت: إنها لا تنتظرني في مثل هذه الساعة، ومن يدري ما تفعل؟ لقد تركتها أمس غارقة بدموعها، ولعلني أراها الآن مشغولة بالغناء غير مبالية وغير شاعرة بوجودي، بل لعلها ترتدي أثوابها وتجمل وجهها كتلك المرأة ... لأدخلن إذن متجسسا فأطلع على الحقيقة.
وتقدمت على حذر، وكان باب غرفتها مفتوحا، فتمكنت من مشاهدتها دون أن تراني، وكانت جالسة إلى خوان تكتب في مجلد المذكرات التي كانت مبعث ارتيابي بها، وكان في يدها اليسرى علبة صغيرة من الخشب الأبيض تنظر إليها من آن إلى آن بارتعاش عصبي ظاهر.
ولا أدري أية روح مروعة كانت تسود هذه الغرفة في جوها الهادئ، وكانت رفوف المكتب مفتوحة وقد صفت عليها رزم الأوراق كأنها رتبت من برهة وجيزة.
ودققت الباب فنهضت وأقفلت أدراج المكتب وأتت إلي والابتسام يعلو فمها قائلة: نحن طفلان يا أوكتاف، يا صديقي، وما كان لعراكنا من سبب ولا معنى، ولو لم تأت إلي لذهبت إليك في هذا الليل. اغفر لي؛ فالذنب ذنبي أنا. إن مدام دانيال ستأتي غدا لتناول الغداء؛ فلك أن تفتح سبيلا لندمي عما تسميه استبدادا في معاملتي. إن سعادتي متوقفة على حبك لي، فلننس ما مضى، ولنحتفظ بسعادتنا.
الفصل الثالث
وشعرنا عند صلحنا بما لم نشعر بمثله في خصامنا، ولاح لي أن بريجيت تضمر أمرا لم أدرك كنهه أولا، ثم رأيت الاضطراب يستقر في نفسي ويعكر عليها صفوها، فكنت كلما مرت بي الأيام ينجلي في ويتفوق على مقاومتي عنصران من الشقاء أورثتني إياهما ضلالات ماضي؛ أحدهما: غيرة ثائرة تتدفق لوما وتحقيرا، وثانيهما: نوع من المرح القاسي والخفة المصطنعة أذهب به إلى إهانة كل عزيز علي، فكنت وأنا أستسلم تارة إلى الغيرة، وطورا إلى المرح الساخر، أعامل بريجيت كأنها خليلة خائنة، أو كأنها امرأة مستأجرة، فما لبثت حتى تولاها من الأسى ما جلل حياتنا بالسواد. ومن الغرائب أنني كنت أتململ من سيادة الحزن علينا وأنا لا أجهل مصدره، ولا أقوى على إنكار جنايتي فيه.
كنت في ريعان العمر ميالا إلى السرور، فثقل علي أن أنفرد كل يوم بامرأة أكبر مني سنا تتألم ويتزايد نحولها، وتبدو أمارات الجد على وجهها، فأحس بتمرد شبيبتي علي وتطلعها على ما مضى آسفة على مرحها وحريتها.
وكنا عندما نتمشى على مهل في الغاب على ضوء القمر نشعر كلانا بالوحشة تتغلغل في أحشائنا، فتنظر بريجيت إلي وفي عينيها كثير من الإشفاق، ونتجه إلى صخرة مرتفعة تطل على واد مقفر؛ حيث نستعرض الساعات تمر بنا بطيئة، فأحس بعيني خليلتي وقد غشاهما الأسى تغوران في عيني نافذتين إلى قلبي، ثم تردهما عني لتسرحهما على صفحة السماء ومسالك الوادي، فتقول: إنني أشفق عليك، يا بني؛ فأنت لا تحبني.
وكانت الصخرة تبعد مسافة مرحلتين عن القرية، فنضطر إلى قطع أربع مراحل ذهابا وإيابا، وما كانت بريجيت تخاف السير في الليل، فكنا نجعل مجيئنا عند الساعة الحادية عشرة؛ لنعود منها عند بزوغ الفجر، وكانت في هذه الرحلات ترتدي سترة زرقاء وسروال رجل قائلة: إن أثوابها العادية لا تليق لمثل هذه المغامرات بين الأشواك، وكانت تتقدمني على الطريق الرملية بخطوات ثابتة، فأرى فيها ليونة الأنوثة يشدها إقدام الطفولة، فما أتمالك نفسي من الوقوف في كل فترة لأنظر إليها معجبا وهي مندفعة في سيرها كأنها مقدمة على القيام بواجب صعب تفرضه عقيدة مقدسة.
وكانت وهي مندفعة إلى الأمام منشدة بأعلى صوتها كالجندي المهاجم تقف بغتة لتعود أدراجها إلي مدغدغة وجهي بقبلاتها.
وفي عودتنا كانت تتكئ على ساعدي، فلا تركض ولا تغني، بل تناجيني بعبارات رقيقة تسرها إلي بصوت خافت كأنها تحاذر أن يسمعها أحد ونحن نمشي منفردين في الأماكن المقفرة، ولا أذكر أن كلمة واحدة من هذه الأحاديث شذت من دوائر الحب والولاء.
وسلكنا في إحدى الليالي مسلكا نحو الصخرة افترضناه في الغاب غير المسلك المطروق، فذهبت بريجيت أمامي تختط السبيل وعلى رأسها قبعة صغيرة من القطيفة تنفر من تحتها غدائر شعرها الأشقر، فخيل إلي أنها ليست امرأة، بل غلاما يافعا يقتحم الصعاب. ولكم سابقتها في تسلق الصخور فعلقت بنتوآتها مستنجدة بي وقد عجزت عن الارتقاء، فكنت أرجع إليها لآخذها بين ذراعي قائلا: أنت يا سيدتي من أبناء الجبال، لك القوة والرشاقة، ولكني لا أرى بدا من حملك بالرغم من عصاك الثقيلة وحذائك المصفح.
وصلنا إلى محجتنا وقد تهدجت أنفاسنا، وكنت شادا حقوي بنطاق تتدلى منه قربة، وإذ طلبت بريجيت مني هذه القربة تبينت أنها سقطت مني مع زناد كنا نقدحه لإنارة معالم الطريق وقراءة لوحاتها حذرا من الضلال. وكثيرا ما كنا نضل فأتسلق الأعمدة، وأقدح الزناد مرارا؛ فأتمكن من قراءة ما كتب في أعلاها .
وقالت بريجيت: علينا أن نمضي الليل هنا؛ فقد أضعنا الزناد وأنا متعبة من طول السير، غير أن هذه الصخرة قاسية؛ فلنلق عليها من الأوراق اليابسة ما يحولها إلى فراش وثير.
كانت هذه الليلة من أروع الليالي سكونا وجلاء، وقد زادها روعة ظهور القمر من ورائنا، فعلقت بريجيت أنظارها عليه وهو يتملص على مهل من سواد الأشجار المكللة أعلى الرابية، وانطلقت توجه إليه إنشادها، ولكنها ما رأت الكوكب يتعالى حتى خفت صوتها، وأصبحت نبراتها حزينة هادئة، فارتمت على كتفي وطوقتني بذراعيها قائلة: لا تظن أن حقيقة قلبك خافية علي، فما أنا بلائمتك على ما تحملني من عذاب، وما أنت بالمذنب إذا خانتك قواك فعجزت عن نسيان حياتك الماضية. لقد أحببتني بكل إخلاص، ولن آسف، ولو قتلني حبك، على استسلامي إليك. لقد ظننت أنك ستبعث حيا بين ذراعي فتسلو من أوردنك الهلاك من النساء.
ولقد تلقيت بالابتسام ما اعترفت لي به من اختبارك الحياة وأنت تسرد ما مر عليك متباهيا كالأطفال في غرورهم؛ لأنني اعتقدت أن إرادتي ستكفي لهدايتك، وأن قبلة واحدة على شفتيك ستجذب إليهما ما ثوى من قلبك. لقد اعتقدت أنت أيضا اعتقادي فضللنا كلانا.
إن في قلبك جرحا يتمرد على الشفاء؛ فقد نالت المرأة التي خدعتك ما لم أنله أنا من حبك. وها إن حبي المسكين لا يقوى على محو صورتها من تذكارك، وإذا كان إخلاصي لك لا يجديك نفعا الآن، فما ذلك إلا لأن هذه المرأة قد ذهبت في خيانتها إلى أقصى ما تبلغ قسوة الخائنات. ومن يدري ما فعلت الأخريات من بنات الشقاء حتى نفثن السم في أزهار شبابك؟ إلى أية درجة بلغت الملاذ التي اتبعتها منهن حتى تطلب مني الآن أن أتشبه بهن؟ إنهن يراودن تذكارك وأنت بالقرب مني، وذلك أشد ما أقاسيه منك يا بني. إنني أفضل أن أراك مستبدا في ثورة غضبك، فترمي بوجهي ما يمكن لك أن تتصوره بي من سيئات وهمية منتقما لنفسك مما جنته عليك خليلتك الأولى، على أن أراك ذاهبا في مرضك القبيح، وعلى وجهك أمارات المتهتك المستهزئ منطبقة على سحنتك كأنها قناع يحول بين شفتيك وشفتي.
لم تحملني مثل هذا يا أوكتاف؟ ولم هذه الأيام التي تتناول فيها الحب بأحقر بيان، هازئا حتى بأعذب ما في استسلامنا من ملذات؟ ما فعلت بأعصابك الحساسة يا ترى هذه الحياة التي خضت عبابها حتى تركت على شفتيك هذه اللعنات تخفق بينهما حتى الآن؟ إنك تقذفها مرغما؛ لأن قلبك طيب كريم، ولأن حمرة الخجل تعلو جبينك مما تتفوه به، فأنت ولا شك متألم في حبك لي إذ تشاهد ما تحملني من عذاب.
إنني أعرفك الآن، ولكنني يوم رأيتك لأول مرة على مثل هذه الحال ملكني رعب يصعب علي وصفه؛ لأنني حسبتك مخادعا يتظاهر بحب لا يشعر به.
وحقك يا صديقي، لقد فكرت في اقتحام العدم في ذلك اليوم، ومرت علي ليلة هي أشد ليالي روعا ويأسا ...
أنت تجهل حياتي، ولا تعلم أن اختباراتي في الحياة لم تكن أقل مرارة من اختباراتك، ويلاه! إن الحياة مريرة لا يستعذبها إلا من يجهلها.
لست يا أوكتاف الرجل الأول الذي أحببت؛ فإن في قلبي حدثا مشئوما أريد أن تعرفه.
كان أبي قرر وأنا طفلة بعد أن يزوجني من ابن وحيد لأحد أصدقائه القدماء، وكان هذا الصديق صاحب أملاك مجاورة لأملاكنا، وكانت الأسرتان على اتصال دائم، ومات أبي. وكانت أمي قد ماتت قبله بزمن طويل، وهكذا بقيت تحت رحمة عمتي التي تعرفها، واضطرت عمتي إلى التغيب مدة، فأسلمتني إلى والد خطيبي الذي كان يدعوني دائما بيا ابنتي. وكان قد اشتهر في البلد أمر زواجي قريبا بابنه؛ فأصبح هذا يتمتع بأوسع حرية في معاشرتي.
وكان الشاب - ولا فائدة لك من معرفة اسمه - عشيرا لصباي، فانقلبت مودة الطفولة بيننا إلى محبة، وكان ينتهز فرصة انفرادنا ليذكرني بما سنلاقي من سعادة بعد الزواج، ويشكو تباريح الانتظار. وكان يكبرني بسنة، وله صديق من عشراء السوء ينقاد إليه، فقرر أن يخدع أباه وينكث بعهده بعد إيقاعي في فخاخه، وهكذا استغل جهلي وعبث بطفولتي .
ودعانا والده ذات صباح ليبلغنا أمام أفراد أسرته أن يوم زواجنا قد تعين، وما أسدل الليل ستاره حتى لقيني في الحديقة واندفع يشرح هواه قائلا: إنه يعد نفسه زوجا لي ما دام يوم العقد قد تعين، وإنه في الواقع زوجي أمام الله منذ كان طفلا، واستعان علي بثقتي وجهلي، فاستسلمت له قبل أن يعقد له علي، غير أنه هجر بيت أبيه بعد هذا الحادث بثمانية أيام هاربا مع امرأة كان صديقه قدمها له، وأرسل إلينا كتابا يقول فيه: إنه مسافر إلى ألمانيا، واختفى عنا منذ ذلك الحين.
هذه هي قصتي، وقد عرفها زوجي كما عرفتها أنت الآن. لقد عزت نفسي علي فعاهدتها في وحدتي ألا أعرضها مرة أخرى للشقاء. لقد نكثت بهذا العهد عندما رأيتك فنسيت عهدي، ولكنني ما نسيت أوجاعي. إن كلينا مريض يا أوكتاف، فليعالج أحدنا الآخر بلين وتؤدة. أفلا ترى أنني أنا أيضا أعرف ما هي ذكريات الماضي؟
ولكم تروعني هذه الذكريات وأنت قريب مني! غير أنني أشد شجاعة منك، ولعلني أتفوق عليك بالحزم؛ لأن آلامي كانت أشد من آلامك. لقد كانت حياتي ساكنة هادئة في هذه القرية قبل قدومك، وكنت وعدت نفسي بألا أبدل من حالها. وهذا ما يجعل هذه النفس شديدة الشكيمة علي، ولكن ما يهمني كل هذا، فأنا لك. أفما قلت لي في أويقات الصفاء: إن العناية قد عهدت إلي بالسهر عليك كما تسهر الأم على ابنها؟ فما أنا خليلة لك كل يوم، بل أنا أكثر الأيام أمك؛ لأنني أريد أن أكون أما لك. إنني لا أرى فيك العاشق عندما ترهقني بالتعذيب، بل ولدا مريضا يساوره الحذر، أو يستخفه الطرب، فأبذل جهدي لمداواته وشفائه، طامحة إلى استعادة الرجل الذي أحب، وأريد أن أحب إلى الأبد.
ورفعت عينيها إلى السماء قائلة: ليعززني الله بهذه القوة، وهو السميع المجيب لدعاء الأمهات والعاشقات، فأتمكن من إتمام هذا الواجب ولو هلكت في سبيله، حتى ولو أصبحت معرة نفسي المتمردة وقلبي المنكسر وكل حياتي ...
وشرقت بدمعها فاختنقت الكلمات في صدرها .
وإذا هي جاثية على الصخر وقد شبكت أنامل يديها وهزها الهواء كما يهز عاشقات الشجر حولنا.
يا لها من مخلوقة تجللها العظمة في ضعفها وهي تتوسل إلى الله من أجل حبها!
ورفعتها إلى صدري قائلا لها: أي صديقتي الوحيدة! يا خليلتي، ويا أمي، ويا أختي، توسلي إلى الله من أجلي أيضا؛ ليهبني قوة أحبك بها قدر استحقاقك. اطلبي لي الحياة ليغتسل قلبي بدموعك؛ فيصبح قربانا لا دنس فيه نقتسمه أمام الله.
واستلقينا على الصخر، وساد الصمت حولنا، ولمعت السماء فوق رءوسنا بكل كواكبها، فقلت لبريجيت: أفما تذكرك هذه الآفاق النيرة بأول استسلام؟
إنني أشكر الله لأننا لم نعد منذ ذلك الليل إلى تلك الصخرة، فبقيت هيكلا طاهرا تمر وحدها بمخيلتي مجللة بالبياض بين أشباح حياتي.
الفصل الرابع
ومررت ذات ليلة بساحة القرية فلمحت رجلين يتحادثان، وسمعت أحدهما يقول بصوت بلغ أذني: إنه يعاملها معاملة سيئة.
فقال الآخر: الذنب ذنبها، فما كان أغناها عن اختيار مثل هذا الرجل الذي لم يعاشر حياته سوى بنات المواخير. أما وقد جنت هذا الجنون فلتتحمل نتائجه.
وتقدمت في الظلام لأتبين من هما المتكلمان، ولأتمكن من استماع تتمة الحديث، غير أنهما لحظا اقترابي فابتعدا.
ذهبت إلى مسكن بريجيت، فرأيتها جد مضطربة لمرض جديد انتاب عمتها، فما زاد حديثنا على بعض كلمات، وما تسنى لي أن أراها بعد ذلك، بل عرفت أنها استقدمت طبيبا من باريس، ومضى أسبوع فإذا هي تدعوني إليها لتقول لي: إنها فقدت بموت عمتها آخر قريب لها، وإنها أصبحت وحيدة في العالم، وستضطر إلى مغادرة القرية.
فقلت لها: وأنا، ألست شيئا معدودا في نظرك؟
فقالت: أنت عارف بحبي لك، كما أنني أنا أعتقد بحبك لي في كثير من الأحيان، ولكن أنى لي أن أعتمد عليك وما أنا إلا خليلتك دون أن تكون أنت خليلي، وأسفاه! لكأن شكسبير قد عناك عندما قال: «اصطنع لنفسك رداء من النسيج المتموج؛ لأن قلبك شبيه باليشب يشع بآلاف الألوان.» أما أنا، فهاك ثوبي وقد ثبت فيه لونه الأسود إلى زمن طويل. - لك أن تبارحي هذا البلد، فأنا وراءك أو أنتحر.
وانطرحت جاثيا أمامها: أواه يا بريجيت! لقد حسبت أنك أصبحت وحيدة في العالم عندما ماتت عمتك. إن فكرتك هذه لأشد عقاب يمكنك أن تنزليه بي، فما شعرت قط كما أشعر الآن بمسكنة حبي لك. أنكري هذه الفكرة على نفسك فإنها تقتلني وإن كنت أستحقها. أفلا أكون في حياتك شيئا معدودا إلا لإلحاق الضرر بك وتعذيبك؟ - إنني أجهل من هم الناس الذين يترصدون لنا، فقد شاعت عنا في القرية شائعات لها غرابتها، فقال البعض: إنني أقضي على نفسي لتساهلي وجنوني، وقال آخرون: إنك رجل قاس يكمن فيك الخطر علي. فلا أدري كيف نفذ الناس إلى أقصى سرائرنا، فاكتشفوا جميع ما ظننته متجليا لي وحدي من تقلبك في معاملتي، وما نشأ عن هذا التقلب من تكرار الخلاف بيننا، حتى إن عمتي نفسها فاتحتني بالأمر، وكانت مطلعة على حالنا منذ مدة طويلة ولم تقل شيئا، ومن يدري؟ لعل هذه الإشاعات عجلت في القضاء عليها.
وقد لاحظت برود صديقاتي أو ابتعادهن عني كلما صادفتهن في المتنزه، بل إن الفلاحات أنفسهن اللواتي أحببنني كثيرا يهززن أكتافهن عندما يرين مقعدي خاليا من مرقص الأحد.
كيف يقع هذا؟ إنني أجهل السبب، ولعلك تجهله أنت أيضا، وعلى كل يجب أن أسافر؛ فقد عيل صبري في هذا الموقف بعد أن مر الموت على مسكني، وأصبحت وحيدة أمام هذه الغرفة المهجورة.
أواه يا صديقي! لا تتخل عني.
واستخرطت في البكاء، وتطلعت فإذا في أرض الغرفة صندوق السفر وجميع ما يدل على الاستعداد له، فاتضح لي أن بريجيت كانت قد عزمت على الرحيل وحدها على أثر موت عمتها دون أن أعلم، فخانتها القوى، ورأيت على وجهها دلائل الخور، وأدركت صراحة هذا الموقف الذي زججتها أنا فيه، فما كفى ما تحتمل من العذاب حتى زاد عليه تحقير الناس لها، وما كان الرجل الوحيد الذي يجب أن تستند إليه وتتعزى به إلا منشأ أشد اضطرابها، وأفظع ما في عذابها.
ومثلت سيئاتي أمامي، فخجلت من نفسي؛ إذ رأيت ما فعلت في مدى ثلاثة أشهر بتلك الوعود والأماني. كنت أحسب أن في قلبي كنزا، فما استخرجت الأيام منه إلا مرارة الغسلين، وأشباح أحلام، وشقاء المرأة التي أعبدها.
لأول مرة في حياتي شعرت أنني أجابه ذات الحقيقة وجها لوجه، وما كانت بريجيت توجه إلي أقل ملامة، بل كانت تريد أن تتوارى عن عياني فتخونها قواها، وتقف متأهبة لمصارعة أحزانها، وخطر لي فجأة أن من واجبي أن أتوارى لأنقذها من مصائبها بإنقاذها مني.
نهضت متوجها إلى غرفة بريجيت، فجلست على صندوقها مسندا رأسي بيدي وأنا مضعضع الحواس، أنظر إلى ما حولي من رزم لم تزل مفتوحة، ومن أثواب مبعثرة على الرياش، وما كانت قطعة من القطع غريبة عني، وفي كل ما لمست حبيبتي شيء من قلبي، وذهبت أحاسب نفسي على ما سببت من شرور، فانتصب أمامي خيال بريجيت عندما رأيتها لأول مرة تحت أغصان الزيزفون، وجديها الناصع البياض يتراكض وراءها، وناجيت نفسي قائلا: بأي حق تجرأت على الدخول إلى هنا لتتسلط على هذه المرأة؟ من أجاز أن يتعذب الآخرون من أجلك؟
إنك تقف أمام مرآتك وتسرح شعرك لتذهب بخمولك تتلمس السعادة قرب خليلة يحيط بها الشقاء، فترتمي على المساند التي ركعت عليها موجهة إلى الله توسلاتها من أجلك ومن أجلها، فتأخذ راحتيها لتدغدغهما ضاحكا ولما تزالا في رجفة الصلاة.
إنك لذو مهارة لإشعال جذوة الخيال في رأس متألم، فتندفع إلى الثرثرة محموما بغرامك كأنك محام يخرج محملق العينين من موقف دفاعه عن قضية خاسرة، فما أنت إلا الولد الآبق يتلاعب بالألم، ويتسلى بالعذاب، فيحلو لك أن ترتكب جريمة القتل في مجلس أنس بوخزات الإبر.
بأية كلمة ستقف أمام إلهك الحي عندما تكمل عملك؟
إلى أين مصير المرأة التي تهواك؟
إلى أية هاوية تنزلق بهذه المرأة التي تستند إليك؟
بأي وجه ستقف أمام الشمس عندما تدرج بيديك في اللحد عاشقتك الناحلة الشقية كما أدرجت هي آخر سند لها في الحياة؟
لا ريب في أنك ستدفع بها إلى القبر؛ لأن محبتك محرقة قاتلة.
لقد سلطت على هذه المرأة هائجات إعصارك، وهي المطالبة بتسكين ثائرها، فإذا ما تبعتها فأنت لا شك قاتلها.
كن على حذر يا هذا؛ فإن ملاك عاشقتك يترصد، وقد ألقى ضربة الموت على هذا المسكن ليطرد منه هذه الأهواء الجامحة في مهب العار، وها هو ذا يلهم بريجيت الفرار، ولعل ما يسر به إليها هو آخر نجواه.
احذر أيها القاتل، أيها الجلاد؛ فإنك تجاه حياة وتجاه موت.
بهذا كنت أخاطب نفسي عندما حانت مني التفاتة، فرأيت على المقعد ثوبا مخططا طوي وأعد ليدرج في الصندوق. وكان هذا الثوب قد شهد يوما من أسعد أيامنا، فأمررت يدي عليه ولمسته قائلا: أبوسعي أن أفارقك أيها الرداء الصغير؟ أفتريد أن تتخلى عني فتذهب وحدك؟
لا، إنني لا أقوى على ترك بريجيت، فإذا فعلت في مثل هذه الظروف كنت غادرا لئيما. لقد ماتت عمتها، وها هي ذي وحيدة تصدمها سعايات عدو مجهول، ولعل هذا العدو مركانسون بعينه؛ فقد يكون تحدث إلى الناس عن مقابلتي له، واستفهامي عن دالانس، مستنتجا من غيرتي ما جعله أساسا لإشاعته. ما هذا الرجل إلا حية رقطاء تقطر سمها الزعاف على زهرتي؛ فعلي أولا أن أعاقبه، ثم أتحول إلى رد ما سببته لبريجيت من أضرار.
ما أشد حماقتي! فإنني أفكر في التخلي عنها في حين يجب علي أن أكفر عن ذنوبي نحوها؛ فأعوضها سعادة وحبا عما ذرفت من دموع.
أما أنا سندها الوحيد في العالم، بل صديقها الأوحد، وسلاحها الذي تتقى به هجمات الدهر؟ فعلي أن أتبعها أيان ذهبت فأحميها بجسدي، وأعزيها عن حبها واستسلامها لي.
ودخلت إلى الغرفة التي بقيت بريجيت فيها وحدها وقلت لها أن تنتظرني ساعة ريثما أعود.
فسألتني: إلى أين أنت ذاهب؟ فقلت: انتظريني. لا تذهبي بدوني، واذكري كلمات راعول: «إلى أية جهة ذهبت سيكون شعبك شعبا لي، وسيكون إلهك إلهي، فأموت حيث تموتين، وأدفن حيث تدفنين.»
وخرجت مسرعا قاصدا مركانسون، فقيل لي: إنه ليس في بيته، وجلست أنتظر عودته أمام مكتبه الأسود القذر، وطال انتظاري، فعاودني تذكار مبارزتي لأجل عشيقتي الأولى، فقلت في نفسي: لقد أصبت بطلقة عيار ناري فجننت وسخر الناس بي، فماذا أتيت أفعل هنا الآن؟ ولن يقبل هذا الكاهن النزول إلى ساحة المبارزة، فإذا ما تحديته أجابني أن ثوبه يمنعه من سماع أقوالي، وهكذا ينفتح أمامه مجال التوغل في أحاديثه وإشاعاته على أثر هذه المقابلة.
وعلى كل، فأية أهمية لهذا الإشاعات وهي تدور على معاملتي لها وعلى عذابها؟ فهل تعني هذه الأمور أحدا سوانا؟ إن خير وسيلة في مثل هذه الحالة إنما هي عدم المبالاة، وهل بوسع أحد أن يمنع القيل والقال في القرى، ويرد هجمات العجائز عن امرأة تتخذ لها عشيقا؟
يقولون: إنني أعامل بريجيت معاملة سيئة، فما علي إلا إثبات عكس الأمر بالتي هي أحسن، لا بالزجر والمكابرة. إن تعرضي للمجادلة مع مركانسون وقصدي مغادرة القرية لمن مستدعيات السخرية.
يجب أن أبقى حيث أنا؛ لأنني إذا تواريت أفتح مجالا للمتقولين للادعاء بصحة إشاعاتهم.
إنني سأبقى ولا أبالي.
وعدت إلى بريجيت بعد مرور نصف ساعة غيرت في أثنائها رأيي ثلاث مرات، فأقنعتها بالعودة عما قررت بعد أن أخبرتها بما فعلته عندما غبت، وما توصلت إلى إقناعها إلا بشق النفس، وهكذا اتفقنا على أن نحتقر أقوال الناس، فلا نغير شيئا من حياتنا، وأقسمت لها أن غرامي سيعزيها فتسلو به جميع أحزانها، فتظاهرت بعودة الأمل إليها، وأكدت لها أن هذه الحوادث قد جلت لي موقفي منها، وأبانت إساءتي، ووعدتها بتطهير نفسي من جميع ما رسب في قلبي من جراثيم أيامي الماضيات؛ فلن تتعذب بعد الآن من كبريائي وجموح عواطفي.
وطوقتني بذراعيها وهي تخضع حزينة صابرة لخطرة من خطرات أهوائي كنت أحسبها أنا ومضة من العقل هدتني سواء السبيل.
الفصل الخامس
ودخلت يوما إلى مسكن بريجيت فرأيت باب الغرفة الصغيرة التي تدعوها المصلى مفتوحا، وما كان في هذه الغرفة إلا مصلى من الخشب، وهيكل يعلوه صليب حوله عدد من المزاهر، وكانت السجف بيضاء كالجدران الناصعة كالثلج. تلك كانت خلوة بريجيت، وقد أصبحت منذ اتصلت حياتها بحياتي لا تنقطع إليها إلا نادرا.
ونظرت إلى الداخل فإذا بريجيت جالسة على الأرض بين ما نثرت من الأزهار، وقد قبضت على إكليل صغير ذوت أوراقه وهي تفرطها بين أناملها.
وسألتها عما تفعل، فارتعشت ونهضت قائلة: لا شيء، هي لعبة أطفال، فهذا إكليل ورد قديم جف في هذا المصلى، وقد أتيت لاستبدال هذه الأزهار ...
وكانت تتكلم بصوت مرتجف وتكاد تهوي على الأرض.
وتذكرت ما سمعته عن تلقيب بريجيت بالوردية، فسألتها: أليس هذا الإكليل الذي تفتتين أوراقه إكليل لقبك القديم؟
فعلا وجهها الاصفرار وأجابت سلبا.
فصحت بها: أقسم بحياتي أنه هو بعينه، فأعطني بقاياه ...
وجمعت الوريقات اليابسة فوضعتها على الهيكل، ووقفت أنظر خاشعا إليها كأنها رفات، فقالت: هب أنه إكليل لقبي، أفما ترى أنني أحسنت عملا بنزعه عن هذا الجدار حيث علق منذ زمان مديد؟ أية قيمة للمندثر؟ إن بريجيت سيدة الورد قد ماتت عن هذا العالم، فما هي خير من إكليلها المنفرط البالي.
وخرجت فسمعت شهقة بكائها وصرير الباب يقفل وراءها، فإذا بي منفرد في المصلى أتهاوى جاثيا معولا.
وعندما لحقت بها رأيتها جالسة إلى المائدة تنتظرني لتناول الطعام، فأخذت مكاني وسكت كل منا عما كان يجول في ضميره.
الفصل السادس
وما كذب الواقع ظني بمركانسون؛ إذ تأكدت أنه لم يتورع عن التحدث أمام سكان القصور المجاورة وأمام أهل القرية عن مقابلتي له، واستفساري عن أمر دالانس، فاستثمر ما نم عليه اضطرابي من شكوك.
ولا يجهل أحد ما في البلدان الصغيرة من سهولة انتشار النميمة؛ فإنها تتطاير من فم إلى فم صائرة إلى أغرب المبالغات، وما أفلت وبريجيت من جور هذا النظام، فأصبحنا وكل منا شاعر بأنه أحرج موقف الآخر؛ لأن محاولتها مغادرة القرية كانت قد اصطدمت بضعفها، وشدة إلحاحي عليها أكرهتها على البقاء، غير أنني كنت المسئول أمامها لتعهدي بألا أشوش سكينتها بغيرتي أو بطيشي؛ ولهذا كانت كل بادرة قاسية مني نكولا، وكل لفتة حزينة منها ملامة مبررة.
وأحست بريجيت في أول الأمر بلذة في عزلتها وتمكنها من الانفراد بي في أية ساعة دون محاذرة وتحوط، ولعلها كانت تتظاهر بالاغتباط لتثبت لي أن غرامها أعز عليها من سمعتها، وأنها نادمة على ما أبدته من الاهتمام بأقوال المرجفين، وهكذا سرنا في حياتنا لا نلوي على شيء من فضول الناس، متمتعين بملء حريتنا في اتباع أهوائنا.
وكنت أذهب إلى بيتها عند ساعة الإفطار، وإذا خرجت فلا أخرج إلا بصحبتها، فأقضي النهار معها حتى العشاء، وعندما يحين ميعاد انصرافي بعد السمر كنا نتعلل بأسباب عديدة للبقاء معا، ونتخذ احتياطات جد تافهة لإخفاء بقائي في غرفتها ليلا.
وعلى هذا النمط أقمنا دون انفصال مخادعين أنفسنا بأن لا أحد يلاحظنا.
وقمت بوعدي برهة من الزمان، فداريت عواطف بريجيت، ولم تعكر جونا غمامة. تلك أيام سعيدة هانئة، وليس في مثل هذه السانحات من الدهر ما يستدعي وصفا وبيانا.
وذهبت الإشاعات في القرية وضواحيها تعلن أن بريجيت تساكن علنا فاسقا باريسيا يعاملها أسوأ معاملة، فيمضيان أوقاتهما بالتقاطع والتواصل، وتوقع الكل أسوأ العواقب لهذه الحياة.
وانقلب ما كان يقال من الثناء على بريجيت من قبل لوما وتقريعا، حتى ذهب الناس إلى تأويل ما كان يورث إعجابهم في حياتها الماضية تآويل تظهر الشر فيها، فأصبحوا يهزءون ببرها بالفقراء، وتجولها في الجبال لمداواتهم، وهكذا كانت تدور الأحاديث عن بريجيت كأنها إباحية تتعرض لأوخم العواقب.
وكنت قد صارحت بريجيت بأنني أرى الإغضاء عن كل هذه التخرصات؛ إذ أردت التظاهر بعدم المبالاة بها، في حين أنها كانت ترهقني وتبلبل أفكاري.
وكنت أذهب في بعض الأحيان متجولا في الضواحي أتسقط من الإشاعات ما يمكنني الاستناد إليه للوم بريجيت ومناقشتها الحساب، وعبثا كنت أرهف السمع لألتقط من الهمس في المجتمعات ما ينقع غلتي؛ إذ كان الناس لا يبدءون بنهشي إلا بعد أن أتوارى، فكنت أعود إلى بريجيت لأقول لها: إنه لا أهمية لهذه التخرصات التي تصل إلينا، فليذهب الناس مذاهبهم فينا، فما أنا بالمقيم لاغتيابهم وإفكهم وزنا.
وما كنت وأنا أتبع هذه الخطة إلا مواليا للناهشين من عرض خليلتي؛ إذ كان علي وأنا موردها هذه الموارد الخطرة أن أهتم للأمر وأقيها مغباته.
وما طال الزمن حتى عدلت عن ذلك إلى المهاجمة فقلت لحبيبتي: إن الناس يتقولون كثيرا بشأن تجولك في الليالي، فهل أنت واثقة من أنهم يفترون؟ أفلم يقع لك أي حادث على طرق هذه الجبال وفي مغاورها؟ أفما اتفق لك أن عدت في الغسق مستندة إلى ذراع مجهول كما استندت إلى ذراعي؟ أصحيح أنه لم يكن لك من مقصد غير الإحسان في اقتحامك ظلمات هذا الهيكل المجلل بالاخضرار؟
لأول مرة هاجمت فيها بريجيت بمثل هذا الكلام، أرسلت إلي نظرة هزت مشاعري ولن أنساها ما حييت، ولكنني قلت في نفسي: إذا أنا تعرضت للدفاع عن هذه المرأة؛ فإنها ستفعل بي ما فعلته خليلتي الأولى، فتعرضني لهزء الناس وسخريتهم؛ فأجني الغرم عما غنمت وعما غنم الآخرون.
إن المسافة لجد قصيرة بين الشك والإنكار، وما أقرب المتفلسفين إلى الملحدين. قلت لبريجيت: إنني أرتاب بسلوكها الماضي، فرأيتني مدفوعا إلى الارتياب حقيقة، وما طال الزمن حتى أسلمني هذا الشك إلى اليقين، فتصورت أن بريجيت تخونني، في حين أنني لم أكن أبارحها ساعة واحدة، وعمدت أخيرا إلى التغيب عنها من حين إلى حين، مقنعا نفسي أنني أحاول تجربتها، وما كنت أقصد بذلك إلا إطلاق العنان لشكوكي، ثم أعود بعد تغيبي لأقول لها: إنني برئت من غيرتي فأصبحت أهزأ بوساوسي القديمة، وما كان معنى ذلك سوى اضمحلال غيرتي لوهن طرأ على هيامي.
وكنت من قبل أحتفظ لنفسي بما ألاحظه من حالها، فأصبحت أجد لذة في إبداء ما يعن لخاطري؛ فأقول لها مثلا: إن ثوبك هذا جد حسن، وقد كان لإحدى صويحباتي مثله شكلا ولونا. فإذا جلسنا إلى المائدة أدعوها إلى الإنشاد قائلا: إن خليلتي القديمة كانت ترسل صوتها بعد الطعام، أفلا يجدر بك التشبه بها؟ وإذا أرادت العزف على البيانو أبادرها بقولي: أرجوك أن تسمعيني ألحان الرقصة التي كانت منتشرة في الشتاء المنصرم؛ فإنها تذكرني بأويقات المرح والسرور.
ودام الحال بيننا على هذا المنوال ستة أشهر لم أنقطع فيها عن اللوم والتقريع، وقد تحملت بريجيت أثناءها من الإهانات ما لا يوقعه إلا فاسق ببغي تتقاضاه أجرا عن تمتعه بها.
وكنت كلما اقتحمت هذه المشاكسات ملهبا أفكاري، ومقطعا قلبي بالاتهام والسخرية، أتراجع عنها، وقد بلغ الهيام بي أشده، فأقف أمام خليلتي وقفة الوثني أمام صنمه.
كنت أوجه أشد الإهانات إليها، ولا يمر ربع ساعة حتى أجثو عند قدميها، فإذا ما انتهيت من التقريع بدأت بالاستغفار، وإذا خرجت من التهكم لجأت إلى ذرف الدموع، وتثملني سعادتي فأطير فرحا، وتثور أعصابي فأنقلب إلى العنف، لا أدري ما يجب أن أقول أو أفعل للتكفير عما أخطأت به، فأهرع إلى بريجيت لأضمها إلى صدري طالبا منها أن تكرر مائة مرة قولها: إنها تحبني وتغضي عن إساءتي، واعدا بالتعويض عما بدر مني، مقسما بأنني سألهب دماغي بقذيفة إذا أنا عدت إلى إهانتها.
وكانت الثورة في عواطفي تمتد الليل بطوله، فلا أنقطع عن الكلام والبكاء والانطراح على أقدامها، وارتشاف كأس الغرام ثملا من ثمالتها، حتى إذا بزغ الفجر أجدني متهدما، فأستسلم للكرى، وأنهض بعد الصباح وعلى شفتي بسمة الساخر الذي لا يؤمن بشيء.
وكانت بريجيت في مثل هذه الليالي المشتعلة بنار الملذات تتناسى شخصيتي الجائرة، فلا تنظر مني إلا إلى الرجل الماثل بين ذراعيها، وإذا ما خطر لي أن أكرر طلب العفو منها تجيبني بقولها: أفما تعلم أنني غافرة لك؟ وكانت الحمى التي تتأكلني تلهب دمها، فلكم أعلنت لي ووجهها ممتقع شهوة وهياما: إنها راضية بي على ما أنا عليه، وإن في ثائرات عواطفي تتنفس حياتها، فسعادتها كامنة فيما أؤديه ثمنا لتعذيبي لها، وإنها لن تشكو أية شكوى ما دام في قلبي شرارة من نار الغرام، ثم تقول: لا ريب في أنني سألاقي الموت في هذه الحياة، ولكنني أرجو أن تلقاه أنت أيضا فيها؛ ولهذا أشعر باللذة تغمرني من كل ما توجهه إلي من إهانة، أو تذرفه من دموع، فهي السعادة التي حفرت قبري فيها.
ومرت الأيام يستفحل بكرورها دائي ، فأصبحت ثائرا، إذا ما حكمتني نوبة الجنون صحبتها حمى شديدة تهزني فجأة فلا تغادرني إلا وقد تصبب العرق من جميع أعضائي المرتعشة. وقد كان يكفيني أن يقع بي حادث ليس في الحسبان، أو أشاهد ما يثير دهشتي حتى تسودني رجفة يرتاع لها كل من يراني، وكتمت بريجيت شكواها، فنم عنها شحوبها، وما بدأت مرة بالإساءة إليها بعد هذا إلا خرجت من أمامي دون أن تفوه ببنت شفة، لاجئة إلى غرفتها توصد بابها عليها.
إنني أحمد الله لأنني ما رفعت يوما يدي على بريجيت حتى في أشد هياجي، وقد كنت أفضل الموت على هذه الفعلة النكراء.
واشتدت العاصفة ذات ليلة، وأنا وبريجيت نصغي إلى نقرات الأمطار على زجاج النوافذ المقفلة والمجللة بالسجف، فقلت لها: إنني أشعر بانبساط، ولكن هذه العاصفة تدخل الحزن إلى نفسي بالرغم مني، فعلينا أن نتحداها.
وقمت إلى الثريا أضيء كل شموعها، فغمرت الغرفة الصغيرة بالأنوار المتدفقة، وكان في الموقد نار مشبوبة تملأ المكان حرارة، وتزيدها نورا.
وتساءلت عما يمكن لنا أن نفعل إلى أن يحين وقت العشاء، فتذكرت أيام المرافع في باريس، ومرت في مخيلتي عربات المساخر تتلاقى على جاداتها الكبرى، وضجيج الجماهير يتعالى وهم يخرجون من المسارح، ومثلت أمامي مشاهد الرقص الخلاعي، والأثواب المخططة، والكئوس تتدفق خمرا، فانتفض قلبي بكل ذكريات شبابي، فصحت ببريجيت: هيا بنا نتنكر وإن لم يكن أمامنا سوانا، وإن لم يكن لدينا ما يفي بالغرض من أثواب فإننا نتدبرها.
وأخرجنا من الخزانة ثوبين وأردية وأحزمة وأزاهر صناعية، وبريجيت تدرع - كعادتها - المرح الصبور، وأرادت أن تعصب رأسي بيدها، ثم أخذنا من صندوق صغير قديم قد يكون من متروكات عمتها أصباغا وأدهانا، فدهنا بها وجهينا حتى تنكر كل منا لعين الآخر، ومرت ساعات السمر نحييها بالغناء، وبالقيام بعديد ما تصورناه من حركات الجنون، حتى مضى نصف الليل وحان وقت تناول الطعام.
وكانت الخزائن لم تزل مفتوحة بعد أن قلبنا ما فيها، ولما جلست إلى المائدة حانت مني التفاتة إلى أقربها مني، فرأيت على أحد رفوفها السجل الذي أتيت على ذكره، وهو سمير بريجيت في أغلب أوقاتها، فقلت لها: أليس هذا مجموعة خواطر؟ فهل لي أن ألقي نظرة عليه؟
وعندما فتحت هذا السجل تحفزت بريجيت لمنعي عن القراءة، ولكنني كنت رأيت بأوله هذه الكلمات: «هذه هي وصيتي.» فقلبت الصفحة فإذا أمامي ما دونته، بخط متناسق ينم عن الهدوء، من وصف دقيق لما احتملته من تعذيبي لها منذ استسلمت إلي، وقد أعلنت إصرارها على احتمال كل معاملة سيئة مني ما دمت أحبها، وعلى اقتحام الموت إذا تخليت عنها، واستغرقت في تتبع ما كتبته يوما فيوما عن تضحية حياتها، وما فقدت، وما كانت ترجو، فإذا بها تصف شعورها بالدهشة حتى بين ذراعي، وتذكر الحوائل التي تتزايد مع الأيام بيننا، وما أعاملها به من قسوة وجفاء لقاء حبها وإخلاصها.
دونت كل هذا فما أبدت امتعاضا أو زفرت بشكوى، بل حاولت جهدها تبرير معاملتي والمدافعة عني، وأخيرا تناولت بوصيتها ما يتعلق بورثائها، معلنة أنها ستتجرع السم لوضع حد لحياتها بمحض اختيارها، طالبة ألا تكون مذكراتها سببا لاتخاذ أي إجراء ضدي، وأنهت كل هذا بقولها: صلوا من أجله!
ووجدت في الخزانة نفسها التي أخذت سجل المذكرات منها علبة صغيرة تحوي مسحوقا ناعما ضاربا إلى الزرقة شبيها بالملح.
وسألت بريجيت عن هذا المسحوق وأنا أرفع العلبة إلى فمي، فصرخت وارتمت علي فقلت لها: سآخذ هذه العلبة وأتوارى عنك، فيقودك السلوان إلى الحياة، دعيني أتفادى جريمة القتل فأذهب في هذا الليل دون أن أطالبك بعفو يرده الله إذا أنت أقدمت على منحه. لم يبق لي ما أرجوه إلا قبلتك الأخيرة.
وانحنيت طابعا قبلتي على جبينها، فهتفت بصوت مختنق: لم يحن الوقت بعد، ولكنني ألقيتها على المقعد وانطلقت راكضا إلى منزلي، وما مضت ثلاث ساعات حتى كنت على أهبة الرحيل وقد وقفت العربة أمام بابي.
وكان المطر لا يزال يتساقط مدرارا، فصعدت إلى العربة متلمسا، وما ارتميت على المقعد حتى شعرت بذراعين يطوقان عنقي، وبفم يزفر بالأنين على شفتي.
هي بريجيت أتت تكمن لي لترحل معي، فحاولت عبثا إقناعها بالعدول عما نوت؛ حتى إنني وعدتها أن أعود إليها عندما أكون نسيت ما أوقعت بها من ضرر، مؤكدا لها أنني إذا بقيت لن يكون غدنا إلا كأمسنا، فكأنها - وهي تتمسك بي وأنا على حالتي - تصمم على جعلي مجرما قاتلا. توسلت وبذلت الوعود معززة بالأقسام، وذهبت حتى إلى التهديد، فما أجدى كل ذلك فتيلا؛ إذ كانت ترد كل محاولاتي بجواب واحد قائلة: أنت راحل فأنا معك؛ لنهجر هذه البلاد تاركين ماضينا فيها. لقد امتنع علينا العيش هنا، فلنذهب إلى حيث تشاء. إن الأرض لن تضن علينا بزاوية نموت فيها ... لنهنأ في هذه الحياة، فتجد في سعادتك، وأجد فيك سعادتي.
ضممتها وضممتها حتى شعرت أن قلبي يتحطم عليها، وصحت بالسائق هيا بنا، وسار الجوادان يقطعان الأرض ونحن متعانقان.
الجزء الخامس
الفصل الأول
قدمنا من باريس مصممين على الرحيل منها إلى سفر بعيد، فأقمنا في منزل خاص لنعد ما نحتاج إليه، وكأن تصميمنا على مغادرة فرنسا بدل كل شيء في نظرنا، فعاد إلينا الفرح والأمل والثقة مرة واحدة، وتبدد الحزن من حولنا، وقضت فكرة الانتقال القريب على كل مشاكسة وجدال.
واستغرقنا في أحلام سعادتنا، وأصبحت لا أنقطع عن ترديد أغلظ الأقسام بأنني لن أتحول عن حبي ما عشت، موجها كل عنايتي إلى إنساء خليلتي كل ما حملتها من شقاء وأوصاب، وما اكتفت بريجيت بإنالتي عفوها، بل أظهرت أنها لا تتردد في تضحية كل ما عز للحاق بي، وهكذا رأيتني مدفوعا بدافع الإنصاف إلى مبادلتها إخلاصها بمثله، فتغلب حبي لبريجيت وإعجابي بها على ما بقلبي من جامح النزعات.
وانحنت يوما على «الخريطة» مفتشة عن مكان نتوارى فيه، وما كان وقع اختيارنا على مكان موافق بعد، وكنا نطيل التردد متلمسين في الحيرة لذة جديدة ونحن مكبان على الرسوم يصدم جنبي جنبها، ويطوق ذراعي خصرها، فتسألني وأسألها عن مكان عزلتنا، وعما سنفعل في حياتنا الجديدة.
بأي بيان أوضح ما كان يخالجني من ندم على ما فات عندما كنت أرفع رأسي متأملا في هذا الوجه الشاحب الحامل آثار الآلام الماضية، وقد أنارته ابتسامة الأمل، وكنت أنصت إلى كلماتها العذبة تصور ما سنكون عليه، فأتمنى أن أريق دمي فداء لها.
أي أحلام المنى، لعلك أصدق سعادة نتمتع بها في هذه الحياة!
ومضت سبعة أيام ونحن نفتش عن مأوى لنا، ونتجول في المدينة لابتياع ما نحتاجه لتزيينه، وفي اليوم الثامن طرق بابنا شاب لا أعرفه يحمل رسائل لبريجيت، وبعد أن قابلها وانصرف رأيتها حزينة واهية القوى، وما عرفت عن هذه المقابلة سوى أن الرسائل واردة من المدينة التي كنت تبعت بريجيت إليها لأملي عليها غرامي حيث يقطن أقرباؤها.
وأعددنا في زمن وجيز كل ما احتجنا إليه، فأصبحت مأخوذا بفكرة الرحيل، وقد تولاني منها ثمل منع كل راحة عني، فكنت أنهض من فراشي مبكرا وأدخل إلى غرفة بريجيت ماشيا على رءوس أصابعي متحاشيا إيقاظها لأجثو أمام سريرها، حتى إذا أفاقت رأتني شاخصا إليها، وقد بللت أجفاني الدموع، وما كنت أدري أية وسيلة أتخذ لأثبت لها إخلاصي في ندامتي، فتجاوزت حدود الأعمال الجنونية التي لامستها في غرامي الأول، وأصبحت أستوحي غرامي الجامح كل عمل يتجه إلى الشطط والإفراط، فتحول عشقي إلى نوع من العبادة، فكنت كلما دنوت منها أنسى أنني مالكها منذ ستة أشهر، ويخيل إلي أنني أراها لأول مرة، فأكاد لا أجسر على لمس أردانها وهي من حملت من فظاظتي ما لا يحتمل. فإذا تكلمت ارتعشت كأنني أسمع صوتها لأول مرة، ويدفعني الهوس إلى الارتماء على أقدامها منتحبا، أو إلى الاستغراق في الضحك دونما سبب، وكنت إذا ما تذكرت معاملتي الماضية أشعر باشمئزاز، وأود لو أن على وجه الأرض هيكلا للحب أذهب إليه فأعتمد في مائه المقدس، وأرتدي مسوحه فلا أخلعها إلى الأبد.
ومثلت لخيالي اللوحة التي رسم فيها تيتان مشهد الحواري توما يلمس بأصبعه جرح المسيح، فرأيتني أشبه هذا الحواري إذا صح وجه الشبه بين حب الإنسان وإيمانه بربه! إن في ملامح توما وهو يسبر الجرح ما يصعب تحديده من عاطفة تتراوح بين الشك والإيمان، فتلوح لك كلمة التجديف الحائرة كأنها تذوب على شفتي الحواري وقد ارتفعت منهما كلمة الصلاة، فلا تعلم أجاحد هو أم رسول، ولا تدري إذا كان بلغ في ندمه ما بلغه من كفره. ولعل هذا الحواري نفسه لم يدرك، كما لم يدرك الرسام ولم يدرك الناظر إلى الرسم، هذا السر الغامض الذي ترف عليه من المخلص ابتسامة كأنها التماع الندى تحت شعاع الرحمة والحنان.
وما كنت أقف أمام بريجيت إلا مثل وقفة الحواري توما، وقد حكمني الصمت، وتولتني الدهشة، فارتجفت فرقا خشية أن يكون ما تبدل من حالي قد دفع بسريرتها إلى الارتياب بي، ولكن ما مرت علينا خمسة عشر يوما حتى نفذت بصيرة بريجيت إلى ما يدور في خلدي، فأيقنت أنها استنبتت بإخلاصها إخلاصي، وأن صفاء نيتي قد نشأ من مجالدتها وصبرها، فما وسعها إنكار المعلول والعلة لا ريب فيها.
وكانت الحوائج ومجموعات الصور والأقلام والكتب والرزم تملأ الغرفة، وقد نشرت عليها الخريطة التي استولت على كل جوارحنا، وكنت أذهب وأجيء في هذه الغرفة لأقف أمام بريجيت، وأنطرح على أقدامها، فتصفني بالكسل وتقول: إنها لا تجد بدا من القيام لوحدها بالأعمال جميعا ما دمت أنا لا أنفع لشيء.
وبينما كانت ترتب الحقائب وتقفلها كان الحديث لا ينقطع بيننا عما ننويه لسفرنا، فكنا نقول: إن سيليسيا على بعدها معتدلة الجو في فصل الشتاء. إن جنوا جد رائعة بما وراءها من جبال وما فيها من حدائق انبسط الاخضرار على أعراشها، ولكنها مكتظة بالناس، يملؤها الصخب، ويقلقها الضجيج، وإذا مر في أسواقها ثلاثة رجال فلا بد أن يكون فيهم راهب وجندي. إن فلورنسا حزينة ولا تزال معرضا لحياة القرون الوسطى، فكيف نحتمل مشاهدة نوافذها المحترقة وجدرانها القذرة؟
أما روما فما شأننا بها وما نحن من السائحين الذين يتوقون إلى الغرائب، أو يطلبون العلم؟
أفما يجدر بنا أن نذهب إلى ضفاف الرين؟ ولكنا لن نصل إليها إلا بعد انقضاء الموسم، ويصعب على الإنسان أن يقيم في الأماكن المهجورة.
أما إسبانيا فحركتها مستمرة ، وعلى مرتادها أن يعيش فيها كما يكون في ساحة حرب، فيتوقع مصادفة كل شيء ما عدا الراحة.
لنذهب إذن إلى سويسرا مقصد العدد الغفير، وإن لم ترق لبعض الناس، فهنالك يتجلى أروع ما خلق الله من الألوان: هنالك زرقة السماء، وخضرة السهول، وبياض القمم العالية.
وصاحت بريجيت: هيا بنا! لنطر كغردين في الأجواء، وليقم في ذهننا أننا لم نلتق إلا منذ أمس الدابر في أحد المراقص، فأعجبت بك وأعجبت بي، ولسوف تقص علي بعد أن نبتعد أميالا أنك في القرى الصغيرة عشقت امرأة تدعى مدام بيارسون، فلا أصدق شيئا مما ستسرده عنها؛ إذ لا أريد أن تسر إلي بما وقع بينك وبين امرأة هجرتها لتتبعني، ولسوف أقول لك أنا أيضا: إنني منذ أمد غير بعيد أحببت رجلا ذا أخلاق سيئة حملت الشقاء من صحبته، فتسمعني كلمات الإشفاق وتلزمني السكوت، وهكذا نطوي إلى الأبد تلك الصفحة القديمة.
وعندما كانت بريجيت تتكلم بمثل هذا كنت أشعر بجشع الحريص وارتياعه، فأضمها إلى صدري بساعدين يرتجفان، وأنا أهتف قائلا: إنني لا أعلم ما يوجب ارتعاشي أفرحي أم خوفي؟ سأحملك إلى بعيد يا بريجيت؛ لأنك كنزي الوحيد، فتكونين لي تحت هذه الآفاق الوسيعة. هيا إلى الأمام، ولتمت ورائي أيام شبابي وتذكاراتي، فتضمحل معها آلامنا وأوصابنا.
أي خليلتي، لقد حولت بصبرك الولد رجلا، فإذا ما تخليت عني الآن يمتنع علي أن أحب بعد.
من يدري؟ لعل امرأة غيرك كانت ستتولى معالجتي لو لم تعثري علي. أما الآن فأنت وحدك في العالم المرأة التي بيدها إنقاذي وهلاكي؛ لأنني أحمل على قلبي وسم جميع ما حملتك إياه من عذاب. لقد كنت عاقا فعميت بصيرتي، وقسوت عليك. وإنني أشكر الله لأنك لا تزالين تحبينني، فإذا ما عدت يوما إلى القرية التي رأيتك تحت أشجارها، فتطلعي مليا إلى ذلك المسكن المقفر؛ إنك لتجدي فيه طيفا يتوه في أرجائه، ذلك هو الرجل الذي دخل إليك من باب هذا المسكن فبقي فيه؛ لأن الرجل الذي خرج معك منه إنما هو رجل آخر .
وكان جبين بريجيت يشع بنور الحب، وتلتفت إلى السماء قائلة: أصحيح أنني لك، وأننا سنبتعد عن هذا العالم الذي أهرمك في شرخ شبابك. إنك ستعرف ما هو الحب فتنجلي أمامي حقيقة نفسك، وإذا وهنت محبتك لي يوما إيان يستقر بي الترحال فإنك لن تتملص من تبكيت ضميرك؛ لأنني أكون قمت بالمهمة التي قدرت علي، فإذا ما تخليت عني أجد في السماء إلها أوجه إليه شكري على ما أولاني من نعمته.
إن هذه الكلمات لم تزل تصدي في جوانب تذكاري فتملأني حزنا وروعة.
وأخيرا قررنا أن نسافر إلى «جنيف» فنختار لنا مسكنا هادئا على منحدر جبال «الألب»، فبدأت بريجيت تذكر البحيرة الجميلة، فأحسبني أنشق النسمات التي تعقد زردا على سطحها حاملة عطور أزهار الوادي، فكنا نشاهد بعين الخيال «لوزان» و«فيفي» و«أوبرلند»، ووراءها قمم الجبل الوردي الذي يفصلها عن سهول «لومباردي» الواسعة، فكأننا كنا نسمع في هذه الأماكن هتاف السكينة وهمسات أرواح العزلة تدعونا إليها لإغراق حياتنا فيها.
وعندما كان يحين المساء وأربط على أنامل بريجيت بأناملي كنا نشعر كلانا بشيء من التسامي يقصر البيان عنه، وما هو إلا عاطفة كل قلب يستعد للرحيل، فتتنازعه روعة الابتعاد وآمال ما يتوقع مشاهدته في سفره.
إن في فكر الإنسان أجنحة خافقة وأوتارا ناطقة تمثل الألوهية فيه، فإذا ما استعد للرحيل ينتصب فيه عالم جديد كأنه خلق فيه خلقا.
وما عتم حتى ظهرت على بريجيت دلائل الشحوب، فأصبحت صامتة تحني دائما رأسها، وإذا ما سألتها عما بها تجيب بصوت خافت أنها لا تشعر بشيء، ونبهتها يوما إلى قرب ميعاد السفر فنهضت متخاذلة لتتمم معدات الرحيل، وأردت أن أشدد عزمها بتأكيدي لها أنها ستلقى السعادة، وأنني سأكرس لها حياتي، فلجأت إلى ذرف الدموع، وقبلتها فعلا وجهها الشحوب وأعرضت بعينيها عني تاركة شفتيها لشفتي، وقلت لها: إن بوسعها العدول عن الرحيل، فقطبت حاجبيها.
ودعوتها إلى إعلان ما تضمر مكررا لها أقسامي بأنني سأضحي حياتي لتأمين سعادتها، فارتمت على عنقي، غير أنها لم تلبث حتى دفعتني عنها وهي لا تعي.
ودخلت يوما إلى غرفتها حاملا ورقة السفر بالعربة التي تتجه إلى «بزانسون»، وإذا اقتربت منها واضعا هذه الورقة على ركبتيها، رفعت ساعديها وصرخت، ثم سقطت فاقدة رشدها أمامي.
الفصل الثاني
وحاولت عبثا معرفة ما دعا بريجيت إلى هذا الانقلاب الفجائي، فكانت تصر على السكوت وهي عليلة، وأمضيت يوما كاملا في التوسل إليها ذاهبا في ظنوني كل مذهب حتى عيل صبري، فطفرت إلى الشارع تائها ولا وجهة أقصدها، حتى إذا وصلت إلى الأوبرا اعترضني شخص عارضا علي تذكرة دخول، فأخذتها منه ودخلت المسرح.
جلست مشرد الفكر لا يسترعي نظري شيء، فقد كانت بصيرتي المستغرقة في ذاتها تموه على بصري فتمحو كل مرأى حولي، وقد انصبت على فكرة واحدة كلما زدتها إمعانا ازدادت غموضا وإبهاما.
ما هو هذا الحائل الذي انتصب فجأة على سبيل آمالنا فتعثرت به وتبددت؟ إذا كان هنالك كارثة من فقد ثروة أو موت صديق، فما يدعو إلى مثل هذا إلى التكتم والإصرار على السكوت. إن بريجيت لم تدخر وسعا لتحقيق أمانينا، فما يكون هذا السر الذي يذر سعادتنا هباء ولا يسعها إعلانه؟
أصحيح أن بريجيت توصد سريرتها دوني؟ ما الذي يدعوها إلى كتمان أمرها إذا كان لها من حزنها أو ترددها أو غضبها ما يوجب إرجاء رحليها أو العدول عنه؟
وما كان قلبي وهو السادر في هواه ليخامره ريب في إخلاص بريجيت، فإذا لاحت لي فكرة تستدعي لومها، ردها هذا القلب متمردا بعد أن رأى من ثباتها وولائها ما رأى، وهكذا وجدتني تائها في وهاد أظلمت آفاقها، وخفيت عني مخارجها.
ولاح لي على أحد المقاعد المقابلة شاب لم تغرب سيماؤه عن تذكاري، فحدقت فيه وشرود فكري يحول دون تحديدي لشخصه، وقرن هيئته باسمه، وبعد شخوص مديد عرفت فجأة أنه الشاب الذي حمل إلى بريجيت الرسائل من مدينة «ن» حيث يقيم أنسباؤها، فنهضت مسرعا دون ترو قاصدا مخاطبته، ولكنني رأيت أن لا بد لي من اجتياز عدد وفير من المقاعد للوصول إليه، فاضطررت إلى الانتظار ريثما ينزل الستار، وخطر لي أن هذا الشاب دون سواه يمكنه أن يرسل نورا على ظلمات شكوكي؛ لأنه قابل مدام بيارسون مرارا عديدة منذ أيام، وكنت أراها بعد كل مقابلة معه حزينة قلقة، وكانت قابلته في صبيحة يوم اعتلالها.
وما أطلعتني بريجيت على الرسائل التي وردت إليها، فقد يكون هذا الشاب عارفا بالسبب الذي دعا إلى تأخير رحيلنا، وإذا كان لا يعرف هذا السبب؛ فهو على الأقل يعلم ما تضمنت الرسائل، وكنت أرى في اطلاع هذا الشاب على أمورنا ما يجرئني على استجوابه؛ لذلك سرني الالتقاء به، وما أسدل ستار المسرح حتى سارعت إلى اللحاق به في الممشى، ولكنه اندفع دون أن أعلم إذا كان رآني أم لا، وتوارى في إحدى الشرفات، فوقفت أنتظر خروجه ربع ساعة حتى إذا فتح الباب رأيته خارجا، فهرعت نحوه رافعا يدي بالسلام، ولكن بعد أن مشي بضع خطوات مترددا أدار ظهره فجأة وانحدر على أحد السلالم واختفى.
وما كانت حركتي لتخفى على هذا الشاب، فقد أدرك ولا ريب أنني قصدت مخاطبته، فهو إذن قد أراد اجتناب هذه المخاطبة، وما كان له أن ينسى هيئتي، وهب أنه لم يعرفني فليس من المألوف أن يولي الإنسان الأدبار أمام من يسير نحوه، وما كان في الممشى أحد سوانا عندما اتجهت إليه، فلا ريب إذن في أنه تهرب من مقابلتي.
وما خطر لي قط أن هذا الشاب تعمد إهانتي بما فعل؛ لأنه كان يزورنا كل يوم فألقاه بالترحيب، فضلا عن أنه كان بسيطا متواضعا، وليس في خلقه شيء مما يبرر الظن بسوء قصده، فهو إذن أراد التخلص من محادثة رآها مرهقة له. وهكذا قادني التفكير إلى اضطراب أشد؛ إذ تحققت وجود علاقة لا ريب فيها بين تهرب هذا الشاب وإصرار بريجيت على السكوت.
ليس في العالم عذاب أشد على الإنسان من الارتياب، ولكم تعرضت للمصائب في حياتي لأنني ملت إلى الشكوك فاستبقت الحادثات.
وعدت إلى المسكن فرأيت بريجيت مشغولة بقراءة هذه الرسائل المشئومة، فقلت لها: إنني علت صبرا ؛ فلن أطيق بعد الآن بقاء في هذا المأزق الذي يبلبل أفكاري، وأعلنت لها إصراري على معرفة ما أدى بها إلى هذا التبدل قائلا: إنها إذا استمرت على الصمت أعتبر صمتها كرفض صريح للرحيل معي، بل كأمر تصدره إلي بالافتراق عنها إلى الأبد.
فما وسع بريجيت تجاه هذه المهاجمة إلا أن تسلمني - ودلائل الامتعاض بادية على محياها - إحدى تلك الرسائل، فإذا أقرباؤها يقولون فيها: إن رحيلها سيصمها بالعار؛ إذ لا يجهل أحد ما دعاها إليه، وإنهم يجدون من واجبهم تذكيرها بسوء مصيرها؛ لأنها تعيش معي كخليلة، وإن عليها - وإن كانت حرة في تصرفها كأرملة - أن تحافظ على سمعتها وشرف الاسم الذي تحمله، فإذا هي تمادت في غيها، فلا عتب لها عليهم وعلى جميع أصدقائها إذا هم قطعوا كل علاقة بها. وقد اختتم هؤلاء الأقرباء رسالتهم بإسداء النصح للرجوع إلى بلادها.
آلمتني لهجة هذه الرسالة، فلاح لي لأول وهلة أنها لا تتضمن إلا إهانات وتقريعا، فقلت لبريجيت: لا ريب في أن الشاب الذي حمل إليك هذه الرسائل قد كلف أيضا بترديد ما ورد فيها على مسامعك، فهل تنكرين أنه يقوم بهذه المهمة؟
ورجعت إلى الصواب كاسرا من حدة غضبي أمام بوادر الحزن التي ظهرت على وجه بريجيت وهي تقول: لك أن تفعل ما تشاء إلى أن تقضي علي. إن حظي من الحياة بين يديك، وأنت سيد هذه الحياة منذ زمان بعيد، وبوسعك أن تعد ما يحلو لك من انتقام تجاه هذه الجهود التي يبذلها أصدقائي القدماء بدعوتهم لي إلى سواء السبيل، وبمحاولتهم إرجاعي إلى حظيرة المجتمع الذي كنت أحترمه من قبل، والشرف الذي تعريت منه. ليس لي ما أقوله لك، ولك إذا شئت أن تملي علي جوابي على هذه الرسائل فأصدع بأمرك.
فقلت لها: إنني لا أطلب سوى معرفة ما تقصدين، ومن سيصدع بالأمر إنما هو أنا لا أنت، فقولي لي أتريدين البقاء أم الرحيل لأعلم إذا كان يجب علي أن أرحل وحدي.
فأجابت بريجيت: لماذا توجه إلي هذا السؤال؟ وهل قلت لك إنني غيرت رأيي؟ إنني متألمة ولا طاقة لي على السفر وأنا على هذه الحال، فلا أنتظر إلا الشفاء، أو على الأقل استعادة بعض القوى لأذهب معك إلى جنيف كما تم اتفاقنا.
وافترقنا بعد هذه المحادثة وفي قلبي لبرود لهجتها من الحزن ما لم أكن لأشعر بمثله لو أنها أعلنت أنها لن ترحل معي.
وما كانت هذه المرة الأولى التي حاول بها الناس بمثل هذه النصائح أن يفرقوا بيننا، غير أن بريجيت ما كانت من قبل لتأبه لمثل هذه المحاولات؛ لذلك صعب علي التصديق بأن هذه الرسائل وحدها قد أثرت فيها هذا التأثير، في حين أن ما انطوت عليه من نصائح كانت قد بذلت لها من قبل أيام لم نكن بلغنا السعادة التي توصلنا إليها أخيرا. وقفت أحاسب نفسي لأعلم إذا كنت أتيت في باريس أمورا توجب إدانتي، ثم تساءلت عما إذا كان السبب في هذا الانقلاب ما يطرأ على النساء من ضعف عندما يقررن اقتحام أمر فلا يجسرن على تنفيذه، أم أن هنالك ما يدعوه الإباحيون آخر مقاومة للعقائد الموروثة، ولكن بريجيت كانت قد أمضت ثمانية أيام لا تني خلالها عن التكلم عن أحلامها، وعن حياتها المقبلة بكل صراحة، وبكل إخلاص، حتى إنها أصرت على الرحيل بالرغم مني، فلا بد إذن من وجود سر في الأمر، ولكن أين السبيل إلى النفوذ إليه إذا كنت لا أتلقى جوابا على ما أوجهه إلى بريجيت من سؤال إلا على شكل لا يتفق والحقيقة؟ وما كان بوسعي أن أكذبها طالبا منها إيراد جوابها بشكل آخر.
إنها تعلن لي استعدادها للرحيل، غير أن اللهجة التي تتخذها لهذا التصريح تدعوني إلى رفض ما تعلن قبوله؛ إذ ليس لي أن أرضى بمثل هذه التضحية، وقد أصبح قبولها في عيني عبارة عن خضوع لأمر واقع، أو استسلام لقضاء لا بد منه. وقد كنت أعتقد من قبل أن بريجيت تطاوع هواها لتتبعني، فإذا هي في نظري مكرهة على القيام بما عاهدت عليه ووعدت به، وروعني أن أحمل بين ذراعي هذه المخلوقة الشاحبة لأختطفها من أوطانها، وأذهب بها إلى أمد بعيد قد يطوى مدى الحياة، وما هي بين يدي إلا ضحية مستكينة.
لقد قالت لي: إنها ستفعل كل ما يحلو لي، وما يحلو لي أن أكلف التجلد والصبر هذه القانتة الصابرة، ولأسهل علي أن أذهب ضاربا في مجاهل الأرض وحدي من أن أتحمل النظر أسبوعا واحدا إلى هذا الوجه يقنع بالشحوب سره الدفين.
ويلي! أبوسعي أن أذهب وحدي ناكصا على أعقابي بعد أن قطعت بخمسة عشر يوما أجمل مراحل السعادة؟ أني لي هذا الإقدام وأنا لا أفكر إلا في الوسيلة التي تمكنني من اختطاف بريجيت والرحيل بها؟
ومر بي الليل الطويل ولم يغمض لي جفن، حتى إذا لاح الفجر وجدتني مصمما على مقابلة الشاب الذي رأيته في المسرح، وما عرفت أكان ما يدفعني إلى ذلك حاسة غضب، أم حاسة فضول؟ وما عرفت أيضا ما أريد من هذا الشاب، ولكنني وثقت من أنني سأتمكن من مقابلته، فلا يتسنى له هذه المرة أن يتهرب من ملاقاتي.
وما كنت أعرف عنوان مسكنه، فدخلت على بريجيت أطلب هذا العنوان قائلا: إن الواجب يقضي علي بزيارة من زارنا مرات عديدة، وما كنت أخبرتها شيئا عن مصادفتي له في المسرح، فوجدتها مستلقاة على سريرها وعلى أجفانها بلل الدموع، ومدت يدها إلي قائلة: ماذا تريد مني؟
وكانت نبرات صوتها تتدفق مرارة وحنانا.
وخرجت من غرفتها بعد محادثة قصيرة مشبعة بالولاء، وقد سقط عن قلبي بعض ما يثقل عليه.
وعرفت من بريجيت أن الشاب الذي أقصد زيارته يدعى سميث، وأنه ساكن على مقربة منا، ولما قرعت بابه ملكني اضطراب شديد، ومشيت إليه كأنني أقتحم نورا شديدا، غير أنني ما وقفت أمامه حتى جمد دمي في عروقي؛ لأنه كان منطرحا كبريجيت على فراشه، ووجهه شاحب كوجهها، فمد إلي يده قائلا ما قالت هي: ماذا تريد مني؟
إن في الحياة من غرائب التصادف ما يحير العقول.
قعدت ولم أجب، فكأنني استفقت من حلم، وأنا أكرر في سري السؤال الذي وجهه الشاب إلي؛ لأنني ما كنت لأعرف ما أتيت أفعل لديه، وهب أن هذا الشاب مطلع على أمور تهمني، فهل هو مستعد لإعلان ما يكتم؟ لقد حمل الرسائل إلى بريجيت، فهو لا شك يعرف مرسليها، ولكن هل هو يعرف عن مضمونها أكثر مما أطلعتني بريجيت عليه؟ وصعب علي أن أستنطق مضيفي، وأصبحت أحاذر أن يرتاب فيما يمر بخاطري.
وبدأنا الحديث بالمجاملات المألوفة، فشكرته لقيامه بالمهمة التي كلفه إياها أنسباء مدام بيارسون، وقلت له: إننا عندما نبارح فرنسا سنعهد إليه أيضا ببعض المهام، ثم حكمنا الصمت كأن كلا منا لا يدري سببا لوجوده تجاه الآخر.
وأدرت لحاظي إلى ما حولي ككل حائر، فرأيت في هذه الغرفة - وهي في الدور الرابع - ما يدل على نزاهة ساكنها واجتهاده؛ إذ لم يكن فيها سوى عدد من الكتب، والآلات الموسيقية، ورسوم إطاراتها من الخشب الأبيض، وأوراق منضدة على خوان، ومقعد قديم، وبعض كراسي، غير أن جميع هذه الأدوات كانت مرتبة نظيفة يرتاح إليها النظر. ورأيت على رف الموقد رسم امرأة مسنة، وإذ تقدمت لأمعن فيها قال لي إنها أمه.
وتذكرت حينذاك أن بريجيت كانت حدثتني مرارا عن سميث، فعادت إلى مخيلتي حوادث عديدة عن حياته؛ لأنها كانت تعرفه منذ طفولته، وكانت تراه أحيانا في قرية أنسبائها، ولكنها انقطعت عن زيارة هذه القرية إلا مرة واحدة منذ تعرفت إليها، وهكذا عرفت صدفة ما عرفته عن حياة هذا الشاب الذي كان يشغل وظيفة صغيرة ليقوم بأود أمه وأخته منقطعا عن اللذات من أجلهما، وبالرغم من براعته في الموسيقى لم يقتحم المجال طلبا للنجاح في هذا الفن، بل اختار حياة السكون مفضلا خمول الذكر، منتميا بهذا إلى فئة قليل عديدها في الحياة ترى من واجبها شكر المجتمع لعدم شعوره بها، ولإغضائه عن مواهبها.
وكنت سمعت عنه أمورا تكفي لتحديد شخصيته، منها أنه كان توله بفتاة عاشرها سنة، فرضي أهلها بتزويجه منها، وكاد العقد يتم لولا أن أمه قالت له: «وأختك، من سيزوجها؟» ففهم من هذه الكلمة أنه إذا تزوج وحول جني عمله إلى عائلته، فإن أخته تبقى بلا مهر، وتحرم من الزواج، فلم يتردد في العدول عن زواجه مضحيا غرامه، هاجرا بلدته، ووجهته باريس؛ حيث وجد الوظيفة التي يشغلها الآن. عندما سمعت هذه الأقصوصة في القرية تمنيت أن أتعرف إلى بطلها؛ إذ رأيت في هذا الإخلاص من العظمة ما يربو على أمجاد أعظم انتصار في معارك الحياة.
وعندما تفرست في رسم أمه خطرت لي هذه الحادثة، فحولت أنظاري إليه وسألته عن سنه، فأدهشني إعلانه لي أنه من سني، في حين أن سيماءه كانت تدل على أنه أصغر مني، وعندما دقت الساعة الثامنة وقف وأراد أن يخطو إلى الأمام، فرأيته يتمايل مضطربا، وإذ سألته عما به قال لي: إن ساعة ذهابه إلى المكتب قد حانت، غير أنه لا يجد في نفسه القوة على السير؛ إذ إنه يشعر بنار الحمى ويتألم ألما شديدا، فقلت له: لقد كنت في عافية بالأمس عندما رأيتك في «الأوبرا»، فقال: أعتذر إليك لأنني ما عرفتك. إنني أذهب إلى الأوبرا مرارا، وأرجو أن أصادفك هنالك.
وكنت كلما أمعنت الفكر في حالة هذا الشاب، وأدرت لحاظي في غرفته، أزداد ترددا في تناول الموضوع الذي كنت أتيت لبحثه؛ إذ لم يبق في خاطري ما كان خامره من أن هذا الشاب أمكنه أن يدخل على ذهن بريجيت ما يلحق الضرر بي، بل رأيت فيه من دلائل الصراحة والجد ما أوقفني موقف الاحترام أمامه، وما لبثت أن اتخذت أفكاري مجرى آخر وأنا أتفرس في وجه رفيقي، وهو يتفرس أيضا في وجهي.
لقد كان كل منا في الواحدة والعشرين من سني حياته، ولكن الفرق كان كبيرا بيني وبينه، فهو الشاب المتعود الحياة المنتظمة، المتحرك ضمن دائرة محدودة، الذي لا يعرف من الدنيا إلا طريقه بين غرفته المنفردة ومكتبه في إحدى الوزارات، مرسلا إلى والدته نتاج الجهود التي لا تعرف قيمتها إلا اليد العاملة، فلا يشكو من ألمه إلا لأن هذا الألم يحرمه يوم عمل، ولا ينصب فكره إلا إلى تأمين الراحة لسواه منذ تحركت للعمل يداه. أما أنا فما الذي فعلته بهذا الزمن الثمين الذي مر بي سراعا؛ هذا الزمن الذي يمتص عرق المجاهدين في الحياة؟ أمن كان مثلي يعد رجلا؟ ومن عرف الحياة يا ترى: أنا أم هذا الشاب؟
إن ما أوردته هنا في صفحة مر بيننا في لحظة وأنا أحدق فيه وهو يحدق بي.
وحدثني بعد ذلك عن سفرنا وعن البلاد التي كنا ننوي زيارتها، ثم سألني عن ميعاد هذا السفر، فقلت له: إن مدام بيارسون مريضة، طريحة الفراش منذ ثلاثة أيام، فردد قولي: «ثلاثة أيام» بحركة استغراب لم يقو على ردها.
وسألته عن سبب استغرابه، فوقف وألقى ساعديه على كتفي وعيناه جاحظتان وهو يرتعش، فقبضت على يديه مستفسرا عن ألمه، فكفكف دمعه براحته وانسحب بتعب نحو سريره.
وحدقت فيه مندهشا؛ إذ رأيت الحمى تهزه هزا، فترددت في تركه على هذه الحالة، وإذ تقدمت إليه ردني عنه بعنف، وما عتم أن عاد إليه صوابه فقال لي: أعتذر إليك، وما كانت حالتي لتسمح لي باستقبالك، فأرجو أن ترفق بي وتتركني وشأني، ولن يفوتني عندما أستعيد قواي أن أذهب إليك لأسديك شكري.
الفصل الثالث
وتحسنت صحة بريجيت، وكانت أعلنت لي أنها مستعدة للرحيل في حال شفائها، فلم أطاوعها، بل رأيت أن ننتظر خمسة عشر يوما أيضا ريثما تستعيد قواها لتحمل مشاق السفر.
وبقيت ممنعة بصمتها الحزين، فلم أستطع اقتيادها إلى مصارحتي بما تضمر، وقالت: إن سبب انقباضها هو الرسالة التي وردت إليها، ملحة علي بألا أطلب منها إيضاحا في هذا الصدد فاضطررت إلى مجاراتها، فثقل علينا الانفراد حتى لم يعد يستقر بنا مقام كل مساء إلا في المسارح والملاهي، فنكتفي بالقعود جنبا إلى جنب، فإذا أشجانا نغم أو شاقنا بيان شددنا يدا بيد، أو تبادلنا نظرات التفاهم والولاء، غير أننا كنا نحتفظ بالصمت أيان توجهنا.
وكنت أتحفز عشرين مرة في النهار لأرتمي عند أقدامها متوسلا إليها أن تعيد إلي سعادتي، أو تقضي علي، فيردني ما يبدو على وجهها من شحوب عندما تحس بما أنوي؛ إذ كانت تقف وتولي، أو ترسل إلي بكلمة باردة تتجمد منها كلمات قلبي على شفتي.
وكان سميث يأتي إلى مسكننا كل يوم، فلا أشعر بنفور منه لما كان يبدو عليه من حسن النية والسذاجة، ولاشتراكه في بحث مسألة رحيلنا بكل إخلاص، في حين أن زياراته المتكررة كانت سببا لما حل من اضطراب على بيتنا، وبالرغم من أن زيارتي له كانت قد أبقت في شكوكا مستغربة. وكنت حدثته عن الرسائل التي حملها إلى بريجيت، فما لاحت عليه دلائل الاستنكار، بل رأيته يبدي من الحزن بقدر ما أشعر به، فأعلن لي أنه كان يجهل ما في هذه الرسائل، وأنه لا يقر لهجتها، ولو أنه عرف بما فيها لما كان حملها.
وما كان لي أن أذهب إلى الاعتقاد بوجود سر ما بين سميث وبريجيت، في حين أنها كانت تعامله معاملة لا تتجاوز حدود المجاملة؛ ولهذا كنت أقابله بسرور بالرغم من وقوف كل منا تجاه الآخر موقف المحاذر المتكلف. وكان قد رضي بأن نعهد إليه بمقابلة أنسباء بريجيت بعد سفرنا، والعمل على تفادي مقاطعتهم لها. وكانت لسميث حرمته في البلد؛ لذلك توقعت أن يكون لتوسطه خير نتيجة، واعترفت له بهذا الجميل.
وكان كل شيء في خلق هذا الشاب يدل على نبله؛ إذ لم يكن يدخر وسعا لإعادة السرور إلينا عند اجتماعنا به، فنتأكد أن ما يطمح إليه هو أن تسود السعادة بين بريجيت وبيني، وما سمعناه مرة يورد ذكر علاقتي بها إلا وهو يبدي عقيدة الرجل الذي يرى في الحب أقدس رابطة تضم شخصين أمام الله، وهكذا كان سميث في تقديري صديقا مخلصا أوليه ملء ثقتي، غير أن الأحزان التي كان يغالبها فتبدو عليه بالرغم منه كانت تثير بي أفكارا غريبة، فأستعيد ذكرى الدموع التي رأيت هذا الشاب يذرفها، وأتمثل وقوعه مريضا في الزمن نفسه الذي مرضت بريجيت فيه، فأحس من كل هذا بوجود تفاهم حزين يسود بينها وبينه، فلا أملك نفسي من التألم والاضطراب.
لقد كانت أقل ريبة تهيب بي من قبل شهر إلى الاندفاع مع غيرتي اندفاعا جنونيا، فأصبحت لا أجد أمرا يحفزني إلى الارتياب ببريجيت، فأقول: ما لي وللسر الذي تخفيه - إذا كان هنالك سر - ما دامت مصممة على الرحيل معي؟ وهب أن بينها وبين سميث أمرا تخفيه عني، فهل في ذلك ما يستوجب اللوم، وليس بينهما سوى مودة واشتراك في أحزان. لقد عرفته طفلا، وهي تراه الآن بعد مرور السنين في زمن تستعد فيه لمبارحة فرنسا يتقدم إليها كآلة في يد القدر ليبلغها ما يكدرها في موقفها الحرج، فلا غرابة إذن أن يسود عليهما مثل هذا الحزن من تذكر الماضي، وهل من موجب للوم إذا هو واجهها بنظرات الآسف الحزين؛ إذ يراها مقدمة على سفر طويل، معرضة لحياة مضطربة، وقد أصبحت مضطهدة يكاد ينكرها أهلها وأصحابها؟
وعندما كانت تمر هذه الخواطر ببالي كنت أرى أن علي أنا أن أقف بين بريجيت وبين سميث لأدخل إلى نفسيهما الاطمئنان، مؤكدا لها أن يدي ستكون خير عضد لها إذا شاءت أن تستند إليها، ومؤكدا له أنني ممتن لما يبديه نحونا من عطف، ولما سيؤديه من خدمة. كنت أراني مدفوعا إلى هذا دون أن أجسر على القيام به؛ إذ كنت أشعر بصقيع في دمي فأبقى دون حراك على مقعدي.
وعندما كان سميث ينصرف إلى مسكنه في المساء كنا نبقى صامتين أنا وبريجيت، أو يدور حديثنا عليه، وما كنت أدري حقيقة الدافع الغريب الذي كان يحدو بي إلى الاستفهام من بريجيت عن تفاصيل حياته، وما كان لديها سوى ما ذكرته فيما تقدم؛ لأن حياة هذا الشاب كانت عبارة عن فقر واستقامة وخمول ذكر، وما تستدعي مثل هذه الحياة أكثر من كلمات وجيزة لسردها، غير أنني كنت أستعيد إيراد حوادثه وأنا لا أدري سببا لاهتمامي بها.
وحللت تفكيري، فأدركت أن في قرارة نفسي ألما خفيا كنت أنكره على ذاتي. ولو أن هذا الشاب جاء إلينا في أيام سعادتنا، فحمل إلى بريجيت رسالة ثم تجنب الالتقاء بي في المسرح، ثم ذرف دموعا لا أدري سببها، فهل كنت أقف عند مثل هذه الحوادث وأنا ممتع بسعادتي؟ ولكن الأمر قد وقع في زمن كنت أصطدم فيه بأحزان بريجيت، وأشعر أن معاملتي الماضية لها قد ولدت فيها هذه الأحزان، ولو أنني عاملتها طوال الستة أشهر الماضية المعاملة الحسنة لما كنت أجد من سبب لتكدير صفو حياتنا. وقد كان سميث، بالرغم من كونه رجلا عاديا متصفا بالأخلاق الرضية، ولا تخفى صفاته الطيبة عن الناظر إليه، فلا يجد بدا من الوثوق به؛ ولذلك كنت مضطرا إلى أن أقول في نفسي: لو أن سميث كان هو عاشق بريجيت لما كانت تتردد في الرحيل معه راضية مسرورة.
كنت أرجأت سفرنا بملء اختياري، فأصبحت الآن نادما على ذلك، وما كانت بريجيت تغفل عن تذكيري بالسفر فتقول لي: ما الذي يمنعنا عن الرحيل بعد أن شفيت من دائي؟
وفي الواقع ما كنت أدري سببا لتأخري. وقفت مستندا إلى الموقد أنظر تارة إلى سميث، وطورا إلى خليلتي، فأرى كلا منهما شاحب الوجه صامتا، فأحار في تعليل هذه الحالة، غير أنني كنت أشعر بأن ليس هنالك سران، بل سر واحد مشترك، فما تستقر الريبة مني كما كانت تستقر من قبل في غيرة مريضة، بل في أعمق غريزتي كأنها أمر واقع لا يقاوم، وفي غرائز الإنسان أمور جد مستغربة، ومن أغربها أنني كنت أجد شيئا من اللذة حين أترك بريجيت وسميث يتحدثان قرب الموقد؛ لأذهب تائها على الأرصفة، وأستند إلى الأعمدة المحادة للنهر، مسرحا أبصاري على مركض المياه كما يقف من لا عمل له متلهيا بالنظر إلى المارة في الشوارع.
وعندما كان يدور الحديث بينهما عن الأيام التي قضياها في بلدتهما، فتوجه إليه بريجيت الخطاب بلهجة الأم، مذكرة إياه الأيام التي قضياها سوية، كنت أحسبني متألما، ولكنني كنت في الوقت نفسه أشعر بشيء من السرور، فأستنطقهما عن تلك الأيام، وأحدث سميث عن أمه، وعن أعماله، وعن أمانيه في المستقبل، فأفتح له مجالا لإظهار حقيقة شخصيته على خير ما تظهر به، فأنتزع من تواضعه صورة فضائله ، وكنت أقول له: إنك شديد التعلق بأختك، فمتى تنوي تزويجها؟ فكان يقول والاحمرار يعلو وجهه: إن إنشاء الأسرة يكلف كثيرا، ولعله يتمكن من تحقيق هذه الأمنية بعد سنتين، أو أقل من هذه المدة، إذا سمحت حالته الصحية بالقيام ببعض أشغال إضافية تنيله مكافأة فوق راتبه، ثم يقول: إن في البلدة عائلة لها كفافها من العيش اتفقت مع أسرته لتزويج أخته من ابنها البكر، وإنه تخلى لأخته عن حصته في إرث أبيه، وسوف لا يعدل عن ذلك وإن أصرت أمه على الرفض، ثم يضيف إلى ذلك قوله: إن للشاب ساعدين يؤمنان حياته، أما الفتاة فحياتها متوقفة على زواجها. وكان سميث يعرض أمامنا مشاهد حياته وخفايا نفسه وأنا أتفرس في ملامح بريجيت لأقرأ تأثير هذه المشاهد عليها.
وكنت أشيع سميث إلى الباب عند انصرافه، ثم أقف مستغرقا في التفكير إلى أن ينقطع صوت وقع أقدامه، فأعود إلى الغرفة لأنظر إلى بريجيت وهي تتهيأ لخلع ثيابها، فأقف متمتعا بجسمها الرائع، وبما فيه من جمال امتلكت كنوزه، فأراها تسرح شعرها الطويل وتعقد فوقه عصابة، ثم تترك رداءها ينزلق عن جسمها إلى الأرض، لتطفر نحو سريرها كأنها إلهة الجمال تندفع إلى البحر للاستحمام في مياهه. وكنت أنا من جهتي أنطرح على سريري دون أن يخطر لي ببال إمكان استسلامها إلى سميث، فما كنت أقصد التربص لهما للوقوف على جلية الأمر، بل كنت أتعامى وأقول في نفسي: إنها لجد جميلة، وما سميث المسكين إلا شاب طيب القلب، ولكل منهما أحزانه كما أن لي أحزاني، وهكذا كنت أشعر بانقباض قلبي، وأحس في الوقت نفسه أن حملا ثقيلا سقط عنه.
وفتحنا صناديق السفر فاتضح لنا أننا نسينا بعض الحوائج، فعهدنا إلى سميث بمشتراها، وما كان هذا الشاب ليتردد في القيام بكل ما نكلفه به. وعدت يوما إلى البيت فرأيته جاثيا على الأرض منهمكا في إقفال صندوق كبير، وكانت بريجيت أمام البيانو الذي كنا استأجرناه لمدة إقامتنا في باريس، وهي تعزف عليه أنغاما عزيزة علي، فوقفت في ممشى الغرفة - وكان الباب مفتوحا - أتنصت إلى هذه النغمات وهي تنفذ إلى أقصى مشاعري، وما سمعتها من قبل تثيرها بمثل هذا الشجي، وهذا الخشوع. وكان سميث يتلذذ بالإصغاء إليها وهو على ركبته يشد حابل الصندوق، ثم وقف وقد أكمل عمله، وبقيت بريجيت ملقية أناملها على معزف البيانو وقد شخصت أبصارها إلى الآفاق، ورأيت للمرة الثانية الدموع تنحدر من عيني الشاب، فكادت عيناي تذرفان مثلها، فتقدمت نحوه دون أن أدري ما أفعل، ومددت يدي لأصافحه، فارتعشت بريجيت وظهرت دلائل الدهش على وجهها، وقالت لي: أكنت هنا أنت؟ فقلت: إنني كنت هنا. أنشديني يا عزيزتي، وأسمعيني صوتك أيضا، فعاودت الإنشاد دون أن تجيبني بكلمة، ورأت ما يفعل إنشادها بي وبسميث، فخففت نبرات صوتها تدريجا حتى حسبت نغمات القرار همسا يتردد في الآفاق من بعيد، ونهضت فألقت قبلة على وجنتي، وكان سميث لم يزل قابضا على يدي؛ فشعرت أنه يشد عليها بحركة مرتعشة، وقد علت وجهه صفرة الموت.
وحملت إلى البيت مرة أخرى مجموعة مناظر عن بلاد سويسرا، فجلسنا نحن الثلاثة نقلب صفحاتها، فاستوقف انتباه بريجيت أحد المناظر في مقاطعة «الفود» على مقربة من طريق «بريك»؛ حيث يمتد واد ظليل تحف به أشجار التفاح، وترتعي المواشي في مروجه، ووراء هذا المنظر كانت تلوح قرية لا يتجاوز عدد مساكنها العشرة، وهي مبنية بشكل مدرج على منحدر التلال، وكان يظهر في مقدمة هذا المنظر رسم فتاة تلبس قبعة من القش وهي جالسة إلى جذع شجرة، وأمامها خادم يدلها بعصاه على الطريق التي قطعها من جهة الجبل، حيث كانت تظهر مناظر الألب تكللها ثلاثة تيجان من الثلج مرصعة بأشعة الشمس الغاربة. وكان هذا المنظر على غاية من الجمال يلوح الوادي المخضل فيه كأنه بحيرة من الأعشاب الندية، فسألت بريجيت عما إذا كانت تود أن نذهب إلى هذه القرية، وما انتظرت جوابها فأخذت قلما ووجهته نحو الرسم، وإذ سألتني بريجيت عما أريد أن أفعل قلت لها: إنني سأحاول بتعديل بعض الخطوط على وجه الفتاة الماثلة في الرسم أن أجعله شبيها بوجهك، ولعلني أوفق أيضا لوضع بعض الشبه من وجهي على وجه الجبلي الجسور.
وأعجبتها هذه الفكرة، فرأيتها تأخذ محفاة فتمرها على الوجهين، فبدأت أنا برسم بريجيت مكان وجه الفتاة، وحاولت هي أن ترسم وجهي مكان وجه الفتى، ووفقنا كلانا إلى ما قصدنا، فإذا بي وبها على مدخل القرية في سويسرا، وبعد أن ضحكنا أمام هذا المشهد بقيت المجموعة مفتوحة، وإذا بالخادم يدعوني لأمر ما فخرجت، ولما عدت إلى الغرفة رأيت سميث مستندا إلى الخوان وهو مستغرق في التأمل، حتى إنه لم ينتبه لدخولي، وجلست قرب الموقد حتى إذا رفعت صوتي وخاطبت بريجيت، انتبه سميث لوجودي، فرفع رأسه وتفرس فينا لحظة، ثم استأذننا بالانصراف فجأة، وبينما هو يتجه من الممشى إلى الباب رأيته يصفع جبينه براحته، فنهضت عن مقعدي وهرعت إلى غرفتي وقد انطبعت في عيني هذه الحركة التي تنم عن الألم، وأنا أسأل نفسي: ماذا عسى أن يكون هذا؟ وضممت راحتي بحركة الاسترحام دون أن أدري إلى من أتوجه بها، أإلي ملك سعادتي أم إلى شيطان بؤسي؟
الفصل الرابع
وكان قلبي يهيب بي إلى الرحيل، فأرجئ السفر من يوم إلى يوم؛ إذ كنت أشعر في كل مساء بلذة مريرة تسمرني في مكاني، وكنت في كل مرة أتوقع فيها زيارة سميث يملكني اضطراب لا يهدأ حتى أسمع قرع جرس الباب منذرا بوصوله. فما هي يا ترى هذه العاطفة المضمرة فينا يستهويها الألم، ويشد بها الشقاء؟
وكنت كل يوم أرتعش لكلمة أسمعها، أو لبارق لحظ أباغته، ثم تردني هذه الكلمة نفسها، وهذه البارقة عينها في اليوم الثاني إلى الحيرة والارتياب بريبتي، وما أدري لماذا كنت أرى بريجيت وسميث غارقين في بحر من الأحزان، كما لا أعلم لماذا كنت أشخص متأملا فيهما وأنا لا أبدي ولا أعيد، في حين أنني ما كنت أملك ثورة نفسي في مثل هذا الموقف. لقد كنت أحس بشيء من الخبل، وفي من الغيرة العنيفة في الحب ما يشبه غيرة الشرق في لهب غرامه.
وكنت أمضي أيامي في الانتظار دون أن أعرف ما أنتظر، حتى إذا أمسيت قعدت على سريري قائلا: لأفكرن في هذا الأمر، فأسند رأسي بيدي ولا ألبث حتى أصيح: لا، إن هذا مستحيل، ثم أعود إلى مثل هذا العمل في الليلة التالية.
وكانت بريجيت تبدي لي من التحبب أمام سميث ما لا تبدي مثله ونحن منفردان، حتى إنها ذات ليلة كانت ذاهبة معي في مجادلة قاسية، فما سمعت صوت سميث في البهو حتى هرعت إلي وقعدت على ركبتي، أما هو فكان يبدو في كل آن كأنه مستغرق في أسى لا ينقطع عن مجالدته، فكانت حركاته معتدلة ولا يتكلم إلا متمهلا، غير أنه لم يكن يتمالك أحيانا من الإتيان ببعض حركات تشذ بعنفها عن حالته العادية.
أفكان تململي في موقفي ونفاذ صبري نوعا من الفضول؟ ولو جاءني أحد وقال لي: ما لك ولهذه الأمور؟ إنك حقا لفضولي، فهل كان يمكنني أن أفسر عاطفتي بغير التحرش والفضول؟
إنني أذكر حادثة وقعت لي على الجسر الملكي رأيت فيها رجلا يهلك غرقا.
كنا رهطا من الأصحاب نتمرن على السباحة، فذهبنا تحت الجسر يتبعنا مركب فيه سباحان من متخصصي الإنقاذ، وتبعنا رهط آخر حتى بلغ عددنا الثلاثين، وأصاب أحد رفاقنا احتقان أورثه الدوار، فإذا به يصرخ مستنجدا وقد رفع يديه يلوح بهما على سطح الماء، وما عتم أن اختفى أثره، فألقينا بأنفسنا في اليم ثم عدنا بلا جدوى، وما أخرج الغريق إلا بعد مرور ساعة؛ إذ وجدت جثته عالقة تحت كومة من الأخشاب.
لن أنسى ما حييت ما شعرت به وأنا أغامر بنفسي تحت أطباق المياه، فإنني كنت أرسل أبصاري في اللجج القاتمة تدور بي بصخبها المختنق، وأذهب غائصا على قدر ما يطيق صدري كبت أنفاسي، ثم أطفو على سطح الماء لأتبادل بعض كلمات مع رفاقي الغاطسين مثلي، ثم أعود إلى الأعماق لاصطياد الإنسان الغريق، وملء قلبي الأمل والارتياع، وما كنت أتمثل يدي الغريق تقبضان علي برعشة الموت حتى أشعر بلذة يمازجها هلع لا أستطيع التغلب عليه، وطفوت راجعا إلى ظهر المركب وقد أنهكني التعب.
إن من نتائج الفحشاء - إذا هي أبقت في الإنسان على شيء من إنسانيته - أن تدفع به إلى هوس الاستطلاع، وقد تكلمت عما انتابني من هذا الهوس في زيارتي الأولى لديجنه، وسأذهب الآن في وصف الفضول إلى أبعد ما وصلت إليه.
تقضي الحقيقة على كل إنسان - أيا كان - أن تغوص يده عندما تحين ساعته إلى ملمس العظام من أي جرح يتكشف عنها، وما تعرف حقيقة الحياة إلا بهذا الاختبار، وبعض الناس يتراجعون خوفا أمام العظم المعرى، والبعض الآخر ينالهم الارتياع، فيرتعشون كالأشباح لا يتقدمون ولا يتأخرون، وهنالك أناس يقتلهم هذا المشهد، فيموتون، ولعلهم أفضل الأحياء، ويمر الحدث على أكثر الناس فيتابعون سيرهم ملفعين بالنسيان، والأجيال تتابع على هذا السبيل نحو الفناء.
وقد قضي على بعض الأشقياء في مثل هذا الموقف ألا ينكصوا على أعقابهم ولا يترددوا، فلا هم ينسون ولا هم يموتون، فإذا ما قدر عليهم أن يصطدموا بكارثة، وما الكوارث إلا كاشفة الحقائق للبصائر، فإنهم يقتحمونها، ويمدون أذرعهم نحوها، فهم كالغائص تحت أطباق اليم يستفزهم نوع من التوله بالغريق، وقد كلح وجهه في قبضة الموت، فيتلمسون موضعه، حتى إذا قبضوا عليه ضموه إلى صدورهم وتحروا عن منبض حياته.
هؤلاء هم الثملون بخمرة الفضول، الطامحون إلى معرفة ما وراء كل مظهر، يقضون عمرهم في الارتياب ومحاولة بلوغ اليقين، فيقفون جهودهم على استكشاف ما في الحياة، كأن الله قد بثهم عليها عيونا وأرصادا، فيرسلون أفكارهم مشحوذة كالسهام، فتقطع أحشاءهم نهشة الفهد الكاسر.
ليس كالفساق من يستولي عليهم مثل هذا الهوس؛ لأنهم يقفون أمام نهر الحياة، فلا يكتفون بالنظر إلى الماء يجري صافيا في مركضه، بل يندفعون أبدا إلى سبر أعماقه ومراسبه، فهم إذا ما خرجوا من مرقص هرعوا إلى المواخير ولما تزل أكفهم ندية من مصافحة يد عذراء قد تكون ارتعشت بين أناملهم، فيطرحون أرديتهم عنهم، ويجلسون إلى مائدة ليكرروا - وهم يقهقهون ضحكا - آخر عبارة نطقوا بها أمام جميلة من فضليات النساء.
أفما كان بوسع هؤلاء الأغرار أن يرفعوا - ببذل بعض دريهمات - الرداء المنسدل كالنقاب على مواضع العفة؟ فما يكون تقديرهم للحياة وهم منها في موقف الممثلين وراء ستائر المسرح الداخلية؟ ومن كهؤلاء الناس يذهب إلى قرارة الأشياء وقد تعود سبرها محتقرا جاحدا؟ أفما سمعتهم ولا بيان لهم إلا التعابير الجافية المتهتكة القذرة، فهم لا يرون الإفصاح عن الحقيقة إلا بها، وما سائر التعابير في عرفهم إلا سخافات وتمويه، فإذا هم قصوا عليك واقعة اكتفوا بالبيان عن إحساسهم منها، فلا يخرج من شفاههم إلا سفيه الكلام، فعبثا تفتش على الروح فيما يقولون؛ لأنهم لا يتلفظون إلا بالحرف المميت، فإذا أراد أحدهم أن يقول: لقد أحبتني هذه المرأة، قال: تمتعت بوصال هذه المرأة؛ فهو لا يقول: أحب، بل يقول: أشتهي، وبدلا من قوله: إن شاء الله، يقول: إن شئت أنا.
ويعلم الله ما يدور في خلد هؤلاء الناس، وبماذا يناجون أنفسهم.
ومن كانت هذه حاله؛ فلا بدع إذا هو استغرق في الكسل، أو اندفع بحماس الفضول إلى هتك الأستار؛ لأنه بينما يتمرن على تمثل الأمور على أسوأ حالاتها، لا يروق له أن يرى في العالم من يحسن به ظنا، فيعمد إلى سد أذنيه في تكاسله. وهكذا يدع الأب ابنه حرا في ارتياد الأماكن التي تحلو له قائلا: للشبيبة أن تحيا حياتها، غير أن الابن لا يتمالك نفسه عند عودته من التفرس في وجه أخته، وقد انتصبت في مخيلته الوقائع الحيوانية التي تصدمه في كل آن، فيتساءل عما إذا كانت أخته ليست من طينة المرأة التي كان في غرفتها ... ويدور القلق بالفتى، فيرعى أحشاءه الارتياب.
إن سوء الظن الدافع إلى الاستكشاف إنما هو داء وبيل ينشأ من ملامسة الأرجاس، فيدفع بالمبتلين به إلى التجول كالأشباح بين المقابر عاملين على هتك ما تستر لحودها. وما هذه النزعة إلا عذاب أليم يعاقب الله به من ارتموا على مزالق الضلال، فهم يتشوقون أبدا إلى التيقن من تداعي كل ما حولهم إلى الانهيار. ولعل هذه النزعة تملؤهم ارتياعا، ولكنهم مسوقون كرها إلى التحري والتجسس ومنازعة الوقائع أسرارها، فيحنون الرأس على الزوايا كالمعمار يوجهها لتركيز ما يقيمه في خياله، فإذا ما عثروا على دليل يثبت الشر علت شفاههم الرضى، وإذا ساورهم الشك في وجوده مالوا إلى افتراضه والإيمان به، وإذا صدمهم الخير تطلعوا إلى ما وراءه.
إن آية هؤلاء القوم قولهم «من يدري؟» تلك كلمة ألقاها إبليس في وجه السماء وقد أغلقت دونه بابها، ولكم أشقت هذه الكلمة من بني البشر على ممر الأجيال! ولكم جرت من الويلات وأدت إلى مجازر! ولكم ذهبت كالمنجل يقطع أغمار السنابل الخضراء قبل نضوج حبوبها! إن ألوف الأسر قد دفنت تحت أنقاض مساكنها منذ دوت هذه الكلمة بين جدرانها.
من يدري؟ من يدري؟ يا لها من كلمة دنيئة! وخير للناس من أن يتفوهوا بها أن يقتدوا بالأغنام تسير إلى المجزر وهي تقضم الأعشاب مطمئنة على طريق مذابحها، أفليس من يحسن الظن ويحيا مطمئنا خير ممن يصدم الحياة بما يدعوه نباهة وحزما وهو يغذي تفكيره بمبادئ «لاروشفو كولد»؟
وهل من واقعة يمكنني أن أوردها مثلا أشد إثباتا لما أوردت من الحادثة التي أقصها.
لقد كانت خليلتي مستعدة للرحيل، ولا تنتظر إلا كلمة أقولها لتصدع بها، وما كان حزنها خافيا عني، فلماذا بقيت؟ وماذا كان سيقع لو أننا شددنا الرحال؟
لقد كان علي أن أقتحم مخاوفي، حتى إذا مرت ثلاثة أيام على رحيلنا نسينا كل ما وراءنا، وهل كان لها أن تفكر في سواي وهي منفردة بي؟
لماذا وقفت مهتما بسر لا يتهدد سعادتي؟ إن بريجيت كانت مستسلمة لي، فهل كان علي أن أذهب إلى ما وراء استسلامها؟
كان لي أن ألقي قبلة على شفاهها فأضع بها حدا لكل شقاء، ولكنني تخيرت مسلكا آخر، وهذا ما فعلت:
كان سميث قد تناول العشاء معنا ذات ليلة، فتركته مع بريجيت وانسحبت حالا، وعندما أقفلت الباب سمعتها تنادي الخادمة طالبة إحضار الشاي.
وعندما دخلت الغرفة في اليوم التالي مررت صدفة أمام المائدة، فرأيت عليها إبريق الشاي وقربه فنجان واحد، وما كان أحد دخل قبلي لأفترض أن الخادمة أخذت أحد الفنجانين، فأرسلت أنظاري في جوانب الغرفة فلم أجد للفنجان الآخر أثرا.
فسألت بريجيت عما إذا كان سميث تأخر عندها، فقالت إنه بقي حتى نصف الليل، فسألتها عما إذا كانت نامت دون أن تدعو أحدا من الخدم، فقالت: لم أدع أحدا لأن الكل كانوا نياما.
فذهبت أنظاري في جوانب الغرفة مرة أخرى تفتش على الفنجان. في أية مهزلة يرى على المسرح غيور تذهب به حماقته إلى التفتيش عن فنجان؟ وما كان قصد بريجيت وسميث من شربهما في فنجان واحد يا ترى؟
وما كانت هذه الفكرة على شيء من الوجاهة في غرابتها، ومع ذلك بقيت أذرع الغرفة ذهابا وإيابا والفنجان في يدي، حتى هزتني ضحكة عصبية قهقهت بها طارحا الفنجان إلى الأرض، فانحطم وتطايرت كسره بدادا، ومشيت أزيد هذه القطع تكسيرا بضربات قدمي.
ونظرت بريجيت إلي وهي صامتة، واستمرت على معاملتي ببرودة تكاد تكون احتقارا في اليومين التاليين، وهي تزداد ملاطفة لسميث، حتى إنها بدأت تدعوه باسمه «هنري»، ولا تكف عن الابتسام له.
وقالت ذات مساء بعد العشاء: إنها تريد الخروج لاستنشاق الهواء، وعرضت علي أن نذهب مشيا إلى الأوبرا، فرفضت مرافقتها وقلت: اذهبي مع سميث وخلياني. فاستندت إلى ذراعه وتمشيا، وبقيت وحدي كل السهرة أحاول أن أدون ما يعن لخاطري، فيتمرد البيان علي، وألجأ إلى استعراض شكوكي والتلذذ بها، فأمعن فيها كالعاشق لا ينفرد بنفسه حتى يخرج من جيبه رسم محبوبته محدقا فيه، مستغرقا في أحلام غرامه.
وعلقت أبصاري على المقعدين حيث جلس سميث وبريجيت كأنني أستنطقهما سرا يكتمانه، مستعيدا لمخيلتي كل ما طرق أذني، وما لاح لعيني، وكنت من حين إلى آخر أدخل إلى الغرفة التي رتبنا فيها حقائب السفر منذ شهر فأفتحها، وأفحص ما وضعت فيها يداها الناحلتان من حوائج وكتب وأنا أتنصت إلى فرقعة عجلات العربات في الشارع فيخفق لها فؤادي.
وبسطت على الخوان خريطة أوروبا الشاهدة على ما بيننا من أماني، واستسلمت أمامها لأفجع تشاؤم. ومن الغريب أنني لم أكن أشعر في آلامي بما ينم عن غضب أو غيرة، فقد كانت ريبتي تقف مترددة لا تقتحم تعيين أمر تبني عليه شكا جليا. فيا للعقل البشري من قوة تخلق من المظاهر ما يعذب القلب ويشقيه! وما أشبه الدماغ بسجون ديوان التفتيش في القرون الوسطى، وقد علق على جدرانها من الآلات ما يحيرك فلا تدري أهي ألاعيب أطفال أم مكامش تعذيب.
وهل لأحد أن يبين لي ما الفرق بين قولي لخليلتي: إن جميع النساء خائنات، وبين قولي لها: أنت خائنة؟
ومرت في رأسي خواطر أشبه بأدق القياسات المبنية على السفسطة، فكنت أستمع إلى ما يدور من جدل بين عقلي وضميري، فأسمع الأول يقول: إذا فقدت بريجيت، فماذا يكون؟
فيقول الضمير: إنها سترحل معك. - وإذا كانت تخادعني؟ - وهل لها أن تخدعك وهي من طلبت في وصيتها أن يصلي الناس من أجلك؟! - لعل سميث يحبها؟ - ما لك ولهذا أيها المجنون وأنت الواثق من أن محبوبها هو أنت لا سواك؟! - إذا كانت تحبني، فما هو سبب حزنها؟ - ذلك سرها؛ فاحترم هذا السر. - أتكون سعيدة يا ترى إذا أنا اختطفتها؟ - إن سعادتها متوقفة على حبك لها. - لماذا تضطرب عندما ينظر سميث إليها فتحول عن عينيه عينيها؟ - ذلك لأنها امرأة، ولأنه في شرخ شبابه. - لماذا يعلو وجهه الاصفرار عندما تنظر هي إليه؟ - لأنه رجل، ولأنها رائعة الجمال. - لماذا انطرح على صدري عندما كنت في زيارته، ولماذا ضرب في أحد الأيام جبينه براحته؟ - لا تسل عما يجب أن تجهل. - ولماذا وجب علي أن أجهل هذه الأمور؟ - لأنك حقير ضعيف، ولأن الله وحده علام الغيوب. - ولكن لماذا أحس بهذه الآلام ولا أفكر بهذه الأمور دون أن يسود الاضطراب أعماق روحي؟ - تذكر أباك واصنع الخير. - ولكن ما الذي يصدني عن هذا التذكار وعن هذا البر، ولماذا يجتذبني الشر إليه؟ - انطرح جاثيا على ركبتيك واعترف؛ لأنك إذا كنت أسأت الظن فقد ارتكبت سوءا. - وما هو ذنبي إذا كنت أتيت الإثم؟ ولماذا تخلى الخير عني؟ - ذلك لضلالك في المسالك المظلمة، وليس لمن يسير في الظلام أن ينكر النور، فلماذا تحشر نفسك في زمرة البغاة؟ - لأنني أحاذر الدخول في زمرة المخدوعين. - لماذا تحيي لياليك بالسهر؟ إن الأطفال ينامون عندما ينسدل ستار الظلام، ولماذا أنت منفرد الآن؟ - ذلك لأنني أفكر وتساورني المخاوف والشكوك. - ومتى تؤدي فريضة الصلاة؟ - عندما يعود إيماني إلي. لماذا خدعني الناس؟ - ولماذا تخدع الناس أنت الآن أيها الجبان؟ أفليس أولى بك أن تموت إذا كنت لا تحتمل آلامك؟
هكذا كان يتجادل في صوتان هائلان يتناقضان، فأسمع صوتا ثالثا ينتحب بينهما قائلا: يا للطهارة المفقودة! ويا لأيامي الماضيات!
الفصل الخامس
إنها لقوة مروعة هذه القوة الكامنة في الفكر الإنساني! فهي السلاح الذي ندافع به، والمعقل الذي نلجأ إليه. إنها لأفضل ما وهب الله للإنسان، فهي تابعة لنا تأتمر بأمرنا، نقذف بها إلى الآفاق ولكنها إذا ما تخطت حدود ذهننا ذهبت طليقة لا نملك لها زماما.
وكنت وأنا أرجئ الرحيل من يوم إلى يوم تبارحني قواي ويهجرني الوسن، فتنسرب مني حياتي دون أن أشعر، فإذا أنا جلست إلى المائدة كرهت طعامي، وإذا أسدل الليل ستاره وانطرحت على فراشي تراءى لي حتى في أحلامي وجهان شاحبان؛ هما: وجها سميث وبريجيت كأنهما يرقبانني كما أرقبهما من صباحي حتى مسائي.
وكنت كلما ذهبا كل مساء إلى الملاهي أرفض مرافقتهما، ثم أتبعهما إلى المسرح الذي قصداه، فأقعد مختفيا بين النظارة لأراقبهما، وإذا ما جلسنا نتحدث في غرفة ادعيت أن لي ما يشغلني في غرفة أخرى، فأختفي ساعة أتجسس وأتنصت إلى حديثهما، ولكم خطر لي أن أوجد خلافا بيني وبين سميث فأدعوه إلى المبارزة! فكنت أدير له ظهري وهو يوجه الخطاب إلي، فأراه يتبعني مندهشا ويمد يده ليصافحني. ولكم قصدت أن أنهض من فراشي ليلا لأفتح أدراج مكتب بريجيت وأفحص أوراقها! ولكنني قاومت هذه الفكرة حتى اضطررت مرة إلى مغادرة البيت كيلا أستضعف لها. وخطر لي يوما أن أدخل عليهما شاهرا خنجرا لأكرههما على الإقرار لي بسبب الحزن المستولي عليهما. وفي يوم آخر انقلب غضبي عليهما إلى عداء لنفسي . إنني أدون هذه الأحوال بمداد الأسى والخجل، ولو أن أحد الناس انتصب أمامي ليسألني عما يدفع بي إليها لكنت ولا ريب أصاب بالعي فلا أجد كلمة أبرر بها ما أفعل.
لقد كنت موجها كل قواي إلى التجسس والارتياب، أخلق الاضطراب والشقاء لنفسي، فأقضي أيامي في إرهاف أذني بالتسمع، وليالي في ذرف الدموع، مرددا قولي: إنني سأموت غما وألما، مشددا إيماني بأن هنالك ما يستلزم هذا الفناء. وهكذا كنت أحس أن الضعف يجتث الأمل من قلبي، ويخيل إلي أنني أتجسس في حين لم أكن أسمع في الظلام سوى خفقان قلبي، فلا أنقطع عن ترديد هذه العبارات الفارغة التي يتلهى الناس بها في كل مناسبة، فأقول: إن الحياة حلم، وكل شيء باطل زائل، وأتوصل أخيرا إلى سوء الظن بالله وأنا سائر على سبيل هوسي وآلامي.
هذه هي الحياة التي كنت أستقطر منها لذتي، وبمثل هذه المشاغل كنت أنقطع متخليا عن الحب، حارما نفسي نقاء الهواء، وصفاء السماء، وسعادة الحرية.
أجل، إن الحرية الخالدة كانت تستهويني بالرغم مما وصلت إليه؛ لأنها ما انقطعت عن مراودة تفكيري، فكنت أشعر وأنا مستغرق في غرائب أطواري وجنوني بقوة تنبت في نفسي فتطلقها من أجواء سجنها. تلك فترات كنت أتمتع بسكونها عندما تنفحني نسمات من الهواء البليل، أو عندما أدع جانبا المؤلفات المشحونة بالنقد العنيف، وبثورات الإلحاد التي تجتاح المجتمع لتمنيه بالعلل، فأطالع سواها كمذكرات كونستان مثلا. ولأوردن بضعة أسطر قرأتها من هذه المذكرات فأعادتني إلى حقيقة حياتي:
أصيب سالسدورف الجراح الساكسوني التابع للبرنس كريستيان بشظايا قذيفة كسرت ساقه في معركة واغرام، وكان منطرحا على التراب وهو على آخر رمق، فإذا به يرى «أميديه دي كربورغ»، مرافق أحد القواد، يسقط مصابا بقنبلة صدمت صدره، فتدفق الدم من فمه، وتيقن أن هذا المصاب سيموت مفلوجا إذا لم يبادر أحد لإسعافه، فزحف مستجمعا بقية قواه حتى وصل إلى المرافق الصريع وعالجه بفصد أنقذ حياته، وحمل الجراح بعد المعركة إلى فيينا حيث قطعت رجله، فلم يعش إلا أربعة أيام.
قرأت هذه السطور فسقط الكتاب من يدي، وطفقت أبكي بدموع أعادت إلى السكينة يوما كاملا؛ إذ تحولت عن كل هم، وانقطعت إلى ذكر سالسدورف، فما خطر لي أن أصوب ريبتي إلى أحد.
وما كانت تفيدني مثل هذه اللحظات سوى التفكير في زمن ساد الصلاح فيه عواطفي وحياتي، فأبسط ذراعي نحو السماء أستعطفها في شقائي، وأسائل نفسي عن هدفها في هذه الحياة، مديرا لحاظي في الآفاق، متوقعا أن تقذف إلي بقنبلة تضع حدا لأوهامي، غير أن هذه الحال لم تكن تنجلي أمامي إلا كلمعات بروق خاطفة في دياجير أيامي.
ما أشبه الفكر عندما يدور على نفسه بدرويش يطلب الاستغراق في نشوة دورانه، فلا يلبث حتى ينهكه جهده فيقف مرتاعا، وما اكتشف في محاولته شيئا؛ إذ لا يقوده الانصباب على أغواره إلا إلى المهاوي؛ حيث ينقطع الهواء كما ينقطع في الآبار السحيقة وعلى الذرى المحتكة بالسحاب، فقد وضع الله حدا لكل مجال تحتم على الإنسان ألا يخترقه، وعند هذا الحد المنيع يتطرق الصقيع إلى القلب، وتسوده غفلة يندفع فيها إلى اجتياز نطاقه طلبا للحياة، حاسبا أنه ينشق الهواء، وليس ما حوله إلا أثير أوهام تحتشد فيه جهوده المضيعة أشباحا تدور به لتقضي عليه.
ووهنت قواي في موقفي حتى غدوت لا أطيق الحياة في وساوسي وشكوكي، فصممت على القيام بعمل أتوصل به إلى معرفة الحقيقة.
استأجرت عربة، وأمرت أن تكون معدة للسفر عند الساعة العاشرة ليلا، وأوصيت الخدم ألا يدعوا مدام بيارسون تشعر بالأمر.
وجاء سميث وقت العشاء فجلسنا إلى المائدة وأنا أتكلف المرح وأقول لبريجيت: إنني لا أعارض في العدول عن السفر إذا كانت ترغب عنه؛ لأنني أستحسن باريس، ولا أجد بين المدن مدينة تفضلها في ملاهيها ومسراتها، وأعربت أخيرا عن ميلي إلى البقاء ما دام ليس هنالك ما يضطرنا إلى الرحيل.
وكنت أتوقع أن تعلن بريجيت إصرارها على السفر إلى جنيف، فما كذب ظني إذ أبدت رغبتها في ذلك، ولكن بلهجة لا تنم عن عزم أكيد، فانتهزت الفرصة للنزول عند إرادتها وغيرت مجرى الحديث، قاطعا خط الرجعة على ما اعتبرته أمرا مقضيا، ثم عدت أقول: وهل هناك ما يمنع مرافقة سميث لنا في رحلتنا؛ فإن بإمكانه أن يحصل على إجازة، وفضلا عن ذلك فإن مهارته في فنه - وإن أنكرها هو - تضمن له العيش حرا في أي بلد نزل فيه. إن عربتنا تتسع له، وليس من الخير لشاب في سنه أن يمضي أيامه سجينا، ووجهت الخطاب إلى بريجيت أطلب منها أن تبذل نفوذها لإقناع سميث بأن يضحي من أجلنا ستة أسابيع من وقته، على أن يعود بعد هذه السياحة إلى مكتبه.
وكانت تعلم أن هذه الدعوة لم تكن إلا نوعا من المزاح، ولكنها لم تتردد في ضم صوتها إلى صوتي، غير أن سميث تعلل بإمكان فقد وظيفته إذا هو تغيب عنها، واعتذر إلينا متأسفا.
واستحضرت زجاجة من خير الشراب، واستمررنا في الحديث حتى انتشينا، وخرجت بعد العشاء لأتأكد من أن أوامري قد نفذت، ثم عدت مسرورا إذ رأيت كل شيء على ما يرام، وأبديت رغبتي في عدم الذهاب إلى الملاهي، وطلبت أن يعزف سميث لنا على قيثارته لنمضي السهرة سوية، فأخذ يوقع الأنغام، وذهبت بريجيت تطلق صوتها بالإنشاد، وجلست أنا أضرب على البيانو، وقمنا بعد ذلك نحتسي «البونش» ونلعب بالورق وأنا معلق أنظاري على الساعة، حتى إذا وصلت إلى العاشرة سادني ارتعاش تغلبت عليه، وقرقعت العجلات أمام الباب، فقبضت على يد بريجيت وسألتها عما إذا كانت مستعدة للرحيل، فنظرت إلي مستغربة وقد حسبتني مازحا، فقلت لها: إن ما بدا لي من إصرارها أثناء العشاء دفعني إلى التعجيل، وما خرجت بعد الطعام إلا لأطلب العربة. ودخل خادم المنزل يشعرنا بأن الحوائج قد رتبت وربطت، وأن السائق في انتظارنا.
وقالت: أصحيح أنك تريد الرحيل في هذا الليل؟
فقلت: ولم لا ما دمنا متفقين على مغادرة هذه المدينة؟ - وهل نسافر الآن في هذه الساعة؟ - أجل، سنسافر. ألسنا على أهبة منذ شهر؟ وما دمنا قررنا الأمر فالتعجيل خير من التسويف. أفما رأيت كيف تم كل شيء بسهولة ؟ ومن رأيي أن يقضي الإنسان في شئونه على هذه الطريقة، فلا يدع لغده ما يستطيع أن يفعله في يومه. إذا كان يحلو لك السفر هذا المساء، فلماذا لا أنتهز الفرصة للتخلص من التسويف، وقد ثقلت هذه الحياة علي؟ إذا كنت عازمة على الرحيل فلنرحل.
وساد بيننا السكوت، فتقدمت بريجيت إلى النافذة، فإذا بالعربة أمامها تؤيد ما عزمت عليه، وما كان لها أن ترى في هذا إلا تنفيذا سريعا لما شاءت هي، فأصبحت تجاه أمر واقع لا تملك العدول عنه. وبعد أن تحققت أن كل شيء قد أعد سرحت نظرها في جوانب المسكن، وأخذت قبعتها ودثارها قائلة: هيا بنا، ولكنها وقفت مترددة، وأخذت بيدها مصباحا وذهبت تدور في غرفتي وفي غرفتها فاتحة أدراجهما، ثم سألتني عن مفتاح مكتبها قائلة: إنه كان معها منذ ساعة وقد فقد، وعادت تقول: هيا بنا؛ إنني مستعدة، وهي لا تملك نفسها من الارتعاش، وجاءت فجلست حيث كنت جالسا وأنا أحدق في سميث الواقف أمامي وقد ملك نفسه، فما نم عن اضطرابه شيء سوى قطرتين من العرق تدحرجتا على فوديه، وكانت بين أنامله قطعة عاج من قطع اللعب انحطمت وتساقطت كسرها على الأرض، ومد يديه إلينا ليصافحنا قائلا: سفر سعيد يا صاحبي.
وعدنا إلى الصمت وأنا أتوقع أن يضيف إلى توديعه كلمة واحدة، وقد قلت في نفسي: إذا كان هنالك سر؛ ففي أية مناسبة غير هذه سأوفق إلى اقتناصه؟ إن في مثل هذه الساعة تنعكس الأسرار على الشفاه، وها أنا ذا أترصد خيالها.
وقالت: في أي بلد سنقيم يا عزيزي أوكتاف؟ وأنت يا هنري ستكتب إلينا، ولن تنسى أهلي فتسعى جهدك لديهم من أجلي.
فقال بصوت طغى التأثر على هدوء نبراته: أعدك بألا أدخر جهدا في هذا السبيل، ولكن الرسائل التي تلقيتها لا تدع لي أملا كبيرا، فإذا ما حبطت مساعي فلا تتهميني بالقصور، وعلى كل لا تتوقعي ورود أخبار تسرك في القريب العاجل. ثقي بي؛ فإني مخلص لك.
وبعد أن وجه سميث إلينا بعض كلمات من قبيل المجاملة تحول نحو الباب، فسبقته إليه وخرجت لأدع له مجالا لخلوة أخيرة، ودفعت الباب، ورأى كأنني أبتعد، ثم عدت فألصقت أذني بفتحة المزلاج.
وحدق سميث فيها قائلا: متى أراك؟
فقالت: لن تراني بعد. الوداع يا هنري.
ومدت إليه يدها، فرفعها إلى شفتيه وخرج، ولو لم أندفع بسرعة إلى الوراء لكان اصطدم بي.
وعندما خلوت ببريجيت وهي حاملة دثارها تنتظر إشارتي - وقد بدا التأثر بجلاء على ملامحها - شعرت بانقباض في حشاشتي. وكانت قد وجدت مفتاح مكتبها؛ إذ رأيت أدراجها مكشوفة، فارتميت على المقعد قرب الموقد وقلت لها وأنا لا أجسر على التحديق في عينيها: اصغي إلي يا بريجيت. لقد أسأت إليك كثيرا، وقد حق علي أن أتحمل آلامي فلا أشكو إلى أحد. لقد طرأ على حالك من التبدل ما ضعضعني، فاضطررت إلى دعوتك لجلاء أمرك، ولكنني أعدل اليوم عن الاستفسار، وأصرح لك بأنني راض بالبقاء هنا إذا كان يصعب عليك الرحيل.
فقالت: هيا بنا؛ فلنرحل. - لك ما تشائين، ولكنني أقتضي الصراحة منك، فأنا مهيأ لاقتبال أي سهم يسدد إلي دون أن أسأل عن مصدره، فلا أتململ ولا أشكو، وإذا كان قضي علي بأن أفقدك، فما أطلب منك إلا حجب الأمل عني كيلا أتعثر بأذياله فأموت.
فحدقت في قائلة: حدثني عن حبك ولا تذكر أوجاعك.
فقلت: أحبك أكثر من الحياة، وما أوجاعي إلا أوهام تجاه هذا الغرام. تعالي لنذهب إلى آخر الدنيا؛ فأحيا بك أو أموت من أجلك.
وتقدمت نحوها فإذا بالاصفرار يعلو وجهها، وإذا بها تتراجع إلى الوراء مرغمة وهي تكره شفتيها المتقلصتين على الابتسام، وذهبت إلى مكتبها قائلة: أنلني هنيهة من الزمن؛ إذ علي أن أحرق بعض أوراق، وأبرزت رسائل أقاربها أمامي ثم مزقتها وألقت بها إلى النار، وعادت فأخرجت أوراقا أخرى طالعتها ووضعتها على الخوان، وما كانت هذه الأوراق إلا قوائم حسابات لبعض موردي حوائجها، وبينها ما لم تكن دفعت ثمنه بعد، وطفقت تتكلم وهي تدقق في هذه الحسابات، راجية عفوي عنها لاحتفاظها بالصمت طوال المدة الأخيرة، مبدية نحوي أشد العطف، مستسلمة لإرادتي، فرأيت فيها مجسم الحب أو مجسم مظاهره، وذهب مرحها المصطنع يحز في قلبي؛ إذ رأيت فيه ألما يجحد نفسه، فيتكلف سرورا أفجع من النواح، واستسلاما قرارته أمر عتاب، وقد كان خيرا لي لو أنها ظهرت جامدة ولم تلجأ إلى هذا الهياج المكذوب للتغلب على نفسها.
وظهرت بريجيت لعيني كأنها ممثلة تقلد ما كانت عليه قبل خمسة عشر يوما؛ فإذا بكل حركة منها كانت تسكرني غراما من قبل تصدم قلبي فينقبض لها ارتياعا.
وصحت بها فجأة: أي سر تضمرين يا بريجيت؟ إذا كنت تحبينني حقيقة، فإلام ترمين بهذا الدور الذي تحكمين تمثيله أمامي؟ - أأنا أمثل؟ وما الذي يدعوك إلى هذا الظن؟ - أفما يجدر بك أن تعلني أن روحك تلامس الموت، وأنك تتحملين عذاب الشهداء؟ إنني أفتح لك ذراعي؛ فألقي رأسك إلى صدري، وأطلقي سراح دموعك عليه، فلعلني أذهب بك إذا فعلت، أما أن أختطفك وأنت على ما أرى فذلك مما لا أقدم عليه.
فصرخت: هيا بنا فلنذهب.
فقلت: لا! قسما بحياتي، إنني لن أفعل ما دام بيني وبينك هاوية سر أو سواد نقاب. إن أشد مصاب لأهون وقعا علي من هذا المرح الذي تتصنعين.
فوجمت إذ رأتني نافذا إلى أقصى سريرتها بالرغم مما تبذل لحجبها عني.
واستطردت قائلا: لماذا نخادع نفسينا؟ لو لم أكن تراميت إلى المهاوي في نظرك لما كان بوسعك أن تتظاهري بغير حقيقتك أمامي. أفترين هذا السفر تنفيذا لحكم مبرم قضيت به عاتيا، وأتيت به جلادا يقودك إلى الإعدام؟ أي شيء يروعك من غضبي لتلجئي إلى مثل هذه الحيل؟ وما هو هذا الخوف الذي يقودك إلى مثل هذه الأكاذيب؟ - أنت مخطئ يا أوكتاف. قف عند هذا الحد ولا تزد. - لماذا هذا الحذر؟ إذا كنت قد فقدت صفة الأمين على سرك؛ فعامليني معاملة الصديق على الأقل، وإذا امتنع علي أن أعرف مصدر دموعك، فهل أحرم النظر إلى انسكابها من عينيك؟ أتراجعت ثقتك عني إلى حيث لا تعتقد باحترامي لأوجاعك؟ وما هي الجناية التي أعاقب عليها بحرماني معرفة هذه الأوجاع؟ أفليس لدائك من دواء؟ - لا، وخير لك ولي أن تشدد النكير علي. إنك لتدفع بنا كلينا إلى الشقاء، أفلا يكفيك أن نرحل عن هذه البلاد؟ - وهل بوسعي أن أرحل وكل حركة منك تدل على نفورك من هذا السفر؟ فأنت تقتحمينه مكرهة، وبوادر الندم تسبق إقدامك عليه، فما تخفين عني يا ترى؟ وما يفيد التلاعب بالألفاظ إذا كانت الفكرة أوضح من النهار؟ وهل يجمل بي إذا لم أنحط إلى أدنى دركات الإنسانية أن أقبل عن رضى ما تجودين به مكرهة آسفة؟ على أنني أقف حائرا في رفضه وأنت تحطمين قواي بصمتك. - لا، إنني لا أتبعك مكرهة. أنت على خطأ في اعتقادك هذا؛ فأنا أحبك يا أوكتاف، فكف عن تعذيبي.
وتساقطت هذه الكلمات من فمها بكل عذوبة الحنان، فرأيت نفسي منطرحا على قدميها وقد غلبتني نظراتها ونبرات صوتها فهتفت: أتحبينني يا بريجيت؟! أحق ما تقولين يا خليلتي؟ - أجل، إنني أحبك. أجل إنني ملكك؛ فافعل بي ما تشاء. إنني سأتبعك. هيا يا أوكتاف؛ فإن العربة بانتظارنا، وشدت بأناملها على يدي وهي تلقي على جبيني أحر قبلاتها مكررة قولها: لا بد من أن أتبعك، إنني أريد أن أسير معك إلى آخر يوم من حياتي ...
رددت كلمة «لا بد» في نفسي، ووقفت ناظرا إلى بريجيت تقلب آخر صفحة من أوراقها، فسألتها عما إذا كانت أتمت عملها، فأجابت إيجابا.
عندما أوصيت العربة لم أكن مقررا الرحيل، بل رميت إلى القيام بتجربة، فإذا أنا تجاه أمر واقع.
وتقدمت فاتحا الباب وأنا أرفع صوتي قائلا: «لا بد» وما تعني هذه الكلمة؟ بل أي شيء وقع هنا وأنا لا أدري به؟ أوضحي لي الأمر وإلا بقيت حيث أنا؟ أفيكون حبك لي فرضا عليك، وعاطفة لا بد منها؟
فارتمت على المقعد وهي تفرك يديها ألما وتصرخ: ويحك! إنك ستجهل الحب طول حياتك. - لعلك تقولين الحق، ولكنني أستشهد الله على أنني أعرف العذاب، لقد قلت: إنه لا بد لك من حبي، فلا بد لك أيضا من إبداء الجواب، وما أنا مبارح موقفي حتى ولو اضطرني إصراري إلى فقدك، حتى ولو سقطت هذه الجدران علي قبل أن أطلع على هذا السر الذي يقض مضجعي منذ شهر. إنني تاركك إذا لم تتكلمي. لقد أكون مجنونا، لقد أكون مقدما على هدم حياتي بيدي، ولقد يكون من الخير لي أن أتجاهل ما أطلب إيضاحه، فلا أثير بيننا أمورا قد تقتل سعادتنا وتمزق شملنا، وتحول دون هذا السفر الذي حصرت أماني فيه، لقد يكون كل هذا ولكنني لا أرتجع عن عزمي. تكلمي أو أتخلى عن كل شيء. - لا ... لا ... لن أتكلم. - بل سوف تتكلمين. أفتحسبين أنني أخدع بأكاذيبك؟ أيخيل إليك أنني جاهل أمرك وأنت تتبدلين بين صبح ومساء متقلبة كتقلب الظلمة والنور؟ وتلجئين إلى تبرير موقفك بإبرازك رسائل لا تستحق أن ألقي عليها نظرة واحدة. وهكذا تقنعين بأنني أكتفي بأول تعليل يخطر لك تقديمه. أوجهك وجه تمثال من الجير لتضمحل وراءه أشباح عواطفك؟ فما هو اعتقادك في يا ترى؟ إنني لا أنخدع بنفسي على قدر ما يلوح لك، فحذار أن ينم لي سلوكك عما تبذلين لستره كل هذه الجهود. - وماذا تعتقد أن يكون هذا السر الذي أخفيه؟ - أإلي يوجه هذا السؤال؟ وما تقصدين من هذا التحدي الصريح إذا لم يكن ما ترمين إليه إحراجي لإثارة كرامتي الجريحة حتى إذا انفجر غيظي تخلصت مني.
إنك تتوقعين مني تصريحا لتقابليه بخبث الأنوثة. تريدين أن أتهمك لتردي علي بقولك: إن امرأة مثلك لا تتنازل للدفاع عن نفسها. إن أشد النساء لؤما تعرف كيف تتشح ببرود العظمة، وتذود عن نفسها بسلاح التحقير؛ فالصمت أقوى ما تتمنع به المرأة، وما تعلمت هذه الحقيقة من أمس. إنك تراودين الإهانة بالسكوت، ولكن إذا كان بوسعك أن تحاربي قلبي لأن قلبك خافق فيه، فأنت أضعف من أن تهاجمي تفكيري. إن رأسي أقسى من الفولاذ وفيه من المعرفة ما لا تعلمين. - يا لك من ولد مسكين! أفلا تريد أن نرحل؟ - لا. إنني لن أسافر إلا بصحبة خليلتي، وما أنت بخليلتي الآن . لقد جاهدت طويلا، وتعذبت كثيرا وأنا أقرض شغاف فؤادي. لقد طال ليلي، وآن للصبح أن ينجلي. فهل أنت موردة جوابك أم لا تزالين مصرة على السكوت؟ - لن أجاوب. - ليكن ما تريدين؛ فأنا مصر على الانتظار.
وذهبت لأنطرح على مقعد في آخر الغرفة مصمما على عدم الحركة حتى أعرف ما أريد معرفته. أما هي فأخذت تتمشى أمامي رافعة رأسها وقد انطبعت آثار التفكير على جبينها المتجهم.
وبت أتبعها بأنظاري، وكلما استغرقت في صمتها أوغلت في غضبي، وكنت أحاول إخفاء ثورتي، فتوجهت إلى النافذة وصرخت بالخدم أن يؤدوا للسائق أجره، معلنا عدولي عن السفر هذا المساء.
فقالت بريجيت: مسكين أنت!
وأقفلت النافذة، وعدت إلى مقعدي متظاهرا بأنني لم أسمع شيئا وفي أحشائي نار تتقد تجاه هذا الصمت الجليدي، وهذه القوة السلبية، ولو أنني كنت في موقف عاشق تيقن خيانة محبوبته له لما كنت شعرت بضنك أشد على روحي من هذا الضنك.
وما قررت البقاء في باريس إلا وأنا مصمم على استنطاق بريجيت مهما كلفني الأمر، فأخذت أستعرض الوسائل توصلا لبغيتي فلا أجد، وأتمنى لو خطرت لي وسيلة ناجعة أبذل في اتخاذها كل ما أملك.
ما العمل؟ ماذا أقول؟ وهي واقفة أمامي هادئة تحدجني بنظرات ملؤها الأسى.
وسمعت قرقعة حوافر الخيل وقد حلت من مرابط العربة، وما لبث حتى ساد الصمت على الشارع، وقد كان بوسعي أن أقف وأصرخ لأسترجعها، غير أنني جمدت مكاني كأن القضاء قد حتم بابتعادها دون معاد.
تقدمت إلى الباب ودفعت مزلاجه وأنا أسمع في أذني همسا يقول لي: لقد أصبحت وحدك تجاه المخلوقة التي في يدها حياتك أو موتك.
وعدت إلى التفكير في حيلة تهتك الأستار أمامي، فإذا بي أتذكر قصة من قلم ديدرو عن امرأة تأكلتها الغيرة على عشيقها، فلجأت إلى حيلة غريبة توصلا لجلاء ريبتها به؛ إذ صرحت له بزوال حبها له، وبأنها عازمة على هجره. وكان هذا العاشق يدعى المركيز أرسيس، على ما أذكر، فوقع في الحبالة واعترف لخليلته بأنه هو أيضا لم يعد يشعر بالحب لها.
وكنت قرأت هذه القصة وأنا في زمن المراهقة فأعجبت بحيلة بطلتها، وعندما عنت لخاطري وأنا في هذا المأزق ابتسمت وقلت في نفسي: لعل بريجيت تقع في الشرك نفسه إذا أنا مددته لها فتفضي إلي بسرها.
وهكذا انتقلت من حالة الهياج والغضب إلى المراوغة والمخاتلة، وخيل لي أن اقتياد امرأة إلى الإقرار ليس من صعاب الأمور، وقلت في نفسي: ما دامت هذه المرأة خليلتي فلن أعجز عن استنطاقها إلا إذا كنت من صعاليك الرجال.
وتراخيب مستلقيا على مقعدي وتكلفت عدم المبالاة والمرح، فقلت: أما ترين أن زمن التصريح قد حان؟
وإذ رأيتها تنظر إلي بعيني الاستغراب ذهبت في حديثي قائلا: لا بد من التوصل يوما إلى المصارحة بالحقائق، وسألجأ إلى اقتحام هذه الصراحة فأكون قدوة تحررك من كل حذر، وليس خير من التفاهم والاتفاق بين الأصدقاء.
وما توقفت عن ذرع الغرفة ذهابا وإيابا كأنها لم تسمع كلماتي، وقد رأت ولا ريب على أسارير وجهي ما يكذب بياني، فتابعت قائلا: لا تجهلين أننا منذ ستة أشهر نعيش جنبا إلى جنب، وما كان أبعد حياتنا عن السرور أو ما يشبهه، أنت في مقتبل العمر وأنا كذلك، فهل لو شعرت بنفور من هذه المصاحبة تجدين في نفسك ما يدفعك إلى مصارحتي بنفور؟ وما أكتمك أنني لو مللت هذه الصحبة فلن أتردد في الاعتراف بها؛ إذ لا يوجد سبب يحول دون هذه الصراحة؛ لأنه إذا كان الحب ليس جريمة، فلا يمكن أن نرى جرما في تناقص هذا الحب أو في زواله، وهل يستنكر أن يحتاج من في سننا إلى التغيير؟
ووقفت واجمة وهي تردد قولي: «من في سننا.» أإلي توجه هذا الكلام؟ بأي دور تريد أن تقوم في تمثيلك هذا؟
وتصاعد الدم إلى رأسي فقبضت على يدها قائلا: اجلسي واسمعي.
فقالت: ولماذا أستمع وما أنت الذي يتكلم؟
وخجلت من محاولتي المراوغة فعدلت عنها وقلت: أصغي إلي واقتربي مني. إنني أتوسل إليك أن تجلسي إلى جنبي. إذا كنت لا تزالين مصرة على الصمت فاستمعي لي على الأقل. - أنا مصغية فتكلم. - لو جاءني أحد وقال لي: أنت جبان، وأنا من لم يتجاوز الثانية والعشرين، وقد أقتحم المبارزة، فلا ريب في أنني أغضب لامتهان كرامة أعرفها في نفسي، فأسير إلى الميدان مجازفا بحياتي لأشبك سيفي بسيف نكرة من الناس، وما أقدم على هذا إلا لأثبت أنني لست جبانا، وإذا أنا لم أفعل ألصق المجتمع بي ذل الرعاديد؛ إذ لا يورد الجواب على مثل هذه الإهانة إلا كلمة السيف. - لا ريب فيما تقول، ولكن إلى أين تتجه بهذه المقدمة؟ - إن النساء لا ينزلن إلى ميدان المبارزة، غير أن لكل إنسان سواء أكان ذكرا أم أنثى ساعة يناقش فيها الحساب مهما انتظمت حياته، ولا يفلت من هذا المأزق إلا رجل يرضى بالعار، وامرأة تقنع بالقطيعة والنسيان. لقد حق على كل مخلوق أن يثبت حيويته، فإذا ما هوجم رجل دافع بسيفه. أما المرأة فما يجديها امتشاق الحسام لصيانة نفسها، بل عليها أن توجد لنفسها ما يوافق موقفها من سلاح، فإذا هاجمها رجل لا تأبه له ردته بالترفع والاحتقار. أما إذا كان المهاجم محبوبا سلاحه الشك والارتياب، فلا قبل لها باحتقاره، وقد وضعت روحها في صدره. - إذا كان المهاجم محبوبا، فلا جواب إلا الصمت. - لقد أخطأت في بيان قصدك، فإن الجواب الذي ترين للمحبوب الذي يلطخ بارتيابه حياة امرأة إنما يقوم بذرف الدموع، وباستشهاد ما بذلت من صبر ومن إخلاص فيما مضى. إنك تتركين للزمان أن يظهر براءتها من التهم إذا تركها عاشقها وهو يؤاخذها بجريرة سكوتها. - لعل ذلك صحيح، ولكنني أرى الصمت أولى. - إنك تلجئين إلى الصمت! وكوني واثقة من أنني سأذهب وحدي إذا أنت لم تعدلي عن هذا السكوت. - وأخيرا ... يا أوكتاف. - أخيرا ليأت الزمان مبررا لك بعد ذلك، إنك تنتظرين عدل الزمان. - أجل، وذلك ما أرجو. - ذلك هو أملك! اسبري أقصى سريرتك؛ فهذه هي المرة الأخيرة التي يتسنى لك أن تستنطقيها أمامي. لقد قلت إنك تحبينني فصدقت، فهل تقصدين الآن تجاه ارتيابي بك أن أهجرك تاركا للزمان مهمة تبرئتك؟ - ألك أن تصارحني بريبتك؟ - ما كنت أود أن أصرح بها؛ إذ لا فائدة من هذا التصريح، ولكنني أصبحت ولا مناص لي من مقابلة الصغار بمثله. إنك تخونينني! إنك تحبين رجلا غيري، ذلك هو سرك، وذلك هو سري. - ومن هو هذا الرجل؟ - هو سميث.
ومدت يدها تطبق أناملها على شفتي وهي تعرض بوجهها عني، فسكت وأطرق كل منا مستغرقا في تفكيره.
وسمعتها تقول حزينة مجهدة: أصغ إلي. لقد جالدت العذاب طويلا يا أوكتاف، ولتشهد السماء على أنني أبذل حياتي فداء لك، وما دام أمامي بصيص من الأمل أتحمل كل عذاب للاتجاه إليه، ولكنني مضطرة إلى تذكيرك بأنني امرأة، ولو أغضبك هذا التصريح، وللمرأة حدود تقف قواها عندها؛ فلا تقاوم الطبيعة البشرية بإصرارك على استنطاقي، فإنني لن أجيب على سؤالك، وليس بوسعي الآن إلا أن أجثو لآخر مرة على قدميك متوسلة إليك أن نسرع في الرحيل.
وترامت نحوي، فهببت أصيح: إنه لمجنون من يحاول - ولو مرة واحدة في حياته - أن يفوز بالحقيقة من فم امرأة. إنه ليعود بغنيمة الاحتقار وقد استحقها.
إن من يتوصل إلى كشف حقيقة المرأة إنما هو المتنصت إلى هذيانها في نومها، أو المستنطق خادمتها بقوة الرشوة، وما يعرف المرأة إلا من استحال امرأة ليهتك بدناءتها الأشباح الملفعة بالظلام. أما الرجل الذي يطلب هذه الحقيقة بكل صراحة وإخلاص، الرجل الذي يمد يدا تأنف الدنايا مستجديا هذه الحسنة الرائعة؛ فإنه لن يظفر بها طوال حياته. إن المرأة تحترس من أمثال هذا الرجل، فلا تجيب على سؤاله إلا بهز كتفيها، وإذا ما خانه الجلد انتصبت في وجهه كعذراء الهيكل غاضبة لعفافها وصيانتها، وهل تدافع المرأة إذا شعرت بالريبة تدور حولها بسوى آية النساء العظمى: إن في الشك مقتل الحب، وما تغتفر المرأة إهانة لا يسعها أن تجيب عليها.
أما والله، لقد ثقل هذا الحال علي، فإلى أي زمن سيدوم؟
فقالت وقد تجمدت نبراتها برودا على شفتيها: لك أن تضع له حدا؛ فإنه ليرهقني بقدر ما يرهقك. - سأضع له حدا في هذه اللحظة، فأنا هاجرك إلى الأبد، وللزمان أن يفعل فعله ليبررك.
الزمان! الزمان! هذه كلمة الوداع، أيتها العاشقة الباردة.
تذكري وداعك هذا عندما يمر الزمان فتفتشين عبثا عن السعادة والحب والجمال. أين فجيعتك لفقدي أيتها العاشقة؟
إن كل ما يمر في ذهنك الآن هو أن المحب الغيور سيدرك يوما ما ارتكب من ظلم عندما ينطح البرهان بصره، فيعلم أي قلب أدمى، وعندئذ تسح دموعه خجلا من نفسه، فيفقد لذة العيش، ويهجره وسنه، وتصبح حياته مأتما ينوح به على أيام كان له أن يقضيها فرحا سعيدا، ولكن ألا يخطر لك أن معشوقة هذا التعس قد تقف مذعورة في ذلك الحين من نتائج انتقام الزمان لها، فتصرخ قائلة: ليتني فعلت ما كان يجب فعله قبل فوات الأوان.
صدقيني! إن كبرياء هذه العاشقة لن تأتيها بأية تعزية إذا كانت أحبت حقيقة.
وكنت أود أن أتكلم هادئا فأفلت زمامي من يدي، وبدأت بدوري أذرع الغرفة طولا وعرضا، فتشتبك نظرات بريجيت بنظراتي اشتباك السيف بالسيف، وكنت أراها أمامي كأنها باب منيع سجنت وراءه، فأفتش عن وسيلة أبذل في سبيل امتلاكها حياتي لأحطم أقفال فمها، وأغتصب سرها.
وقالت: ماذا تقصد؟ وما الذي تريد أن أقوله لك؟ - أريد أن تبوحي لي بما تضمرين. أفليس من القساوة أن تكرهيني على تكرار هذا القول؟ - وأنت ... وأنت ... أين قساوتي من قساوتك؟ تقول: إن من يطمح إلى معرفة الحقيقة مجنون، أفلا يحق لي أن أرد على هذا بقولي: إنها لمجنونة المرأة التي يخيل لها أن ما ستعلنه من حقيقة سيصدق.
إن السر الذي تريد معرفته هو أنني أحبك. ذلك هو سري. فيا لي من عاشقة أضاعت رشدها! إنك تفتش عما يكن وراء شحوبي، وشحوبي أنت ألقيت به علي ثم عدت تتهمه وتستنطقه. يا لي من مجنونة! لقد أردت الانكماش على آلامي لأقف عليك صبري واحتمالي، أردت ستر دموعي عنك، فإذا أنت تتجسس عليها وتحسبها دلائل جرم خفي. يا لي من مجنونة! لقد أردت قطع البحار وهجر وطني لأتبعك، وأموت بعيدة عن كل من أحبني، منطرحة على قلب يرتاب في إخلاصي. يا لي من مجنونة! لقد كنت أحسب أن للحقيقة من النظرات والنبرات ما ينم عنها ويدعو إلى احترامها.
أواه، إن عبراتي تخنق أنفاسي عندما أفكر في حالي. لماذا اقتدتني إلى هذا السبيل أخضع عليه حياتي إذا كنت ستقف بي هذا الموقف الحائر لا أهتدي فيه إلى نفسي؟
وانحنت علي والدمع يتساقط من أجفانها وهي تصرخ: يا لي من مجنونة!
وعادت إلى حديثها: إلى متى تستمر على هذا الضلال؟ فقد أعجزتني بشكوكك وهي لا تشب حتى تنطفئ، ولا تنطفئ حتى تشب. أنت تطلب إلي أن أبرر نفسي، ومن أية جناية علي أن أبررها؟ أمن هجر بلادي، أم من غرامي، أم من موتي، أم من قطع رجائي؟ إذا أنا تكلفت السرور حسبت سروري إهانة لك. لقد ضحيت كل شيء لأرحل معك، وما أنت سائر معي مرحلة دون أن تلتفت إلى الوراء، فأنا لا أتلقى غير الإهانة، ولا أشهد غير الغضب أيان كنت ومهما فعلت.
أي بني الحبيب! ليتك تعلم بأي صقيع قاتل أحس، وأية أوجاع تقطع أحشائي عندما أراك تقابل أصدق كلمة تصعد من قلبي على لساني بالريبة، فلا تصغي إليها إلا هازئا ساخرا. إنك لتحرم نفسك السعادة التي لا سعادة سواها على الأرض، وهي الاستسلام في الحب. إنك لتقتل بما تفعل كل عاطفة رقيقة سامية في قلب من يحبك، ولن يطول بك الأمر حتى يمتنع عليك أن تؤمن إلا بكل خشن كثيف، فلا يبقى لك من الحب إلا ما تراه بعينك، وما تلمسه بيدك.
أنت لم تزل فتيا يا أوكتاف، وأمامك مراحل طويلة في الحياة؛ فستتخذ لك خليلات غيري.
لقد قلت حقا، ليست الكبرياء شيئا معدودا، وما أتوقع منها تعزية وسلوانا، ومع ذلك فإنني أطلب من الله أن يقدر ذرف دمعة واحدة تتحدر يوما كفارة عما أذرفه الآن من دموع.
ووقفت وهي تقول أيضا: أيجب علي أن أعلن، وعليك أن تعلم، أنني منذ ستة أشهر لم أنطرح على وسادي ليلة دون أن أكرر قولي لنفسي: إنك لن تشفى من دائك، ولا حيلة لي فيك. أيجب أن تعلم أنني ما نهضت يوما في صباحي دون أن أصمم على محاولة شفائك، وأنك ما قلت لي كلمة دون أن أشعر منها أن لا بد من هجرك، وأنك ما ضممتني مرة إلا وأعلن لي قلبي أنه يفضل الموت على الانسلاخ عنك، وأنني في كل يوم، بل في كل دقيقة حاولت - وأنا كالكرة بين أملي وخوفي - أن أتغلب بحبي على أوجاعي، أو أتغلب على حبي بهذه الأوجاع، وأنني ما فتحت لك قلبي مرة دون أن تنفذ منه بنظراتك الساخرة إلى أعماق أحشائي، فإذا أنا أوصدته دونك شعرت أنه ينطوي على كنز رصده القضاء عليك، ولن يناله سواك؟ أعلي أن أحدثك عن ضعفي، وعن هذه الأسرار التي تتجلى تافهة لعين من لا يجد لها حرمة في نفسه؟ أأقول لك: إنك في كل مرة ذهبت من بين يدي غاضبا كنت أوصد بابي لأنفرد برسائلك الأولى أطالعها بدموعي، وإن بين ما أعزفه قطعة - تعرفها أنت - ما زلت أستقطر من نغماتها الصبر في غيابك حتى تعود.
يا لشقائي! إنني أعلم الآن ما ستكلفني هذه الدموع التي ذرفتها في الخفاء، وهذا الجنون الذي يتدفق ضعفا وحنانا. إنني أبكي لأن كل ما تحملت من عذاب لم يجد شيئا.
وأردت مقاطعتها فصاحت: دعني، دعني أقول لك ما لا بد من إعلانه: لماذا ترتاب بي وأنا لك بكليتي منذ ستة أشهر، وعليك وقفت فكري وروحي وجسدي؟ فما تكون يا ترى هذه الخيانة التي تجسر على اتهامي بها؟
إذا كنت قررت السفر إلى سويسرا، فها أنا ذي مستعدة للرحيل معك، وإذا كنت تظن أن لك مزاحما علي، فاستكتبني الرسالة التي تريد وسلمها للبريد بيدك.
ما لنا لا نعلم ما نفعل؟ وإلى أين نتجه؟
تعال نستقر على رأي، فقد عشنا دائما سوية، فقل لي: ما الذي يدعوك إلى هجري؟ إنني لا أطيق أن أكون ملتصقة بك وبعيدة عنك في وقت واحد.
قلت إن من حق الرجل أن يتمكن من الوثوق من خليلته، وأنت مصيب، ولكن إذا كان في الحب خير للرجل، فعليه أن يؤمن به، وإذا أصابه منه ضير، فمن واجبه أن يعتبره داء يعمل على شفاء نفسه منه.
أفما ترى أن ما نفعله الآن إنما هو مجازفة في ميسر؟ وما نجازف إلا بقلبنا وحياتنا. إن ذلك لأمر فظيع.
من أنا لتصب علي شكوكك؟
وتوقفت أمام المرآة وهي تكرر قولها: من أنا؟ انظر إلى ما أصبح وجهي عليه.
وأردفت توجه الخطاب إلى خيالها: أإليك يوجه الارتياب أيتها المرأة التعسة؟ أحولك تدور الشكوك أيها الوجه الشاحب، أيتها الوجنتان الذابلتان ترويهما محرقات الدموع؟ أكملي مراحل عذابك يا هذه! وليأت الفم الذي جفف رواء جمالك بقبلاته لينطبق الآن على عينيك فيغمضهما.
انزل إلى الحفرة الرطبة الباردة أيها الجسد الناحل وقد تراخت قوائمك عن حملك، لعلهم يصدقونك وأنت ممدد في اللحد إذا كانت الشكوك تؤمن بالموت.
ويحك أيها الشبح الحزين! إلى أي شاطئ من شواطئ العذاب تترامى معولا باكيا؟ أية نار تشب بين عظامك فتقف واضعا خططا لرحيل وأسفار وإحدى رجليك ناشبة في ثلمة القبر؟
مت أيها الشبح، وليشهد الله أنك ما أردت إلا أن تجود بحبك. أية قوة من الوجد أثاروا في فؤادك؟ وإلى أي حلم قذفوا بخيالك ليجرعوك أخيرا هذا الزعاف القاتل؟
أية جناية ارتكبت حتى تهب هذه الحمى المحرقة فيك؟ وأية ثورة تجتاح روح هذا العربيد الذي يدفعك برجله إلى الحفرة ومن شفتيه تتدفق كلمات الغرام؟
إذا أنت بقيت في الحياة، أيتها المرأة، فإلى أين مصيرك؟ ألم يحن حينك؟ أما كفاك الدهر عذابا؟
أي برهان يطلب منك لتصديقك إذا كنت أنت البرهان الحي تكذبين في شهادتك على نفسك. أبقي عذاب لم تقتحميه؟ فأية تضحية تعدين لإطفاء أوار هذا الحب الذي لا يرتوي؟
إنك ستصبحين أضحوكة تفتش عبثا عن طريق مهجور تفزع إليه كيلا يشير إليك الناس بأصابعهم مقهقهين ...
ستفقدين الحياء فتتعرين حتى عن مظهر هذه الفضيلة المتحطمة، ولطالما عزت عليك من قبل، وسيكون الرجل الذي تلتحفين بالعار من أجله أول من يمد يده للاقتصاص منك فيزجرك؛ لأنك وقفت الحياة عليه، وتحديت المجتمع في سبيله، وعندما يتهامس أصدقاؤك حولك يتفرس في ملامحهم ليرى ما إذا كانت الشفقة قد تجاوزت حدودها في نظراتهم. إنه ليتهمك بالخيانة إذا امتدت يد لتصافح يدك عندما تعثرين في صحراء حياتك على أحد يمكنه أن يمر بك فيشفق عليك.
يا الله! أتذكرين اليوم الذي وضع الناس فيه على رأسك إكليلا من الورود البيضاء، أهذا هو الجبين الذي تزين ببياض تلك الورود؟ فيا ليت هذه اليد التي علقت الإكليل على جدار المعبد قد تناثرت رمادا قبل سقوط وريقاته الذاوية.
أي وادي الجميل! أي عمتي المحنية تحت وقر السنين، الراقدة الآن بسلام في لحدها! أي أشجار الزيزفون أشجاري! أي جديي الأبيض الصغير! أي ابنا مزرعتي، لقد أحببتموني جميعا، فهلا ذكرتم الزمان الذي رأيتموني فيه سعيدة فخورة محترمة؟
أية قوة ألقت بهذا الغريب ليضلني سواء السبيل؟ من أجاز له أن يمر على طريق قريتي؟ ويل لك أيتها المرأة، لماذا تلفت وراءك لأول مرة أقتفى أثرك؟ لماذا رحبت به كأخ؟ لماذا فتحت له بابك ومددت له يدك؟
أي أوكتاف، لماذا أحببتني إذا كان هذا هو مصيرك ومصيري؟
وتداعت إلى الحضيض، فهرعت إليها أسندها بذراعي، وحملتها إلى مقعد ارتمت عليه ملقية رأسها على كتفي وقد حطمها ما بذلت من جهد وهي تتدفق ببيانها الرائع المرير.
وتوارت عن عياني الخليلة المهانة، فإذا بي لا أرى مكانها غير طفلة تئن من آلامها ...
وأطبقت جفنيها فطوقتها بذراعي وقد سكنت بينهما لا تعي.
ولما ثاب إليها رشدها شكت الضعف، ورجتني بصوت منخفض حنون أن أتركها لتذهب إلى مرقدها، وتهادت في مشيتها، فرفعتها على ذراعي وألقيتها على مهل فوق الفراش، وما بقي على وجهها شيء ينم عن الألم، بل رأيتها تتجرد من آلامها وتنساها كمن يرتاح من جهد جسدي أضناه؛ ذلك لأن طبيعتها الضعيفة الرقيقة أرهقها العراك، فاستسلمت بعد أن ذهبت بها إلى أبعد ما تحتمل قواها، وبقيت رابطة أناملها على يدي وأنا مكب على وجهها أقبله، وإذا بشفاهنا - ولما تزل ثملة بغرامها - تتلاقى؛ فيلتصق فمها بفمي دون أن نشعر، وما عتم حتى استغرقت في الوسن بعد هذه المصادمة العنيفة وهي تتوسد صدري مفترة الثغر كأننا في الليلة الأولى من ليالينا.
الفصل السادس
وكانت بريجيت نائمة وأنا جالس أمام سريرها صامتا جامدا كفلاح اجتاحت العاصفة حقله فحطمت سنابله.
وذهبت أسبر أعماق نفسي متلمسا ما جنت، وما كدت أستعرض بعض أعمالي حتى رأيتني تجاه مآت لا سبيل لتلافي نتائجها.
إن من الآلام ما تستنفد طاقة الحس فتشعرك بشدتها أنها بلغت حدها، وبمثل هذه الآلام كنت أتوغل في خجلي وتبكيت ضميري، فأرى أن لا بد لي من توديع بريجيت بعد هذا العراك العنيف، وبعد أن كرعت حتى الثمالة كأس غرامها الحزين، وقد توجب علي أن أطلق سراحها من هذه الأوصاب إذا كنت لا أتعمد قتلها.
وما كانت هذه المرة الأولى التي تلجأ فيها بريجيت إلى تأنيبي، ولكم وجهت إلي جارح الكلام في ثورة غضبها! ولكن ما قالت في عراكنا الأخير لم يكن صادرا عن كبرياء جريحة، بل كان بيانا عن حقائق تمخض بها القلب طويلا، فما انبثقت منه حتى مزقته تمزيقا، وقد رأيت كل ما يحوط بنا من أحوال، وما أبديته من رفضي الرحيل معها يمنع تسرب أي أمل إلي.
فتيقنت أن بريجيت لن تقوى على إنالتي عفوها حتى ولو غالبت نفسها واستفزتها إليه، وما كان هذا الوسن العميق الذي سادها كأنه نوع من الموت لجأت إليه طبيعتها لتجاوز الألم حدوده فيها إلا برهانا على صدق يأسي من عودتها إلي، فإن سكوتها فجأة بعد هذا التدفق في بيانها، وهذه العذوبة التي تجلت على ملامحها عند ثواب رشدها ورجوعها إلى الحياة حزينة مروعة، وحتى هذه القبلة التي رنت كصدى لقبلتي، كل هذا كان يؤذن بأن الدهر قد سكن بيننا، وأن حبل وصلنا قد انبت إلى الأبد بين يدي.
وكنت أتفرس فيها وهي ممددة في وسن العياء المرهق، فأتيقن بأنني إذا عدت إلى ما سبب هذه الغيبوبة بعد أن تفيق منها، فسأدفع بها إلى الرقدة التي لا انتباهة بعدها، وسمعت الساعة تدق في سكون الليل فشعرت بأن الساعة المنقضية تتوارى طاوية معها حياتي.
وما أردت أن أستنجد بأحد، فأوقدت المصباح الصغير وشخصت إلى إشعاعه الضئيل يذهب بددا في الظلمة كذهاب خطرات أفكاري التائهة الحائرة.
وما كنت فكرت حتى اليوم في إمكان فقد بريجيت، بالرغم من أنني صممت مائة مرة على هجرها، ويعلم كل من ابتلي بالعشق قيمة مثل هذا العزم في ساعات اليأس، أو في دقائق الغضب، وما ينقطع المحب عن الوله بمعشوقته ما دام واثقا من حبها له، وهكذا كنت أنا، ولكنني لأول مرة شعرت بأن قضاء لا يرد ينتصب مفرقا بينها وبيني، فانهدت قواي وأحنيت الرأس قرب سريرها وقد أدركت مدى شقوتي، ولكن شعوري المتخدر لم يكن يقيس مدى آلامها؛ لأن روحي كانت تتراجع مرتاعة أمام ما يقتحمه تفكيري.
وقلت لنفسي: هذا ما أردته أنا لك؛ فقد انقطع كل رجاء في بقائك مع من تحبين. أنا لا أريد قتل هذه المرأة؛ فلا مناص لي إذن من هجرها، وذلك ما صممت عليه وسأحققه غدا.
وذهبت في تفكيري على هذا النمط دون أن أحاكم نفسي على ما جنت، ودون أن ألتفت إلى ما ورائي وإلى ما أمامي، فنسيت سميث وما كنت لأتميز السبب الذي قادني إلى هذا الموقف، وانحصر كل همي في التفكير لأعلم بأية عربة سأغادر المدينة في الصباح.
ومر علي زمن طويل وأنا على هذا السكون الغريب، فكنت كرجل أصيب بطعنة خنجر فلا يحس أولا بغير صقيع النصل، حتى إذا سار بضع خطوات في طريقه يقف مندهشا وقد زاغت عيناه، فيتساءل عما ألم به، وينفتح جرحه دافقا على مهل أوائل قطرات دمه، فلا يلبث أن يرى الأرض تخضب بالأحمر القاني، وملاك الموت يقبض عليه، فيهزه الروع فجأة ويسقط مصعوقا على الحضيض.
وكنت كمثل هذا الجريح ساكنا، والداهية الدهماء تحدجني بأنظارها وتتقدم إلي.
وبدأت أردد بصوت خافت الخطاب الذي وجهته بريجيت إلي وأنا أدور في الغرفة ، معدا ما كانت الوصيفة تعده لها، فكنت أتفرس في وجهها، ثم أذهب لألصق جبيني على زجاج النافذة ناظرا إلى وجه السماء المتجهم بالغيوم.
وانحصر تفكيري في كلمة واحدة «الرحيل غدا»، وما طال بي الأمر حتى امتنع علي أن أفهم معنى هذه الكلمة، وانتفضت فجأة وأنا أهتف قائلا: يا الله! أي خليلتي التعسة، إنني أفقدك لأنني ما عرفت أن أحبك.
وارتعشت أعضائي كأن شخصا مجهولا يصيح بهذه الكلمات في أذني، فذهبت في كل جارحة مني ذهاب الريح على قيثارة تهز أوتارها المشدودة لتقطعها.
وأحسست بآلام سنتين تخترق فؤادي في لحظة، وعلى أثرها تقبض عليه أوصاب الحاضر وليدة ذلك الماضي المشئوم، وما أجد في البيان ما أصف به مثل هذه الأوجاع، ولعل وصفها بكل جلاء لا يحتاج إلا لكلمة واحدة، ولكن هذه الكلمة لا يفهمها إلا من ابتلاهم الحب بأدوائه.
وكانت بريجيت مستغرقة في نومها وأنا مطبق أناملي على يدها، فإذا هي تتلفظ باسمي في بحرانها.
نهضت أتمشى في الغرفة والدموع تنهمر من عيني، فمددت ذراعي كأنني أحاول القبض على الزمان الماضي وقد أفلت مني، وأنى له أن يعود؟ وصرخت: أممكن هذا؟ أحق أنني أفقدك وقد امتنع علي أن أحب سواك؟ أحق أنك مولية إلى الأبد؟ أنت حياتي، خليلتي، أتهربين مني فلن أراك بعد؟
واتجهت إلى بريجيت أخاطبها كأنها تسمعني فأقول لها: لا ... إنني لن أرضى بهذا القضاء، أي معنى لهذا الكبرياء؟ أفليس من وسيلة أبذلها للتكفير عن إهانتي لك؟ ساعديني على وجود هذه الوسيلة، أفما غفرت لي ألف مرة من قبل؟ إنك تحبينني وسوف تخونك قواك إذا أنت أقدمت على جناية هجري؛ لأنك لا تعلمين ولا أعلم أنا ما سنفعل وما سيحل بنا إذا افترقنا.
واستولى علي الجنون المطبق المخوف، فبدأت أذهب وأجيء رافعا صوتي بما أقول دون هدى مفتشا هنا وهنالك عن آلة جارحة قاتلة، حتى ارتميت جاثيا أمام السرير أضرب بحافته جبيني، وتحركت بريجيت فتوقفت مذعورا.
وقلت في نفسي: إذا هي أفاقت من نومها الآن، فما أنت فاعل أيها المجنون ؟ دعها في نومها إلى الصباح، فما لك إلا هذه الليلة لتراها.
وعدت إلى مقعدي وقد كتم الخوف أنفاسي، وخيل لي أن دمي قد تجمد في عروقي مع انجماد دموعي، فلبثت دون حراك يهزني البرد هزا، فأقول لنفسي لأحتفظ بسكوني: انظر إليها! تفرس بها فلن يتسنى لك أن تراها بعد الآن.
وملكت أعصابي أخيرا، فتناثرت دموع الأسى بطيئة على خدي، وتولت سورة الغضب، فإذا مكانها سكينة الإشفاق، فأسمعني وهمي صرخة إعوال وأنين تشق الفضاء، فانحنيت على السرير أحدق في بريجيت كأن ملاكي الصالح يهيب بي لأول مرة إلى استطباع ملامحها العزيزة على صفحات فؤادي.
ها هي ذي أمامي، فيا لشدة شحوبها وقد أحاطت بأهدابها الطويلة هالة زرقاء! ولما يزل رشاش الدمع عالقا بأطرافها، وهذه قامتها الممشوقة منطرحة على الفراش وقد تقوست كأنها حتى في رقادها تنوء تحت وقر ثقيل، وهذا خدها الأسيل تموهه صفرة دكناء، وقد لاقته على الوسادة كفها الصغيرة ومعصمها النحيل، وهذا جبينها وقد ارتسمت عليه آثار إكليل الأشواك تاج المتألمين الصابرين.
وإذا بي وأنا مستغرق في تأملي أرى أمامي ذلك الكوخ حيث التقيت بها منذ ستة أشهر صبية مرحة تتمتع بالحرية ولا تبالي بشيء.
ويلي! ما الذي فعلته بذاك الصبا وتلك الخلال؟ وعادت الأغنية القديمة المنسية تتردد على مسمعي:
كنت في روض دلالي
زهرة فيها ضرام
أحرق العشق جمالي
هكذا يقضي الغرام
بهذا كانت تتغنى خليلتي الأولى، وما كنت من قبل لأدرك معنى هذا الشعر الساذج كما أدركه الآن، فبدأت أترنم به كمن يحفظ ألفاظا تنجلي له معانيها فجأة. إنها أمامي الآن هذه الزهرة المضطرمة تتساقط رمادا وقد أحرقها غرامها.
وأجهشت بالبكاء قائلا لنفسي: انظر إليها يا هذا، وفكر في شكوى من لهم أجسام الخليلات وليس لهم غرامهن. إن خليلتك مولهة بك، وقد استسلمت لك، وها أنت ذا تفقدها لأنك ما عرفت كيف تهواها.
وتجاوزت أوجاعي حدود احتمالي، فنهضت لأرجع إلى ذرع الغرفة بخطواتي قائلا: أجل، انظر إليها يا هذا وتذكر من يقضي عليهم الملال فيذهبون في الأرض مسرحين أوجاعا لا يشاطرهم إياها أحد. أما أنت فقد كان لك من يقاسمك آلامك، فما انفردت بشيء مما احتملت. تذكر من يسيرون في الحياة ولا أم لهم ولا قريب ولا صديق، حتى ولا كلب يؤنسهم، تذكر من يفتشون ولا يجدون، ومن يبكون فيسخر بهم الناس، ومن يحبون فيكرهون، ومن يموتون فلا يذكرهم أحد.
أما أنت فأمامك على هذا السرير مخلوقة قد تكون الطبيعة أعدتها لاستكمالك، فهيأت روحها في دوائر الفكر الخفية أختا لروحك، وجسدها في أعمق أسرار المادة أخا لجسدك، وقد مضت عليك ستة أشهر لم ينطق فمك بكلمة، ولم يخفق قلبك بنبضة دون أن تجاوبك كلمة من ثغرها، ونبضة من فؤادها، غير أن هذه المرأة التي أنزلها الله عليك كإنزاله الندى على الأزهار لم تستقر حتى انزلقت عن تويج قلبك الهاوي. لقد جاءتك هذه المخلوقة فاتحة لك ذراعيها لتهبك حياتها أمام وجه السماء، فإذا هي تتبدد كأنها طيف لن يتبقى بعد زواله حتى خيال خياله!
لقد التصقت شفاهكما، وطوقت ذراعاك عنقها، وضمتكما ملائكة الحب الخالد، فأصبحتما كائنا واحدا برابطة الدم وجامع الشهوة، ولكنكما حتى في ساعات هذا العناق الموحد كنتما منفصلين يبتعد أحدكما عن الآخر ابتعاد منفيين بينهما ما بين الشمس ومغربها.
انظر إليها يا هذا، ولكن احترس من إبداء أية حركة، لم يبق لك إلا هذه الليلة لتراها، فاخنق إعوالك كيلا تنبهها من رقادها.
وساورتني أفكار مظلمة بدأت تحتل دماغي على مهل، فشعرت بقوة عنيفة تدفعني إلى سبر الأعماق في نفسي.
أفيكون قضاء العناية في أن أرتكب الشر في حين أن ضميري يشعرني حتى في غمرات جنوني أنني صالح ومحب للخير؟
أأرتكب الشر كأن ورائي قوة لا تني تدفعني إلى الأغوار، في حين أشعر بقوة أخرى تحذرني من الانزلاق إلى مهاويها؟
لماذا أرتكب الشر وفي صوت يهتف مستنكرا مآتي، حتى ولو تلطخت يداي بدماء الجريمة أسمع صرخة من أعماق فؤادي تعلن لي أنني لست مجرما، وأن الفاعل ليس ذاتي، بل هو شخص آخر كامن في ولم ينبثق مني ، هو الروح الشرير المنفذ لما قضي علي.
لقد مرت بي ستة أشهر وأنا أذهب على سبيل الأذية، فما اجتزت يوما دون أن أعمل على الإضرار، كافرا بنفسي، ونصب عيني نتائج فعلتي.
فهل الرجل الذي أحب بريجيت ليحقرها ويقسو عليها، فهجرها تارة، ليعود إليها تارة أخرى مالئا روحها ارتياعا دائرا حولها بالشكوك، ليطرحها أخيرا على فراش الضنى، كان رجلا آخر سواي؟
وضربت بكفي على موضع قلبي ناظرا إليها ممددة أمامي، مكذبا عيني فيما أرى، ومددت يدي متلمسا جسدها لأتحقق أنني لست في حلم، وأن هذا الجسد ليس خيالا.
ولمحت وجهي في المرآة، فإذا به يحدق في مستغربا كأنه يستنكر هذا الإنسان الذي تتجلى ملامحي في ملامحه.
من هو هذا العاتي الذي يدفع باللعنة من فمي، ويتخذ يدي آلة للتعذيب؟
أهذا الرجل هو من كانت تدعوه أمي باسم أوكتاف؟ أهذا هو من كان يتراءى لي بين مروج الغاب عندما كنت أنحني - وأنا في الخامسة عشرة من ربيع حياتي - فوق جداوله وهي تنساب كاللجين صافية كصفاء فؤادي؟
وأطبقت جفوني عائدا إلى أيام طفولتي، فإذا التذكار يخترق قلبي بألف شعاع كأنه الشمس تمزق خيوطها حالكات الغيوم.
وصحت: لا، إن من ارتكب هذا الإثم ليس أنا، وليس كل ما يتراءى لي في هذه الغرفة سوى أضغاث أحلام.
وعدت أستعرض تفتح قلبي للحياة، فيلوح لي على صفحات تذكاري متسول هرم كان يجلس أمام باب المزرعة، وكنت أحمل إليه بعد الغداء فضلات مائدتنا، فأراه كأنه الآن أمامي مقوس الظهر مادا يديه الناحلتين ليباركني وهو يبتسم.
وشعرت بغتة بهبوب نسمات الفجر على صدغي، وبتساقط قطرات كأنها أنداء الصباح على روحي.
فتحت عيني فإذا الحقيقة تنطح بصري وقد أنارها إشعاع المصباح الضئيل.
وعدت أخاطب نفسي قائلا: أتعتقد أنك بريء من الإثم يا هذا! أتحسب نفسك بريئا لأنك تبكي؟ أيها المتتلمذ للحياة منذ أمس وقد أفسدته الحياة، إن ما تراه في تقديرك شهادة من ضميرك لك قد لا يكون إلا ندما وتبكيتا، وأي قاتل لا يبكته ضميره؟!
أفأنت واثق من أن صراخ الألم المتعالي من صميم فضيلتك ليس آخر حشرجة تدفع بها في احتضارها؟
أيها الشقي، لا تحسبن هذا الصخب المتعالي من أعماق فؤادك أنينا وإعوالا، فقد لا يكون ما تسمعه إلا صرخة الطيور الجوارح تشعرها العواصف بتحطم سفينة بين ثائرات الأمواج.
من أخبرك بما كانت عليه طفولة من يموتون مخضبين بالدماء؟ أفما كان لهؤلاء أيضا أيام بر وصلاح؟ إنهم يمرون مثلك أيديهم على جباههم ليتذكروها.
لقد ارتكبت الشر ثم ندمت على ما فعلت، أفما أحرقت الندامة قلب نيرون بعد أن قتل أمه؟
من قال لك يا ترى إن الدموع تغسل الآثام؟ وهب أن الدموع تطهر، وأن قسما من روحك لن يستسلم للشر، فما حيلتك بالقسم الآخر الذي استغرق فيه؟ إنك ستتلمس بيسراك الجراح التي فتحتها يمناك، وستنسج من فضيلتك كفنا تدرج فيه جرائمك. إنك لتفعل ما فعله بريتوس عندما أرسل طعنته النجلاء، وعاد ينقش على نصله ما تشدق به أفلاطون.
وإذا ما فتح أحد لك ذراعيه فإنك لترسل إلى أعماق قلبه مثل هذا النصل، وقد نقشت آيات الندم عليه، وهكذا ستقود إلى المدافن بقايا عواطفك، وتنثر فوقها أزهار إشفاقك العقيم هاتفا بمن يشهدون ما تفعل: «ما حيلتي؟ لقد علمني الناس القتل، فلا يعزب عنكم أنني أذرف الدمع لما قضي علي؛ لأن الله قد خلقني أفضل مني الآن.»
وتذهب موردا الأحاديث عن أيام صباك، فتقنع نفسك بأن على الله أن يغفر لك، وأنك مكره غير مختار في شقائك، ثم تتحول إلى الأرق في لياليك، فتناجيه بمثل ما تناجي به نفسك كيلا يسلبك راحتك حتى الصباح.
ولكن من يدري! إنك لا تزال في مقتبل العمر، ولسوف تستسلم لقلبك فتضلك كبرياؤك. ها أنت ذا الآن أمام أول طلل من آثار الدمار التي ستبقيها حيث تمر، وإذا ماتت بريجيت غدا فإنك ترسل دموعك على نعشها لتذهب بعد ذلك سائحا في الأرض، ولعلك تتوجه إلى إيطاليا فتلتف بردائك كإنكليزي أصيب بداء الملال واليأس من الحياة، إلى أن تصبح يوما في أحد الفنادق وأنت تحتسي كأسا بعد كأس، فتقول: لقد سكت صوت ضميري، وحان زمن السلوان؛ فلأرجعن إلى الحياة.
إنك تأخرت كثيرا حتى ذرفت الدمع يا هذا؛ فكن على حذر! سيأتيك يوم تنقطع عن البكاء فيه.
من يدري، لقد يدور بك من الناس من يهزءون بالأوجاع التي تتوهم الشعور بها؟ وتمر بك امرأة قيل لها: إنك تبكي خليلة خطفها الموت، فترسل إليك بسمة الإشفاق، فتستنبت فجيعتك ما يغذي غرورك.
أفما يكون بوسعك في ليلة من الليالي عندما يصبح ما ترتعش له الآن، وما لا تجسر على التحديق فيه، صفحة مطوية في ماضي الزمان، أن تتراخى على مقعدك أمام مائدة أنس وطرب لتقص على رفاق فحشائك والابتسام على شفتيك ما رأته عيناك وهما دامعتان؟
هكذا يكرع الناس كئوس العار، وذلك هو سبيل الحياة. لقد كنت حالما بالأمس، فغدوت ضعيفا، وهذا الضعف سيقودك إلى الشر غدا.
وقلت في نجواي لذاتي: «لم يبق لي إلا أن أسدي إليك نصيحة يا هذا: خير لك أن تموت.»
انتهز فرصة شعورك بالصلاح في هذه الساعة واذهب إلى الفناء كيلا تتوغل في الشر غدا.
إن أمامك الآن امرأة تحبها وهي منطرحة على فراش احتضارها؛ فلا تتردد. مد يدك إلى صدرها، وليكفك منها بأنها لم تمت بعد، وما دمت تشعر بالاحتقار لنفسك أطبق أجفانك ولا تفتحها بعد، ذلك خير لك من أن تشيعها إلى مرقدها الأخير ثم يجيء غدك فتسلوها.
بادر إلى إغماد خنجر في قلبك ما دام هذا القلب لم يتحول بعد عن الله الذي أبدعه.
أفيوقفك صباك عن الاندفاع إلى الموت؟ وأي شيء تريد الاحتفاظ به من هذا الصبا؟ أتأسف لسواد شعرك؟ إذا لم يشب هذا الشعر في ظلمة هذا الليل على مفرقك؛ فخير له ألا يعلو بياض الشيب أبدا ...
ماذا تريد أن تفعل في هذا العالم؟
إلى أين مصيرك إذا أنت خرجت من هذه الغرفة؟ وإذا بقيت فيها، فما هي آمالك منها؟
أفلا تحس وأنت تنظر إلى هذه المرأة أن في قلبك كنزا لا يزال دفينا؟ أفلا ترى أن ما تفقده الآن ليس ما بدا، بل ما كان يمكن أن يبدو فبقي مضمرا؟ وأن أفجع الوداع هو ما يشعرك بأنك لم تفصح عن كل شيء؟
لماذا لم تتكلم منذ ساعة؟ فقد كان لك أن تمتلك السعادة قبل انتقال عقرب الزمان خطوة واحدة.
لماذا لم تعلن ألمك إذا كنت تتألم؟ وإذا كنت تحب فلماذا أضمرت حبك؟
إنك الآن كحاشد الأموال يموت على أكوام كنوزه. لقد أقفلت بابك على نفسك أيها الحريص، وها أنت ذا وراء المزالج المحكمة تهزها عبثا لأنها لن تعنو لسلطانك؛ فهي منيعة ومن صنع يديك.
أيها الضال، إنك نسيت ربك عندما اشتهيت وبلغت مشتهاك، فلعبت بسعادتك كما يلعب الأطفال بالدمى، وما خطر لك أن ما تقلبه يداك سريع العطب، وليس لك أن تظفر بمثله عندما تشاء. لقد احتقرت مأملك، وأهملت التمتع به وأنت تتلهى بالابتسام، ولا يخطر لك أن هنالك ملاكا صالحا يسهر عليك، ولا ينقطع عن الصلاة ليحتفظ لك بهذا الشبح الذي لا يلوح حتى يختفي.
أواه؟ لو أن في السماء ملاكا يتولى حراستك، فما هو فاعل يا ترى الآن؟
إنه لا شك جالس إلى معزفه وقد تراخى جناحاه، وامتدت يداه إلى مضارب الأنغام ليتغنى بأنشودة أبدية، أنشودة الحب والسلوان! ولكن أعضاء هذا الملاك ترتعش وقد انطوى جناحاه، وهوى رأسه كالقصبة المنكسرة. لقد مر به ملاك الموت، وما لمس كتفه حتى تبدد وتوارى في الكون الفسيح.
وها أنت ذا باق وحدك على الأرض وأنت في الثانية والعشرين من سني حياتك، بعد أن كان الحب الشريف السامي وقوة شبابك سيوجدان منك كائنا له شأنه في الحياة.
لقد مرت بك أيام طويلة من الملال والأحزان، وساورك التردد، وأثقلت عليك الشبيبة الطائشة، فأوصلتك هذه المحن إلى يوم كان لك أن تتوقع فيه بلوغ الطمأنينة والسلام. لقد كان لك أن تتوقع لحياتك التي وقفتها على كائن امتلك لبك أن تهب عليها نسمة جديدة، فإذا أنت تشهد انهيار كل شيء يحيط بك، وقد انقلبت شهواتك الغامضة إلى أسى صريح. لقد كان قلبك من قبل خاليا، فها هو ذا الآن يصبح مهجورا ...
هذا هو حالك، وأنت لم تزل واقفا عند حيرتك وترددك!
ما الذي تتوقعه وهي قد سئمتك، ولم تعد لحياتك من قيمة عندها، إنها تهجرك فلم لا تهجر أنت نفسك؟ وليبك عليك من أحبوا شبابك. إنهم ليسوا بعديدين.
إن قلبا حكمه الخزي أمام من يهوى لجدير بالصمت إلى الأبد. لقد مررت على قلب بريجيت، فعليك بالمحافظة على ما أبقاه من أثر فيك، فإذا بقيت في الحياة، فلا بد لك من درس آثارها، ولا سبيل لك للمحافظة على أنفاسك المدنسة إلا باستكمال تدنيسها، ولا قبل لك بالحياة إذا أنت لم تشترها بهذا الثمن. لسوف تضطر لتتمكن من احتمال حياتك ألا تكتفي بنسيان الحب، بل عليك أن تتعلم جحوده ونكرانه، كما عليك ألا تنسى ما كان صالحا فيك فحسب، بل عليك أيضا أن تقتل أية جرثومة قد تستنبت الأيام منها صلاحا؛ لأنك إذا بقيت للحب متذكرا؛ فلن تستطيع أن تخطو على الأرض خطوة واحدة، وأن تضحك أو تبكي، وأن تحسن إلى فقير. لن تستطيع الشعور بالحنان لحظة واحدة دون أن تسمع صرخة الدم في قلبك قائلة لك: إنك ما خلقت صالحا إلا لإسعاد بريجيت بكل عاطفة طيبة فيك.
إنك لن تقوم بأي عمل دون أن يذهب عملك مثيرا الشقاء في أعماق أحشائك، فكل ما تهتاج له روحك ينبه فيها تأسفا على ما فات، فيتحول الأمل نفسه، وهو رسول السماء في القلوب يدعوها إلى الحياة، إلى شبح قاتم ينضم إلى الماضي ليؤاخيه. فإذا ما حاولت بلوغ أمنية انقلب جهدك ندما؛ لأن القاتل لا يذهب في الظلمة إلا وهو يربط على صدره بيديه؛ خشية أن تقع أنامله على جدار فتنم آثارها عليه.
تلك هي الحياة التي قدرت عليك في آتيك، فاختر بين روحك وجسدك؛ إذ لا بد لك من القضاء على أحدهما.
إن ذكرى الخير ستدفع بك إلى ارتكاب الشر، فما عليك إلا أن تصبح جثة باردة إذا كنت تحاذر أن تبقى شبحا لذاتك!
أيها الفتى ، مت في صلاحك لعل أحدا يأتي إلى قبرك فيذرف الدمع عليه.
وانطرحت أمام السرير فاقدا هداي لا أعلم من أنا، ولا أحس بما أفعل، وأرسلت بريجيت زفرة وهي تدفع عنها غطاءها كأنها تزحزح عنها حملا ثقيلا، فانكشف صدرها ناهدا بناصع بياضه أمام عيني.
واهتزت مشاعري كلها لهذا المشهد، فما عرفت أهو الحزن يستولي علي أم الشهوة تتلاعب بدمي.
وخطر لي فجأة خاطر ملأني ذعرا، فإذا بي أقول: «أواه! أأترك جميع هذا لسواي؟ أأموت وأنزل إلى القبر فيبقى هذا الصدر بعدي يتنفس هواء السماء؟ أمن العدل أن تمتد يد غيري إلى هذه البشرة الشفافة الناعمة، وأن تلتصق بفمها شفتان غير شفتي، ويجول في قلبها غرام غير غرامي؟ أيقف قرب هذا السرير رجل سواي؟
أتكون بريجيت سعيدة حية معبودة، وأكون أنا في زاوية من القبر أنتثر رمادا؟
أية مدة من الزمان تحتاجها لتنساني إذا مت غدا؟ وأي مقدار من الدموع ستذرف على حجر قبري؟
من يدري، لعلها لن تذرف قطرة واحدة من جفونها علي، ولن يقترب منها صديق - بل لن يقترب منها أحد - دون أن يقول لها: إن موتي كان خيرا لها من بقائي، فيعزيها ويدعوها إلى الانقطاع عن ذكري، وإذا هي بكت يحولها الناس عن التفكير بي، وإذا استمر حبي حيا في قلبها بعدي، فإن الناس سيعملون على شفائها منه كأنه سم زعاف له ترياقه.
وهي نفسها لعلها في اليوم الأول تصمم على اللحاق بي، ولكنها لا تلبث حتى تتحول بعد شهر عن طريق المدفن؛ كيلا ترى حتى من بعيد أغصان الصفصاف الباكي المتهدلة على شاهد قبري.
وهل لها أن تفعل غير ذلك وما كان الجمال الرائع إلا ساليا عتيا؟ وكيف تطلب الموت وهذان النهدان ينفران إلى الحياة، كل لفتة ترسلها إلى مرآتها تقنعها بوجوب البقاء؟ وأي رجل لا يتقدم مهنئا لها بشفائها عندما تجف آخر دمعة على أجفانها، وتلتمع أول ابتسامة على ثناياها؟
لن تمضي ثمانية أيام على صمتها حتى تبدأ بالتململ من ذكر اسمي؛ لأنها لا تجيء على ذكري إلا وهي ترسل حولها نظرات من يستنجد الناس لاقتناص السلوان، فلا يطول الزمن حتى تمتنع عن التفكير في، وتجتنب سماع اسمي، وفي صبيحة يوم من أيام الربيع تفتح نافذتها لتنظر الأنداء ترصع الأزهار، وتتنصت إلى زقزفة العصافير بين ناضرات الغصون، فتستغرق في وجومها قائلة: لقد أحببت فيما مضى، وعندئذ من سيكون قربها يا ترى، فيقول: وستحبين أيضا، فتصغي إليه.
أين أكون أنا حينذاك، أيتها الخائنة؟ أين أكون حين تنحنين وقد علا وجهك احمرار برعم الورد يتفتق عن أكمامه؛ إذ يتصاعد كل ما فيك من فتاء وبهاء وينعقد تاجا على مفرقك؟
ستقولين: إن قلبك مغلق، ولكنك تسرحين منه هالة من أنوار جديدة تستهوي كل أشعة منها قبلة غرام، وما من امرأة تعلن إرادتها بأن تحب كالمرأة القائلة إنها لن تحب بعد!
وأية غرابة في هذا؟! أفلست أنت أيضا بنت حواء! أفما تعرفين اعتدال قوامك وروعة نحرك، وقد وصف جمالك من رآه؟ فلا تعتقدين كما تعتقد العذارى أن لكل النساء ما لك تحت أستارك، ولا تجهلين ما للتمنع من قيمة في عواطف الرجال! وهل ترضى المرأة التي غرها الثناء أن تحرم ما يولده الإعجاب بها من غرور؟ وهل تعد نفسها من الأحياء إذا ضرب عليها الحجاب وساد حول جمالها السكوت؟ وما جمالها في عقيدتها سوى ما يلتمع من شهوة في عين عاشقها، وما يتدفق من ثناء على شفتيه.
لا ... لا مجال للشك في أن من أحب مرة يمتنع عليه ألا يحب بعد، فمن ير الموت يفزع منه إلى الحياة.
إن بريجيت تهواني، وقد يقتلها هواها، ولكنها ستندفع إلى صدر غيري إذا أنا انتحرت من أجلها. وانحنيت فوق السرير وأنا أردد كلمة: غيري ... غيري ... حتى لاصق جبيني كتفها العاري.
وقلت في نفسي: أليست هي أرملة؟ أفما مر الموت قربها من قبل؟ أفما اعتنت يداها الصغيرتان بمريض، وكفنتا جثة ميت؟ وما تجهل دموعها الأولى المدة التي جفت بعدها، والدموع الثانية ستجف بأسرع من الأولى.
وقاني الله استهواء الوسواس الخناس! أفما بوسعي أن أقضي عليها وهي مستغرقة في نومها؟
ولو أنني نبهتها من رقادها الآن لأقول لها: إن ساعتها قد دنت، وإننا سنطلق روحينا بآخر عناق، وآخر قبلة، فإنها لن تتردد في القبول، وليكن بعد ذلك ما يكون، فأين الدليل على أن كل شيء لا ينتهي بالموت إلى الفناء؟
وكنت مشهرا بيدي سكينا عثرت عليه.
أهو الخوف أم الجبن أم التوهم الذي جر التفكير إلى الاعتقاد بالحياة الأخرى؟ وما يعلم عنها من يقولون بها؟ إن تلك الحياة قد أوجدت للجاهلين وللغوغاء من الناس، وما بلغ الاعتقاد بها في أحد مبلغ اليقين؛ إذ لم ير أحد من نواطير القبور ميتا يخرج من قبره ليذهب إلى بيت كاهن فيقرع بابه. وقد مضى الوقت الذي كانت تتراءى فيه أشباح الأموات للأحياء، بعد أن حظرت الشرطة اقتحام المعمور على الآبقين من معقل الموت، فما يهتف من قبور هذه الأيام إلا من سارع الناس إلى مواراته التراب قبل خمود أنفاسه. من أخرس الموت في هذا الزمان إذا كان قد أسمع صوته من قبل؟ فهل اختار الروح المنطلق السكوت كيدا؛ لأن الحكومات تمنع المؤمنين من الاحتشاد على الطرق لإقامة شعائر الدين؟
إن في الموت النهاية والهدف. لقد وضع الله الموت حدا، والبشر يتناقشون في أمره، وقد كتب على جبين كل منهم: إنك فريسة الموت شئت أم أبيت.
وماذا يقول الناس إذا أنا قتلت بريجيت؟ ليقولوا ما يشاءون، فلن تسمع ولن أسمع أنا بما سيتشدقون. ستنشر غدا إحدى الجرائد أن أوكتاف ت ... قتل خليلته، وبعد غد لن يتحدث بنا أحد، ويرجع كل من شيع نعشنا إلى بيته ليتناول غذاءه على عادته، وأبقى أنا وبريجيت تحت أطباق الثرى في رقاد عميق لا تنبهنا منه الأقدام السائرة فوق ترابنا.
أفلا ترين - أيتها الحبيبة - أننا سنرقد هنالك بسلام؟ أفليس التراب خير فراش وثير نتوسده فلا تجتاحه الأوصاب والأوجاع، ولن يقوم في جواره من سكان القبور من يغتابنا مقبحا اتحادنا أمام الله. هنالك ستتعانق عظامنا وقد تعرت عن كل كبرياء واضطراب، وما يعقده الموت المعزي لا يحل، وما يجمعه لا يبدد.
لماذا ترتعش فرقا من العدم أيها الجسد المعد ليكون فريسة له؟ كل ساعة تمر من الزمان إنما هي خطوة من قدميك نحو الفناء تقطع بها حلقة من سلسلة حياتك، وما غذاؤك إلا من كل شيء ميت، فالسماء تثقل عليك، والأرض التي تطؤها بقدميك تشد بهما لتجتذبك إليها. انزل ... انزل إلى الحفرة ودع عنك هذا الخوف؛ لأنك لا ترتعش إلا لكلمة الموت، فما عليك إلا أن تقول: إنني لن أحيا بعد، وهل الحياة إلا وقر ينفس الإنسان عن كربه باطراحه؟ ولماذا نقف تجاه الموت مترددين إذا كان قد تحتم علينا الوصول إليه عاجلا أو آجلا.
إن المادة لا تفنى، وقد عالج العلماء بكل ما لديهم من الوسائل ذرة منها، فعجزوا عن إخراجها من حيز الوجود إلى العدم. فإذا كان لا مسيطر على المادة إلا تصاريف الصدفة العمياء، فأي شر ترتكبه إذا هي انتقلت من عذاب إلى عذاب آخر، ما دامت عاجزة عن استبدال سيدها المسيطر عليها؟ وهل يهتم الله للشكل الذي أبدو فيه، وللثوب الذي تتشحه أوجاعي؟ إن عذابي مستقر في جمجمتي، وهذا العذاب إنما هو ملكي وأنا حر في القضاء عليه. أما الأكرة العظمية فليست لي، فأنا أعيدها إلى من أودعني إياها، أتخلى عنها للأرض، فليتخذها شاعر كأسا يحتسي فيها خمرة جديدة.
أية ملامة أستحق إذا أنا فعلت، ومن ذا الذي يوجه هذه الملامة إلي؟ وأي قاض صارم سيحكم بالخيانة علي وهو لا يعلم شيئا من أمري؛ لأنه لم يكن كامنا في أحشائي؟
إذا كان قد قضي على كل مخلوق بقسط من العمل لا بد له من القيام به، وإذا كان التمرد على هذا العمل جريمة، فيا للأطفال الذين يموتون على أثداء المرضعات من مجرمين! لماذا يعفى عن هؤلاء الآبقين؟ ومن من الأحياء يستفيد من الحساب الذي يؤديه الأموات؟
إذا كان وجب على الإنسان أن يعاقب على حياته؛ فإن السماء ولا ريب خالية خاوية، أفما يكفي الإنسان شقاء أن يقضى عليه بالحياة؟» ذلك ما قاله فولتير على سرير احتضاره، ومن أولى منه بهذه الصرخة وهي أنين شيخ جاحد قطع من حياته كل رجاء؟
لأية علة يقوم هذا العراك؟ ومن هو يا ترى ذلك المسرح أبصاره من العلياء على هذه المآسي؟ من هذا المشرف متسليا على مشاهد هذه المخلوقات التي لا ينقطع توالدها، ولا تنتهي مدتها، فيلذ له أن يرى الصروح تشيد، ثم تنبت الأعشاب بين أطلالها، وأن يرى الزارع يزرع ثم تكتسح العاصفات ما زرع، وأن يرى الأحياء يمشون ثم يصرخ بهم الموت: قفوا ... وأن يرى الدموع تسيل حينا ثم تجف على مساكبها، وأن يرى وجه الشبيبة متوردا بالحب، ثم يراه مجعدا بالهرم؟
من هو هذا المتلهي بالنظر إلى الناس يجثون أمام السماء باسطين أكف ضراعتهم إليها، فلا تزيد السماء سنبلة واحدة على ما ينبت من السنابل في حقولهم؟
من هو مبدع كل هذه الأشياء ليتمجد وحده بعمله؟ إن جميع ما صنع هباء بهباء.
إن الأرض سائرة إلى الفناء، وقد قال هرشل: إن حياتها ستنتهي بالصقيع، فمن هو يا ترى الرافع على يده هذه القطرة من البخار المتجمد، المحدق بها، منتظرا انحلالها وتطاير عناصرها، كما يحدق الصياد بوشل من مياه البحر يتوقع تبخره ليظفر بالملح من راسبه.
إن نظام التجاذب الذي يعلق العوالم في مدارها إنما هو دافعها إلى الفناء قارضا من أحشائها بشهوة لا حد لها. فما من كوكب إلا ويجر شقوته دائرا بالأنين على محوره، وكل العوالم تتنادى من أقصى الأفلاك إلى أقصاها مشتاقة إلى راحة السكون، مفتشة عن أول كوكب يتوقف عن مسيره بينها، ولكن الله يمنعها أن تستقر، فهي دائبة أبدا على عمل لا غاية فيه، ولا نفع منه. إنها تدور وتدور، تتألم وتحترق، تنطفئ وتشتعل، تنحدر وترتفع، تتلاصق وتتجانب، وتتشابك تشابك الحلقات حاملة على سطوحها آلافا من المخلوقات تتجدد بلا انقطاع. وهذه الكائنات تضطرب وتتلاقى، فيلتصق بعضها ببعض برهة من الزمان، ثم تسقط ليقوم غيرها بعدها. إن الحياة تندفع دائما إلى حيث انعدمت الحياة كالهواء يهب أبدا إلى حيث فرغ الهواء ...
كل شيء يسير على ناموس مقرر في هذه الأفلاك، فكل مسلك خط بأسطر من ذهب ومن نار، وكل شيء ذاهب على نغمات الموسيقى السماوية، وهو يتجه أبدا على صراط لا قبل له بالتحول عنه.
وكل هذا ليس شيئا! وكل هذا هباء!
ونحن، نحن الأشباح التعسة التي لا اسم لها، الأشباح الناحلة المثقلة بأوجاعها، السائرة كالوهم في هذا الكون الفسيح، وما نفخت فيها نسمة الحياة إلا لتلد الموت، لا نفتأ نبذل الجهود لنثبت أن لنا مهمة كبرى، وأن هنالك من يشعر بوجودنا، فنتردد في إطلاق رصاصة على رأسنا، كأننا إذا فعلنا وهززنا كتفنا نأتي أمرا فريا ...
وكأن موتنا سيخرج هذا الكون عن نظامه.
لقد كتبنا وأملينا الشرائع الإلهية والإنسانية ونحن نقف واجمين خائفين مما كتبنا.
يعيش واحدنا ثلاثين سنة صابرا على أوجاعه وهو يعتقد أن تجلده مقاومة وكفاح، في حين أنه لو أطلق على هيكل تفكيره قبضة من البارود المشتعل لاستنبت على أحد القبور زهرة ناضرة.
وكنت وأنا أتفوه بهذه الكلمات أصوب السكين إلى بريجيت، وألقي رأس النصل على صدرها، وبت فاقدا رشدي كالمحموم، ورفعت الغطاء لأهدي السكين إلى منبض قلب خليلتي، فإذا بصليب صغير من الأبنوس يلتمع بسواده بين نهديها، وإذا بي أتراجع مذعورا وقد تراخت أناملي عن مقبض السلاح فسقط من يدي.
وكانت عمة بريجيت هي التي أعطتها هذا الصليب في ساعة احتضارها، وما كنت قد رأيته على صدرها قبل هذه المرة، ولعلها علقته في عنقها عندما عزمنا على السفر كتعويذة تقيها الأخطار.
وشبكت كفا بكف فجأة والتوت ركبتاي، فإذا أنا راكع أهتف والارتعاش يهزني: أكنت هنا، يا سيدي؟ أكنت هنا وأنا لا أدري؟
ليقرأ هذه الصفحة من لا يؤمنون بالسيد المسيح، لقد كنت أنا أيضا لا أؤمن، فما كنت ارتدت المعابد لا بأيام الطفولة ولا بأيام المدرسة، ولا عندما أصبحت رجلا، فلم يكن لديني - لو صح أن تدعى عقيدتي دينا - رموز ولا طقوس؛ إذ لم أكن أعتقد إلا بإله لا وحي منه ولا طرق لعبادته؛ لأنني تسممت منذ مراهقتي بآداب العصر، ورضعت من أثدائه ما درت على الناس من عقيم الإلحاد، فكانت الكبرياء البشرية إلهة الأنانية تمنع فمي أن يتفوه بالصلاة، فتندفع روحي في ارتياعها طالبة العزاء في الكفر والجحود.
وبت كالثامل قد أضاع رشده عندما رأيت رمز المسيح على صدر بريجيت، فتراجعت منها مذعورا لا لإيماني، بل لعلمي بأنها تؤمن به.
وقفت يدي وما شلت لرهبة سنحت عبثا، كنت في الليل منفردا وحدي ولا تراني عين إنسان، فما كانت معتقدات الناس لتنال من روعي، وكنت أملك تحويل عيني عن هذه القطعة الخشبية، بل أملك القبض عليها وإلقاءها في الرماد، ولكنني بدل طرحها هي طرحت سلاحي.
إن ما شعرت به في تلك اللحظة نفذ إلى أعماق روحي ولما يزل مستقرا حتى اليوم فيها.
ما أشقى الناس الذين يهزءون بما يمكنه أن ينقذ حياة إنسان! وما يهم الاسم والشكل والإيمان. أفليس كل ما هو صالح مقدسا؟ فبأية قحة يتطاول المخلوق على خالقه؟
وشعرت في داخلي بينبوع يتدفق من ذرى تفكيري كالجداول المنسربة من ذوبان الثلوج على القمم، وقد لمحتها عين الشمس المنيرة المحرقة، وارتفع الندم من عذابي ارتفاع البخور من مجامره.
لقد كنت على وشك ارتكاب جريمة، ولكنني ما رأيت آلة الإجرام تسقط من يدي حتى شعرت ببراءة نفسي، فقد كفت لحظة لأستعيد السكون والقوة والهدى، فتقدمت إلى السرير وانحنيت على خليلتي مقبلا صليبها على صدرها، قائلا لها: نامي بسلام، فإن عين الله ساهرة عليك. لقد مر بك أعظم خطر وأنت تبتسمين في أحلامك.
ولكن اليد التي هددت حياتك لن تمتد يوما للإضرار بأي مخلوق، وها أنا ذا أقسم بمسيحك نفسه أنني لن أقتلك ولن أنتحر، فما أنا إلا مجنون، ما أنا إلا ولد حسب نفسه رجلا. أنت لا تزالين حية - والحمد لله - ولسوف تستعينين بصباك وجمالك على نسياني، وإذا ما قدرت على منحي العفو لما أورثتك من داء؛ فإن عفوك نفسه سيشفيك من دائك.
نامي بأمن إلى الصباح يا بريجيت، وغدا ستنطقين بحكمك فأرضخ لأي قرار تتخذين .
وأنت أيها المسيح، أنت يا من كنت لها منقذا، جد لي بغفرانك ولا تقل لها ما رأيت. لقد ولدت في عصر ملحد جاحد، فيا لشد ما يحق علي من كفارة أيها المنبثق من روح الله! إن الناس قد نسوك فما علمني أحد أن أحبك. إنني ما طلبتك يوما في المعابد، ولكنني وجدتك الآن حيث لا أملك التغاضي عن رهبتي وخشوعي، وقد ظفرت شفتاي ولو مرة قبل موتي بتقبيلك على صدر ممتلئ بالإيمان بك؛ فليكن إيمانها حارسا لها. وأنت يا سيدي اذكر هذا البائس الذي لم يجسر على اقتحام الموت عندما رآك مسمرا على صليبك. لقد أنقذتني من الشر وأنا كافر، ولو كنت مؤمنا لأنزلت على روحي العزاء. اغفر لمن جعلوني ملحدا بعد أن جدت بالندامة علي. اغفر لجميع المجدفين؛ لأنهم لم يروك في ساعة يأسهم.
إن المسرات البشرية تقوم على السخرية ولا رحمة فيها، والسعداء في هذه الحياة يظنون أنهم في غنى عنك أيها المسيح، فإذا هم جدفوا عليك في كبريائهم؛ فإنهم سيقادون يوما إلى معمودية الدموع. أشفق عليهم لأنهم يرون أنفسهم في مأمن من عواصف الحياة، ولأنهم يحتاجون إلى تأديب المصائب ليهرعوا إليك.
ليست حكمتنا وشكوكنا إلا ألاعيب أطفال في يدنا؛ فاغفر لنا لأننا نتوهم أننا كافرون. اغفر لنا أيها المبتسم على جلجلة الفداء. إن أشد ما ينزل بنا من شقاء في حياتنا العابرة كالظل إنما هو محاولة غرورنا أن ينساك، وأنت تعلم - وما تخفى خافية عليك - أن هذا الغرور وهم تبدده نظرة منك. أفما كنت رجلا؟ وهل رفعك إلى مرتبة الألوهية غير العذاب؟ إن مرقاتك إلى السماء كانت آلة تعذيب رفعت منها فاتحا ذراعيك إلى أحضان مصدرك الأسنى، ونحن على مثالك يقتادنا الألم إليك كما اقتادك إلى أبيك. إننا لا نتقدم للانحناء أمام رسمك إلا وعلى جباهنا أكاليل الشوك، ولا نلمس رجليك الداميتين إلا بأيد دامية، فإنك بعذاب الشهداء اكتسبت محبة البائسين!
ولاحت طلائع الفجر، وبدأ كل شيء ينتبه مرسلا في الأثير أصوات الحياة، وشعرت بالعياء لشدة ما نالني، فأردت الانسحاب من غرفة بريجيت طلبا لبعض الراحة، وبينما أنا متجه نحو الباب ارتمى من أحد المقاعد ثوب من أثوابها على الأرض، فإذا أمامي رسالة معنونة بخط بريجيت، ولم تكن ملصقة، فنشرتها وقرأت ما يأتي:
25 ديسمبر
عندما تصل إليك رسالتي هذه أكون بعيدة عنك، ولعلها لن تصل إليك أبدا. إن حظي مرتبط بحظ رجل ضحيت في سبيله كل شيء؛ فهو لا يطيق الحياة بدوني، ولسوف أحاول أن أموت من أجله. إنني أحبك، الوداع. أشفق علي.
وقلبت الورقة فإذا عليها هذا العنوان:
إلى هنري سميث في بلدة ن ... نافذة البريد.
الفصل السابع
وفي اليوم التالي عند الظهر، كان شاب وامرأة يخترقان حديقة «القصر الملكي» وذراعاهما مشتبكان تحت أشعة الشمس. دخلا مخزن صائغ واختارا خاتمين متشابهين، فقدم كل منهما خاتما إلى الآخر وهما يبتسمان، وسارا في نزهة قصيرة ثم دخلا مطعم «بروفينسو»، وصعدا إلى إحدى غرفه المطلة على أجمل مناظر الدنيا، وهنالك انفردا بعد انسحاب الخادم، وتقدما إلى النافذة يسرحان النظر ويد كل منهما تربط على يد رفيقه.
وكان الشاب مرتديا أثواب السفر وقد طفح وجه بشرا كعريس يري عروسه لأول مرة مباهج باريس، وكان مرح هذا الشاب حبورا هادئا ينم عن سعادة لا اضطراب فيها. ولو أن رجلا مرت به تجاريب الحياة نظر إلى هذا الشاب لتبين فيه طفولة تستحيل إلى رجولة، وعزما تستقيه العاطفة من التفكير.
وكان هذا الشاب يتطلع إلى السماء ثم يتأمل ملامح رفيقته، فتنحدر من أجفانه دموع يتركها سائلة على وجنتيه وقد أنارتها ابتساماته.
أما المرأة فكانت شاحبة، وقد انطبعت على ملامحها آثار التفكير العميق، وهي لا تحدق إلا في وجه رفيقها، ولا تملك نفسها من مسايرة مرحه، غير أنها في الوقت نفسه لا تحاول إخفاء ما يطفو على وجهها من قرارة قلبها.
وكانت إذا ابتسم رفيقها ابتسمت له، فكأنها في حبورها تساير مسايرة ولا تختار اختيارا، فإذا ما تكلم تكلمت، وإذا ما قدم لها طعاما أكلت، ولكنها كانت تذهب في نفسها من حين إلى حين كأنها في غيبوبة عما حولها، وكانت سكنات هذه المرأة وحركاتها كلها تنم عن استرخاء تستسلم فيه لرفيقها استسلام التابع الضعيف يستمد حياته من متبوعه، وقد أصبح خيالا له، وصدى لصوته، وما كان الشاب مخدوعا بحالة رفيقته، بل كان ينفذ إلى سريرتها وفيه شيء من الغرور وكثير من الرضى، فإذا هي تراخت وألصق تذكارها عينيها بالأرض، هب يعالجها بقوته متكلفا المرح لينقذها من ضعفها؛ فقد كان بين هذين الرفيقين تمازج غريب من الفرح والحزن، والاضطراب والسكون، فإذا ما نظر إليهما متأمل خالهما تارة أسعد الناس، وتارة أشقى من في الحياة، وغاب عنه هذا السر يشد أحدهما إلى الآخر برابطة الأسى عقدت على عاطفة أقوى من الحب. وهل أقوى من الحب سوى عطف الصديق على الصديق؟
وما كان يلوح في عيونهما شيء من لمعات الشهوة ويد الواحد تشد على يد الآخر، فكانا - ولا ثالث بينهما - يتحدثان بصوت خافت، فيسندان جبينا إلى جبين كأنهما يتعاونان على التذكرات المرهقة دون أن تتجاذب الشفاه إلى قبلات الغرام. ودقت الساعة تؤذن بالأولى بعد الظهر وكل منهما محدق في عيني رفيقه يستنجدهما، فكأنهما ضعيفان يتلمسان من الضعف مخرجا إلى الصلاح، وتنهدت المرأة وقالت: لعلك مخطئ يا أوكتاف.
فقال: لا، لست مخطئا يا صديقتي، ثقي بما أقول. إنك مقدمة على تحمل العذاب، ولقد يطول صبرك عليه. أما أنا فلا نهاية لعذابي، ولكننا سنشفى كلانا. لك الزمان أنت، وأنا لي الله. - أوكتاف ... أوكتاف ... أأنت واثق من أنك لست على ضلال؟ - لا أعتقد بأن أحدنا سيسلو الآخر يا بريجيت، ولكنني واثق من أن ليس لنا أن نتبادل المغفرة الآن، غير أن هذه المغفرة محتومة علينا حتى ولو قدر علينا ألا نلتقي بعد. - ولماذا لن نلتقي يوما؟ فأنت لم تزل في ريعان الشباب.
وأردفت بابتسامة مرة: سنلتقي بمأمن من كل خطر لأول غرام يحتل قلبك بعد غرامي. - لا، يا صديقتي. ثقي بأنني لن أراك دون أن يثور بي كامن غرامي. قدر الله أن يكون الرجل الذي أتخلى له عنك أهلا لك . إن سميث فتى صالح وطيب القلب، ولكن مهما بلغ حبك له فسوف لا تنقطعين عن حبي. ولو أنني أقرر الآن بقاءك معي هنا أو اللحاق بي لما كنت تترددين في اتباع ما أريد. - ما أصدق ما تقول! - أصحيح هذا؟! أتلحقين بي إذا أنا دعوتك؟
ولكنه بعد أن هتف بهذه الكلمات من أعماق قلبه، استطرد على مهل: من أجل هذه المطاوعة يجب ألا نلتقي أبدا. إن من الحب في هذه الحياة ما يبلبل الرأس والحس، وما يزعزع العقل والقلب، وليس غير نوع واحد من الحب يختفي في الروح دون أن يعكر صفوها؛ لأنه ينشأ منها ولا يموت إلا بانطلاقها. - وهل ستحرمني من مراسلتك يا أوكتاف؟ - لا، سأكتب إليك مدة من الزمن؛ لأن ما سأواجهه من عذاب في بادئ الأمر سيقتلني لا محالة إذا أنا حرمت نفسي من كل تعزية. لقد اقتربت منك على مهل وبكل حذر حتى عرفتني، وحتى ... لا، لندع الماضي، ولسوف تنقطع رسائلي عنك رويدا رويدا، وهكذا سأنحدر على مهل من الذروة إلى رقيتها منذ سنة، ولقد يكون لهذه الرجعة الحزينة روعتها.
وإذا ما رجعت بالذكرى إلى الأيام التي كنت حيا فيها، فلأقفن أمامها وقفة المتأمل في قبر عقدت الخضرة والأزهار فوقه قبابا تظلل اسمين لراحلين عزيزين يرقدان فيه، فأشعر بحزن مفعم بالأسرار، وأريق دمعة الأسى حلوة لا مرارة فيها.
وارتمت المرأة عند سماعها هذه الكلمات على مقعد معولة باكية، وبكى الشاب معها، ولكنه بقي دون حراك كأنه ينكر على نفسه لوعتها، وعندما جفت مآقيه تقدم إلى صديقته وقبل أناملها على مهل وقال: صدقيني، إن من يشعر بحبك له مهما كانت العاطفة التي تشملينه بها إنما يستمد من هذا الشعور قوة وإقداما. لا يداخلك ريب يا بريجيت في هذه الحقيقة، وهي أنه لن يفهمك أحد كما فهمتك أنا، ولعل سواي يبذل لك من الحب ما أنت أهل له، ولكن لن يصل أحد بحبه لك إلى الأعماق التي أحببتك منها. سيداري سواي ما أهنت فيك من الصفات فيحوطك بغرامه ، ستجدين عاشقا أفضل مني، ولكنك لن تجدي لك أخا مثلي.
هاتي يدك ودعي الناس يهزءون من كلمة أقولها وهم لا يفهمونها: «لنبق صديقين، وليستودع كل منها الله رفيقه إلى الأبد.»
عندما تعانقنا لأول مرة كان في كل منا ذات خفية أدركت أننا سنتحد، فلندع هذه الذات الخفية وقد اتحدت مني ومنك أمام الله جاهلة افتراقنا على الأرض، فلا تقوى ساعة خلاف تافه من الزمان على حل اتحادنا في السعادة التي لا تزول.
وكان لم يزل قابضا على يدها فنهضت وهي تشرق بدمعها، وتقدمت نحو المرآة بابتسامة غريبة، وأخذت مقرضها من حقيبتها، وقطعت خصلة طويلة من شعرها، ثم نظرت إلى وجهها مليا بعد أن شوهته بحرمانه قطعة من تاجه، وتقدمت بهذه القطعة إلى عاشقها.
وضربت الساعة ثانية فخرجا عائدين من الحديقة وعلى وجهيهما علامات الرضى التي كانت تلوح عليهما وهما قادمان إليها.
وقال الشاب: ما أجمل هذه الشمس!
فقالت المرأة: إنه نهار جميل لن يمحى أثره من هنا، وضربت بشدة على صدرها.
وأسرعا بالمسير وتواريا بين الجموع. •••
وبعد ساعة مرت عربة على مرتفع وراء حواجز فونتنبلو، وكان الشاب مستقلا وحده هذه العربة يلقي نظرة أخيرة على المدينة، التي رأى فيها النور، وهو يوجه الشكر لله؛ لأنه من ثلاثة ابتلاهم العذاب بجريرته، لم يبق إلا شقي واحد ...
Unknown page