وكان ديجنه جالسا على مقربة مني وقد أنارت أشعة المصباح وجهه، فلاحت أمارات الجد عليه بالرغم من استمراره على الابتسام كعادته.
وما كان ديجنه بالرغم من صلابته وجموده إلا الرجل المخلص العطوف، غير أن الاختبار كان قد نال منه ونثرت الحادثات طرته، وما جهل هذا الصديق الحياة، فإنه خبرها وأسالت كثيرا من دموعه، غير أنه ادرع الصبر، فاستحجرت آلامه، وبات يتوقع الموت.
وقال ديجنه: إنني وقد نفذت ما انطوت عليه سريرتك، أراك تعتقد بالحب كما تصوره القصصيون والشعراء، فأنت إذن تصدق ما يقال لا ما يقع في هذه الحياة. لقد ضللت السبيل السوي في تفكيرك، فإن أمعنت في السير وقفت بوجهك المصائب والويلات.
وهل يصور الشعراء الحب إلا كما يجسم النحاتون الجمال، وكما يبدع الموسيقيون الأنغام؟
إن أرباب الفنون وقد دقت أعصابهم، ووهبوا الحس المرهف يختارون أنقى عناصر الحياة، وأبدع رسوم المادة، وأروع ما في الطبيعة من نبرات.
قيل: إنه كان في أثينا عدد كبير من الغانيات الفاتنات، فعمد «براكستيل» إلى تصويرهن الواحدة بعد الأخرى، ثم استعرض مجموعته مستبعدا عيوبها، ومستنبطا منها مثالا كاملا جامعا للمحاسن على أنواعها، فكان رسم الزهرة آلهة الجمال.
وعلى هذه الوتيرة جرى أول إنسان أوجد آلة للموسيقى مقررا قواعدها وأحوالها، فإنه ما وضع الأنغام إلا بعد أن تنصت طويلا إلى تغريد البلابل وحفيف الغصون.
وهكذا أوجد الشعراء أيضا الأسماء السرية التي مرت على شفاه البشر من جيل إلى جيل، كدفنيس وكلويه وهيرو ولياندر وبيرام وتيسبه.
تلك أسماء لم يبدعها الشعراء إلا بعد أن ابتلوا الحياة، وعرفوا من المحبة سريعها وبطيئها في الزوال، وبعد أن شهدوا إلى أية درجة من الهوس يبلغ الهيام أحيانا منقيا الطبيعة البشرية من أدرانها.
فإذا أنت فتشت في الواقع عن مثل هذا الحب المطلق الثابت؛ فكأنك تفتش في ميادين الجماهير عن نساء يضارعن الزهرة في روعة جمالها، أو كأنك تكلف بلبلا إنشاد أجمل مقطوعات بيتهوفن إيقاعا.
Unknown page