99

Ibn Hanbal: His Life and Era – His Opinions and Jurisprudence

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

٣ - دراسات أحمد الخاصة

١٠٢ - وإذا كنا قد قصرنا عدد الموجهين لأحمد على اثنين من العلماء، فذلك لأن أحمد كان موجهه الأكبر من نفسه، ونزوعه، وميولها، ونمتها الدراسات الشخصية المختلفة، ونوع الحياة الذي اختاره، واكتفاؤه من المال بالقليل، وعدم اتجاهه إلى مطمح ما تطمح إليه نفوس الرجال، وترنو إليه أنظارهم، فكانت حياته كلها للحديث وفقه السنة.

لقد طلب الحديث والسنة، وكان كلما أوغل في الطلب اشتدت الرغبة، كمن يذوق طعامًا فيستطيبه، إذ الرغبة بعد الذوق تشتد، بيد أن نهمة العلم لا تشبعها كثرة، ونهمة الطعام يشبعها القليل، لأن الأولى معنوية، والمعاني لا تتخم، والثانية مادية، وقليل المادة يتخم.

ولقد كان أحمد يجهد في دراساته متنقلًا بين الأمصار، وقد ذكرنا في صدر حياته كيف كان كثير الانتقال إلى الأمصار، والجوب في القفار، ومحبرته في رحاله، وهو يقول بلسان المقال كما يقول بلسان الحال: ((مع المحبرة إلى المقبرة))، ولا يمتنع - وهو الكهل الذي يعده الناس إمامًا - على أن يعمل في طلب العلم ما يعمله الشباب الذي يستقبل العلم، وكان يقول، وهو الإمام الحجة المقتدى به: أنا أطلب العلم إلى القبر.

١٠٣ - والسؤال الذي يجول بالنفس، أكان أحمد في هذا الجهاد العلي، وفي هذه الأخلاق، ليس له مثال سابق يسلك سبيله؟ لا شك أن نزوع أحمد في صدر حياته، وتوجيه شيخه هشيم، ثم توجيه الشافعي، وغيره كسفيان بن عيينة إمام الحديث في مكة وعبد الرزاق إمام الحديث في اليمن، لا شك أن هذا كله مع تذوقه للسنة وفقهها كان من أشد المرغبات له، ولكن العالم في بحوثه، والتقي في ورعه، والصابر في بلائه، لا بد أن يكون له رجل من الماضين اتخذ مثل منهاجه، وبينهما من المشاكلة النفسية ما يجعل منهاجه يسري إلى نفسه، ويجري منها مجرى الدم في العروق.

وليس من الصعب أن نعثر على بعض تلك الشخصيات الإسلامية التي كانت بينها وبين أحمد مشاكلة نفسية جعلته يسلك مسالكهم، وربما كان مداه في سلوكه

98