" إن الله يستحى من ذى الشيبة المسلم أن يعذبه "
رواه البيهقى وغيره. واعلم أن الحياء فى المخلوق يزداد بحياة القلب، فكلما كان القلب حيا كان الحياء أتم، وتعريفه السابق تعريف لغوى. وإن شئت فقل هو تغيير، وانكسار يعترى الإنسان من خوف ما يعاب به، وأما تعريفه الشرعى فهو أن يقال خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع عن التقصير فى حق ذى الحق. قال ذو النون الحياء وجود الهيبة فى القلب، مع وحشة ما يسبق منك إلى ربك، والحب ينطق، والحياء يسكت، والخوف يقلق. قال يحيى بن معاذ رحمه الله من استحيى من الله مطيعا استحى الله منه وهو مذنب، أى من غلب عليه خلق الحياء من الله، حتى فى حال طاعته، فقلبه مطرق بين يديه إطراق مستح خجل، فإنه إذا وقع منه ذنب استحى الله من نظره إليه فى تلك الحال بكرامته عليه، فيستحى أن يرى من وليه ما يشينه عنده، فإن الرجل إذا اطلع على أحب الناس إليه وأخصهم به، كولد فى خيانته إياه، فإنه يلحقه من ذلك الاطلاع حياء عجيب. حتى كأنه هو الجانى، وهذا غاية الكرم.
ومن أقسام الحياء حياء الكرم كحيائه - صلى الله عليه وسلم - من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب، وطولوا عنده المقام، واستحى أن يقول لهم انصرفوا. وحياء المحب من محبوبه، حتى إذا خطر قلبه فى حال غيبته هاج الحياء من قلبه، وأحس به فى وجهه، فلا يدرى ما سببه، وحياء المعبودية وهو حياء يمتزج بين محبة وخوف، ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لعبوده وإن قدره أعلى وأجل منها، فعبوديته له توجب استحياءه منه لا محالة، حياء المرء من نفسه وهو حياء النفوس الشريفة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص وقد قنعها بالدون فيجد نفسه مستحييا من نفسه، حتى كان له نفسين وهو أكمل ما يكون من الحياء، فإن من استحى من نفسه أحذر من أن يستحى من غيره، قال صلى الله عليه وسلم
" الحياء لا يأتى إلا بخير "
رواه البخارى. وقال صلى الله عليه وسلم
" الحياء من الإيمان "
رواه أيضا. قال عياض وغيره إنما جعل الحياء من الإيمان وإن كان غريزة لأن الاستعمال له على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم. قال القرطبى الحياء المكتسب هو الذى جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلف به دون الغريزى، غير أن من كان فيه غريزة منه فإنها تعينه على المكتسب حتى تكاد تكون غريزة، قال وجمع للنبى - صلى الله عليه وسلم - النوعان، فكان فى الغريزة أشد حياء من العذارء فى خدرها. قال عياض كان من حيائه - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يثبت بصره فى وجه أحد، واعلم أنه خص الخدر لأنه مضنة وقوع الفعل بها، فهو مقيد بما إذا توقعت دخول الزوج عليها لذلك او كان معها، وإن قلت إذا كان المراد بالاستحياء الترك، فهلا كانت العبارة بالترك؟ قلت عبر بالاستحياء تمثيلا ومبالغة، بقوله لا يستحى استعارة تمثيلية مركبة، وهى تبعية أصلها فى المصدر. فقد تكون التمثيلية فى المفرد أى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة، ترك من يستحى أن يتمثل بها لحقارتها ويجوز أن يكون فى هذا الموضع سقط بالأصل نحو صفحتين. فلزم التنبيه فيجيبه باستفهام مثل أن يقول زيد يغلب الأسود فتول كيف يغلب عمرا أو لا تقول لا يغلب عمرا فيقول ما عمر؟ وقرأ رؤبة برفع بعوضة وذلك عند البصريين والكوفيين على حذف العائد مع عدم طول الصلة، وهو شاذ عند البصريين قياس عند الكوفيين. وأخبار الزمخشرى كون ما استفهامية مبتدأ وبعوضة خبرها، والمعنى أى شىء البعوضة فما فوقها فى الحقارة، انتهى، كلام ابن هشام، والبعوضة واحد البعوض، وهو البق الصغار، فيما ذكره الجوهرى وليس كذلك. بل هو الحيوان الذى يطير وينتشر فى الأجنة صيفا سمى من البعض بمعنى القطع، يقال بعضه وبضعه وعضبه أى قطعه على الشاعر
لنعم البيت بيت بنى دثار إذا ما خاف بعض القوم بعضا
أى قطعا. ومن ذلك بعض الشىء لأنه قطعة منه، وبعض القوم قطعه منهم، والبعوض يقطع الجلد ويخمشه وقد سمى الخدوش فى لغة هذيل والختوش لكثرة خدشه، وأصله وصف على فعول، فتغلبت عليه الاسمية فصار اسما للحيوان المذكور بعد أن كان وصفا متحملا للضيمر صالحا لكل ما كثر قطعه من بق أو غيره، والبعوض على خلقه الفيل لكنه أكثر أعضاء من الفيل فإن الفيل أربع أرجل وخرطوما وذنبا وللبعوض مع هذه الأعضاء رجلان زائدتان وأربعة أجنحة وخرطومه أجوف، وخرطوم الفيل مصمت، والبعوض يبلع الدم من خرطومه ويوصله جوفه أنه نافد إليه، وبه يطعن فى الجسد، وألهمه الله أنه إذا جلس على عضوه قصد العرق حتى يجده لأنه أرق، فيضع خرطومه فيه، وهو مذكور فى الآية على طريق الاستخفاف. وفى ذلك قال صلى الله عليه وسلم
" لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء "
Unknown page