يعنى الحمد اللفظى، لأن حقيقة الشكر إشاعة النعمة وإظهارها، وفى إشاعتها وإظهارها دعاء إلى المشكور وجلب إليه، فيعرف ويذعن لأحكامه وهو المقصود، فمن لم يثن بلسانه فليس بشاكر شكرا حقيقيا، ولو أتى بالعمل والاعتقاد، وذلك أن الحمد أظهر إشاعة للنعمة وأدل على مكانها، لخفاء الاعتقاد واحتمال إتعاب الجوارج أن يكون شكرا وأن يكون حظا من حظوظ النفس أو غير ذلك. والحمد مبتدأ والله متعلق بمحذوف خبر لا بالحمد، والأصل نصب الحمد على المفعولية المطلقة واللفظ بعده معمول له، أو للفعل الناصب المحذوف، وقد قرئ بالنصب على ذلك فى غير السبع، بل فى غير العشر، أى أحمد لله الحمد، أو حمدت لله الحمد، حذف العامل وأخر لله واللام فيه للتبيين، وإنما أخر بعد أن أصله التقديم، لأنه لما حذف العامل قام الحمد مقامه، فكأنه العامل فى الله فأخر عنه، بل قال بعض إنه محمول للحمد واللام للتقوية، وإنما قدرنا الفعل لأن المصدر نسبة تتعلق بمحل، والأصل فى بيان النسب والتعلقات الأفعال، وإنما عدل عن النصب إلى الرفع فى قراءة الجمهور ليدل بالجملة الاسمية على الثبوت، بخلاف الفعلية فإنها للتجدد والحدوث، وأما عموم الحمد أو عهده أو حقيقته فتفيده أل، سواء فى المبتدأ وفى المفعول المطلق، ولا مانع من إدخالها في المفعول المطلق كما رأيت فى قراءة النصب، وقد قيل الأصل حمدت أو أحمد حمدا لله، فحذف الفعل اكتفاء بدلالة المصدر عليه، ثم عدل إلى الرفع لقصد الدلالة على الدوام والثبوت، فصار حمد لله ثم أدخلت أل لقصد الاستغراق. وظاهر كلام كثير أن الجملة الاسمية مطلقا تفيد الثبوت وليس كذلك عندى، ولو كان محتملا بتكلف كما مر، بل إذا كان الخبر فعليا متصرف الفعل، أو وصفا يدل على المضى، أو الاستقبال أو على الحدوث فى الحال لا تدل على الثبوت، وإذا كان ظرفا احتمل تقدير الفعل والوصف، وأصالة الإفراد فى الخبر لا تقاولها أصالة الفعل فى العمل عندى، فتقدير الوصف أولى، وقد عينه السعد إذا قال فى أواخر باب المسند إن الاتصاف أن المفهوم من قولنا زيد فى الدار ثابت أو مستقر لا ثبت أو استقر، وأما الوصف الذى لا يدل على الحدوث وهو الصفة المشبهة واسم التفضيل فالجملة التى هو خبرها دالة على الثبوت.
وقال السيد اسم الفاعل إنما يدل على الثبوت دون التجدد، وأطلق، وعن السكاكى أن زيدا فى الدار يحتمل التجدد والثبوت بحسب تقدير حصل أو حاصل، فينضم إلى الثبوت الدوام بحسب معونة المقام، وليس دال على الثبوت فى الجملة الاسمية بمعونة المقام، ثم اعلم أن الذى يدل على التجدد هو المضارع بمعونة المقام لا مطلقا ولا بنفسه استقلالا، وأما الماضى والأمر فيدلان على الحدوث، ومرادى بالثبوت هو الدوام، وأما السعد فأراد به فى كلامه المذكور وغيره، ومعنى دلالة الاسمية على الثبوت عدم دلالتها وعلى الدوام بالعقل، إذ الأصل فى كل ثابت دوامه، ويبحث فى هذه العلة بأنه يلزم دلالة الفعل على الدوام، لأنه ثابت والأصل فى الثابت الدوام، ومرادهم بالثبوت وجود الإيجاب أو السلب، وقرأ الحسن البصرى الحمد لله بكسر الدال توفيقا بينه وبين اللام بعده، وإن شئت فقل إتباعا بمعنى توفيقا وتجنسا لها، وقرأ إبراهيم ابن أبى عبلة الحمد لله بضم اللام إتباعا للدال، وهى أولى من التى قبلها لأن الإعراب أشرف فهو أحق أن يتبعه غيره، وضمة الدال إعراب فاتبعت لها حركة اللام، ولأن الدال سابقة فحق لها أن تأخذ ما لها، فإن شاء المتكلم اتبع لها بعدها ولام لله للاختصاص، وليس معنى الاختصاص الذى تفيده اللام حصرا، فان اللام ليست أداة حصر، بل معناه التعلق الخاص، هذا ما ظهر لى، ثم رأيته للدوانى والحمد لله، ومرادى هنا بالاختصاص الملك، قال ولو كان قولك المال لزيد والمفتاح للدار إلا على قصر المال والمفتاح لكان قولك ما المال إلا لزيد وما المفتاح إلا للدار مفيدا لحصر المال والمفتاح فى صفة الانحصار لا لحصر المال فى زيد والمفتاح فى الدار، ولكان قولك لله الحمد مفيدا لقصر الحمد على الاختصاص بالله عز وجل لا لقصره على الله، وقد صرح جار الله بأن تقديم الحمد فى له الحمد للحصر وهو مفيد أن الحصر لم يكن فيه بدون التقديم، وإلا لم يكون التقديم مفيدا له، وإن قلت إن قولنا ما المال إلا لزيد وإنما كان لحصر المال فى زيد أيضا، لأن حصر الشىء فى الشىء يقتضى ثبوته له، ولو وجد المال لغير زيد لم يكن للمال صفة الاختصاص فلا يصح قولكم لا لحصر المال فى زيد، قلت لا يصح هذا لأن المراد أنه لو كان معناه الاختصاص الحصرى لكان معناه المطابقى ومفهومه الصريح المبادر منه ذلك الذى ذكرناه لا الآخر، وهو فاسد قطعا، وذلك فى غاية الصحة والظهور، ولسنا نريد أنه لا يفيد ذلك ولو التزاما فضلا عن أن يرد علينا ذلك مع أنه كلام على السند، وقد كان ظاهر كلام الدوانى دعوى واستدلالا، فتعرض بعض للجواب بالمنع وأنت تعمل أنه يمكن أن يكون مراده منعا فى صورة الدعوى مبالغة، فإنه طريقة معروفة بين المحققين، وما ذكره فى صورة الدليل فهو سند المنع فلا يفيد المنع ولا الإيراد على السند، فإن إبطال السند غير المساوى لا يفيد دفع المنع على ما حقق فى محله من الكتب الموضوعة فى أدب المناظرة، ثم إن هذا البعث منعا كان أو دعوى قد يقال فيه، وإنما يتجه لو كان المراد أن اللام إنما تدل على الاختصاص الحصرى بالوضع وهو غير متعين ولا ظاهر، بل يجوز أن يكون مرادهم أن اللام وإن وضعت للتعلق الخاص لكن الاختصاص والتعلق الذى على وجه الحصر هو الكامل، فحمل عليه اللام فى مقام الثناء والمبالغة، كما صرح بعضهم من أن اللام هنا للاختصاص، بمعنى أنه لا محمود إلا هو تحقيقا أو مبالغة، وأن أل للجنس أو الاستغراق وتفيد بمعونة لام الاختصاص اختصاص جميع المحامد به تعالى، فإن اختصاص الجنس يستلزم اختصاص الأفراد، أو المراد اتحاد الجنس مع الثابت لله تعالى فتفيد الحصر بلا معونة لام الاختصاص، كأنه قال جنس الحمد هو الثابت لله تعالى، وفيه بعد ومن وادى الوجه الذى قبله حمل الباء على الملابسة على وجه التبرك لمناسبة التبرك للمقام، وقد ذكر السيد أنه دل بلامى الجنس والملكية على الاختصاص، فتراه أخذ الاختصاص من اللام الموضوعة للملك، ولم يجعل اللام موضوعة له، وأما نحو المال لزيد والمفتاح للدار فليبحث فيه بأن اللام فيه محمولة على مجرد معناها الوضعى، غاية الأمر أنه يجوز حملها على الاختصاص الحصرى عند مساعدة المقام، ولما كان التقديم أظهر إفادة للحصر إذ لم يحتج إلى تكلف، حمل الزمخشرى اللام على الأصل، وجعل التقديم للحصر ، ولا يقال لو كان المعنى حصر المحامد فلا معنى لقولهم الحمد لله على ما أنعم أو على التصنيف أو نحوه، إذ ليس جميع الأفراد أو الجنس المختص، لأنا نقول هو مختص بالمحمد المفهوم الحاصل من الحصر، كأنه قال حمدى هذا على ذلك، وأما اختصاص المحامد بالله تعالى فقد يقال إنه ادعائى وعلى سبيل المبالغة لصحة الحمد ووقوعه على أفعال الخلق من حيث كسبهم واتصافهم بها، ويكفى فيه انتسابها إليهم بالاختيار والإرادة وإن لم تكن مؤثرة، لكن جعل كالعدم فى جنب محامده تعالى، والذى كنت أقول به إن اختصاص المحامد به تعالى حقيق، لأن كل نعمة أو جميل، ولو جرى لك أو لغيرك على يد مخلوق فالله تعالى هو المجرى إياه إليك، والخالق له لك والميسر له والاختيار الحقيقى لله تعالى لقوله عز وعلا { ما كان لهم الخيرة } وإن اكتفيت بالانتساب فالاختصاص ادعائى.
والله أعلم. ثم إن الوصف فى مفهوم الحمد، هو الحمد وهو ذكر ما يدل على اتصاف المحمود بالمحمودية وهو قسمان الأول ذكر يفهم منه جميل مخصوص بخصوصه أو عمومه أو إطلاقه. الثانى ذكر يفهم منه الجميل المطلق من غير تعيين، كما إذا قيل أنت متصف بالجميل. وكل منهما إما أن يفهم منه صريحا أو التزاما لزوما قطعيا أو عرفيا أو ظنيا، كما إذا قيل كثير الرماد مراد به كثير الضيف، وهل يعتبر يزوم ظاهر وأعم منه ومن الخفى غاية الخفاء، والضعيف كل ضعف أو أعم منه، ومن الوسط فيه تردد. وبهذا التعميم السابق صار قولنا أحمد الله والحمد لله ونحوهما حمدا للدلالة على الاتصاف بالمحمودية المفهوم من ثبوت الحمد، ولما كان ذلك مجملا لم يعلم منه أن الله تعالى متصف بأى صفة من المطلق أو العام أو المخصوص، سموها دلالة إجمالية باعتبار أن المدلول مجمل، فالدلالة أعم من أن تكون إجمالية أو تفصيلية، ولك أن تقول حمد إجمالى فهو بمنزلة أنت متصف بالجميل المطلق لا يفيد الإطلاق فيساوى أحمد الله، وقد عرفت أن قولك الحمد لله وأحمد الله حمدا للدلالة على الاتصاف بالكمال، وقد يبحث بأنا لا نسلم دلالته على الاتصاف فلا يكون وصفا بالجميل، إذ الوصف لا يدل على الاتصاف، لأنه فعل الواصف، والواصف قد يصف الشئ بما ليس متصفا به، بخلاف الاتصاف فإنه قبول الوصف والمطاوعة بأن توجد الصفة، فقولك أنت متصف بالكمال لا يصدق إلا بوجود الصفة، فإن قولك الحمد لله أو أحمد الله إن ثبت مضمونه تلزم منه دعوى الاتصاف وذكره لا نفسه، وقولك أنت متصفا يلزم الاتصاف من ثبوت مضمونه، وقد يجاب بأن الحمد لا بد فيه من قصد التعظيم، فكأنه قيل أعظمك ذا كمال، وهو يدل عرفا على أن أنت متصف بالكمال، فإن الشخص لا يكذب نفسه، فكأنه قيل أنت متصف فيصدق المخاطب بمعونة الثقة بالمتكلم، فإنه إنما يصدق بمضمون أنت متصف بمعونة الثقة بالمتكلم، فإن اللفظ إنما يفيد تصوير المعنى والتصديق أمر حادث بمعونة القرائن كما صرح به أئمة الحكمة، وقد يجاب أيضا بأن هذه العبارة تطلق عرفا بمعنى أنه متصف، وقد يجاب أيضا بأن قولك نصفك يدل على صدور القول الدال على الاتصاف، وذلك القول يدل على الاتصاف فيكون دالا عليه، بالواسطة فتحصل أن الدلالة ليست وضعية صرفية ولا عقلية قطعية، بل إنما يفهم من ثبوت الحمد ثبوت الجميل بمعونة الوضع ومقدمات عقلية، أو العرف فإنه إذا قيل إنه محمود، فقد فهم الوصف بالجميل الذى كان أو يكون، ويلزم من صحته ثبوت المحمودية للمحمود، وإذا فهم الوصف فهم الاتصاف لأنه دعوى الاتصاف، فثبت أن الحمد لله لفظ دال على الاتصاف فى الجملة، فيكون حمدا، وما قيل من أن الوصف إنما يدل على مطلق القول الشامل للصادق والكاذب، وذلك لا يدل على الاتصاف ليس بشئ، لأن جنس الكلام أعنى الماهية من حيث هى دال على ثبوت مضمونه فى الواقع، فإذا سمعه المخاطب فهم منه الاتصاف، وأما التصديق بمضمونه فمن القرائن بل الخبر الكاذب أيضا دال بالوضع على ثبوت مضمونه، والكذب احتمال عقلى، وذكر الدوانى تلك الأجوبة وسمى الثانى جوابا بطى المسافة ، فيحتمل أن يريد بالطى أن قولك الحمد لله بمنزلة أنت متصف، وبمعناه وحينئذ يلزم أن يكون الحمد لله مجازا، مع أنه لا يجرى فى أحمد الله إلا بالتكلف التام، والأظهر أن المراد إن اعتقدك متصفا مستعمل فى دعوى الاتصاف، فالطى بمعنى ترك دعوى أن الأول دال على الاتصاف، والدليل عليه متنقل إلى دعوى نقلى وهو أنه مستعمل بمعنى أنت متصف عرفا.
ثم إنه لا يخفى أن ما ذكره من أن الشخص لا يكذب نفسه، إنما يجرى فى حمدت أو أحمد لا فيما إذا قيل أنت محمود أو لك الحمد مما لا يتضمن دعوى، اعتقادا لمتكلم وحمده إياه حتى يقال إن المرء لا يكذب نفسه، فلا يكون الجواب حاسما لمادة الشبهة، وإن أراد أن دعوى الحامد اعتقاد الكال بمنزلة دعوى كماله، فغاية ما يلزم من ذلك أن يكون القائل ناقلا دعوى الاتصاف وهو لا يدل على الاتصال، فتأمل جدا وإلا فى ثبوت دعوى ظهر الاعتقاد أن الحمد إنما يتحقق إذا تحقق المحمود عليه وهو الكمال الاختيارى للمحمود، فإذا قال أحمدك أو أنت محمود فكأنه قال أنت متصف بكمال الاختيارى، وصار منشئا للوصف، وإذا اكتفى فى المحمود عليه باعتقاد الحامد بثبوته له فقد تضمن دعوى اعتقاد ثبوت الجميل الاختيارى، والاختيارى كمال ولا يحتاج إلى دعوى أن التعظيم فرع اعتقاد الكمال، ثم قول اعتقاد العاقل ثبوت كمال الشخص بالاختيار فرع كمال فيه عرفا أو حقيقة، أقله صلوحة لأن يعتقد فيه جميل باختياره، وهذا نوع كمال أو مستلزم لكمال مفقود فى من لم يكن صالحا لأن يعتقد فيه كمال، بأن تكون الكمالات وصلاحية اتصافه بما منفية عنه، ولك أن تقول وصف المرء بالجميل وتعظيمه واعتقاده ثبوت الجميل له أمور جميلة عرفا بذاتها ولو فى الجملة. فإذا ادعى ثبوت جميل غير المحمود وبالجملة كون المرء محمودا أمر حسن بالنسبة إلى كونه محقرا غير معتقد فيه الكمال، فإثبات الحمد إثبات لكمالات ثلاثة، فتتم الدلالة من غير احتياج إلى كثرة دقة، ثم السؤال إنما يتوجه فى الحمد لله ونحوه إذا لم يلاحظ معنى اللامين، وأما إذا لوحظ اختصاص الجنس والإفراد أو الفرد الكامل وإلا كمل، فدلالته على الاتصاف بالكمال التام غير خفى، لأن اختصاص ذلك فرع غاية الكمال.
وقيل الحمد لله وأحمد الله ونحوه حمد شرعى لا لغوى، أعنى أنه وضع للإنشاء كما وضع بعت واشتريت لإنشاء العقد، فيترتب عليه فوائد الحمد اللغوى، وإن لم يصدق التعريف عليه، وهذا على الاحتمال غير بعيد، وأما على الاعتماد والظن فلا يكونان إلا عن دليل، والذى يعلم من الشرع أنه اكتفى به فى مقام الحمد، ومنهم من قال الحمد ها هنا بمعنى المحمود به، فكأنه قيل الكمال لله، ولا يخفى أن ذلك إنما يظهر فى الجملة الاسمية، وأما إذا قيل أحمد الله فمعناه أنسب الكمال إلى الله وأصفه به فلا يفيد إلا دعوى الفصل فيرد عليه الإشكال السابق، وجعل المصدر بمعنى المحمود به ما أشفى العليل ولا أروى الغليل إلا أن يكون لإنشاء النسبة، وقيل لم يرد بذلك إلا إظهار محمودية الله وحامدية العباد ولا يلزم أن يكون حمدا وهو المراد حيث أمر به الشارع وهو منسوب إلى الشيخ عبد القاهر، ويلزم من ذلك فى نحو أحمد وتحمد أن يكون هناك حمدا جزاء ويكون فى اللفظ تجوز بعيد. والله أعلم. وجملة الحمد خبرية لفظا إنشائية معنى، لأن الإنشاء ما قارن لفظه معناه أو تبقت الحرف الأخير منه على الخلاف فى ذلك، والقصد من هذه الجملة إنشاء الحمد، ولا شك أن المراد من الإتيان بجملة الحمد لم يكن موجودا قبل وجودها من الحامد حتى يكون مخبرا بذلك، ولهذا اشتق له اسم الحامد، ولو كان مجرد خبر لم يشتق له من متعلق إخباره اسم، إذ من لم يقم به الوصف لا يشتق له من لفظ ذلك الواصف وإن تلفظ به فلا يقال لنم قام زيد أو زيد له القائم قائم بخلاف الناطق بجملة الحمد فإنه قام به وصف الحمد المراد من تلك الجملة، وإن كان الأصل فى القصد بالخبر إعلام المخاطب بالحكم الذى هو مضمون الخبر، وقد يقصد به إعلام المخاطب بأن المخبر عالم بذلك والأول يسمى فائدة الخبر. والثانى لازمها كما فى علم المعانى، وكل مهنهما ليس مرادا بمجرده من جملة الحمد، وظاهر كلام المصنف أنه يتعين أن تكون إنشائية، ولكن تقدم أنه يجوز أن تكون خبرية لفظا ومعنى مع حصول الحمد بطريق اللزوم، إذ الإخبار عن الحمد بأنه مملوك أو مستحق لله يستلزم نسبة مالكية الحمد واستحقاقه إليه، وذلك جميل قطعا، فيكون الوصف به حمدا لا بطريق المطابقة ولعله مراد من دل كلامه على عدم حصول الحمد على تقدير الإخبار، وحينئذ يشكل تعليل شيخ الإسلام كون الجملة خبرية لفظا إنشائية معنى بحصول الحمد بالتكلم بها مع الإذعان لمدلولها، لأنه لا ينتج الإنشائية معنى لحصوله مع الخبرية إلا أن يريد حصول الحمد لها بنفسها، وأما ما قيل من أنه لا بد فى تحقيق الحمد من الإذعان لمدلول الجملة والإخبار لا يستلزمه فلا يتحقق حمد على تقديره، ففى الغاية السقوط لأنه إنما يأتى على أن المراد بالتعظيم الباطنى الاعتقاد، ولأنه لا وجه للفرق فى عدم استلزام المذكور بين الإخبار والإنشاء، وقد علم تحقيق الإنشاء مع عدم الادعاء، بل مع إذعان العدم، ولأن اعتبار الإذعان وعدم لزومه للإخبار لا يسوغ إطلاق منع الإخبار وعدم حصول الحمد على تقديره، بل وزانه وزان سائر المعتبرات فى الحمد كالتعظيم ظاهرا، فغاية الأمر توقف تحقق الحمد على تحققه، وبالغ بعضهم فى إنكار كون الحمد لله إنشاء لما يلزم عليه من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه فى الوجود، وبحث فيه الكمال ابن الهمام بأن الحمد ثابت بلا شك والحامدون كذلك، وبأنه لا يصاغ لغة للمخبر عن غيره من متعلق إخباره اسم، فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم، فلو كان الحمد إخبار معنى كما هو لفظ لم يقل لقائل الحمدلله حامد ولا انتفى الحامدون، واللازم من مقارنة معنى الإنشاء للفظة انتفاء وصف الواصف المعين لا الاتصاف، لأن الحمد إظهار الصفات لا ثبوتها، نعم قد يقال يلزم كون كل مخبر منشأ حيث كان واصفا للواقع ومظهرا له، لكن يدفع هذا بأن الحمد يؤخذ فيه مع ذكر الواقع كونه على وجه ابتداء التعظيم، وهذا لس جزء ماهية الخبر، فاختلف الحقيقتان كظهر أن منشأ الغلط هو الغفلة عن اعتبار هذا القيد جزء ماهية الحمد، إذ بالغفلة عنه ظن أنه إخبار لوجود خارج يطابقه وهو الاتصاف بالجميل ولا خارج للإنشاء، وأنت علمت أن هذا خارج جزء المفهوم وهو الوصف بالجميل وتمامة وهو المركب معه من كونه على وجه ابتداء التعظيم لا خارج له بل هو ابتداء معنى لفظة علة له.
والله أعلم. وتقدم أن الحمد مختص بالله ومن حصر فيه تحقيقا أو مبالغة، لأن كل جميل فهو له ومنه، خلقا وتمكينا وتيسيرا، ويبحث بأن أفعال العباد ترجع إلى الله تعالى من جهة الخلق والإقدار وتحصيل الأسباب والتوفيق، ولكن ترجع إلى العبد أيضا من جهة المباشرة والكسب بعد الإرادة سواء قيل إنه غير مؤثرة، كما هو مذهب أبى الحسن الأشعرى والزاعمين أنهم أهل السنة لو قيل مؤثرة، وهذه الجهة وإن رجعت إلى الله تعالى لأنه خلق القدرة والإرادة وتحصيل الأسباب ورفع الموانع، لأنه ترجع إلى العبد أيضا لأنه شخص خلق الله تعالى فيه الجميل ومكنه من مباشرته بعد خلق الإرادة وبإرادته ومباشرته يمدح ويثاب ويذم ويعاقب، فيجث بالضرورة أن ترجع إلى العبد بوجه ما يخص به فيحمد باعتبار هذه الجهة، فرجوع الحمد إلى الله تعالى لا يقتضى حصر الحمد فيه.
وإن قلت لو رجع الحمد إلى الله تعالى باعتبار المذكور لرجع لمصالح وحكم ومنافع لا يرعف تفصيلها إلا العليم الحكيم، وهو وإن تضمن شرا بالنسبة إلى شخص فجهات خيريته أتم أكثر فهو خبر، وإنما المذموم مباشرة المكلف له وإرادته، قال صلى الله عليه وسلم
" والشر ليس إليك "
أى ليست شريته من جهة راجعة إليك بالله كالخلق والأقدار. وقيل المراد حصر الاستحقاق والسؤال بحاله والأشكال على منوال، لأنه إذا رجع إلى العبد بوجه فقد استحقه بالجملة ولو كان ضعيفا وأكثر المتأخرين الناظرين على أن الحصر مبالغة وادعاء. قال بعضهم وبه صرح السعد فى حاشية الكشاف، والمراد أن الأفعال لما رجعت إليه وكذا المحامد، أمكن ادعاء الحصر فيه، ويحتمل أن يكون فسر اختصاص الحمد فى الكشاف بأنه لا أحق منه، والمراد أنه أحق من غيره، فالمراد حصرا حقيقة الحمد، لكن القاضى لما قال ذلك أعقبه بقوله بل لا يستحق فى الحقيقة الحمد غيره، وقال فى له الحمد دل على اختصاصه به فى الحقيقة فعاد الإشكال، ثم إنه قال فى قوله الحمد فى الآخرة إن النعم الدنيوية قد تكون بواسطة من يستحق الحمد لأجلها، وهو صريح فى أن العبد يستحق الحمد فى الدنيا، فقيل فى رفع المنافاة بين كلاميه أن المنفى الاستحقاق، وبمعنى أنه لازم له لو ترك يكون ظلما وتجاوزا عما يجب، فالعبد لا يستحق الحمد عند التحقيق، كما أنه لا يستحق الثواب بطاعته، وإنما ذلك من فضل الله الرحمن الرحيم، فإذا أثبتنا للعبد حمدا أو ثوابا وقلنا باستحقاقه، فعلى معنى تأهله لذلك بمقتضى وعد الله وكون الله - عز وجل - لا يضع الشئ فى غير موضعه، وليس استحقاقا واجب الأداء شرعا أو عقلا، بل مناسبة واستحسان، وزعمت المعتزلة أن الثواب لازم وكلا الاستحقاقين حقيقان، فلا حاجة إلى قول القاضى بالحقيقة، اللهم إلا إن أراد بها أن استحقاق العبد للحمد كعدمه، لأن الله هو مولى الخير والجميل، ويحتمل أن يكون قد حمل الاستحقاق فى الحقيقة على ما لم يكن للغير دخل فيه، وهذا ليس إلا لله، فإن كل حمد لغيره فلله الجهة العليا منه وفيه بعد، وتحصل من ذلك أنه يجوز أن يكون غير الله محمودا، لكن الله تعالى هو الكامل فى المحمودية، وقال الدوانى القصر على الحقيقة فلا محمود حقيقة إلا الله، والإشكال مندفع لأن الحمد مختص بالفعل الاختيارى ولا اختيار لغيره تعالى حقيق، وإنما العبد مضطر فى صورة مختار على ما صرح به السعد فى شرح المقاصد، فيلزم اختصاص الحمد اللغوى، إذ المحمود عليه يجب أن يكون بالاختيار ونسبة الفعل إلى العبد ولو كانت حقيقة، لكن يعتبر فيه الكسب لا التأثير والاختيار الذى هو أنه لا يقع إلا ما أراد، والمعتبر فى مفهوم الحمد الاختيار لا الكسب، فلا يلزم إطلاق الحمد على ما يتعلق بالعبد، والجميل فى قولهم على الجميل صفة للفعل، كيف والمحمود عليه يجب أن يكون وصفا للمحمود والقائم بالعبد كالصلاة مخلوق لله - عز وجل - لا فعل له ولا مخلوق للعبد، بل فعل للعبد وليس اختيارا له بمعنى أنه لما أراده استحال ألا يقع، لكنه لا يخفى أن الاختيار إما بمعنى أنه لا يصير إلا ما أراد المريد، من حيث إنه إرادة وهو مختص بالله عز وعلا، وإما بمعنى صدور الشئ بعد الإرادة وهو مستعمل فى العرف ومتبادر عند الإطلاق، إذ قيل فعل فلان باختياره أو فلان مختار، والمراد به نفى الخبر والاضطرار وليكن هذا هو المأخوذ فى تعريف الحمد وهو شائع فى اللغة، وشاع فيها حمد غير الله سبحانه، وليس الاختيار بذلك المعنى مجازا بل حقيقة لغوية وإلا فلا أقل من أن يقال عرفية، والتعريف للمتأخرين المستنبطين لا اللغويين، فلا يقال كيف يستعمل المجاز فى التعريف، بل لو كان مجازا لم يمتنع التعريف به لأنه مشهور أو لأنه حقيقة عرفية، فليس الحمد معتبرا فيه الاختيار المختص بالله تعالى.
وأما كون الجميل صفة للفعل، ففيه أن الفعل يجوز إطلاقه على ما ينافى الكسب، ولا يقتضى إلا المباشرة وهو المعنى بقوله تعالى
Unknown page