ونحو ذلك من الأدلة النقلية أو العقلية، وخالفتنا المعتزلة فى ذلك فقالوا إن الحرام لا يسمى رزقا، قلت يبطل قولهم بأنه لا شك أن من غصب شيئا فأكله أما أكل رزقه وهو الصواب وإنما يعاقب على كسبه بالغصب، وما أكل رزق غيره فيلزمه أن يكون قد غلب قضاء الله، إذ قضاه رزقا لغيره فأكله هو، فإن قالوا بهذا كفروا، وإن قالوا قضاه الله رزقا لغيره ثم صيره رزقا لغيره فقط شبهوه بخلقه وقالوا إنه تبدو له البدوات فيكفروا، والحق أن الله جل وعلا قضاه رزقا لأكله وإن كان مالا انتفع به مالكه وغاصبه فقد قضاه جل وعلا رزقا لكل منهما فى مدة مخصوصة، ويبطل قولهم أيضا إنه قد يتقوت الإنسان طول عمره بحرام أو فى بعض عمره فيلزمهم أن يكون فى ذلك قد عاش بلا رزق من الله وهو خلاف قوله تعالى
وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها
ويبطله أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو ابن قرة
" لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه، مكان ما أحل الله لك من حلاله "
رواه ابن ماجه وغيره، من حديث صفوان بن أمية هكذا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
" فجاءه عمرو بن قرة فقال يا رسول الله إن الله قد كتب على الشقوة فلا أرانى أرزق إلا من دفر بكفى، فأذن لى فى الغنى من فاحشة. فقال " لا إذن لك ولا كرامة، كذبت أى عدو الله لقد رزقك الله حلالا طيبا... إلخ "
وحجة المعتزلة أن الله سبحانه يستحيل أن يمكن من الحرام ، إذ منع الناس من الانتفاع به، وأمر بالزجر عنه، وأسند الرزق هنا إلى نفسه إيذانا بأنهم منفقون الحلال الخالص، لأن إنفاق الحرام لا يوجب المدح. وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم لقوله
قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا
ويرد عليهم بما ذكرنا آنفا، وأن الله سبحانه وتعالى لم يمكنهم من الحرام رضا به، ولكن خلق الحرام وسبق القضاء بأكله وتناوله، ويؤخذ على كسبهم وتناولهم فى الأكل وغيره. ونقول إسناد الرزق إلى نفسه للتعظيم والتحريض على الإنفاق، والمراد تعظيم الرزق، والتحريض على الإنفاق من الحلال. واختصاص الرزق فى الآية بالحلال لقرينة أنه لا يمدح الإنفاق من الحرام. وليس إسناد الأشياء التى لا تجوز إلى الله تعالى بممنوع ولا بقبيح، إذا أسندت إليه على جهة أنه خالق لها، فإنه هو الخالق لها لحكمة. وإنما القبيح تناول المكلف لها. والله أعلم. وقد قدم قوله { وما رزقناهم } على قوله { ينفقون } مع أنه متعلق به للاهتمام، أعنى على طريق العرب فى الاهتمام. ولست أريد أن الله - جل وعلا - يوصف بالاهتمام. وأيضا قدمه لأن أواخر الآى نون قبلها مدة فلو أخره لكان هذه ميما، والميم لو قربت من النون قد تغنى عنها، لكن لا مدة قبلها. ومن للتبعيض ونكتتها الكف بسط اليد بالإنفاق كل البسط. وذلك إنما ينهى عنه الإنسان إذا أدى به إلى الانقطاع كبقاء بلا ثوب يصلى به ويستر عورته أو إلى طمع فى الناس أو سؤالهم أو تضرر عظيم بجوع أو عطش أو إلى الإعراض عن الورع عند حضور الطعام مثلا، لشدة الحاجة إليه، أو إلى تضييع من لزمته نفقته، أو إلى معصية ما، أو فى معصية أو بإهمال نية.
وقد تصدق أبو بكر وغيره من الصحابة بما عنده كله أجمع، على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرزق فى اللغة الحظ، كقوله تعالى
Unknown page