Himyān al-zād ilā dār al-maʿād
هميان الزاد إلى دار المعاد
أبا خراشة أما أنت ذا نفر فإن قومى لم تأكلهم الضبع السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفاسها جرع
الضبع حيوان استعير اسمه للسنة المجدبة، لأنه متتابع الفساد، أى فإن قومى كثير لم تهلكهم السنون، وقال ابن الأعرابى الضبع الحيوان حقيقة، كانوا إذا أجدبوا ضعفوا فعاثت فيهم الضباع، أى فإن قومى ليسوا ضعافا عن الابتعاث فتعيث فيهم الضباع، وزعم الفارسى أن الضبع اسم للسنة المجدبة حقيقة لا استعارة. والسلم هو بكسر السين وفتحها والجرعة ملء الفم، كذا قيل، والصواب أنها مقدار ما يبلع من الماء دفعة، والجرع الجماعة من ذلك، قال التبريزى يعلمه أن السلم هو فيها وادع ينال من مطالبه ما يريد فإذا جاءت الحرب قطعته عن إرادته، وقيل أراد أن السلم تأخذ منها ما تحبه وترضاه فلا تسأم من طول زمانها، والحرب بالعكس، أو يكفيك اليسير منها المشار إليه بقوله من أنفاسها جرع، يحرض أبا خراشة على الصلح ويثبطه عن الحرب، ومنع ابن هشام أن يكون كافة حالا من السلم، وقال إن كافة خاص بمن يعقل، وهذا يسلم منه من جعله حالا من الواو والسلم، وقال التغليب جائز، واختاره ابن عطية، وهو ممن أخذ عن الربيع بن حبيب رحمه الله، ثم نهاه أصحابنا رحمهم الله أن يقبله، فرده فرجع حزينا باكيا يقول ما أظن الربيع فى فضله يقبل فى كلام أحد، ويجوز أن يكون الخطاب للمنافقين، أى استسلموا لله وأطيعوه جملة ظاهرا وباطنا، ويجوز أن يكون الخطاب لكفار أهل الكتاب، أى ادخلوا فى الشرع كله بالإيمان لا تؤمنوا ببعض كتب الله وبعض أنبيائه، وتكفروا ببعض، فإذا رأيتم التعميم على أحد الأقوال فى أمر الدين لا فى المخاطبين، فالحال من السلم، وروى جابر ابن عبد الله
" أن عمر أتى إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال إنا نسمع أحاديث من يهود وتعجبنا أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم " أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان عيسى حيا ما وسعه إلا الاتباع " قلت أى لو كان حيا فى الأرض لأنه حى فى السماء "
، والذى عندى أن هذا غلط من كتاب الحديث، وإنما الرواية لو كان موسى حيا لأنه أنسب للتوراة، ولأنه مات، ومعنى متهوكون أنتم أمتحيرون أنتم فى دينكم حتى تأخذوه من اليهود والنصارى، والضمير فى قوله بها، للملة الحنيفية، وبيضاء نقية طاهرة لا إشكال ولا خفاء فيها، يحتاج إلى زواله بشئ، وعن حذيفة بن اليمانى فى هذه الآية للإسلام ثمانية أسهم الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والعمرة، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وقد خاب من لا سهم له أى خاب من فاته سهم واحد من هذه الأسهم وأتى بالباقى، يشير إلى أن السلم هو هذه الثمانية فإنها إسلام. { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } آثاره فى التفرق عن الإسلام وأمره، والتفريق بين شئ وآخر فى الإيمان، وترك الآخر وتحريم ما حل كما حرمت اليهود لحوم الإبل ولو بعد نزول القرآن ، وكما حرمت العرب البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى، وقيل لا تلتفتوا إلى الشبهات التى يلقى إليكم الشيطان، والشيطان مراد به شيطان الجن أو شيطان الإنس أو كلاهما، والمراد على كل وجه جنس الشيطان لا الشيطان الواحد، والوجه المتبادر أن المراد جنس شياطين الجن، لأن المعتاد الغالب استعمال الشيطان فى شيطان الجن، ولأنه الذى شهر فى مثله قوله تعالى { إنه لكم عدو مبين } ظاهر العداوة وأصل العدو أن يقع على المفرد، لكنه يستعمل فى المفرد والاثنين والجماعة.
[2.209-210]
{ فإن زللتم } ملتم عن الدخول فى السلم كافة، بأن دخلتم فى بعضه فقط، أو دخل بعضكم فقط، وقرأ أبو السمال زللتم بكسر اللام، وهو لغة كضللت وضللت، وأصل الزلل فى القدم كالزلق وزنا ومعنى، استعمل فى الخروج عن الحق. { من بعد ما جاءتكم البينات } الحجج الظاهر الشاهدة على أن ذلك السلم المأمور بالدخول فيه هو الحق إن كان الخطاب الأول للمؤمنين، فالآيات القرآن والمعجزات، وإن كان لأهل الكتاب المشركين فهن ما جاءهم أيضا فى التوراة من أمر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته أو هن القرآن والمعجزات أيضا. { فاعلموا أن الله عزيز } غالب لا يعجزه شئ عن الانتقام ممن لم يدخل فى السلم ولا ممن دخل فى بعضه فقط. { حكيم } فى صنعه لا يضع الجزاء بالسوء إلا فى أهل السوء. والجملة تعليل لجواب محذوف سدت. مسده أى عاقب من لم يدخل فيه ومن دخل فى بعضه فقط لأنه عزيز حكيم، سمع أعرابى قارئا يقرأ { إن الله غفور رحيم } فأنكره، ولم يقرأ القرآن، وقال إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم، لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه. { هل ينظرون } ينتظرون والاستفهام فى معنى النفى، ولذلك أجيب بإلا، والضمير لمن لم يدخل فى السلم، ومن دخل فى بعضه وهم المتبعون لخطوات الشيطان. { إلا أن يأتيهم الله فى ظلل من الغمام } على حذف مضاف، أى أمر الله، بدليل قوله تعالى
هل ينظرون إلا أن تأيتهم الملائكة أو يأتى أمر ربك
أو بأس الله كقوله سبحانه
فجاءهم بأسنا
أو على حذف المتعلق، أى إلا أن يأتيهم الله بأمره، كما ورد ما يقرب منه فى آية أخرى، أو ببأسه كما يدل له { عزيز حكيم } ، فإن العزة فى حكمه تناسب البأس الذى لا يطاق، وهى صفة قهر، والعزة بلا حكمة قد تضع حيالها وعدتها، وهذا فى الجملة، والله منزه عن الحيلة، وهذه الباء المقدرة للتعدية كهمزة التصيير، أى إلا أن يصير الله أمره أو بأسه آتيا، والمعنى فى ذلك كله واحد، ولا بد من المصير إليه، لأن الله تعالى منزه عن الحركة والسكون، لأنهما يستلزمان الحد والتحيز والجهاد والتركب والعجز والحدوث وغير ذلك من صفات الخلق، هذا مذهبنا ومذهب المعتزلة والمحققين من الشافعية كالقاضى، وفي سبيل ذلك أن نقدر أن يأتيهم قهر الله أو عذابه، فإن ذلك من أمره، أو نجعل فى بمعنى الباء، أى أن يأتيهم الله بظلل من الغمام، أى أن يصير الله ظلل الغمام آتية إياهم. والحاصل أن مذهبنا ومذهب هؤلاء، تأويل الآية عن ظاهرها إلى ما يجوز وصف الله به، وذلك مذهب المتكلمين، وحكمة حذف المضاف أو ذلك المتعلق التهويل عليهم، إذ لو ذكرك أن أسهل عيلهم إلا تراهم لتكذيبهم يقولون
Unknown page