وإن قلت كم راغب فى الدعاء لا يرى مجابا؟ قلت سيجاب، أو عوض له خير مما دعا، أو حط عنه ذنوبا، أو رفع درجات أو رد عنه شرا، فالاستجابة لا تختص بنفس مطلوبه، فإن بدل الشئ كالشئ فإذا عوض له لم يكن قد رده خائبا. والآية مقيدة بعدم الإثم فى الداء، أو أجيبه إن كان مطعمه ومشربه حلالا وغير ذلك من الشروط، وقد بينت الأحاديث ذلك كله، وقيل المراد أجيب دعاؤه نفسه عينه إذا وافق القضاء، وقيل أجيب دعوة الداعى إذا دعانى إن شئت، فهى مطلقة مقيدة بقوله بل إياه تدعون، فيكشف ما تدعون إليه إن شاء. قلت هذه فى أهل الشرك، وآية البقرة ظاهرة فى غيرهم، فيبعد تقييدها بتلك. وأما { فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى } ففى الجلب للإيمان، وفى التحبب لا فى خصوص مقام السؤال عن الله، والجواب عن السؤال، أو المعنى وليدعو على الإيمان، وقيل معنى أجيب أسمع، والسيد قد يسمع كلام عبده ولا يعطيه سؤله، وقيل الدعاء هنا الطاعة، والإجابة الإثابة فى الآخرة، وقيل الدعاء الثناء على الله، والتوحيد إن كان معه ندء كقولك يا الله أنت ربى، فسمى الكل باسم النداء، وسميت الإثابة على ذلك إجابة، ليطابق لفظ الدعاء، وياء الدعاء وياء دعانى محذوفتان من الخط ثابتتان فى التلاوة فى الوصل عند ورش وأبى عمر، ويحذفانها وقفا، وحذفهما غيرهما وصلا ووقفا.
{ فليستجيبوا لى } دعائى بالطاعة، فإنى قد دعوتهم إليها، كما أجيبهم إذا دعونى لمهماتهم، قاله مجاهد وغيره، وقال أبو رجاء الخرسانى معناه فليدعونى، وقيل فليطلبوا أن أجيبهم. { وليؤمنوا بى } يخرجوا من الشرك، أو يدوموا على الإيمان، وقال أبو رجاء المعنى فليصدقوا بأنى أجيب دعاءهم، وروى أن رجلا وقف على قوم فقال من عنده ضيافة هذه الليلة؟ فسكتوا، فأعاد، فقال أعمى عندى، فذهب به إلى منزله فعشاه، ثم حدثه ساعة، ثم وضع له وضوءا، فقام الرجل فى جوف الليل فتوضأ وصلى ما قضى له، ثم جعل يدعو، فانتبه الأعمى وجعل يسمع لدعائه، فقال اللهم رب الأرواح الفانية والأجساد البالية، أسألك بطاعة الأرواح الراجعة إلى أجسادها، بطاعة الأجساد الملتمة فى عروقها، وبطاعة القبور المتشققة عن أهلها، وبدعوتك الصادقة فيهم، وأخذك الحق منهم، وتبريز الخلائق كلهم، من مخافتك ينتظرون قضاءك ويرجون رحمتك، ويخافون عذابك، أسألك أن تجعل النور فى بصرى، والإخلاص فى عملى، وشكرك فى قلبى، وذكرك فى لسانى فى الليل والنهار ما أبقيتنى. فحفظ الأعمى هذا الدعاء، ثم قام فتوضأ وصلى ركعتين، ودعا به فأصبح قد رد الله عليه بصره. والعقيدة أن الأرواح لا تفنى الآن جزما، وأما إذا قامت الساعة ففى فنائها قولان قرأ ورش بفتح ياء بى. وقرأ غيره بالإسكان. { لعلهم يرشدون } ترجيه لإصابة الرشد وهو الحق الذى هو دين الله أو تعليل لما قبله، قيل راجين الاهتداء أو ليهتدوا، وقرئ بكسر الشين، وذكر الله جل وعلا هذه الآية بعد ما أمرهم بالصوم والتكبير، وبعد ذكر الشكر إيذانا لهم بأنه عالم بما يفعلون، فيثيبهم، وذلك حث على الصوم والتكبير والشكر.
[2.187]
{ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } أى أحل الله لكم فى الليلة التى تصومون يومها الإفضاء إلى نسائكم بالجماع، وقرأ بعض ببناء أحل للفاعل وهو الله سبحانه، ونصب الرفث. وقرأ عبد الله بن مسعود الرفوث بالنصب والبناء للفاعل، والرفث كناية عن الجماع، لأنه لا يكاد يخلو من رفث، وهو التصريح بأمر الجماع، كأجامع وأنيك وأدخل بين الشعاب الأربع، وأطؤك وغير ذلك من ألفاظ الجماع، ولو كان بعضها أقبح من بعض، أى أحل لكم أن تصرحوا لهن بنحو أجامعك وأطؤك، قال ابن عباس إن الله حيى كريم يكنى، يعنى أن الرفث كناية عن النكاح كالألفاظ السابقة، وقد قال ابن عباس النيك تصريح بالجماع وذلك أنه أنشد وهو محرم آخذ بذنب بعيره يلويه
وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا
فقال له حصين بن قيس أرفثت؟ قال له الرفث ما كان عند النساء، فتراه سلم أنه صرح به لكن عند غير النساء. ولميس امرأة بغى فيما قيل. والبيت لغيره حكاه حكاية ولم يعنه، وقال ابن إسحاق الرفث كل ما يأتيه الرجل مع المرأة من قبلة ولمس، قال غيره أو كلام فى هذا المعنى، وعداه بإلى لتضمنه معنى الإفضاء، واختار بعض الرفث الدال على القبح وذكر فى المواضع الأخرى الإفضاء والتغشى والمباشرة والملامسة والدخول، وإتيان الحرث واللمس والاستمتاع والقرب، لتقبيح ما ارتكبوه من الجماع ليالى الصيام قبل أن يحل لهم، ولذلك سماه خيانة، وذلك أنهم كانوا فى صدر الإسلام يصومون من العشاء أو من النوم إن ناموا قبل العشاء المغرب، فلا يأكلون ولا يشربون ولا يجامعون إلا بين المغرب والعشاء إن لم يناموا، فأحل الله لهم الجماع فى الليلة كلها إلا قدر ما يتطهرون فيه قبل الفجر بقوله { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } ، والليلة جنس، والمراد ليالى الصوم، وبقوله { فالآن باشروهن } ، وأحل الله جل وعلا لهم الأكل والشرب فى الليلة كلها بقوله { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } وذلك كله ناسخ بمرة، فالمراد بالصيام كما مر صيام النهار ولا أثر لبقاء صيام الليل فى قوله { ليلة الصيام } ، قال بعضهم كتب الله سبحانه صيام رمضان على من كان قبل هذه الأمة، لا يأكلون ولا يشربون، ولا يطؤون النساء بعد رقادهم من الليل إلى مثلها من القابلة، وكانت هذه الأمة فى صدر الإسلام كذلك، وكان قوم من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم يصيبون ذلك بعد رقادهم، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية قال عمرو بن العاص إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر "
روى أحمد بن حنبل أن المسلمين كانوا إذا أمسوا أحل لهم الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلوا العشاء ويرقدوا، ثم إن عمر باشر بعد العشاء، وقيل بعد النوم، فقدم وأتى النبى صلى الله عليه وسلم واعتذر إليه، فقام رجال واعترفوا بأنهم صنعوا بعد العشاء، وقيل بعد النوم، فنزلت الآية. قال ابن عباس
" ذلك فى أناس منهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه، جاء إلى امرأته فأرادها فقالت قد نمت أنا، فظن أنها تعتل بذلك فوقع بها، ثم تحقق أنها قد نامت، وكان الوطء بعد نوم أحدهما ممنوعا، فلما اغتسل أخذ يبكى ويلوم نفسه، ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله أعتذر إلى الله وإليك من هذه الخطيئة، إنى رجعت إلى أهلى بعد ما صليت العشاء، فوجدت رائحة طيبة، فسولت لى نفسى، فجامعت أهلى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم " ما كنت جديرا بذلك يا عمر " ، فقام رجال فاعترفوا بمثل ذلك "
، فنزلت الآية. وفى رواية
Unknown page