ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم
أن الله، عز وعلا، لم يزل عالما بأخباركم وخبرهم، وما هم عليه، وأن المعنى حتى نسوقكم إلى سابق علمى فيكم، وقيل أصل الابتلاء الاختبار، سمى به التكليف لأنه شاق على البدن، والظاهر ما ذكرته أولا لكونه من مادة البلا، وإبراهيم اسم عجمى قبل معناه أب رحيم، فإما أن يتأصل هذا المعنى فى تلك اللغة، وإما أن يريد أصحابها أن ينطقوا باللغة العربية فى ذلك المعنى، ويقول أب رحيم فلم تطاوعهم ألسنتهم، فقالوا إبراهيم وهو اسم سماه به أبواه تفاؤلا أن يكبر ويلد ويرحم أولاده، وهو إبراهيم بن تاريخ بن تاجور ابن شاغور بن أرغوين فالغ بن غانر بن شالح بن قنيان بن أرفخشد بن سام ابن نوح، وكان اسم أبى إبراهيم الذى سماه به أبوه نارخ، فلما صار مع النمرود جعله على خزانة آلهته، وسماه آزر، وقال مجاهد إن آزر ليس باسم أبيه، وإنما هو لقب. قال ابن اسحاق لقب عيب ومعناه معوج، وقيل هو بالقبطية الشيخ الهرم، وذكر بعض أنه ولد إبراهيم، وقد مضى من عمر أبيه سبع وعشرون سنة، وقيل ولد بالسوس من أرض الأهواز، وقيل ببابل بأرض سواد الكوفة يقال لها كوتا، وقيل بالوازى بناحية الدوا حدود عشكر، ونقله أبوه للموضع الذى فيه النمرود من ناحية كوتا، وقيل كان مولده بحران نقله أبوه إلى أرض بابل، وقال الأكثرون.
ولد فى بلدة النمرود، وكان بين الطوفان وولادته ألف سنة ومائتا سنة وثلاث وثلاثون سنة. والنمرود هو ابن كنعان بن سنحاريف بن سام بن نوح عليه السلام، وفى الحديث ملك الله الأرض أربعة مؤمنين وكافرين فالمؤمنان سليمان بن داود وذو القرنين، والكافران النمرود وبختنصر. وكان النمرود أول من وضع التاج على رأسه وتجبر فى الأرض، ودعا الناس إلى عبادته، وكان له كهان ومنجمون، فقالوا له يولد فى بلدك هذه السنة غلام بغير دين أهل الأرض، ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه، وقالوا إنهم وجدوا ذلك فى كتب الأنبياء. قال السدى رأى النمرود فى منامه كأن كوكبا طلع فذهب منه ضوء الشمس والقمر، حتى لا يبقى لهما ضوء ففزع من ذلك فزعا شديدا، فدعا بالسحرة والكهنة والمنجمين والقافة وسألهم عن ذلك، وقالوا هو مولود يولد بناحيتك فى هذه السنة، يكون هلاكك وهلاك أهل بيتك على يديه. فأمر النمرود بذبح كل غلام يولد فى تلك الناحية تلك السنة، وأمر بعزل النساء عن الرجال، وجعل على كل عشرة رجال رقيبا أمينا، فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها مخافة من المواقعة، وإذا طهرت عزل عنها، فرجع آزر أبو إبراهيم فوجد امرأته قد طهرت من الحيض، فوقع عليها فى طهرها، فعلقت بإبراهيم عليه السلام. قال محمد بن إسحاق بعث النمرود إلى كل امرأة حبلى قريبة الولادة فحبسها عنده إلا أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها، وكانت حديثة السن. قال السدى خرج النمرود بالرجال إلى العسكر، وعزلهم عن النساء خوفا من ذلك المولود أن يكون، فمكث ذلك ما شاء الله، ثم عرضت له حاجة فلم يأمن عليها أحدا من قومه إلا آزر، ودعاه فقال له إن لى إليك حاجة أحب أن أوصيك بقضائها، ولا أبعثك إلا لثقتى بك ألا تدنو من أهلك ولا تواقعها. فقال أنا أشح على دينى منك، وأوصاه بحاجته، ثم بعثه فدخل المدينة فقضى حاجته، ثم قال لو دخلت إلى أهل فنظرت إليها، فلما نظر إلى أم إبراهيم لم يملك نفسه حتى واقعها، فحملت بإبراهيم عليه السلام قال ابن عباس رضى الله عنهما لما حملت أم إبراهيم قال الكهان للنمرود إن الذى أخبرناك به قد حملت به أمه الليلة، فأمر النمرود بذبح الغلمان، فلما دنت ولادة أم إبراهيم وأخذها الطلق خرجت هاربة، وخافت أن يطلع عليها فيقتل ولدها، فوضعته فى نهر يابس ثم لفته فى خرقة، ورجعت فأخبرت زوجها بأنها ولدت، وأن المولود فى موضع كذا وكذا، فانطلق أبوه إلى ذلك الموضع، فرآه فحفر له سربا عند النهر وواراه فيه، وسد بابه بصخرة مخافة السباع، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه.
قال السدى لما عظم بطن أم إبراهيم خشى آزر أن تذبح هى وما فى بطنها، فانطلق بها إلى أرض بين الكوفة والبصرة يقال لها ورقا، فأنزلها هناك فى سرب من الأرض، وجعل عندها ما يصلح لها، وجعل يتعهدها حتى ولدت إبراهيم عليه السلام فى ذلك السرب، وشب وكأنه ابن سنة، فكان يشب فى الشهر شباب غيره فى السنة، وكان من الشباب بحالة مسقطة عنه طمعة الذباحين، ثم ذكر آزر لأصحابه أن له ابنا كبيرا، فانطلق به إليهم. وقال ابن إسحاق لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة وكانت قريبة منها، فولدت فيها إبراهيم وأصلحت من شأنه ما يصلح من شأن المولود، ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها، ثم كانت تطالعه فى المغارة لتنظر ما فعل فتجده حيا يمص إبهامه. قال أبو ورق كانت أم إبراهيم كلما دخلت عليه وجدته يمص إبهامه، فقالت ذات يوم لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من أصبع ماء، ومن أصبع لبنا، ومن أصبع سمنا، ومن أصبع عسلا، ومن أصبع خمرا. قال ابن اسحاق كان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل، قالت ولدت غلاما فمات وصدقها وسكت عنها، وكان اليوم على إبراهيم فى الشباب كالشهر، والشهر كالسنة، فلم يمكث إبراهيم فى المغارة إلا خمسة عشر يوما حتى جاء إلى أبيه آزر، فأخبرته أمه أنه ابنه، وأخبرته بما كانت صنعته، فسره ذلك وفرحت فرحا شديدا. والهاء فى قوله ربه عائدة إلى إبراهيم، لأن إبراهيم ولو كانت فى نية التأخير لأن رتبة المفعول التأخير عن الفاعل، لكن اكتفى بتقدمه فى اللفظ، فساغ عود ضمير الغيبة إليه، لأن شرط ضمير الغيبة أن يتقدم مرجعه لفظا ورتبة، أو لفظا فقط، أو يتقدم ما يدل له، أو يتأخر ما يدل له كقولنا قال تعالى، وقولنا قال صلى الله عليه وسلم، أو يدل عليه حال ما إذا رأيت الناس تشوفوا إلى إنسان قائم، ثم رأيته قعد فتقول لهم قعد. وقرأ ابن عباس، وأبو حنيفة وإذا ابتلى إبراهيم ربه برفع إبراهيم وفتح الباء من قوله ربه ويضعف أن يكون هذا على القلب مطلقا، ولا سيما أنه فى شأن الله، بل على معنى دعى إبراهيم ربه بكلمات. وقرأ ابن عامر أبراهام فذلك لغتان، وفيه لغة ثالثة وهى أبراهم، بإسقاط الياء، ورابعة وهى كذلك بضم الهاء، وخامسة وهى كذلك لكن بفتحها، وسادسة بإسقاط الألف قبل الهاء وإسقاط الياء بعدها وبفتح الهاء، وسابعة أبرهوم بإسقاط الألف وبضم الهاء وواو ساكنة بعدها، والكلمات على قراءة ابن عباس وأبى حنيفة هن مثل قوله
أرنى كيف تحيى الموتى
وقوله
اجعل هذا البلد آمنا
وقوله
واجنبنى وبنى أن نعبد الأصنام
أى أبناء صلبه، وعليها فالضمير المستتر فى قوله جلا وعلا { فأتمهن } مستتر عائد إلى الله سبحانه، أى أتمهن هو أى ربه أى أعطاه إياهن، أى أعطاه مضمونهن، وأما على قراءة نصب إبراهيم، وضم الباء من قوله ربه فالضمير المستتر فى أتمهن عائد إلى إبراهيم، أى فقام إبراهيم بمضمونهن على الكمال حق المقام، والكلمات هن الخصال الثلاثون المحمودة التى الزمه الإتيان بهن، وهن التوبة والعبادة، والحمد والسباحة، والركوع والسجود، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والحفظ لحدود الله، وتبشير المؤمنين، والإسلام والإيمان، والقنوت والصدق والصبر والخشوع، والتصدق والصوم، وحفظ الفرج وذكر الله كثيرا، والخشوع فى الصلاة، والإعراض عن اللغو، وأداء الزكاة، ورعى الأمانة ورعى العهد، والمحافظة على الصلاة والتصديق بيوم الدين، والإشفاق من عذاب الله، والقيام بالشهادة والاعتناء بالصدقة على السائل والمحروم عشرة فى قوله
Unknown page