وقرأ المنصور بنصه على المدح، ونفى أيضا الولادة عن نفسه تعالى بأن إيجاد الولد يكون بالانتقال من صفة إلى صفة، ومن حال إلى حال وبمهلة، وفعله تعالى يستغنى عن ذلك كما قال { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } أى إذا أرد شيئا فإنما يقول له احصل فيحصل، ولا يحتاج إلى علاج فى حصوله، ولا إلى شئ، لكن يقول له كن فيكون، مع أنه ليس المراد حقيقة القول ولا حقيقة الأمر، وامتثال الأمر بالمراد حصول ما أراد حصوله بلا مهلة كما يمتثل المأمور المطواع ما أمر به بلا توقف، فشبه تعلق إرادة الله تعالى بحصول الشئ بتعلق أمر الآمر بالمأمور المطواع المبادر إلى الامتثال، ومن كان بهذه الصفة من حصول كل ما أراد بمجرد إرادته لم يحتج إلى الولادة المرتبة شيئا فشيئا، وباينت حاله حال الأجسام المتوالدة، وكان غنيا عما يحبه الناس أن يحصل لهم من أولادهم، فهذا تقرير لمعنى الإبداع، كما أنه نفى للولادة، وقد علمت أنه لا خطاب هناك حقيقا، وقيل يخلق لفظة كن فى غير جسم أو فى جسم من الأجسام بعد حصول بعض الأحسام، فيأمر بها ما أراد وجوده من العدم، ولو شاء لأوجده بدون ذلك.
وإن قلت فكيف يخاطب المعدوم؟ قلت خاطبه على هذا القول بكن. لأنه عنده تعالى معلوم، فاللام فى له هى لام الخطاب الآتية بعد القول، كقولك قلت لزيد قم، وهى للإبلاغ، ويصح أن تكون للتعليل، أى يقول لأجل الشئ الذى أراد حصوله كن، أو بمعنى فى، أى يقول فى شأنه كن. والفاء فى قوله فيكون للعطف على يقول كقولك أقول للجمل ائت فيأتى، تعنى أنه يترتب إتيانه بلا مهلة على قوله ائت ويتسبب به، أو للاستئناف ومجرد الفريع، بمعنى فهو يكون. وقرأ ابن عامر فيكون بالنصب عطفا لمصدر المنسبك بواسطة أن المصدرية المحذوفة على مصدر مقدر من يقول، أى فإنما يحصل منه قوله للشئ كن فيكون من ذلك الشئ. وقد تقرر جواز الرفع والنصب بعد جواب الشرط، فإن كان جاز ما زاد جواز الجزم، وأما النصب إذا نصب يقول كما فى يس فبالعطف على لفظ يقول. قال أبو عمر والأندلوسى الدانى قرأ ابن عامر فتكون بالنصب فى البقرة كن فيكون، وفى آل عمران فيكون ويعلمه، وفى النحل ومريم ويس وغافر، وتابعه الكسائى فى النحل ويس فقط، والباقون بالرفع، وليس النصب عندى فى جواب الأمر، لأن حصوله لا يتسبب عن لفظ كن، لأن المقصود به اللفظ كما هو شأن المحكيات بالقول، وكن فيكون من الكون الذى يكتفى بالمرفوع، وأصل القضاء إنفاذ الشئ والفراغ منه بالقول، كقوله تعالى
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه
أو بالفعل كقوله سبحانه
فقضاهن سبع سماوات
واستعمل هنا بمعنى الإرادة لأن إرادة الله الشئ تستلزم وجوده استلزاما خارجيا، وإرادة المخلوق الشئ تستلزم وجوده استلزاما بيانيا، فعبر باللازم وهو مسبب وأراد الملزوم وهو سبب، فقضى مجاز مرسل تبعى، هذا الذى ذكرته هو التحقيق وذكر بعض أن قضى هنا يجوز أن يكون بمعنى قدر، وأن يكون بمعنى أمضى، والأمر واحد الأمور، كما تقول أمر من الأمور، تعنى شيئا من الأشياء، وليس المراد أمرا من الأوامر التى هى ضد المناهى، والله سبحانه وتعالى قادر فى الأزل بلا أول قبل وجود المقدورات وبعد وجودها، وعالم بما سيكون فى الأزل بلا أول، ولا تقل أمر للمعدومات فى الأزل بالوجود الأعلى معنى سيأمر بوجودها، وتقول قضى بأنها ستوجد.
[2.118]
{ وقال } للنبى صلى الله عليه وسلم. { الذين لا يعلمون } هم مشركو العرب فى عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عند ابن عباس رضى الله عنهما والربيع والسيد، وفى رواية عنه رضى الله عنه هم من كان على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من اليهود، لأن رافع بن خزيمة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعنا كلام الله. وقال مجاهد هم النصارى، قلت هم مشركو العرب وجاهلو اليهود ومتجاهلوهم، وجاهلو النصارى ومتجاهلوهم، وقد طلب عبدالله بن أمية وغيره من العرب من النبى، صلى الله عليه وسلم، أن يسمعوا من الله الكلام، تعالى الله عن كل شبيه ونقص، ومرادى بالمتجاهل من يجعل نفسه فى صورة الجاهل ومن يفعل فعل الجاهل. { لولا يكلمنا الله } هل يكلمنا الله عيانا بأنك يا محمد رسول من الله، ولولا هذه للتخصيص. { أو تأتينا آية } من الآيات التى نطلبها منك، كتوسيع الجبال عن مكة، وإحياء قصى فيخبرنا بأنك رسول من الله ونحو ذلك، وهذا منهم إهانة بآياته، صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته وعدم الاعتداد بهن، فإنهن لسن ناطقات برسالته حتى طلبوا غيرها، وذلك عناد ومكابرة، كما أن قولهم لولا يكلمنا الله استكبار ترفعوا عن أن يكون محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم فتعللوا بطلب أن يكلمهم الله برسالته، ويجوز أن يكون مرادهم لولا يكلمنا الله كما يكلم الملائكة، وكما كلم موسى، ولولا كلمنا الله كذلك لكنا مؤمنين بك. { كذلك قال الذين من قبلهم } لأنبيائهم. { مثل قولهم } من التعنت بطلب ما تسولهم به أنفسهم من الآيات، وإلقاء ما جاءت به رسلهم من الآيات، وهم كفار الأمم، قبل اليهود والنصارى ومشركى العرب المعاصرين له، صلى الله عليه وسلم، وهم أسلاف اليهود والنصارى، ومن قال الذين لا يعلمون هم اليهود، فالذين من قبلهم هم أسلافهم وأسلاف النصارى، ومن تقدمهم من أمم الكفر، كقوم إبراهيم وقوم لوط وقوم صالح. ومن قال الذين لا يعلمون هم النصارى، فالذين من قبلهم أسلافهم وأسلاف اليهود ومن تقدم من أمم الكفر. ومن قال الذين لا يعلمون هم العرب، قال الذين من قبلهم هم اليهود والنصارى ومن تقدم من أمم الكفر، ومن كلام اليهود أرنا الله جهرة، ومن كلام النصارى هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ ومن كلام العرب قولهم لصالح عليه السلام أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء. { تشابهت قلوبهم } أى قلوب هؤلاء الذين لا يعلمون، القائلين لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية، وقلوب الذين من قبلهم القائلين مثل قولهم، ووجه الشبه العمى والفساد فى القلب، فتولد منه القول الباطل، أو وجه الشبه هو طلب ما لا يجوز لهم طلبه والكفر، وقوله { تشابهت قلوبهم } هو مثل قوله { أتواصوا به } وقوله { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم بالإخبار بأنه قد قيل للرسل قبله مثل ما قيل له، ليصبر كما صبروا، وقرئ تشابهت بتشديد الشين أصله تتشابهت أبدلت التاء شينا أدغمت فى الشين.
{ قد بينا الآيات لقوم يوقنون } أى قد أوجدنا من الآيات ما ينطق برسالة محمد ويوضحها لقوم قضى الله لهم بأنهم يوقنون، أو لقوم يوقنون الحقائق مطلقا، لا يخالطهم عناد ولا شبهة، أو لقوم يطلبون اليقين، وأما هؤلاء الذين تشابهت قلوبهم فإنما كفروا عنادا لا لخفاء فى الآيات، إذ هن بينات لكل ذى عقل غريزى، فهن يكفين كل من يعقل كل الكفاية حتى لا يطلب سواهن إلا ليزداد إيمانا، فقد علمت من كلامى جواز أن يرد بقوم يوقنون المسلمون رضى الله عنهم، وأن يراد كل من يعقل ويدرك معنى الخطاب وتيقنه، فإن الإيقان واليقين لا يختصان بالمسلم ولا بالموحد، لأن حاصله إدراك الأمر بلا شبهة، فقد يكون للكافر فى الآيات ويكفر عنادا، والمراد بالآيات آيات القرآن وسائر معجزاته، صلى الله عليه وسلم، وقال غيرى ممن تقدم من المفسرين المراد بالقوم الموقنون المسلمون، خصوصا وأن اليقين صفة لعلمهم خصوصا، وأن الكلام مدح لهم، وإن قلت كيف يقال أيقن بمعنى طلب اليقين؟ قلت صح، من باب قولك أعرق بمعنى دخل العراق، فإن من طلب اليقين فهو داخل فى شأن اليقين إذا اعتنى باكتسابه.
[2.119]
Unknown page