وبلغت القمة، وتناولت قدحا من الشاي، وجلست مستندا إلى بقية جدار لعله أثر من بناء القبة التي هدمها الوهابيون ليحولوا بين الناس وبين التبرك بها، لما يرونه في هذا التبرك من معنى تقديسها، وأقام أصحابي معي هنيهة ثم تركوني وذهب كل في ناحية من شعاب الجبل يستطلع ما قد يحتويه جبل النور من آثار لا يحتويها غيره من الجبال، وتركت لخيالي العنان وأنا في عزلتي هذه، فتمثل لي الرسول الكريم جالسا حيث أجلس، مشتملا في نظره هذا الكون العظيم المحيط به متأملا، مفكرا فيما يرى وفي دلالته، ترى ما بال أهل مكة لا يجيء منهم من يتعبد في حراء طول شهر رمضان كما كان النبي يفعل قبل بعثه؟ أليس لنا معشر المسلمين في رسول الله أسوة حسنة؟! وهل لمكان أن يعين المعتزل على التفكير وعلى التأمل ما يعينه هذا المكان من حراء؟! فهو بعيد عن ضجة الحياة وضوضائها، قريب من الحياة ومن كل ما فيها، فيها يعكف الإنسان على نفسه ما شاء، ويتصل بالكون وبخلق الله ما أراد، ليست هذه القمة صومعة تحجبنا عن الحياة وتحجب الحياة عنا، ولسنا فوقها رهن محبس تحيط به الجدران، أو كهف غائر في الصخور؛ إنما هي مرصد يطالع الحياة وتطالعه، تبزغ الشمس عليها ساعة تشرق وتنحدر عنها ساعة تغيب، وتتألق النجوم ويحبو البدر في السماء، وتهوي الشهب وتنتطح السحب، وهي شهيدة على هذه الأحداث كلها، فأين يجد المعتزل مثل هذا المرصد يرى منه ما يشاء من غذاء الروح وأسباب التفكير والتأمل؟!
فإذا هو أقام من كل سنة شهرا كاملا صائما منقطعا عن تجارة الحياة إلى التفكير فيما يرى آناء الليل وأطراف النهار، وإلى التأمل في مشاهد هذا الكون المترامي الأرجاء إلى حيث يقصر النظر، وإن بلغ من القوة والدقة نظر زرقاء اليمامة، وإلى حيث تسلم المحسوسات لقوة الإنسان العاقلة أسرارها، فليس من ريب في أن يصل من معرفة هذه الأسرار إلى نتائج باهرة، إنه لن يكون نبيا ولن يبعثه الله رسولا، فمحمد - صلوات الله وسلامه عليه - خاتم الأنبياء والمرسلين، لكنه يصل من طريق العلم بالمشاهدة والملاحظة والترتيب والاستنباط إلى خير ما يصل إليه مشاهد من مرصد يسجل حركات الأفلاك وموج ما في السماء، وإلى خير ما يصل إليه من يسجل نتائج اتصال الإنسان بالكون في أسمى مراتب الاتصال، وهو إلى ذلك وما يزاوله من ألوان الصوم وكبت هوى النفس وشهوات الجسد يصل بالروح إلى درجات الطهر والتنزه والسلطان على المادة وعالمها دون أن يكون للمادة أي سلطان عليها.
ما للمسلمين من أهل مكة، وما للمسلمين ممن يقصدون إلى مكة للحج أو لعمرة رجب، لا تميل بهم الأسوة إلى معالجة هذه الرياضة العقلية والروحية ولها في تهذيب النفس أكبر الأثر، ولها من النتائج في العلم ما أشرنا إلى شيء منه؟ وأي تهذيب للنفس كاتصال الإنسان بالكون في مثل هذا المنقطع الرفيع فوق حراء اتصالا يسمو به المرء فوق حاجات الحياة، ويرى أثناءه في شظف العيش وفي الغنى بالنفس عن كل شيء ما يزيده إيمانا بالله وحده، وبأنه دون سواه تجب له العبادة، باسمه يسبح من في الأرض جميعا ومن في السموات! وهل شيء غير مشاهد الكون تقوم عليه النتائج العلمية؟ إنما تقوم هذه النتائج على ما في السماء والأرض، في الضحى، والليل إذا سجا، والنجم إذا هوى، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والجبال وما أرساها، والهواء في مسراه، والماء في مجراه، والحب إذا نبت، والصخر إذا تفتت، والضوء إذا تحلل، والمطر إذا ترقرق، والريح إذا اصطفقت، والنفس إذا سكنت لأمر ربها وفكرت، أي شيء غير هذا هو العلم في أحدث صورة أثمرتها حرية الفكر؟! وهل طريقة علمية أدق من هذه الطريقة لمعرفة سنن الكون وما ينطوي عليه؟!
إنما يرغب المسلمون اليوم عن هذه الأسوة الحسنة؛ لأنهم انحرفوا عن أمر الروح الذي يكيف المادة وأذعنوا لسلطان المادة يكيفها غيرهم بقوة عقله وروحه، ولأنهم آثروا راحة التقليد على عناء الاجتهاد، ولأنهم نسوا أن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويجب عليه لذلك أن يهب من نفسه لإخوته المؤمنين، فتولت عليهم الأثرة، وصار ما يرضي الأثرة من ابتغاء المال والجاه وما إليهما كل شيء عندهم، وأنى لمن هوى إلى هذا الدرك أن يفكر في الحقيقة ينقطع لها ويجعل العلم سبيله إلى إدراكها، وأن يحمل نفسه على نشر نورها يستضيء به الناس جميعا، وهو لا يريد العلم إلا لنفسه، ولا الحقيقة إلا لنفسه، ولا الحياة إلا لنفسه، ولا المال إلا لنفسه، ولا السلطان إلا لنفسه؟! وأنى لمن هوى إلى هذا الحضيض أن يدرك ما في بذل النفس لهدى الغير من سمو يتضاءل أمامه الجاه والمال والسلطان، ويصبح الفقر معه فخرا، وتصبح الفضيلة معه لباس المتقين؟! والناس متى هووا في هذا المنحدر فاتهم معنى العبادة على وجهها الحق، ففاتهم أن العمل عبادة، وأن العلم عبادة، وأن هداية الناس عبادة، وأن البذل للمحتاج من مال أو علم أو شفقة وبر عبادة، وأن الله يقبل عبادة من يؤثر على نفسه راضيا عنه.
فأما الأثر الذي لا يعرف إلا نفسه ففي حاجة إلى أن يطهر نفسه قبل أن يطمع في مغفرة الله له، وفوت هذا المعنى قد جعل الناس يحسبون أن خير العبادة ما كان في هياكل فخمة العمارة ذات محاريب وأبراج تأخذ روعتها بالنظر، وينسون أن خير العبادة ما توجه الإنسان فيه بكل قلبه إلى الله، ناسيا نفسه، محبا في الله إخوانه، مستعينا ربه، كانت عبادته في هيكل مشيد، أو كانت في فضاء الله وبين خلقه الذي لم تعد عليه يد الإنسان.
والمسلمون يرغبون اليوم عن هذه الأسوة الحسنة؛ لأنهم لا يطيقونها، فالوحدة للتفكير ابتغاء الحقيقة إنما يطيقها ذوو الأرواح القوية، هؤلاء يتلمسونها تلمسا ويتخذونها ملجأ من ضعف الجماعة وأفنها، يرى أحدهم ما تخب الجماعة فيه وما تضع من ضلال يبعدها عن الطريق السوي، طريق الحق والخير والجمال، فيزور عنها، ولا يجد في غير العزلة موئله، وفي غير التفكير أثناء هذه العزلة وسيلة خيرها وصلاحها، ومنهم من يذر بيئته إلى بيئة أخرى ليست منه وليس منها فلا سلطان لها عليه، وقد يفيد من الاتصال بها، وهو أثناء مقامه بها في عزلة عما ألف، تفتح له الحرية من أبوابها ما كان مقفلا في جماعته، ومنهم من لا يرى في الجماعة الإنسانية مظهر الحق، ويراه في أطواء النفس ودخيلة القلب، فهو ينقطع عن الناس وينظر في الكون كله ويعود بنظره إلى صورة هذا الكون مرتسمة في أعماق وجوده ترشده إلى الحق وتضيء أمامه بنوره، فأما الأولون الذين يتلمسون الحق عند الناس من غير ذويهم فهم أقوياء، لكنهم عاجزون عن مواجهة الوجود فهم يريدون الحق عند جماعة يحسبونها أرقى من جماعتهم، ويريدون أن يحملوا جماعتهم على تقليد من يحسبونهم أدنى إلى الكمال وأبعد عن الضلالة، وأما الذين يرجعون إلى أنفسهم يتلمسون الحقيقة في أعماقها فأولئك هم الأقوياء حقا، وهم الذين يقدرون النفس الإنسانية قدرها الصحيح، والذين يتوجهون إلى القوة العليا التي برأتهم وكان الروح من أمرها يرون فيها الحق لا حق إلا هو، ويتأملون في خلق الله سنة الله فيه؛ فإذا اهتدوا اهتدت الإنسانية بهداهم وسعدت برأيهم.
ليس يطمع أحد في أن يؤتيه الله من هذه القوة ما أوتي محمد
صلى الله عليه وسلم ، وقد حاول أفراد في مختلف الأمم أن ينقطعوا عن العالم، فإذا هم قد انقطعوا عنه إلى غير أوبة إليه، فمنهم من ضل عنه عقله ولم يثب إليه رشاده، ومنهم من هجر العالم فرارا من آلامه، ومنهم من أخذ عن الجماعة الإنسانية ببدائع الطبيعة، ومنهم من فني في الخالق - جل وعلا - وهام به ونسي أن هدى الناس خير ما يرضي الخالق، وقليلون منهم عادوا إلى الإنسانية بحقائق أضاءت سبلهم فساروا على هداها، وهؤلاء هم الذين اتبعوا سنة الرسول.
لكن الله لم يؤت أحدا ما آتى عبده ونبيه ورسوله، فلم ينطبع العالم في نفس بالقوة التي انطبع بها في نفس محمد، ولم تصل الرياضة الروحية بأحد، ولن تصل بأحد، إلى الرؤيا الصادقة التي انتهى إليها قبيل بعثه وبعد أن قضى السنين يتعبد شهرا كل عام في حراء، ولقد ظل محمد طوال حياته مشغوفا بالوحدة، تطمئن إليها نفسه القوية، ويستمد أثناءها من ربه نور الهدى، حتى تنزلت عليه كلمة الله وحيا ونورا.
ومن هذه القمة التي كان الرسول يتعبد فوقها متخذا إياها المرصد الروحي لتلمس الحق في الحياة، يرى الإنسان منظرا يدله على أن المسلمين لم يكفهم أن لم يطيقوا أسوته - عليه السلام، بل نسوها، وتعلقوا بالعرض دون الجوهر، وبالقشور دون اللب، لست أقصد إلى أنهم أقاموا قبة يتبركون بها حيث كان الرسول يتعبد وظلوا على ذلك حتى هدم الوهابيون هذه القبة، فلا عجب أن يقام في هذا المكان الخالد الذكر بالحادث الذي خصه القدر به تذكار ينبه الغافل إليه، فأما البركة الحقة ففي العبادة وفي التقوى، بل أقصد أن تفكيرهم هوى إلى أسفل من هذا الدرك بمراحل، ومن ذلك أن ثمة شقا في قمة حراء يجري حوله جدل أشار إليه صاحب «مرآة الحرمين» ورده على أنه غير صحيح، وهو جدل، لا غناء فيه، عن هذا الشق وأصله، ومداره: هل شق الملكان صدر النبي في هذا المكان وطهراه وأسالا ماء الطهور من هذا الصدع في الجبل؟
Unknown page