ما أكبر الفرق بين هذا التفكير ممن يقف على قمة حراء وتفكير الرسول حين تعبد فوقها قبل بعثه! لقد كان يتلمس الحقيقة وكان يراها في خلق الله مما حوله وكان يجاهد لاختراق حجب الحياة إليها حتى أسلمها الله إليه بالوحي كاملة، كانت حقيقة العالم وخلقه وخالقه هي التي تشغل روحه، وهي التي تصرفه عن تجارة الحياة وطعامها وشرابها وتنسيه كل شيء فيها، لم يكن يعنيه أن يزداد ارتفاع جبل على جبل، أو أن يكون في شعب من شعاب الجبل شق أو نتوء لا شبيه له في الشعب الآخر، بل كان متعلقا بما هو أسمى من هذا وأرفع مكانا؛ كان يبحث عن الكون وعن الزمان والمكان فيه، وعن منشئ ذلك كله. أما اليوم فينصرف أكثر المسلمين عن هذا السمو الفكري، ويتعلقون بروايات تصح أو لا تصح ويجعلونها علة لخلافهم ونضالهم ولإقامة الفرق والشيع المتناحرة بينهم، بل لرمي بعضهم بعضا بالمروق والكفر.
كانت الشمس تنحدر إلى ناحية المغيب، فيجلو انحدارها قطوب الجبال ويكسو السفوح الظليلة سلاما وسكينة، وكان أصحابي يدورون في شعاب الجبل ويعود أحدهم الفينة بعد الفينة فيراني منصرفا عنه إلى ما حولي لا أوجه إليه كلمة، فيرتد إلى إخوانه، فلما طال بهم الأمد ورأوا المغيب زاحفا علينا، نبهني أحدهم فاستمهلته رويدا وهبطت وإياه إلى الغار، غار حراء، ورجوته أن يدعني هنيهة إلى نفسي، ووقفت بين هذه الصخور الضخمة قبالة الجحر الموحش في الجبل القفر، وقد تسللت إليه الظلمة فزادته وحشة وقفرا، ووقفت وحيدا مفكرا أتخطى بذهني القرون إلى الماضي وقد امتلأت نفسي بصورة ذلك اليوم الفذ في التاريخ، يوم نزول الوحي الأول، ونسيت كل ما حولي، وخيل إلي أنني أرى، نعم!
رأيت محمدا متمطيا في الغار الموحش وعلى محياه الجميل سيما الرضا وكأنما يتقلب من هذا الصخر في فراش وثير، وإني لأحدق في قسمات وجهه وقلبي كله الرضا والحب، إذ رأيت هذا الوجه أضاءه نور لألاء زاده جمالا، ورأيت ابتسامة مطمئنة ترتسم على ثغر تنم شفتاه الرقيقتان عن معاني التأمل وعظيم الأمل، وأخذت بما رأيت، وازددت بصاحب الوجه المنير شغفا، وفي قسماته الحلوة تحديقا، وفيما أحدق شعرت أن الجبل كله يهتز، وبهرني من الغار نور لم تطق عيناي ساطع ضيائه، سمعت صوتا ملائكيا يهيب بالمتمطي في الغار: «اقرأ» ويجيب محمد في صوت مرتعش ونبرات تهتز من الخوف: «ما أقرأ» والنور الساطع والبهر يتولاني من كل مكان، وأحس الفزع يجري في عروقي، وأحاول الفرار فتخونني قواي، وأسمع الصوت الملائكي مرة أخرى يهيب بمحمد: «اقرأ» ومحمد ملؤه الخوف والوجل يجيب بصوت من أرسل بعد اختناق: «ما أقرأ» ويكرر الصوت الملائكي: «اقرأ» ويشعر محمد أنه لم يبق في ملك نفسه وأنه لا مفر له من أن يقرأ أو يظل صاحب الصوت يخنقه ويرسله، فيجيب: «ماذا أقرأ؟» ويتلو الصوت الملائكي:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم . ويتلو محمد هذه الآيات من بعده.
خيل إلي وأنا في موقفي من الغار أني أرى هذا المشهد الفذ في التاريخ، وأني أسمع هذه الأصوات لم أسمع قط مثلها، وصفدني الفزع مكاني وأقمت أنتظر ما يكون من بعد، فإذا النور الباهر يترفع، ومحمد في الغار يتصبب عرقا ويدور بنظراته فيما حوله ويهتز مضطربا من رأسه إلى أخمصه ثم يفرك عينيه ويمسح بيده جبينه العريض المضيء - سمة من يخشى مكروها أصابه - ويزداد به الرعب فينطلق من الغار هائما في شعاب الجبل لعل في هوائه ما يدفع عنه روعه، ها هو ذا يقف منصتا كأنما يناديه مناد من السماء، إنه الصوت الملائكي الذي كان يحدثه في الغار، وهو يحدق في مصدر الصوت، ويرى صاحبه فيزداد فزعا ويقفه الرعب مكانه وهو يلقي بنظره إلى الجبل ويصرف وجهه يمنة ويسرة ، ثم لا ينفك يسمع ويرى، ليست حواسه إذن مصدر سمعه ورؤيته، إنما مصدرهما روحه؛ وهو مع ذلك يراه لأنه تجلى بإذن الله له ولم يتجل لغيره، وهو من بعد في فزع يتقدم في شعاب الجبل ويتأخر ولا يبرح يسمع الصوت الملائكي ويرى صاحبه، ما أشد هذه الساعة هولا! وهي مع ذلك للإنسانية ساعة النور والرحمة والهدى!
رآني أصحابي واقفا في شعاب حراء على مقربة من فوهة الغار، فأقبل علي أحدهم يسألني أن نهبط الجبل قبل أن تدهمنا الظلمة وقد آذنت الشمس بالمغيب، وأفقت لسماع صوته مما كنت فيه، وطلبت إليهم أن يأتوني بشربة ماء، وتناولت القدح وشربت من ماء «الجعرانة» المثلوج فأعادني شربه إلى الحياة المحيطة بي، وتهيأت للهبوط، فجمعت قوتي، وبدأنا جميعا ننحدر في الطريق المتعرج و«التكروني» يتبعنا دون أن ينبس ببنت شفة، ولقينا رجل من الهنود وامرأته يصعدان، فسألانا في لكنة أعجمية عما بقي إلى القمة، وجعلنا نتلوى يمنة ويسرة منحدرين دون أن تكون بنا حاجة إلى الوقوف لنستريح، ففي نسيم هذه الساعة التي تتلو المغيب ما ينعش ويريح.
وألفيت صاحبي المكي الذي وقف دون القمة قد سبقنا إلى أسفل الجبل، فلما رآني سألني عن حالي واعتذر عن تخلفه في الطريق بجرح أصاب به الصخر قدمه، وأقلتنا السيارة إلى المأوى وصلاة العشاء تكاد تؤذن، وشعرت وأنا أصعد الدرج إلى مخدعي أن بفخذي وساقي ألما، وأفضيت إلى مضيفي بما أشعر، فسألني: ما عسى كان الرسول
صلى الله عليه وسلم
يفعل؟! قلت: ألف الجبال وتصعادها، وأحب خشونة العيش وشظفه، فما يشق اليوم علينا كان رياضة له، وما يعجزنا اليوم كان في متناول يده، حياتنا متاع وغرور، وحياته متاع روحه ورضا ربه، والرجل لا يمتع غروره في ناحية إلا على حساب الأخرى، يمتع غروره بقوة عضله على حساب عقله أو على حساب روحه، ويمتع غروره بكثرة ماله على حساب خلقه أو حساب كرامته، أما متاع الروح بما يرضي الله فلا ضعف فيه، وهو القوة على كل شيء، ومتاع الروح الرياضة ؛ رياضة الجسم بالسعي في مناكب الأرض، ورياضة العقل بتدبر ما في الكون، ورياضة القلب بالحب والإخاء، وذلك بعض ما رأيت وأنا فوق حراء، وبعض ما شعرت به وأنا أنحدر عنه.
وبكرت إلى مضجعي حتى أهبني مؤذن الفجر عنه، وجلست بعد الصلاة أفكر في حراء، وفي الغار، وفي الملك، وفي رسول الله
Unknown page