واستدرنا في تصعيدنا إلى الفيء، وسرت إلينا نسمات منعشة أشعرتنا بنشاط كان وشيكا أن يفتر، وجلسنا ننعم بهذا النسيم ونعد العدة للوثبة الأخيرة إلى القمة، ما كان أحوجني إلى هذه الجلسة! كانت أنفاسي تضطرب وصدري يعلو ويهبط فيكاد يمزق أضلاعي، والعرق يسيل من كل مسام جسمي ويبلل كل ملابسي، وأمسكت لا أتفوه بكلمة، وفتحت خياشيمي أستنشق النسيم بكل قوة ألتمس هدوءا لصدري واستعادة لسكينة نفسي، وقال أحد أصحابنا من أهل مكة وقد طاب له المكان الظليل: إني ناظركم هنا حتى تعودوا من القمة، فلم يعد في مستطاعي أن أصعد، ولعله أراد أن يمتحن صبري ويبلو احتمالي، وكيف لي أن أقف دون غاية قصدت إليها ما بلغ الجهد مني، ولست أدري متى يتيسر لي أن أعود إلى مكة؟ ولهذا الجبل وللغار من السحر في قلبي والسلطان على مشاعري ما يهون معه كل جهد وتطيب به كل مشقة! ولم تك إلا دقائق حتى رأيتني أكثر نشاطا وقد اطمأن صدري، وعادت إلى نظامها أنفاسي، وسرت إلى فؤادي مع النسيم بهجة لم أشعر من قبل بمثلها، وخلفنا صاحبنا وقمت ومعي رجلان يحمل أحدهما الماء المثلوج ويحمل الآخر الشاي الساخن في «ترمذين» كانا لمثل هذه الرحلات خير عون.
وانطلقنا مصعدين نتيامن ونتياسر مع الطريق خلال شعاب الجبل، وقد جددت الراحة نشاطنا، وزاد فيه الظل والنسيم، وقواه اقتراب الغاية والثقة بالنجاح في إدراكها، وتلفت بعد فينة، فإذا ورائي عبد أسود ناداه أحد الرجلين اللذين معي: يا فقي! وحسبت أنه يعرفه، ثم علمت أن العبد من التكارنة الذين يقيمون ألوفا بمكة، وأن هذا اللقب يطلق على كل فرد منهم، وأنهم يلتمسون مثل هذه الفرصة لمعاونة صاعد متعب لعلهم ينالون منه بلغة يومهم، ولم أكن في حاجة بعد ما نلت من الراحة إلى معونته؛ ولكنني اطمأننت إليه وأنست بوجوده إلى قدرتي على تحقيق غايتي، وازدادت قدماي قوة في الصعود والتسلق، وزادني أنسا إليه أنه لزم الصمت ولم يشارك من معي في الحديث، فدل بذلك على أنه لا يبتغي غير بذل العون لمن يحتاج إلى عونه.
ودعاني صاحباي إلى الجلوس كيما أستريح، وإني لأحاورهما مترددا إذ سرى على النسيم إلى سمعنا صوت ذلك الشاب الذي اختزل الطريق إلى القمة يهيب بنا أن هلموا، ورفعت بصري كيما أراه فإذا بالجو ينكشف، وإذا ما حولي أكثر ضياء، وإذا الشاب قد تسنم مكانا زعم أنه الغاية التي جعلناها مقصدنا، وأزال ما رأيت ترددي، فلم أجلس ولم أعبأ بما عاودني من البهر، وتابعت تسلقي وأنا أستدير حول صخرة حينا وأقف مكدودا بين صخرتين هنيهة، وطالعتنا الشمس كرة أخرى؛ لكن أشعتها تسربت إلينا من ناحية القمة فكانت بشير الفوز، وزادت عزمنا مضيا، وحرصنا على بلوغ الغاية قوة، والشاب ما يفتأ يهيب بنا ويثير حميتنا، ونحن نتسلق ثم نقف، ونقف ثم نتسلق، حتى انفرجت الشعاب والصخور أمامنا على سطح مستو اندفعنا إليه مطمئنين إلى أنا إذ بلغناه قد صرنا من القمة والغار على بضعة أمتار.
وليس استواء هذا السطح من عمل الطبيعة، وهو لم يكن مستويا أيام كان محمد يصعد حراء للتحنث فوقه؛ إنما سواه الناس حين كان الألوف من الحجيج يصعدون يبتغون القبة المشيدة على القمة للتبرك بها، سووه ونقروا فيه صهريجا يختزن مياه المطر، وأقاموا عنده مقهي يستريح الناس إليه ويتناولون طعامهم فيه إذ يصعدون لزيارة القبة، فلما هدمها الوهابيون وانقطع الناس عن الصعود أقفر المكان من المقهى، ولم يبق من يعي بأمر الصهريج وما يجيء من الماء إليه، لكن السطح بقي مستويا كما كان، وبقي الذي يصعدون ابتغاء الغار يقفون عنده، يستريحون إلى فيئه ويستجمون مما أرهقهم من الصعاب مستندين إلى جدرانه، وكذلك فعلنا، فلما اطمأنت أنفاسنا إلى صدورنا درنا في المكان نرى الصهريج وبضع الدرجات التي ينزل الإنسان بها إليه، ونرى استواء الجدران حيث كان المقهى، ونلقى في هذا المكان الموحش، بعد أن خلا من كل مؤنس، آثار أولئك الألوف الذين كانوا يتسلقون إليه ويجلسون في مقهاه منشرحة صدورهم؛ لأنهم يؤدون واجبا مقدسا، منفرجة شفاههم عن آي الغبطة يرجون رحمة الله ورضا رسوله عما قدموا بين يدي نجواهم من صدقات حين جاءوا بيته ملتمسين مغفرته وعفوه.
وارتقينا من هذا السطح عشرين مترا أو نحوها، وبلغنا القمة التي كانت تقوم القبة عليها، وهنالك انكشف لنا الوجود المحيط بنا كله، فهذه القمة أعلى حراء، وهي ضيقة لا يزيد مربعها على الثلاثين أو الأربعين مترا، وهي مكشوفة لا يحيط بها صخر ولا يحجب الناظر منها إلى ما حولها حجاب، وتبدو سلاسل الجبال المحيطة بحراء من جهاته الأربع كأنها كلها دون هذه القمة ارتفاعا؛ وهي لذلك تتكشف للناظر من القمة عن سفوحها وعن شعابها وعن كل ما عليها وكل ما فيها، وأظلت قبة السماء هذه القمة، فما يغيب عن النظر مما فيها سحابة أو شامة وإن دق حجمها، وهذا موقع فريد قل في غير حراء من الجبال نظيره، فأنت إذ تقف ينكشف لك كل ما حولك، وتبدو لك عظمة الكون في كل جلالها، وتشعر وأنت تشهد من موقفك السماء والجبال، وتشهد مكة ومسجدها الحرام وبيتها العتيق، وتشهد ما وراء ذلك مما لا نهاية له - تشعر أنك تشهد آية الله تجلى كمالها في الكون وفي خلقه، وتشهد سنة الله في هذا الكون، سنة لن تجد لها تبديلا وإن تعاقبت الدهور وخلفت القرون القرون، فإذا طال بك موقفك وطال تأملك فيما حولك تجسمت في نفسك هذه الآية واستولت على كل حسك وشعورك، ففنيت فيها وغاب حسك بنفسك، وكنت في تيهاء لا تدري بعدها ما حظك وما نصيبك.
كان ذلك شعوري حين وقفت فوق القمة أحدق من عليائها فيما حولي، ولقد استعنت بمنظار مكبر أعددته لأستعين به على مثل هذا المشهد، وما عسى أن ينفع المنظار وأنت لا ترى مما يقربه لك من الأبعاد إلا مزيدا في عظم الخلق وجلاله؟! هذا الخلق الهائل من الجبال المتعاقبة لا ترى خلالها من مظاهر الحياة إلا حياتها هي، حياة صخور عابسة، وكلأ لا يكسر من حدة هذا العبوس ولا يزيد الناظر إليها إلا مهابة ورهبة، وهذا البيت العتيق قائم في أم القرى يحدث عن حياة العالم الروحية منذ أقام إبراهيم قواعده وإسماعيل، وهذه الجماعات من الناس والقوافل من الإبل لا يكاد المنظار يبين عنها لصغر حجمها ودقة شأنها، وهي حول البيت أو بين الجبال تتيه على الجبال وتطوف بالبيت، ناسية أنها قليلة البقاء إلى جانب البيت والجبال، وأنها تتعاقب أجيالها والبيت قائم، وللبيت رب يحميه، والجبال مطمئنة تزري بالقرون والأجيال.
وسبقني أصحابي إلى الغار وبقيت فوق القمة وحيدا أجيل الطرف فيما حولي، فأزداد لخلق الله إكبارا وبالله إيمانا، وما عساي أستطيع أن أرى من خلق الله في هذه السويعة، وتقلب الوقت وتنقل الشمس وانتشار الليل، كل ذلك يجلو أمام البصر والبصيرة في كل لحظة جديدا، والبصر والبصيرة يريان الأشياء في ألوان تختلف باختلاف سكينة النفس واضطرابها، وهدوء العصب وهياجه، وبحالنا من الصحة والمرض، والرضا والغضب، والراحة والنصب، ودع عنك ما تحجب الجدران بيننا - نحن سكان المدن - وبين الأبعاد الشاسعة، وكيف ترانا نبلغ أن نرى ما يزعم قوم من أهل مكة أن أقوياء البصر يرونه من هذا المكان الذي أقوم فوقه؟! فهم يذكرون أنهم يرون منه ساحل البحر الأحمر ساعات مغيب الشمس.
وعاد إلي بعض أصحابي، فانحدرنا إلى الغار الذي كان ملجأ رسول الله والذي نزل عليه الوحي الأول فيه، وبين الغار والقمة عشرون مترا أو نحوها، وهي مقدار ما بين السطح الأول والقمة، والوصول إليه يقتضي المرور بين صخرتين تكادان تتلاصقان، فلا يتخطى الإنسان ما بينهما إلا بمشقة وإن كان نحيفا، فإذا تخطاهما وجد الغار في داخل الجبل محجوبا عن كل ما حوله بالصخور الضخمة، وهو أشد من كل ما في الجبل وحدة وعزلة، ووجده لا يتسع لأكثر من شخص واحد ينام فيه نوما خشنا جافيا كل الجفاء، دخل الشاب الذي معنا إليه وتمطى فيه، فلم يطق المقام به غير لحظة ارتد بعدها إلينا ووقف معنا يشهد وإيانا في هذا الوسط الموحش ذلك الوكر المخوف، يفزع منه من يجهل أن الحياة لا يملكها إلا من سما فوق الخوف من كل ما في الحياة.
وهو مخوف حقا، ولولا ما تنطوي نفوسنا عليه من تقديس إياه لما طاوعتنا إلى البقاء أمامه، ولفررنا مشفقين مما فيه ، وأنى لنا أن نعرف ما فيه والصخور الضخمة حوله لا تدع مسربا للنور إلى أبعد من فوهته، فأما ما وراء الفوهة فظلام لا تهتك العين حجابه، والجبل بشعابه من وراء الصخور أجرد داكن اللون في حمرة قاتمة يزيد المخاوف ولا يهون منها.
وعدنا أدراجنا نقصد القمة وقد امتلأت النفس مهابة ورهبة، ووقفت في منتصف الطريق أستنشق هواء هذه الساعة رق حين دنا المغيب فأسعد النفس، وزادها غبطة بما حولها من جلال وهيبة، وحدثتني نفسي: هنا كان الرسول يقضي شهر رمضان من كل عام، عدة أعوام تباعا، قبل أن يبعثه الله نبيا. في هذه البقعة المنعزلة الموحشة كان يقيم وحيدا يؤنسه تفكيره وتأمله، يقلب في صحف نفسه هذه الحقيقة السامية التي كان الله يهيئه لها ليبعثه إلى الناس بها، لم يكن في عزلته وفي وحدته وفي انقطاعه يخاف الجبل ولا الغار وما قد يكون فيهما من وحش أو هوام، أية قوة روحية يهبها الله لمن يتخذ هذا المكان القفر له موئلا! إنها قوة فوق ما أوتي الناس جميعا وفوق ما في العالم كله، لا يؤتاها إلا الذين اختارهم الله لرسالته ورضي عنهم ورضوا عنه.
Unknown page