ويضل كاتب الفكر طريق الصواب لو أنه اصطنع ما يصطنه كاتب الخيال من نظرة ذاتية فردية جزئية إلى الحق الموضوعي الشامل. وإذا كان العالم اليوم متخما بمشكلاته، ثم إذا أراد الكتاب المفكرون أن يعالجوا الأمر بأقلامهم، فسبيل ذلك هي أن ينظروا إلى الإنسان وحقيقته أولا، بغض النظر عن أقوامه وأفراده؛ لينتهوا إلى ما يجوز لهؤلاء الأقوام والأفراد أن يأخذوا به عن غير تعصب وهوى. ولو جاز لنا في هذا السياق أن نضرب المثل بما قد حدث في تاريخ الفلك، لقلنا إن كاتب الفكر لا يجوز له أن يتخذ من نفسه ومن قومه محورا يدير حوله بقية أجزاء العالم، كما كان الفلكي قبل كوبرنيق يتخذ من الأرض مركزا تدور حوله سائر أجرام السماء؛ لأنه لو فعل فسدت الحقيقة أمام عينيه وشاهت. وأولى من هذه النظرة البطليموسية أن ينظر الكاتب الفكري إلى مشكلات العالم التي يتناولها ببحثه نظرة كوبرنيقية تضعه هو نفسه وتضع وطنه وقومه وإقليمه مع سائر الناس والأقوام والأوطان في صورة واحدة؛ ليتمكن من رؤية الحقيقة التي هي موضوع بحثه من جميع أطرافها؛ وبمعرفة الحق الكامل يتحرر الإنسان من أوهامه، وقد تكون هذه النظرة المنزهة عسيرة على البشر، لكن في سبيل هذا المثل الأعلى سرق برومثيوس شعلة البرق من الآلهة لتكون للإنسان قبسا يهتدي به في طريقه الفكري العسير.
هل كان يفكر سقراط في المشكلات الإنسانية لنفسه ولقومه، أو كان يفكر للإنسان؟ لقد جعل قانون بلده موضع نقده وهجومه، ولما حكم عليه ذلك القانون نفسه بالموت، ثم عرض عليه تلاميذه سبيل الفرار، أبى وفرق بين وقفة ذاتية ينظر منها إلى الأمر نظرة شخصية، ووقفة أخرى موضوعية علمية يحلل فيها الفكرة بغض النظر عما يعود عليه هو من ثواب أو عقاب. إن جون لوك الإنجليزي، وجان جاك روسو الفرنسي، وتومس بين الأمريكي، لم يكتبوا في الحرية السياسية من وجهة نظر مواطنيهم، بل كتبوا فيها من وجهة نظر الإنسان، فكان لهم الخلود، والغزالي المسلم حين كتب في القرن الحادي عشر عن تحرير الإنسان لروحه من وساوس الشك، لم يكتب لنفسه ولا لقومه، بل كتب للإنسان، وهكذا فعل القديس أوغسطين وتوما الأكويني، ثم هكذا فعل سبينوزا وكانط، كل هؤلاء قد تناولوا مشكلة الإنسان كيف ينبغي له أن يحيا، فلم يكتبوا لأنفسهم ولا لأقوامهم، بل كتبوا للإنسان في كل مكان وزمان، ومن كل جنس ودين.
ليس عمل الكاتب الفكري وعظا خلقيا، بل عمله هو تحديد القيم الإنسانية العليا التي على أساسها يمكن الحكم بالصواب أو بالخطأ على مواقف السلوك الجزئية؛ فهكذا كانت رسالة المفكرين الإنسانيين منذ سقراط إلى برتراند رسل وسارتر، بل هكذا كانت رسالة الديانات جميعا على اختلافها، وما الكاتب الملهم إلا نبي صغير أوحي إليه برسالته؛ فإن أخلص التعبير عن رسالته تلك، وهي دائما رسالة تسعى إلى خلاص الإنسان مما هو محيط به من شر ونقص، أقول إن الكاتب إذا أخلص فله بعد ذلك أن يتصور القيم الإنسانية العليا كما تشاء له فطرته وبصيرته، فلن يجرؤ أحد على القول بأنه اختار هذا ولم يختر ذاك؛ فليجعل مثله الأعلى حياة نظرية أو حياة عملية، ليجعله حياة مطمئنة وادعة أو حياة تحف بها المكاره والخطوب، ليكن مثله الأعلى حياة العلم بحثا عن الحق، أو حياة الفن نشوة بالجمال؛ هو حر فيما يختار، ما دامت الإنسانية هدفه، والنزاهة رائده.
إن كاتبا سياسيا مثل مكيافلي خدم أميره ولم يخدم الإنسان، وإن شاعرا مثل كبلنج قد أنشد لقومه ولم ينشد للناس من سائر الأقوام؛ فأمثال هؤلاء هم الذين يزيدون أزمات الإنسان حدة، ويشعلون الكراهية نارا، فمستقبل الإنسان مرهون بفكره، وفكره هو ما تجري به أقلام كتابه، فإما أسالت تلك الأقلام مدادا للحياة، أو أسالت دما.
أخوان
هما وليم جيمس وهنري جيمس. أما أولهما (1842-1910م)، ففيلسوف لم يقتصر على أن دعا إلى المذهب البراجماتي في وطنه الأمريكي، بل عمل على نشره في العالم كله، حتى أصبح موضع الدراسة في الجامعات عند من يأخذ به ومن لا يأخذ على السواء. وأما ثانيهما (1843-1916م)، فأديب قصاص، هو من أعلام القصة الحديثة لا في الولايات المتحدة وحدها، بل في الأدب الحديث كله، والشقيقان - كما ترى - يكادان يتعاصران في العمر بداية ونهاية، وتعرضا لنفس المؤثرات إبان النشأة الأولى، فماذا تراه أقرب إلى الرجحان من أن يكونا على مذهب واحد في النظر إلى الحياة؟
لكن مسافة الخلف بينهما كانت كأبعد ما تكون المسافة بين رجال الفكر، حتى لو كان أحد الطرفين قد نشأ وتربى في شرق الدنيا وكان الطرف الآخر قد نبت في غربها، لكنهما أخوان شقيقان من أسرة أمريكية واحدة، فأيهما نقول عنه إنه يمثل الفكر الأمريكي والنظرة الأمريكية؟ اللهم إن هذا لمثل واحد يكفي لتعليم الروية والتحفظ عندما نصدر الأحكام بالجملة على الأمم التي قد يبلغ سكان الواحدة منها عشرات من ملايين البشر، خلقهم الله ليكونوا أفرادا متميزا بعضهم من بعض.
وأول ما يلفت النظر في اختلاف الشقيقين أن أكبرهما وليم قد أحب الإقامة في بلده، وآثر ثقافتها، وامتلأ بروحها، على خلاف الشقيق الأصغر هنري الذي رحل إلى أوروبا، وعب من ثقافتها، وأبى أن يضيق أفقه بحيث ينحصر في حدود بلاده، فكأنما وقف الأخوان ظهرا لظهر، يتجه أحدهما شرقا إلى أوروبا، ويتجه الآخر غربا إلى رقعة البلاد الأمريكية نفسها، ولقد ظهر هذا الاختلاف جليا عندما وجه وليم إلى أخيه هنري أمر النقد وأقساه، فقال عن فنه القصصي إنه سطحي تنقصه الحياة وعمقها! والحق أنهما نظرتان مختلفتان إلى الحياة، أما وليم فهو لا يريد أن يفرق بين التفكير العقلي والحياة العملية - وهو صميم الفلسفة البراجماتية - فما جدوى أن يسبح الإنسان مع تأملات ليس من شأنها أن تترجم إلى عمل منتج ناجح؟ فإذا وجدنا حركة عقلية خالصة، كلها منطق نظري صرف لا شأن له بأوضاع الحياة العملية، قلنا عنها إنها ناقصة، والذي ينقصها هو الحياة، وهذا هو ما قاله وليم عن فن أخيه؛ ذلك أن أخاه كان يؤمن بشيء آخر، وهو أن النشوة الحقيقية التي ليس عند النفس ما هو أمتع منها، هي نشوة المغامرات العقلية، فتلك هي حياة الثقافة الرفيعة، فمشكلات المثقف مشكلات عقلية، وكذلك حلولها حلول عقلية، وفي أمثال هذه المشكلات وحلولها لب الحياة في أعلى مدارجها، وإن شئت فانظر إلى رجال من أمثال سقراط وأفلاطون وكانط وهيجل، ماذا كانت مشكلاتهم وكيف كانت حلولها؟ ألم تكن عقلية كلها، ثم ألم يكن في مغامراتهما العقلية لباب حياتهم، بل لباب الحياة الإنسانية عندما تبلغ أعلى ذراها؟
لكن أين وليم من هذه النظرة؟ إنه اختلاف بين الشقيقين بلغ الجذور في معنى الحياة نفسها، أيكون في الفكر أم يكون في العمل؟ وترتب عليه اختلاف في القيم الأخلاقية؛ فمن شأن الفيلسوف الذي يربط الحياة بالعمل أن ينظر إلى الفضيلة فيراها متمثلة في تحقيق الأهداف وبلوغ الغايات، فما كان محققا لأهداف الإنسان كان فاضلا، وإلا فهو مضيعة إن لم يكن تعويقا لحركة السير إلى أمام؛ أو بعبارة أخرى إن مثل هذه النظرة تساير نظرية التطور في مجراها، فما عساه أن يحقق للإنسان تطورا كان هو الفضيلة، والعكس صحيح كذلك. وأما أديبنا هنري فشتان عنده بين صفات الشخصية الرفيعة وبين الأهداف العملية وتحقيقها. كلا، فللأخلاق الفاضلة جمال في ذاتها لا شأن له قط بما يحققه أو لا يحققه من أغراض العيش اليومي؛ فليس الوفاء بالعهد، وليست التضحية، وليس احترام المرء لنفسه وللآخرين، وليست الأريحية والكرم والنجدة، ليس هذا كله جميلا بسبب نفعه، بل هو جميل في ذاته وكفى.
ولقد كان لهذه النظرة الخلقية صداها في فلسفة وليم وفي أدب هنري. أما الأول فكما يعرف القراء عن فلسفته البراجماتية يجعل معنى الفكرة - أي فكرة - هو ما تؤديه، والفكرة التي لا تؤدى لا تكون ذات معنى على الإطلاق. وأما الثاني فقد جعل مدار فنه القصصي لا مجرد رسم أشخاصه، بل إن يحمل القارئ حملا على تقديره لهذا الشخص وازدراء لذاك على أساس جمال شخصيته في الحالة الأولى وحقارتها في الحالة الثانية، دون أن يكون للنجاح العملي المادي أثر في التقدير. إن العملية الفنية عنده ليست في أن يغترف الأديب من مجرى الحياة كما اتفق ثم يصب ما اغترفه على الورق، فلا يفرق بين ماء وطين، بل لا بد له من النظر فيما قد امتلأ به الدلو من مقومات الحياة العملية ليميز فيه بين ما يجب وما لا يجب، والتمييز بطبيعة الحال إنما يكون على أساس مبدأ عند الأديب، وهكذا لا مناص من أن يعبر الأديب في شخصياته عن وجهة نظره الخلقية كما يعبر في طريقة أدائه عن قدرته الجمالية على حد سواء.
Unknown page