الصورة في الفلسفة والفن
تحليل الذوق الفني
رسالة الفنان
الإنسان المعاصر في الأدب الحديث
الأدب في عصر العلم والصناعة
أسلوب الكاتب
ريادة الأدب
أبعاد القصة
الناقد قارئ لقارئ
مراجعة الموازين
الكاتب المصباح والكاتب الصدى
قضاة الحكم الأدبي
شاعر ينقد نفسه
النقد الأدبي بين عهدين
دور الكتاب في حضارة الإنسان
محاكمة الأدباء
بين الخاص والعام
بغير وجهة للنظر
التوتر الدولي ومهمة الأديب1
أخوان
قرصنة في بحر الثقافة
الصيت والغنى في حياتنا الثقافية
شمشون العصر ودليلته
دمنة وكليلة
من هو الناقد؟
الأديب ثم الناقد
أدب الناشئين
ثقافة الجماهير
أهي نكسة ثقافية؟
ماذا صنعت خمسون عاما؟
كان عصر طه حسين
الصورة في الفلسفة والفن
تحليل الذوق الفني
رسالة الفنان
الإنسان المعاصر في الأدب الحديث
الأدب في عصر العلم والصناعة
أسلوب الكاتب
ريادة الأدب
أبعاد القصة
الناقد قارئ لقارئ
مراجعة الموازين
الكاتب المصباح والكاتب الصدى
قضاة الحكم الأدبي
شاعر ينقد نفسه
النقد الأدبي بين عهدين
دور الكتاب في حضارة الإنسان
محاكمة الأدباء
بين الخاص والعام
بغير وجهة للنظر
التوتر الدولي ومهمة الأديب1
أخوان
قرصنة في بحر الثقافة
الصيت والغنى في حياتنا الثقافية
شمشون العصر ودليلته
دمنة وكليلة
من هو الناقد؟
الأديب ثم الناقد
أدب الناشئين
ثقافة الجماهير
أهي نكسة ثقافية؟
ماذا صنعت خمسون عاما؟
كان عصر طه حسين
في فلسفة النقد
في فلسفة النقد
تأليف
زكي نجيب محمود
الصورة في الفلسفة والفن
إننا إذ نقف إزاء عمل فني كائنا ما كان - وسأجعل حديثي في هذه الكلمة منصبا على التصوير دون سائر الفنون - فإنما نقف إزاء واحد من احتمالات رئيسية ثلاثة؛ فإما أن تكون الصورة:
أولا:
مشيرة إلى شيء في الطبيعة الخارجية، كأن ترسم منظرا طبيعيا، أو فردا من الناس، أو جماعة منهم، وما إلى ذلك من كائنات.
ثانيا:
أو تكون الصورة مشيرة إلى شيء في طبيعة الفنان الداخلية، من حيث ارتباط الخواطر في مجرى الشعور أو صلتها باللاشعور.
ثالثا:
أو تكون الصورة كيانا مستقلا بنفسه مكتفيا بذاته، فلا هو يشير إلى شيء بعينه في الطبيعة الخارجية أو في الطبيعة الداخلية، وها هنا يكون ارتكاز العمل الفني على تكوينه البحت.
في الحالة الأولى والحالة الثانية يكون عمل الفنان محاكاة لمصدر خارج عن طبيعة الأثر الفني نفسه؛ فهو في الحالة الأولى يحاكي جزءا من العالم الخارجي، وفي الحالة الثانية يحاكي جزءا من العالم الداخلي، وقد تسمى هذه الحالة الثانية «تعبيرا» على اعتبار أن الفنان فيها «يعبر» عن نفسه أساسا؛ أي «يخرج» شيئا مما بنفسه على أي نحو يراه ملائما لإحداث أثر نفسي في الرائي يشبه حالته.
وأما في الحالة الثالثة فالأمر جد مختلف؛ لأن الفنان هنا لا يحاكي شيئا على الإطلاق، بل هو يخلق تكوينه الفني خلقا عديم الأشباه في كائنات العالم بأسرها.
فلئن صح أن يقال في حالتي المحاكاة إن الجمال هو نفسه الحق؛ إذ الصورة عندئذ تزداد قيمتها بمقدار قدرتها على محاكاة ما أراد الفنان أن يحاكيه - في خارج أو في داخل - ففي الحالة الثالثة وحدها، حالة استقلال الأثر الفني بذاته واعتماده على نفسه، يكون الجمال قيمة وحدها لا شأن لها بقيمة الحق.
ونعود إلى هذه الحالات فنتناولها واحدة بعد أخرى لندرك العلاقة - في كل حالة منها - بين ما يحاوله الفنان وبين ما نلتمسه لها من أصل في دنيا الفلسفة:
1
إذا وقف الفنان حيال الطبيعة يريد نقلها على أي وجه من الوجوه، فهو - بصفة عامة - إنما يكون في إحدى حالتين: (أ)
فإما أنه يريد نقلا حرفيا أو كالحرفي، حيث تأتي الصورة انعكاسا تاما للأصل المصور؛ وعندئذ تنحصر البراعة الفنية في صناعة الرسم نفسها، ولا يكون له من فضل في هذه الصناعة سوى حسن اختياره لموضوعه والحواشي التي يحيطه بها على لوحته؛ ولا يطلب منه عندئذ أكثر من عملية الإدراك الحسي التي يدرك بها دقائق موضوعه تكوينا وتلوينا؛ أعني أنه عندئذ لا يكون بحاجة إلى فلسفة تهديه في عمله سواء السبيل. (ب)
وإما أنه لا يريد هذا النقل الحرفي لما هو ظاهر على سطح الطبيعة، بل يريد أن يلتمس لها حقيقة قد تكون خافية على العين العابرة ؛ وعندئذ ينشأ هذا السؤال: إذا كانت حقيقة الطبيعة أمرا غير ظاهرها، فماذا عسى أن تكون لكي أستطيع إبرازها في صورة فنية؟
وهنا تدخل الفلسفة إلى المسرح بجعبة مليئة بمحصول غني خصب غزير؛ فقد كان أول سؤال ألقاه الفلاسفة على أنفسهم وحاولوا الإجابة عنه منذ القرن الخامس قبل الميلاد هو هذا السؤال بعينه: ماذا تكون الطبيعة في حقيقتها؛ لأن الظاهر وحده لا يكفي لتفسيرها؟ وسأكتفي هنا بعرض إجابة واحدة من إجابات كثيرة، وأعني بها إجابة فيثاغورس الذي قد تعرفونه رياضيا صاحب نظرية في المثلث القائم الزاوية، لكنكم ربما لا تعرفونه فيلسوفا جابه المشكلة الرئيسية التي كانت تشغل فلاسفة عصره جميعا، وهي هذه التي ذكرتها: ماذا عسى أن تكون الطبيعة على حقيقتها؟ وهاكم خلاصة لرأيه:
لئن كانت الطبيعة كما نتلقاها بحواسنا، أي كما نتلقاها بالبصر والسمع واللمس وغير ذلك من حواس، قد تبدو كيفيات مختلفة؛ فألوان مختلفة، وأصوات مختلفة، ولمسات مختلفات، وطعوم مختلفة الوقع على اللسان وهكذا، إلا أن هذا الاختلاف الكيفي كله يرتد إلى اختلاف في الكم؛ فليس الفرق بين شيء وشيء فرقا في العنصر أو العناصر التي يتكون منها كل منهما، ليس الفرق بين قطعة الخشب وقطعة الحديد وقطرة الماء وهبة الهواء فرقا في المادة التي يتألف كل منها من حيث كيفها، بل هو اختلاف في «العدد» أو في «الكمية» هنا وهناك، واختلاف الكمية وحده كفيل أن يحدث على حواسنا اختلافا كيفيا كالذي نراه ونلمسه.
ذلك أننا إذا جعلنا النقطة تمثل عدد 1، فإن الفرق بين النقطة والخط ليس اختلافا في طبيعتهما الداخلية، بل هو مجرد تكرار للنقطة في امتداد معين، فيتكون بذلك خط، ثم إذا حركنا الخط في اتجاه أفقي فإنه يتكون بذلك سطح، وإذا حركنا السطح في اتجاه عمودي تكون بذلك جسم؛ وليس في كائنات الدنيا بأسرها ما يخرج عن هذه الحالات الأربع؛ فإما هو نقطة أو خط أو سطح أو كتلة. ولما كان الاختلاف بين هذه الحالات ليس إلا اختلافا في عدد النقط المطلوبة لبناء كل منها، كان الاختلاف بين طبائعها اختلافا عدديا صرفا: الحد الأدنى في تكوين الخط نقطتان، والحد الأدنى في تكوين السطح المثلث ثلاث نقط، وفي تكوين السطح المربع أربع نقط، وفي تكوين المستطيل ست نقط، وهكذا نستطيع أن نمضي في تصور الأشكال الهندسية - مهما اختلفت - على نحو يجعل طبائع تكوينها متوقفة على اختلاف عددي أصيل في طريقة التكوين.
وقد تقول: افرض أن هنالك مربعا من خشب ومربعا من نحاس، أفلا يكون بينهما اختلاف كيفي بالرغم من اتفاقهما في الشكل الهندسي؟ هنا يجيبك فيثاغورس، ويجيبك معه علم الطبيعة الذرية الحديث، أن لا؛ فخصائص الشيء كائنة في صورته، أي في طريقة تركيبه، لا في نوع مادته كما يبدو ظاهره للحواس؛ فيكفي أن تدرك من الشيء بناءه الهندسي، أو نسبه العددية لتعرف طبيعته على حقيقتها، لبث هذا الكلام من فيثاغورس أمرا غريبا حتى جاءنا علم الطبيعة الذرية اليوم يقول شيئا كهذا؛ فليس الفرق عند هذا العلم بين خشب ونحاس إلا فرقا في التكوين الذري الداخل في كل منهما، وقوام هذا التكوين الذري عدد من الإلكترونات والبروتونات يزيد هنا وينقص هناك؛ فخذ ما شئت من هذه الذرات التي لا تختلف إلا في عدد كهاربها، ثم رتبها على هذا النحو يكن لك قطرة ماء، أو على ذلك النحو يكن لك إنسان من البشر.
هذا التفسير الكمي للكائنات يهيئ لنا فرصة لا يهيئها سواه، في تفسير التباين بين ملايين الملايين من كائنات العالم؛ لأن الأشكال الهندسية والنسب الرياضية لا نهائية الصور، فيستحيل - إذن - ألا نجد بينها صورة تقابل كل كائن من كائنات العالم إن كانت هذه بدورها لا نهائية كذلك؛ وليس الأمر كذلك لو حاولنا أن نفسر العالم الطبيعي بعنصر واحد أو بمجموعة صغيرة من العناصر - كما حاول سائر الفلاسفة في عصر فيثاغورس - لأن هذا التحديد من شأنه أن يضيق بشتى صنوف الكائنات، فإن فسر منها بعضها فهو قاصر عن تفسير بعضها الآخر.
وكان الميدان التطبيقي لهذه النظرية الكمية في تفسير الاختلافات الكيفية، الذي جال فيه فيثاغورس وصال ، هو ميدان الموسيقى؛ فقد كان أول من تنبه إلى أن كل ضروب الاختلاف الكيفي في عالم الصوت، هو في صميمه اختلاف في النسب الرياضية بين أطوال موجاته، فخذ هذه النسبة تكن لك هذه النغمة في الأذن، وخذ تلك تكن لك أخرى.
ولو اتخذنا النظرية الفيثاغورية أساسا لوجهة نظرنا إلى العالم، وجدنا هذا العالم مما يمكن وصفه بلغة الرياضة وحدها: أشكالا هندسية وأعدادا حسابية على السواء.
فضع هذه النظرة نصب عينيك، وانظر إلى مدارس الفن الحديث؛ أفلا ترى معي أن الفنان التكعيبي هو فيثاغوري المذهب لحما ودما؟
إن مؤرخي هذا الاتجاه التكعيبي في الفن، ليحدثوننا بأن عبارة هامة قالها سيزان كانت بمثابة البداية لهذه المدرسة الخطيرة الشأن؛ إذ قال: «كل شيء في الطبيعة قد صيغ على شكل أسطواني أو كري أو مخروط.» وقال كذلك: «انظر إلى الطبيعة بعين ترى فيها الأسطوانة والكرة والمخروط.»
وليس لي عين الفنان لأنظر بها إلى الطبيعة تلك النظرة التي أرادها سيزان، حتى أقرر لنفسي هل أخطأ أو أصاب، لكني مع ذلك أستطيع أن أرى الإنسان مثلا ذا رأس هو الكرة في صورته، وذا جذع وذراعين وساقين أسطوانية الصور، وأستطيع أن أرى الشجرة فإذا هي جذوع وساق وفروع كلها أسطوانية الشكل، وأستطيع أن أرى نجوم السماء وكواكبها كرات سابحة في الفضاء، وهكذا.
ومهما يكن من أمر فقد جاء «براك» بعد سيزان، فتولاه إحساس قوي بصور التكوين في الأشياء، حتى لقد عرض عام 1908م معرضا للوحات سبع رد فيها الطبيعة إلى أسطوانات ومخروطات ودوائر جريا على مبدأ سيزان. ومن لطيف ما يروى في هذا الصدد أن ماتيس - وقد كان من المحكمين الذين رفضوا من تلك اللوحات السبع خمسا - كان قد أشار إلى تلك اللوحات إشارة ساخرة؛ إذ قال إنها ليست إلا تكعيبا. ومن هذه الإشارة الساخرة نشأ للمدرسة الجديدة اسمها الجديد.
لم يكن المكعب بين الصور الهندسية التي أشار إليها سيزان الذي اقتصر في إشارته على الأسطوانة والكرة والمخروط، لكن خطوة يسيرة تخطوها من هذا المبدأ كما صاغه سيزان كفيلة أن تعمم القول، فتجعل حقائق الطبيعة أشكالا هندسية كائنة ما كانت، وذلك هو أقوى طابع ينطبع به الفن الحديث، فقف أمام الصورة، وإذا رأيت نفسك قد وصفتها بالحداثة في أسلوبها الفني، فابحث عن مصدر حكمك هذا تجده دائما مرتكزا على أن الصور قد أبرزت الجوانب الهندسية التي ينطوي عليها التكوين المصور، كأنما كانت تلك الجوانب الهندسية كامنة في الشيء ثم جاء الفنان فكشف عنها الستار.
ولكنا نتساءل: لماذا كان المكعب مقدما على سائر الأشكال الهندسية عند هذه المدرسة الفنية؟ لعل الجواب هو هذا: إن طبيعة العالم طبيعة معمارية قبل كل شيء؛ لأن العالم بناء على كل حال، ووحدة الطبيعة المعمارية هي المكعب من الحجر. لا، بل إنه ليجوز لنا أن نضرب في التعليل إلى ما هو أهم من ذلك وأعمق؛ إن تشريح أي كائن حي - بما في ذلك الإنسان - ليوضح أنه بناء من خلايا. ولئن كانت الخلية الواحدة، وهي مفردة وحدها، قد تنداح في شكل لا تكعيب فيه، إلا أنها وهي داخلة مع غيرها من الخلايا في بناء الكائن الحي، تنضغط من جوانبها بجيرانها حتى لتتخذ هيئة التكعيب. ولقد حدثني طبيب صديق فأنبأني أنك إذا رأيت عضوا من أعضاء الإنسان، كالكبد مثلا، وجدته في تكوينه بناء من مكعبات كأي جدار تراه في أي بناء. وإن كان هذا هكذا، كانت الكائنات هندسية الصورة في صميم تكوينها، وكان المكعب في مقدمة الصور الهندسية التي منها يتألف ذلك التكوين.
ولئن كان «براك» أحد اثنين وضعا أساس الحركة التكعيبية، فثانيهما هو «بيكاسو» الذي التقى هو وزميله براك لأول مرة في خريف 1907م، وكان ذلك بعد أن فرغ بيكاسو من لوحته المشهورة «غانيات أفنيون» التي توصف اليوم بأنها أول صورة في مرحلة الفن التكعيبي.
وإن شئت قليلا من دقة فقل إن للفن التكعيبي مرحلتين: أولى تحليلية، وأخرى تركيبية.
في المرحلة الأولى التحليلية كان الفنان يفتت أي شيء من أشياء الحياة اليومية المألوفة، كمنضدة أو مقعد أو وجه إنسان، يفتته في مكعبات، ثم يعود إلى تجميع المكعبات في بناء نحتي جديد يخلقه لنفسه خلقا. لقد فتن أنصار التكعيبية بالفورم - أي بطريقة التكوين - فتنة كادت تنسيهم كل ما عداها، حتى لقد أرادوا أن يتركوا تكوين الصورة يتحدث عن نفسه دون أن يستعينوا باللون إلا إلى الحد الأدنى؛ أراد براك وبيكاسو للرائي أن يدخل في تكوين الصورة دخولا مباشرا، فأسقطا عن الصور إطاراتها لئلا يكون ثمة حائل بين الرائي والتكوين الذي يراد له أن يراه رؤية مباشرة. وما أقرب الشبه هنا بين صورة بغير إطارها وبين المسرح الجديد الذي يسمونه مسرح الحلبة؛ حيث يقام التمثيل وسط غرفة جلس المتفرجون حول جدرانها، حتى يكون المتفرجون والممثلون في حالة التقاء مباشر.
وأراد براك وبيكاسو للرائي أن يلتقي بالتكوين هذا اللقاء المباشر دفعة واحدة؛ فلا بأس من وضع المنظر الجانبي للأنف فوق المنظر الأمامي للوجه، ولا من وضع العين كاملة كما ترى من أمام على الوجه الذي يرى من جانب. ولا يسعنا نحن المصريين إزاء هذا الاهتمام بتكوين الأجزاء بغض النظر عما يتألف منها، سوى أن نذكر قواعد التصوير المصري القديم؛ لنقول: ما أشبه الليلة بالبارحة!
هكذا بعدت التكعيبية التحليلية بالشيء المصور عن واقعه الظاهر بعدا استحال معه أن تعرف عن الصورة ماذا تصوره؛ ولماذا تعرف والصورة قد أريد بها ألا تصور شيئا مما يظهر لك في العالم الخارجي، بل أن تبني بناء جديدا من مكعبات تستخرجها من تفتيت الشيء إلى أجزائه؟
لكن أصحاب هذه المدرسة كأنما قد أجهدهم هذا البعد كله عن ظاهر الواقع، فكروا قافلين في الطريق عائدين من غايتهم التي انتهوا إليها إلى البداية التي بدأ منها الفن على إطلاقه؛ فلماذا لا يرسمون على اللوحة جانبا واحدا من الشيء رسما واقعيا، كأن يرسموا مثلا ظهر مقعد أو ساق منضدة، ثم يحيكون حول هذا الجزء ما يريدون نسجه من تكوينات هندسية، فيكون ذلك الجزء الصغير الواقعي في الصورة رامزا إلى شيء من عالم الواقع كما يظهر؟ ولا يكاد الإنسان يبدأ طريقا حتى يأخذه ما يشبه الهوس في التحمس له؛ فما دمنا قد رضينا بأن نثبت في الصورة جزءا من الشيء الواقع كظهر المقعد مثلا، فلماذا لا نضع الجزء الواقعي بذاته ملصقا إلى اللوحة؟ لماذا نرسمه كما هو إذا كان يمكن إثباته بواقعيته كلها؟ ومن ثم راح براك وبيكاسو يلصقان على لوحاتهما قصاصة من جريدة، أو من ورق اللعب، أو قطعة من علبة الكبريت، وهكذا، ثم يديران حول القطعة الملصقة ما شاء لهما الخيال أن يقيماه من تكوينات تعتمد على هندسة التكوين وحدها ولا تستعين باللون إلا قليلا.
إنه لا مندوحة لمن أراد أن يدخل عالم الفن الحديث عن اطراح مفهوم الفن القديم اطراحا تاما، ومفتاح الدخول إلى هذا العالم الفني الجديد هو ألا تنظر إلى الصورة على أنها صورة لشيء مما يتبدى للعين، إننا في الحقيقة سيئو الحظ في كلمة «صورة» هذه؛ لأنها ما دامت هناك فسيظل الإنسان يسأل: صورة ماذا؟ ولو عودنا أنفسنا على استعمال كلمة أخرى، مثل لوحة، لجاز أن ننسى مفهومنا القديم للفن، ولأصبحت اللوحة شيئا إن أشار إلى العالم الخارجي فهي الإشارة إلى صميم ذلك العالم وحقيقة طبيعته، لا إلى ظاهره المرئي للعين.
وإني لأسوق هنا عبارة قالها بيكاسو لأرد بها على من لا يزال يسأل: ماذا تعني الصورة في الفن التكعيبي؟ إذ قال:
إذا كانت التكعيبية قد لبثت أمدا طويلا بعيدة عن الأفهام، ثم إذا كان هنالك إلى يومنا هذا من لا يرون فيها شيئا يسيغونه، فذلك كله لا يعني شيئا؛ فأنا لا أقرأ الإنجليزية؛ ولذلك فإن الكتاب المكتوب بهذه اللغة يكون بالنسبة إلي كالورق الخالي، فهل يعني هذا أن اللغة الإنجليزية غير قائمة؟ وهل يجوز أن أوجه اللوم في ذلك إلا إلى نفسي حين أراني لا أفهم ما لست أعلمه؟
ويحلو لي في هذه المناسبة أن أذكر فصلا فكها رائعا كتبه الأستاذ توفيق الحكيم في كتابه «فن الأدب» يصور به حيرته إزاء الفن التكعيبي، وذلك حين كان في باريس يسمع الناس يعلقون في إعجاب شديد على هذا الفن، ولم يكد يصادف فنانا تكعيبيا في إحدى قهوات مونمارتر، حتى دعاه على شراب ليطلب إليه أن يفتح له مغاليق هذا الفن الجديد.
قال الأستاذ توفيق لزميله الفنان التكعيبي إنه زار اللوفر، ورأى اللوحة الفلانية للفنان الفلاني، ولوحة أخرى لفنان آخر وهكذا، فكان كلما ذكر اسما من هؤلاء الأعلام، قاطعه الفنان التكعيبي محتجا على عد هؤلاء من أصحاب الفن بمعناه الصحيح: أتسمي هذا مصورا؟ لا يا سيدي، إنه نقاش. أتسمي فان دايك بلوحته «المسيح في القبر» فنانا؟ إنه يستدر عطف الرائي بحادث مؤلم، ولا دخل لهذا في فن التصوير بمعناه الصحيح. أتسمي «كورو» بلوحته التي يصور فيها الصباح فنانا؟ كلا، بل عده شاعرا إذا أردت. أتسمي لوحة فرنيه عن معركة نابليون في وجوام فنا؟ قل عنه إنه مؤرخ إذا شئت؛ إذ ما دخل الفن في وصف المعارك، وهكذا وهكذا.
سأله: ما الفن إذن؟ فقال: هو إبراز حقائق الأشياء في تكوينها الهندسي. واستطرد الكاتب يبين كيف وضح الفنان رأيه على فخذ دجاجة طلبها له الحكيم فأكلها بعد أن قال إن حقيقته مثلث، ثم على طبق من السلطة أكله بعد أن قال إن حقيقته ألوان الجزر الأحمر وورقة الخس الخضراء وقطعة البنجر الأصفر ... إلخ.
حسبنا هذا عن المذهب الفيثاغوري وما يقابله في الفن، لننتقل إلى إجابة أخرى أجاب بها فيلسوف آخر - هو أفلاطون - عن السؤال نفسه، وهو: ماذا عسى أن تكون حقائق الكون الكامنة وراء ظواهره؟ ما حقيقة الإنسان مثلا؟ وما حقيقة الدائرة أو المثلث؟
يقول أفلاطون ما معناه: إن أفراد الكائنات كما نراها في دنيانا الظاهرة هذه يستحيل أن تكون هي الحقائق. خذ الدائرة مثلا؛ ففي عالمنا الحسي دوائر كثيرة، فهنالك أقراص من المعدن دائرية، وقطع من النقود دائرية، وأرغفة من الخبز دائرية، وهناك دوائر مرسومة على الورق وغيره، فهل هذه كلها دوائر حقا؟ كلا؛ لأننا نلاحظ بينها تفاوتا؛ فالدائرة في قطعة النقود أكمل منها في الرغيف، والدائرة المرسومة بالفرجار على الورق أكمل من دائرة القرش، وهكذا تستطيع أن تتصور سلما متدرجا من دوائر يعلو بعضها على بعض في نصيبها من حقيقة الدائرة؛ فأين تكون «الدائرة» الكاملة؟ إنها لا تكون إلا كائنا عقليا، هو الذي نسميه «مثال» الدائرة، فإذا لم يكن هذا «المثال» العقلي كائنا بيننا في عالم المحسات، فلا بد أن يكون هناك عالم عقلي لهذه المثل كلها.
ولكن ما الفرق بين مثال الدائرة والدائرة كما نراها في عالم الحس؟ بين مثال الشجرة والشجرة كما نراها في عالم الحس؟ بين مثال الإنسان والإنسان كما نراه في عالم الحس؟ الفرق هو أن المثال في كل حالة من هذه الحالات مجرد؛ أي أنه متخلص من كثير من التفصيلات التي نراها عالقة بالكائنات الحسية؛ فالشجرة كما نراها هنا وهناك ذات أوراق وذات ثمار وهكذا، لكن هل هذه الأوراق وهذه الثمار جزء من حقيقة الشجرة؟ كلا؛ إذ نستطيع أن ننزع عنها أوراقها وثمارها وتظل «شجرة»، وهكذا تستطيع أن تجرد الكائن الجزئي من كثير جدا من تفصيلاته العالقة به، وتظل حقيقته قائمة.
ضع هذه الفكرة الأفلاطونية نصب عينيك وانظر إلى عالم الفن الحديث؛ ألست تري شبها شديدا بينها وبين ما تذهب إليه مدرسة التجريد؟ إن الفنان التجريدي لا يهمه أن يثبت الشجرة التي يراها بكل ما يراه فيها من تفصيلات؛ لأن هذه التفصيلات زائلة عابرة، وإنما يهمه أن يستبقي منها ما يكون لها بمثابة الجوهر الثابت؛ وبهذا يضع الطبيعة على لوحته، لا كما تراها العين، بل كما يفهمها العقل.
والحق أن الفن قد سار في تاريخه من التعين إلى التجريد على نحو قد يؤيد لنا وجهة نظر التجريديين المعاصرين؛ ألم يبدأ الفن صورا على جدران الكهوف تصور الحيوان المراد اصطياده تصويرا مباشرا؟ وإذا نحن أدخلنا الكتابة في أنواع التصوير - ولا شك أنها كذلك - قلنا إن الإنسان قد استعاض عن الصور المباشرة بكتابة مصورة يكتفي فيها بالرمز إلى الموضوع دون رسمه رسما مباشرا، ثم أخذت الصورة الكتابية تبعد عن الرمز التصويري شيئا فشيئا - مارة خلال المرحلة الهيروغليفية - حتى انتهت أخيرا إلى هذه الأحرف الهجائية التي نستخدمها في كلماتنا، والتي إن هي إلا تصوير بلغ غاية في التجريد، وانظر - إذا شئت - إلى كلمة «شجرة»، فهل ترى أية رابطة بين صورتها وبين الشجرة ذاتها التي أريد تصويرها بتلك الكلمة؟ ليس بين الطرفين أدنى شبه، ومع ذلك فطرف منهما يصور طرفا على سبيل التجريد لا على سبيل التعين الجزئي.
ونعود إلى الفن التجريدي الحديث، أو إن شئت فسمه الفن اللاموضوعي؛ أي الذي هو بغير موضوع مما تراه الأعين رؤية مباشرة، فنقول إن من هؤلاء التجريديين من يتصل بالمدرسة التكعيبية صلة قريبة، وهم أولئك الذين يقصدون بالتجريد إلى تكوينات هندسية مقصودة لذاتها، لكني أترك الحديث عن هذا الفريق لأعود إليه حين أتحدث عن الفن الذي تستقل فيه اللوحة عن كل ما عداها. وأما الفريق الثاني فهو أولئك الذين يجردون من الطبيعة ألوانها ليتناولوا هذه الألوان وحدها دون موضوعاتها، فيركبونها على أي نحو تهديهم إليه أذواقهم، وزعيم هذه الجماعة هو كاندنسكي الذي جعل اللوحة الفنية موسيقى لونية لا أكثر ولا أقل.
ونعود إلى عالم الفلسفة مرة ثالثة وأخيرة، إلى أرسطو الذي اتفق هو وأستاذه أفلاطون في جانب واختلف عنه في جانب؛ فهو كأستاذه يرى أن الفورم في أي كائن ليس هو التفصيلات الجزئية التي نراها عالقة بهذا الكائن، بل هو جوهره الذي يحدد حقيقته، لكنه يختلف عن أستاذه في أن هذا الفورم لا يقوم وحده في عالم عقلي، بل هو دائما كائن في الشيء ذاته، وهو الذي يطبع الشيء بالطابع الذي يجعله منتسبا إلى هذا النوع أو ذلك من أنواع الكائنات. الفورم في الشيء هو الوظيفة التي يقوم بها ذلك الشيء؛ فالفورم في الفرد من أفراد الإنسان هو الوظيفة التي تجعل من الإنسان إنسانا، والفورم في الشجرة هو الوظيفة التي تجعل من الشجرة شجرة وهكذا؛ ومعنى ذلك أن الفورم هو مصدر الحركة والنشاط والفاعلية في الشيء؛ أي إن الفورم في الشيء هو «طبيعته» أو «حقيقته».
إن لكل شيء في الطبيعة - عند أرسطو - غاية يريد تحقيقها، هذه الغاية تكون موجودة فيه بالقوة قبل تحقيقها، ثم توجد فيه بالفعل بعد تحقيقها ، وهذه السيرة، أو هذا الانتقال من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، هو الفورم الذي يحدد طبيعة الشيء؛ فالحبة تلقيها في التربة إنما تنزع أن تصبح شجرة من صنف معين، وهي لا تني تكد حتى تحقق هذه الغاية، وهذا الكد منها لتحقيق طبيعتها هو الفورم.
وهكذا ترى معنى الفورم في الطبيعة قد اختلف اختلافا جوهريا عند أرسطو عنه عند فيثاغورس وأفلاطون؛ فهو عند أرسطو فاعلية ونشاط، وأما عند فيثاغورس وأفلاطون فهو صورة ساكنة؛ هو عند أرسطو حقيقة تطورية بيولوجية، وأما عند فيثاغورس وأفلاطون فهو حقيقة رياضية.
الفورم عند أرسطو هو فكرة النوع انطبعت بها المادة فأصبحت بها فردا ينتمي إلى ذلك النوع، وأفراد النوع الواحد تتفاوت في درجة تحقيقها لفكرة نوعها.
فكيف يكون الفن على هذا الأساس الأرسطي؟ يكون الفنان فنانا بمقدار ما يستطيع أن يصور لنا فردا واحدا تصويرا يعبر فيه عن حقيقة النوع كلها، كأن يبرز الشجاعة في شجاع، والطموح في طامح، والبلاهة في أبله، والحكمة في حكيم، وهكذا.
وأحسب أن الفن بمعناه الكلاسيكي تطبيق يقوم على هذا الأساس.
2
كل هذا الذي أسلفناه إنما هو تحليل لوقفة واحدة من الوقفات الثلاث التي ذكرناها في مستهل هذا البحث، وأعني بها وقفة الفنان حين يريد أن يشير بفنه إلى الطبيعة، في ظاهرها حينا، وفي صميم حقيقتها حينا آخر. وهو إذ يشير إلى الطبيعة في صميم حقيقتها، فهو إما أن يجعل تلك الحقيقة أشكالا هندسية، أو تجريدا للجوهر، أو إبرازا لوظائف الكائنات في فاعليتها ونشاطها.
على أن الفنان قد يقف وقفة أخرى بأن يجعل عمله الفني إخراجا لطبيعته هو الداخلية، وهنا تأتي المدارس التعبيرية والسريالية وما يدور مدارها.
وإني لأخشى طول الاستطراد في الحديث، فأترك هذه الناحية من الفن لأنتقل مسرعا إلى كلمة موجزة أقولها في الوقفة الثالثة.
3
ثالث الوقفات التي يمكن للفنان أن يقفها إزاء عمله الفني، وقفة يريد بها ألا يجيء إنتاجه صورة لشيء كائنا ما كان خارج حدود ذلك الإنتاج نفسه، وها هنا نجد «الفورمالزم » بأكمل معانيه؛ إذ الصورة هنا لا سند لها إلا نفسها، وبديهي أن يلجأ الفنان هنا كذلك إلى التجريد، لكنه لا يجرد من الشيء جوهره كما فعل زميله في الحالة التي أسلفنا ذكرها، بل يجرد تجريدات هندسية أو لونية كل عمادها وقعها في الإدراك الحسي، وإما أن يقبلها هذا الإدراك الحسي أو يرفضها. إن اللوحة في هذه الحالة لا تعبر عن أي شعور أو عاطفة أو انفعال؛ لأنها لو فعلت كانت ناقلة عن نفسية الفنان؛ فلست ترى على اللوحة إلا أشكالا هندسية مجردة، كأن ترى مربعات أو دوائر سوداء على أرضية بيضاء، أو ترى تشكيلات من مربعات ودوائر ومستطيلات. ولعل في هذا ما يذكرنا بقول أفلاطون:
إن جمال الأشكال ليس - كما يظن معظم الناس - جمال الجسوم الحية أو جمال الصور، لكنه جمال الخطوط المستقيمة والدوائر وسائر الأشكال - ذوات السطح أو ذوات الحجم على السواء - المكونة من الخطوط والدوائر تكوينا نصوغه بالمخرطة والمسطرة؛ فعندئذ لا يكون الجمال - كما هي الحال في بقية الأشياء - جمالا نسبيا، بل هو جمال ثابت مطلق.
ومن زعماء هذه الحركة الفنية في عصرنا مالفتش الروسي
Malevich ، وموندريان الهولندي
Mondrian .
ولا حاجة بي إلى القول بأن الفن العربي قائم معظمه على هذا التجريد الهندسي، كما نراه في زخرفة العمارة وفي السجاد والأثاث، بل في الكتابة وغيرها. •••
إن ما ذكرناه حتى الآن هو إجابة عن هذا السؤال: ما هي الصورة (أي الفورم) عند بعض الفلاسفة من جهة، وعند بعض رجال الفن من جهة أخرى؟ (1)
فالنظرية الفيثاغورية في الفلسفة، تقابلها التكعيبية في الفن. (2)
ونظرية المثل الأفلاطونية في الفلسفة، يقابلها الفن الذي يجرد من الشيء جوهره. (3)
والنظرية الأرسطية في أن الصورة هي ما ينطبع به الكائن الفرد بحيث ينتمي إلى نوع معين، يقابلها الفن الكلاسيكي.
وهذه الثلاثة كلها تفسيرات للصورة حين تعنى بإبراز الطبيعة على حقيقتها. (4)
والتحليل النفسي للشعور واللاشعور، تقابله في الفن مدارس التعبيرية والسريالية. (5)
واستقلال الفن في عالم وحده، عالم ثالث، بين الطبيعة والذات، يقابلها التجريد الخالص في الفنون.
لكن هناك سؤالا آخر، لعله أهم من السؤال الذي حاولنا الإجابة عنه، وهو بغير شك أعسر جوابا، وأعني به هذا السؤال: متى تكون الصورة (الفورم) جميلة؟ فسواء كانت الصورة تكوينا هندسيا، أم تجريدا لجوهر الشيء المرسوم، أم إبرازا لحقيقة النوع متمثلة في الفرد الواحد، أم غير ذلك، فهو قد يوصف بالجمال هنا وهنا وهناك؛ ومن ثم ينشأ سؤالنا الجديد: متى تكون الصورة جميلة، بغض النظر عن اختلاف الوجهة التي يختارها الفنان في تفسيرها؟
إنني ها هنا أغض النظر عن بحث فرعي هو غاية في الأهمية والخطورة إذا أردنا أن نفهم الفن على حقيقته، وهو البحث الذي نسأل فيه: هل الجمال هو حقا غاية الفن كما هو شائع بين الناس؟ فالواقع أن تحليلا قليلا كاف للدلالة على أن القول بأن الجمال هو غاية الفن إن هو إلا السذاجة بعينها، لكني أغض النظر الآن عن هذا البحث بأكمله، وحسبنا أن تحدث عند الناظر إلى الأثر الفني نشوة من نوع معين، لنسأل سؤالنا، وهو: ما سر هذه النشوة، وما مبعثها؟
أعتقد أنه لا بد أن تكون هناك علاقة وثيقة بين ما يبعث فينا النشوة الجمالية وبين التكوين الفسيولوجي والنفسي للإنسان المشاهد.
فأيهما أبعث إلى الراحة عند الإنسان؛ الخط المستقيم أم الخط المنحني؟ أظن أن أحدا منا لا يتردد في تفضيل المنحني على المستقيم؛ لأن البصر يستريح للأول أكثر مما يستريح للثاني. لماذا؟
لأن العين وهي تتعقب الخط المستقيم، خصوصا إذا طال امتداده، تحاول أن تحتفظ بالحدقة في وضع واحد تقريبا؛ ومن ثم يكون التعب والملل، ذلك بالطبع إذا لم يكن الخط المستقيم من القصر بحيث ندركه والرأس ثابت في موضعه، بل يطول بحيث يضطر الرائي إلى إدارة رأسه، ومع الرأس البصر، فلا عجب أن يقع الخط المستقيم الطويل من مشاهده موقع الصلابة والجفاف، ولا عجب كذلك أن اضطر فنان العمارة دائما أن يحني العمد في أسافلها وأعاليها بقواعد ورءوس فيها انحناء.
والخط المنحني أروح للبصر؛ لأن عضلات الإبصار في متابعته لا تثبت على حالة واحدة، بل بحكم استدارة الخط تتغير حالة الحاسة المبصرة، فيزول أساس التعب والملل؛ ومن ثم ترانا نصف الخطوط المنحنية بالانسياب والرشاقة واللين.
لكن الانحناء إذا ما بلغ حد الاستدارة الكاملة - في دائرة تقع كلها في مجال الإدراك الحسي - يفقد كثيرا من جماله. لماذا؟ لأن التباين هنا سيزول ويحل محله الاطراد؛ فالمشاهد سيقع ببصره على مركز الدائرة، ولن يجد البصر ما يلفته إلى اليمين أكثر مما يلفته إلى اليسار، أو إلى أعلى أو إلى أسفل؛ ومن ثم يكون الاطراد الممل.
كثيرا ما أبدى فلاسفة اليونان فتنتهم بالدائرة لما فيها من الاستمرار والبساطة، حتى لقد حسبوا أن الكواكب تدور في أفلاك مستديرة لجمال هذه الأفلاك الدائرية، لكني أرى الدائرة ينقصها الحافز المثير؛ ومن ثم ينقص جمالها. نعم إن في الفن الكلاسيكي أمثلة كثيرة فيها هالات مستديرة تحيط بالوجوه، لكنها تخف على العين لسببين؛ أولهما أن الوجه نفسه بمثابة كسر للاطراد، والآخر هو أن أمثال هذه الهالات توحي بفكرة تصرف النظر عن الدائرة نفسها، كفكرة الشمس المشعة أو القمر المضيء.
وبديهي أن هذا الحكم لا ينطبق على الدوائر الصغيرة داخل الصورة كأزرار الثوب مثلا؛ لأن البصر لا يقف عند الواحدة منها وقفة خاصة بها، بل يتخذ منها نقطا تقسم له الصورة تقسيما قد يساعد على انتقال العين انتقالا مريحا من جانب من المرئي إلى جانب آخر.
ومن أهم الأمثلة التي أوضح بها وجهة النظر القائلة بأن جمال الفورم مرتكز في النهاية على تكويننا الفسيولوجي والنفسي، المماثلة أو السيمترية، فلماذا يكون في المماثلة جمال؟ ومتى يكون؟
يلاحظ أولا أن الإنسان نفسه في تكوينه الجسدي تماثل بين الجانب الأيمن والجانب الأيسر، ولا تماثل هناك بين أعلاه وأسفله؛ ولذلك ترانا نقصر الحديث في المماثلة في الأثر الفني بين الجانب الأيمن من الصورة أو من البناء، أما بين الجانب الأعلى والجانب الأسفل فالمماثلة لا تطلب أبدا، بل يكاد عدم المماثلة هنا أن يكون شرطا؛ ففي أعلى تكون السماء - مثلا - وفي أسفل يكون المنظر الأرضي، أفلا يكون هذا نفسه انعكاسا لتكويننا الجسدي؟ أضف إلى ذلك أن المشاهد لا يحرك رأسه من أعلى إلى أسفل بقدر ما يحركها من اليمين إلى اليسار؛ ولهذا كانت المماثلة مطلوبة بين اليمين واليسار، وغير مطلوبة بين الأعلى والأسفل.
إن المصور عادة يضع في وسط صورته ما يسترعي النظر، كأن يضع شخصا أو مجموعة أشخاص وسط منظر طبيعي، حتى إذا ما استقرت العين على هذا المركز، حدث لها جذب طبيعي أن تجول في بقية الجهات متجهة يمينا ويسارا، فإذا ما كان هنالك اتزان بين الجانبين استراحت راحة مصدرها الاقتصاد في جهدها العضلي.
إن الإيقاع على فترات متساوية ظاهرة مألوفة في طبيعة الإنسان نفسه، فبين ضربات القلب انتظام، وبين وحدات التنفس انتظام، وبين النوم واليقظة انتظام، وهكذا. وأحسب أن هذا الإيقاع الفطري فينا هو ما يجعلنا نتوقعه في مدركاتنا، ونستريح إذا وجدناه، ويصيبنا القلق إذا فقدناه، من هنا كان الوزن في الشعر، وكانت السيمترية في العمارة وفي التصوير. قارن حالتك وأنت تتبع بنظرك جدارا طويلا لا يكون فيه أبدا ما يقسمه إلى فترات، بحالتك إذا كان هذا الجدار منقسما إلى وحدات تحددها أبراج أو عواميد أو غير ذلك، لكن هل يكون معنى ذلك أن يعمد المصور - مثلا - إلى جعل صورته متماثلة أدق المماثلة في يمناها ويسراها؟ كلا، بل إنه يعتمد على مبدأ المماثلة دون أن يطيعه طاعة عمياء؛ فالإنسان الرائي إذا ما وجد الأيمن مختلفا عن الأيسر انتابته صدمة توقظه، فإن كان سبب الاختلاف مثيرا لاهتمامه فإن ذلك هو مصدر جمال الفورم، أما إذا كان الاختلاف الذي سبب الصدمة غير مثير لاهتمامه، اجتمعت الصدمة إلى خيبة الأمل، وفقد الفورم كل جمال مقصود أو غير مقصود.
إن مشاهد الطبيعة نفسها تقاس «روعتها» (لاحظ العلاقة بين الروعة والروع) بهذا المبدأ نفسه: يتوقع المشاهد أن يرى رتابة، فإن وجدها نام واستراح، وإن انكسرت الرتابة بالاختلاف والتباين، حدث أحد أمرين؛ فإن كان سبب الاختلاف مثيرا للاهتمام كان المنظر رائعا، وإلا كان قبيحا.
الحقيقة أن مبدأ السيمترية نفسه - أو إن شئت فقل مبدأ الإيقاع - يمكن اعتباره فرعا عن مبدأ أشمل في فطرة الإنسان وطريقة تكوينه، وذلك هو ميل الإنسان أن يرى وحدة في الشيء المدرك.
فإذا كان الشيء من الصغر بحيث تدرك العين وحدته بغير عسر، امتنعت ضرورة الإيقاع بين أجزائه، أما إذا كان من الكبر بحيث تحتاج رؤيته إلى انتقال العين من جانب إلى جانب، فعندئذ تريد العين أن ترى كل جزء وكأنما هو وحدة؛ ومن ثم وجب على الفنان أن يعين العين على ذلك في انتقالها من هذا الجانب إلى ذلك من جوانب الصورة أو البناء.
وأما إذا كان الشيء أكبر جدا من أن يدركه الإنسان وهو في موقف واحد، حتى إن دار برأسه في كل الجهات - كمدينة مثلا أو غابة - فلا ضرورة عندئذ أبدا أن تجيء المدينة أو الغابة متماثلة الجوانب، بل يكفي أن يكون هذا التماثل في كل جزء منها مما يمكن للرائي أن يدركه في وقفة واحدة؛ فالمماثلة في الشارع الواحد أو في الميدان الواحد مطلوبة، لكنها لا تطلب في المدينة باعتبارها كلا واحدا.
مبدأ الوحدة التي تضم كثرة العناصر في كائن واحد هو مبدأ أصيل في الفنون على اختلافها؛ هو المبدأ الذي بمقدار تحققه يكون للأثر الفني قيمته.
فالرائي الغافل الذي ينظر إلى زهرة مثلا فيرى وحدتها ويغفل عن الكثرة المكونة لهذه الوحدة، يفوته كثير من جمال ما يراه، والذي يفوته عندئذ هو إدراك الفورم الذي يربط الأجزاء.
غير أن مجرد الكثرة لا يكفي.
فالكثرة التي هي مجرد تكرار عددي كدقات الساعة أو قضبان السور الحديدي أو صفوف الجند، قليلة الجمال لقلة فاعلية المبدأ التوحيدي.
بل لا بد أن تكون الأفراد منوعة، ومع ذلك يكون بينها وحدة، كأعضاء الجسم الحي؛ فالأفراد في زحمة من الناس أجمل من الأفراد في صفوف، والأشجار في غابة أجمل منها في حديقة منسقة.
نعم إن للتكرار العددي جماله، لكنه جمال تكفيه لمحة، وليس هو الجمال الذي يزداد غزارة كلما عاودنا إدراكه.
والتكرار العددي محدود في قدرته على تداعي الأفكار؛ إذ ما يستدعيه عضو هو نفسه ما يستدعيه عضو آخر، وما هكذا الكثرة المنوعة الأفراد؛ ومن ثم تكون الخصوبة والغنى.
وأعتقد أن التزام الشعر العربي قافية واحدة مكررة في القصيدة يفقده شيئا من جمال تكسبه القصيدة لو تنوعت قوافيها.
والجمال الزخرفي المكون من تكرار الوحدات أقل من جمال الطبيعة المنوعة المحتوى.
تحليل الذوق الفني
1
الذوق حاسة من الحواس الخمس الظاهرة: البصر، والسمع، واللمس، والذوق، والشم. وعضو الذوق هو اللسان، كما أن عضو البصر هو العين، وعضو السمع هو الأذن، وعضو الشم هو الأنف، وعضو اللمس هو سطح الجلد كله؛ حتى لنستطيع أن نقول إن الحاسة الأولى في مراحل التطور البيولوجي هي اللمس، حين كانت الأميبا تحس محيطها باللمس وحده، ثم حدث على مر الزمن تخصص في أجزاء الجلد المختلفة، أدى إلى أن تختص أجزاء معينة ب «لمس» أجسام معينة دون سواها؛ فالعين «تلمس» الضوء، والأذن «تلمس» الصوت، والأنف «يلمس» الرائحة، واللسان «يلمس» الطعم، وبقية سطح الجلد «تلمس» ما بقي بعد ذلك من ملموسات، كالنعومة والخشونة.
لكننا نلاحظ أن شعوب الأرض جميعا، على اختلاف لغاتها، قد اختارت حاسة «الذوق» دون سائر الحواس الأخرى لترمز بها إلى نوع المعرفة التي يحصلها الإنسان بالاتصال المباشر بالشيء المعروف، وحين تكون تلك المعرفة المباشرة ممتزجة بالميل والرغبة؛ وعلى هذا الأساس جاز لنا أن نقول إن للعين «ذوقا» تفاضل به بين الألوان المرئية، وإن للأذن «ذوقا» تقوم به الأصوات المسموعة، وهلم جرا؛ وترانا نتهم الناس في «أذواقهم» حين لا يحسنون الاختيار، أو حين لا يصدقون الحكم في شتى ضروب المحسوسات الأخرى، فلماذا ننيب حاسة «الذوق» عن سائر الحواس الأخرى؟ ما الذي يميز حاسة الذوق دون بقية الحواس؛ مما يكسبها هذه القوة التعبيرية التي تعبر بها عن مجالها الخاص أصالة، وعن بقية المجالات نيابة ومجازا؟
إن أول ما نلاحظه في هذا الصدد هو أن ثلاث حواس من الخمس تحس الشيء المحسوس وهو على مبعدة منها، وهي حواس البصر والسمع والشم، فأنت ترى الشيء، أو تسمع الصوت، أو تشم الرائحة ، دون ما حاجة إلى مس المصدر الخارجي مسا مباشرا، بل إنه في حالتي السمع والشم قد لا يكون ذلك المصدر ظاهرا. وتبقى حاستان، هما اللمس والذوق، لا تعملان عملهما إلا إذا مستا المصدر الخارجي مسا مباشرا (لاحظ المعنى الحرفي لكلمة «يباشر»، وهو أن تمس البشرة البشرة في الشيئين اللذين يتماسان).
لكننا نعود فنجد فرقا هاما بين هاتين الحاستين المباشرتين، اللمس والذوق؛ وذلك أن التنبيه اللمسي آلي، على حين أن التنبيه الذوقي كيموي؛ وأعني بهذا أن التنبيه في الحالة الأولى لا يتطلب أكثر من وجود المنبه على سطح الجلد، وأما التنبيه في حالة الذوق فيتطلب إذابة المذوقات وتفاعلها بالمواد الموجودة في الحلمات التي تكسو الغشاء اللساني؛ أي إن التنبيه الذوقي يتطلب من الفاعلية العضوية في الجسم المدرك أكثر مما يتطلبه التنبيه اللمسي.
وللذوق صلته الوثيقة بالتغذية - التي هي العماد الأول لبقاء الحياة - إذ هو بمثابة الحارس الذي يقف عند مدخل القناة الهضمية، يميز بين الأجسام الداخلة تمييزا يمكنه من قبول المفيد منها ورفض الضار المميت.
ومن هذا التحليل السريع، نخلص إلى نتيجتين خاصتين بحاسة الذوق؛ الأولى: هي أن هذه الحاسة أقرب إلى الفطرة الأولية من غيرها؛ لأنها متصلة بمادة الغذاء الذي هو مادة الحياة، ولأنها تمتزج بالشيء المحسوس امتزاجا لا يدع لها فرصة تتروى فيها أو أن تتدبر الأمر قبل حدوثه؛ فالشيء المحسوس باللسان إما مقبول فورا أو مرفوض فورا، وليس الأمر كذلك بالنسبة لحاسة البصر - مثلا - فلأننا نرى الشيء وهو على مبعدة منا، يتاح لنا أن «نفكر» في نتيجة الصدام بيننا وبينه قبل وقوعه، فإما أن نقرر العمل على التقرب إذا كان معينا لنا، أو أن نقرر الفرار إذا كان مناهضا لمصالحنا؛ ومن أجل ضرورة البت السريع بالنسبة لحاسة الذوق، كان لا بد لها من قابلية شديدة للتهذيب لكي ترهف الإرهاف الذي يساعدها على هذا البت السريع في القبول والرفض، أفيكون غريبا بعد هذا أن تتخذ مقياسا للتهذيب الحضاري كله؟
الثانية: هي أن حاسة الذوق لكونها مباشرة على النحو الذي وصفناه، فإنها لا تستغني بالرمز عن الموقف نفسه. وأشرح ذلك قليلا فأقول إن الكائن الحي وهو على فطرته يستجيب لمواقف متعينة مشخصة، حتى إذا ما نما في طريق الإدراكات المجردة (وهو نمو خاص بالإنسان وحده دون سائر الحيوان) أخذ ينيب شيئا عن شيء، فجزء واحد من أجزاء الموقف يكفيه ليستجيب الاستجابة التي لم يكن ليستجيبها إلا للموقف كله، ثم يمضي الإنسان في عملية الإنابة التجريدية هذه حتى يصل إلى مرحلة استخدام اللغة، وهنا تغنيه اللفظة عن الشيء نفسه، فيستجيب لها الاستجابة نفسها التي يستجيب بها للشيء ذاته لو كان قائما أمامه مشهودا له.
والذي نقوله الآن هو أن حاسة الذوق لا تستغني بالرمز - لغويا أو غير لغوي - عن الشيء نفسه أو عن الموقف نفسه؛ لضرورة أن يكون الشيء المذاق واقعا وقوعا مباشرا على اللسان. نعم إن عملية الإنابة بالرموز - الرموز اللغوية أو غيرها - هي من أقوى علامات الرقي الإنساني، حتى لقد قيل إن استخدام «الكلمة» - أي الرمز - هو المرحلة التي حددت خروج الإنسان في مدارج التطور البيولوجي من عالم الحيوان الأعجم، ومن هنا قيل عنه إنه الحيوان الناطق، كما قيل في الكتب المقدسة على اختلافها إن في البدء كانت الكلمة. أقول إنه على الرغم من عملية الإنابة بالرموز عن الأشياء والمواقف، وإن تكن أقوى علامة على الرقي الإنساني، إلا أنها في الوقت نفسه تتضمن البعد بين الإنسان المدرك والشيء المدرك؛ ولذلك خلت منها حاسة الذوق، وهذا هو السر في أننا نشير ب «الذوق» إلى أية عملية إدراكية يكون فيها الإنسان على صلة مباشرة بالشيء المدرك، سواء أكان ذلك الشيء مرئيا - كما هي الحال عند رؤية لوحة فنية - أم كان مسموعا كما هي الحال عند الاستماع إلى قطعة موسيقية أو إلى قصيدة من الشعر.
2
على ضوء هذا الذي أسلفناه، نستطيع أن نفرق بين شيئين كثيرا ما يحدث الخلط بينهما، وهما: (1) التذوق الفني. (2) النقد الفني.
فالتذوق الفني هو أن تجابه عملا فنيا مجابهة مباشرة، «فتذوقه» بالحاسة الملائمة له (بالعين إذا كان صورة ، وبالأذن إذا كان نغمة ) تماما كما تضع لقمة الطعام على لسانك وضعا مباشرا لتذوقها بلسانك؛ فها هنا لا نطق ولا كلام ولا تجريد ولا رمز؛ إنك تتذوق ما تتذوقه وأنت صامت، تنظر إلى اللوحة في صمت، أو تنصت إلى القطعة الموسيقية في صمت، وإلى هنا فلا نقد؛ لأن النقد يقتضي أن تعلق على ما قد تذوقته تعليقا تبين به - بعد تحليل - لماذا جاء تذوقك له على النحو الفلاني من إعجاب أو من نفور.
وإذن فمرحلة النقد الفني هي مرحلة ثانية تأتي بعد مرحلة الذوق أو التذوق، وهي مرحلة - كما قلت لتوي - يقوم فيها الناقد بعملية تحليلية؛ أي بعملية فكرية لا ذوقية؛ إذ يحاول أن يلتمس المواضع والعناصر التي تدخل في تركيب الشيء المنقود، والتي كان من شأنها أن تحدث ما قد أحدثته من أثر إبان عملية التذوق. ولا أريد أن أترك هذه النقطة قبل أن أبدي عجبي من أولئك الذين يصرون على أن النقد الفني عملية ذوقية لا مجال فيها للفكر العقلي، ولست أدري كيف يفرق هؤلاء - بناء على وجهة نظرهم هذه - بين التذوق الذي يتبعه نقد، وبين التذوق فقط! أم أنهم يحسبون أن كل متذوق ناقد؟ كلا، فبينما لا يكون نقد فني إلا إذا سبقه تذوق، يجوز أن يكون هنالك تذوق بغير أن يلحقه نقد فني. إن الناقد الفني يسأل نفسه - بعد أن تذوق ما تذوقه - لماذا كان ذلك كذلك؟ وما دام هو يسأل عن «أسباب» فهو يؤدي عملية فكرية عقلية يعلل بها الحالة الذوقية التي مر بها ممارسا ومكايدا ومعانيا ومخالطا ومعايشا، وما شئت من هذه المترادفات.
لكن الناقد إبان عملية التحليل للقطعة الفنية، كثيرا ما يتأثر في تحليله بفكرة سابقة تجعله يبحث عن شيء معين، هذا أمر لا بد منه؛ لأن القطعة الفنية مكونة من آلاف العناصر، فماذا يجديه تحليل تلك العناصر الكثيرة ما لم يكن مهتديا بشيء يبحث عنه؟ وباختلاف هذا الشيء المبحوث عنه تختلف مذاهب النقد الفني؛ فهنالك الناقد الذي يعتقد أن القطعة الفنية إنما جسدت مشاعر كانت - قبل تجسيدها - كائنات نفسية باطنية يشعر بها صاحبها شعورا داخليا، وبتجسيدها أصبحت كائنات مرئية - في حالة التصوير مثلا - أو كائنات مسموعة في حالة الموسيقى، وما دامت هذه هي عقيدة الناقد في القطعة الفنية التي يريد تحليلها، فتراه يبحث فيها عن الدلالات التي تشير إلى الحالات الشعورية النفسية التي دفعت الفنان إلى خلق فنه هذا؛ أفيها - مثلا - ما يدل على النشوة أم فيها ما يدل على الحزن؟ أفيها ما يدل على الانطلاق الحر أم فيها ما يدل على التقيد؟ أفيها ما يدل على تلقائية الطفل وهو على فطرته، أم فيها ما يدل على تدبير العقل الرشيد وهو مكبل بأغلال القواعد؟ وهكذا وهكذا.
وليس في هذا الاتجاه النقدي - أعني الاتجاه الذي ينتقل من العناصر المحسوسة التي أمامه إلى العناصر النفسية الخافية في بطن الفنان - أقول ليس في هذا الاتجاه النقدي ما يدعو إلى الغرابة؛ لأنه مستند إلى أساس طبيعي؛ فالإنسان بطبيعته الجسدية نفسها تراه يخرج الباطن في علامات ظاهرة، فيخرج الخجل - وهو حالة نفسية - في حمرة الوجه، ويخرج الخوف - وهو حالة نفسية أيضا - في اصفرار الوجه ورعشة الأطراف، ويخرج الغضب - وهو حالة نفسية كذلك - في تقطيبة الجبين، وهكذا. أفلا يجوز للفنان - على هذا الأساس - أن يخرج حالاته على اللوحة ألوانا أو خطوطا دالة عليها؟
وها هنا نلاحظ أن الناس قد تواضعوا - لأسباب بيولوجية في معظم الأحيان، ولأسباب اجتماعية ثقافية في بقية الأحيان - تواضعوا على أن تكون الألوان والخطوط دالة على حالات نفسية معينة؛ فاللون الأحمر - الذي هو في الطبيعة لون النار ولون الدم - صالح لأن يرمز إلى اضطراب العاطفة وهيجانها، وإلى العنف؛ واللون الأبيض - الذي هو في الطبيعة كثيرا ما يكون ناشئا عن الخلو من القذر - صالح لأن يرمز إلى الحالات النفسية التي تكون خالية من الشوائب، كالطهر والصفاء ونقاء الضمير؛ والضوء - الذي هو في الطبيعة آت من مصادر في السماء كالشمس مثلا - صالح لأن يرمز إلى الشعور بالقداسة، وكذلك الارتفاع المكاني نرمز به إلى الارتفاع المعنوي، وإن شئت فانظر إلى الألفاظ اللغوية الدالة على «الرفعة» الروحية، تجدها جميعا - في أصلها - كلمات استخدمت أساسا للدلالة على ارتفاع مادي في المكان، مثل: «شرف»، و«سمو»، و«شمم»، و«أنفة»، و«علو» ... إلخ. والعكس صحيح أيضا؛ أي إن الكلمات الدالة في أصلها على انخفاض مادي في المكان، تستخدم بالطريقة الرمزية لتدل على انخفاض روحي، مثل: «منحط»، و«سافل»، و«دنيء»، و«واطي» ... إلخ.
وفي هذه المناسبة تعن لي ملاحظة جديرة بالذكر ونحن بصدد النقد الفني، وهي أن هنالك بين العلامات الجسدية الدالة على الحالات النفسية فرقا جوهريا؛ فمنها ما يستحيل على الإنسان أن يفتعله متعمدا، كحمرة الخجل، ومنها ما يستطيع الإنسان أن يفتعله مزورا، كتقطيبة الجبين الدالة على الغضب. وكذلك الحال بالنسبة لإخراج الحالات النفسية في رموز فنية كالألوان؛ فقد يستخدم الفنان لونا ما ليدل به - صادقا - على حالته الشعورية الملائمة له، وقد يستخدمه مقلدا لغيره؛ فهو مزور في فنه، وعلى الناقد الفني أن يميز بين هاتين الحالتين في عالم الفن، كما يميز بينهما الإنسان المجرب في دنيا الحياة العملية.
هكذا قد يبحث الناقد في القطعة الفنية المنقودة عن العلامات التي تدله على ما قد كان في دخيلة نفس الفنان من مشاعر، كأنما هو يسير طريقه بادئا من الخارج إلى الداخل، أو بتعبير أصح، كأنما هو يستدل النصف المغموس المختفي، من النصف الظاهر البادي للعين.
لكن الناقد قد يبحث عن شيء آخر؛ ولذلك فقد يغير مجرى سيره؛ إذ قد يبحث عن شيء خارج العمل الفني نفسه، وخارج ذات الفنان، يبحث عنه في حوادث الماضي - مثلا - أو فيما ورد في الكتب (مقدسة أو غير مقدسة) من أساطير وقصص، أو في مظاهر الطبيعة من جبال وأنهار وما إلى ذلك، أو في أشخاص بأعينهم، وهكذا. وكلما كان الأثر الفني أنصع دلالة على ذلك الشيء الخارجي، كان أجود. وقد يدخل في هذا القبيل أن يبحث الناقد في الأثر الأدبي عن عناصر تدل على المبادئ الخلقية المعترف بها في المجتمع، كالعفة والعدل والطهر وما إليها.
هذان اتجاهان في النقد الفني متضادان؛ أحدهما يتسلل خلال العمل الفني إلى ما وراءه في نفس خالقه، والثاني يتسلل خلال العمل الفني إلى ما وراءه في العالم الخارجي - ماضيه أو حاضره - وبالطبع قد يلتقي هذان الاتجاهان في ناقد واحد وإزاء عمل فني واحد، وعندئذ ترى النقد يعنى بالاتجاه النفسي إلى جانب عنايته بدلالة القطعة الفنية على أمور الواقع. وتستطيع أن تجمع هذين الاتجاهين تحت نظرية نقدية واحدة تشملهما معا، هي نظرية المحاكاة، التي تقول إن العمل الفني يحاكي شيئا سواه، وهذا الشيء المحاكى إما أن يكون في داخل الفنان أو أن يكون في خارجه، ولو أن بعض رجال النقد يقصرون نظرية المحاكاة على محاكاة الفن للخارج فقط، ثم يطلقون على محاكاة الفن للداخل اسم «النظرية النفسية» آنا، و«النظرية التعبيرية» آنا آخر.
لكن هنالك مذهبا ثالثا في النقد، يتشيع له كاتب هذه الأسطر، وهو مذهب في حركة النقد الفني جديد في أوروبا وأمريكا، وقديم معروف في حركة النقد الفني عند العرب الأقدمين، ومؤداه أن ينصب تحليل الناقد على العمل الفني نفسه، لا لننفذ خلاله إلى نفس الفنان، ولا إلى العالم الخارجي بماضيه وحاضره، بل لنقف عنده هو ذاته، فنرى كيف تأتلف عناصره؛ مما قد أدى إلى حسن وقعه على «ذوق» المتذوق. نعم، نحصر أنفسنا في العمل الفني نفسه، فلا نسمح لأي عامل خارجي أن يتدخل في حكمنا، كنفس الفنان ومشاعره، أو حوادث التاريخ، أو الأساطير الدينية وغير الدينية، أو المبادئ الخلقية، أو الأفكار الفلسفية، أو المذاهب السياسية؛ فلا يجوز للناقد - بناء على هذه المدرسة الجديدة - أن يسأل عن لوحة - مثلا - قائلا: ما مغزاها؟ أو ما معناها؟ لأنه لا مغزى ولا معنى في الفنون؛ إذ الفن «خلق» لكائن جديد. هل نسأل عن جبل أو عن نهر أو عن شروق أو غروب قائلين: ما مغزى؟ وما معنى؟ أو هل ترانا ننظر إلى التكوين وحده معجبين أو نافرين؟ وهكذا ينبغي أن يكون موقفنا إزاء العمل الفني؛ لأنه خلق وإنشاء، وليس كشفا عن أي شيء كان موجودا بالفعل ثم جاء الفن ليصوره. العمل الفني - بناء على هذه المدرسة النقدية - معياره هو الفن نفسه؛ فمعيار الشعر هو الشعر، ومعيار الموسيقى هو الموسيقى، ومعيار التصوير هو التصوير، وهكذا؛ أعني أن تقاليد كل نوع من أنواع الفنون، وقواعده الخاصة به، هي السند في أحكامنا النقدية، ولا يجوز لناقد اللوحة التصويرية - مثلا - أن يقومها على أساس ما فيها من حادثة تاريخية، أو من موقعة حربية، أو من أسطورة أو قصة، أو من حكمة فلسفية، أو من مبدأ خلقي، كل هذه أشياء لها قيمتها في مضمارها، لكنها ليست من فن التصوير ذاته؛ فمادة التصوير لون؛ أعني أن مادته هي الضوء، كما أن مادة الموسيقى هي الصوت، ولا بد لنا أن نحاسب الفنان على الطريقة التي وزع بها هذا اللون أو هذا الضوء على لوحته، بغض النظر عن الشيء المرسوم؛ لأن هذا الشيء لا يزيد على كونه تكئة اتخذها الفنان اتفاقا ليرتكز عليها في تكوين الكتل الضوئية على اللوحة.
3
وأيا ما كان الأمر بالنسبة إلى النقد الفني وقواعده وأهدافه، فموضوعنا هو الذوق الفني، وقد أسلفنا القول بأنه شيء يختلف عن النقد الفني؛ إذ هو المرحلة الأولى الضرورية التي لا بد أن يجتازها الرائي - أو السامع - قبل أن يقف حيالها ليسأل نفسه عن العناصر التي كانت مبعث نشوته الفنية، وسؤالنا الرئيسي هو: ما هي الخيوط الأولية التي منها ينشأ النسيج الذي ندعوه ب «الذوق الفني»؟ ماذا عند صاحب الذوق الفني مما يعوزه من ليس عنده مثل هذا الذوق؟ هذا هو السؤال.
والرأي الذي انتهيت إليه في هذا، والذي أعرضه الآن، هو أن اكتساب القدرة الذوقية في مجال الفنون معتمد على نفس الأساس الذي تتعلم عليه ألفاظ اللغة. ولشرح هذه الفكرة أقول:
إن متعلم اللغة إنما يتعلم ألفاظها وتراكيبها أول الأمر بعملية الترابط بين الوحدة اللغوية من جهة وبين الشيء المسمى بتلك الوحدة من جهة أخرى؛ فإذا أشير أمام الطفل إلى برتقالة ثم نطق له في نفس اللحظة بكلمة «برتقالة»، ربط بين الشيء والكلمة ربطا يجعله بعد ذلك يستغني بالواحدة عن الأخرى؛ أي إن الكلمة وحدها تكفي للتفاهم بعد ذلك، ولا داعي بعدئذ إلى أن يجيء المتفاهم ببرتقالة حقيقية كلما أراد أن يتفاهم على شيء يتصل بها، وتلك هي المهمة العظمى والأهمية الكبرى للرمز في حياة الإنسان العقلية.
لكن الرمز اللفظي قد يكون أحيانا غير محدد الإشارة، وذلك حين يستخدم لينطبق على أسرة كبيرة من الأشياء والمواقف، بينها شبه ظاهر أو شبه خفي، وعندئذ لا يكون سبيل إلى تحديد مثل هذا الرمز إلا ضرب الأمثلة من أفراد تلك الأسرة التي ينطبق عليها؛ فلو سألتني مثلا: ما معنى كلمة «مربع»؟ لما وجدت حيرة في أن أشير لك إلى شكل مرسوم على صورة معينة قائلا: هذا هو مربع. ثم لما وجدت حيرة في أن أصف لك على وجه الدقة مجموعة الخصائص التي تجعل من المربع مربعا، لكنك لو سألتني: ما معنى «الحب»؟ أو ما معنى «الغيرة»، مثلا؟ لأخذتني الحيرة في طريقة تحديد المسمى؛ ولذلك فقد تراني أذكر لك الأمثلة الموضحة، قائلا: أما الحب فهو الذي يتمثل في حالات كالتي وقعت بين قيس وليلى، وبين روميو وجولييت، وأما الغيرة فهي التي تتمثل في حالات كالتي نعرفها في عطيل. وإذن فمعاني ألفاظ كهذه تزداد تحديدا كلما ازدادت خبراتنا بمواقف متشابهة من أسرة واحدة.
ومن هذا القبيل الألفاظ الجمالية التي نستخدمها في وصف التذوق الفني؛ فالرائي يقف أمام صورة مثلا، وفجأة تراه يتذكر من خبراته الماضية مواقف يجد بينها وبين هذه الصورة الماثلة أمامه وجها من الشبه، فيصف الصورة بنفس الكلمة التي يصف بها تلك المواقف المألوفة في حياته اليومية، كأن يقول مثلا: إن في هذه الصورة «رشاقة»، أو إن فيها «حرارة» أو «حركة»، وهكذا.
خذ إحدى هذه الكلمات، ولتكن «الرشاقة»، وسل نفسك: كيف جاءتني هذه الكلمة؟ وكيف تعلمتها؟ ثم ما معناها؟ تجد أن الطريقة الوحيدة لتعلمها هي أنها ارتبطت في ذهنك بأشياء، إن اختلفت في نواح فهي تتشابه في نواح أخرى تشابها يبرر أن نصفها كلها بهذه اللفظة الواحدة. وإنك لتعرف كيف تستعمل الكلمة استعمالا صحيحا، ولكنك قد لا تعرف أبدا كيف تحدد معناها تحديدا قاطعا جامعا مانعا. إنك تعرف متى تصف فتاة بالرشاقة، ومتى تصف إناء بالرشاقة، ومتى تصف طائرا بالرشاقة، ومتى تصف زهرة بالرشاقة؛ ففيم تتشابه هذه الأشياء الرشيقة كلها؟ أنقول إنها تتشابه في نحول الأجزاء ودقتها ورقتها؟ لكن هذا وحده لا يكفي؛ لأنني قد أرى الفتاة النحيلة الأجزاء فأصفها بالمرض ولا أصفها بالرشاقة؛ إذن فلا بد أن تضاف إلى النحولة حيوية الصحة ونشاط العافية؛ فإذا ما نظرت إلى صورة رقيقة الخطوط هادئة الألوان ووصفتها بالرشاقة، فإنني بذلك أضمها إلى سائر أفراد الأسرة التي توافرت لها الصفات التي تسوغ هذه التسمية، وبمقدار ما تكون لك القدرة على إيجاد الشبه بين الصورة وبين أشياء الحياة الجارية المألوفة في أمثال هذه الصفات الجمالية، تكون لك القدرة الذوقية؛ وإذن فما نسميه بالذوق الفني يرتد في نهاية التحليل إلى قدرة على تطبيق الألفاظ الجمالية على عمل فني.
وقد تسألني: ماذا تعني بقولك «لفظة جمالية»؟ وأجيب بأنك حين تكون بإزاء عمل فني - كلوحة مثلا - وتريد أن تتحدث عن ذلك العمل، فلن يخرج حديثك عن استعمال أحد نوعين من الكلمات: (أ)
فإما أن تستخدم كلمات لها دلالات محسوسة في أجزاء العمل الفني المعروض، كأن تقول مثلا: «لون أصفر»، أو تقول: «خط مستقيم». (ب)
أو أن تستخدم كلمات ليس لها دلالات محسوسة في أجزاء العمل الفني المعروض، كأن تقول مثلا عن لوحة ما إن فيها «حياة». بديهي أن ليس فيها حياة بالمعنى المعروف لهذه الكلمة، فهي لا تأكل ولا تشرب ولا تمشي؛ إذن فهذه الكلمة لم تستخدم لتشير إلى أي جزء محسوس مرئي يشار إليه بالأصابع، بل تشير إلى صفات مقدرة، وغير محسوسة بحاسة البصر، وإنما المعول في استخدامها هو التشابه من بعض الوجوه بين الصورة من جهة وبين الكائنات الحية من جهة أخرى، وصاحب الذوق الفني هو الذي له القدرة على إيجاد هذا التشابه، والقدرة على الوقوع على اللفظة المناسبة التي تحدد نوع هذا التشابه بين العمل الفني وبين أشياء الحياة الجارية. وإني لأخشى أن يظن ظان أن المسألة إن كانت كذلك فهي هينة، لكنه ظن بعيد عن الحقيقة بعدا بعيدا، ولطالما استمعت إلى أصحاب الذوق الفني وهم يطلقون أمثال هذه الكلمات الجمالية التي تلقي الضوء على أوجه الشبه بين العمل الفني وبين أشياء الحياة اليومية ومواقفها، فكنت أحس أحيانا أن كلمة من هذه الكلمات حين تجيء صائبة، تفتح مغاليق العمل الفني أمام عيني.
وقد يحدث أن صاحب الذوق الفني، إذ هو يصف العمل الفني بلفظة جمالية تبين سر جمالها، يرتب وصفه الجمالي هذا على وصف جمالي آخر، كأن يقول مثلا: في هذه اللوحة حيوية شديدة؛ لأن خطوطها حرة قوية جريئة، أو إن هذه اللوحة فيها تلقائية؛ لأن خطوطها تنساب في سهولة ويسر، أو إن هذه اللوحة متزنة لما بين أنغامها اللونية من تجاوب.
وفي مثل هذه الحالة التي يرتب فيها الناقد الفني صفة جمالية على صفة جمالية أخرى، يكون كمن يترك الخيوط سائبة الأطراف معلقة في الهواء. وفي رأيي أن التعليل الذوقي لا تتم دورته إلا إذا عاد الناقد فربط بين ألفاظه الجمالية التي لا تشير إلى شيء محسوس في اللوحة المعروضة أمامه - إن كان العمل المنقود لوحة - وبين شيء محسوس فيها، تراه العين بين أجزائها وتشير إليه الأصابع. وكأن يقول مثلا: إن هذه اللوحة رشيقة (الرشاقة لفظة جمالية لا تشير إلى محسوس) بسبب هذه الخطوط المنحنية (الخطوط المنحنية المشار إليها شيء محسوس)، أو إن هذه اللوحة ينقصها الاتزان (الاتزان لفظة جمالية) لكثرة الشخوص في جانبها الأيمن دون جانها الأيسر (كثرة الشخوص شيء محسوس)، أو لشدة اللمعان في أحد جانبيها دون الآخر (اللمعان شيء محسوس). وإذا لم يقدم لنا الناقد الفني الذي يعلل تذوقه لعمل ما شواهد حسية كهذه، كان كالذي ما يزال واقفا عند مرحلة التذوق وحدها لا يجد لها تعليلا نقديا. وأحسب أننا جميعا قد مرت بنا أمثال هذه الحالات، والواحد منا ينظر إلى صورة أو تمثال، أو وهو يسمع قطعة موسيقية أو قصيدة من الشعر؛ إذ هو يحس إحساسا قويا بما فيها من صفات جمالية يستطيع أن يفسرها تفسيرا جماليا بما يهتدي إليه من أوجه الشبه بينها وبين خبراته المعتادة المألوفة، لكنه يعجز عن تحديد الأجزاء الفعلية في العمل الفني الذي أحس نحوه هذا الإحساس؛ الأجزاء الفعلية التي قد أدت به إلى إحساسه ذاك، حتى يسعفه الناقد البارع، فيضع أصابعه على تلك العناصر الحسية في الأثر الفني، وعندئذ تراه يدرك على الفور أنه قد عثر على ضالته، أو أن غطاء قد انكشف عن المجهول فوضح أمام العين.
ومؤدى هذا الذي قلناه أن الذوق الفني يسير خطوتين؛ في الخطوة الأولى تكون لدى المتذوق قدرة على وصف العمل الفني بألفاظ جمالية، وفي الخطوة الثانية يربط هذه الألفاظ الجمالية بجوانب محسوسة في العمل المنقود، والفرق المنطقي بين الخطوتين هو أن الناقد الفني في الحالة الأولى يستخدم ألفاظا تصدق على أشياء كثيرة في وقت واحد؛ فليس هناك شيء واحد محدد هو الذي لا بد أن يوصف ب «الاتزان» - مثلا - بحيث لا يجوز أن يوصف شيء غيره بهذه الصفة، ولنفرض أن الأشياء التي يمكن أن تنطبق عليها كلمة «اتزان» هي إما «أ» أو «ب» أو «ج» أو «د»، كل واحدة من هذه الحالات لو وجدت في الصورة قيل عن الصورة إن فيها «اتزانا». وأما في الحالة الثانية فالناقد لا يكتفي بهذه اللفظة «العائمة» ثم يتركها لتعني أي شيء من الأشياء المختلفة التي قد تعنيها («أ» أو «ب» أو «ج» أو «د»)، بل يحدد معناها في الموقف المعين الذي هو فيه، فيقول إن في هذه الصورة التي أمامي الآن «اتزانا» لأن فيها «ب» (افرض أن «ب» معناها هنا تعادل الكتل اللونية في جانبي الصورة). بعبارة أخرى، موقف الناقد في الخطوة الأولى التي يستخدم فيها لفظا جماليا هو موقف «مفتوح»؛ أي أنه قابل لأن تدخل فيه أشياء كثيرة، وأما موقفه في الخطوة الثانية التي يشير فيها إلى شيء محسوس في العمل المنقود فهو موقف «مقفل»؛ لأن الأمر عندئذ يختم وينحسم بالإشارة إلى شيء واحد دون سائر الأشياء التي قد تعنيها اللفظة الجمالية في الحالة الأولى.
وأحب هنا أن أشير إلى أن هذا التحليل لا يصدق فقط على النقد الفني، بل هو بعينه ما نراه في مجالات كثيرة أخرى؛ فافرض مثلا أن أحدا وصف شخصا ما ب «الذكاء»، فلا شك أنه يكون عندئذ قد حدده بعض التحديد، لكن «الذكاء» كلمة يصح استعمالها في حالات متعددة، ولنرمز إلى هذه الحالات بالرموز «أ»، «ب»، «ج»، «د»؛ أي إن كل حالة من هذه الحالات يجوز وصفها بكلمة «ذكاء»، لكن الأمر ينحسم بالخطوة الثانية التي يقول فيها القائل إن هذا الشخص المعين موصوف ب «الذكاء» لأنه «قادر على التفكير المجرد»، أو «لأنه قادر على ربط العلاقات بين أشياء قد يبدو أن ليس بينها أية علاقة»، وهكذا.
على أن هذا الطريق ذا المرحلتين الذي حللنا به تكوين الذوق الفني، لا يجوز السير فيه إلا في اتجاه واحد، وإلا تعرضنا للزلل إذا نحن سرنا في الاتجاه المضاد - وكثيرا ما يكون هذا هو موضع الزلل بالنسبة للناقد المبتدئ - وأعني بذلك أنه إذا جاز لنا أن نقول عن صورة ما: إن هذه الصورة دافئة، بسبب هذا اللون الأحمر الباهت الذي نراه فيها، فلا يجوز أن أسير في الاتجاه المضاد فأقول: إن في هذه الصورة لونا أحمر باهتا؛ وإذن فلا بد أن تكون صورة دافئة؛ وذلك لأنه بينما صفة الدفء لا تتوافر ولا تتحقق إلا باللون الأحمر، إلا أن العكس قد لا يكون صحيحا؛ أي إنه قد يتوافر اللون الأحمر دون أن يسود في الصورة صفة الدفء. ولو قلت هذا بمصطلح منطقي لقلت: إن صدق المقدم في الجملة الشرطية يستدعي صدق التالي، لكن صدق التالي لا يستلزم صدق المقدم.
وأجمل فأقول: (1)
استخدمنا كلمة «الذوق» للإدراك الفني - دون الحواس الأخرى - لما يتصف به ذوق الطعام باللسان من اتصال مباشر بالشيء المتذوق، ومن فاعلية يقوم بها اللسان إزاء الشيء المتذوق ليبت في أمره بتا سريعا ولا يحتاج إلى تدبر وتفكير ، فإما أن يقبل الشيء المتذوق فيسمح له بالدخول، وإما أن يرفض فيلفظ؛ لأن دخول الطعام أمر حيوي بالنسبة للكائن الحي. (2)
والذوق الفني كالذوق باللسان فيه القبول المباشر أو الرفض المباشر، وفيه عدم التجريد؛ أي إنه لا يختار من العمل الفني جانبا دون جانب، ولا يكفيه أن ينوب عن العمل الفني رمز يدل عليه، كما هي الحال بالنسبة إلى سائر المجالات الإدراكية؛ إذ لا بد من اللقاء المباشر للعمل كله دفعة واحدة، وإما أن يقابل بالنشوة أو بالنفور. (3)
وليس التذوق الفني هو نفسه النقد الفني؛ لأن هذا مترتب على ذلك يأتي بعده يعلله، فبينما الأول قد يستغني عن الثاني، يستحيل على الثاني أن يستغني عن الأول. (4)
وللنقد الفني مدارس مختلفة، منها ما ينفذ خلال العمل الفني إلى ما وراءه، وهذا الذي وراءه إما أن يكون داخل نفس الفنان أو خارجها؛ أي إنه عندئذ يكون في الوجود الخارجي ماضيه أو حاضره؛ كما أن من مدارس النقد ما يقف عند العمل الفني نفسه - لا لينفذ خلاله إلى سواه - بل ليحلل أجزاءه هو، ويرى كيف ركبت بحيث أحدثت الأثر الذي أحدثته. (5)
وتكوين الذوق الفني الذي يؤهل صاحبه للنقد الفني السليم يتم على خطوتين أساسيتين؛ الأولى: أن يدرك وجها للشبه بين العمل الفني وبين خبرات الحياة الجارية، مطلقا على هذا الشبه لفظة جمالية مما تعود استعماله في حياته العادية، كأن يصف لوحة بالمرح، أو بالكآبة، أو بسرعة الحركة، أو ببطئها، وهكذا. والثانية: هي أن يشير على وجه التحديد إلى الأشياء الحسية في العمل الفني، التي سوغت له أن يطلق عليها تلك اللفظة الجمالية.
أما بعد، فهل أصبت شيئا من التحديد المنشود لعناصر الذوق الفني؟ ألا إنه لموضوع رواغ سرعان ما يفلت من بين أصابعنا، وقلما يصيب فيه المفكر شيئا مما أراد.
رسالة الفنان
ماذا يوحي إلى الناس قولك عن فلان إنه فنان؟ إنه يوحي إليهم أول ما يوحي أنه مختلف عن سائر القطيع، فله معاييره التي يخرج بها على مألوف المعايير ، وليست قيم الناس في تقدير الأشياء هي قيمه، فكأنما هو يعيش في عالم غير عالمهم، ويكابد من الخبرات النفسية غير الذي يكابدون، بل إنه، حتى في غرابته تلك، لا يستقر على حال واحدة من الشذوذ؛ فهو في كل يوم شاذ على صورة من الصور، وعنده تلتقي المتناقضات؛ فالخير والشر يلتقيان على قلمه إن كان كاتبا، أو على فرجونه أو على إزميله إن كان مصورا أو مثالا. فهل يفرق الفنان في تصويره بين الملائكة والشياطين؟ هل يفرق بين الحكيم والأبله؟ فالله والشيطان قد يجتمعان في قصيدة واحدة، كما نرى في «الفردوس المفقود» لملتون، وفي «ترجمة شيطان» للعقاد. ولا عجب أن ترى الفنان - في كثير من الأحيان - عصي الانقياد للقانون السائد والأوضاع القائمة، حتى أبسطها، فلا ثياب الناس تعجبه، فيلبس على هواه، ولا المجاملات المعروفة تستهويه. فإما أن يغفر له الناس شذوذه ويقولون إنه «فنان» فاتركوه، وإما أن يحاسبوه الحساب العسير فيطردوه من مجتمعهم كما فعل شيخ الفلاسفة أفلاطون في «جمهوريته» التي أقامها بخياله العاقل الوثاب.
رسم أفلاطون للدولة مثلا أعلى من وجهة نظره، فجعل الناس طبقات على أساس قدراتهم، ثم جعل لكل إنسان عمله الذي يتفق وطبيعته التي فطر عليها، وأم الشرور كلها - عنده - أن يحاول رجل من فئة أن يؤدي مهمة رجل من فئة أخرى؛ فالفضيلة الكبرى التي لا فضيلة بعدها هي أن يرضى الإنسان بموضعه الذي حددته له طبيعته، وهو بهذا الرضا يحقق وجوده باعتباره إنسانا، ويحقق وجوده باعتباره مواطنا يعيش مع الناس في مجتمع واحد، وهما وجودان قلما يجتمعان إلا في ظل السياسة التي رسمها أفلاطون؛ لأنك - في الأنظمة السياسية الأخرى - إذا أصررت على فرديتك الإنسانية، وأردت التعبير عن طبيعتك الخاصة تعبيرا حرا، خرجت بذلك حتما على التجانس الذي أرادته القوانين الاجتماعية بما فيها من عرف وتقليد، وإذا انضويت مع الناس في طرائق عيشهم، ضحيت حتما بفرديتك المستقلة، لكن الوجودين يلتئمان في الجمهورية الأفلاطونية على زعم صاحبها، فأين يوضع الفنان في مجتمع كهذا يجعل تجانس أبناء الطبقة الواحدة مبدأه الأول، والفنان - كما رأينا - شرود بطبعه جموح، لا ينساق في قالب يقد له، ولا يطمئن لقيد يحدد له خطاه؟
لا عجب إن لم يكن للفنان موضع في مجتمع كهذا، ولقد طرده أفلاطون طردا، وهاجمه أعنف الهجوم؛ فالفنان بفنه يخاطب من الإنسان حواسه كالبصر والسمع، ولا يخاطب عقله، والحواس هي من الإنسان جانبه الأدنى، والعقل هو جانبه الأعلى؛ فأين الرسام - مثلا - الذي يخاطب برسومه عين الرائي، من عالم الرياضة الذي يخاطب بمعادلاته عقل المفكر؟ والفنان فوق هذا - أو بسبب هذا - مضطر أن يقف عند ظواهر الأشياء، فلا تهمه حقيقة الشيء في ذاته بقدر ما يهمه المظهر البادي على سطحها. أئذا رسم رسام فردا من الناس رسم جوهره العقلي، أم تراه يرسم جسدا؟ والفنان فوق ذلك كله خلية هدامة للبناء الاجتماعي، وذلك بالنسبة إلينا الآن هو بيت القصيد.
الفنان - عند أفلاطون وعند كل من يريد للمجتمع تجانسا في أفراده - خلية هدامة للبناء الاجتماعي؛ لأنه كائن حر بطبعه، يؤلف المسرحية مثلا فلا يضيره أن يلبس وشاح الملك أو مرقعة المهرج. إنه على استعداد أن يكون ذا شرف شريف مع هذا البطل، وصاحب خسة خسيسة مع هذا النذل. واختصارا فإن الفواصل بين الحق والباطل تنمحي أمام بصره - فيما يقول أفلاطون أيضا - وإذن فلا مناص من طرده من حظيرة المجتمع إذا أريد للمجتمع بقاء سلم، وحسبنا من المعارف علم وأخلاق؛ فبالعلم نعرف الحق في ذاته، وبالأخلاق نسلك سلوك الفضيلة. وإلى هذا الحد البعيد أخضع أفلاطون الفن للسياسة، ولم يخضع السياسة للفن؛ فالأولوية عنده لسلامة البناء السياسي، واللعنة لكل ما نراه يتعارض مع سلامة ذلك البناء.
فالفن في رأي هذا الفيلسوف عميق الأثر في حياة الناس، ولو لم يكن كذلك لما حفل به، ولأغضى عنه، وأثره العميق إنما هو في تكوينه لعادات شعورية خاصة، فإذا جاءت تلك العادات متفقة مع ما يريده صاحب السلطان كان خيرا، وإلا فالويل لصاحب السلطان إذا اعتاد الناس عن طريق الفن استجابات شعورية لا ترضيه. والنزاع في هذه الحالة محتوم بين الحاكم والمحكوم. ولعل هذا هو بعينه ما يجعل الحكومات الحديثة - حينما يهمها أن يتجانس الناس - حريصة على أن تكون مقاليد الفن في يدها، وقد تجزل العطاء للفنان تهيئ له من طيبات العيش ما يشتهي؛ حتى ينصاع الفن للسياسة في مجراها، فيخلق في الناس استجابات شعورية تصون البناء الاجتماعي ولا تهدمه.
كل ذلك جميل ما دام الأمر مقصورا على بلد واحد وأمة واحدة، فلنفرض - جدلا - أن لا غضاضة على الفرد داخل بلده وفي حدود أمته أن يتجانس مع بقية الأفراد، وأن واجب الفنان هو أن يؤكد هذا التجانس، فيصوغ بفنه مثلا عليا هي التي من شأنها أن تبقي على النظام الاجتماعي والسياسي القائم، ولكن ما هي الحال والعالم بلدان وأمم؟ إحدى اثنتين؛ فإما أن تظل البلدان والأمم على تناحر وخلاف، وعندئذ فليضرب كل فنان في بلده على الوتر الذي تريده أمته، أو أن نسعى إلى إزالة عوامل الشحناء ليكون بين الناس في مختلف أصقاع الأرض إخاء، وعندئذ لا بد للفنان من رسالة أخرى، فماذا عساها أن تكون؟
تكون تلك الرسالة حين يجاوز الفنان حدوده الإقليمية ليخاطب الحقيقة الإنسانية في صميمها. والحقيقة الإنسانية واحدة مهما اختلفت ألوان الجلود، وطرز الثياب، وألوان الطعام، وأنماط الروابط والصلات؛ فبخيل الجاحظ كبخيل موليير، صورة إنسانية لا تقيدها قيود اللغة التي رسمت بها، ولا الأوضاع الاجتماعية التي نشأت في ظلها. وقيس هو روميو، وروميو هو قيس، كما أن ليلى وجوليت أختان في المصير. فاقرأ قيسا إن شئت أو اقرأ روميو، فالحالة الوجدانية في كلتا الحالتين واحدة.
وللإمام الغزالي اعترافات، وللقديس أوغسطين اعترافات، وكلا المتصوفين يصدقان القول كيف أوشكا على ضلال ثم أراد لهما الله الهداية واليقين، فاقرأ هذا أو اقرأ ذاك تجدك إزاء روح إنساني لا يغير من حقيقته أن ينطق بلسان عربي أو لسان غير عربي؛ فالإنسان هو الإنسان في سعادته وفي شقائه، في لهوه وفي جده، في جوعه وفي امتلائه، في رضاه وفي سخطه، وإنما تتغير القشور دون اللباب.
ونتناول الموضوع من زاوية أخرى لتتضح رسالة الفنان في عصرنا الذي تخاصمت فيه الشعوب، وذلك أن ننظر إلى طبيعة الفن في أعماقها، فنراها هي نفسها طبيعة اللعب؛ فالتلقائية في اللعب هي نفسها التلقائية في الفن، والتنفيس الذي يكون في اللعب هو نفسه التنفيس الذي يكون في الفن، والتنزه عن الغرض في اللعب هو نفسه التنزه عن الغرض في الفن. وأهم من هذا كله، التعبير عن الكيان الإنساني في مجموعه - لا هذا العضو وحده أو ذاك العضو وحده - هو في اللعب وفي الفن على حد سواء؛ فأنت لا تدري وأنت تلعب أبالحواس تلعب أم بالعقل؛ لأنك تلعب بكل ملكاتك في آن واحد. وكذلك في الفن إذ تشخص ببصرك إلى صورة أو تصغي بسمعك إلى نغم. وها هنا الغلطة التي أضلت أفلاطون عن الصواب حين ظن الفن منوطا بالجانب الحسي الظاهر دون اللباب العقلي الباطن، وراح يرتب على ذلك النتائج، وها هنا أيضا نضع أصابعنا على أهم نقطة نريد إبرازها لتتبين لنا رسالة الفنان.
ففي حياتنا العملية من تجارة وصناعة وزراعة، بل في حياتنا العلمية ذاتها، قد تنشق حياة الإنسان شطرين؛ فإما هو صاحب فكر أو صاحب عمل يد، وإنها لتفرقة رسخت في الأذهان طوال العصور، حتى لأوشكت أن تبدو للناس وكأنما هي البداهة التي لا تحتمل الجدل؛ ففريق هم أهل الفكر، وفريق هم أهل العمل، وكان للأولين - في الأعم الأغلب - السيطرة والسيادة على الآخرين. وفي مثل هذه القسمة ينشط من الإنسان جانب ويخمد جانب؛ فإن كان من الفريق الأول نشط فكره وخمد جسده، وإن كان من الفريق الثاني نشط جسده وخمد عقله؛ فمتى وأين وكيف تنزاح هذه الحواجز التي تشق الطبيعة الواحدة نصفين؟ تكون في ميدان اللعب، سواء كان اللاعبون أطفالا أو راشدين، فعندئذ يصبح الفرد فردا متكاملا، والإنسان إنسانا واحدا متحدا؛ لأن في ميدان اللعب تخرج جميع القوى إلى الفاعلية النشيطة؛ فالإدراك بالحواس، والإدراك بالعقل، والرغبات والانفعالات وشتى عناصر الطبيعة البشرية تعمل كلها في تناغم لا نشاز فيه. وما يصدق على اللعب يصدق كذلك على الفن؛ ففي مجال الفنون يجد الإنسان نفسه كائنا متكاملا بكل مقوماته، غير منشطر ولا منقسم؛ فلو استحال على الناس وهم في ميدان العمل اليومي أن يتفاهموا لاختلاف أوجه نشاطهم الفكري والبدني - وكيف تريد أن يتفاهم مثلا عالم رياضي وهو في معادلاته المجردة مع نجار أو حداد أو فلاح يده على القادوم أو على المطرقة أو على المحراث؟ - أقول إنه إذا استحال التفاهم عندئذ، فما أيسر التفاهم بينهم جميعا وهم في دولة الفن؛ فالحكاية تروى أو القصيدة تنشد أو الموسيقى تعزف كفيلة أن تجمع الأبصار والأسماع جميعا على ملتقى واحد.
ومثل هذا يقال كلما أرغمت أوضاع الحياة الناس أن يختلفوا فيما يمس الجانب العملي من الحياة، فيجيء الفن مؤلفا لما اختلف، وموحدا لما تشتت، إذا ما أطلق الفن على طبيعته يؤدي رسالته الحقة، التي تخاطب طبيعة الإنسان في صميمها كما يخاطبها اللعب. فإذا رأينا السياسة قد مزقت الناس قوميات متعارضة، ثم إذا رأينا العلم قد انصرف في طبقاته العليا إلى ما يخدم السياسة في أغراضها بما يزودها به من أدوات الفتك والدمار والتهديد والتخويف، فأين يكون الأمل إلا في ميدان الفن، فيؤاخي في رحابه الإنسان والإنسان؟ وذلك لا يتحقق - بالطبع - إلا إذا أفلت الفنان من قبضة الدولة الواحدة، فلا يجعل أدبه تبشيرا بما تريده تلك الدولة، إنما يوجه أدبه إلى «الإنسان»، وعندئذ يكون الفن «اجتماعيا»، لا بالمعنى الذي يخدم به هذه الجماعة دون تلك، بل بالمعنى الذي يخدم به المجتمع الإنساني باعتباره أسرة واحدة. ولقد يطن هذا القول في الأسماع طنين الشطحات النظرية التي تفض أنصارها عن الواقع الملموس، كأنما نقول شيئا غريبا لم نألفه في كل فن رفيع منذ صار الإنسان فنانا! فمن ذا يخاطب شيكسبير بمسرحياته؟ ومن ذا يخاطب سيرفانتيز بقصة دون كيشوت؟ بل من ذا تخاطب حكايات ألف ليلة وليلة؟ لمن بنيت المساجد والمعابد والكاتدرائيات عندما افتن بناتها بكل ما وسعهم من فنون البناء؟ كل هؤلاء قد كتبوا وقد أنشدوا وقد شيدوا وفي أذهانهم الطبيعة الفنية على أسمى صورها، فجاءت آثارهم ل «الإنسان» من أي بلد جاء، وبأي مذهب دان، وبأي لسان تكلم.
ولقد أرادت طبيعة الفن أن تمعن في رسالتها - التي هي مخاطبة الإنسان من حيث هو إنسان على الإطلاق - فجعلت من خصائص الفن أن يكون قابلا لاختلاف التأويل دون أن يفقد ذرة من قيمته. لا، بل إنه كلما تباينت ضروب التأويل باختلاف الثقافات ازداد الفن قيمة وارتفع مقاما؛ فكل أثر فني هو حمال أوجه، ولمن شاء أن يفهمه كيفما شاء، ونقطة الملتقى هي النشوة الفنية الخالصة، التي تشبه نشوة اللاعب بلعبته على اختلاف اللعبة وطرائق أدائها، على أن هذا الاختلاف في التأويل نفسه دليل على أن وراءه «حقيقة» إنسانية يحاول المئولون أن يصلوا إليها.
وهذه النقطة الأخيرة بالغة الخطورة في موضوعنا، فلسنا ممن يقول إن حرية الفنان تجيز له أن يعبث بمادته الفنية كيف شاء، فيجري اللفظ أو اللون أو النغم كما تريد له نزواته، بل لا بد في كل فن من الالتزام، وأشد التزام هو التزام «الحق» كما يعثر عليه في دخيلة نفسه، فليس فنا ما ليس يلجم صاحبه دون الشطح الذي لا يعرف الحدود والقيود، وإلا لكان كل حالم فنانا، فلئن كان الفنان بمثابة من يحلم لبني جنسه من البشر، إلا أنه حلم منضبط بالقواعد والقوالب والمبادئ انضباطا يقيده في حدود «الحق» الذي يريد الفنان أن يبثه في فنه. وإنك لتميز الفن الأصيل من الفن الرخيص بمثل هذا المعيار: أتحس وأنت بإزاء القطعة الفنية كأنما أنت ناعس يتلقى أوهاما لا توقظه، أم تحس كأنما شيء يحرك فيك قواك الروحية لتلتمس الحقيقة الكامنة وراء اللفظ أو اللون أو النغم؟ فهل تستطيع - مثلا - أن تقرأ المتنبي وأنت غافل، أم تراك يقظان الروح عند قراءته حتى توشك أن تكون أنت هو المتنبي عندئذ في اعتزازه بنفسه وكبريائه؟
لقد كان للفن قديما ووسيطا وحديثا رسالة اجتماعية، وما يزال. وليس بمستغرب أن تجد متاحف الفن في كل عواصم العالم كالعنوان من الكتاب؛ لأنه لا حضارة بغير فن، ثم لا حضارة بغير اشتراك الأفراد في نشاط تتسق أطرافه على اختلافها في الظاهر. ولم تكن وظيفة الفن الاجتماعية موضع شك وسؤال إلا منذ الحركة الرومانسية في أوائل القرن الماضي، فعندئذ راح الناس يسألون - وما زالوا على سؤالهم - أنجعل الفن شيئا فرديا خاصا بصاحبه وحده، أم يكون للناس أجمعين؟ أما قبل ذلك فلم يتردد أحد في أن الفن للمجتمع كله، فما كان الشاعر ينشد لنفسه، ولكنه ينشد للناس، وما كان المثال أو الرسام أو الموسيقي ينحت التماثيل أو يرسم الصور أو يعزف الموسيقى ليكون ذلك بمثابة النجوى بينه وبين نفسه، بل كان كل ذلك للناس أجمعين. فلما أخذنا التردد أخيرا في مهمة الفن، وجدت من يدعو إلى أن يكون الفن حديثا من الفنان لنفسه، وليستمتع به من الناس من شاء، وليسخط عليه من شاء. ولعل ما قد حدا بأصحاب هذه الدعوة إلى مثل هذا التطرف، ما قد رأوه محيطا بهم من نظم سياسية تسحق الفرد سحقا، فقالوا ليكن الفن ملجأ الفرد الذي يأوي إليه مطمئنا آمنا.
والدعوة التي ندعو إليها في رسالة الفن ماذا تكون، إنما تحقق الفردية العزيزة على أصحابها، كما تحقق في الوقت نفسه اشتراك الناس في فاعلية واحدة، وهي أن يتجه الفنان إلى حقيقة الإنسان في آماله وآلامه وخواطره ومشاعره؛ ليلتقي في محرابه كل إنسان.
الإنسان المعاصر في الأدب الحديث
1
كنت أتمنى أن أجد كاتبا عربيا ممن عاشوا حياة أدبية مديدة غزيرة خصبة عميقة، يكتب لنا تاريخ الحركات الأدبية كما رآها من داخل، وكما شارك فيها قارئا وكاتبا وناقدا، فعندئذ يجيء حديثه شيئا فريدا، فلا هو يشبه البحوث الأكاديمية الباردة التي تقدم لنا موضوعات بحثها فلا يكون ثمة فرق بين أن يكون الموضوع المعروض شاعرا أو أن يكون تحليلا كيماويا لقطرات من سائل مجهول، كلا ولا هو يشبه الأحاديث التي يكتبها الناقدون في الصحف والمجلات، يقصدون بها إلى التسلية الخفيفة، فلا يعمدون في عرضها إلا إلى ما يلفت النظر، دون ما يمس اللباب والأعماق، بل يجيء الحديث عندئذ أشبه شيء بترجمة ثقافية لحياة الكاتب نفسه، فيستعرض القارئ مع الكاتب عصور الأدب ورجاله وآثاره، وكأنما هي جميعا قطع من حياة تجسدت في شخصية الكاتب. ولست أقول هذا لأستثقل البحوث الأكاديمية، ولا لأستخف أحاديث الناقدين المقتضبة العابرة، فلكل من هذين النوعين مهمة يؤديها، ولا غناء لحياتنا الثقافية عنها، لكنني أردت أن أقول إن ثمة نوعا ثالثا، هو هذا الذي أشرت إليه، فتصور كاتبا كالدكتور «طه حسين» أو كالأستاذ «العقاد»، قد أخرج لنا كتابا في الحركات الأدبية في هذا النصف الذي انقضى من القرن العشرين، كما عاشها هو، أفلا ترى عندئذ أن لمسة شخصية تضاف إلى الموضوع فتكسبه حياة من نوع جديد؟
لقد حاول هذه المحاولة بالنسبة لأدب الغرب، الكاتب الإنجليزي الروائي المسرحي «ج. ب. بريستلي» (ولد سنة 1894م)، فأخرج منذ عام واحد (1960م) كتابا أطلق عليه «الأدب والإنسان في الغرب»
1 - وكلمة «الغرب» هنا تشمل أمريكا وأوروبا بما في ذلك الروسيا - وهو يقصر نفسه على ما هو «حديث» من ذلك الأدب، و«الحديث» عنده يشمل خمسة قرون كاملة، تبدأ في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، حين استخدمت الطباعة بأحرف ممكنة التحريك والنقل لأول مرة في أوروبا، وهي الطباعة التي خلقت الكتاب كما نعرفه اليوم. ولئن كان المؤلف يتعقب في كتابه عصورا تتوالى واتجاهات تتباين، ولا يظهر في صفحات كتابه من الأسماء - بطبيعة الحال - إلا أسماء الأدباء والمفكرين، أو أسماء الكتب التي أصدروها، إلا أنه على وعي كامل بأن وراء هذه الأسماء مئات من الأجيال البشرية، كانت في حياتها تتسم بهذا الطابع أو ذاك من أنماط السلوك، وتندفع بهذه المشاعر أو تلك، وبهذه الفكرة أو تلك، ولم يكن الأدب ليكون أدبا ما لم تكن تلك الأنماط السلوكية وتلك المشاعر والأفكار قد وجدت سبيلها إلى صفحات هذا الأدب، فظهرت في أسطرها صريحة أو مضمرة، ولقد لبث المؤلف نصف قرن كاملا، يقرأ الأدب قراءة الخبير الذواقة، وينتج الأدب إنتاج الكاتب الأصيل المتمكن، فتكونت عنده حصيلة ضخمة من خبرة أدبية حية، فهل يدعها تذهب بذهابه ، أو يسجلها ليشرك معه فيها شبابا ربما كانت ظروفه لا تتيح له أن يقرأ بهذه السعة كلها، وبهذا العمق كله، وبهذا الانقطاع لحرفة الأدب كما ينقطع لحرفته كل متخصص؟
أراد بريستلي بكتابه هذا أن يستعرض أدب الغرب كما تأثر به خلال قراءاته الطويلة ابتغاء الوصول إلى هدف رآه جديرا بالجهد الذي تكبده في إخراج هذا الكتاب، وهو أن يرسم «صورة للإنسان» في العالم الغربي، كما عاش هذا الإنسان وكما فكر وكما شعر، فها هو ذا العالم اليوم يمر بأزمة استحكمت حلقاتها، وحلها مرهون بأن يعرف الإنسان - في الغرب - نفسه؛ ليقرر ما يقرره وهو على بينة من دخيلة نفسه حتى لا يضل سواء السبيل، وهذا هو نفسه الذي يجعلني - أنا القارئ العربي - أتمنى أن ينهض منا أديب كبير فيعتصر لنا رحيق خبرته الأدبية؛ لعله هو الآخر أن يرسم لنا صورة الإنسان في هذه الرقعة من الأرض، مستخلصا هذه الصورة مما قد تناثر من أجزائها على صفحات الأدب.
وسأقصر القول هنا على قسم واحد - هو القسم الأخير - من الأقسام الأربعة التي يحتوي عليها كتاب بريستلي المذكور، وهو القسم الخاص بأدب القرن العشرين وإنسان القرن العشرين، محاولا أن أعرض للأدب العربي خلال هذه الفترة نفسها، بحيث يجيء حديثنا بمثابة المقابلة السريعة بين الأدبين وما يعكسه الأدبان - هنا وهناك - من صورة للإنسان كما عاش وفكر وشعر في العالم الغربي من جهة، وفي الشرق العربي من جهة أخرى.
2
من السمات الملحوظة في تاريخ الفكر أن الأفكار النظرية وتنفيذها العملي يتناوبان الظهور؛ ففترة طابعها الغالب هو الإنتاج الفكري، وفترة تليها يكون طابعها تحويل ذلك الفكر إلى عمل وفاعلية ونشاط. ويقول «بريستلي» إن القرن التاسع عشر في أوروبا هو الذي خلق الأفكار التي تناولها هذا القرن العشرون بالشرح والبسط والتحليل والنقد، فشاعت هذه الأفكار شيوعا جعلها جزءا أصيلا من الحياة العملية كما يعيشها الناس.
ونستطيع من ناحيتنا أن نقول قولا كهذا عن تعاقب فترات الفكر والعمل في إقليمنا العربي، فانظر إلى هذه التواريخ الآتية: 1798م، 1882م، 1919م ، 1952م. انظر إليها في تاريخنا الحديث تجدها كمعالم الطريق، تفصل فترات من الزمن تتوالى فيها التعبئة الفكرية والتطبيق العملي؛ فثورة عرابي عام 1882م هي الفعل الذي استمد قوته من الشحنة الفكرية التي امتلأت بها العقول منذ قدوم الحملة الفرنسية سنة 1798م، وثورة عام 1919م هي الفعل الذي أخرج الشحنة الفكرية التي اعتملت في نفوس الناس منذ الاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882م، ثم ثورة عام 1952م هي التعبير بالعمل عما اختزنته الصدور في الفترة السابقة عليها.
وأول ما يلاحظه «بريستلي» على خصائص عصرنا هذا من الناحية الفكرية، هو أن الأساس الفلسفي الذي نبني عليه في مجال الأدب وغيره من مجالات التعبير، لم يكن - على وجه الإجمال - من نتاج هذا القرن، بل كان وليد القرن التاسع عشر، بمن شهدهم من أعلام الفلاسفة: «هيجل» و«شوبنهور»، و«نيتشه».
وإن هذا ليصدق علينا - في الشرق العربي - بصورة أوضح وأجلى؛ فليس في أبناء القرن العشرين رجل واحد تستطيع أن تقول عنه إنه قد أنتج في الفلسفة إنتاجا أصيلا، بحيث يصادف عند الناس استجابة الرضا لما يجدونه فيه من إشباع لحاجاتهم، فلم يكن أمام أدبائنا بد من الارتداد إلى فلاسفة الماضي؛ فحركة النقل الفلسفي - بالترجمة عن الغرب وبالنشر عن المسلمين الأولين - قد اشتدت حتى أصبحت الأفكار الفلسفية في متناول الأدباء، حتى الأوساط من بينهم، على أن بيننا وبين الغرب اختلافا جوهريا في هذا المجال؛ فبينما أدباؤهم يجترون فلسفة القرن التاسع عشر عندهم، فإن أدباءنا قد وجدوا أنفسهم إزاء فلسفتين؛ إحداهما نقلت إليهم عن الغرب قديمه وحديثه، والأخرى نشرت عليهم من تراث العرب الأقدمين، فكان من أثر ذلك أن ازدوجت صورة الإنسان الحديث عندنا، على حين لم تزدوج هذه الصورة عندهم، فأصبح للأدب عندنا وجهان: وجه يساير الملامح الأوروبية، وآخر يستقي من الماضي العربي، وهنالك بطبيعة الحال من تمتزج في أدبه الصورتان معا. فمن الطراز الأول «توفيق الحكيم» و«محمود تيمور» و«نجيب محفوظ»، ومن الطراز الثاني «الرافعي» و«البشري» و«الزيات»، ومن الطراز الذي جمع بين الصورتين في أدب واحد «طه حسين» و«العقاد».
كانت فكرة التطور من بين الأفكار الرئيسية التي أنتجها القرن التاسع عشر، فتسربت منه إلى أدب القرن العشرين - في الغرب بصفة أصيلة وعندنا بنسبة أقل - لا سيما إذا نظرنا إلى فكرة التطور كما جاءت في فلسفة «برجسون» - بمعنى وجود دافع حيوي خلاق يدفع الكون إلى غاية، لا بمعنى الانتخاب الطبيعي الذي يجيء نتيجة لظروف عمياء - والحق أن برجسون وإن لم يكن ذا اتباع في المجال الفلسفي الصرف، فهو عميق الأثر في أدباء هذا القرن؛ فكثيرون هم الأدباء الذين يديرون أدبهم حول مبدأ حيوي يسدد خطى العالم في تطوره، من هؤلاء - مثلا - «جورج سورل» في فرنسا، و«برنارد شو» في إنجلترا، ولا حاجة بنا إلى القول بأن أدباءنا في الشرق العربي يصدرون عن مبدأ كهذا؛ لا لأنهم على علم بفلسفة «برجسون» فحسب (وقد كتب عن برجسون في العربية كثيرا حتى شاع العلم به)، بل لأنهم أساسا يصدرون عن عقيدة دينية تضع القصد والتدبير مكان المصادفة العشواء.
وإذا قلنا إن فكرة التطور أساسية في أدب هذا العصر (ومن أهم من يرجع إليهم الفضل في شيوعها عندنا سلامة موسى وإسماعيل مظهر)، فقد قلنا بالتالي إن العالم كما يتصوره الإنسان الحديث - عندهم بصفة جوهرية وعندنا بنسبة أقل - هو عالم في صيرورة دائبة، وليس هو بالعالم السكوني الجامد، فتيار التغير دافق سيال، وليس هناك من وضع معين يجوز أن يقال عنه - كما كان يقال في العصور السابقة - إنه هو الوضع الطبيعي للأمور، خصوصا فيما يتصل بالأوضاع الاجتماعية للإنسان، والوسيلة التي في مستطاعك أن تدرك بها حقيقة هذا التيار الدافق من مجرى الحياة، ليست هي أن تنظر إلى الأشياء بحواسك، ولا هي أن تنظر إليها بعقلك المنطقي الذي من طبيعته أن يجزئ الأشياء ويحللها، بل الوسيلة الصحيحة للإدراك هي وسيلة المتصوف، وأعني بها الاتصال المباشر بالحقيقة المدركة، فانظر إلى نفسك من داخل تجدها تيارا متدفقا ناميا متطورا، فما حاجتك بعد ذلك إلى حاسة أو إلى عقل تقيم به البرهان؟
لكن إن صدق هذا فالأمر جد خطير في تصورنا للإنسان وفي تصويرنا له؛ لأننا عندئذ سنتصوره وسنصوره كائنا لا يهتدي في حياته ب «العقل»، بل يسترشد بملكة أخرى، هي «الحدس الصادق» - كما يسميه الفلاسفة - وهو أقرب شيء إلى غريزة الحيوان بعد أن هذبت؛ فالإنسان كائن «لا عاقل»، دافعه في حياته العملية هو «وجدانه»، أو هو - بلغة «فرويد» التي جرت بها الألسنة والأقلام - «لا شعوره»، أو هو - إذا شئت لفظة أكثر توقيرا - «إيمانه». فاستعرض ما شئت من شخصيات الأدب في القصص والمسرحيات (وفي هذه الشخصيات ما يصور لنا إنسان العصر) تجد كثرتها الغالبة مدفوعة في مسالكها بقوة الحب، أو الكراهية، أو الوطنية، أو الانتقام، أو غيرها مما يجري مجراها من الدوافع الوجدانية، ولا عجب أن ترى «الإرادة» لا «العقل» هي عند فلاسفة القرن التاسع عشر مثل «شوبنهور» و«نيتشه»، المبدأ الأول. وقد يأخذنا في هذا الموضع شيء من العجب؛ إذ كيف نصف إنسان العصر الراهن باللاعقل، على حين أن أوضح ما يميز عصرنا هو العلم، والعلم قائم على المنهج العقلي المنطقي الصرف؟ لكن العجب يزول إذا تذكرنا حقيقة هامة، وهي أن الصورة الثقافية في عصرنا تميل دائما نحو إيجاد التوازن بين عناصرها، فإن مال الجانب العلمي نحو العقل أكثر مما ينبغي، نهضت الفلسفة، ونهض معها الأدب والفن ليزيدا من عنصر الوجدان، وتلك هي حالنا اليوم.
ومن أهم ظواهر «اللاعقل» في عصرنا الفكري، هذه الفلسفة البراجماتية التي تسود الولايات المتحدة الأمريكية، وأعلامها الثلاثة الكبار هم «بيرس» و«وليم جيمس» و«جون ديوي»؛ ف «الحق» عند البراجماتيين هو ما يراه الإنسان كذلك في ممارسته لمشكلاته العلمية والعملية، ومن الضلال أن يبحث الإنسان عن «حق» موضوعي مستقل عنه وعن حياته هو، وأهدافه هو.
ولسنا هنا بصدد الفكرة الفلسفية في حد ذاتها، لكننا نتلمس آثارها في أدبنا المعاصر وفي صورة الإنسان الحديث، فإذا هي فكرة قد تسمو على أيدي أصحابها إلى الحد الذي يبيح لأحدهم (وهو «وليم جيمس») أن يكتب كتابه الرائع الذي يفوح بعطر الإيمان الديني (وأعني كتابه «صنوف الخبرة الدينية»)، ولكنها أيضا فكرة قد تتدهور حتى تصبح على أيدي كثيرين في أسوأ صورها، وهي أن يجعلوا «الحق» و«الدعاية» لفظين مترادفين، أفليس الحق هو ما ينفعك ويحقق لك أهدافك؟ إذن فكل ما ييسر لك سبل المنفعة وتحقيق الهدف هو الحق عندك، ولا شك أن هذا الجانب الضعيف من البراجماتية هو طابع يميز إنسان العصر كما يتبدى على صفحات الأدب، عندنا وعندهم على حد سواء.
وإذا انحرفت معايير «الحق» إلى هذا الحد الذي يخلط بين الحق والمنفعة، فلا عجب أن يتنبأ المتنبئون بالانحلال والتدهور للحضارة بأسرها، وهذا هو ما حدث لكثيرين ممن كتبوا فلسفة التاريخ في عصرنا، وعلى رأسهم «شبنجلر» في كتابه المعروف «تدهور الغرب»، وليس المهم في حالة كهذه أن يصدق الكاتب أو أن يضل عن الصواب، بل المهم هو كيف يقع كتابه من أنفس القراء، فإذا لقي رواجا وقبولا جاز لنا الحكم بأن إنسان العصر قلق على قيمه الحضارية، مشفق عليها من الزوال، وماذا يكون موقف من يتوقع أن ينهدم على رأسه البناء؟ إحدى اثنتين: فإما أن يهم بالإنقاذ، وإما أن يأخذه اليأس فينهار. فإن كانت الأولى تحمس لنظرية مذهبية حتى ليدفعه الحماس إلى التطرف يمينا أو يسارا، وإن كانت الثانية آثر لنفسه حياة مستهترة يشبع بها كل عواطفه وكل حاجاته الراهنة العابرة. وإنك لتجد كل هؤلاء معا في مجتمع العصر، وترى صورهم جميعا منعكسة على صفحات الأدب، فهذا يتطرف في إيمانه بالديمقراطية الغربية، وذاك يتطرف في إيمانه بالشيوعية الروسية، وثالث يضرب بهذه وتلك عرض الحائط لأنهما بغير جدوى، والمهم عنده هو أن يعبر عن حياته الفردية في «وجودية» تحقق طبيعته هو قبل أن يفرغ الأجل. ولا بد لنا أن نشير ها هنا إلى رد الفعل عندنا نحن أبناء الشرق العربي لهذا كله كما يظهر في أوساطنا الفكرية والأدبية، فنقول إنك قد تجد من الوجهة النظرية أنصارا لهؤلاء وأولئك، وأتباعا لمن يرفض أولئك وهؤلاء وينادي بوجودية فردية، لكننا «جميعا» نحس الفرحة في أعماقنا أن قد آذنت حضارة الغرب بتدهور وانحلال، ولا يسعنا إلا أن نعبر عن هذه الفرحة في أدبنا، إما بالاتهام المباشر لمن يصطنع في حياته وفكره صورة الغرب، أو بالدفاع عن روحانية الشرق ومثله العليا، وأحسب أن أدباءنا لم يشغلهم موضوع بمثل ما شغلهم تصوير القيم العربية الإسلامية كما قد تجسدت في نبي الإسلام، وفي خلفائه الراشدين، وفي أبطال الحياة العربية الإسلامية بصفة عامة.
وكان من أهم العمد في ثقافة الغرب الأدبية، الشاعر الإسباني «أونامونو» الذي أصدر «جانب المأساة من الحياة» سنة 1912م، لكنه لم يصبح ذا أثر ملحوظ إلا في العشرينيات، بعد أن ترجم إلى اللغات الأوروبية الأخرى، فها هنا ترى تعبير الشاعر قد بلغ أقصاه؛ تعبيره عن الصراع العنيف في نفس الإنسان المعاصر بين إيمانه وعقله. إن الشاعر يضع القيمة العليا في الفرد الحي ذي «اللحم والعظم»، لا في هذه التجريدات التي تحول الأفراد إلى أرقام إحصائية فتفقدهم وجودهم الحقيقي، والإنسان الفرد ذو اللحم والعظم متعطش للخلود، فليقل بعد ذلك أصحاب المذاهب ما يقولون، فإذا اصطرع في الإنسان عقله وإيمانه، كان في ذلك جانب المأساة من حياته، ولكن على هذه المأساة نفسها يستطيع أن يقيم بناءه من جديد؛ فمن اليأس يستخرج الرحمة بالآخرين، ومن الرحمة يستخلص الحب؛ حب الإنسانية جمعاء، وهي التي تشاركه آلام الفناء كما تشاركه الرغبة في الخلود، وحب الله الذي إليه وحده يكون الدعاء أن يرد للإنسان سكينة نفسه، فيكون العقل نصيرا للإيمان في الخروج من مأساة الحياة.
فماذا عندنا نحن - أبناء الشرق العربي - من هذا الصراع بين العقل والإيمان الذي يميز إنسان الغرب اليوم؟ إننا كثيرا ما نذكر هذا الصراع، لكنني أعتقد أنه ذكر من السطح، وليس هو بالذي يمسنا في الأعماق؛ لأننا في الحقيقة لا نحسه إحساسا حيا. لماذا؟ لأننا - فيما أعتقد أيضا - لم نبلغ بعد من التأثر بالمنهج العقلي العلمي حدا تكون له الخطورة على وجداننا الديني؛ ومن ثم فلا إشكال، وإذا كان ثمة صراع حي في أنفسنا، فليس هو بالصراع القائم بين العقل والإيمان، بل هو صراع بين إيمان وإيمان، فهل «نؤمن» بقيم الحضارة الغربية، أو «نؤمن» بقيم الحضارة الشرقية؟ ذلك هو الصراع الحي الكائن في نفوسنا، والذي - بغير شك - قد وجد سبيله إلى إنتاجنا الأدبي.
لكن مشكلة الصراع بين العقل والإيمان في الغرب مشكلة حقيقية وحادة، تراها منعكسة في تيارات الفكر والأدب، فلعل أقرب الاتجاهات الفلسفية إلى جانب العلم وجانب العقل من الحضارة الراهنة، هو اتجاه الوضعية المنطقية - كما أطلق عليه عند أول ظهوره في «فينا» في العشرينيات من هذا القرن - وهو نفسه اتجاه التجريبية العلمية، كما يطلق عليه عادة الآن، وهو اتجاه ينزع نحو تحليل المعنى تحليلا يجعل معيار الحق هو شهادة الحواس، ويكمل هذا الاتجاه الفلسفي نفسه - ولا أقول يتطابق معه - اتجاه تحليلي آخر ظهر في إنجلترا، وفي جامعة كيمبردج بصفة خاصة، على أيدي «جورج مور» و«برتراند رسل»، ونقطة الالتقاء بين مدرسة فينا ومدرسة كيمبردج هي تحطيم البناءات الفلسفية التي شغف بإقامتها الفلاسفة السابقون، فلم يعد الأمر عندهم أمر إقامة صرح عظيم كفلسفة «أفلاطون» مثلا أو فلسفة «هيجل» يحاول أن يشمل الكون كله بنظرة واحدة، فذلك عند أصحاب التحليل طموح لا يسوغه العقل الصرف وإن أشبع جانب الوجدان. هذه الاتجاهات الفلسفية المعاصرة دعوة صريحة إلى الارتكاز على العقل وحده، ولكن هيهات أن تجد دعوة كهذه صدى قويا في نفوس «عامة» المثقفين، لا سيما وأسلوبها في عرض مادتها هو أسلوب المتخصص يخاطب به المتخصصين، فلا نصيب للقارئ العادي فيه، وإذا كانت هذه الدعوة العقلية الصارمة لم تجد في الغرب آذانا مصغية إلا عند صفوة المتخصصين، فهي عندنا لا أمل لها حتى عند هؤلاء الصفوة، فكاتب هذه الأسطر من أشياعها ودعاتها، لكنه يكاد يكون في الميدان وحيدا، يتكلم لغير سامع، ويكتب لغير قارئ؛ لأن الدعوة إلى العقل الصرف لا تجد في أنفسنا صدى، وذلك للسبب الذي أسلفته، وهو أن الصراع بين العقل والإيمان ليس إشكالا لنا، وإنما الإشكال هو المفاضلة بين إيمان وإيمان.
لكن كان من حظ أحد أئمة الاتجاه العلمي العقلي في الفلسفة - وهو «برتراند رسل» - أنه لم يقتصر على المجال الفلسفي الصرف ، بل استخدم كل قواه التحليلية والعقلية، كما استخدم ما عرف به من شجاعة أدبية في الدفاع عن قيم يهتم لها المعاصرون جميعا، هي قيم الحرية ومحاربة الطغيان في شتى صوره؛ فهو داعية إلى الإخاء الإنساني بمعناه الحقيقي العميق، وهو حريص على مدنية الإنسان أن تنهار بحمق الساسة الذين يلهون بأسلحة الدمار؛ لهذا تراه مقروءا في العالم كله بكتبه غير الفلسفية، مثل: «الطريق إلى الحرية»، و«القوة»، و«مستقبل الحضارة الصناعية»، و«تحقيق السعادة» - وقد ترجم معظمها إلى العربية - لكنه حتى في هذه الكتب لا يرخي قبضته أبدا عن الحجة العقلية الصارمة، ولا يجرفه تيار «اللاعقل» السائد عند غيره من المؤلفين، ومؤدى هذا كله أننا ينبغي أن نكون على حذر ونحن نصف إنسان العصر بهذه الصفة أو بتلك، إلا أن يكون ذلك على سبيل الإجمال.
ولا نترك الحديث عن «فينا»، وما قد أنتجته للعالم المعاصر من اتجاه فلسفي علمي جديد، دون أن نذكر لهذه المدينة نفسها فضلها في أن أخرجت للعالم علماء في ميدان «علم النفس»، هزوا البناء الثقافي كله هزا عنيفا، هم «فرويد» و«آدلر» و«يونج» (وهذا الأخير سويسري)، فأظنك لا تكاد تسمع إنسانا حتى من أنصاف المثقفين أو أرباعهم - ودع عنك رجال الفكر والأدب - إلا وقد أصبح من عملته الفكرية الجارية على لسانه «اللاشعور»، و«عقدة النقص»، و«الانطواء» عند بعض الأشخاص، و«الانبساط» عند الآخرين، وهكذا وهكذا، وهي كلها ألفاظ قد تسربت إلينا من هؤلاء العلماء الذين أفاضوا الحديث في تحليل النفس الإنسانية إفاضة جعلت حديثهم ذاك مقروءا مسموعا مدروسا محفوظا في كل أدب، وفي كل نقد، وفي كل حلقات السمر، وسواء كانت تحليلاتهم تلك من العلمية بحيث تصدق على الإنسان في كل عصر وفي كل الظروف، أم كانت من الخصوصية بحيث تصور إنسان العصر الحديث وحده، فهي على كل حال قد قدمت لنا صورة عن إنسان العصر لا بد من تسجيلها في هذا السياق، وهي أنه إنسان لا عاقل، دوافعه إلى العمل تضرب بجذورها إلى طبقات دفينة من النفس ترجع إلى الطفولة، أو إلى ما قبل الطفولة الفردية إلى حيث ماضي الجنس البشري كله، لكنها على كل حال ضئيلة الصلة بمنطق العقل.
3
كان من أبرع الملاحظات التي وردت على لسان ناقد فرنسي، أنك - إذا ما تناولت بالدرس أديبا ما - فإنما تصل إلى مفتاح أدبه لو أنك وقعت على الكلمة التي ما تنفك تتردد في أدبه أكثر من سواها، فإذا جعلنا هذا المعيار أداتنا في النفاذ إلى صميم روح العصر كما يتبدى في أدبه، وجدنا أوسع الكلمات شيوعا في أدب الغرب من أول القرن إلى نشوب الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، هي كلمة «حديث» و«جديد»؛ مما يدل على أن القوامين على الحياة الأدبية والثقافية كانوا يتحرقون رغبة لتغيير القيم التي سادت إبان القرن الماضي، وإقامة قيم جديدة تصلح للعصر الجديد في حياته الجديدة، فلم يعد الفن كما عرف في الماضي ليرضي فنان هذا العصر، ولم تعد الأخلاق التي كانت حميدة في الماضي لترضي معيار الأخلاق في هذا العصر، ولم يعد المجتمع كله كما عرفت أوضاعه في الماضي ليرضي أبناء المجتمع الجديد، لا، بل إن لفظة «الجديد» أو «الحديث» سرعان ما فقدت قوتها عند الشباب الطامح بسرعة التغير، فابتكرت كلمة «المستقبلية» لتصف لونا من الفن ومن الأدب، لا يرضى بالموقف الراهن مهما يكن جديدا، ويتشوف المستقبل قبل وقوعه، وألف فريق من الشعراء - من بينهم «عزرا باوند» - عندئذ (قبيل قيام الحرب العالمية الأولى) مذهبا أسموه «الدوامة»، كناية عما يريدونه بقرائهم، وهو أن يضعوهم فيما يشبه الدوامة حتى تدوخ رءوسهم فينسلخوا عما هو محيط بهم، إلى ما هو جديد مبتكر.
وأحسب أني لا أقول للقارئ جديدا عن أدبنا العربي الحديث، إذا قلت إننا كذلك لو حللناه لوجدنا أكثر الكليات شيوعا فيه هي الدالة على جدة وعلى حداثة، مضافا إليها كلمة «الحرية»، فلا شك أن الإشادة بما هو جديد ومن شأنه أن يحررنا من القيود التي رسفنا فيها زمنا طويلا، موضوع لا يكاد يخلو منه أثر أدبي واحد من آثارنا التي أنتجناها منذ عام 1882م إلى يومنا هذا، على اختلاف الأدباء بعد ذلك في نوع «التحرر» الذي ينشدونه؛ فهنالك التحرر السياسي، والتحرر الفني، والتحرر في شئون الحياة العملية، وتحرر المرأة، والتحرر من التقاليد المعوقة ... وهلم جرا. وقد قام كل أديب بنصيبه في الدعوة إلى هذه الحرية التي تخلصنا من الأوضاع التي أردنا تغييرها وتبديلها بأخرى جديدة، وإذن فصورة الإنسان الحديث في أدبنا وفي أدبهم على السواء تشتمل على رغبة جامحة في التغيير السريع، وهي رغبة تتناسب مع فلسفة التطور التي أشرنا إليها فيما سبق؛ تلك الفلسفة التي حطمت السكونية، وأحلت محلها دينامية نشيطة فعالة لا تكاد تستقر على حال واحدة لحظتين متواليتين، كأنما أرادت أن تحقق صورة «هرقليطس» عن الحقيقة بأنها كنهر الماء الدافق، لا تستطيع أن تضع قدمك فيه مرتين متتاليتين؛ لأن ماءه في المرة الثانية غير مائه في المرة الأولى. ولقد ودع الإنسان الحديث بهذا التغير السريع حياته المستكنة الهادئة، حتى لتسمعه يصرخ اليوم من هذا الانزلاق السريع الذي لا يدعه في راحة مطمئنة كالتي ألفها أسلافه، لكن صراخه يذهب أدراج الرياح هباء؛ لأن دفعة التغيير عارمة هيهات أن تقفها صرخة صارخ.
أقول ذلك لأن الأدب الحاضر - عندنا وعندهم - إنما يصور هذا التغير السريع على صورتين تختلفان باختلاف مزاج الأديب؛ فهنالك الأديب الساخط على هذه الحياة الجارفة التي لا جمال فيها ولا سكينة نفس، وهنالك الأديب الراضي عن الأمر الواقع، حتى لقد أراد لنفسه أن يكون أحد العوامل التي تدفعه في جريانه السريع؛ ومن ثم انقسم الأدباء طائفتين؛ طائفة الجماليين الذين يريدون الفن لذاته بغض النظر عن هذه الدوامة المحيطة بهم، وطائفة أخرى تنغمس في محيطها لتصوره كما هو قائم أو لتزيد من دفعته. الطائفة الأولى المنسحبة قد يجيء انسحابها كانسحاب الرهبان في صوامعهم، أو قد يجيء انسحابها كانسحاب المتشردين الساخطين على أوضاع المجتمع الخارجين على القانون. وفي ظني أنه لا يجوز في النقد الأدبي أن نطبق معيار هؤلاء على أولئك؛ إذ كيف تنقد راهبا آثر التأمل الهادئ بأنه لم يضرب بمجاديفه في عباب المجتمع الصاخب، أو كيف تنقد أديبا شارك المجتمع في نشاطه بأنه لم يسخط ولم ينسحب؟ الحق أن لكل من هؤلاء معيارا، ولا ينبغي أن تقاس أهمية الفنان بكثرة قرائه أو بشيوع اسمه بين الناس؛ فقد تجد الأديب الممتاز في فنه ولكنه محدود الشهرة، أو قد تجد واسع الشهرة الذي لا امتياز في فنه.
على أن ل «الجديد» معنى آخر يألفه المتتبع لتاريخ الأدب والفن، وهو أننا كلما استنفدنا القيم الجالية القائمة ظهر لنا أديب أو فنان بقيم جمالية جديدة؛ لا لأن الجديد هنا «أفضل» من القديم، بل لأننا على مائدة الطعام جالسون، وقد فرغنا من طبق وننتظر طبقا يليه مختلفا في صنفه وفي طريقه طهوه، وسرعان ما نفرغ من هذا وننتظر مرة أخرى ما يليه وهلم جرا، أو قل إن رجال الأدب والفن - وهم المسئولون عن تغذية حساسيتنا بالجمال - يشغلوننا دائما بدرة جديدة مغطاة بصدفتها، فنأخذ في إزالة الصدفة لنكشف عنها، وليبهرنا جمالها حينا، ريثما يقدمون لنا صدفة جديدة فيها درة جديدة. وأيا ما كان الأمر، فطلب «الجديد» قد شغل عصرنا وشغل أدبنا، حتى ليصح أن نجعله طابعا مميزا للإنسان الجديد.
4
وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، ونشأت طائفة من الشباب المتأدب القارئ في العقد الثالث من هذا القرن - في العشرينيات - أرادت أن تصم آذانها عن الحرب، وعن كل ما قد أدى إلى قيامها. فإذا كان هنالك أدباء مهدوا لها، فهم عند هذه الطائفة الجديدة أدباء لا يستحقون منهم احتراما، كلا، ولا تستحق الحياة التي مثلوها في أدبهم نظرة واحدة من التفات جاد، فلا هؤلاء الأدباء ولا الحرب التي مهدوا لها بأدبهم جديرة بنقد الناقدين، وعلى الأدب الجديد أن ينحو نحوا جديدا؛ فكل معيار كان يقاس به الأدب والأدباء قبل نشوب الحرب، قد أصبح في عين هذه الطائفة الجديدة من الشباب المتأدب القارئ معيارا باطلا؛ فلم يعد «برنارد شو » عندهم هو ذلك العملاق الذي كان، على الرغم من أنه لم يتحمس للحرب، وعلى الرغم من أن بعض مسرحياته ظلت بعد الحرب تجتذب الأنظار، وعد «أناتول فرانس» كأنه مات ولم يعد له أدب تدب فيه الحياة، على الرغم من أن كتبه لبثت حينا تطبع مرة بعد مرة، لا، لم يعد عمالقة الأدب فيها قبل الحرب يستحقون عند هذا الشباب الساخط الثائر شيئا، فماذا يريدون؟ يريدون أدبا جديدا في كل شيء؛ في شكله ومضمونه، في مبعثه ومرماه، يريدون أدبا يعبر لهم عن السخط بأية صورة ممكنة، سواء كان تعبيرا عن طريق السخرية الضاحكة الهازئة، أو عن طريق المقت الأسود الجاهم. وما دام هو يعبر عن خيبة الرجاء وضيعة الأمل، فلا بد بالضرورة أن يكون أدبا منطويا على نفسه؛ أدبا يلتفت إلى داخل النفس لا إلى خارجها، أدبا يساير أو قل إنه يشق الطريق أمام سحرة العصر العلمي الجديد، وأعني بهم جماعات التحليل النفسي الذين ألقوا في الميدان بمصطلحاتهم التي جذبت أنظار المثقفين جذبا يتميز بحرارة العاطفة المتحمسة أكثر مما يتميز بدقة العلماء.
أراد متأدبو العشرينيات أدبا ينكمش على نفسه ليكون ملكا للخاصة وحدهم، ولا يبعثر نفسه على عامة القراء، فلم تعد هذه العامة هدفا مقصودا، لا، بل لعل الأدباء عندئذ أرادوا متعمدين أن يجيء أدبهم على صورة يعجز عامة القراء دون فهمها، فلا عليهم إن فهمتهم أو أعجبت بهم دهماء المتعلمين (ولعل هؤلاء الأدباء قد فاتهم أنهم كلما باعدوا بين أدبهم وبين عامة القراء، اشتد انجذاب هذه العامة إليه؛ ليتخذوا سمات الخاصة). ومهما يكن من أمر، فقد ساد الاعتقاد في الدوائر الأدبية أن الكاتب فنان، وليس هو منوطا بتسلية الجماهير؛ ولذلك فواجب عليه أن يضع أدبه في صورة عسيرة الفهم، لا يدري أوساط القراء كيف يقرءونه، لا لأنه يضع في أدبه فكرا أصيلا، ويعبر به عن مشاعر لطيفة دقيقة فحسب - فذلك قد صنعه كل الأدباء من قبل - بل لأن واجب الأديب الجديد عندئذ قد أصبح يحتم عليه أن يقيم حاجزا بين فنه وبين ذوي العقول البليدة والأنفس الخفيفة الرعناء، وكان من أهم العوامل التي زادت الأديب الجديد عنادا وإمعانا في التعالي على مستوى الدهماء، تلك الوسائل الآلية التي جاءت مع العصر العلمي الجديد - كالسينما والإذاعة - مما أوشك أن يخضع الإنتاج الثقافي إلى قواعد الإنتاج الكبير، فتصبح الكتابة كتابة بالجملة، والقراءة قراءة بالجملة، ومعايير النقد معايير بالجملة، والقيم الفكرية كلها قيما بالجملة؛ فلا أقل - إذن - من أن يحمي الأديب نفسه من هذا الهجوم الفاتك، ووسيلته إلى هذه الحماية الواقعية هي أن يجعل من الأدب المألوف أدبا مستعصيا إلا على الدارسين؛ وبهذا تغير موقف الأديب الجديد من أساسه، فبعد أن كان المثل الأعلى دائما هو «السهل الممتنع» - السهل على جملة القارئين، ولكن إنشاءه ممتنع عليهم - أصبح المثل الأعلى الآن هو «الممتنع الممتنع»؛ فهو ممتنع على جمهور القارئين إنشاء وفهما على السواء، كأنما أراد الأديب الجديد لأدبه أن يكون كالحرم المقدس، لا تطؤه إلا الأقدام المطهرة، حتى وإن جاء ذلك على حساب تضحية كبيرة من الشهرة والمال، ولك أن تراجع قائمة الآيات الأدبية التي ظهرت عندئذ لترى كيف تلتقي كلها في هذا التعسير على جمهرة المثقفين: «يولسيز» لجيمس جويس، و«الأرض اليباب» لإليوت، و«مسز دالواي» لفرجينيا وولف، و«الجبل المسحور» لتوماس مان، و«القلعة» لكافكا، وغيرها.
وسمة أخرى ميزت أدب العشرينيات غير صعوبته المتعمدة، وتلك هي أنه لم يعد أدبا قوميا، بل ولا إقليميا، كأنما هو رد فعل لتلك الحرب الضروس التي أشعلتها الحماسة الوطنية ذات الأفق الضيق والآمال التافهة، وجاء الأدب عندئذ ليعلو على هذه الحماقة وهذا الجنون، وباتت الشهرة الأدبية مرهونة بمجاوزة الأديب هذه القيود المكانية وتحليقه في أجواز تعم الإنسانية جميعا؛ ولذا ترى الأنماط التي يصورها الأدباء عندئذ هي تلك التي قد تصادفها في أي بقعة من بقاع الأرض، وليست هي الأنماط المصطبغة بالألوان المحلية المميزة، وفي هذا تفسير لكون أدباء ذلك العهد لم يتخذوا أوطانهم الأصلية مكانا لإقامتهم؛ فهذا «رلكه» يتنقل بين باريس والنمسا، وهذا «بروست» يقيم في باريس ، ولكنك مع ذلك لا تقرؤه لتقرأ شيئا عن باريس، ولا لتقرأ شيئا عن الفرنسيين عامة. نعم إن «جيمس جويس» لا يكتب إلا عن بلده دبلن، لكنه مع ذلك لا يقدم إلينا قصة يقال عنها إنها معبرة عن الروح الإيرلندية، و«كافكا» لا يحدثك عن براج، و«إليوت» لا يكاد يعطيك الإشارة الدالة على قوميته.
فماذا كان موقف أدبنا العربي في العشرينيات؟ هل شاركنا أدباء الغرب في اتجاههم نحو التصعيب والتخصيص والانطواء والنزعة الدولية؟ كلا؛ لأن ظروفنا عندئذ كانت على نقيض ظروفهم؛ فلو استثنينا أمثلة قليلة من الميل نحو البعد عن عامة الجمهور القارئ - كما يبدو ذلك - مثلا - في قصيدة «العقاد» «ترجمة شيطان» - لوجدنا على مسرحنا أدبا سياسيا يشتعل حماسة، ويريد أن يشعل النفوس نارا. أي نفوس؟ لا نفوس الخاصة وحدهم، بل نفوس العامة من الفلاح في القرية فصاعدا إلى أستاذ الجامعة؛ فالشعر وطني، والمقالة سياسية، والقصة ريفية، والمسرحية اجتماعية، وهكذا؛ فالحرية هي الهدف، وكل سبيل موصل إليها هو سبيل مشروع.
الحق أن موقف الغرب في القرن العشرين إزاء نفسه وإزاء العالم، مختلف كل الاختلاف عن موقفنا في الشرق العربي، وإن تكن هنالك بيننا وبينهم ظروف مشتركة تجعل منا ومنهم أبناء عصر واحد. وهذا الاختلاف العميق فيما بيننا كثيرا ما يجعل قارئ أدبهم - أعني القارئ العربي - يحس وكأنما هو يقرأ عن شيء لا يمت له بصلة على الإطلاق، وأحسب أن من أعمق مواضع الاختلاف أن إنسان الغرب قد أصبح يحس هوة عميقة بين شعوره من ناحية ولا شعوره من ناحية أخرى، فما يراه بعقله الواعي ينكره عليه ما هو دفين في نفسه اللاواعية، فأحدث هذا التجاذب فيه تمزقا شديدا ظهرت آثاره في أدبه؛ في شعره، وفي شخصيات قصصه ومسرحياته، فثمة إحساس قوي بالخيبة وبالغربة؛ لأن الإنسان قد انفصل عن طبيعته وفقد التوازن بين مقوماته؛ فهو ذو شخصية منشقة إلى نصفين، ما يرضي هذا الجانب منه لا يرضي الجانب الآخر، فإلى أين يتجه الأديب ببصره؟ إنه في أغلب الحالات عندهم يتجه إلى الأعماق الدفينة التي تكمن وراء الأسطح الظاهرة في حياة عصره. وبعبارة أخرى، إنه يتجه بكل قوته وعبقريته نحو «اللاشعور» الخبيء ليخرجه إلى النور، وبمقدار ما يوفق إلى ذلك، يوفق أيضا في إبراز حقيقة العصر الذي يعيش فيه، وكذلك يوفق إلى إرجاع التوازن المفقود بين العقل الواعي والنفس اللاواعية، فتعود للإنسان وحدته التي تمزقت، لكنه لكي يفعل ذلك كله فلا بد أن يجعل من أدبه أدبا ذا جانب واحد، هو جانب الغوص في اللاشعور - تاركا مسائل الجانب العاقل من الإنسان - فيجيء أدبا انطوائيا يتحسس طريقه في الشعاب المعتمة من متاهة النفس، وهي الشعاب التي من خيوطها تنسج الشخصية آخر الأمر؛ فلا عجب أن قد أصبح الأدب - كما أسلفنا - أدبا للخاصة وحدهم، وهم الخاصة الذين يحيون بدورهم حياة انطوائية تشبه حياة الأديب، وأما بقية الناس من أوساط المثقفين ومن هم فوق الأوساط، فيرونه أدبا «صعب الفهم»، أو يرونه أدبا يكشف عن «مرض نفسي» عند أصحابه أكثر مما يكشف عن الحق الأبدي الخالد؛ فلئن كان هذا الأدب دالا على عبقرية مبدعه، فليس هو بالأدب الذي يسد حاجة القراء بصفة عامة؛ لأن هؤلاء القراء يرون الظروف السياسية والاجتماعية الراهنة تبتلع شخصياتهم الفردية ابتلاعا، فهم بحاجة إلى أدب يعوض لهم ما قد فقدوه في ميدان السياسة والاجتماع، وذلك لا يكون بأن تقدم إليهم أدبا كقطعة الحجر الصلد يحتاج إلى معالجة وصبر في تحليله ودراسته، بل يكون بأن تعطيهم أدبا شفافا يخاطب القلب مخاطبة مباشرة، فكيف يكون ذلك؟
إنه يكون بأدب «الجنس» عند فريق، وبأدب «الإيمان الديني» عند فريق آخر، ذلك كله حق بالنسبة لإنسان الغرب، أما نحن في الشرق العربي فلم يحدث لنا أن بعدت الشقة بين شعورنا ولا شعورنا؛ وبالتالي لا نحس بالتمزق النفسي بنفس المعنى الذي يحسه به إنسان الغرب، أفليس عجيبا - إذن - أن نجد كثيرين من أدبائنا ومن نقادنا يعالجون آثارنا الأدبية وحياتنا بصفة عامة كما لو كنا في الأزمة النفسية ذاتها، فيحدثوننا عن «اللاانتماء»، وعن «القلق»، والذي يتحدث عنه الوجوديون، وما إلى ذلك؟ لقد وجد الأديب الغربي نفسه مضطرا إلى الانطواء، لكن أديبنا تدعوه ظروف حياتنا أن ينبسط ولا ينطوي، ووجد الأديب الغربي نفسه مضطرا إلى إقامة سد بينه وبين عامة القراء، لكن هذه الجفوة لم تتوافر أسبابها هنا؛ ومعنى ذلك كله - عندي - أن من هو نموذج للعبقرية الأدبية عندهم - مثل «إليوت» و«جويس» - لا يجوز أن يكون هو نموذج العبقرية الأدبية عندنا؛ لأن حاجتنا غير حاجتهم، وأديبنا غير أديبهم.
عقيدتي أنه لو كان في تاريخ الأدب الغربي عصر أقرب شبها في ظروفه النفسية إلى عصرنا هذا في شرقنا العربي - وبالتالي فلا بد أن يكون أدبه أقرب إلى نفوسنا من أدب الغرب في القرن العشرين - هو أدب النهضة الأوروبية، الذي جاء في أعقاب عصور وسطى، وعلى عتبة عصر علمي جديد، فعندئذ أحس الإنسان في الغرب إحساس من فكت عنه الأغلال التي كانت تقيد خطاه، وعندئذ أيضا صادفته الآلة الجديدة - المطبعة - فراح يطبع ويطبع، وينشر وينشر، وصادفه عصر الكشف الجغرافي، فراح يجوب الأرض والبحر، يكشف المجهول، فملأه هذا كله نشوة كنشوة الصبيان فتحت لهم أبواب المدرسة ظهر الخميس، فأخذوا يعدون عدوا؛ لأن المشي البطيء لا يسعف؛ فالفرحة الداخلية تساير فرحة خارجية، والعقل الظاهر يماشي العقل الباطن، فلا شد ولا جذب ولا تمزق، والدفعة نحو الحياة الجديدة قوية، فلم يكن الأديب عندئذ انطوائيا، وكيف ينطوي على نفسه وقد كشفت له آفاق الأرض والسماء - نعم والسماء؛ لأنه لم يكن محض مصادفة أن يجوب الكاشفون أرجاء الأرض في نفس الوقت تقريبا الذي كان العلماء الفلكيون - «جاليليو» و«كبلر» و«نيوتن» - يجوبون السماء بمناظيرهم وبعملياتهم الرياضية - لا لم يكن الأديب عندئذ انطوائيا، كلا، ولم يكن مسرفا في انبساطه، كأنما أراد أن يقف موقفا متزنا بين داخله وخارجه، فجاء أدبه يخاطب النفس ويصور الخارج معا؛ ولذلك جاء أدبا للخاصة وللعامة على السواء. فإذا كان «هاملت» يرضي أذواق الخاصة بتأملاته، ف «فولستاف» يرضي العامة بمرحه ونكاته. وإذا كان «دون كيشوت» يشبه خاصة الحالمين، فمعه «سانكو بانزا» الذي يشبه العامة في نظرته العملية الساخرة.
كان الناس عندئذ في الغرب - كما هم الناس اليوم في شرقنا العربي - على أبواب عصر علمي يكشف لهم عن لغز الكون بدرجات، فلا يعود هو نفسه العالم المغلق الذي كان في العصور الوسطى، كلا، ولا هو العالم الذي أزيل عنه الستر ففقد سحره كما أوشكت أن تكون الحال مع أبناء الغرب اليوم. ويخيل إلي أننا في الشرق العربي في مرحلة كالتي كان فيها الغرب في القرن السابع عشر من هذه الناحية؛ فلا نحن في غفلة الماضي، ولا نحن قد بلغنا من التقدم العلمي ما يقتل الروح؛ وإذن فهذا عامل آخر يجعل الأدب الأوروبي في القرن السابع عشر أقرب إلى نفوسنا وأجدر باستلهامه من أدب الشباب الساخط في عصرنا، ومن أدب الوجودية القلقة. بعبارة أخرى، فأدب العقل الواعي أقرب إلى حاجتنا النفسية من أدب العقل الباطن، والانبساط أشبع لرغباتنا من الانطواء، والأمل المشرق أنسب لموقفنا من اليأس والقنوط. كانت «الملهاة» في أدب الغرب عندئذ أعلى شأنا من «المأساة»، وهكذا يجب أن تكون عندنا اليوم؛ وكانت القصة الواقعية الخارجية أقرب إلى الأذواق من القصة النفسية التحليلية الباطنية، وهكذا يجب أن تكون عندنا اليوم؛ فنحن أحوج إلى الحياة الإيجابية منا إلى الأنات والعبرات.
الأدب في عصر العلم والصناعة
في نوفمبر من سنة 1961م انعقدت ندوة أدبية دولية في نيودلهي عاصمة الهند للاحتفال بالذكرى المئوية لشاعر الهند رابندرانات طاغور، حضرتها وفود من مختلف أقطار العالم، وقد حضرها من البلاد العربية الدكتور يحيى الخشاب مندوبا عن جامعة الدول العربية، والدكتورة سهير القلماوي مندوبة عن جامعة القاهرة، وكاتب هذه السطور مبعوثا من المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية، وقد ألقى هؤلاء كلماتهم بمناسبة الذكرى المحتفل بها، ولكن الهيئة المشرفة على هذا الاحتفال - وهي المجلس الهندي للعلاقات الثقافية - رأت أن تخصص يوما لمناقشة موضوع عام، هو «الأدب في حياتنا الراهنة»، وبصفة خاصة فيما له علاقة من هذه الحياة بالعلم والصناعة، ووجهت الدعوة قبل موعد الاحتفال بمدة كافية إلى نفر قليل من أعضاء الندوة؛ ليدلي كل برأيه في هذا الموضوع، بحيث توضع الآراء المطروحة موضع المناقشة، وهؤلاء هم: أولدس هكسلي، وكاتب هذه السطور، لتكون كلمتاهما موضوع أولى حلقات المناقشة، ولويس أونترماير الأديب الأمريكي، وإيفانوف الكاتب الروسي، ونوساك من ألمانيا الغربية، ونارايان الكاتب، وجوشي الشاعر، وكلاهما من الهند.
استهل هكسلي كلمته بسؤاله: كيف يؤثر الأدب في الحياة؟ وكيف تؤثر الحياة في الأدب؟ هذان سؤالان إذا أردنا الإجابة عنهما كان لا بد لنا بادئ ذي بدء من تحديد معنى كلمة «أدب» في هذا السياق، ومن تحديد من نعنيهم من الأحياء حين نقول إن الأدب يؤثر في حياتهم، ثم مضى هكسلي يجيب عن سؤاليه قائلا إن مجرى التاريخ يتأثر بعوامل كثيرة، لعل أهمها ضروب التقنيات المستخدمة في الصناعة القائمة، والنظم الاقتصادية السائدة، وأوجه النشاط التي يبديها أصحاب النفوذ والسلطان في توجيه المجتمع، والأفكار التي يعرضها المفكرون فيما يكتبون أو يذيعون، وهي المقصودة بكلمة «أدب».
غير أن تعريف الأدب بهذا المعنى الواسع الذي يشمل كافة الأفكار التي أتيح لها أن تنشر مكتوبة أو منطوقة، يجعل الأدب أوسع نطاقا مما قد يراد له في سياق هذا الحديث؛ فليس من شك أن ما كتبه أمثال لوك وهيجل وماركس ولينين قد أثر في مجرى التاريخ؛ ومن ثم كان له أثره في حياة الملايين من البشر، ومع ذلك فمن الإسراف أن نطلق على أمثال هذه الكتابات الفلسفية والسياسية الاسم نفسه الذي نطلقه على كتابات من ضرب آخر، كالتي عبر بها شيكسبير - مثلا - عن مشاعره وأفكاره فيما هو متصل بالإنسان وحياته، أو التي عبر بها وردزورث عن مشاعره وأفكاره فيما هو متصل بالطبيعة، ويجمل بنا أن نقصر حديثنا على هذا الضرب الثاني وحده دون الأول. وليس يعني ذلك أن كتب الأدب التي نعنيها لا تشتمل - فيما تشتمل عليه - على تعبير بليغ عن أفكار فلسفية وسياسية من شأنها أن تشكل مجرى التاريخ؛ ومن ثم فمن شأنها أن تؤثر في حياة الأفراد بما تغيره من البيئة الاجتماعية التي يعيشون فيها، فما فتئ الشعراء وكتاب المسرحية والقصة والمقالة يستخدمون ملكاتهم الأدبية في عرض أفكار كهذه من خلال نتاجهم الأدبي، فيصيبون النجاح أحيانا ويخطئونه أحيانا؛ فالأفكار السياسية التي ساقها روسو في كتابته الأدبية - مثلا - قد تركت أثرها في مجرى التاريخ، بينما لم تترك الأفكار السياسية التي قصد إليها دانتي مثل هذا الأثر. وخذ مثلا آخر من الأدب الحديث: ه. ج. ولز، الذي ربما كان أكثر كتاب عصره شيوعا، وأوسعهم ترجمة إلى اللغات الأخرى، وأوفاهم نصيبا من إعجاب الناس في شتى أقطار الأرض في عصره؛ إذ قرأ كتبه ملايين القراء، ومع ذلك فلم تترك دعوته إلى مجتمع دولي أثرا محسوسا في مجرى التاريخ إبان هذا القرن العشرين، وحسبنا أن نذكر أنه هو القرن الذي اشتدت فيه النزعة القومية، لكن ولز إن فاته النجاح في بث أفكار سياسية بعينها عن طريق أدبه، فقد نجح نجاحا عظيما في قصصه القائمة على غرابة الخيال، وهي القصص التي حاول فيها أن يؤكد النتائج الممكنة التي تترتب على الكشوف العلمية الحديثة.
من هذا يتضح أن الموهبة الأدبية لا تطرد دائما مع عمق الأثر الذي يتركه النتاج الأدبي الذي يتركه صاحب تلك الموهبة في تغيير وجهات النظر عند الناس؛ أي إن عبقرية الخلق الأدبي وحدها لا تكفل إحداث الأثر الفعلي في حياة الناس، حتى حين يكون قوام ذلك الخلق الأدبي أفكارا مما من شأنه أن يحدث التغيير في أنظار الناس. لا، بل إن عبقرية الأديب قد تكون هي نفسها العامل الذي يصد الناس عن قبول فكرته الجديدة؛ إذ إن قبول الفكرة وشيوعها لا يتوقفان على جمال عبارتها، ولا على رقة المشاعر المتجسدة فيها، ولا على لطافتها أو طرافتها أو عمقها، بقدر ما يتوقف القبول والشيوع على تكرار الفكرة تكرارا يصوغها في عبارة مبهمة عامة، فيسهل حفظها ودورانها على الألسن، برغم خلوها من التفصيلات التي تجعلها ذات معنى محدد؛ ولهذا كثيرا ما نجد الفكرة العبقرية الأصلية محكوما عليها بالعزلة، حتي يتناولها شارحون يفقدونها لبها وجوهرها في سبيل صياغتها صياغة يسهل قبولها، عندئذ فقط يقبل عليها الناس، ولكن بعد أن تصير قشرة جوفاء.
إن الكلمة اللاتينية
Vates
تعني «شاعرا»، كما تعني «نبيا» أو صاحب دعوة؛ مما قد يوحي بأن قول الشعر - أو الأدب بصفة عامة - والدعوة إلى مثل عليا معينة، شيء واحد، لكننا إن وجدنا في تاريخ الأدب طائفة من أعظم الشعراء الذين كانوا بشعرهم دعاة لمثل عليا، هداة للخير والفضيلة، وعداة للشر والرذيلة، إلا أن الخلق الشعري في أساسه مختلف كل الاختلاف عن الدعوة إلى أفكار بعينها؛ لأن مثل هذه الدعوة إنما تنشد ما «ينبغي أن يكون» في مجال الأخلاق أو العقيدة أو الفكر، أما الشعر - والأدب عامة - فلا يهمه «ما ينبغي أن يكون»، بل يهتم بما هو «كائن» إذا كان هذا «الكائن» الفعلي محوطا بالألغاز والسر. هم الأدب هو ما يفعله الناس في مسالكهم من خير ومن شر؛ فمن عجب أن الإنسان في وسعه أن يعلو إلى أسمى مدارج الفضيلة، كما في وسعه أيضا أن يسفل إلى أحط مهاوي الرذيلة. هم الأدب هو هؤلاء الناس أنفسهم كما يسلكون فعلا، وكما يشعرون فعلا، وكما يفكرون فعلا؛ فمن الناس من يلمع ذكاء متوقدا مشرقا، ومنهم من انطفأت فيه جذوة الفكر انطفاء غشاهم بعتمة من الغباء المظلم؛ منهم من يسمو حتى ليصل إلى منزلة الشهود عند المتصوفة، ومنهم من يهبط حتى يكاد يندرج في مقولة واحدة مع الحيوان الأعجم؛ فلا غرابة إن كانت هذه هي الطبيعة الإنسانية بمتناقضاتها أن يلح كثيرون من أصحاب الدعوة الروحية على أن يعرف الإنسان نفسه، ومهمة الأدب الحقيقية هي أن يعاون الإنسان على هذه المعرفة؛ على معرفة ذاته على حقيقتها.
مهمة الأدب الأولى هي الكشف عن حقيقة الإنسان كما هي واقعة. نعم، إن الشاعر أو الأديب قد يتعرض هنا وهناك لدعوات في سبيل الله، أو في سبيل المجتمع، أو في سبيل العلم، وما إلى ذلك، ولكنه إذا لم يكن قبل كل شيء رائدا يرود جوانب النفس البشرية كما تتمثل في ذاته هو، وإذا لم يكن إلى جانب ذلك صاحب موهبة يستطيع بها أن ينقل إلى الآخرين لمحات بصيرته التي نفذ بها إلى خبيئة ذاته، حيث شهد خبراته النفسية في أعماقها التي تضطرب بالمتناقضات، أقول إنه إذا لم يتوافر فيه هذا فقد يعد خطيبا فصيح البيان، أو إماما مصلحا، لكنه لن يكون شاعرا ولا أديبا.
إن الأثر الأدبي الرفيع هو دائما بمثابة تقرير يبين به صاحبه حقيقة واقعة في خلجات نفسه؛ حقيقة من ذاك النوع الذي وإن يكن مبهما في طبيعته، إلا أنه ما يكاد يعلن على الناس حتى يدركوا صدقه، بل إنهم عندئذ ليعجبون كيف تأخر الكشف عنه؛ فالأدب الرفيع كله تعبير عن مشاعر أولئك الأفذاذ الذين ارتادوا جوانب ذواتهم من داخل ومن الأغوار، فكشفوا عن المستور منها، وطالعوا حقيقة ما يفكرون فيه وما يهتزون له، فألموا بذلك بالمصادر الأولى التي عنها ينبثق سلوكهم الظاهر، ثم يجيء القارئون لهذا الأدب، فتتحرك فيهم الرغبة أن يرتادوا أنفسهم بدورهم كما ارتاد الكاتب جوانب نفسه، وعندئذ يجد القارئ أن ما يكمن في حنايا نفسه هو بعينه ما قد سبق للأديب أن يتصيده وأن يعلنه، معبرا بذلك عن مشاعره إزاء الناس من حوله، وإزاء النظم الاجتماعية القائمة، وإزاء الثقافة السائدة.
هكذا يكون الأدب الرفيع تربية للقارئ في فهمه لنفسه (ويكون الأدب الرديء تربية له في سوء فهمه لنفسه)، فلئن كان داعية الأخلاق يغري الناس أن يأتوا الفضيلة ويجتنبوا الرذيلة، فالأديب الحق يفتح أعيننا على منابع الفضيلة والرذيلة في أنفسنا. على أنك تستطيع أن تقول إن الأديب الحق بفتحه لأعيننا على حقائق النفس كما هي واقعة، فهو إنما يفعل خيرا بأكمل معاني هذه الكلمة؛ لأن مجرد وعي الإنسان بما هو حق هو في ذاته خير، لا سيما إن نتج عن هذا الوعي تطوير لشخصيته، وتعميق لإدراكه، وتسديد لخطاه.
الأدب الرفيع محايد، يلقي الضوء على جوانب الخير والشر معا، يصور العبقري والأبله على السواء؛ فهو كالشمس تشرق على الأشياء بغير تمييز. وخذ مسرحية من مسرحيات شيكسبير، خذ مثلا مسرحية «ترويلس وكرسيدا» تجد حشدا من الأشخاص مختلفي النزعة ، فلا تدري أيهم يلقى القبول عند الشاعر وأيهم يثير فيه السخط؛ أهو ترويلس العاطفي الساذج، أم هو هكتور الفارس الأريحي، أم هو يولسيز الواضح الفكر والخبير بشئون الحياة، أم هي كاسندرا التي ترى الكون مليئا بالقسوة خاليا من الرحمة، تسيره دوافع القدر الذي لا يعبأ بالقيم، أم هما هلين وكرسيدا اللتان كانتا في ربيع الحياة فلم تريا في الكون إلا الحب؟ إن شيكسبير لا ينصر أحدا على أحد في وجهة نظره، ولا ينتهي إلى حكم يقول فيه إن هذا أصاب وذلك أخطأ؛ لأنه لم يكتب ليدعو إلى شيء، إنما كتب ليكون شاعرا؛ أي ليرتاد ويستكشف ويسجل في حياد ما هو كائن. إنه لا ينادي بما ينبغي أن يكون، ولا يحاول إغراء القارئ بقبول هذا دون ذاك من ضروب الفعل الإنساني؛ إذ يكفيه أن يضع أمام أبصارنا ما قد لاحظه في نفسه، ونتائج تحليلاته للذات الإنسانية، ثم يتركنا أحرارا فنتولى تربية أنفسنا على ضوء ما قد عرفناه من أسرار النفس البشرية بالطريقة التي نريد.
ولكن ماذا نعني بقولنا إن الأديب هو ذلك الذي يخبر ذات نفسه ليراها على حقيقتها؟ إننا نعني بذلك أنه يغوص إلى ما هو كائن تحت مستوى التعبير اللفظي؛ فهنالك دائما حالات لم تجد بعد طريقها من عالم اللالفظ - وهو ما قد يسمى باللاشعور - إلى اللفظ، وهو عالم الوعي والشعور الذي ندركه بالعقل، والذي نصوغ مدركاته وتصوراته بألفاظ محددة المعنى إلى حد كبير. ولما كان اللفظ هو الوسيلة الوحيدة التي نستطيع بها أن نخرج ما هو دفين في النفس البشرية، كان لا بد للأديب من أن يتصيد العبارة الدقيقة التي تلائم الحالة التي عثر عليها كامنة بين جوانحه، وإنها لحالة تتصف بكثير من اللطافة وانبهاهم الحدود؛ ولذلك كانت مهمة الأديب في صياغتها لفظا مهمة عسيرة. فنحن لا نحتاج إلى قصاص أو إلى شاعر ليخبرنا كيف يكون الشعور بوجع الضرس، وكيف يكون شعورنا بالخوف إذا ما دهمنا وحش كاسر في الفلاة؛ لأنها حالات قد تكون مما يعيه العقل الواعي ، ومما يسهل وجود اللفظ الذي يعبر عنه، لكننا بحاجة إلى القصاص وإلى الشاعر ليعبر لنا باللفظ عن الحالات التي هي أكثر تعقدا وأقل وضوحا، كحالة الحب - مثلا - أو حالات الخجل والإحساس بالذنب؛ فتلك حالات ذات أضواء وظلال لطيفة، ولا بد لنا من أديب نافذ البصيرة ليفتح أعيننا على حقيقة انفعالاتنا في حالات الخبرات المبهمة الغامضة؛ فما أكثر ما تكون الدوافع النفسية عندنا أخلاطا عجيبة بين المشاعر المتناقضة، فيختلط شعورنا بالرأفة بشعورنا بالنفور، ويختلط الإعجاب بالحقد أو الحسد، ويختلط الحب بالكراهية، ولا أحد سوى الأديب يستطيع أن يحل هذا المركب المعقد، حتى إذا ما بسط خيوطه أمامنا جاءت عبارته وكأنها المفتاح الذي يفتح لنا مجاهل الجانب اللاشعوري اللالفظي من أعماق النفس، وليس المقصود بمعرفة الإنسان لنفسه إلا معرفة هذا الجانب اللالفظي العميق. على أن الطريق إلى الجانب اللالفظي هو اللفظ، ولكن ذلك لا يكون إلا على أيدي الأدباء.
هكذا يعيننا الأدب على إدراك أنفسنا وفهم خبراتنا، لكننا لا بد أن نتنبه إلى أن خبرات النفس هذه إنما تتوقف إلى حد ما على بنية الشخص الخابر ومزاجه الموروثين وإلى حد ما على طبيعة البيئة التي تحيط به؛ فرجل قوي البنية لا يخبر الحياة من حوله كما يخبرها رجل ضعيف البنية، والمتفائل الضحوك لا يتأثر بما حوله كما يتأثر به المتشائم العابس؛ وإذن فالحياة تؤثر في الأدب بتأثيرها أولا في أشخاص الأدباء الذين ينتجون ذلك الأدب، وهؤلاء الأدباء إنما يستجيبون للضغوط والمثيرات المحيطة بهم؛ ولذلك فلا يجمل بنا أن نعمم القول عن «الأدب المعاصر» وعن «الحياة المعاصرة» كأنما هذه أو ذلك كل واحد متجانس؛ فالأدباء في مجتمعاتنا «أفراد»، ولكل فرد منهم خصائصه الفريدة؛ وبالتالي فله طرقه الخاصة في الاستجابة للحياة التي تحيط به.
وبهذا الحذر فلنتحدث عن الطرق التي تؤثر بها البيئة المعاصرة المتغيرة على الأدب المعاصر.
فما هي الخبرات الجديدة المفروضة علينا بحكم البيئة الجديدة التي نعيش فيها اليوم؟ ها هي ذي بعض النتائج السيكولوجية التي ترتبت على كون الإنسان يعيش في القرن العشرين، لا في القرن الثامن عشر مثلا، وأولها: الحالة النفسية التي نتجت عن كون الإنسان معاصرا للقنبلة الهيدروجينية ، ومعاصرا للحرب الباردة؛ فالنفس يملؤها قلق مبهم مقيم، يصاحبه عادة إحساس بعبث الحياة، وانعدام المسوغ لبذل الجهد وللتدبر وللطموح في عالم قد يباغته الدمار.
وثانيتها: هي الحالة النفسية التي نتجت عن كون الإنسان معاصرا لطرائق الإنتاج والتوزيع على النطاق الواسع في عالم الصناعة الحديث؛ فكل تقدم في التقنيات (الوسائل الفنية) يسايره حتما تقدم مماثل في التنظيم الاجتماعي، وإن جوانب كثيرة من النظم الاجتماعية الحديثة قد وجدت أولا لتلائم طرائق الإنتاج والتوزيع الحديثين، وكان على الإنسان بعدئذ أن يوائم بين نفسه وبينها؛ ولذلك فإن الشعور النفسي عند الفرد بقلة حيلته وضعف حوله - من حيث هو شخص واحد فرد - يزداد اتساعا وعمقا.
وثالثتها: هي الحالة النفسية التي نتجت عن زيادة سكان العالم زيادة كبيرة مفاجئة؛ فقد كان سكان العالم في القرن الأول الميلادي يقدرون بمائتين وخمسين مليونا، ثم ضوعف هذا العدد في ستة عشر قرنا، على حين أن عدد السكان اليوم - وهو ثلاثة آلاف مليون نسمة - يقدر له أن يضاعف في أربعين عاما فقط، وترتب على هذا التفجر البشري الهائل نمو فظيع في كبريات المدن؛ ومعنى ذلك أن عددا كبيرا من الناس أصبحوا يعيشون في بيئة حضرية بعد أن كان العدد الأكبر من أسلافنا يعيشون في بيئة ريفية طبيعية، وكان من نتائج ذلك أن ملايين وملايين من أطفالنا لا يعلمون شيئا عن الطبيعة؛ لا يعرفون كيف يكون القمح في حقوله، ولا كيف تكون شجرة الفاكهة، بل إن ملايين منهم لم يروا في حياتهم بقرة إلا في الصور.
فما النتائج النفسية لهذا كله؟ أولا: تضيق دائرة الخبرة بالطبيعة ضيقا شديدا. وثانيا: يفقد الإنسان شعوره بالانتماء، فيحس بالضياع؛ لأنه دائما في زحمة المدن بغير روابط عميقة الجذور؛ ولذا فهو يحس بالعزلة رغم تكاثر الناس من حوله. وثالثا: قد يضطر الإنسان إلى ضبط النسل ليحد من زيادة السكان؛ فعلى مر الزمن ينفصل الحب بين الجنسين عن عملية الإنسال؛ ولذلك فقد تتغير وتتحول الخبرة النفسية بين الجنسين التي كانت معينا لأدب ذي طابع خاص، وقد يكون التغير إلى أحسن، ولكنه تغير على كل حال.
كل هذه النتائج لا بد من ارتيادها، والكشف عن خفاياها النفسية، ثم تحويلها إلى أدب؛ فالحياة الحديثة تؤثر في صانعي الأدب، ثم يجيء الأدب الحديث بدوره فيعين قراءه على تبين ما لم يكونوا يتبينونه من عوامل القلق، والإحساس بالعبث، وضعف الحيلة بالنسبة للفرد الواحد، والشعور بالمرارة تبعا لذلك، وانعدام الروابط الانتمائية، والشعور بالعزلة رغم تكاثر الناس. •••
فرغ أولدس هكسلي من إلقاء كلمته في موضوع «الأدب والحياة الراهنة»، فدعيت لإلقاء كلمتي، فأوجزت رأيي قائلا إنه لمن تحصيل الحاصل أن نعيد القول ها هنا بأن حضارتنا الحديثة حضارة علمية في أساسها، فلم يحدث قط في تاريخ البشر أن تغلغل العلم في حياة الإنسان اليومية بمثل ما يتغلغل اليوم في حياته، وإذا كان هذا هكذا فمحال أن تمضي هذه الظاهرة دون أن تسم الأدب بطابعها الذي لا يخطئه بصر.
إن أهم مميزات العلم هو أنه يبحث عن الاطراد في ظواهر الطبيعة؛ فليس الذي يعنيه هو الحادثة الفذة الفريدة التي لا تكرار لها، بل الذي يعنيه هو التشابه بين مجموعة من الظواهر، بحيث يجوز إدراج المجموعة المتشابهة كلها تحت قانون واحد. وأما الحادثة الواحدة أو الكائن المفرد الواحد، فلا يهم العلم إلا من حيث هو حالة من بين مجموعة الحالات التي تخضع كلها على السواء لتعميم واحد. نعم إن لكل حادثة واحدة أو فرد واحد طابعا مميزا له دون سائر الحادثات أو الأفراد، منه تستمد الحادثة أو الكائن المفرد هويته الكيفية، لكن هذه الهوية الكيفية للأشياء لا قيمة لها عند العلم، وإنما القيمة كل القيمة هي للجانب الكمي الذي تضيع فيه فردية الفرد بحيث تتلاشى في بحر التعميم مع سائر أشباهها. وليس معنى ذلك بالطبع اختفاء الجانب الكيفي من فردية الفرد الواحد، كلا، بل هو موجود، لكنه لا يكون موضع نظر العلماء في بحوثهم العلمية الخالصة.
ونحن إذا تناولنا الإنسان نفسه بالبحث العلمي على الأساس المذكور، كان شأنه شأن سائر الأشياء، من أن فردية الفرد بما فيها من طابع كيفي مميز لا تكون بذات شأن في مجرى البحث العلمي، ويصبح الفرد الواحد من الناس حالة من بين مجموعة الحالات التي يصدق عليها هذا القانون أو ذاك. ولو كان من خصائص الأدب - كما يقال أحيانا - أنه يعكس ما هو واقع فعلا، لوجب أن يجيء الأدب في عصرنا - عصر العلم - محاكيا لهذا العلم السائد في اطراحه للتمايزات الكيفية بين أفراد الناس، والنظر إلى هؤلاء الأفراد كأنهم أعضاء متشابهون من مجموعة واحدة متجانسة، لكن الأدب - لحسن الحظ - قد لا يضطلع دائما بتصوير الواقع كما يقع تصويرا مرآويا؛ إذ نراه أحيانا يتمرد على الواقع بذكر نقيضه ليحدث شيئا من التوازن، وكم من مثل في تاريخ الفكر الإنساني يبين لنا في جلاء هذه الحركة البندولية، التي تقفز من النقيض هنا إلى نقيضه هناك. وإن حركة الأدب المعاصر لشاهد جديد يساق هنا؛ فمن إطار التفكير العلمي الذي يسود المعامل والمصانع، وثب الأدب إلى إطار آخر هو من إطار العلم على طرفي نقيض، لكنه كان في وثبته تلك متعدد الوسائل والسبل.
فمن وسائل فراره من ميكانيكية العلم التي تعمل على محو الفوارق الفردية دعوته إلى العودة إلى القيم الروحية المتمثلة في الديانات بصفة خاصة، وكثيرون هم قادة الفكر في أوروبا وأمريكا الذين يدعون أقوامهم إلى الأخذ بشيء من روحانية الشرق؛ فهذا هو أولدس هكسلي يمجد روحانية المدنية الهندية في كتابه «لا بد من وقفة في سير الزمن»، وفي كتابه «الفلسفة السرمدية»، وفي مجموعة مقالاته المعنونة «غدا وغدا وغدا»؛ ففي هذه الكتب تراه - من قبيل رد الفعل للنظرة العلمية التي تنطوي على تفتيت الوحدة الكونية - يدعو إلى نوع من الصوفية يجمع أشتات ما تفرق على يد العلم من أشلاء الحقيقة الكونية الواحدة، وكذلك نرى دعوة كهذه في قصة سومرست موم «حد الموسى».
لكن ذلك إن لاءم أدباء الغرب، فماذا عسانا أن نقول عن أدبائنا نحن الذين يجدون أنفسهم حملة للتراث الروحي من جهة، ومهددين بزوال الفردية الإنسانية بتأثير العلم والصناعة من جهة أخرى؟ لقد فر أدباء الغرب من علمهم وصناعتهم، فلاذوا بمثل عليا وجدوها في حضارات شرقية قديمة، فماذا يصنع أدباؤنا إذا هم أحسوا الإحساس نفسه بإزاء الروح الإنساني المهدد بالتفكك والضياع؟ إن المفر هنا لا يكون بالانتقال إلى حضارات أخرى؛ لأن التراث الحضاري المحلي فيه ما يكفي، بل يكون المفر إلى الماضي نحيى مثله العليا الروحية، لا لنلغي بها العلم والصناعة؛ لأننا في أشد الحاجة إلى علم وإلى صناعة، بل لنساير بها آثار العلم والصناعة، بحيث يكون لنا من كل جانب من الجانبين ما يكفل ألا يسرف الجانب الآخر إلى حد الشطط؛ فلا الوضعية العلمية ينبغي أن تنسينا القيم الروحية العليا، ولا الانغماس في الحياة الروحية يجوز له أن ينسينا العيش الرغد في هذه الدنيا بفضل العلم والصناعة.
فلا غرابة أن وجدنا شطرا كبيرا من إنتاجنا الأدبي (في البلاد العربية) في الحقبة الأخيرة من تاريخنا الأدبي منصرفا إلى نوع من «النهضة» (الرنيسانس) المرتكزة على إحياء التراث القديم، وها هم أولاء أدباؤنا جميعا، طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، وغيرهم، قد شغلوا أنفسهم جادين في إحياء المثل العليا التي تتمثل في تراث الأقدمين، سواء أحيوها بنشر ذلك التراث، أو أحيوها بأن تمثلوها هم في أنفسهم ثم جسدوها في إنتاجهم الأدبي الأصيل.
على أن فرار الأدباء من ضرورات العلم والصناعة إلى مثل عليا روحية كانت تسود قبل عصر العلم والصناعة، ليس هو الملاذ الوحيد الذي لجئوا إليه؛ فقد ترى من الأدباء الثائرين على ضياع الفردية الإنسانية تحت ضغط الحياة العلمية المعاصرة، من لا ينتقل من مكانه؛ فلا يذهب إلى حضارة بعيدة في المكان إن كان من أدباء الغرب، ولا يذهب إلى مثل عليا بعيدة في الزمان إن كان من أدباء الشرق، بل تراه يلجأ إلى الغوص في أعماق نفسه هو؛ ليكون في ذلك تثبيت لشخصه وإقرار بوجوده الفردي. وخذ مثلا لذلك أديبا مثل جيمس جويس، أو من شئت من الأدباء المعاصرين الذين يغضون النظر عن الأشياء الخارجية وما بينها من علاقات، فتلك لا تعنيهم بقدر ما يعنيهم خواطر ذواتهم وما بينها من روابط، حتى وإن جاءت الصورة آخر الأمر على غير ما تألفه الأبصار والأسماع؛ فالمهم عندهم هو مجرى الشعور، لا مجرى الحوادث الخارجية. وهكذا تجد الفرد الإنساني في مثل هذا الأدب قد انتقم لفرديته أشد انتقام؛ إذ جعل من نفسه دنيا بأسرها، بدل أن يكون جزءا من كل؛ فالحقيقة الذاتية هنا - لا الحقيقة الموضوعية - هي مدار الحديث. الحقيقة الكيفية الشعورية، لا الحقيقة الكمية المجردة، هي العماد الأول والأخير؛ فلا العقل بمنطقه، بل ولا ألفاظ اللغة بما قد اصطلح لها من معان، بذات شأن. وأي شأن يكون لها ما دام الفرد الواحد قد أصبح كالجزيرة المنعزلة عن بقية أجزاء العالم، يحلم من داخل ثم يروي حلمه كيفما جاء، ومن شاء فليفهم، ومن لم يشأ فعليه هو الخسار. ذلك كله عند أدباء أوروبا وأمريكا، والحمد لله عندنا نحن أدباء الجمهورية العربية أن لنا ما يشغلنا من نهوضنا الاجتماعي مما يجعل الأديب مغموسا إلى أذنيه في الأوضاع الاجتماعية الجديدة، حتى لينسى مجرى شعوره الخاص الذي قد يجعل منه جزيرة معزولة في خضم الحياة، بكل ما تستتبعه تلك العزلة من مرارة وألم.
لكن من أدباء العالم المعاصر من لا يتيسر له أن يغمض عينيه عن حضارة العلم والصناعة ليرتحل بخياله إلى حضارات بعيدة في المكان أو في الزمان، وكذلك لا يتيسر له أن يغض النظر عن الروابط الاجتماعية التي تربطه بالعالم الخارجي المحيط به بحيث يغوص في أغوار نفسه ليعيش على خواطره وأحلامه، فلا يجد أمامه إلا أن يجلس مكانه عابسا متشائما، وها هي ذي قصيدة إليوت «الأرض اليباب» - التي يجعلها نقاد كثيرون رمزا للأدب المعاصر - دليل قائم على روح التشاؤم التي تغلب على هذا الفريق من الأدباء كلما نظروا إلى الحضارة العلمية الصناعية ممسكة بخناقهم مضيقة لصدورهم، واقرأ إن شئت أمهات القصص الحديثة، وتتبع أشخاصها، تجد عددا كبيرا منهم يحيا حياة قلقة تعسة شقية، سواء حقق أهداف حياته أو لم يحققها، حتى لقد تجد من جمع المال بالملايين ، وشيد من المصانع ما لا حصر لإنتاجه، ولكنه يجد نفسه آخر الأمر وحيدا بغير صديق، فيأخذه الشعور بالخيبة رغم نجاحه الخارجي، وقد ينتهى أمره إلى الانتحار.
ولا يسعنا ونحن في هذا الصدد إلا أن نشير إلى جماعتين من الأدباء الشبان؛ إحداهما في إنجلترا، وتعرف باسم «الشباب الغاضب»؛ والأخرى في الولايات المتحدة، وتعرف باسم «الحوشيين الكواسر». فأما الشباب الغاضب في إنجلترا فينبذون الماضي والمستقبل - في الحياة الفعلية وفي الأدب على السواء - ليعيشوا اللحظة الراهنة عيشا غزيرا، وهم ساخطون على كل ضروب السلطة التي قد تسد أمامهم مسالك العيش الحر الذي ينشدونه. وأما الحوشيون الكواسر في الولايات المتحدة، فهمهم الغوص في التجربة الحاضرة بكل أعماقها، لا يعبئون بمستقبل، ولا بغيرهم من الناس؛ لأن هؤلاء الناس ليسوا في أعينهم إلا وسائل يحققون بها طبائعهم، فلا قيمة لأحد عند هؤلاء الكواسر إلا بمقدار ما هو أداة لتحقيق أغراضهم الراهنة. فكلتا المجموعتين من أدباء الشبان تتفقان على نبذ الماضي والمستقبل، والوقوف عند تجربة اللحظة الحاضرة، إلا أن الشباب الغاضب في إنجلترا يختلف عن مجموعة الكواسر في الولايات المتحدة في أن الأولين يهمهم أن تكون لهم منزلة اجتماعية في الحاضر، على حين لا يعبأ الكواسر بشيء كهذا.
لكن هذه الأصداء المتشائمة في أدباء الغرب يقابلها عند أدبائنا (في الجمهورية العربية) أصداء متفائلة، برغم أن هؤلاء وأولئك جميعا محاطون بعناصر واحدة ومتشابهة من حياة العلم والصناعة، وعلة ذلك أن الغرب في انحدار بسبب العلم، والشرق (آسيا وأفريقيا) في صعود بسبب العلم أيضا؛ فالأمل هناك قد استنفدت مصادره، والأمل هنا ما يزال في أول مدارجه. المستقبل هناك عابس، والمستقبل هنا مزدهر. فلا أظن أن أحدا من كتاب القصة أو المسرحية أو المقالة عندنا يزدري الماضي والمستقبل كما يزدريه الشباب الغاضب والشباب الحوشي في إنجلترا وأمريكا. نعم، لا أظن أن أحدا من كتابنا يكتب وهو غير عابئ بالقيم، أو وهو غير عابئ بما يصيب إخوانه في الإنسانية من خير ومن شر، ولا أظن أن شخصية من شخصيات القصة الحديثة عندنا تنجح في عملها ثم تيئس فتنتحر كأنما النجاح هو نفسه الإخفاق، كما حدث للمليونير في قصة أوهارا التي عنوانها «من الشرفة».
ومؤدى ذلك كله أنه من قبيل التعميمات التي تطمس الفوارق ذات المعنى، أن نتحدث عن «الأدب في الحياة الراهنة» كأنما الأدب كله على غرار واحد في أرجاء العالم كله، وكأنما الحياة الراهنة تحمل طابعا واحدا عند الناس أجمعين؛ فالأدب في عصر العلم والصناعة هذا يتسم بالعبوس والتشاؤم في بلاد فقدت عزها حين فقدت مستعمراتها، والأدب في عصر العلم والصناعة يتسم بالبشر والتفاؤل في بلاد استردت عزها حين طردت المستعمر من أرضها. •••
كان هانز إريك نوساك هو الذي يمثل بلاده - ألمانيا الغربية، و«نوساك» هذا شاعر وقصصي وكاتب مقالة - فاستهل كلمته بسؤال ألقاه، وهو: هل استطاع الأدب في كل تاريخه أن يمنع حربا؟ ثم أجاب عن سؤاله بنفي قاطع؛ فليست مهمة الأدب المباشرة أن يخوض في مشكلات الساعة؛ لأن هذه المشكلات مصيرها إلى حل وزوال، وهي إذا زالت لم يعد ما كتب عنها بذي قيمة إلا من الناحية التاريخية وحدها. وإنه لمن تناقض القول أن نصف كتابا معينا بقولنا إنه «أدب»، ثم نقول عنه في الوقت نفسه إن قيمته قد ذهبت بذهاب المشكلات التي تعرض لحلها؛ لأن نضارة الأدب ربيعها دائم على مر الزمن، وعلى اختلاف الأمم.
لكن الأديب إذا لم يتعرض لمشكلات يومه، ففيم يكتب؟ إنها مفارقة تتطلب منا إمعان النظر؛ لأنها هي نفسها المفارقة التي قسمت النقاد فئتين؛ إحداهما تقول بوجوب أن يكون الأدب هادفا، والأخرى تقول بضرورة أن يترك الأدب حرا من قيود الأهداف. والظاهر أن جذور الخلاف كائنة في خلط الناس بين مفهومين متميزين: مفهوم «الإنساني»، ومفهوم «الاجتماعي». ولو أدركنا في وضوح أن «الاجتماعي» وسيلة تحقق لنا «الإنساني» لزالت عن المشكلة عقدتها. لو أدركنا أن كل ظواهر المجتمع بشتى صورها السياسية والاقتصادية إنما جاءت أو جيء بها لتخدم الإنسان - والإنسان لا يكون إلا فردا - لأدركنا تبعا لذلك أن الأدب لا بد أن يكون هادفا، لكن هدفه لا بد أن يكون هو الإنسان المتعين المجسد، فإذا شغل الأديب نفسه بأحداث عصره، فإنما يشغلها بها من الجانب الذي يصور لنا وقفة الإنسان إزاء هذه الأحداث، بحيث إذا زالت الأحداث واختفت أزماتها، بقيت صورة الإنسان حية في كل عصر وفي شتى الظروف، أما إذا انغمسنا في الأحداث لذاتها، نتعقبها ونحللها ونسجلها، فإننا عندئذ نكون بمثابة من ضحى بالغاية من أجل الوسيلة، فجعل الوسيلة غايته.
إن من شأن الكل الاجتماعي أن ينظر إلى الأفراد الأعضاء، ومن زاوية القيمة الإحصائية وحدها، فلا يهمه زيد لأنه زيد، ولا عمرو لأنه عمرو، بل إن زيدا وعمروا كليهما من الآحاد التي تتجانس عند العد والحساب. وبعبارة أخرى، فإن الإنسان الفرد يفقد خصائصه المتعينة ليصبح تجريدا من التجريدات الإحصائية مطلوبة وضرورية؛ لأنها هي الوسيلة المعينة لنا على تخطيط مشروعاتنا وتنفيذها، لكن الهدف دائما ينبغي أن يكون حياة الإنسان، وإلا لأحس هذا الإنسان بالضياع النفسي الذي يذيبه في متاهات الأرقام.
ونعود إلى الأدب ومهمته فنقول: إنها هي هذا الإنسان آخر الأمر؛ فلا هي الظروف السياسية ولا الحالات الاقتصادية، ولا حتى القيم الأخلاقية؛ لأن هذه كلها هي «الوسائل الاجتماعية» التي خلقت خلقا لتهيئ للإنسان حياته خصبة غزيرة. إننا لا نقول بهذا إنه لا ينبغي لأحد أن يكتب في السياسة والاقتصاد والأخلاق، لكننا نقول إن مثل هذه الكتابة - على ضرورتها - لا تعد أدبا بديعا. ولنلاحظ أن معيار النقد للنوع الأول من الكتابة ليس هو معيار النقد للنوع الثاني؛ فالنوع الأول يقاس بما فيه - أو بما أعوزه - من سداد الاستدلالات المنطقية من الفروض النظرية أو من الأرقام الإحصائية، وأما النوع الثاني فمقياسه مدى صلته الحميمة بنفس الإنسان ونوازعه بكل ما فيها من كمال ونقص. النوع الأول لا يحتمل أن يكون في الصورة عيوب، والنوع الثاني يريد أن يرى الصورة الحية بعيوبها.
وعلى ضوء هذا التقسيم يتبين لنا أن قسمة الأدب المألوفة إلى «أدب خالص» و«أدب هادف» هي قسمة على غير أساس صحيح؛ ولذلك فهي مضللة؛ فالأدب كله هادف، ولكن الهدف يتحتم أن يكون هو الإنسان وحياته، لا الوسائل الاجتماعية التي أنشئت وخططت ونفذت من أجل ذلك الإنسان وتلك الحياة. وإن شئت فاقرأ أي أثر من آثار الأدب الخالد في أي لغة من لغات الأرض، وسل نفسك: ماذا في هذا الأثر الأدبي مما جعله يمسني برغم القرون التي تفصل بين عصري وعصره؟ إن أحداث العصر الذي أنشئ فيه مثل هذا الأثر الخالد كانت بغير شك شديدة التباين مع أحداث عصرنا، وصورة المجتمع القديم كانت شديدة الاختلاف عن صورة مجتمعنا، لكني - هكذا ستقول لنفسك وأنت تقرأ - لكني أجد شيئا في هذا الأثر الأدبي القديم يمتعني، فماذا عسى أن يكون؟ إني أجد فيه من النشوة ما أجده عند صديق حميم يحدثني الآن عن مشكلات عصري.
ها هنا سيجد القارئ الفكرة الضالة، سيجد أن ما قد أمتعه في الأثر الأدبي القديم ليس هو تفصيلات الأحداث الماضية، ولا هو «الأخبار» التي قد ترد في سياق القطعة الأدبية، لكن الذي أمتعه هو البقية التي تبقى بعد طرح المسائل التاريخية كلها، وما هذه البقية الباقية إلا «الإنسان» - سواء كان هو مؤلف القطعة الأدبية، أو كان شخصية أوردها المؤلف في قطعته هذه - البقية هي الإنسان في مواجهته لظروف عصره، فهل غلبته تلك الظروف أو غلبها؟ وكيف كان النصر أو كيف كانت الهزيمة في حياته الجارية؟ وهذا كله لا يكون بالنسبة للإنسان العام المجرد، بل يكون بالنسبة لهذا الفرد أو ذاك ممن عاشوا فعلا، أو ممن خلقهم خيال الأدب وأعاشهم في ظروف عصرهم. •••
وتحدث الشاعر والكاتب الهندي «أوماشانكار جوشي» في الموضوع نفسه - موضوع الأدب في حياتنا المعاصرة - فقال: إن من شأن الأدب أن يحول الحياة فيجعلها فنا جميلا، فإلى أي حد تخضع الحياة المعاصرة لمثل هذا التحول؟ وسؤال آخر لا بد من الإجابة عنه، وهو: إلى أي حد يستطيع الأدب أن يؤثر في الشخصية الإنسانية أو في المجتمع بصفة عامة في مثل الحياة المعاصرة التي نحياها؟
لقد أبرزت الحياة في العصر الحديث قيمتين إبرازا واضحا، وهما : الحرية، والعقلانية. ففي خلال المائة العام الأخيرة تعرضت هاتان القيمتان لأعنف الهجمات؛ فهذان هما «فرويد» و«يونج» قد نبها الناس إلى ما في الطبيعة الإنسانية من اللاعقلانية، وذلك هو ماركس يعرض نظرية مؤداها الحد من الحرية الفردية. نعم، إن العلم الذي يسود عصرنا كان من شأنه أن يؤكد روح العقلانية والحرية الإنسانية، لكن العلم قد تولد عنه ولد - هو التقنية (التكنولوجيا) - فجاء هذا الولد الشيطاني ليضع سلطانا لا يحد في أيدي الممسكين بأزمة الأمور، والذين بحكم أوضاعهم المكتبية (البيروقراطية) قد حولوا أفراد الناس في مخططاتهم وفي إحصاءاتهم إلى نكرات تعرف بالرقم والعدد؛ مما أدى في كثير من الأحيان إلى أن فقد هؤلاء الأفراد حرياتهم الشخصية إلى حد كبير، كما خضعوا إلى نوازع اللاعقل أحيانا كثيرة. صحيح أن التقنية في حد ذاتها عقلانية الطابع، لكنها من وجهة أخرى قد تؤدي إلى أن تكون القوة الاجتماعية والسياسية في أيد تتحرك بالهوى دون العقل بمنطقه السليم.
من أجل هذا كان الأدباء اليوم في مأزق عسير، كلما أرادوا تحويل خبراتهم التي مارسوها في عصر التقنية هذا إلى فن أدبي؛ فلقد ألفنا في التاريخ الأدبي أن نجد العمل الأدبي العظيم يلخص عصره كله، كما نرى مثلا عند هومر في اليونان القديمة، وفيرجيل في الرومان، وكاليداسا في الهند، ودانتي في طلائع النهضة الأوروبية، فكل من هؤلاء قد استطاع أن يعبر عن خبرات مجتمعه كلها من أدناها إلى أقصاها، بما في ذلك جانبها الجمالي وجانها العقلي وجانبها الديني على السواء، أما اليوم فقد تشعبت جوانب الحياة تشعبا لا يتيح للأدب أن يجمع هذا الشتيت في منظور واحد، مع أن مثل هذا التجميع للمتفرقات في منظور واحد هو الذي يمكن الأديب من لمح الحقائق الخالدة خلال لحظة زمنية واحدة؛ فأحداث عصرنا تتدفق تدفقا سريعا، بحيث يكاد يستحيل على الفنان أن يمسك منها بأكثر من شريحة هنا وشريحة هناك دون أن يضم الجميع في بناء متكامل واحد، فلا غرابة أن تعددت مدارس الأدب والفن تعددا لم يسبقه نظير في التاريخ.
ولقد كان للعمل الأدبي العظيم قديما قوة جارفة على المجتمع الذي نبع فيه ذلك العمل، كإلياذة هومر، و«رامايانا» و«ماهابهارتا» في الهند، فأعمال كبرى كهذه كانت كالنبع الفياض بالإلهام لشعوبها، أما اليوم فقد فقد الأدب سلطانه إلى حد كبير، وذهب العهد الذي كان صدور العمل الأدبي العظيم مفخرة قومية لأهله، ولم تعد القصيدة الكبرى ولا القصة العظيمة لتقع من أنفس الناس - من ناحية الشعور بالعزة القومية - بمثل ما كانت تقع الأعمال الأدبية قديما، ولعل أقرب شيء في حياتنا المعاصرة إلى الوقع النفسي الذي كان للأعمال الأدبية فيما مضى، هو العنوان الكبير في صدر الصحيفة اليومية؛ فقد أصبحت الصدارة اليوم للسياسة ولم تعد للشعر. •••
تلك كلمات أربع في موقف الأدب من حياتنا المعاصرة، طرحها للمناقشة متكلمون من أقطار مختلفة: أولدس هكسلي من العالم الأنجلوسكسوني، وكاتب هذه السطور من العالم العربي، و«نوساك» من ألمانيا الغربية، و«جوشي» من الهند. وقد كاد الجميع يتفقون على نقاط بعينها، في مقدمتها خشيتهم على إنسانية الإنسان من مقتضيات الصناعة وتقنياتها مع حرصهم على تقدم تلك الصناعة وتقنياتها؛ مما يضع على الأديب مهمة مضاعفة في سبيل توكيد الجانب الإنساني من حياة الإنسان حتى تزدهر إنسانيته في هذا الوسط الصناعي الجديد نفسه. وقد كان همايون كبير وزير الثقافة في حكومة الهند هو الذي يرأس الجلسات، فختم المناقشة بكلمة عميقة نافذة؛ إذ قال: إننا إذا فكرنا في الحيوان أنواعا أنواعا، فلا يجوز أن نفكر في الإنسان إلا أفرادا أفرادا، وعبقرية الأديب كفيلة أن تتحسس ما تضطرب به نفوس الأفراد من مشاعر وأفكار، فيجسدها ويبلورها في عمله الأدبي. وأما سيطرة الآلات في عصرنا هذا الصناعي، فهو لا يراها مشكلة، بل إنه ليرى فيها وسيلة لتحرير الإنسان؛ لأنها تزيد من الثروة فتقلل من العوز والحاجة، وإن الناس ليتقاتلون حيث العوز والحاجة. إنهم لا يتقاتلون على الماء - إلا حيث يندر الماء - ولا يتقاتلون على الهواء، وأملنا في عصر الإنتاج الآلي الكبير أن يزيد للناس من الطعام والثياب فتمتنع أسباب الحروب، ثم لا خوف على الروحانية من مادية الحياة الصناعية؛ فالروحانية من شأنها أن تزداد عمقا وخصوبة كلما أنفقت منها، وإذا أنت يسرت للإنسان صعوباته المادية، كنت كمن يزيل الحاجز بين المادة والروح؛ فمزيد من العلم والصناعة والإنتاج معناه مزيد من الكرامة الإنسانية، وهذه بدورها معناها مزيد من الإخاء ومزيد من الحرية والعدل بين الناس، ومهمة الأديب المعاصر في هذا كله هي أن يصوغه في كلمات جميلة.
أسلوب الكاتب
الأسلوب الأدبي كالسعادة، لا يكاد يخطئها أحد إذا صادفها في إنسان سعيد، ولا يحجم أحد عن وصفها وتمييز خصائصها حسب رأيه فيها، لكن قلما اتفق اثنان في تحديد طبيعتها ومقوماتها؛ فأنت إذ تقرأ لكاتب ذي أسلوب، لا تتردد لحظة في إدراك هذه الحقيقة فيه، لكن من ذا يستطيع أن يقطع بماذا عساها أن تكون تلك الخصائص التي إذا توافرت في حديث أو في كتابة جعلتها ذات أسلوب، وإذا امتنعت امتنع الأسلوب؟
لكنني مع ذلك سأستبيح لنفسي القول فيما لا سبيل إلى اتفاق الناس في حقيقته وطبيعته، فأقول في عبارة واضحة قريبة إلى الأفهام، إن أسلوب الكاتب صاحب الأسلوب هو صورته مرسومة في أحرف وكلمات، فقل ما شئت في العوامل الاجتماعية التي تميل بالأفراد نحو التشابه ما داموا أفرادا في جماعة واحدة، إلا أن الإنسان الفرد مدفوع بفطرته أن يلتمس لنفسه مخرجا من ذلك التشابه الذي يسوي بينه وبين سواه، ليحتفظ لنفسه بفردية خاصة لا يشاركه فيها فرد آخر؛ فقد يغير من طعامه، وقد يغير من ثيابه، وقد يغير من أثاث بيته؛ لتكون هذه الأشياء كلها متميزة عنده منها عند سواه، لعل فرديته أن تظهر وتبرز، لكنه قد يعجز عن التفرد في الطعام وفي الثياب وفي الأثاث، فيبقى بين يديه ملاذ أخير يلجأ إليه ليحقق الفردية المنشودة، ألا وهو طريقته في استعمال الكلمات، كلاما إذا تكلم أو كتابة إذا كتب.
ذلك أن الإنسان في العادة يود أن يستعمل محصوله اللغوي بطريقة خاصة به؛ ومن ثم تنشأ «اللوازم» في طرائق الحديث، والحظ من شئت من الناس، تجده إن تشابه مع سواه في الكثرة الغالبة من ألفاظه وعباراته، فهو حريص كل الحرص - عن وعي منه أو عن غير وعي - أن تكون له «لوازمه» الخاصة الفريدة، فيكرر كلمة بعينها، أو يستخدم عبارة بذاتها، حتى لتصبح علامة دالة عليه.
وإذا كان هذا هكذا في الرجل من عامة الناس، وفي الحديث أو الكتابة من عامة الحديث والكتابة، فهو هكذا على وجه أخص عندما يكون الرجل كاتبا أديبا، وعندما تكون الكتابة أدبا وفنا، فما صاحب الأسلوب إلا أديب يصوغ عباراته على نحو يتفرد به، حتى لكأنه جزء من سماته وملامحه، تستطيع أن تعرفه به كما تعرفه بقسمات وجهه، فإذا أردت أن تعرف إن كانت الكتابة التي أمامك ذات أسلوب أم هي كتابة بغير أسلوب، فاسأل نفسك: هل يجري الكلام على نحو خاص يختلف قليلا أو كثيرا عن مألوف جريانه عن ألسنة الآخرين؟ فإن كان كذلك كنت إزاء «أسلوب»، وإلا فلا أسلوب هناك، وقد يكون الأسلوب بعد ذلك أسلوبا جيدا أو أسلوبا رديئا.
وكلما ازداد الأديب سموقا في فنه الأدبي، ازداد أسلوبه دلالة على ذات نفسه، فمن أسلوبه تستطيع أن تعرف أي رجل هو؟ ولا عجب، فليس الأسلوب أمرا ظاهرا كالثياب مثلا، بل أسلوب الكاتب هو منه اللحم والعظم والدم، هو السريرة والضمير، أسلوب الكاتب هو الكاتب نفسه فكرا وخلقا وشخصية وجوهرا وكيانا.
وحسبك أن تنظر في الكلمة نفسها، كلمة «أسلوب»، كيف جاءت لتدرك صدق ما نزعم للأسلوب بالنسبة إلى نفس صاحبه؛ فالسلب - كما هو معروف - هو الأخذ أو الانتزاع، والإنسان مسلوب إذا كان منزوع الملكية من شيء كان يملكه، والأسلاب هي الأشياء التي قد قشرت عن أصحابها، ويقال انسلبت الناقة إذا أسرعت في سيرها، حتى كأنها خرجت من جلدها وانطلقت مع الريح. ومعذرة إلى القارئ؛ فليس من عادتي أن أستطرد في أمثال هذه المعارف القاموسية، لكني بسطتها ها هنا ليرى القارئ ما أراه من أن الكاتب يكون ذا «أسلوب» إذا «سلب» قطعة من ذات نفسه هو، ووضعها على الورق أمام أبصار الناس، كأنما أخرج فؤاده من إهابه وعرضه على الملأ.
ولك على ضوء ما ذكرناه أن تقرأ أدباءنا أصحاب الأساليب؛ لترى هل تستطيع حقا أن تتبين الرجل في أسلوبه؟ ها هو ذا العقاد الإنسان، وهذه هي كتابته، فافرض أنك لم تقابل العقاد، ولم تتحدث إليه، ولم تعلم من أمر حياته الشخصية قليلا ولا كثيرا، فماذا تراك مستدلا من كتابته عن حقيقته وطبيعته؟ لا تتصنع القول ولا تفتعله، بل كون أحكامك لنفسك - وهذه نصيحة أسوقها لك عابرة في حياتك الأدبية كلها - فماذا ترى؟ أليست هي كتابة فيها الجد والصرامة؟ وهكذا العقاد الإنسان، فهو رجل صارم جاد. أليست هي كتابة مستقيمة لا خلل فيها، ولا خطأ، ولا هلهلة، ولا تفكك، ولا تحلل؟ وهكذا العقاد الإنسان، فهو رجل يسير على الجادة المستقيمة لا يسهل إغراؤه لينحرف هنا أو هناك. أليست هي كتابة لم يرد صاحبها أن يسري عن القارئ همومه، وأن يستجلب لعينيه النعاس، بل أراد أن ينبهه ويطرد عنه النوم؟ وهكذا العقاد الإنسان، إنه لا يتزلف القارئ ولا يمالئه، ولا يكتب له ما «يسليه»، بل هو يتحداه وهو يعلمه، وهو يوقظه وهو يقلقه ويؤرقه، ثم ألست تشعر من كتابته أنها كتابة رجل عزوف صلب عنيد؟ وهكذا العقاد الإنسان.
هذا مثال واحد سريع، أردت به التوضيح لأنتهي بالقارئ إلى توكيد الفكرة التي بدأت بها، وهي أنه لا يكون الأديب أديبا إلا إذا تفرد بطريقة التعبير، ثم لا تكون العبارة ذات أسلوب معبر إلا إذ جاءت صورة لصاحبها سالت على الصفحات مدادا في جمل وكلمات.
ريادة الأدب
فكاهة تروى عن زوجة لا تدري هل يؤكل الأدب أو يشرب، شاء لها حظها الأنكد أن تتزوج من أديب قصاص، فكان صاحبنا يوصد من دونه غرفة مكتبه ساعات من كل يوم، وأياما من كل أسبوع، قد يأكل طعامه في حينه، وقد يفوته أوان الطعام فلا يحس أن شيئا من مهام الحياة قد فات أوانه، وكلما سألت الزوجة الحيرانة زوجها: ماذا يصنع؟ أجابها بأنه يكتب قصة . وضاقت الزوجة بزوجها ذات يوم، فانفجرت في وجهه صارخة: فيم هذا العناء كله يا أخي، وأنت تستطيع بعشرة قروش أن تشتري ما شئت من قصص؟
هي نكتة تروى عن هذه الزوجة الساذجة مع زوجها الأديب، لكن في هذه السذاجة البريئة لمحة من الحق! فلماذا يكتب الأديب قصة، أو ينظم الشاعر قصيدة، إذا كانت بضاعته مما يملأ السوق بثمن زهيد؟ إنه إذا لم يكن للأديب رسالة جديدة، فيا ضيعة ساعاته التي أنفقها في سجنه الأدبي محتجبا عن أسرته!
أتقول بأن للأديب رسالة ينقلها إلى الناس بأدبه؟ نعم هو ذاك، لكن الأمر يريد شرحا وتحديدا، فمن قلب الأوضاع أن نطالب الأديب بمشاركة المجتمع الذي يعيش فيه مشاركة تدعوه إلى متابعته وتصويره؛ إذ إنه لو فعل لما كان لوجوده من داع يوجبه، فالمجتمع قائم على حاله سواء وجد فيه الأديب أم لم يوجد، ولا عجب - إن كانت هذه هي مهمة الأديب - أن يسأل السائلون: ما جدوى هؤلاء الأدباء في حياتنا وهم لا يصنعون شيئا ولا ينتجون شيئا؟ لكن لا. إن الأديب الحق يهدي ولا يهتدي، ويقود ولا ينقاد، وينير الطريق لغيره ولا يستنير.
وليست هذه ألفاظا نرصها رصا على غير هدى، بل هي معان نعنيها بأدق ما تؤديه من دلالة؛ فلئن كان غمار الناس يحيون حياتهم وفق معايير معلومة رسمت لهم بها نماذج سلوكهم وطرائق عيشهم، فالأديب منهم هو وحده الذي تقلقه هذه المعايير؛ لأن الله خلقه من طبيعة شذت عن مألوف الطبائع، فالتمس راحة نفسه في نماذج أخرى، ثم حاول أن يحياها كما حاول أن ينفس عن طبيعته بالتعبير عنها، لا يعبأ بالناس من حوله، فإذا هو بقلقه هذا مما هو سائد، وباطمئنانه لقيمه التي اختارها، يدخل القلق ثم الاطمئنان في نفوس الآخرين.
نعم، إنه قلب للأوضاع أن نظن - مثلا - أن شعراء العرب كانوا يتغنون بما يتغنون به من قيم، كالنجدة والكرم والتضحية والشجاعة، لأن العرب كانوا على هذه الصفات، فجاء شعراؤهم يصفون ما يجدونه، وينفعلون لما هو قائم مستقر في النفوس . أما الصواب فهو أن القوم قد عاشوا تلك القيم واتصفوا بتلك الصفات، بعد أن لمحها الشعراء أولا ورأوها لأنفسهم، ثم شاعت بعدئذ في عامة الناس، وإلا فما إلهام الملهم وما عبقرية العبقري، إذا كان قصاراه في مدى الرؤية أن يتلفت على قيد شبر منه، ليبصر الناس من حوله كيف يسلكون وبماذا يحلمون، لكي يصف لهم سلوكهم ويسجل أحلامهم؟
إنني لا أقول بدعا إذا قلت إن الأديب الحق يسبق الناس في رؤاه ولا يلحقهم؛ فقد حباه الله موهبة يدرك بها من الحق ما ليست تدركه عامة الناس، كأنما فتح أمام بصره ثغرة يطل خلالها على الوجود الحق في صميمه، بينما وضع غشاوة على أبصار الآخرين فطمسها إلا عن مسالك الحياة الجارية، فيسعون إلى القوت والمأوى وإلى الشهرة والقوة والجاه؛ فليس من شأن عامة الناس أن تترك سبل معاشها لتشك وتفكر، أو لتطير وتحلق، ولو شكت الشمس أو شك القمر، لما اطرد لهما سير في فلك، وكذلك الناس في مسالك عيشهم، لكن ما هكذا يكون الأديب الحق، الذي لم يخلق إلا ليخرج عن فلك الحياة المألوفة المعهودة لنقص فيها، فيسير في فلك من صنعه، وما هي إلا أن ينخرط في مساره هذا سائر الناس، وهل أراد أبو تمام غير هذا المعنى حين قال:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
بناة العلا من أين تؤتى المكارم
فالشعر، والأدب بصفة عامة، هو الذي يسن للناس الخلال، ويرسم أمامهم الطريق، ولا ينتظر ليملي عليه الناس بأي الخلال يشيد، وأي طريق يرسم؛ فهو إذن ضلال وتضليل أن يدعو الداعون إلى أن تكون مهمة الأديب تصوير الواقع كما يقع؛ لأن هذا الواقع لن تزيد واقعيته ذرة واحدة إذا وصفها الواصفون بألف قصة وألف ديوان، أما الدعوة الصحيحة فهي أن يلتمس الأدباء قيما جديدة وهم يحسون قبل سواهم ضرورتها لحياتنا، فيبعثون بها شعرا، أو يرسمونها في قصصهم حياة منظورة مسموعة.
لكن الشاعر أو القصاص - وهو يلتمس الطريق إلى قيم جديدة - لا يبتغي إلا أن يعبر عن قلقه هو ، وعن نشوته هو؛ فهو ينشئ فنه ليعيش فيه فرارا من واقع قائم، إن يكن قد لاءم طبائع الناس فهو لا يلائم طبيعته، وهل منا من يجهل ما قد عرف عن رجال الفن من انعزالية وشذوذ عن مألوف الجماعة؟ لكنها انعزالية سرعان ما ترتد أصداؤها إلى المجتمع الذي اعتزلوه، وشذوذ لا يلبث أن يعود إلى المجتمع نموذجا يحتذى، فهكذا كان الأنبياء وكان القديسون وكان الملهمون جميعا، يعتزلون لتمتلئ أنفسهم بالجديد، ثم يعودون ليصبوا هذا الجديد في أسماع الناس. وهكذا يخلق الموهوبون لذويهم ولمن يجيء بعدهم معايير سلوكهم، فلا العلماء يخلقون تلك المعايير لأنها ليست من شأنهم، ولا الساسة يخلقونها لأن السياسة تسوس أمور الواقع وتفض مشكلاته، أما الفن فهو وحده الذي يجعل تلك المعايير شغله الشاغل، يغيرها بما يتفق مع ما يحسه الفنان أولا، ثم يحسه من بعده الناس جميعا، لكن ربة الشعر امرأة، وهي كبقية النساء لا يطيب لها - بل لا ينبغي لها - أن تفصح عن مرادها إلا بالمراوغة والمداورة، فها هنا يكون الخط المنحني هو أقصر الطرق بين نقطتين، وعلى هذا النحو تكون طريقة الشاعر في تبليغ رسالته: يرسم لتلك الرسالة صورة من بعيد، حتى ليخيل إلى الرائي عند النظرة الأولى أن لا علاقة بين الأصل وصورته، إلا ما يحسه من إيحاء خافت أولا، يظل يزداد معه شدة، حتى ينتهي به الأمر إلى رؤية الحق كله في هذه الصورة الماثلة أمام بصره. ولعل شعراء الصوفية من أبرع من استطاعوا الوصول إلى تلك الغاية عن هذا الطريق، والصوفي والشاعر صنوان في طريقة الإدراك؛ كلاهما يرى الحق ببصيرته، لا ببصره، ويرسمه صورا موحية، لا واقعا مشهودا بالعين ملموسا بالأيدي.
إن الحياة إذا كان تيارها متدفقا متجددا، فلا تكون مقاييس غدها هي مقاييس يومها، ولا أقول مقاييس أمسها، والأدب إذا أراد لنفسه مكان الريادة والقيادة في حياة كهذه، اتجهت دعوته إلى ضرورات الغد وقيمه ومعاييره.
وعقيدتي هي أن أدباءنا في جملتهم قد قصروا دون هذه الغاية تقصيرا شديدا معيبا، وليتفضل من شاء أن يذكر لي من هو الأديب - بين أدباء هذا الجيل - الذي سبق حياتنا بحياته، وأحلامنا بأحلامه، من هو؟ وفي أي كتاب أو قصة أو قصيدة قد أبرز قيمة جديدة وجدها في نفسه الثائرة، فآمن بها، فأفصح عنها، وإذا الناس من بعده يؤمنون؟ أقول «من من أدباء هذا الجيل» لأنني لا أشك لحظة في أن أدباء الجيل الماضي قد خلقوا لنا الإحساس بالحرية خلقا لا أحسب أحدا ينكره عليهم.
أليس عجيبا أن يتدارك الساسة ما قد أهمله الأدباء؛ إذ وضعوا لنا قيما جديدة لحياة جديدة، مع أن الساسة بحكم طبيعتهم ينظرون إلى الواقع من قريب، وأما الأدباء فينظرون إليه من حالق؟
على أن القارئ يسيء إلي أشد الإساءة إذا فهم من كلامي أنني أريد للأديب أن يبلغنا رسالة في الأخلاق أو في أوضاع الحياة الاجتماعية تبليغا صريحا؛ فهذا هو ما يفعله معظم أدبائنا، وهذا هو ما أنكره عليهم، وهو هو بعينه ما سيجعلهم قصار الأجل، ونقادنا من ورائهم يشجعونهم على ذلك حثا لهم أن يدوروا مع عجلة الحياة حيث تدور، والصواب عندي هو أن يعكسوا الأوضاع، فيرغموا الحياة إرغاما على أن تنصاع لهم، فيكونوا هم الهداة، والناس على هديهم من خلفهم سائرون ولو بعد حين.
أبعاد القصة
1
متى يجوز لك أن تقول عن إنسان - ربطتك به روابط الحياة - إنك «تفهمه»؟
هذا سؤال لو استطعنا الجواب عنه جوابا دقيقا واضحا، استطعنا بالتالي أن نجيب عن سؤال آخر، وهو: متى نقول عن أديب القصة إنه صور الشخصية الفلانية فأجاد التصوير؟
وموجز الرأي الذي سأتناوله بشيء من التفصيل، هو أن الجانب المشاهد من حياة الإنسان قوامه أحداث يتلو بعضها بعضا، فهو يعمل آنا ويلهو آنا، ويصحو آنا ويغفو آنا، لكن هذه الأحداث المرئية في حياته الجارية ليست كلها سواء في الكشف عن حقيقة نفسه، إلى الحد الذي يجعلنا نحكم أحيانا على ضاحك بأنه وإن يكن الضحك هو ظاهره إلا أن البكاء هو ما يخفيه؛ فلو جاز لنا أن نقول عن الحوادث الظاهرة من حياة الإنسان إنها أحد أبعادها، كانت الينابيع النفسية الداخلية التي عنها ينبثق السلوك الظاهر هي البعد الثاني.
ولو عرفت من إنسان ينابيعه النفسية تلك، كنت بالبداهة أكثر فهما له مما لو اقتصرت على ملاحظة سلوكه الظاهر، على أن تلك الينابيع النفسية بدورها ليست آخر المطاف، بل تستطيع أن تحفر وراءها لترى القيمة العليا، أو إن شئت فقل المبدأ الأول الذي هو من حياة ذلك الإنسان المعين بمثابة المقدمة التي عنها تتولد مفاتيح نفسه، وعن هذه المفاتيح تصدر أنغام حياته المسموعة.
فقد يصادفك رجلان متشابهان في سلوكهما الظاهر، كأن تراهما مثلا يعبدان الله صلاة وصوما وإيتاء للزكاة، فيكون هذا السلوك منهما هو البعد الأول في حياتيهما، لكنك تنفذ ببصرك خلال هذا السلوك فإذا المصدر النفسي عند أحدهما توبة وندم لما فرط منه في أيامه الماضية، على حين يكون المصدر النفسي عند الآخر تقوى خالصة لوجه الله لا يرجو بها نفعا ولا يتقي ضرا؛ فيكون هذا المصدر النفسي عند كل منهما هو البعد الثاني من حياته، لكنك ربما حفرت وراء ذلك في نفسيهما فوجدتهما يعودان فيلتقيان في قيمة عليا هي الشعور القوي بما يعانيه الإنسان في حياته الفردية من وحشة وعزلة، وأنه بحاجة إلى كائن روحاني أسمى ليصل وجوده بوجوده.
أو ربما حفرت وراء المصدر النفسي عند كل منهما فوجدت كلا منهما يرتد في الحقيقة إلى جذور غير الجذور التي يرتد إليها زميله؛ فقد يكون أحدهما صادرا في النهاية عن اعتقاد بقيمة نفسه، وبأنه في هذه الدنيا يشرع لنفسه؛ ولذلك فهو يعمل ما يحقق ذاته بغض النظر عن أي شيء آخر في الوجود كله، على حين يصدر الثاني عن مبدأ آخر، هو أنه في هذه الدنيا مخلوق صغير ضعيف، يؤمر فيطيع، ومهما يكن من هذه القيم العليا، وهل يتفق فيها الناس أو يختلفون، فهي على كل حال بمثابة البعد الثالث من حياة الإنسان، وبمقدار ما تدرك من إنسان أبعاده تلك يكون فهمك له.
وكذلك قل في أديب القصة إنه بمقدار ما يصور أشخاصه تصويرا يكشف عن أبعادها كلها يكون توفيقه في عمله الفني، ودعواي ها هنا هي أن الكثرة الغالبة من نتاجنا القصصي إنما يقف بها أصحابها عند البعد الأول من أبعاد الحياة الإنسانية؛ إذ يقفون بها عند مستوى الحوادث وتعاقبها واتصالها بعضها ببعض، لكنهم يندر جدا أن يحتاروا من الحوادث، وأن يسوقوا ما قد اختاروه سياقا ينم عن الينبوع الداخلي الذي انبثق منه سلوك هذا أو سلوك ذاك من أشخاصهم، ودع عنك أن يسعفهم الفن في كشف البعد الثالث ممن يتعرضون لتصويرهم.
ولو صحت هذه الدعوى التي أدعيها، لكان أمام الأدب القصصي عندنا شوط فسيح لا مندوحة له عن السير فيه قبل أن يدنو من القمة التي تجعل منه أدبا عاليا.
2
ولنبدأ الأمر من بدايته فنسأل: كيف يتاح للإنسان أن يدرك أي شيء يدركه؟
كيف يتاح لي أن أنظر إلى هذه الشجرة التي أراها من حيث أجلس إلى مكتبي، فأقول إنها شيء واحد ذو كيان واحد؟
ألانها هي في حقيقة أمرها كذلك؟
كلا، فهي ساق وفروع وأوراق، وهي تهتز مع الريح يمنة ويسرة، ولها في كل لحظة زمنية وضع جديد، من ذا الذي يزعم أن ما أراه من هذه الشجرة حتى في هذه اللحظة الزمنية الواحدة هو شيء واحد، في الوقت الذي أرى لونها وحده مؤلفا - عند من يدقق النظر - من مئات الدرجات اللونية، بل اللون الأخضر وحده، كما أراه في أوراقها يغمق هنا ويخف هنا، ويسود حينا ويصفر حينا؟
هي إذن آلاف من عناصر اللون تأتيني، وتستطيع أن تضيف إليها حفيفها كلما اهتزت مع الريح، وغير ذلك من إحساسات تنطبع بها حواسي.
لكن هذه العناصر الأشتات التي تعد بالآلاف ما أزال أقول عنها إنها شيء واحد ذو كيان واحد، فعلى أي أساس أزعم لهذه الشجرة وحدانيتها على كثرة عناصرها؟
الجواب عند «كانط» هو أن فاعلية الإنسان المبدعة الخلاقة هي التي تتصرف فيما يرد إليه هذا التصرف البارع؛ فهي التي تصب الأشتات في وحدة، ولولا تلك الفاعلية الموحدة العجيبة، لظل العالم على فوضاه التي يأتينا بها؛ إذ يظل في أعيننا وفي آذاننا خليطا من إحساسات آتية إليها من هنا وهناك.
وإني لأطلب من القارئ صفحا عن هذه اللمحة الفلسفية التي اضطررت إلى ذكرها اضطرارا؛ لأنتهي منها إلى ما أريد أن أنتهي إليه، وهو أن فاعلية الأديب في خلق أشخاصه هي نفسها هذه الفاعلية الفطرية التي يدرك بها الأشياء، لولا أن هذه الفاعلية الفنية لم تكتب إلا لنفر قليل، لكن طبيعة الفاعلية في الحالين واحدة.
فكيف «أفهم» هذا الإنسان أو ذاك ممن أصادفهم في مجرى الحياة إذا لم أكن قادرا على أن أضم أحداث حياة كل منهم في وحدة تكون هي شخصيته؟
كيف أقول - مثلا - عن فلان إنه مرهف الحس، وعن آخر إنه غليظ فظ؟
كيف أقول عن فلان إنه ذو شهامة وهمة، وعن آخر إنه نذل جبان؟
ألا يكون ذلك الحكم مني على هذا أو ذاك من الناس بمثابة من يلتمس خيطا واحدا يربط به آلاف المواقف والحوادث التي منها تتألف حياته؟ إن ما يدركه الحس من فلان أو فلان هو حالة بعينها في لحظة بعينها، أما أنه مرهف أو غليظ، شهم أو نذل، فذلك ما لا تراه العين أو تسمعه الأذن فيما ترى وتسمع، لكنه فاعلية رابطة نستخدمها من أنفسنا لنخلعها على الكثرة المبعثرة فتصبح وحدة واحدة.
ومع ذلك ففاعلية الأديب أمعن من ذلك كله في الخلق والإبداع؛ لأنه لا ينظر إلى مجموعة من الحالات صادرة كلها عن مصدر واحد، ثم يصبها في وحدة تكون هذا الشخص أو ذاك ممن يعرفهم في حياته العملية.
بل هو يجمع الحالات من مصادر شتى، يجمعها ألوفا ألوفا، ثم يمارس فيها فاعليته الموحدة ليخلق منها شخصا ليس له وجود بين الناس، ولكنه من خلقه هو.
فليس بين الناس هاملت بكل ظروفه، وليس بينهم دون كيشوت بكل ظروفه، لكن شيكسبير قد جمع في تصوره حالات شتى، اختار منها مجموعة صبها في هذا القالب الجديد، وكذلك فعل سيرفانتيز، وكذلك يفعل كل أديب خلاق.
هناك إذن حوادث جزئية وحالات مفردة، هي المادة الخامة التي يصنع منها الأديب نتاجه، وهي ما أسميه بالبعد الأول في حياة الناس، ولو اقتصر عليها كاتب القصة لما كان من الأدب في كثير، بل هو عندئذ يكون أقرب إلى المرأة العجوز تظل تحكي لأبنائها تفصيلات عما قد شاهدت على مر السنين.
وهل أكون أديبا قصصيا لو طفقت أذكر لك أي عدد شئت من تفصيلات حياتي أيام نشأتي في القرية، وكيف انتقلت إلى القاهرة حين انتقل أبي، وفي أي مدرسة تعلمت، وأي الأصدقاء صادقت، وهكذا؟
إن من يستطيع سرد هذه الحوادث كلها هو على كل حال خير ممن لا يستطيع، لكن أين هو من الأدب القصصي كما يريده الفن الرفيع؟
إنه لا فن بغير اختيار، ثم لا فن بغير عضونة المادة المختارة في مخلوقات جديدة، وإنما تتحقق هذه العضونة عن طريق الصورة التي أخلعها على مجموعة الحوادث المختارة، بحيث يتكون منها كائن واحد ذو طابع نفسي خاص، وعندئذ يكون الأديب قد انتقل من البعد الأول إلى البعد الثاني في أشخاص قصته.
إن سؤالا يسأل أحيانا عن الشخصية القصصية، ما هي؟ أهي فرد منفرد بخصائصه التي لا تتكرر في سواه، أم هي نمط يتشابه فيه عدد كبير من الناس؟
والجواب على ذلك هو كالجواب على سؤال أوجهه إليك عن فلان: كيف تراه؟
فتجيب قائلا: أراه غاية في الذكاء، لكنه يستخدم ذكاءه في الشر.
فلو سألتك بعدئذ سؤالا آخر: أيكون فلان هذا فردا أم يكون نموذجا للرجل الذكي حين يستخدم ذكاءه في الشر، فبماذا تجيب؟
ألست تقول في بساطة الصدق إنه فرد متفرد؛ لأنه فلان الفلاني وليس سواه، لكنه في الوقت نفسه ينتمي إلى صنف معين من الناس؟
إن ما قد جعله فردا متفردا بصفاته، ثم جعله في الوقت نفسه مطبوعا بطابع يلحقه بفئة معينة من الناس، هو «الصورة» التي جاءت حوادث حياته في إطارها؛ فالحوادث نفسها بعد أول، والإطار الذي يمسكها بعد ثان، وهذا هو بعينه ما يصنعه الأديب في خلق أشخاصه، ولولا الإطار الذي يضم شتيت الحوادث لما كان الشخص صاحب الحوادث «مفهوما» لنا.
وما أكثر ما يقول الواحد منا عن شخص بعينه إنه لا يفهمه، حين يقصد بذلك أنه وإن يكن قد رأى من حياته جوانب كثيرة ومواقف كثيرة، إلا أنه لم يستطع بعد أن يجد الإطار الذي يضم الكثرة المبعثرة في وحدة واحدة.
ثم لا يكتفي الأديب العبقري بهذين البعدين إزاء خلقه الأدبي، بل إنه يعلو إلى مرتبة ثالثة، حين يفتح أبصارنا لا على الإطار النفسي وحده، بل يوجهها كذلك إلى ما هو فوق ذلك من ينابيع السلوك ومصادره كما تهديه إليها موهبته في إدراك طبائع الناس، لماذا يقال عن الهندي والأمريكي إنهما ينتميان إلى ثقافتين مختلفتين اختلافا أصيلا؟
إننا قد نجد غليظ القلب هنا وهناك، وقد نجد كريم النفس هنا وهناك، قد نجد من يكدح ليجمع المال هنا وهناك، ومن ينصرف عن حياة الكدح إلى حياة العلم أو الفن هنا وهناك، لكننا مع ذلك حتى حين يتشابه الرجلان في صفة بعينها، نقول - بعد تحليل - إن أحدهما مختلف عن الآخر في وجهة نظره إلى الحياة، لماذا؟ لأننا عندئذ نشير إلى ما هو أعمق من الدوافع النفسية عند الرجلين؛ إذ نشير إلى القيمة العليا المدسوسة في تفصيلات الحياة؛ فقد تكون القيمة العليا عند الهندي - مثلا - أنه جزء لا يتجزأ من الكون؛ وبالتالي فليس له فردية قائمة بذاتها، على حين قد تكون القيمة العليا عند الأمريكي هي أن الفرد الإنساني له حقيقة مستقلة تجابه حقيقة الكون مجابهة الذات للموضوع.
قد يكون هذا وقد لا يكون، فلست هنا بصدد القول الذي أتحمل تبعته عما يميز الثقافة الهندية من الثقافة الأمريكية، ولكنني أقول إن القصاص في رسمه لأشخاصه إذا ما كشف خلال سلوك هؤلاء الأشخاص عن المفاتيح الدفينة لكل سلوك فإنما يبلغ بهذا بعدا ثالثا؛ وبذلك تتكامل لخلقه الفني أبعاده الثلاثة؛ فكثرة من حوادث أولا، وإطار نفسي يضمها في شخص واحد ثانيا، وأساس أولي عميق تنبني عليه كل تفصيلات الحياة ثالثا.
في هذه الدرجات الثلاث نلاحظ أن الأعلى يفسر الأدنى، وأن الأدنى بغير الأعلى يظل غير مفهوم؛ فالدوافع النفسية التي نؤلف منها إطارا يصب الشخص الواحد في كائن واحد متصل، تفسر حوادث الحياة التفصيلية، وبغيرها تظل هذه الحوادث غير مفهومة لنا.
وكذلك يظل الإطار النفسي غير مفهوم حتى تجد له ما يفسره من العناصر الرئيسية في ثقافة البلد أو العصر الذي يعيش فيه الشخص المعين.
إنني لأستعرض الآن في ذهني طائفة من أصدقائي، فأراهم من حيث طرائق سلوكهم في الموقف الواحد مختلفين أبعد ما يكون الاختلاف؛ فهذا يستخف بنفس الشيء الذي يهتم له زميله، وذلك جاد حيث يهزل زميله.
ثم أحاول أن أنفذ خلال هذا السلوك الظاهر إلى حيث الدوافع النفسية، فيهولني - إذا لم أكن مخطئا في التحليل - أن أجد مزاح مازح منهم ينبثق من معين يتدفق مرارة في باطنه، على حين أجد مزاح آخر لا ينطوي في دخيلة نفسه إلا على سخرية بما في عالم الأشياء من متناقضات دون أن يضمر ما يضمره الأول من حقد وضغينة إزاء الناس، لكني أعلو فوق هذه الدوافع النفسية التي تختلف فيما بينهم، فأجدهم جميعا يرتدون إلى أصل أصيل لعله هو الذي يجعل منهم فئة متشابهة من أصدقاء، وهو الطيبة التي لا تصيب أحدا بأذى، ولو مسسنا في شخص ذلك الأصل الأصيل في بنائه الثقافي، فقد كشفنا فيه عما يصح تسميته بفلسفة الحياة عنده.
3
والدعوى التي أدعيها متمنيا أن أجد من يبين لي وجه الخطأ فيها، هي أن أدباء القصة عندنا يوشكون ألا يجاوزوا البعد الأول، وهو مستوى الحوادث في جريانها، ثم لا شيء بعد ذلك.
وأول قصة ترد إلى خاطري في هذا الصدد هي قصة «الأرض» للأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، والحق أني قد قرأتها منذ حين ليس بالقصير؛ فتفصيلاتها باهتة شاحبة في ذاكرتي، لكنني ما أزال أذكر أثرها العام في نفسي ذكرا يبيح لي أن أتخذها مثلا لما أقول.
فلا شك أن لهذا الأديب قدرة فنية تستوقف النظر بالنسبة إلى محيطنا الأدبي؛ فله العين المبصرة التي تقع على الخبرة الحية في تعينها وتفردها، وله اللمسة التي يبرز بها الجانب الإنساني من موضوعه واضحا جليا، حتى الطبيعة إذا ما مسها بقلمه جعل منها أداة تزيد من إبراز الجانب الإنساني في أشخاصه؛ إذ هم ينشطون على المسرح الطبيعي الذي يكون قد أعده لنشاطهم، ثم لا شك في أنه استطاع أن يجعل الحركة في حوادث القصة وفي حياة أشخاصها متدفقة بحيث لا تتخللها مناطق رهو تسكن فيها دوامة الحوادث، أو يقف فيها تيار النشاط.
كل هذا حق أعترف به، لكني أتمنى لو قد أشار لي إلى شخص واحد من مجموعة أشخاصه يستطيع أن يقول عنه إنه قد نفذ خلال سلوكه إلى حيث دوافعه النفسية، بحيث نجد دوافعه تلك طابعا فريدا مميزا له عن بقية الأشخاص.
إنني حين قرأت هذه القصة أحسست بنفس الدوار الذي يصيبني وأنا مقيم في القرية، وهو دوار ينشأ من ملل التكرار؛ فأهل القرية كخلية النحل الواحدة؛ متفرقة الآحاد، لكن آحادها تلك متصلة بمجموعها أوثق اتصال، وهي لا تنفك تدور وهي تطن، وتطن وهي تدور، حتى لا يبقى في ذاكرتك منها إلا طنين متشابه.
وقد وفقت القصة حقا في أن تحيي قارئها في قرية بكل هذه الصفات، لكنها إذ تصف كيف يلتقي الناس بعضهم ببعض، وكيف يتحدثون بعضهم إلى بعض، لا أظنها قد نجحت في أن تنفذ بقارئها إلى ما وراء ذلك من «نفوس».
فكاتبها أقرب إلى الاجتماعي الذي يقدم نموذجا من حياة تجتمع فيها طائفة من الناس في ظروف معينة، منه إلى السيكولوجي الذي يبحث في الآلة الدائرة عن عجلاتها وتروسها.
أحسست وأنا أقرأ القصة أنني لست إزاء أفراد، بل إزاء كل واحد، كأنما هي شجرة يتطلع إليها المتطلع في مجموعها دون أن يقف بنظره عند هذه الورقة من أوراقها أو هذا الفرع من فروعها، لعله يجد فيه أو فيها ما يميزه من سائر الفروع، ويميزها من سائر الورق !
نعم، إن ذلك نفسه حسنة تحسب للكاتب من إحدى وجهات النظر؛ إذ ربما كانت هذه هي الحياة القروية وما تتركه في نفس ساكنها من أثر.
ولكن هذه الحسنة لا تنفي أنها وقفت بصاحب القصة عند مستوى الحوادث لا يكاد يعدوها، حتى رجل الدين في القصة ترى عقيدته تنساب وكأنها هي الأخرى لغط من اللغط الدائر، وسمر من السمر.
قصة «الأرض» محاكاة للطبيعة، وإلى هذا الحد قد أصابت، ثم أفلت منها بعد ذلك ما لم يكن يجوز أن يفلت من الفنان الأصيل، وهو «الصورة» أو الإطار الذي يخلعه على تلك العجينة لكي تتخذ شكلا مفهوما، ودع عنك أن يعلو فوق هذا الإطار نفسه ليبين مفاتيح السلوك في المصري القروي الصميم. وإن شئت فقل إنها قصة تروى عما يدور في «الشعور»، لكنها تترك «اللاشعور» مقفل الأبواب والنوافذ، أو بعبارة أخرى، إن كاتب القصة قد عرف نفرا من الناس جيد المعرفة، وحكى عنهم، لكنه لم يستطع أن يعرف فيهم «الإنسان» في كل مكان وزمان.
هذا مثل واحد أسوقه من أدبنا القصصي؛ لا لأني أقصده لذاته، بل أسوقه لأوضح به ادعاء أدعيه، وهو أن أديب القصة عندنا يأخذ حفنة من مجرى الحوادث، ثم لا يضرب بفأسه ليستخرج ما وراء الحوادث من عناصر تبلغ بالثمار حد النضج والكمال.
الناقد قارئ لقارئ
1
عناصر الموقف ها هنا ثلاثة: كاتب، وكتاب، وقارئ. فلولا الكاتب وكتابه (وفي هذا يدخل الشاعر وقصيدته) لما كان قارئ؛ وبالتالي لما كان ثمة ناقد، وكذلك لو كتب كاتب كتابا لغير قارئ - في حاضر الأيام أو في مستقبلها - كأن يستخدم رموزا لا يفهمها سواه، لفقد الكتاب أخص خصائصه، وبطل بهذا أن يكون كتابا بالفعل والأداء؛ وإذن فعملية «التوصيل» من الكاتب إلى القارئ - عن طريق الكتاب - شرط ضروري لتكتمل للموقف عناصره.
لكن هذا القول لا يعني أن يتلقى الكتاب قراء كثيرون، فتصلهم رسالة الكاتب على درجة سواء؛ إذ ما دام الناس يتفاوتون في خبراتهم وفي معارفهم، فهم بالضرورة يتفاوتون فيما يستخرجونه من الكلمات المرقومة أمامهم، وبخاصة إذا ارتبطت تلك الكلمات بالحياة الوجدانية بسبب، ودع عنك ما يتفاوت فيه القراء - حتى خاصة الخاصة منهم - من إدراك المستويات المتعاقبة التي يمكن أن يتدرج فيها القارئ عندما يقرأ أثرا أدبيا ممتازا - قصيدة أو قصة أو مسرحية - فالكثرة الغالبة من هؤلاء القراء يقفون عند المستوى الأول، وهو مستوى الأحداث التي تجري كما ترويها الكلمات المقروءة، أما أن يصعد القارئ بعد هذه الأحداث السطحية إلى ما وراءها - إن كان لها ما وراء - من أبعاد نفسية ورمزية، فذلك ما يتعذر على تلك الكثرة، حتى يتصدى لها قارئ ممتاز، فيدرك «الماوراء»، ثم يكتب لسائر القراء ما قد أدركه، فعندئذ يكون هذا «القارئ الكاتب» ناقدا، وتكون كتابته عما قرأه نقدا، وبعدئذ يتغير المنظور كله أمام أعين القراء الآخرين بالنسبة إلى الأثر الأدبي المنقود، وكلما توالت الكتابات النقدية على الأثر الواحد، ازداد أبعادا وأعماقا وغزارة وغنى. خذ مثلا لذلك «الأرض اليباب» لإليوت، فقد تعددت عليها النظرات النقدية، فتعددت لها المستويات والأبعاد، فازدادت خصوبة وثراء، يقرؤها ناقد فرويدي النظرة فيخرج منها رمزا للخصاء والعنة، ويقرؤها ناقد آخر ليعلو بها إلى مستوى فوق المستوى الفرويدي، فيرى فيها رمزا للخوف من العقم الذي قد يصاب به الفن في هذا العصر، ويهبط بها ناقد آخر إلى مستوى أدنى، لينظر فيها باحثا عن شيء في الحياة الخاصة لكاتبها، فيجد فيها رمزا لإليوت نفسه حين جفت ينابيع نفسه قبل أن يتحول في عقيدته إلى المذهب الكاثوليكي، ثم يقرؤها ناقد اشتراكي فيرى فيها صورة من حيرة الطبقة البورجوازية، ويسأل كاتبها نفسه - بعد ذلك كله - هل أردت منها شيئا بذاته؟ فيجيب: نعم، أردت الرمز إلى الموجة الإلحادية الطاغية على عصرنا طغيانا مخيفا. فهل يكف الناقدون بعد هذا التفسير؟ كلا، بل يخرج لنا ناقد جديد ينظر إلى القصيدة نظرة أشمل وأعمق، يستعين فيها بمذهب يونج في علم النفس، فيقول إن «الأرض اليباب» رمز ل «الولادة الجديدة»، أو للبعث الشامل الكامل لحياة الإنسان وحضارته.
وقد تعجب، فتسأل: وهل يدس الناقدون أنوفهم في تأويل العمل الأدبي على أمزجتهم حتى بعد أن يقرر صاحبه ما أراده به؟ ثم قد تزداد عجبا حين تعلم أنهم في كثير من الأحوال يعدون أنفسهم أقدر على استشفاف المعاني الخبيئة وراء النص الأدبي من صاحب النص نفسه، ولو كان الإنسان قادرا دائما على فهم سلوك نفسه من سطحه إلى أعماقه، لما احتاج الناس إلى أطباء متخصصين، يلقون للمرضى النفسانيين الأضواء على تلك الأعماق، فيفهم المرضى أنفسهم بعد أن كانت مستغلقة. ونعود بالحديث إلى الناقد الأدبي الذي يجيز لنفسه أن يئول النص على نحو قد لا يرضاه كاتبه، فما حدث في هذا الصدد منذ أعوام قلائل، أن كتب الناقد الألمعي القدير ستانلي إدجار هايمان تقريظا لكتاب عنوانه «أقنعة الحب»، لمؤلفه روبي ماكولي، فقدمه للقراء على أنه قصة تخفي شذوذا جنسيا خلف ستار من العلاقات الجنسية الطبيعية، فما على القارئ الحصيف إلا أن يبدل بعض أسماء النساء في هذه القصة بأسماء رجال؛ لكي يستقيم له المعنى، وخصوصا أن ثمة أسماء من الصنف الأول لا تحتاج إلا إلى تحوير طفيف لتصبح أسماء من الصنف الثاني، كأنما أراد المؤلف بها أن يلفت نظر القارئ إلى ما ينبغي عليه عمله إذا أراد أن يفهم ما وراء السطح من هذه القصة، فما هو إلا أن سارع مؤلف القصة إلى الرد العنيف، قائلا إن الناقد قد أخطأ جادة الصواب في التأويل؛ إذ ليس في القصة ذرة مقصودة من الشذوذ الجنسي، وكل اسم قصد به ما استخدم له؛ فاسم الأنثى مقصود به امرأة، واسم الرجل مقصود به رجل. فهل سكت الناقد؟ كلا، بل رد على المؤلف قائلا: «إنه ليؤسفني أن السيد ماكولي (مؤلف القصة) يفضل - لأي سبب من الأسباب - أن يحرم نفسه أن يكون كاتب القصة الشائقة المتشعبة التي قرأتها له ثم وصفتها للقراء، ويختار لنفسه بديلا عن ذلك أن يكون كاتب القصة الهزيلة الفقيرة التي يصفها هو للقراء، وليس السيد ماكولي أول قصاص أنتج نتاجا أدبيا خيرا مما يريد أن يسلم به، ولعله لن يكون آخر قصاص في ذلك ، ولست على استعداد للفرار من ميدان القراءة النقدية لقصة من القصص، كلما هاج في وجهي مؤلفها مصرا على أن قراءتي لقصته لم تكن هي قراءته لها.» وإن هذه الحادثة الطريفة لتذكرنا بما قيل شبيها بذلك في مناسبات كثيرة، من أشهرها ما ذهب إليه النقاد في فهمهم لقصيدة ملتن «الفردوس المفقود» من أنها تمجيد للشيطان، برغم ما ظنه صاحبها فيها، فليست شهادة الأديب بذات قيمة إلى جانب النص نفسه وما يمكن أن يؤدي إليه.
هكذا يقرأ عامة القراء شيئا فيتعذر على معظمهم مجاوزة المستوى الأول في فهمه، حتى يطالعهم قارئ منهم ممتاز بقدرته ونفاذ بصيرته وصبره على التحليل، بأبعاد أخرى يكشفها لهم، فيزدادون علما بما قرءوا.
وإني لأسارع هنا إلى التفرقة بين ثلاثة رجال قد يختلط الأمر في شأنهم عند كثيرين، بل لعله قد اختلط بالفعل اختلاطا شديدا عند قرائنا، أما هؤلاء الرجال الثلاثة فهم: كاتب التعليق الأدبي على كتاب، كالتعليقات التي تنشر في الصحف عادة، والناقد، والفيلسوف الاستاطيقي. فأما أولهم فمهمته أن يقدم كتابا للقراء تقديما يظهر حسناته وسيئاته وشيئا عن محتواه، وهو غير ملزم في هذا التقديم أن يبرز مبدأه النظري في النقد؛ لأن ميدانه جزئية واحدة، هي الكتاب المعين الذي يعرضه. وأما الناقد فصاحب وجهة نظرية ينظر منها، لا إلى كتاب واحد بعينه، بل إلى كل كتاب آخر يعرض له، فبعد أن يتعدد النظر إلى «جزئيات» كثيرة، إلى عدد من قصائد الشعراء، أو قصص الأدباء ومسرحياتهم، تتكون لديه القاعدة النظرية العامة التي يختارها أساسا للنظر؛ فإذا كانت الأولوية عند المعلق الأدبي للجزئية المفردة، فالأولوية عند الناقد للنظرية العامة، ثم يأتي بعد ذلك مستوى أعلى في درجات التعميم، هو المستوى الذي يصعد إليه صاحب الفلسفة الجمالية (الاستاطيقا)، يقيمها على القواعد العامة نفسها، التي كان النقاد قد وصلوا إليها في مختلف الفنون. وهكذا يتجه السير خلال المراحل الثلاث من الجزئية إلى القاعدة إلى المبدأ الفلسفي العام، وصحيح أنها مراحل متداخلة الأطراف، لكن هذا التداخل لا ينفي أن يكون لكل مرحلة مميزها الخاص. في المرحلة الأولى ينحصر النظر أساسا في عمل واحد، وفي المرحلة الثانية يتسع النظر ليضع النظرية العامة لفن بأسره من الفنون، وفي المرحلة الثالثة يمعن النظر في الاتساع ليضع المبدأ الشامل الذي يصدق على الفنون كلها دفعة واحدة. وإذا كنا كثيرا ما نسمع شكوى من «أزمة النقد»، عندنا، فإن هذه الشكوى لها ما يبررها إذا أردنا «النقد» بمعناه الصحيح، وهو المعنى النظري المتكامل، لكن ليس لها ما يبررها إذا أردنا التعليق الأدبي على ما يصدر من آثار أدبية؛ لأن صحفنا مليئة - والحمد لله - بالتعليقات التي تعلو بطائفة وتهبط بأخرى، صدورا عما ليس يعلمه إلا الله من النزوات والدوافع.
2
لو كان الناقد الواحد ذا قدرة خارقة، لتناول العمل الأدبي الواحد من كل وجهات النظر التي يفتح الله بها عليه، حتى يستوعب شتى الأبعاد التي يمكنه بلوغ آمادها بادئا من النص الأدبي الذي بين يديه، فيبدأ - مثلا - بتحليل بنائه اللغوي كلمة كلمة، وعبارة عبارة، بل أخشى أن أقول حرفا حرفا فيظن القارئ أني مازح، غير عالم بأن مثل هذا التحليل هو ما يدعو إليه رجال من أعظم رجال النقد المعاصر، مثل كنيث بيرك، ويقوم بتطبيقه فعلا على بعض الآثار الأدبية، فمن يدري؟ ألا يجوز أن يكون تكرار حرف بعينه عند شاعر أو كاتب، بنسبة ملحوظة، دالا على شيء؟ وسأعود إلى ذكر هذا الاتجاه النقدي مرة أخرى في هذا المقال؛ لأنه الاتجاه الذي أوثره على سواه، ما دام الناقد ذا قدرة محدودة تضطره إلى الاكتفاء باتجاه واحد في حياته النقدية، لكننا بدأنا القول بافتراض نظري، وهو أن يوجد الناقد الواحد ذو القدرة الخارقة، فعندئذ لا يمنعه مانع من أن يطبق على العمل الأدبي الواحد كل اتجاه ممكن؛ إذ ماذا يمنع بعد أن يفرغ من تحليل العمل الأدبي من حيث البناء اللغوي، بل والمفردات اللغوية، ماذا يمنع بعد ذلك أن يعود إلى النظر ليرى العلاقة بين هذا العمل الأدبي وحياة مؤلفه، فتراه عندئذ يغوص في سيرة حياة ذلك المؤلف بكل دقائقها وتفصيلاتها ليجد الروابط بينها وبين دقائق العمل الأدبي وتفصيلاته؟ وأقل ما يقال في ذلك هو أن يحاول الناقد ربط العمل الأدبي المعين بغيره من الأعمال عند الأديب الواحد، ما سبقه منها وما لحقه؛ لأن الحياة الأدبية عند هذا الأديب سيرة واحدة، وكل واحد، ولا يفهم الجزء منزوعا من الكل إلا فهما ناقصا، بل إن هذا الأديب في مجموعه جزء من حركة أدبية شاملة، في بلده، وفي عصره كله، فلماذا لا نلتمس الروابط بين عمله من ناحية وعصره الأدبي من ناحية أخرى؟ وهل يستحيل على الأديب أن يجيء متأثرا بموروث أدبي قديم؟ إذن لا بد من ربط هذه الصلات كلها لنفهم العمل الأدبي الذي نتصدى لفهمه، وهذا هو اتجاه في النقد الأدبي ينفرد به نقاد معينون.
فرغ ناقدنا ذو القوة الخارقة من نظرتين؛ فرغ من التحليل اللغوي، ثم أعاد النظر حتى فرغ من ربط العمل بسيرة مؤلفه، واضعا تلك السيرة في عصرها، وفي موضعها من التاريخ الأدبي، فهل ثمة مانع يمنعه - إذا بقيت له بقية من طاقة وامتداد من زمن - من إعادة النظر مرة أخرى لينظر إلى العمل الأدبي ذاته من زاوية التحليلات النفسية بكافة صنوفها؛ فرويد، وآدلر، ويونج، ومن شئت من هذه الزمرة كلها؟ إن ثمة مدرسة نقدية تخصص نفسها للنقد النفسي هذا، على اختلاف أعضائها فيمن يكون عالم النفس الذي يحتذونه في التحليل، لكن ناقدنا صاحب القدرة الخارقة لا يجد مانعا يمنعه أن يطبق كل هؤلاء على العمل الأدبي الذي بين يديه ليزداد فهما له من زوايا جديدة، ومن مستويات مختلفة، ويفرغ من هذا، فلا يمنعه مانع من أن يعيد النظر مرة رابعة وخامسة وسادسة وما أرادت له قدراته من مرات، فينظر مرة في المضمون السياسي الكامن في العمل الأدبي، وكيف يكشف عن مذهب كاتبه، وفي المضمون الاجتماعي الذي يزيح الستر عن الطبقة التي نشأ فيها، والطبقة التي يثور عليها، وما إلى ذلك من حديث، وينظر مرة في الناحية الخلقية من العمل الأدبي ليرى أي المبادئ الخلقية يدعو إليها الكتاب ، وهل من شأن تلك المبادئ أن تشيع فضيلة أو رذيلة؟ هل يسمو هذا الكتاب بقارئه إلى مثل أعلى أو هل يهبط به إلى درك خلقي أسفل؟
لا، ليس عند العقل مانع منطقي يأمر بألا يكون عند الناقد إلا نظرة واحدة للعمل الأدبي الذي يعالجه، لكنه الواقع التجريبي هو الذي يفرض علينا قصور الجهد وقصر العمر، فنؤثر أن يكون لكل ناقد وجهة ينحو إليها بحكم ميله ومزاجه، على أن يكون مفهوما وواضحا أن هذه الوجهات كلها «تتكامل» وتتعاون على تفسير العمل الأدبي المراد تفسيره، فليس يعقل أن القراء - عامة القراء الذين من أجل تنويرهم كتب النقد - ليس يعقل أن هؤلاء القراء يخسرون بتعدد النظرات النقدية إلى الكتاب الواحد، بل الكسب محقق لهم بهذا التعدد.
أقول هذا عن عقيدة وإيمان؛ ولذلك فإني أعجب غاية العجب حين أرى النقاد يصطرعون - أي والله إنهم يسمونه صراعا - يصطرعون؛ فهذا يقسم للناس أغلظ الأيمان أن النقد إما أن يكون موضوعيا - مثلا - أو لا نقد، فيتصدى له الآخر بأيمان أغلظ وأضخم بأنه قد افترى على النقد كذبا، وأن النقد إما أن يكون أيديولوجيا أو لا يكون إطلاقا، وهكذا وهكذا مما أراه وأسمعه فأعجب لما أرى وأسمع؛ لأنني - كما أسلفت - أجد المذاهب النقدية وجهات للنظر تتكامل ولا تتصارع، فكلها سبيل إلى أن يزداد عامة القراء فهما للكتاب المعين، من زوايا كثيرة، بدل أن يفهموه من زاوية واحدة.
3
ولقد وقع «صراع» من هذه الصراعات ذات يوم بيني وبين المرحوم الدكتور مندور، وكان ذلك سنة 1948م، فكان موضوع السؤال بيننا هو: هل يكون النقد الأدبي قائما على «الذوق» أو قائما على «العلم»؟ وأستغفرك اللهم ربي إن أفلت من القلم ما يكذب به على التاريخ، ولكن لماذا يفلت من القلم مثل هذا الكذب، والأمر كله قد سجلته لنا المطبعة في كتاب نشرته سنة 1956م (قشور ولباب)، وإنما أتحفظ بهذا القول؛ لأن ما كنت رددت به على المرحوم الدكتور مندور، وما كان قد أنكره علي أشد إنكار، عاد الدكتور مندور بعد سنين ليأخذ به أخذا حرفيا - كما يقولون - وهو الآن من الجوانب التي تحسب له في تاريخه النقدي دون أن يقع بصري مرة واحدة عند أولئك الحاسبين، على ذكر الأصل الذي يرتد إليه ذلك الجانب من موقفه؛ فقد كان الدكتور مندور - في ذلك «الصراع» - ينادي بأن النقد قوامه كله ومرجعه كله إلى التذوق، فقلت له فيما قلت إن في ذلك خلطا بين «قراءتين»؛ فالقارئ (الذي سيصبح ناقدا) إنما يقرأ القراءة الأولى فلا يسعه بحكم الذوق الأدبي الخالص إلا أن يحب ما قرأه أو أن يكرهه، وقد يقف عند هذا الحد، وعندئذ لا يكون ثمة نقد قد ولد بعد، لكنه قد لا يقف عند هذا الحد، ويهم ب «الكتابة» ليوضح وجهة نظره؛ أعني ل «يعلل» رأيه بالعلل التي تسنده وتؤيده، و«التعليل» عملية عقلية؛ لأنه رد الظواهر إلى أسبابها، ومعنى ذلك أن الذوق خطوة أولى «تسبق» النقد، وليس هو النقد؛ إذ النقد يجيء تعليلا له، والذوق يسبق النقد بمعنى آخر أيضا، وهو أن القارئ (الذي سيصبح ناقدا بعد القراءة) يختار مادة قراءته بذوقه، فلماذا يقرأ هذه القصة دون تلك؟ الحكم هنا للميل الذوقي، لكنه إذا ما قرأ وتذوق بالحب أو بالكراهية، فربما عن له أن «يبدأ» بعد ذلك عملية تحليل وتعليل تكون هي النقد، وعندئذ يكون النقد عملية عقلية؛ لأن كل تحليل وكل تعليل هو من العمليات العقلية الصرف.
وقد أخذ الدكتور مندور بعد ذلك بأعوام بفكرة «القراءتين» هذه، دون أن يذكر الذي أوحى إليه بها، ثم جاء الأنصار فحسبوها له، غفر الله لنا ولهم، وشملنا جميعا برحمته.
ولم أكن لأذكر شيئا من هذا لولا أنني أردت أن أعود إلى هذه المشكلة من جديد في هذا السياق: أيكون النقد للذوق أم للعقل (والعقل معناه المنهجية العلمية)؟ وجوابي مرة أخرى هو أن الأمر ليس «إما ... أو ...»، بل هو إضافة بواو العطف، فذوق يختار ما يقرؤه ويحب ويكره، وعقل يعلل ويحلل ليفسر فقط دون تدخل لعنصر التقويم من كراهية وحب. بالذوق نعد المادة الخامة التي نقدمها للنقد، وبالعقل الذي يحلل ويعلل نقوم بعملية النقد نفسها.
وإن الناقد في تحليله ذاك أو تعليله ليستخدم كل ما يستطيع استخدامه من علوم تتصل بعمله؛ فهو يستخدم علم النفس بكل ما قد وصل إليه من نتائج، وذلك حين يحاول النظر إلى العمل العلمي من هذه الوجهة التي تتسلل من خلال النص إلى أعماق اللاشعور عند كاتبه، وهو يستخدم الأنثروبولوجيا بكل ما قد وصلت إليه في بحوثها الحديثة، لتعينه على استخراج العناصر الأسطورية المتصلة بحياة الإنسان في طفولتها وبكارتها، ولنلاحظ هنا أن الفولكلور يمكن أن يعد فرعا من الدراسة الأنثروبولوجية، ولا شك أن الاهتمام الحديث بهذا الفرع قد يكشف للناقد عما ينطوي عليه العمل المنقود من جذور ضاربة في صميم النفس الإنسانية كما تتبدى في مأثوراتها الشعبية؛ إما على نطاق قومي ضيق، وإما على نطاق إنساني واسع، وكذلك يستخدم الناقد الدراسات اللغوية الحديثة - وقد كثرت وتشعبت - ليفيد منها ما أسعفته ملكاته النقدية، عندما ينظر إلى الأثر الأدبي نظرة التحليل اللغوي لكلماته وعباراته، وما تدل عليه داخل النفس أو خارجها، بل إن الناقد ليستخدم العلوم الطبيعية الحديثة نفسها في عمله، وأول ما يذكر في هذا الصدد استخدامه للمنهج التجريبي الذي نما ودق في مجال تلك العلوم، ثم نذكر بعد ذلك نظريات علمية بعينها كانت بعيدة المدى في تأثيرها على الفكر المعاصر، الذي يتجسد في الأعمال الأدبية كما يتجسد في سواها، من ذلك - مثلا - نظرية التطور بكل فروعها، ونظرية النسبية، ونظرية المجال، ونظرية اللاتعين والاحتمال، وقل ما شئت فيما يمكن أن يفيده الناقد من الفلسفة حديثها وقديمها على السواء؛ من الوجودية، والظاهراتية، والمادية الجدلية، والوضعية المنطقية، فراجعا إلى أرسطو وأفلاطون.
4
وليس التداعي اللفظي وحده هو الذي ينقلني هنا إلى الحديث عن أرسطو وأفلاطون ونحن في مجال الحديث عن النقد الأدبي وطبيعته، بل إن مادة الحديث نفسها ومنطقها يحتمان علينا أن نقف عند هذين الفيلسوفين اللذين منهما يبدأ تياران في النقد الأدبي، قد يندمجان عند أصحاب النظر في تيار نقدي واحد؛ ففي ظاهر الأمر قد يبدو هذا الاختلاف بين الفيلسوفين في النظر: أفلاطون يستخدم المنهج الديالكتيكي الذي مؤداه أن يبدأ من الأمور الواقعة فراجعا بالتحليل إلى الكشف عن المبدأ أو عن الفكرة التي تكون دفينة في أرض الواقع، لكنها تكون صافية خالصة في سماء الفكر المجرد، فإذا رأيت بالعيان المباشر مثل هذه الفكرة كانت هي الحق الذي تمسكه وتتمسك به لتفهم على ضوئه كل ما قد يعرض لك من وقائع العالم من حولك، وقد طبق هذا المنهج الديالكتيكي على صورة الدولة كيف تكون في نقائها، فإذا هي دولة تحتكم إلى العقل لا إلى العاطفة في كل شئونها، وإذن فهي دولة لا تعرف الشعر، ولا الأدب، ولا الفن؛ لأن هذه كلها أمور تحاكي الحق، وليست هي الحق، فضلا عن كونها تستثير العواطف، والعواطف غير مرغوب فيها في الدولة المثلى. وهذا قول هو في حد ذاته ضرب من النقد الأدبي، استخدم فيه صاحبه كل ما حوله من علم ومعرفة. وأما أرسطو فقد وضع أسسا نقدية في كتابه «الشعر» ما يزال نقاد كثيرون إلى يومنا هذا يعدونه المنبع الثر الأصيل الذي تنبثق منه الدراسات النقدية على اختلاف ألوانها، حتى لتطلق مدرسة من أهم مدارس النقد الحديث على نفسها اسم «المدرسة الأرسطية الجديدة في النقد»، ومبدؤها هو ألا يبدأ الناقد بمذهب مسبق أو بفكرة معينة - كما قد يؤدي إليه الموقف الأفلاطوني - بل يبدأ الناقد بدراسة الأعمال الأدبية الجزئية ذاتها، قصيدة قصيدة، وقصة قصة، ومسرحية مسرحية، قبل أن يكون لنفسه الرأي الذي يكونه.
والذي يعنينا في هذين الموقفين، هو أن أحدهما استنباطي يبدأ بالمذهب ثم يهوي به على رءوس الأعمال، فإما خضعت لمذهبه أو فليقذف بها إلى الجحيم، وأما الآخر فهو استقرائي يبدأ بالأعمال الجزئية ذاتها ليعالجها بما تقتضيه خصائصها الخاصة المتفردة المتميزة، وله بعد ذلك أن يكون منها اتجاها عاما في النقد إذا سمح له الموقف بذلك. ولو كان لي أن أختار للنقاد أحد الموقفين، فلست أتردد في اختيار الموقف الأرسطي الذي يبدأ بدراسة الأعمال قبل أن يتمذهب بهذا الاتجاه أو ذاك، وأغلب الظن أن لو بدأ النقاد دائما بالأعمال - غير مقيدين بمذهب سابق - فلن يجدوا بينهم معتركا يعتركون فيه؛ إذ العراك - كما هو مشاهد بين المشتغلين بالنقد عندنا - سره أن النقاد يختارون المذاهب قبل الأعمال، أقول إن أغلب الظن أنهم لو بدءوا بالأعمال دائما، لامتنع العراك؛ لأن الأمر لا يعدو عندئذ - كما بينت - أن يتناول كل منهم تلك الأعمال من زاوية، فتجيء الزوايا كلها - بالنسبة إلى عامة القراء - متكاملة متعاونة، لا متضاربة متصارعة.
5
النقد كتابة عن كتابة، ولكي تغوص الكتابة الناقدة في أحشاء الكتابة المنقودة، لا بد لصاحبها أن يتذرع بكل ذريعة ممكنة، فلا يترك أداة صالحة إلا استخدمها؛ فإن كان العمل بجميع الأدوات دفعة واحدة أمرا عسيرا - وإنه لعسير - لم يكن بد من أن تتقسم العمل مجموعة النقاد؛ لينظر كل من زاوية، وليستخدم كل منهم أداة، فتكون الحصيلة الحاصلة بأسرها هي النقد الذي يتطلبه مؤلف الكتاب المنقود، كما يتطلبه قارئ ذلك الكتاب. وإن عسر العملية النقدية هذا ليذكرنا بما أجاب به أبو حيان التوحيدي وزيره عندما طلب منه الوزير أن يوازن له بين الشعر والنثر - وهي عملية نقدية - فقال أبو حيان (راجع الليلة الخامسة والعشرين من الإمتاع والمؤانسة): «إن الكلام على الكلام صعب. قال: ولم؟ قلت: لأن الكلام على الأمور، المعتمد فيها على صور الأمور وشكولها، التي تنقسم بين المعقول وبين ما يكون بالحس، ممكن. فأما الكلام على الكلام، فإنه يدور على نفسه، ويلتبس بعضه ببعضه ...» ويريد أبو حيان بعبارته هذه أن يقول إن التحدث عن الأشياء المحسة، أو عن الأفكار الواردة على الذهن، أمر ممكن ميسور. بعبارة أخرى، إن قول الأدب وصياغة العلم أمر سهل؛ لأن له ما يرتكز عليه من محسوس أو من معقول، أما التحدث عن هذين، التحدث عن الأدب أو عن العلم، فأكثر صعوبة. وإذا كان هذا هكذا، أفلا ندهش حين نرى نفرا من كتابنا الشبان يستخفون الحمل الثقيل، ويضربون بأقلامهم على صفحات النقد من الصحف، غير مزودين إلا بأقل القليل من الأدوات التي تعين الناقد على أداء مهمته؟
وكائنة ما كانت الزاوية التي ينظر منها الناقد إلى العمل المنقود، فلا يجوز أن يجيء كلامه خبطا وخطفا، كأنه المسافر العجلان يسرع الخطى ليلحق بالقطار، والقطار هنا هو الصحيفة اليومية أو الدورية أو هو الراديو أو التليفزيون، يتعجله أن يكتب شيئا أي شيء عن كتاب أي كتاب! بل لا بد للناقد من دراسة متأنية جادة، مستندة إلى علوم وإلى مطالعات في القديم وفي الحديث؛ لأن الناقد لا يكتب لتسلية قارئه، إنما يكتب ليساعد القارئ على فهم عمل فني معين فهما صحيحا، وتذوقه تذوقا بصيرا، كما فعل الدكتور طه حسين في كتابه «مع المتنبي»، وفي «حديث الأربعاء»، أو هو يكتب ليساعد الفنان نفسه على فهم فنه وحسن تقويمه ليعين ذلك على تقدم الفن وتطوره، كما فعل العقاد والمازني في «الديوان»، أو هو يكتب ليخلق جيلا جديدا من الأدباء في فرع من فروع الأدب، كالقصة أو المسرحية، بعد أن لم يكن الانتباه موجها إلى ذلك الفرع، كما يفعل لويس عوض بالنسبة إلى الفن المسرحي، أو هو يكتب ليغير اتجاه الأدب من طريق إلى طريق، كما يفعل نقاد الشعر العمودي أو نقاد الشعر الحر، كما فعلت نازك الملائكة في كتابها عن الشعر الحديث.
على أنني بعد أن أقررت لشتى المذاهب النقدية بضرورة قيامها معا، متعاونة على الإحاطة بالعمل الأدبي من جميع نواحيه، ملتمسة طريقها إلى صميم ذلك العمل في جوهره ولبابه، واصلة بينه وبين كل ما يتصل به خارج حدوده، من سيرة الكاتب، ومجرى شعوره ولا شعوره، ومن ظروف اجتماعية أحاطت بالكاتب فأوحت له بما أوحت، ومن تاريخ سابق أوصل إليه موروثا طويلا عريضا، أقول إنني بعد أن أقررت لشتى المذاهب النقدية بضرورة قيامها معا لتبصير القارئ العادي بما ينبغي له أن يلم به لكي يزداد علما وتذوقا بالكتاب الذي يقرؤه، فإنني أود أن أخصص القول في الزاوية التي أتمنى لنفسي النظر منها كلما أردت دراسة نقدية لكتاب أدبي، أو لقصيدة من قصائد الشعر، ولن أجبن هنا عن الاعتراف بأنني حاولت هذه النظرة بالنسبة لطائفة من الأعمال الأدبية، على سبيل التطبيق، ولكني لم أوفق إلى شيء يرضيني لأنشره في الناس.
وأما هذه الزاوية التي أوثرها على سواها في العمل النقدي، فهي تلك التي تعمد إلى تحليل النص نفسه تحليلا كاملا شاملا؛ لنعرف كل ما يتصل به، ثم يتهيأ لنا بعد هذه المعرفة أن نستدل ما نستطيع استدلاله. وليس مثل هذا النقد المعتمد على تحليل النص بالشيء الجديد في تاريخ النقد عامة، والنقد العربي بصفة خاصة؛ فذلك هو طريق الناقدين القدامى بغير استثناء، وهو طريق ربما شقه أمامهم عمل الفقهاء في تحليل النص القرآني تحليلا يمكن صاحبه من استخراج الأحكام، إما من ظاهر الآيات أو من تأويلها، فاصطنع النقاد شيئا كهذا في تحليل الشعر بيتا بيتا، وكلمة كلمة؛ إعرابا، وتركيبا، وبلاغة، وغير ذلك مما يتصل بالنص المنقود من نواحيه جميعا، لولا أن نقادنا الأقدمين كانوا يعقبون على مثل هذا التحليل بتقويم يقومون به المادة المنقودة، فيقولون إن هذا البيت «أفضل» من ذلك، وهذا الشاعر «أشعر» من أخيه، وأما التحليل على أيدي النقاد المحدثين - والعجب أنهم يسمون في أوروبا وأمريكا بأصحاب المدرسة «الجديدة» في النقد - فلا ينتهي بتقويم؛ لأن التقويم لم يعد من مهمة الناقد اليوم، باستثناء نفر جد قليل، منهم: إيفور ونترز.
فالنقد القائم على تحليل النص نفسه هو الطريقة الوحيدة بين سائر الطرق النقدية، التي تخلص لعملها وهدفها إخلاصا يدعوها إلى البقاء على أرضها وفي ميدانها دون التطفل على ميادين أخرى؛ ذلك أن الناقد الذي ينظر إلى الكتاب المنقود نظرة التحليل النفسي - مثلا - يمكن اعتباره من علماء النفس بقدر ما يمكن اعتباره من نقاد الأدب، والناقد الذي ينظر إلى الكتاب المنقود نظرة اجتماعية، يحاول أن يتخذ منه وثيقة تدل على أوضاع معينة في حياة المجتمع، يمكن إدخاله في زمرة علماء الاجتماع بقدر ما يمكن إدخاله في زمرة نقاد الأدب، وهكذا. وأما الناقد الذي ينصرف بكل جهده نحو تحليل النص الأدبي نفسه، فهو لا شيء إلا ناقد أدبي خالص.
ولو كان لي مثل أعلى في النقاد المحدثين أود لو استطعت احتذاءه بالنسبة لأعمال أدبية عربية، كان ذلك المثل عندي هو كنيث بيرك، وليتني أستطيع أن أنقل إلى القراء نموذجا لصناعته، إذن لرأوا بأعينهم كيف يكون النقد عملا جادا شاقا عسيرا، يحلل القطعة الأدبية وكأنه كيماوي يحلل في مخابيره قطعة من الخشب أو الحجر، إنه لا عاطفة هناك، ولا سخاء في المدح والقدح؛ لأنه لا مدح ولا قدح، فالأمر أمر تحليل صرف ينصب على عبارة العمل الأدبي من أول لفظة ترد فيه إلى آخر لفظة؛ ليرى - مثلا - كيف ترد لفظة بعينها في سياقات مختلفة من الكتاب، وهل بمقارنة هذه السياقات يمكن الوصول إلى استدلال معين بالنسبة إلى ما يرمز إليه العمل الأدبي، حتى وإن لم يكن المؤلف نفسه على وعي به؟ هل قلت إنه تحليل يبدأ من أول لفظة ترد في الكتاب؟ إنني إذن قد أنسيت أنه يبدأ من العنوان وصياغته؛ فبعد أن يستوثق من أن هذه الصياغة لم تراع الإعلان التجاري وجذب الأنظار والأسماع نحو الكتاب ليروج في السوق، ينظر ليرى إن كان في لفظ العنوان دلالة أي دلالة. إن النظرة السطحية وحدها هي التي تأخذ لفظ العمل الأدبي بمعناه القاموسي، وكان الله يحب المؤمنين، أما النظرة الفاحصة، فقد تجد لفظا بعينه في عمل أدبي معين، قد ورد ورودا يربطه بمعان آخر، فلفظ «المستقبل» تتقصاها عند شيكسبير فتجدها في سياقاتها مقرونة بالشر والدمار، وتتقصاها عند براوننج فتجدها موحية بالثقة والتفاؤل. إن «قطع شجرة سامقة» قد يرد في كتاب أدبي عدة مرات في سياقات مختلفة، فيتقصاها صاحبنا الناقد، ويقارن بين تلك السياقات؛ ليجد أن قطع الشجرة السامقة إنما جرى ذكره على قلم الأديب عن وعي منه أو غير وعي؛ ليرد عنده إلى قتل صاحب السلطان، أو قتل الأب كما يقول علماء النفس الفرويدي، وهكذا وهكذا.
لقد درست لهذا الناقد كنيث بيرك دراسته النقدية لكتاب جيمس جويس «صورة فنان في شبابه» - وهو سيرة ذاتية لجويس - فوجدته خلال تلك الدراسة العجيبة التي تتركك ذاهلا دهشا من العلمية الدقيقة الأمينة الصابرة، وجدته في غضون الحديث يلقي إلى دارس النقد بتعاليم ترسم له طريق النقد، فيوصيه بأن تكون الخطوة الأولى عملية تصنيف للألفاظ الدالة على «أفعال» و«مواقف» و«أفكار» و«صور» و«علاقات»، وبعد هذا التصنيف يستخرج أمثلة التضاد الواردة؛ فقد يجد الكاتب مثلا - كما هي الحال في كتاب جويس - يضاد بين الفن والدين، ثم يوصيه أن يلحظ بصفة خاصة كيف يبدأ الكاتب فقراته وكيف يختمها، ومتى يرد في كلامه وصل ومتى يعمد إلى الفصل؟ ويوصيه أن يفتح عينيه منتبها إلى أسماء الأعلام، وهل تدل على معان معينة فوق كونها أسماء؟ وكذلك يوصيه أن يتتبع العلاقات الداخلية السارية بين أجزاء الكتاب، عن طريق العبارات المشتملة على كلمات مشتركة، وأن يحاول في هذا التتبع أن يبحث عن موضع يراه نقطة تحول، أو يراه آخر ما يصل إليه الكاتب في شوط متدرج المراحل، ويوصيه أن يتنبه كلما وقع في الكتاب على حافز معين أو دافع إلى سلوك، فيرى هل عمد الكاتب إلى وصف جزء من الطبيعة عندئذ، وإذا كان قد فعل، فهل هنالك علاقة شبه أو تضاد بين سلوك الشخصية ودوافعها من جهة، وعناصر المسرح الطبيعي حولها من جهة أخرى؟ إلى آخر ما أوصى به.
لكنني في إيثاري لمثل هذا النقد التحليلي العلمي، لا أغمض عيني لحظة واحدة عن سائر مذاهب النقد وطرائقه، فكلها وسائل متعاونة، يقرأ بها النقاد الأعمال الأدبية، نيابة عن عامة القراء، ليرى هؤلاء فيما يقرءونه آمادا وأبعادا ومستويات لم تكن لتخطر لهم على بال، لولا أولئك النقاد.
مراجعة الموازين
تساورني شكوك كلما أمعنت النظر في حياتنا الثقافية، وقارنت الأسماء التي لمعت في سمائها، بالأعمال التي رجحت بأصحابها في موازين النقد والتقويم، بحيث استحقت مكانتها تلك؛ إذ يخيل إلي أحيانا - عند هذه المقارنة التي قد أجريها بين الأسماء والأعمال - أن ثمة فجوات، تتسع آنا وتضيق آنا، بين القيمة الحقيقية التي أراها في الأعمال من جهة، وحظ أصحابها من التقدير من جهة أخرى؛ فلطالما وجدت عملا جديرا بالذكر، ومع ذلك لم يظفر صاحبه بنصيب يذكر من الإشادة والتقدير، ثم ما أكثر ما وجدت أعمالا كان يكفيها الذكر القليل، ومع ذلك فقد نفخ لأصحابها في الأبواق حتى امتلأت بذكرهم المسامع؛ مما يؤكد لي ضرورة أن يعاد النظر في حياتنا الثقافية، فتراجع موازين النقد بنظرات موضوعية محايدة، معصومة من التأثر بالشائعات، ما استطاعت نزوات البشر إلى مثل هذه العصمة سبيلا.
وليست هذه الإعادة والمراجعة بالترف الفكري الذي يصطنعه الناس إزجاء للفراغ؛ لأن الأمر هنا - كما أراه - متعلق بمسارنا الثقافي كله في الجيل الآتي، أو الأجيال الآتية لفترة طويلة من الزمن؛ فأصحاب المواهب إنما يتجهون بمواهبهم نحو ما يجدونه ماثلا أمام أبصارهم من معايير أقرها لهم المناخ الثقافي القائم؛ إذ يندر أن تكون موهبة الموهوب مفطورة على عمل محدد معين، والأغلب أن تكون نوعا من «القدرة» يتجه بها صاحبها نحو هذا الموضوع أو ذلك بحسب ما تمليه عليه تيارات عصره، ومن هنا نفهم لماذا اختص كل عصر بلون ثقافي معين، يميزه دون سائر العصور؛ فعصر قد تسوده التأملات الفلسفية - مثلا - وعصر آخر يسوده الاهتمام باللغة وجمعها، أو بالتشريع، أو بالعلوم الفلكية، أو بالطبيعة الذرية، وهكذا؛ فلو عاش الفيلسوف القديم في عصر الذرة هذا لكان الأرجح أن يكون من علماء الطبيعة، وكذلك لو عاش عالم الطبيعة النووية الحديث في عصر التأملات الفلسفية لكان الأرجح أن ينخرط في زمرة الفلاسفة، وهكذا نرى أن قوام الموهبة يغلب أن يكون «قدرة» يمتاز بها صاحبها، وله أن يوجهها إلى حيث أراد له عصره وقومه أن يوجهها.
فمن أهم ما ينبغي أن نهتم له - إذن - الإشارات المرفوعة في جونا الثقافي؛ لأنها قمينة أن تجذب أصحاب المواهب إلى الوجهات التي تشير إليها، وليس من شك في أن أقوى تلك الإشارات المرفوعة تأثيرا، التقديرات المادية والمعنوية، وإلى أي ضرب من الرجال تتجه؟ فإذا رأى الناس أن الدولة والهيئات الثقافية ورجال النقد قد صبوا الأضواء على الأدب المسرحي، أو الأدب القصصي، أو الشعر من طراز معين، توقعنا لأصحاب المواهب من الناشئين أن يتجهوا بمواهبهم إلى مساقط تلك الأضواء. ولست أظن أن للتاريخ حتمية توجب أن يظهر أدب المسرح في الأعوام الفلانية، وأن يولد أدب القصة في الفترة الفلانية، وإنما الأمر متعلق ب «النجاح» الأدبي أين يكون، وماذا تكون شروطه.
والذي تساورني من أجله الشكوك، كلما أمعنت النظر في حياتنا الثقافية، هو أن هذا النجاح الأدبي وشروطه لم يكن - في كثير من الحالات - مرهونا بالقيمة الحقيقية للأعمال الفكرية أو الأدبية، بقدر ما ارتهن بضروب من السلوك قد لا يكون بينها وبين حياة الفكر والأدب أدنى علاقة؛ فلقد خلط الناس عندنا خلطا فاضحا بين شيئين مختلفين: المنزلة الاجتماعية للرجل، وقيمته الثقافية. فإذا ضمنت لنفسك منزلة اجتماعية - بالمنصب الرفيع، أو الانتساب إلى مواقع النفوذ والجاه أو غير ذلك - فكن على يقين عندئذ بأن أعمالك في دنيا الفكر والأدب ستنال من التقدير أضعاف أضعاف ما كانت لتناله لو كنت واحدا من عامة الناس، فليس الكتاب يصدره وزير كالكتاب يصدره عابر سبيل من سائر عباد الله.
إنه لمن أنفع المقاييس في فهمك لجماعة من الناس أن تقع على ترتيب القيم عندها، فماذا يأتي من تلك القيم أولا؟ وماذا يأتي منها ثانيا فثالثا؟ فلو وقعت على هذا الترتيب للقيم - من حيث الأعلى والأدنى - سهل عليك أن تفهم من أمور الناس ما لم يكن مفهوما من قبل، ولا أظنني أقول جديدا إذا قلت إن القيمة العليا في مجتمعنا المصري، التي لا تدنو منها قيمة أخرى، هي أن تكون من أصحاب السلطان النافذ، فإن فاتك أن تكون منهم فلتتشبه بهم مظهرا وسلوكا؛ لعل أمرك يختلط على الناس، فيضعونك حيث يضعونهم، ومن هذه القيمة العليا تتفرع سائر القيم صعودا وهبوطا.
فماذا يصنع من أراد منا أن يكون من أصحاب الأسماء المذكورة المشهورة في عالم الفكر والفن والأدب؟ إنه إذا اعتمد على التجويد وحده فقد يصيب سهمه وقد يخيب، وربما كانت الخيبة أقرب إلى الحدوث من الإصابة؛ لأنه حتى لو عرف الناس قدره في ميدان نشاطه، فالأغلب أن يقف تقديرهم ذاك عند حدود الهمس بالشفاه، أما التقدير الآخر المتجسد في قيادة وريادة، فمدخر لمن استطاع أن يصطنع مظاهر الجاه الرفيع.
لقد قلتها صريحة لرجل مسئول منذ سبع سنوات أو نحوها، وكان ذلك حين دعاني ليستوضحني السر فيما ظنه غضبا مني على أوضاع معينة من حياتنا الثقافية، قلتها له صريحة مخلصة صادقة، بأنني لا أتأرق لشيء يمس شخصي، فمن هو في مثل سني ينعم بشيء من السكينة؛ لأن حياته كادت أن تكون ماضيا يذكر فيروي ما يروي من سيئاته وحسناته، أو لا يذكر فيغوص في بحر النسيان إلى القاع. وأما الذي يؤرقني فهو جيل أصحاب المواهب، أراهم يتلفتون حولهم ليلتمسوا الطريق إلى النجاح، فماذا هم صانعون في ذلك أيسر من أن ينظروا إلى المتربعين في أماكن القيادة والريادة؛ ليحذوا حذوهم، وها هنا مكمن الخطر؛ لأنهم ربما وجدوا نفرا من هؤلاء لم يبلغوا ما بلغوه بنتاج جيد عرضوه في الأسواق واستحقوا من أجله التقدير، بل هم بلغوا ما بلغوه بتخطيط دقيق لطرائق السلوك؛ فمتى يظهر في الحفل ومتى لا يظهر؟ وإذا ظهر، ففي أي الصفوف يكون مجلسه؟ ومن ذا يكلم من الناس ومن ذا يتولى عنه مستكبرا؟ أين يذهب ليلتف حوله الحواريون؟ وهكذا وهكذا إلى آخر التفصيلات التي لا ترد لنا على بال، ومن جملة أمور كهذه ينشأ له المناخ الصالح، الذي لا يصعب عليه بعده أن يعد «أديبا» أو «مفكرا» أو «فنانا»، أو ما اختار لنفسه أن يلمع نجمه فيه.
لقد مررت فيما مضى بخبرتين متشابهتين، كان لهما عندي أثر مفيد فيما نحن الآن بصدد الحديث فيه. كانت الخبرة الأولى حين طلبت إلي هيئة رسمية أن أكتب بيانا مطولا عن الفكر الفلسفي في بلادنا خلال هذا القرن؛ لينشر ضمن موضوعات أخرى، تصور بمجموعها حياتنا في مختلف ضروب نشاطها. وكانت الخبرة الثانية حين طلب إلي أن أعد بحثا وافيا عن حياتنا الفكرية والأدبية الحاضرة بصفة عامة؛ لينشر في موسوعة «لا روس» الفرنسية. والذي أريد قوله عن تلك الخبرتين، هو أنني كنت قد انتهجت فيهما منهجا راعيت فيه ألا أتعرض لخطر الحذف والنسيان، فقسمت موضوع البحث قسمين؛ ليكون كل قسم منهما صمام أمن للقسم الثاني، وذلك بأن نظرت إلى الأمر مرة من زاوية المضمون، ثم نظرت إليه مرة أخرى من زاوية الأشخاص؛ بمعنى أن أقول - مثلا - ماذا كتبه الكاتبون في النقد الأدبي؟ ثم أعود فأراجع قائمة الأسماء التي لمعت في هذا الميدان؛ لأستوثق من أن كل اسم منها قد وجد مكانه الصحيح، فراعني - في كلتا الحالتين - أني وجدت بين يدي أسماء تعذر علي أن أجد لها مواضع في السياق، فكيف إذن تأتى لهذه الأسماء أن يكون لها دوي في الأسماع، إذا لم يكن لأصحابها نتاج يذكر؟ الجواب هو أن هؤلاء لا بد أن يكونوا قد بلغوا ما بلغوه، لا عن طريق الدرس أو الإبداع، بل عن الطريق السلوكي الذي أسلفت لك لمحة منه.
والذي نخشاه هو أن ينصرف نفر من أصحاب المواهب، الراغبين في النجاح، نحو هذا الطريق السهل، فيرتفع ذكرهم على خواء؛ ولذلك ندعو إلى إعادة النظر ومراجعة الموازين ليهتدي أبناء الجيل الجديد بمعايير الحق، فلا يضللهم بهرج رخيص.
الكاتب المصباح والكاتب الصدى
الأرجح عندي أن يكون القارئ على علم كثير أو قليل بمحاورة «الجمهورية» التي كتبها أفلاطون فيلسوف اليونان الأقدمين، بل إن شئت الحق كما يراه فيه هوايتهد - من أئمة المفكرين في عصرنا - فقل عنه إنه الفيلسوف الذي جاءت الفلسفة كلها بعد ذلك هوامش بالنسبة إليه تؤيده أو تعارضه أو تعدله.
فلقد تصور أفلاطون نظاما للدولة في «جمهوريته» تلك، أقامه على مبدأ التوازن بين ما قد نسميه نحن اليوم «قوى الشعب»، غير أنه جعل تلك القوى التي تتوازن معا في بناء الدولة ثلاثا، لو قارناها بالقوى الخمس التي نجعلها نحن في بلادنا أساسا لبناء الدولة، لجاز لنا أن نقول إنه دمج العمال والفلاحين وأصحاب الرأسمالية الوطنية في مجموعة واحدة، ثم أضاف إليها فئتين، هما فئة الجنود وفئة المثقفين. أقول هذا تيسيرا للفهم عند عامة القراء، لكنني لا أعلم أن بين الصورة الأصلية لما قاله أفلاطون في قوام الدولة وبين هذه الصورة الميسرة فارقا بعيدا إلى الحد الذي قد اتهم فيه بجناية التشويه؛ فأقل ما يقال في هذه الصورة الميسرة هو أن ذلك الفيلسوف القديم لم يشأ أن ينظر إلى تلك الفئات على أنها متساوية في أقدارها، وإن اختلفت في مهامها، بل رتبها ليجعل منها ما هو أعلى وما هو أدنى، وشاء أن يجعل الصدارة لرجال الفكر، يتلوهم الجنود، ثم يأتي بعد ذلك بقية العاملين.
لا علينا من ذلك كله، فليس هو مرادنا، وإنما يساق هنا تمهيدا لما نود أن نقوله؛ فلقد حرص أفلاطون أشد الحرص في «جمهوريته» المثلى ألا يكون بين أبنائها مكان لرجال الأدب والفن، مفرقا في ذلك بين رجل الفكر الذي يرى الحق مجردا في سمائه العليا، وبين الكاتب الأديب الذي يغمس نفسه في الأحداث مصورا لها، فلماذا كان جزاء الأديب والفنان الحرمان من ذلك الفردوس؟
كان ذلك لأنه لم يتصور قط - وهو في هذا على صواب - أن يجيء الكاتب أو الفنان إلا ناقدا، إنه لم يتصور أن تطلق على رجل صفة الكاتب أو صفة الفنان حين يقف ذلك الرجل مما حوله موافقا ومؤيدا بغير رأي يبديه. ولما كان أفلاطون - كما قد يعلم القارئ - فيلسوفا مثاليا، فقد ظن أن نظام الدولة كما تصوره ثم صوره، ليس هو من قبيل التجارب التي تصيب وتخطئ، بل هو أقرب إلى حقائق الوجود؛ فهو نظام إلهي، أو هو حق أزلي أبدي تراه البصيرة النافذة كالإلهي، لا يتغير ولا يتبدل؛ لأنه معصوم من النقص والخطأ، وإذا كان أمره كذلك فماذا عساهم يصنعون هؤلاء الرجال، رجال الأدب والفن؟
نعم، ماذا يراد لرجال الأدب والفن أن يصنعوا في إطار الدولة التي يعيشون في كنفها؟ إحدى اثنتين؛ فإما أن نتوقع منهم ألا يزيدوا على النظام القائم شيئا وألا ينقصوا منه شيئا، وأن يجعلوا قصارى جهدهم شرحا وتحليلا للموجود مع التأييد المطلق له، وإما أننا نريد منهم شيئا آخر، هو أن يراجعوا الموجود لينقدوه بغية تقويمه وإصلاحه. هذان فرضان لا ثالث لهما، فإذا نحن بدأنا مع أنفسنا البداية التي تسلم للموجود بالكمال، فلا بد عندئذ من أن يقتصر رجال الأدب والفن - لو سمحنا لهم بالبقاء بين ظهرانينا - على مجرد الشرح والتحليل؛ إذ ماذا ينقدون وماذا يصححون في بناء مضمون الصواب معصوم من الزلل؟ إن البناء في حالة كهذه يكون أقرب إلى الحقائق الرياضية، خذ جدول الضرب مثلا؛ أيجوز لكاتب أو فنان أن يتناول جدول الضرب بالنقد والتصحيح، فبدل أن تكون الخمسة مضروبة في ستة مساوية لثلاثين، يجيء الأديب الناقد فيقول لا، لنجعلها مساوية لخمسين لتكون أجمل وأكمل؟
الحقيقة إنه إذا بدأ البادئ من افتراض الكمال الرياضي لما هو قائم من بناء الدولة وبناء المجتمع، لما بقي أمام الكاتب إلا أن يكون كرجع الصدى، ليس من حقه أن يبدأ هو بالنطق، بل الناطق دائما سواه، ثم يجيء دوره بعد ذلك محاكيا، أو قل إن الكاتب في هذه الحالة يكون كالمرآة، ليس من طبيعتها أن تخلق الصور، بل هي تعكس على سطحها ما يحدث حولها.
أما إذا بدأنا بافتراض آخر، لا يفترض في النظم الإنسانية كمالا، وإنما يراها كائنات تتعرض للصواب والخطأ، بحيث يكون الخطأ نفسه مدعاة تصحيح لتزداد تلك النظم صوابا، فعندئذ فقط يكون للكاتب دوره الأصيل؛ إذ من ذا الذي يلحظ الخطأ ويطلب التصحيح؟ الجواب عندي هو أن ذلك حق لكل مواطن ذي ضمير حي مسئول، لكنه بالنسبة للكاتب واجب محتوم، إذا لم يضطلع به فقد ألغى وجوده بيديه.
الكاتب الحق مواطن ناقد، كما أن الطبيب مواطن طبيب، والمهندس مواطن مهندس، وكذلك المواطن الحداد والمواطن النجار والمواطن الزارع. فإذا نحن محونا جانب النقد من وجود الكاتب بقي منه المواطن الذي لا عمل له. الأدب هو - كما قيل - نقد الحياة بكل جوانبها، تمحيصا ومراجعة وتعديلا وتقويما. على ألا يجيء شيء من ذلك بالطريق الوعظي المباشر كما هو معلوم عند من صناعتهم نقد الأدب.
الكاتب الأديب مصباح يضيء معالم الطريق، وليس هو رجعا للصدى. وقد تكون هداية المصباح كشفا لما هو جديد، أو تحليلا للقديم من شأنه أن يعري الأسس المخبوءة لتنكشف فيها مواضع التعفن والتآكل. أما كيف تكون هذه الهداية أو هذا التحليل، فأمر متروك لقواعد الفن الأدبي التي لا نعتزم أن يكون لنا بها شأن في هذه الكلمة.
ها هو ذا تاريخنا الأدبي قديمه وحديثه، اختر منه ما شئت ومن شئت، محاولا أن تجد لنفسك المعيار الذي يخلد به من يخلد من الكاتبين. لماذا ارتفع ذكر الطهطاوي - في تاريخنا الأدبي الحديث - والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وقاسم أمين ولطفي السيد؟ ماذا في هؤلاء قد ضمن لهم البقاء النسبي في تيار الحوادث المتدفق المتغير؟ أليست الصفة المشتركة بين هؤلاء جميعا هي أنهم حملوا المصابيح الهادية، ولم يرضوا لأنفسهم أن يجيئوا ترديدا لشيء أريد لهم أن يرددوه؟ وذلك هو الشأن دائما في كل أصالة أدبية، وحتى إذا لم يكن الكاتب أصيلا بمعنى إبداع الجديد وخلقه، فلا أقل من أن يكون أصلا فيما يختاره بهدي طبيعته الحساسة الناقدة، ثم ينقله للآخرين.
قد تتنوع المجالات التي تصب عليها الأضواء عند مختلف الكاتبين، لكن الجانب المشترك بينهم جميعا هو أن تكون لهم المبادأة بالفكر الجديد، وبالذوق الجديد، وبالنظرة الجديدة. الكاتبون هم الذين يشيعون الحساسية الجديدة في كل شعاب الحياة، ويأتي بعد ذلك من أشبعوا بهذه الحساسية من أصحاب الإرادة الفاعلة فينتقلون بالأمر إلى مجال التنفيذ، فإذا رأينا اتجاه السير معكوسا رجحنا أن يكون في الأمر عوج يتطلب المعالجة والتقويم.
قضاة الحكم الأدبي
كان توما الأكويني - فيلسوف المسيحية في أوروبا، إبان عصورها الدينية الوسطى - كان في الدير راهبا مع سائر زملائه الرهبان، ولقد بدا توما لهؤلاء الزملاء وكأنه - لبساطته - الأبله الساذج، فوقف بعضهم إلى جوار النافذة ثم نادوه بعد أن تصنعوا الدهشة على وجوههم: تعال يا توما وانظر إلى السماء لترى هذه الأبقار الطائرة في الجو! فأسرع نحوهم توما لينظر، فضحك منه الزملاء ساخرين؟ وهنا التفت إليهم توما الأكويني وقد اعتراه الجد، وقال: ممن تسخرون؟ لقد كان الأهون عندي أن أتصور أبقارا تطير في جو السماء، من أن أتصور رهبانا يكذبون.
إذن فلم تكن سذاجة تلك التي بدت لزملاء الأكويني وكأنها كذلك، وإنما كانت في حقيقة أمرها اختلافا بينه وبينهم في القيم وترتيبها، فما القيمة التي نضعها في المنزلة الأعلى، وما القيمة التي نضعها في المنزلة الأدنى، وإذا اختلفت وجهة النظر بين شخصين في مثل هذا الترتيب، تعذر بينهما التفاهم؛ لأن كلا منهما في هذه الحالة سيتكلم لغة ليست هي اللغة التي يتكلمها زميله.
إننا إذا اتحدنا في الهدف ثم اختلفنا اختلافا بعيدا في الوسيلة، فقد يحدث أن يظن أحدنا الغفلة بزميله، وفي مثل هذه الحالة ربما وقع بيننا شيء شبيه بما حدث بين توما الأكويني وزملائه، هم يرونه ساذجا في تزمته، وهو يراهم مستهترين بالوسيلة الخلقية.
أقول ذلك تمهيدا لما سوف أجيب به عن سؤال كان قد وجهه إلي سائل عن نزاهة التحكيم الأدبي - عندنا وعند غيرنا، في زماننا وفي غير زماننا - ما شروطها، من هم القضاة؟ وعلى أي شريعة من شرائع العدل يحكمون؟ إنه ما لم يكن بين جمهور الأدباء وقضاتهم اتفاق على الأهداف والوسائل معا، استحالت تلك النزاهة المنشودة، بل لم يعد للنزاهة معنى مفهوم.
وسأضرب لك مثلا أو أمثلة توضح ما أريد: سنة 1957م - على ما أذكر - أرادت لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للفنون والآداب أن تكافئ أحسن الشعراء الذين قالوا شعرا في مناسبة العدوان الثلاثي على بورسعيد، وجمعت القصائد التي قيلت، وأعطيت نسخة منها لكل لجنة ثنائية من اللجان التي شكلت للتحكيم - وأظنها كانت ثلاث لجان ثنائية - وكان كاتب هذه السطور مع المرحوم علي أحمد باكثير يكونان لجنة من اللجان الثلاث. لم تكن مشكلة الشعر الجديد قد أثيرث قبل ذلك، وكانت تلك هي المناسبة الأولى التي فجرت المشكلة.
انتهت اللجان الثلاث من تقديراتها، وأعدت كل لجنة منها قوائم بالأسماء الفائزة مرتبة ترتيب الجدارة، وجاء اليوم الذي اجتمع فيه جميع الأعضاء في جلسة مشتركة ليوازنوا بين أحكام اللجان الفرعية، وما كان أشد عجبنا أن وجدنا اتفاقا في التقدير وفي الترتيب إلا حالة واحدة؛ فلقد جعلت لجنتنا نحن (باكثير وأنا) صاحب المكافأة الأولى شاعرا نظم قصيدته شعرا حرا من الطراز الجديد، وفيما عدا ذلك تطابقت الأسماء.
ودار النقاش منصبا على أحقية الشعر الجديد في القبول، وكان ما كان، وعلى من أراد، أن يراجع محضر تلك الجلسة، لأنها شاهد من أبلغ الشواهد على أمرين في التحكيم الأدبي؛ الأول: هو أنه إذا اتفق الجميع على الهدف والوسيلة معا، أمكن الوصول إلى نتيجة متفق عليها برغم ما يقال من تفاوت الناس في الذوق الفني. والثاني: هو الجانب السلبي من الأمر الأول، وأعني أنه إذا اختلف المحكمون مع الأدباء في تصورهم للشكل الأدبي، استحال عليهم الحكم النزيه، وها هنا يحدث بين الطرفين شيء كالذي حدث بين الأكويني وزملائه الرهبان. هم يظنون به الغفلة، وهو يظن بهم الانحراف. إنني إذا تصورت أن الجاحظ قد أعيدت إليه الحياة، وقام ليعيش بيننا اليوم أديبا أو مدعيا لنفسه الأدب، ثم عرض نفسه على الرأي الأدبي العام كما هو قائم عندنا في هذه المرحلة الحاضرة من تاريخنا، ولاحظ أنه الجاحظ بهيله وهيلمانه في تراثنا الأدبي، أقول إنني إذا تصورته قد نشر من قبره اليوم ليعاصرنا بأدبه، وليعرض نفسه على لجنة المحكمين، رجحت له السقوط أمام قضاتنا. وكيف ينجح أمامهم وهو لم يكتب قصة ولا مسرحية، ولا كان شاعرا؟ إذن فليعد من حيث جاء؛ لأنه ليس عندنا بأديب، وليس العيب في موقف غريب كهذا عيبا في الجاحظ، ولا هو عيب في قضاة التحكيم، بل الأمر نتيجة طبيعية نشأت عندما اتفق الطرفان في الهدف، ثم اختلفا في تصور الوسيلة، اتفقا معا على أن يكون الناتج المعروض أدبا، ثم اختلفا على الوسيلة الأدبية.
لقد كان شيكسبير في الأدب المسرحي ما كان، ومع ذلك لم يعجب نفرا من معاصريه كانت لهم الكلمة المسموعة، وهم من كانوا يسمونهم «أهل الفطنة من رجال الجامعة»، فأهملوه إهمالا ممتزجا بالزراية. ومضت مائة عام بعد ذلك قبل أن يفتح التاريخ الأدبي صفحاته لذلك العملاق، وأيضا هنا لم يكن العيب عيبا في شيكسبير، ولا كان عيبا في معاصريه من أهل الصحافة والتعليم، وإنما الأمر مرجعه إلى اختلاف الرؤية عند الطرفين. إنه إذا وقف رجل على قمة جبل شاهق، ووقف آخر في جوف الوادي السحيق، ونظر كل منهما إلى الآخر، رأى كل منهما الآخر - لبعد المسافة بينهما - شيئا ضئيلا لا يملأ العين. تلك إذن هي إحدى الصعاب التي تعترض نزاهة التحكيم الأدبي. وصعوبة أخرى لا تقل عنها فداحة، هي تلك التي تنشأ عندما يعمل الأديب على أن تنسج من حوله الطبول والزمور، إلى أن يسد ضجيجها أسماع المحكمين؛ لأنه إذا ضخم الدوي في الآذان، بات عسيرا كل العسر أن تخرج على مسايرته؛ حتى لا تتهم بضعف المعرفة وقلة الذوق. والعكس صحيح كذلك؛ أي إنه إذا لم يظفر كاتب عند قضاة التحكيم بالطنين الكافي لامتلاء الأسماع، أصبح عسيرا كل العسر أن يخرج منهم ناطق يشق الصمت بصوته؛ خشية أن يشك في صواب رأيه وحسن تقديره.
ولقد طالعت منذ قريب وصفا أورده ناقد إنجليزي عن أديب مسرحي عندهم؛ إذ قال عنه إنه «أديب صنعته وسائل الإعلام».
وذكرني قول هذا الناقد الإنجليزي بما كتبه العقاد والمازني في كتابهما «الديوان» عن شوقي والمنفلوطي، وما كانا يبذلانه من جهود ليحتفظا حولهما بالأتباع الذين يكتبون عنهما في الصحف.
كل ذلك ولم أقل شيئا بعد عن الصداقات والعداوات التي تنشأ بين أبناء الجيل الواحد؛ مما قد يؤثر - بل لا بد أن يؤثر - في أحكام المحكمين؛ فإذا أضفت إلى هذه العواطف الفطرية في طبيعة البشر عاملا آخر هو العامل المذهبي، الذي كثيرا ما يميل بقضاة التحكيم على إيثار المتجانسين معهم على غير المتجانسين، رأيت كم تتراكم العوامل المؤثرة في الحكم الأدبي.
فهل نيئس أمام هذه الصعاب من إمكان التحكيم النزيه في دنيا الآداب؟ هنالك كثيرون من خيرة النقاد يأخذهم اليأس من ذلك، ولا يتوقعون أحكاما موضوعية على نتاج الأقلام إلا بعد أن يمضي الزمان لتختفي عوامل الغيرة والحقد والصداقة والعداوة والدعاية وما إلى ذلك.
والحق أني كثيرا ما سألت نفسي: كيف يتكون الرأي الأدبي العام في مرحلة زمنية بعينها؟ أول ما يتبادر إلى الذهن هو أن الترتيب الطبيعي للأمور واضح ولا يحتاج إلى تساؤل؛ فهنالك الذي يمتاز بإنتاجه أولا، ثم على هذا الامتياز يتكون رأي عام، لكني أرجو من القارئ أن يتمهل، وأن يستعرض أمثلة من واقع الحياة الأدبية، وقد يكون له بعد ذلك رأي آخر في ترتيب المراحل؛ لأنه قد يرى ما رأيته، وهو أن عوامل أخرى كثيرة لا شأن لها بجودة الإنتاج نفسه، لا بد أن تسبق تكوين الرأي الأدبي العام؛ فإذا تكون هذا الرأي العام جاء بعد ذلك الحكم بجودة الإنتاج! ولقد فطن كثيرون إلى هذا الترتيب المعكوس، فاهتموا بمسايرته ليتحقق لهم الهدف.
وفيم الغرابة؟ إن الرأي العام في دنيا الأدب يتكون بالطرق نفسها التي يتكون بها الرأي العام في المجالات الأخرى؛ مجال البيع والشراء، ومجال المذاهب بكل أنواعها. إن الوسائل التي يروج بها لسلعة من السلع، كنوع معين من الصابون أو من صبغة الشعر، هي نفسها الوسائل التي يروج بها لأديب، وكما قد يكون الصابون المروج له صابونا جيدا بالفعل، كذلك قد يكون الأدب المهيص له أدبا جيدا حقا، لكن ذلك لا يمنع من أن الجودة في الحالتين ربما ظلت خافية عن الناس، حتى تسبقها وسائل الدعاية، وتظل تصاحبها لأن الناس مصابون بسرعة النسيان.
وبرغم هذه الصعاب كلها التي أعترف بوجودها معترضة طريق التحكيم الأدبي النزيه، فلست من اليائسين، ما دمنا نتحوط من ضعف البشر، فنختار للتحكيم من لا مصلحة لهم في معارضة أو تأييد، ومن يكون لهم إلمام كاتب بالمجال الذي يحكمون فيه، وإلا انقلب الأمر الجاد مهزلة ساخرة.
ومن أمثلة مهازل التحكيم ما حدث عندما رشح برتراند رسل سنة 1940م ليكون محاضرا زائرا في كلية جامعية صغيرة في مدينة نيويورك، فرفض مجلس الكلية قبول الترشيح بتأثير جماعة ضاغطة كانت لها أهداف أخرى غير العلم وشئونه، فما كان من الفيلسوف عند نشره لأول كتاب له بعد ذلك (وهو كتابه «بحث في المعنى وصدق القول») أن كتب تحت اسمه على صفحة العنوان درجاته العلمية وأوسمته الشرفية في المجال الأكاديمي، وأستاذياته الزائرة لأعظم جامعات العالم، ثم ختم القائمة الطويلة بقوله: «وهو مرفوض من كلية مدينة نيويورك أن يحاضر في الفلسفة.» قاصدا بذلك أن يقول إن رفض هذه الكلية الصغيرة لشخصه هو من بين علامات التشريف التي تحكم له لا عليه.
وقد لا يصعب على القارئ أن يجد في حياتنا الأدبية أمثلة جرت أحداثها على هذا الغرار.
شاعر ينقد نفسه
لم أجد بالأمس جديدا أقرؤه، فعدت إلى شيء قرأته منذ بعيد؛ لأجدني وكأنني أمام فكرة جديدة، ثم لم تلبث الخواطر أن تقاطرت.
عدت إلى شرح ديوان الحماسة للمرزوقي، وديوان الحماسة - كما يعلم القارئ المهتم بتراثنا الأدبي - هو مجموعة من الشعر اختارها أبو تمام؛ لتمثل - من وجهة نظره - نموذجا للشعر الجيد كيف يكون، ولقد أطلق أبو تمام اسم «الحماسة» على مختاراته تلك؛ لا لأن الشعر المختار كله من باب الحماسة، ولكن لأن شعر الحماسة قد جاء في الديوان أول الأبواب.
بدأت قراءتي بالمقدمة التي قدم بها المرزوقي شرحه لديوان الحماسة هذا، فإذا الفكرة التي أقول إنها بدت لي كأنها جديدة تطالعني بارزة وواضحة، وهي أن الشاعر العربي العظيم أبا تمام قد اختار ما اختاره على أساس يختلف اختلافا بعيدا عن الأساس الذي كان هو ينظم عليه شعره، فكيف نفسر أن شاعرا عظيما كهذا ينظم شعره الخاص من لون، حتى إذا ما أراد أن يضرب للناس مثلا للشعر الجيد جعل اختياره من لون آخر؟
يطرح المرزوقي (شارح الديوان) هذا السؤال في مقدمته، أو قل إنه سؤال طرح عليه ليجيب عنه، فأجاب بقوله: «إن أبا تمام كان يختار ما يختار لجودته لا غير، ويقول ما يقوله من الشعر بشهوته.» فإذا أعدنا قول المرزوقي في عبارة عصرية، قلنا: إن أبا تمام كان «موضوعيا» في اختياره، «ذاتيا» في شعره الخاص؛ فلقد توخى الجودة وحدها وهو يختار، أما حين ينظم شعره فلم يسعه بالطبع إلا أن يطلق نفسه على سجيتها؛ فهو في حالة الاختيار بمثابة الناقد، وأما في حالة الإبداع فهو شاعر، ومعنى ذلك هنا هو أن أبا تمام الناقد قد لا يعجبه أبو تمام الشاعر.
ومن ذا يقرأ هذه المفارقة عن شاعرنا القديم دون أن ترد فورا إلى ذهنه مفارقة أخرى شبيهة بها من الشعر الأوروبي المعاصر، متمثلة في ت. س. إليوت؟ فهو أيضا شاعر ناقد، ولكن بصورة أخرى؛ لأن نقده منشور في فصول نقدية، مستقلة، وليس هو مستنتجا من موقفه وهو يختار نماذج الجودة؛ فلقد نظم إليوت الشعر من طراز رومانسي، حتى إذا ما كتب فصوله في نقد الشعر، كان مشايعا للطرز الكلاسيكية القديمة، ولقد سئل في ذلك مرة: كيف يفسر هذا التناقض بين نظريته النقدية وشعره؟ فأجاب بما معناه أن الناقد ينشد المثل الأعلى، وأما الشاعر فملتزم بواقعه الذاتي كيفما جاء.
كان أبو تمام في تراثنا الأدبي شاعرا وناقدا (كان ناقدا بطريقة اختياره لما اختاره من شعر سواه)، وكان ت. س. إليوت في هذه الدنيا المعاصرة شاعرا وناقدا. وإن العربي القديم والغربي المعاصر ليتشابهان في الموقف؛ وذلك لأنهما عظيمان، والموقف الذي يتشابهان فيه هو ضرورة الحياد الموضوعي عند النظر؛ فلقد كان يستطيع هذان العظيمان أن يعرضا على الناس موقفا في نقد الشعر يدافعان به - ولو بطريق غير مباشر - عما يقولانه من شعرهما الخاص، لكنهما لم يفعلا، فكان كل منهما صادقا مع نفسه الداخلية وهو ينظم، وصادقا أيضا مع معايير النقد الخارجية وهو يختار.
وإني لأعلم بأن عددا كبيرا ممن يتعرضون للنقد الأدبي عندنا اليوم، يصعب عليهم أن يتصوروا بأن يكون النقد معتمدا على شيء آخر غير الذوق الخاص، كأنما الناقد رجل ألهمته السماء طريقة للمفاضلة بين جيد ورديء؛ ولذلك فسوف يقول هؤلاء: ألم يحتكم أبو تمام في اختياره إلى ذوقه الشعري نفسه الذي كان يحتكم إليه وهو ينظم الشعر؟
وهو سؤال أورده المرزوقي في مقدمته التي ذكرناها، وأجاب عنه بما يفيد بأن المسألة في نقد الشعر ليست متروكة لفوضى الأذواق الخاصة، بل إن لها مفاتيح موضوعية لو أحسن النقاد تطبيقها لما اختلف ناقد عن ناقد في تقدير الشعر؛ أين جيده وأين وسطه وأين رديئه، وما تلك المفاتيح المعيارية إلا ما أسموه ذات يوم بعمود الشعر!
نعم، معيار الجودة في الشعر هو مقدار ما يتحقق في القصيدة من ذلك «العمود»، ولكن مهلا! فلهذا «العمود» المعياري معنى أكاد أوقن أنه بعيد كل البعد عما تتوهمه عنه، فلقد شاع بيننا في عصرنا أن يذكر عمود الشعر هذا بشيء من الزراية، عن غير فهم لمعناه، وما معناه؟ إنه محصلة لسبع خصائص يجب أن تتوافر، وبقدر توافرها تكون درجة الجودة، وهي: أن يكون المعنى صحيحا، وأن يكون اللفظ جزلا مستقيما، وأن يكون الوصف صادقا، وأن يكون التشبيه قريبا، وأن تكون الاستعارة مناسبة، وأن تكون الأجزاء ملتحما بعضها ببعض، وأن تجيء القافية متساوقة مع اللفظ والمعنى على صورة طبيعية لا تكلف فيها.
وبهذا المعيار «الموضوعي» اختار أبو تمام؛ مما يذكرنا مرة أخرى بموقف الشاعر الناقد الغربي المعاصر - ت. س. إليوت - حين أخذ يبين لقرائه في مقالته «التقليد الأدبي والموهبة الفردية» كيف يتحتم أن تجد موهبة الفنان الفرد مكانا لها في إطار التقاليد، أو قل بعبارة أخرى، إنه لا بد من «عمود» يستند إليه الشاعر أو الفنان، بحيث يكون للتقاليد التاريخية دورها، وللموهبة الفردية دورها، دون أن يطغى أحدهما على الآخر.
والحمد لله، فإن أكبر شعرائنا اليوم يحققون هذا التوازن، أو يوشكون أن يحققوه، لكن همومنا تأتي من الصغار، الذين لا هم من انخفاض الصوت بحيث نتجاهل وجودهم، ولا هم من سعة الدراية بفنونهم بحيث نعنى بهم.
أما بعد، فلعلي أردت بهذا كله شيئا آخر غير الشعر ونقده، فلا أنا بالشاعر، ولا أنا من النقاد المعترف بهم؛ لأني على كثرة ما كتبته في نقد الأدب والفن، فلقد كتبت كتابة الهواة، لا كتابة المحترف، ومن هنا - فيما يظهر - سقطت من الحساب عند السادة الذين يتقنون الحساب.
وإنما أردت بهذا كله أن أضيف قولا جديدا إلى مجموعة أقوال سابقة، أردت بها دائما أن أفرق للناس بين ذاتية المشاعر وموضوعية الأحكام العلمية؛ فالخلط بين هذين الجانبين في حياتنا خلط قاتل، فاذهب مع شعورك ومع هواك وميولك إلى أبعد مدى تستطيعه، لكن اعلم أنك عندئذ تجول في عالم خاص بك ليس حجة على سواك، وأما إذا تصديت لأحكام عقلية تريد إصدارها على أي شيء مما هو مشترك بين الناس، فضع أهواءك عندئذ في صندوق مغلق حتى لا تفسد عليك وعلى الناس حياتهم العقلية.
ولك من جماعة الشعراء أنفسهم قدوة حسنة: شاعرنا العظيم أبو تمام، وشاعرهم العظيم إليوت. الأول من تراثنا، والثاني من عصرنا، وكلاهما يلتقي عند هذه النقطة، وهي: شعورك أنت شيء، وحكمك العلمي على ما يشعر به سواك شيء آخر.
النقد الأدبي بين عهدين
كنت ذات صباح شتوي أسير على طوار الطريق مسرعا، حين مررت ببائع للصحف والكتب، فرش بضاعته على سطح الرصيف، وأسند بعضها على الحائط، ووضع بعضها الآخر فوق قائمة خشبية، وبعد أن اجتزت المكان ببضع خطوات خيل لي أني لمحت بين الكتب كتابا عنوانه «الديوان»، فتعثرت خطاي، وعدت لأستوثق مما رأيت، فإذا هو حقا طبعة جديدة (هي الطبعة الثالثة) من كتاب «الديوان» الذي اشترك في تأليفه سنة 1921م عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني، وقد صدر الجزء الأول منه في شهر يناير من ذلك العام، وصدر الجزء الثاني في شهر فبراير من العام نفسه، ولم يمض شهران بعد ذلك حتى أعيد طبع الجزأين، ثم كان لا بد للزمان أن يدور فلكه خمسة وخمسين عاما؛ لتصدر للجزأين معا هذه الطبعة الثالثة التي أراها.
اشتد بي الحنين إلى قراءة شيء كنت قرأته منذ خمسين عاما! نعم! إنها خمسون عاما مضت منذ قرأت هذا الكتاب لأول مرة، فماذا لو قرأته اليوم للمرة الثانية بعد هذه الفترة الطويلة؟ فاشتريت الكتاب وعدت به إلى منزلي لأجعله أول ما أقرأ، والحق أني لم أكد أبدأ حتى شعرت كأنما ضغطت على مفتاح سحري في «آلة الزمان»؛ تلك الآلة التي ابتدعها ه. ج. ولز بخياله لتنقله على موج الزمن إلى أمام وإلى وراء، وإلى أي أمد يريد، شعرت كأنما ضغطت على هذا المفتاح السحري لأعود القهقرى مع السنين، فأستعيد مناخا فكريا عشناه في العشرينيات وما بعدها.
لقد قال العارفون بحق عن هذا الكتاب، إنه - على صغر حجمه - كان خاتمة لعهد، وفاتحة لعهد؛ فلقد أراد به مؤلفاه لا أن يكون كسائر الكتب، بل أرادا به أن يجيء بيانا «عن المذهب الجديد في الشعر والنقد والكتابة»، ولقد كانا يطمحان أن يكملاه عشرة أجزاء، لكنهما وقفا عند هذين الجزأين، وهما يقولان عنه في مقدمته: «إنه إقامة حد بين عهدين، لم يبق ما يسوغ اتصالهما والاختلاط بينهما، وأقرب ما نميز به مذهبنا أنه مذهب إنساني مصري عربي. إنساني لأنه - من ناحية - يترجم عن طبع الإنسان خالصا من تقليد الصناعة المشوهة، ولأنه - من ناحية أخرى - ثمرة لقاح القرائح الإنسانية عامة - ومظهر الوجدان المشترك بين النفوس قاطبة. ومصري لأن دعاته مصريون، تؤثر فيهم الحياة المصرية. وعربي لأن لغته العربية.»
والكتاب مؤلف من فصول في نقد شوقي والمنفلوطي والرافعي ممن تربعوا على عروش الشعر والنثر والبلاغة بمفهوم ذلك الزمن، وأعجب ما فيه أنه كذلك نقد لزميل لهما في المذهب الأدبي، هو عبد الرحمن شكري.
قرأته هذه المرة، فلم يكن كل الأثر عندي إعجابا خالصا، كالذي كان عند القراءة الأولى منذ نصف قرن كامل، فبقدر إعجابي الذي لم ينقص منه شيء، فيما يتصل بسعة الأفق وعمق الأغوار عند الناقدين العظيمين، كان نفوري - هذه المرة - من الشتائم اللاذعة الشنيعة التي تخللت السطور بغير داع، فما الذي يضاف إلى الفكر الإنساني، أو إلى الذوق الأدبي، أن توصف المجلات التي كانت تنشر إعجاب المعجبين بشعر شوقي بأنها - ولهذا السبب - «خرق منتنة»، وأن يوصف الكاتبون فيها بأنهم «حشرات آدمية»، وأن توصف المادة التي يكتبونها بأنها «خبز مسموم تستمرئه تلك الجيف التي تحركها الحياة لحكمة كما تحرك الهوام وخشاش الأرض.»
وماذا يفيد القارئين - وكلهم كان قارئا عندئذ للمنفلوطي - أن يقال لهم عنه إنه لا هو بالكاتب ولا بالأديب إلا إذا كان الأدب كله عبثا في عبث لا طائل تحته. ويستطرد الناقد (وهو هنا المازني) ليقول: سمعت بعض السخفاء من شيوخنا المائقين يقول: «إن في أسلوبه حلاوة.» ولو أنه قال «نعومة» لكان أقرب إلى الصواب، ولو قال «أنوثة» لأصاب المحز. ولكن المازني أيضا هو الذي تصدى للهجوم على زميلهما في المذهب عبد الرحمن شكري، وكان هجومه من العنف وحرارة الغيظ ما يؤيد الذي كنا سمعناه في ذلك العهد، بأنه أخذ بالثأر لما قاله شكري في نقد المازني.
أقول إني قرأت كتاب «الديوان» بعد هذا العمر الطويل، لأجد إعجابي بسعة الأفق وغزارة المضمون قائما كما كان أول عهده، لكنه إعجاب مصحوب بالضيق لما جاء في السياق من أنواع السباب التي لا تقدم في عملية النقد نفسها ولا تؤخر. أستغفر الحق، بل إنها تؤخرها بغير شك.
وهل كان بوسعي إلا أن أقارن بين المناخ النقدي الذي ساد العشرينيات وما يسود اليوم؟ لقد كان انطباعي السريع من هذه المقارنة أن مناخ اليوم قد اختلف في الوجهين معا؛ فلقد خسرنا في السعة والعمق، وكسبنا بأن قلت طريقة الشتائم التي تنسج السباب مع خيوط النقد كأنهما اللحمة والسدى، فلم يعد نقادنا اليوم - والحمد لله - يمزجون النقد بالشتم إلا قليلا.
على أن هنالك نقطتين يلتقي عندهما العصران، فما نزال حتى اليوم - كما كانوا بالأمس - نحاول أن نقيم الأدباء ورجال الفكر بالدعاية، وأن نحطمهم بالدعاية أيضا أو بالصمت عنهم، دون أن تكون تلك الدعاية أو هذا الصمت مما توجبه حالة الأمر الواقع دائما؛ ففي كتاب «الديوان» يوجه المؤلفان هذه التهمة إلى شوقي وإلى المنفلوطي، فيقولان مثلا: «إن هذا الرجل يحسب أن لا فرق بين الإعلان عن سلعة في السوق، والارتقاء إلى أعلى مقاوم السمعة الأدبية والحياة الفكرية؛ فإذا استطاع أن يقحم اسمه على الناس بالتهليل والتكبير والطبول والزمور، في مناسبة وغير مناسبة، وبحق أو بغير حق، فقد تبوأ مقعد المجد وتسنم ذروة الخلود، وعفاء بعد ذلك على الأفهام والضمائر ...»
تلك نقطة التقاء بين اليوم والأمس، ونقطة التقاء أخرى هي أننا ما زلنا إلى اليوم على ما كانوا عليه بالأمس، نمزج بين الموهبة الأدبية الصحيحة، وبين منزلة الرجل في مناصب الدولة أو فيما يشبهها من مواقع النفوذ والجاه، وفي ذلك يقول كتاب «الديوان» عن معاصريه: «إنهم اعتادوا أن يرتبوا المواهب على حسب الوظائف والألقاب، فمن هؤلاء من كنت تسأله ترتيب الشعراء فيقول لك: أولهم محمود سامي باشا البارودي (لأنه باشا عتيق)، وثانيهم إسماعيل صبري باشا (لأنه أحدث عهدا بالباشوية والوزارة)، وثالثهم أحمد شوقي بك (لأنه بك متمايز)، ورا بعهم حافظ بك إبراهيم (لأنه أحرز الرتبة أخيرا)، ويلي ذلك خليل أفندي مطران (لأنه حامل نيشان)، فطائفة الأفندية والمشايخ وهلم جرا. كأنما يرتبونهم في ديوان التشريف لا في ديوان الآداب!» (والناقد هنا هو العقاد).
لقد أقعدني المرض لفترة لم تطل، وعادني واحد من الأبناء الزملاء، فكان مما قاله لي في سياق حديثه، إن ناقدا - نسيت اسمه - كتب في إحدى مجلاتنا الأدبية - نسيت اسمها - (وكان نسياني في كلتا الحالتين راجعا إلى مرضي الذي لم يجعل لي ساعتها وعي الأصحاء، ولا شأن له بمكانة المجلة أو الناقد)، قال لي زائري إن ناقدا هاجمني هجوم الشتم، وموضع السخرية هو أن ذلك قد حدث في الفترة نفسها التي قيل فيها إن أصحاب الأقلام مدعوون لتكريم زميل لهم بلغ السبعين من عمره، فعفوت بيني وبين نفسي عن الشتائم وما شتم، لكنني دعوت الله مخلصا أن تكون هذه حالة طارئة عابرة، وألا تكون بداية لعودة النقد بالشتائم الذي ساد العشرينيات، وإلا فقد خسرنا ما كسبناه، وخسرنا معه ما كان عند رجال العشرينيات من سعة الأفق وعمق الأغوار.
دور الكتاب في حضارة الإنسان
1
أرأيتم إلى الإنسان، كيف نشأ أول ما نشأ على ظهر الأرض إنسانا، كهؤلاء الأناسي الذين تألفهم، ونؤلف نحن جماعة منهم؟ لقد كانت لحظة فريدة في مجرى الزمن؛ تلك التي انفرجت شفتاه فيها عن أول لفظة؛ عن أول صوت نطق به ليرمز - عن طريقه - إلى شيء! لقد كان الإنسان قبل ذلك حيوانا صامتا، ثم أصبح بلفظته الرامزة حيوانا ناطقا، هنالك كانت النقلة البعيدة البعيدة، العميقة العميقة، من كائن يخرج منه الصوت همهمة لا تفصح ولا تبين، إلى كائن يصوغ الصوت لفظا يحمل على موجه المعنى. «في البدء كان الكلمة» - كما ورد في الإنجيل - والكلمة فكرة، والفكرة دالة حتما على شيء. كان يقال عن الإنسان إنه الكائن الناطق، فأصبحنا نقول عنه اليوم إنه الكائن الرامز، بعد أن أجرينا على فاعلية الفكر تحليلا تبين لنا منه أن الفكر في صميمه هو عملية من الرمز، نشير بشيء إلى شيء آخر، فإذا هذه الإشارة الدالة هي التفكير، والأغلب أن تكون الأدوات التي نستخدمها للإشارة ألفاظا ننطق بها، أو كلمات نرقمها على الورق، والأغلب كذلك أن تكون الأشياء التي نشير إليها بتلك الألفاظ المنطوقة أو الكلمات المرقومة، كائنات في دنيا الواقع الذي نعيش فيه.
بهذه الفاعلية الرامزة حدثت النقلة من عجمة الحيوان إلى إنسانية الإنسان، ثم توالت الألفاظ ما اتسعت الخبرة، حتى كانت اللغة، منطوقة أول الأمر، ومكتوبة بعد حين. ألم تروا إلى الطفل بأي نشوة يهتز كيانه وتلمع عيناه، بأي فرحة يمرح ويزيط، عندما يدرك أنه لفظ لفظته الأولى التي تحمل إلى من حوله معنى مفهوما؟ كأنما شيء في فطرته يصيح به، هنيئا يا بني، لقد أصبحت بهذه اللفظة الدالة إنسانا بالفعل، بعد أن كنت إنسانا بالقوة، كما يقال: لقد علم الله - سبحانه - آدم - عليه السلام - «الأسماء» كلها، فدس بهذا في الفطرة الآدمية العلم كله بالأشياء كلها، وبقي على خلفائه أن ينقلوا هذا العلم المجبول إلى حالة العلن والبيان، وذلك هو ما صنعوه، ويصنعونه، وسوف يصنعونه أجيالا بعد أجيال، كل جيل منها يسلم جيلا؛ ليتم اللاحق ما قد بدأه السابق، ولم يكن هذا ليتحقق لهم لولا الكتابة والكتاب.
2
ن والقلم وما يسطرون ، هكذا أقسم - سبحانه - بالقلم وبما يسطر بالقلم؛ وما يسطر بالقلم هو الكتاب. لقد وردت لفظة «الكتاب» في كتاب الله الكريم مائتين وثلاثين مرة، فإذا أضفنا إليها فروعها: كتابا، كتابك، بكتابكم، كتابنا، كتابه، كتابها، كتابهم، كتابي، كتابيه، كتب، كتبه، مكتوبا ، كتبت، كتبت، كتبنا، كتبناها، فاكتبها، تكتبونها، نكتب، يكتب، يكتبون، اكتب، فاكتبنا، فاكتبوه، كتب، ستكتب، اكتبها، فكاتبوهم، كاتب، كاتبا، كاتبون، كاتبين، أقول إننا إذا أضفنا هذه الفروع إلى لفظة «الكتاب» كان العدد ثلاثمائة واثنتي عشرة مرة، ولا عجب؛ فسر الحضارة البشرية هو في أن تنتظم حلقات التاريخ في سلسلة واحدة، تجيء كل حلقة منها وثيقة الصلة بما قبلها وما بعدها، فتأخذ عما سبق لتضيف إليه، ثم لتسلم الحصيلة لما هو آت، بل إن هذا نفسه هو سر الحياة والنمو؛ فلو كنا نجتث النبتة كلما اخضر لها نجم على التراب، لاستحال أن يكون من النبتة شجرة وارفة، ولو وقف نمو الطفل عند طفولته لما شهدت الدنيا إنسانا في نضجه، بل لما شهدت الدنيا طفلا آخر. سر الحياة والنمو هو في أن يتحول الكائن الحي من مرحلة إلى مرحلة تليها، فإذا كانت المرحلة الأولى لتفنى فينبغي أن يكون فناؤها تحولا إلى شكل جديد، لا انتقالا إلى عدم؛ بهذا التحول النامي تصبح الإنسانية كلها إنسانا واحدا ممتدا على طول الزمن، كما يمتد بقاء الفرد الواحد عبر الطفولة والشباب والنضج، ثم يتابع امتداده في أبنائه وأحفاده إلى يوم الدين، وهذا هو المعنى الذي يقصد إليه الفلاسفة حين يقولون عن الحياة إن جوهرها «زمان» لا «مكان»، فأنت هو أنت، مهما تغير موضعك من المكان، شريطة أن يظل خط الزمن موصولا معك منذ ولادتك إلى أن يشاء الله، وما تقول عن شخصك الواحد قل مثله عن الأسرة البشرية كلها؛ فهي أسرة واحدة متلاحمة الفروع مهما يكن مكان أفرادها وشعوبها، شريطة أن يسري في أوصالها تيار واحد من الزمن.
وتيار الزمن الواحد هذا، هو تعبير يراد به عملية تطورية واحدة؛ بمعنى أن التاريخ إذا كان قد شهد حضارات كثيرة متنوعة، فلا بد أن نلتمس بينها حلقات الوصل التي تربط حضارة سبقت بحضارة لحقت؛ فما من حضارة عرفها التاريخ لم تستمد أصولها من سابقتها لتواصل السير بتلك الأصول ما أسعفتها قواها؛ لتجيء من بعدها التالية، فتجعل من نهايات الأولى بدايات لها، وكيف كان هذا التكامل ليحدث لولا الكتاب؟
3
الكتاب هو الذاكرة التي تحفظ ما مضي ليكون نقطة البدء لما قد حضر. ماذا كان يحدث لك، أنت الفرد الواحد، إذا كان ليلك يمحو حصيلة نهارك؛ لتصبح مع الصباح وصحيفة ذهنك بيضاء فارغة؟ ليس أمامك عندئذ إلا أن تبدأ من نقطة الصفر مرة أخرى، وهكذا دواليك ليلا بعد ليل، ونهارا يعقبه نهار! لكنها هي الذاكرة؛ ذلك السر العجيب، هي الذاكرة التي تجعل أمسك مع يومك ومن بعده غدك، حياة واحدة تربطها هوية واحدة؟ وليس الأمر في هذا مقصورا على الإنسان، بل يمتد حتى يشمل كل حي، بل إنه ليشمل كل شيء في الوجود كائنا ما كان.
إنه لولا قدرة الكائن على حفظ ماضيه، لاستحال أن يكون لأي كائن تاريخ. تاريخ المجموعة الشمسية هو أن تتعقب أحداثها على مر الزمن منذ كانت وإلى يومها هذا، وهكذا قل في تاريخ الأرض وتاريخ البحر والنهر والجبل، وأولى من هذا أن تقول القول نفسه عن الكائنات الحية نباتا وحيوانا، ثم هو أولى أن يقال عن الإنسان أفرادا وشعوبا وإنسانية واحدة موحدة.
وإذا كانت الجوامد تحفظ ماضيها في أصلابها آثارا يراها العلماء الخبراء ويفهمونها، فللإنسان فوق هذه الآثار البدنية التي تدل على ماضيه العضوي، آثار من نوع آخر تنطق بماضيه الفكري، وأهمها الكتاب؛ فماذا كنت تعرف عن عقيدتك الدينية وما يتصل بها من شريعة وطرائق عبادة، لولا أن وجدت ذلك مسطورا في كتب تركها الآباء عن الآباء؟ ماذا كنت تعرف عن أهلك ووطنك؟ بل ماذا كنت تعرف عن يوم مولدك لولا أن شهادة سطرت لتثبت لك ذلك التاريخ؟
الكتب على رفوفها كائنات خرساء لمن جهل فك رموزها، ناطقة للقارئين؛ فالصفحة منها أمام أبصار القارئين ليست مدادا مخطوطا على ورق، بل هي ألسنة تتحرك في الأشداق بلفظ مسموع، مؤلفوها يتحدثون في مسامعنا عبر القرون. لقد أراد الله للصوت البشري ألا ينداح إلى أبعد من أمتار قليلة ثم يتبعثر ويموت، إلا أن تؤاتيه صفحة من كتاب، فعندئذ يطول مرماه حتى يبلغ - مع العباقرة الخالدين - أبد الآبدين.
الكتب على رفوفها جمهور ناطق، فيه من نماذج البشر ما طاب لك أن تجد؛ فيه العابد الناسك، وفيه الفقيه العالم، وفيه العربيد، فيه الشاعر ينشد اللفظ الجميل، والفيلسوف يتعقب في سكينة تأملاته ظواهر الأمور إلى أعماق جذورها. من ذا لا يريد أن يلمح قبسات من «طيبة» الفراعنة في مجدها أيام الكرنك، ومن «أثينا» اليونان في عزها أيام الأكاديمية، واللوقيون، ومن «بغداد» العرب في عنفوانها أيام الرشيد والمأمون؟ إذن هلم إلى هذا العالم المسحور، عالم الكتب! أدر الغلاف هنا فأنت في طيبة أو أثينا، أو أدره هناك وأنت عندئذ في بغداد المجد والأبهة والجلال.
4
الكتاب لسان اليد، وسفير العقل، وعدة المعرفة، وهو صلة الناس عند الفرقة، وأنس المحدثين على بعد المسافة، هو مستودع السر وديوان الحضارة.
ولو اقتصر أمر الكتاب على لغة صاحبه لاقتصر مداه على داره وأهله، لكن جاءت الترجمة من لسان إلى لسان، فجعلت كل كتاب - كائنا ما كان مصدره - ملكا للبشر أجمعين. تعالوا معي سويعة نقضيها في «بيت الحكمة» الذي أنشأه المأمون في بغداد ليكون دارا للترجمة عن كل ثقافات الأولين. انظروا! هذه فلسفة اليونان وعلومهم قد جرت على الصفحات عربية، وتلك ثقافات مصر والهند وفارس قد جاءت لتكون منذ اليوم ملكا للعقل العربي يستخدمها كيف شاء؛ أخذا وتحويرا وتعديلا، فما هو إلا أن ولدت للدنيا ثقافة جديدة، وبالترجمة مرة أخرى نقلت هذه الثقافة العربية إلى أوروبا القرون الوسطى، فإذا بنهضة عندهم تشرق شمسها مؤذنة بحضارة جديدة، هي التي يعيش العالم اليوم في امتداد رحابها.
ولننظر نظرة خاطفة إلى القليل من حضارة عصرنا هذا الذي تحيا فيه الأمة العربية اليوم حياتها؛ لنرى كم هي مدينة فيه إلى الترجمة من اللغات الأخرى، كأنما تلك اللغات أرادت أن تقتص من العربية ما ترد به دينا على تلك اللغات لها منذ قديم، فماذا كنا نعلم في مدارسنا وجامعاتنا، وماذا كانت تنشر صحفنا وكتبنا ومجلاتنا، وكيف كانت تدار مصانعنا ومتاجرنا، بل كيف كانت لتقام لنا دول وحكومات ومؤسسات وضروب من الرياضة اللهو، إذا لم نكن قد ترجمنا إلى لغتنا حضارة عصرنا ممن شاء لهم القدر أن يملكوا اليوم زمامها؟
ولعل البذرة الأولى في ذلك كله، كانت هي التي وضعها في مصر رفاعة الطهطاوي فيما أسموه مدرسة الألسن، في الثلث الأول من القرن الماضي؛ فقد أغلق هذا الرائد باب معهده على طلابه، لا يشهدون نور الطريق قبل أن يترجموا عن الفرنسية والإيطالية كذا وكيت من عيون الحضارة الغربية، ولم تكن الترجمة عن الإنجليزية قد بدأت عندنا بعد. ومن ذا يتصور الطهطاوي في جلسته تلك يعب لنا من أفكار العصر، ولا يتذكر نظيره حنين بن إسحاق في جلسته المماثلة في «بيت الحكمة» أيام المأمون؟ وهكذا كان الكتاب نافذة أطل منها العرب القدماء على دنياهم الفكرية.
ثم كان نافذة أطلت منها أوروبا القرون الوسطى على دنيا العرب الفكرية، ثم بات لنا نافذة نطل منها بدورنا على دنيا الفكر في أيامنا هذه، وفوق أن يكون الكتاب نافذة للحضارات تنتقل الحضارات خلالها من مكان إلى مكان حتى تعم العالم كله، فالكتاب هو الذي تتجسد فيه الحضارات والثقافات جميعا. بماذا تجيب لو سئلت: أين حضارة الهند القديمة وثقافتها؟ إنك لا بد قائل عندئذ: هي في الماها بهاراتا واليوبانشاد. أو سئلت: وأين حضارة اليونان الأقدمين وثقافتهم؟ فسوف تجيب: هي في محاورات أفلاطون ومنطق أرسطو وأمثالهما. أو سئلت: أين أجد ثقافة العرب الأقدمين؟ فيكون الجواب شيئا كهذا: إنك واجد تلك الثقافة عند الخليل في القرن الثامن، وعند الجاحظ في القرن التاسع، وعند التوحيدي في القرن العاشر، وعند أبي العلاء أو الغزالي في القرن الحادي عشر. وهكذا لا سبيل إلى لقاء الثقافات إلا أن نراها مكثفة مبلورة في كتاب أو كتب.
وبعد هذا، فكيف يحاور رجال الفكر بعضهم بعضا على مبعدة بينهم من مكان أو زمان؟ إنهم يفعلون ذلك عن طريق الكتب، فها هو ذا أرسطو يكتب رسائله المنطقية في القرن الرابع قبل الميلاد، ويطلق عليها «الأورجانون» - أي آلة التفكير - فيرد عليه فرانسيس بيكون في القرن السادس عشر بعد الميلاد بكتابه «الأورجانون الجديد» ليدحض دعواه، وليقيم للناس مكان البناء الأرسطي بناء جديدا. وهذا هو الغزالي يكتب في مشرق الوطن العربي كتابه «تهافت الفلاسفة»، فيرد عليه ابن رشد في مغرب الوطن العربي بكتابه «تهافت التهافت» بعد ما يقرب من قرن كامل. والحق أنها لمن أمتع اللذائذ العقلية أن تعبر نهر الزمان مع هؤلاء المفكرين جيئة وذهوبا؛ لترى كيف يجادل بعضهم بعضا فوق رءوس الزمان، وبرغم حواجز المكان. نعم، هي من أمتع لذائذ الكتاب أن يفك عنك قيود الزمان والمكان، فتحس كأنك قد أصبحت مع اللامتناهي في عالم الخلود.
5
أما بعد، فمن الذي أنشأ لنا هذا الكائن العجيب ابتداء، ثم رعاه تطورا ونماء؟ وأعني الكتاب. هذا الكتاب الذي يحدد للرائي معالم الطريق الحضاري من أوله إلى آخره إذا كان له أول وآخر. فكر في أي حضارة شئت، أو في أي مرحلة من حضارة، تجدها بدأت بكتاب وانتهت بكتاب، ثم أخذت سبيل حياتها فيما بين الكتابين بمجموعات من كتب تبث فيها الأنفاس وتملأ خلاياها بالغذاء. سل: متى بدأت حضارة اليونان الأقدمين ومتى انتهت؟ الجواب: بدأت بإلياذة هومر، وانتهت بالأناجيل. ثم سل: متى بدأت أوروبا الحديثة ومتى انتهت؟ الجواب: بدأت بكتاب نيوتن في مبادئ الفيزياء، وانتهت بظهور فلسفة هيجل. وكذلك بدأ الإسلام بكتاب الله، وإن الله لحافظه بإذنه فلا ينتهي بكتاب سواه.
وأعود فأسأل من ذا الذي أنشأ لنا صناعة الكتاب، فلا يكون الجواب عندي إلا أن أقول: إنها الإنسانية بأسرها؛ فلقد ألفنا أن نرى الكتاب مطبوعا، فننسى أن مرحلة الطباعة هذه لا تزيد على جزء من عشرين جزءا هي تاريخ صناعة الكتاب. قبل الكتاب المطبوع كان النساخون ينسخون بأيديهم ما شاءوا هم، أو شاء لهم أصحاب المال أن ينسخوه لهم، وإنها لمقارنة ممتعة أن توازن بين العهدين في تاريخ الكتاب، ما بعد المطبعة وما قبلها؛ فقبلها ندر الغث وكثر النفيس؛ لأنهم - بالبداهة - لم يريدوا أن يضيع عناء النسخ فيما لا يستحق العناء، وأما بعد المطبعة فقد قل النفيس وكثر الغث، حتى لتبحث عن ذلك النفيس فتجده واحدا من كل ألف كتاب. وقبل المطبعة كانت المادة المكتوب عليها من المتانة بحيث تضمن لها ما يشبه الخلود، وأما بعدها فالورق كثيرا ما يفسد لأول شعاع من الضوء يقع عليه. وعرف الناس ذلك، فعوضوا عن سرعة الفساد بكثرة النسخ المطبوعة، كأنه عالم الذباب، يعوض ضعف البنية بسرعة التكاثر، ولكن هل كان من هذا التكاثر السريع بد؟ إن قراء الكتب اليوم لم يعودوا كما كانوا، قلة قليلة ممتازة، بل هم الكثرة الكثيرة التي تشمل الناس جميعا أو تكاد. لقد انقضى عهد كانت القدرة على الكتابة والقراءة فيه كالكهانة، مقصورة على من يستطيع بالكلمة أن يستنفر ملائكة الرحمة أو شياطين العذاب كلما أراد، وجاء عهدنا هذا وفيه الأمية ممحوة عن معظم أهل الأرض؛ فالكل قارئون؛ ومن ثم تفاوتت مادة القراءة في الكتب من البساطة البسيطة في أدنى الهرم إلى العمق العميق عند قمته؛ فليس هو من قبيل النقد الساخر أن نقول إن النفيس من الكتب قد بات كتابا واحدا من كل ألف كتاب، بل هو من قبيل الوصف الذي يقرن الظاهرة بعصرها. ولم يكن الكتاب ليؤدي دوره الحضاري خير أداء، لو ترك الجماهير القارئة في عصر الديمقراطية هذا بغير مقروء، متعاليا وحده هناك في صلف لا يخاطب إلا رءوس القمم، وكل ما يحق لنا أن نطالب به هنا هو أن يجود الكتاب عند كل طبقة قارئة بما يناسبها، كسنة الحياة في سلم الأنواع؛ فليس يعيب القط أن يكون قطا ولا يكون أسدا. وإنني لأذكر هذه الملاحظة عابرا لمن يتحدثون عن الكم والكيف في الكتب، بغير دقة ولا حساب.
6
وعند هذا الموضع من الحديث يجيء ذكر القراءة، فماذا تجدي خزائن الدنيا من الكتب إذا لم يكن لها قارئ؟ قال الله - عز وجل - لنبيه - عليه السلام -
اقرأ ... ، ثم جعل هذا الأمر قرآنا، بل جعله أول التنزيل ومستفتح الكتاب، إلا أن الشوط لا تتم مراحله إلا بقارئ؛ فأول الطريق فكرة، وثانيها قلم ولوح، وثالثها ضروري قارئ يتلو ما قد خطه القلم. كان الكتاب في كل عصور التاريخ هو الشرر الذي يلهب الأفئدة، فتثور لتغير الجانب القبيح من وجه الحياة بجانب أفضل منه. اقرأ تاريخ الثورات في شتى أوضاعها وكل ألوانها، تجد الثورة مسبوقة دائما بكتاب؛ وهل كانت الثورة الفرنسية - مثلا - لتشتعل بغير فولتير، أو الثورة الأمريكية بغير جون لوك وتومس بين؟ وهل كانت الثورات العربية ليضطرم لها أوار بغير حملة الأقلام في الكتب والصحف، أو بغير سادة الكلمة من خطباء المنابر ومن الشعراء؟ ولكن ذلك كله يحتاج بالضرورة إلى عين تقرأ، وأذن تسمع، وعقل يفهم ويعي.
على أن الكتب ليست كلها سواء، لا في الوسيلة ولا في الهدف؛ فقد تكون آنا وسيلة تسلية للمعتزل، ينشد بها أزجاء الفراغ، وآنا آخر للدعي المتظاهر، يريد أن يجد ما يزهي به في حلقات السمر، لكن أهمها ما يكون لزيادة القدرة في جانب من جوانب الحياة النافعة. وإن من الكتب - كما قال فرانسيس بيكون - ما يكفيه أن يذاق بطرف اللسان، ومنها ما ليس يحتاج إلى أكثر من أن يزدرد ابتلاعا، ولكن منها كذلك ما لا بد فيه من التمهل في المضغ الجيد والتمثل؛ ليسري غذاؤه في شرايين الجسم وخلاياه؛ فأما ما يكفيه أن يذاق بطرف اللسان، فهو الكتاب الذي تقرأ منه صفحة وتهمل صفحات، حين تراه يمط القول مطا سقيما، وأما ما يزدرد ابتلاعا، فهو الذي تتصفحه سريعا، فيقع بصرك منه على كل صفحة من صفحاته، ولكنه يقع في عدو سريع، وأما النوع الثالث الذي هو حقيق بأن يقرأ على مهل وفي يقظة واعية، فهو القلة النادرة التي من شأنها آخر الأمر أن تبدل وجه الأرض تبديلا.
7
نعم! لم تكن الحضارات كلها قائمة على كتاب، لكن أدومها أثرا وأرسخها جذورا هو ما كان؛ ففي المراحل الحضارية التي اعتمدت على روايات الرواة، لم يسلم الأمر من التشويه والضياع؛ هذا هو الشاعر العربي ذو الرمة يقول مخاطبا عيسى بن عمر (مولى خالد بن الوليد، وكان إماما في النحو واللغة): «اكتب شعري؛ فالكتاب أحب إلي من الحفظ؛ لأن الأعرابي ينسى الكلمة، وقد سهر في طلبها ليلته، فيضع في موضعها كلمة على وزنها، ثم ينشدها الناس ؛ والكتاب لا ينسى، ولا يبدل كلاما بكلام.»
واسمحوا لي أن أقرأ لكم أسطرا مما قاله عن الكتاب علم من أعلامه القدامى، وهو الجاحظ؛ فقد قال مما قال: ... إن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فرائده، وإن شئت ألهتك طرائفه، وإن شئت أشجتك مواعظه؛ ومن لك بواعظ مله، وبزاجر مغر، وبناسك فاتك، وبناطق أخرس، وببارد حار؟ ... من لك بشيء يجمع لك الأول والآخر، والناقص والوافر، والخفي والظاهر، والشاهد والغائب، والرفيع والوضيع، والغث والثمين؟ ... متى رأيت ناطقا ينطق عن الموتى، ولا ينطق إلا بما تهوى، آمن من الأرض، وأكتم للسر من صاحب السر، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة؟
ثم يخاطب الجاحظ رجلا عاب الكتاب، فيقول له:
عبت الكتاب، ولا أعلم جارا أبر، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع ... ولا صاحبا أظهر كفاية ... ولا أقل إملالا ... وغيبة ... وتصلفا وتكلفا ... من كتاب. ولا أعلم قرينا أحسن موافاة، ولا أعجل مكافأة، ولا أحضر معونة، ولا أخف مئونة، ولا شجرة أطول عمرا ... وأطيب ثمرة ... من كتاب. الكتاب صامت ما أسكته (بتشديد التاء المفتوحة)، وبليغ ما استنطقته؛ ومن لك بمسامر لا يبتديك في حال شغلك؟ ... ولا يحوجك إلى التجمل له؟ ... ومن لك بزائر إن شئت جعل زيارته غبا ... وإن شئت لزمك لزوم ظلك؟
والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بنانك ... ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك، وعرفت به في شهر، ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر.
والكتاب قد يفضل صاحبه ... فهو يقرأ بكل مكان، ويظهر ما فيه على كل لسان، ويوجد مع كل زمان، على تفاوت ما بين الأعصار، وتباعد ما بين الأمصار.
فمناقلة اللسان وهدايته، لا تجوزان مجلس صاحبه، ومبلغ صوته، وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويذهب العقل ويبقى أثره، ولولا ما أودعت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من عجيب حكمتها ، ودونت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها كل مستغلق كان علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لولا ذلك كله لخس حظنا من الحكمة، ولضعف سبيلنا إلى المعرفة.
ذلك هو الكتاب، وذلك هو شأنه، لكني أكرر القول هنا بأنه لا بد للكتاب من قارئ، ثم لا بد لهذا القارئ من فن القراءة. نعم؛ فالقراءة فن يكتسب بالدربة والمران، ورب قارئ لم يخرج من كتاب قرأه إلا بعنوانه، وحسنا إن فعل. أما القراءة بمعناها الصحيح، فهي أن تكون حوارا صامتا بينك وبين ما تطالعه. صور لنفسك دائما أن الكتاب بين يديك هو إنسان يحدثك بما يرى، فلا بد أن تنصت وتحسن الإنصات، لا ابتغاء تكذيبه دائما، أو تصديقه دائما، بل ابتغاء حوار سقراطي بناء بينك وبينه؛ لعلكما معا تصلان إلى صواب يطمأن إليه، فكما يقول بيكون: اقرأ لا لتنقض وتدحض، ولا لتصدق وتسلم بلا جدل، ولا لتزود نفسك بموضوعات تظهر بها على أقرانك في نقاش، بل اقرأ لتزن الأمور بميزان عدل بغية الوصول إلى حق.
ويجمل بنا في هذا الموضع أن نضيف تحذيرا لم يفت بيكون أن يضيفه وهو بصدد حديثه عن قراءة الكتب، وهو أن في الناس رجلين؛ فرجل غمس نفسه في دنيا العمل غمسا حتى لا تبقى له بقية لكتاب، وآخر استنفد حياته في مطالعة الكتب حتى لا تبقى له منها لحظة يقضيها في عمل مفيد، وكلا الرجلين على ضلال؛ لأن القارئ الدارس لا مندوحة له عن وضع دراسته موضع التنفيذ ليحد من شطحها في عالم الأوهام، وكذلك العامل صاحب التنفيذ والإنجاز لا بد له من دراسة يقتات منها فكرا ينفع دنيا العمل؛ فلئن كانت القراءة الدارسة تهذب من فطرة الإنسان جانحة بها نحو الكمال، فلا شك أنها هي الأخرى تتهذب بالخبرة العملية فتعلو بها منزلة وتسمو. إن القراءة لذاتها قد تبهر السذج البسطاء، وهي موضع ازدراء وسخرية من رجال العمل، وإذن فلا خير فيها لهؤلاء وأولئك جميعا، وإنما يفيد منها الحكماء لأنهم يستخدمونها في ميادين الحياة العملية. ولنلحظ هنا أن القراءة - مجرد القراءة - لا تعلمنا كيف ننقلها إلى دنيا العمل والسلوك، وإنما يحتاج الأمر إلى وقفة الحكماء فنهتدي إلى سواء السبيل؛ ذلك أن قدراتنا وهي على فطرتها كالأعشاب وهي على فطرتها، كلاهما يحتاج إلى تشذيب وتهذيب؛ فالأعشاب يشذبها مقص البستاني، وقدراتنا تهذبها القراءة الواعية.
اقرأ، وناقش ما قرأته مع نفسك أو مع سواك، ثم اخرج بما قرأت إلى عالم الأشياء. بالقراءة يحسن تقويمك إنسانا، وبالنقاش تستيقظ لمواضع النقص ومواضع الكمال، ثم بالتطبيق تبلغ بالفكرة حدود الدقة واليقين.
8
ولا ندع الحديث عن الكتاب والحضارة دون أن نذكر مرحلة حضارية أخيرة من مراحل سيره، مرحلة هامة وخطيرة، الله أعلم بمداها الذي يمكن أن تبلغه في مقبل الأيام، وتلك هي مرحلة التسجيل الصوتي للكتاب؛ فقد بات مألوفا اليوم أن يسجل المؤلف كتابه على أشرطة، حتى ليجوز القول إننا ربما نكون مقبلين على إنشاء مكتبات بأسرها قوامها تسجيلات صوتية، وعندئذ ننتقل من شوط ثقافي كانت فيه كتابة وقراءة، فيد تكتب بالقلم، وعين ترى ما قد كتب لتقرأه، إلى شوط جديد يسوده شريط واستماع، فتحل الأذن محل العين، وبعد أن كنا نقرأ للكاتب بأصواتنا نحن، نترك الكاتب ليقرأ لنا بصوته، وهنا يتحول معنى الأمية، فلا يكون الأمي هو من لا يعرف القراءة والكتابة، بل هو من حيل بين سمعه وبين الشريط المدار.
لكنني أعتقد عقيدة راسخة بأنه إذا كان من النافع أن يضاف إلى الكتاب وسائل أخرى، فسوف يظل مدار الثقافة العليا الكتاب؛ فأولا: سيظل الكتاب وعاء للثقافة الموروثة التي لا ثقافة بغيرها. وثانيا: سيظل الكتاب مجالا وحيدا للعلوم المتقدمة التي تتحدث بلغة الرياضة ورموزها، ويكفي هذان العاملان فيصلا في الأمر حاسما.
ومع ذلك فلا بد من التطور بالتأليف - وخصوصا في مجال الأدب - مع مقتضيات هذا العصر، عصر التقنيات (التكنولوجيا)، فقد بات حتما على كثير من الكتاب أن يوائموا بين إنتاجهم، وبين وسائل النشر الجديدة؛ السينما، والراديو، والتلفزيون، وهذا هو بالفعل ما يحدث . ولعلنا نذكر كيف أن أدباء الجيل الماضي وما قبله، حين رأوا الصحافة وسيلة وحيدة للنشر، واءموا بين إنتاجهم الفكري وبين المقالة الصحفية، بحيث جاء الجزء الأكبر من مؤلفاتهم مجموعات من مقالات نشرت في الصحف ثم جمعت! فلا عجب أن نرى أدباء هذا الجيل يكتبون ما يكتبونه ونصب أعينهم وسائل النشر الجديدة، ومع ذلك فالكتاب ما زال أملهم في البقاء.
ومن نتائج العصر التقني هذا أيضا، تصوير الكتب الضخمة في مصورات ضئيلة الحجم، حتى لينحصر المؤلف الكبير فيما لا يزيد حجما عن علبة الكبريت الصغيرة. وفي حديث لي ذات يوم مع مدير مكتبة الكونجرس في واشنطن - ولعلها أضخم مكتبة في الدنيا بعد مكتبة المتحف البريطاني بلندن - أنبأني أن كتب مكتبته تلك كلها، يمكن ضغطها في مصورات لا تشغل أكثر من غرفة واحدة، ولكن ما نختصره من مكان الكتب، نطلب أكثر منه للأجهزة التي لا بد منها عندئذ؛ ليتمكن القارئون بها قراءة تلك المصورات؛ ومعنى ذلك أن الكفة ما زالت راجحة في صف الكتاب.
هكذا نرى أن الكتاب والحضارة طرفان يتبادلان الأثر والتأثير، حتى ليمكن القول بأنه لا كتاب بلا حضارة، ولا حضارة بغير كتاب.
محاكمة الأدباء
الحاجز الذي يفصل اليقظة عندي عن الحلم، كثيرا جدا ما يكون حاجزا رقيقا شفافا، كأنه حاجز من الزجاج الصافي الذي تحسبه العين هواء وما هو بهواء؛ إذ كثيرا ما يختلط في ذاكرتي الحلم باليقظة، فلا أدري - فيما بعد - أكان المشهد الذي أمام ذاكرتي مأخوذا من الحياة الواعية، أم كان مأخوذا من حلم رأيته في نعاس، ولست أعلم حتى هذه الساعة إن كان مرد ذلك إلى ضعف الإدراك اليقظان، أم كان مرده إلى قوة الحلم ونصوعه! والأغلب في تلك الحالات التي يشتد فيها وضوح الحلم، أن أكون قد أويت إلى فراشي والذهن مشغول بفكرة وردت خلال ساعات النهار.
ولقد حدث منذ قريب أن قرأت لمتحدث حديثا أخذ يلقي فيه الأحكام على طائفة من الناس، هل يسمح لهم بالدخول في دنيا الأدب أو تغلق دونهم أبوابها، فكأنني رأيت ذلك المتحدث وقد أخذ بمفاتيح الجنة في يديه، ليرضى عمن يشاء وليغضب على من يشاء، وكنت على علم منذ أمد ليس بقصير أنني ممن لا يظفرون عنده بالرضا، وكان ذلك قبل أن أجرى حديثه ذاك في أنهار الصحف، ومع ذلك - وأقول الحق - فلم أزدد له إلا حبا، لكن جاء حديثه ذاك عن غيري من رجال الأدب، فشغلني، خشية أن يكون الرجل على صواب، فسألت نفسي (وكنت في لحظة السؤال قد أويت إلى الفراش)؛ ترى ما معيار الرجل في فهمه للأدب؟ ولم يكد يأتيني الجواب بأن معياره هو إما أن تكون كاتب قصة ومسرحية فتكون أديبا، وإما ألا تكون فلا تكون، ودخلت في نعاس، وجاء الحلم ليستأنف الحوار.
رأيتني في محكمة، وكان صاحبنا هو الذي اتشح بوشاح القضاء، وجلس على منصة القاضي، ولم يكن على المنصة قاض سواه، لكن جلس إلى يمينه رجل، وإلى يساره آخر، عرفت فيما بعد أن الجالس إلى اليمين مكلف بإعداد فرائض الاتهام، وأن الجالس إلى اليسار واجبه أن يسجل في دفاتره نصوص المجادلات في أثناء المحاكمة، والذي عجبت له حقا هو أن المتهمين الذين أجلسوا وراء القضبان، كانوا خليطا عجيبا من قدماء ومحدثين ومعاصرين، فتركت كل ما حولي وأخذت أتفرس في وجوههم وثيابهم وحالاتهم التي أستشفها من ملامحهم، والطريقة التي جلس بها كل منهم؛ لأنهم لم يكونوا في ذلك سواء. ولكثرة ما خالطت هؤلاء الناس فقد عرفتهم، أو عرفت معظمهم، برغم طول الغياب بالنسبة إلى بعضهم، عرفت منهم - في يقين - الجاحظ، والتوحيدي، والهمذاني، وفرانسيس بيكون، ومونتيني، وأديسون، وأولدس هكسلي، وطه حسين، وميخائيل نعيمة، وأمين الريحاني ... ولم يكن هؤلاء كل من جيء بهم إلى المحاكمة، بل كان معهم أفراد آخرون لم أذكر أني رأيتهم قبل ذلك.
جيء بهؤلاء إلى المحاكمة أمام القاضي الذي بدأ الجلسة بكلمة رفع بها شعار الأخلاق في دنيا الأدب؛ فللأخلاق في عالم الأدب والفن أصول قد تختلف عن قواعد الأخلاق السارية بين الناس في حياتهم العامة. ولما كان لكل مجموعة عرفها التاريخ من القواعد والقوانين مبدأ عام تنبع منه تلك المجموعة، فالمبدأ العام في دنيا الأدب هو القصة والمسرحية، فمن لم يحترم هذا المبدأ المقدس، ثم اجترأ رغم ذلك فعد نفسه - أو عده الناس - أديبا، كان مزورا، وحق عليه العقاب الذي نصت عليه مواد القانون في حوادث التزوير، وهؤلاء الناس الذين جمعتهم شرطة «الآداب» اليوم للمحاكمة، هم جميعا من المزورين الذين دخلوا جنة الأدب بغير حق.
ونودي على المتهم الأول: عمرو بن بحر الجاحظ! وجاء الرجل من قفص المتهمين ليمثل أمام القاضي، وقرأ أمامه المكلف بقراءة الاتهامات، قرأ تهمته - والتهمة متشابهة بالنسبة إلى الجميع؛ إذ جميعهم دخل رحاب الأدب وليس في يمينه قصة ولا في يساره مسرحية - وكان قارئ الاتهام - والحق يقال - على شيء من الدقة؛ لأنه استثنى من أعمال الجاحظ عملا واحدا (هو البخلاء)، وأما ما عدا ذلك فهو من باب التزوير.
القاضي :
أنت يا أبا عمرو متهم بالتزوير؛ لأنهم قد أدخلوك في زمرة الأدباء عطفا عليك بسبب شيخوختك من جهة، وبسبب الطريقة المحزنة التي لفظت بها أنفاسك الأخيرة من جهة أخرى؛ فالمحكمة إذ تذكر لك شرف أن تموت تحت أحمال الكتب التي وقعت على جسدك العليل وهو راقد في فراش المرض، فإن المحكمة برغم ذلك لا تجد لك ما يبرر أن يحشروك في جماعة الأدباء بغير حق.
الجاحظ :
لكنني يا سيدي القاضي كتبت كتاب «الحيوان».
القاضي :
هذه هي تهمتك الأولى، ما للحيوان والأدب؟
الجاحظ :
إنها موسوعة ضخمة يا سيدي القاضي، لم تقتصر على الحيوان برغم عنوانها؛ ففيها ما شئت من ...
القاضي :
هل ورد فيها تحليل لشخصيات «سوسو» و«شوشو» و«ميمي»؟
الجاحظ :
فيها يا سيدي القاضي تحليل للكلب والديك و...
القاضي :
الكلب والديك؟!
الجاحظ :
نعم يا سيدي، لقد أفضت القول في تحليل الكلب والديك، حتى استغرق مني ذلك ما يقرب من كتاب كامل، يمكن أن تطلقوا عليه بلغة عصركم هذا اسم «قصة» أو «رواية» أو «حكاية»، أو ما شئتم.
القاضي :
إذن فقد فاتك المعنى الحقيقي للأدب!
الجاحظ :
لا، لا أبدا ، لقد أقسمت اليمين أمام المحكمة بأن أقول الحق كل الحق، ولا شيء إلا الحق، والحق يا سيدي القاضي هو أن معنى الأدب لم يفتني ، ويكفي أن أكون قد كتبت في ذلك كتاب «البيان والتبيين».
القاضي :
أفهمني يا رجل! ليس لهذه الأشياء رخصة الإبداع الأدبي، ثم إنها فوق ذلك ينقصها الصلة بالجماهير!
الجاحظ :
أستأذنكم يا سيادة القاضي في أن أقول إن أحد المستشرقين قد فطن فيما كتبته إلى أشياء لم يفطن لها - لسوء الحظ - أحد من النقاد العرب، وهو أن محاورة الكلب والديك في كتابي «الحيوان»، وإن أوهمت القارئ بأنه كلام من خصائص الحيوان، فهي في الحقيقة رمز إلى أوضاع سياسية في العصر الذي عشت فيه، فإذا لم يكن للجماهير شأن بذلك، فماذا إذن يكون شأنها عندكم؟
القاضي :
يظهر أنك كثير اللجاجة مولع بالجدل، وقد رأت المحكمة أن تخفف عنك الحكم، تأسيسا على براعتك في تصوير البخلاء من جهة، وعلى سوء حالتك الصحية من جهة أخرى، لكن يجب عليك أن تعلم أن كل هذه الأعمال التي خدعت بها تاريخ الأدب، من بيان وتبيين إلى حيوان وغير ذلك، ليست من الأدب في شيء. نادوا المتهم الثاني، وليكن هذه المرة من المتهمين الخواجات. (فنودي على فرانسيس بيكون.)
نائب الاتهام (هامسا إلى القاضي) :
أقترح أن ينادى معه ميشيل مونتيني. أولا: ليكون بيكون ممثلا للمزورين من أدباء الإنجليز، وليكون مونتيني ممثلا للمزورين من أدباء الفرنسيين. وثانيا: لأن كلا منهما كان - مثل سيادتكم - قاضيا. وثالثا: لأنهما معاصران. ورابعا - وهو الأهم - لأنهما من كتاب المقالة التي يزعمان أنها من الأدب. (ونودي ميشيل مونتيني، ووقف إلى جانب فرانسيس بيكون.)
القاضي (بصوت مسموع للحاضرين) :
لا بأس، لا بأس.
القاضي :
أنتما مزوران بالميزان الأدبي الصحيح، أغويتم المؤرخين حتى وضعوكما في جماعة الأدباء، مع أن أحدا منكما لم يكتب لا القصة ولا المسرحية، ماذا تقول في ذلك يا فرنسيس؟
بيكون :
لعل سيادة القاضي يعلم عني أنني رجل يبدأ معالجة القضايا بالجانب السلبي لينهي تلك المعالجة بعد ذلك بالجانب الإيجابي من القضية المطروحة، وأستأذن سيادتكم في الرد على سؤالكم بهذا الترتيب نفسه؛ فمن الناحية السلبية يا سيادة القاضي، أقول: لو صح معياركم لما كان للإنجليز أدب قبل القرن الثامن عشر، ولما كان لكم أنتم - وأعني الأمة العربية - أدب قبل القرن العشرين.
القاضي :
كيف ذلك، ألم يكن في إنجلترا أدب قصصي وأدب مسرحي قبل ذلك؟ اترك الحديث عن الأمة العربية، فغيرك من العرب أقدر منك على ذلك.
بيكون :
صحيح أن الأدب المسرحي قديم في التاريخ، وأما القصة يا سيادة القاضي فلم يكن لها وجود قبل صموئيل رتشاردسن في منتصف القرن الثامن عشر، كانت أول قصته بالمعنى الصحيح هي قصته «باملا، أو الفضيلة تلقى جزاءها»، لكن كان هنالك - برغم ذلك - أدب إنجليزي يتمثل في أشكال مختلفة، منها المقالة الأدبية.
القاضي :
أتريد أن تجعل المقالة ضربا من الأدب؟
بيكون :
أريد أن أجعل المقالة «الأدبية» ضربا من الأدب، وما كل مقالة هي مقالة أدبية.
القاضي :
وماذا تعني بقولك «الأدبية»؟
بيكون :
شرح ذلك يطول يا سيادة القاضي، لكني أقول بصفة عامة إن جوهر الأدب واحد مهما اختلفت أشكاله، وجوهره هو الكشف عن حقيقة الإنسان كما تتبدى تلك الحقيقة في نوازعه الدينية، شريطة أن نصب ما نقوله في شكل ملائم؛ لأن القول السائب ليس أدبا، حتى وإن تحدث عن تلك النوازع الدفينة في الإنسان، وأنا أزعم يا سيادة القاضي، ويؤيدني المؤرخون للأدب في هذا الزعم، بأن مقالاتي كانت من الصنف الأدبي، الذي ينصب في شكل، والذي يدور حول حقيقة الإنسان التي تخفى عن الأبصار العابرة.
مونتيني :
إن بيكون يا سيادة القاضي يتحدث عنا معا.
القاضي :
هذا زعم مرفوض، إننا لا نريد لدنيا الأدب أن تدب فيها الفوضى، فلكل مجال ميزانه، وميزان الأدب قصة، والمحكمة تحكم عليكما بالشطب من سجلات التاريخ الأدبي.
نائب الاتهام (هامسا للقاضي) :
لماذا لا نضم إليهما أديسون؟ فهو واقف هناك في قفص الاتهام، وتهمته التهمة نفسها، إنه كاتب مقال، ويزعم أن مقالاته من الأدب.
القاضي :
طبعا، طبعا، يعتبر حكم الشطب من سجلات التاريخ الأدبي نافذا كذلك على أديسون، وعلى كل من كتب مقالا وزعم أنه أديب. (وهنا دار حديث خافت بين القاضي ونائب الاتهام، وكلاهما ينظر إلى الساعة ويرى أن وقت الانصراف قد أزف، ويقترح نائب الاتهام رفع الجلسة لتستأنف في الغد، ويسمع القاضي وهو يقول - موجها بصره نحو الهمذاني - كنت أريد أن أقضي اليوم في ذلك الهمذاني الذي قدم إلى الناس ألفاظ مرصوصة ذات بريق، وأسماها «مقامة»، وظن أن وضع الميم في مقامة، مكان اللام في مقالة، ينجيه من الحساب، لكنهما - القاضي والنائب - اتفقا آخر الأمر.)
القاضي :
ترفع الجلسة، وتستأنف صباح الغد.
وصحوت من حلمي آسفا أشد الأسف أنه لم يطل حتى أسمع ما يقال في بقية المتهمين، وأهم من ذلك أن أسمع ما يجيب به هؤلاء المتهمون، لكنني أسرعت إلى تسجيل ما دار، قبل أن يفلت من الذاكرة، والأحلام - كما هو معروف - سريعة الزوال.
بين الخاص والعام
إنني لا أكتب حرفا في هذه المساحة الورقية من صحيفة الأهرام إلا وفي ذهني معنى أتشبث به حتى يظل قائما أمام عيني، وهو أن هذه الورقة الممنوحة لقلمي ليست ملكا لصاحب هذا القلم يكتب عن حياته الخاصة ما يشاء، وإنما هي ملك للشعب الذي هو في حقيقة الأمر مالك للصحيفة؛ وإذن فلا يجوز لصاحب القلم أن يشغلها، ولا أن يشغل أي جزء منها، بأمور تخصه هو، إلا إذا جاءت أموره الخاصة هذه بمثابة المنظار الذي يمكن للشعب القارئ أن يرى خلاله ما يجب أن يراه من الشئون العامة.
على أن التفرقة بين ما هو خاص خصوصية مطلقة، وما هو خاص خصوصية تشف عما وراءها من شئون عامة ومشتركة بين الناس، ليست في كثير من الأحيان مكشوفة واضحة؛ إذ هنالك بين الطرفين هامش عريض تتداخل فيه المعاني والنوايا تداخلا يكسوها بالضباب ويصيبها بالغموض، حتى لا تدري وأنت تقرأ أكان الكاتب داعيا لنفسه، أم كان داعيا لفكرة عامة.
إن من خصائص الإنسان، من حيث هو إنسان يختلف عن النبات والحيوان، لأنه لا يقتصر في حياته على أن يحيا ، أنه لا يكتفي بأن تعمل أجهزته البدنية حتى ولو جاء عملها في أكمل صورة للكائن الحي، بل تراه يعكس فكره على تلك الحياة، ومن هذه اللفتة منه إلى حياته يجيء الأدب بصفة خاصة، ولعل في هذا نفسه معيارا دقيقا لنا نميز به بين كتابة الأديب، والكتابة التي تصف الحوادث كما تقع دون أن تكون ذات الكاتب جزءا واردا في سياق الحديث، وقد يضخم هذا الجزء حتى يصبح هو المحور الرئيسي البارز، وقد يضؤل حتى يكاد يخفى عن البصر.
على أن الكاتب الأديب وهو يمزج ذاته بموضوعه مزجا واضحا أو خافيا، في صحيفة يملكها الشعب وليست من ملكه الخاص، قد يتعرض للاتهام بأنه إنما استغل الملكية العامة للدعاية لنفسه، ولكني برغم هذه الخطورة سأتوكل على الله وأعرض حالة خاصة من أجل الصالح العام.
لقد شرفتني الدولة في أول هذا العام، فمنحتني جائزة الدولة التقديرية في الأدب، وكانت شرفتني قبل ذلك بخمسة عشر عاما حين منحتني إذ ذاك جائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة، وها هو ذا عام كامل قد كاد ينقضي بعد أن منحت الجائزة التقديرية في الأدب، وسؤالي هو: أفلم يكن من حق القراء على أصحاب النقد الأدبي أن يكشفوا لهم المبررات التي من أجلها منح هذا الرجل ما منح من شهادة بالتقدير؟ فإن رأى رجال النقد الأدبي أن مثل هذا التقدير قد وضع في غير موضعه، كان من حق القراء عليهم كذلك أن يعلموا من أين جاء الخطأ.
لكن ماذا نقول وقد صمتت الصحف صمتا عجيبا، فلم تذكر في ذلك سطرا، لم تذكر كلمة، لم تكتب حرفا واحدا؛ فلو استثنيت مقالة تفضل بها الأستاذ جلال العشري في مجلة الكاتب، فأحسبني صادقا إذا قلت إن دنيا النقد الأدبي عندنا لم تتحرك منها شعرة لتؤدي واجبها نحو جمهور القارئين. لماذا؟ أيكون السر هو في أنني لم أعد العدة بنفسي، راجيا هذا طالبا من ذلك؟ لكن إذا كانت حياتنا الأدبية والثقافية بحاجة إلى هذا الطلب وذلك الرجاء، فكيف تكون الحال مع من ذهبت بهم الأيام إلى بطون التاريخ، ولم تعد لهم ألسنة تطلب وترجو، إلا صفحاتهم التي كتبوها وتركوها في ذمة الناقدين؟!
هي مسألة قد تبدو خاصة كما ترى، لكن كيف أقنع القارئ بأنني - والله - ما كتبت مما كتبت حرفا إلا وفي ذهني حياتنا الثقافية ونصيبها من الصحة والمرض. ليس لي في إثبات صدقي إلا شهادة العارفين بحقيقتي وحقيقة الحياة التي أحياها؛ فلي من الاكتفاء الذاتي - بحمد الله - ما يجعلني في غنى عن التسول بكل أبعاده؛ التسول الذي يطلب المال بغير حق، والتسول الذي يريد الثناء بغير حق، والتسول الذي يسعى إلى جعجعة الدعاية بغير حق. وإني لأقول الحق إذ أقول إنني دهشت حين علمت بأن الدولة قد كرمتني بهذا الشرف العظيم، وكان مصدر دهشتي أنني لم أقرع الأبواب، ولا رسمت الخطط، ولا تحرك سلك تليفوني من مكانه. إنني أبيت في الدار وأصحو في الدار، وقضيت السنين وأنا أنام بعد عمل، ولا أستيقظ إلا على عمل، ومع ذلك جاءتني شهادة الدولة تسعى إلي في عزلتي؛ فكان ذلك عندي أبلغ بيان بأن الدولة تشهد للعاملين، فهل كان مثل هذا هو ما صنعه النقد الأدبي ورجاله؟
قال لي في ذلك قائل ساخر: يا صاحبي إن لكل جنة رضوانها، كان عليك أن ترضي النقاد ليفتحوا لك أبواب جنتهم! قلت: لكن الأمر لا يخص شخصا، وإنما هو خاص بحياتنا الثقافية كلها. إنه لولا النقد النزيه الذي يقدمه أصحابه لوجه الله والأدب والفن والفكر، لما عرفنا شيئا عن شاعر أو كاتب أو فنان أو فيلسوف؛ فهؤلاء جميعا إنما يعرفهم الناس ويعرفون أقدارهم تأسيسا على ما يكتبه النقاد والشراح والمعلقون؛ والحياة الثقافية في شعب من الشعوب لا يكون لها تاريخ إلا بفضل ما يكتبه هؤلاء؛ إذ لو اقتصر الأمر على الناتج الأدبي نفسه، لكان بين أيدينا مجموعات من دواوين الشعراء وكتابات الأدباء وأعمال الفنانين، دون أن يعلم الناس أين في هذه الأشياء كلها ما هو أعلى وما هو أدنى، ولا علموا كيف ترتبط حلقاتها بعضها ببعض فيتكون لها تاريخ يقص قصتها.
ليست مسألة خاصة - إذن - هذه التي أعرضها، بل هي مسألة قد تؤثر في تاريخنا الأدبي كله خلال الفترة التي نعيشها، وهي فترة نعيشها بغير نقد نزيه. إنه لمن الظريف الذي أرويه، هذه الحادثة التالية: لقد علمتني الأيام ألا أهدي كتبي لمن يظن أنني أهديها ابتغاء المنفعة أو الزلفى، لكنني في الوقت نفسه حريص على أن أرد الجميل بمثله، فإذا أهداني كاتب كتابا، انتظرت أول فرصة يظهر لي فيها كتاب لأرد له الصنيع بمثله، وعلى هذا الأساس ذهبت بكتابين كانا قد صدرا لي في وقت واحد، ذهبت بهما إلى كاتب اختصته الصحيفة التي يعمل فيها بجزء من صفحاتها، فظن سيادته أنني إنما أردت منه التعليق والتنويه، وحسبني ممن يسعون إلى انتشار الذكر بمثل هذه الألاعيب البهلوانية التي تراها شائعة في الصحف والمجلات، وكاد سيادته أن يقول لي بملامح وجهه إنه لن يذكر عني شيئا في صحيفته.
لقد وردت إلي رسالة منذ أيام قلائل، أرسلتها من الإسكندرية الأديبة سعاد فوزي، تشكو فيها أصدق الشكوى من فقر حياتنا الأدبية والفكرية فقرا يترك الناس في تيه من مشكلاتهم الثقافية، فلا يسمعون عنها ما يرضي عقولهم أو يهذب أذواقهم، وتقترح الأديبة أن تقام ندوة تليفزيونية أسبوعية تطرح فيها تلك المشكلات، على أن يتناولها أعلامنا المشهود لهم بصدق الحكم وسداد النظر تناولا جادا؛ حتى يتبين الناس الرشد من الغي. وأضافت الأديبة إلى ذلك قولها: ليست الحضارة في كثرة المال واتساع الغنى، بل الحضارة سلوك وأسلوب تتميز به الشعوب إذا هذبتها الثقافة، والحضارة في نهاية أمرها هي حياة تتوافر فيها للإنسان كرامته، وتتيح له ظروف العيش أن ينمو في عقله ووجدانه. وتسأل الأديبة في ختام رسالتها: متى نؤدي للناس هذه الأمانة، إذا لم نؤدها في هذه الأيام التي نريد لها أن تشهد ولادة الإنسان الجديد؟
وكانت الأديبة على حق؛ فهنالك في حياتنا الثقافية قصور وتقصير، كثيرا جدا ما نشغل أنفسنا بما لا يستحق أن ننشغل به، ونسكت - عامدين أو غير عامدين - عما يجب النظر إليه والكتابة فيه؛ فما الذي يسير سفينتنا على هذا الضلال كله وبهذه العماية كلها؟ إنك لو قلبت الصفحات الأدبية - في الصحف اليومية أو في المجلات - التي كانت تصدر عندنا منذ نصف قرن، كالسياسة الأسبوعية والبلاغ الأسبوعي والرسالة والثقافة وغيرها، لوجدتها كالعين الساهرة التي لم يفلت منها حدث في دنيا الفكر والأدب، عندنا وعند غيرنا، إلا وقدمته إلى الناس في إسهاب أو في إيجاز بحسب ما كانت تقتضيه الحال، ومن تلك الصفحات الأدبية تستطيع حقا أن تخرج تاريخنا الأدبي في تلك الحقبة من الزمن، ولكن هب خمسين عاما أخرى قد انقضت منذ الآن، وأراد قارئ المستقبل أن يعود إلى صحافتنا الأدبية - من صحف يومية ومجلات - ليستخلص تاريخنا الأدبي الذي نعيشه الآن، فهل هو واجد مثل تلك العين الساهرة على الرجال والأحداث؟ كيف وفي مستطاع هذه الصحافة الأدبية أن يمر أمام بصرها كاتب قدرته الدولة بأعلى ما عندها من وسائل التقدير في دنيا الأدب، ولم تذكره تلك الصحافة الأدبية بسطر واحد، بكلمة واحدة، بحرف واحد؟
ومرة أخرى وأخيرة أؤكد للقارئ صادقا، بأنها ليست مسألة خاصة هذه التي عرضتها، وإن بدت في ظاهرها كذلك، ولكنها مشكلة عامة أضرب بها في صميم الحياة الثقافية التي نحياها هذه الأيام.
بغير وجهة للنظر
كان فكري وفكر صديقي قد تقاربا إلى الحد الذي جعل كلينا يأنس إلى صحبة الآخر؛ ليجد فيه مرآته العقلية، ولم يكن تقاربنا الفكري دمجا لنا في خط واحد، بل كان كالتقارب الذي يحدث بين لاعبين، يتلاقيان ليقذف كل منهما الكرة في اتجاه مضاد للاتجاه الذي يقذف زميله الكرة فيه، فكل من اللاعبين يحتاج إلى الآخر لتتم بينهما اللعبة، وهي لا تتم على الوجه الأكمل إلا إذا تقاربت قدرتاهما؛ لأن القدرتين إذا ما تفاوتتا تفاوتا بعيدا، لم يكن هنالك تبادل بين اللاعبين يطول أمده ساعة أو نحوها، وإنما يكون هنالك صارع وصريع ينتهي بينهما اللقاء لحظة وقوعه.
كان بيني وبين صديقي ذاك اختلاف بعيد في وجهات النظر، لكن التقارب في القدرة العقلية هو الذي كان يكفل لنا أن يطول بنا الحوار الذي نتقاذف فيه الأفكار وأضدادها، فيخرج كلانا من الحوار وقد ازداد عمقا واتساعا. لا، لم نكن متشابهين في التخصص العلمي؛ فمجاله الطب، ومجالي الفلسفة، لكن التشابه بيننا يجيء من الفوقية الثقافية التي تكاد عندها تختفي الفوارق الفواصل بين فرع من التخصص وفرع، وإن هذه الفوارق لتزداد حدة وظهورا عند من ضاق أفقه فلم يعد يرى إلا جدران تخصصه العلمي. وكثيرون جدا هم أولئك الذين ضاقت آفاقهم على هذا النحو الغريب، فتكون النتيجة أن يضعف إدراكهم في ميدان تخصصهم العلمي ذاته؛ فالأمر هنا هو كالأمر الذي أشار إليه الشاعر الإنجليزي رديارد كبلنج حين قال مستحثا مواطنيه على السفر في أرجاء العالم؛ إذ قال: إن الإنجليزي الذي لا يعرف من دنياه إلا بلاده إنجلترا، لا يعرف إنجلترا نفسها. وهو يريد بقوله هذا أن ينبه الناس إلى أن الشيء إنما يعرف بمقارنته بسواه. إنك تستطيع أن تعرف كل تفصيلة من تفصيلات دارك من الداخل، ولكنك إذا لم تخرج عن نطاق دارك لتعرف أين تقع هذه الدار من القاهرة، وأين تقع القاهرة من مصر، وأين تقع مصر من العالم، كنت خليقا أن تضل عند أول خطوة تخرجك من بين جدرانك.
لقد استطردت فأطلت.
أردت أن أقول إنني قد التقيت بصديقي الذي أروي قصته، لا في محابس التخصصات العلمية، بل التقيت به في الأبهاء العلوية التي تجاوز الفواصل بين الغرفات وتغطيها جميعا بسقف واحد، ومع ذلك فقد كان اللقاء بيننا غالبا ما يتم على أرض الفلسفة؛ لأن الفلسفة - بطبيعتها - هي نفسها الملتقى الذي يجتمع عنده جذور المعرفة على اختلاف صفوفها، فكنت أنا أقرب من صديقي صلة بفرع دراسته، فكانت هنالك علاقة قوية بين مهنتي في الصباح محاضرا في الفلسفة، وأحاديث فراغي في المساء، وبرغم ذلك فقد كان صديقي من سعة الاطلاع، وحدة الذكاء، والقدرة على ربط الأفكار بعضها ببعض، بحيث وجدت في حديثه لفتات جديدة في ميدان الفلسفة ذاته، دون أن ندخل معا في التفصيلات التي عادة ما تسم التخصص الجامعي - أو قل التي تصمه - فتمتص منه عذوبة الرحيق.
إن الشجرة حين تخضر أوراقها وتينع، لا تدري من أين جاءتها الخضرة اليانعة، إنها لا تعي الارتواء الذي يرتوي به الجذع ويوزع به الماء على أليافها، وكذلك يكون الأثر المتراكم من لقاءات الأصدقاء حين يلتقون على حوار فكري خصب مثمر، فليس مثل هذا الحوار جدالا فيحاول به كل من الطرفين أن يهدم منافسه، وإنما هو محاورة تنتقل بها الكرة من زميل إلى زميل في طريقها إلى الهدف؛ فهي محاورة يتعاون بها الزميلان على البناء، وليست هي بالأداة التي يعملان بها على الهدم والتحطيم، وإنني لعلى يقين من أن لقاءاتي المتكررة مع صديقي ذاك طيلة أمد يقرب من عشرين عاما، قد أينعت أوراقي بالخضرة الحية، التي إذا استطعت أن أرى ثمارها فقد لا أستطيع أن أتعقب خطوات نهائها.
لم نكن متشابهين في أسلوب الحياة؛ فهو أحرص مني عليها، يخشى الموت أكثر جدا مما أخشاه، ويخاف الفقر أكثر جدا مما أخافه، ويسعى إلى زيادة الكسب وتكديس المدخر أكثر جدا مما أسعى، وكان بحكم مهنته الطبية يجد طريق الكسب ميسرا أمامه، ولم يكن الغريب أن تنهال عليه الأموال ألوفا ألوفا، ولكن الغريب هو أن تتراكم الألوف فوق الألوف، ثم لا يغير ذلك من حرصه شيئا، فلربما اشتد حرص الشباب في أعوام شبابه؛ لأنه لا يدري هل يجيئه الغد بمال بدل المال الذي ينفقه اليوم؛ وبهذا الخوف من المجهول لا يكون في حرص الشباب ما يدعو إلى العجب. وأما الشيخ الذي يذهب من عمره أكثره وأفضله، ولا يبقى منه إلا أقله وأرذله، والذي يجد المال قد أصبح أكداسا بين يديه، ثم يظل يزن القرش بالميزان نفسه الذي كان يزنه به في أول الطريق، فذلك هو موضع العجب.
كان ذلك هو موقف صديقي الذي أثار في عارفيه مثل هذا العجب، لكنه كان ينظر إلى ماله نظرته إلى حياته - وقد قالها لي مرة - إن ماله هذا هو حياته نفسها بعد أن ترجمت تلك الحياة إلى عمل ، ثم ترجم ذلك العمل إلى مال، فمن توقع منه أن يفرط في ماله، فقد أراد له أن يهدر حياته الماضية كلها هباء.
كان صديقي مصابا بداء الجمع - وما جمع المال إلا حالة واحدة من حالات أخرى كثيرة - فهو يجمع المال لذات المال، ثم يجمع الكتب لذات الكتب، ويجمع الأفكار لذات الأفكار، وها هنا كانت قوته، ولكن ها هنا أيضا كان ضعفه؛ لأنه إذا كان المال المتجمع الذي لا يجد سبيلا إلى الإنفاق هو في حقيقته كالعضو الأشل؛ يحتفظ بصورة العضو السليم لكنه لا يؤدي أداءه، فيفقد بذلك مبرر وجوده؛ فكذلك الأفكار التي تتجمع دون أن تتحول إلى قدرة على تشكيل الحياة العملية، ودون أن تكون عند صاحبها وجهة معينة للنظر إلى الكون، وإلى الإنسان، وإلى العلم والفن، فهي عندئذ موسوعة حافظة، لكنها ليست بذات مهمة تؤديها في الحياة اليومية الجارية؛ فقد يلجأ إليها الناس ليستمدوا منها المعارف الجزئية، وأما هي نفسها فقائمة هناك على رفوفها كقطع الجماد.
وهكذا كان صديقي واسع العلم بغير وجهة للنظر؛ ولذلك لم يكن هناك ما يمنعه من أن يدافع اليوم عن مذهب كان يهاجمه بالأمس؛ لأن المذهب في حد ذاته لا يعنيه، وإنما الذي يعنيه هو أن تزداد حصيلته الفكرية بكل ما تشتمل عليه من أضداد ومتناقضات؛ فلو أردت أن توجز الوصف لصديقي هذا، لقلت إنه ملتقى مجموعتين حصلهما بكده وكدحه طوال السنين؛ مجموعة أموال أودعت الخزائن، ومجموعة أفكار أودعت الدماغ؛ فلا المجموعة الأولى تتحول إلى وسائل عيش، ولا المجموعة الثانية تتبلور في وجهة للنظر، وكان حرصه على الأولى شبيها بحرصه على الثانية؛ فهو يستعرض الأولى كل يوم بالعد والحساب، ويستعرض الثانية كل ليلة بالكلام والشرح والحوار.
فهل تصدق أن تنزل به النازلة في المجموعتين معا في لحظة واحدة؟ فإذا المال كله يتبدد، لا أقول بين عشية وضحاها، بل أقول في عشية لم تشهد ضحاها، وإذا أفكاره كلها حبيسة رأسه لا ينطق عنها لسان!
فلقد فوجئت ذات صباح بالنبأ أن فلانا قد أصابه شلل عطل الجانب الأيمن من جسده وأخرس اللسان! وما هي إلا أن فتحت الخزائن، وغاض المال كما يغيض الماء في كثبان الرمل، والرجل راقد على سريره ينظر ويرى، لكنه لا يلوح بذراع ولا يردع بلفظ؛ لأن الذراع شلاء، واللفظ مكتوم.
طافت برأسي صورة صديقي - عليه رحمة الله - فوجدت أني إذا غضضت النظر الآن عن ماله المدخر وما أصابه في غفلة عين، فإن جانب الأفكار التي كانت تجمعت عند صديقي بغير وحدة توحدها في وجهة واحدة للنظر، إنما هي صورة مجسدة لحياتنا الفكرية في مجموعها؛ فلو أخذنا كل فرع من فروع الحياة الثقافية عندنا على حدة، وجدناه على قدر من القيمة لا بأس به! فرجال السياسة لهم في كل يوم إضافة تثري الفكر السياسي، ورجال الفنون لهم في كل يوم معرض لا يخلو من القيمة الفنية، ورجال الأدب ذوو قدرة مشهود لها في الشعر والقصة والمسرحية والمقال، ورجال الدراسات الجامعية ملئوا حياتنا بمكتبة علمية في شتى الفروع.
لكن انظر إلى الميدان نظرة الطائر، أعني نظرة تجمع المتفرقات في موقف واحد، تجد عسيرا عليك أن تلمح الطابع الخاص المميز الذي يجيز لك أن تقول عنه إنه طابعنا الثقافي في عصرنا الراهن؛ فلا غرابة - إذن - أن تفتح صحيفة الصباح - كل صباح - فكأنما أنت في بابل؛ تعددت فيها اللغات، بل تعددت فيها الحضارات، لا يفهم فيها أحد عن أحد إلا قليلا؛ إذ ربما وجدت في صفحة كلاما يتسق مع ما كان يدور في أحاديث القرن العاشر وما قبله، وفي صفحة أخرى كلاما يتسق مع ما يدور الآن في أحاديث أوروبا وأمريكا! وكان ذلك نفسه هو الشأن مع صديقي في حياته الثقافية؛ فلم يكن غريبا منه أن يتحدث الليلة حديث الأقدمين، وأن يتحدث غدا حديث المعاصرين، وأن يكون في كل من الحالتين متحمسا لما يتحدث به؛ لأنه في حياته الثقافية حبيس لحظته، فكان كأنه عدة رجال في رجل واحد.
فأنت واجد في فكرنا السياسي - إذا أخذت بما يدور في المجالس الخاصة، لا ما ينشر على الملأ - أقول إنك واجد في فكرنا السياسي كل ما تشتهي العقول من مذاهب يعارض بعضها بعضا، وأنت واجد في فكرنا الفلسفي - كما هو قائم في قاعات الدرس في الجامعات، وكما هو منشور في الكتب المعروضة في المكتبات - كل ما يطوف ببالك من صنوف الرأي والاتجاه، وأنت واجد في الأدب ما يجري مع القديم وما يقفز إلى أحدث الجديد، أنت واجد في حياتنا هذا كله فلا تدري أين نحن في حقيقتنا الراهنة من هذه المتنوعات.
نعم إنك لتجد اختلاف الرأي في كل مجتمع متحضر، لكنه اختلاف يدور معظمه في إطار هذا العصر وحضارته، أما الاختلاف الذي أعنيه عندنا فهو بين ثقافات عصور متباعدة؛ مما يستحيل معه أن تتكون لنا وجهة واحدة للنظر.
التوتر الدولي ومهمة الأديب1
1
العلاقة بين الكاتب وعصره ظاهرة لا تخطئها النظرة السريعة؛ فآثار الأدب والفكر في عصور التاريخ كلها كفيلة أن تمدنا بأي عدد شئنا من الأمثلة التي تؤكد الرابطة الوثيقة بين تلك الآثار وروح العصر الذي كتبت فيه، ولم يكن هذا عن عمد من أصحابها، ولكنه أمر يتم لأنه من المحال أن يتم سواه؛ فعناصر الحياة قائمة حول الكاتب، وهو بعد ذلك حر في أن يتناولها على أي وجه يختار.
بماذا تغنى هومر إذا لم يكن قد تغنى بما يشغل قومه من بطولات وأمجاد؟ وماذا أنشد الأقدمون من شعراء العرب إن لم يكونوا قد أنشدوا لقبائلهم بما تهتز له قلوبهم من شئون وأحداث؟ لماذا كتب سرفانتيز عن الفرسان ساخرا إن لم يكن قد كتب ذلك في عصر آلت فيه فروسية العصور الوسطى إلى زوال؟ لماذا جاءت مسرحيات شيكسبير وكأنها الشباب العارم ينتفض بالفتوة أكثر مما يعنى بالصقل والتجميل، إن لم تكن قد جاءت في عصر المغامرة وازدهار ربيع الحياة بعد شتاء القرون السوالف؟ ولماذا كانت المسرحيات الفرنسية في القرن السابع عشر مصقولة متألقة مرتبة الأسطر والحروف، إذا لم تكن قد كتبت في عصر القصور المزخرفة المزدانة؟ لماذا اجتمعت الأقلام كلها في أوائل القرن الماضي على التغني بالطبيعة في ريفها ومراعيها إذا لم تكن الحياة المدنية الصناعية الناشئة عندئذ قد أفزعتها؟ هل كان يمكن لدستويفسكي وتولستوي أن يكتبا ما كتباه إلا في روسيا إبان القرن التاسع عشر؟ وهل هو من قبيل المصادفة العمياء أن يتآزر الكتاب في المائة العام الأخيرة على الكشف عن علل المجتمع وعيوبه، التي كان من جرائها أن عاش سواد الناس في بؤس ومعسرة؟ أم أن ازدياد الاهتمام بأفراد الشعب في المرحلة الأخيرة من مراحل التاريخ هو الذي لفت الأقلام هذه اللفتة الجديدة؟
إنه في الحقيقة لمن تحصيل الحاصل أن نقول عن الكتاب إنهم متصلون دائما بعصورهم التي يعيشون فيها، فما عصورهم إلا مجموعة من ناس وأحداث، وإن هم إلا فريق من هؤلاء الناس، وإن أحداثهم إلا جزء من تلك الأحداث، ولا فرق في الجوهر بين أن يؤيد الكاتب عصره أو يعارضه، فكلا الموقفين اتصال؛ فهذان تورجنيف ودستويفسكي يتعاصران في روسيا القرن التاسع عشر، ومع ذلك فقد جاهد الأول لمحو القيم كانت تجعل من روسيا بلدا شرقيا يختلف عن غربي أوروبا، على حين كان الثاني يتعلق بكل ما هو روسي أصيل. وكذلك كان كبلنج وبرنارد شو يتعاصران في إنجلترا وهي في أوج عزها، ومع ذلك فقد كان الأول يقرع لإمبراطوريتها الطبول، على حين كان الثاني يسخر منها ويتمنى زوالها.
2
إنه لا مناص لكتاب عصرنا من المشاركة في روح عصرهم إيجابا أو سلبا، وفي العصر مشكلات تعددت ألوانها، لكنها على اختلافها تجتمع كلها في جذور أصيلة قليلة، لعل أهمها هو قلق الإنسان على مقومات إنسانيته، وأيها أولى بالتحقيق إذا لم يكن في حدود المستطاع تحقيقها جميعا؛ أتكون حرية الفرد أولى حتى إن أدت هذه الحرية إلى تفاوت الأفراد، أم تكون مساواة الأفراد أولى حتى إن أدت هذه المساواة إلى انتقاص من حرية الفرد؟ أيجعل الإنسان ولاءه للوطن أسبق من ولائه للإنسانية جمعاء، أم يكون ولاؤه للإنسانية أولا وللوطن ثانيا؟ هذه وغيرها مشكلات انتهت بالعالم إلى حالة من التوتر لا يكاد يفلت منه إنسان واحد، وسؤالنا الآن هو: ماذا يستطيع الكتاب أداءه إزاء هذا التوتر؟
ونحن نستمد جوابنا عن هذا السؤال من واقع التاريخ الأدبي، فلسنا نطالب الكاتب بما ليس يتفق مع طبيعة فنه كما نستشهد عليها بشواهد التاريخ، وفي رأينا أن هذه الشواهد كلها تدل على أن الأديب الحق - سواء كان من أدباء الخيال المبدع، أو من أصحاب الدعوات الفكرية - إنما يقوم برسالته الإنسانية حين يجعل «الإنسان» - لا هذا الفرد أو ذاك، ولا هذه الأمة أو تلك - بل يجعل الإنسان هدفه الأسمى، ينظر إليه خلال الموقف الجزئي الذي يتخذه موضوعا مباشرا؛ فالأديب حر في اختيار موضوعه واختيار طريقة أدائه، وهو حر، بل هو مضطر - إذا كان من أدباء الخيال - إلى تلوين أثره الأدبي بلونه الذاتي الخاص الذي يستمده من روح قومه وجو إقليمه كما يستمده من ذات نفسه، ولكنه في الوقت نفسه يلمس موضوعه تلك اللمسة الإنسانية العامة التي تجاوز به حدود الإقليم الخاص والظروف الخاصة، بحيث يثير الاهتمام في كل إنسان مهما يكن مكانه وزمانه.
أديب الخيال، كالشاعر وكاتب القصة والمسرحية، لا مندوحة له بطبيعة الحال عن اغتراف مادته من خبراته الخاصة التي يستمدها من نفسه ومن محيطه، ولكنه لا يرقى إلى مراتب الخلود إذا هو لم ينفذ خلال الخبرة الجزئية المقيدة بظروف زمانه ومكانه إلى حيث الحقيقة التي تجاوز تلك الحدود؛ فهذا هومر قد صور آخيل في فتوته وفحولته وفي غيرته ونخوته، صوره في نسيج من تفصيلات محلية إقليمية لها زمنها الخاص ومكانها الخاص وأساطيرها الخاصة، لكن هل يمكن لقارئ في أي بلد وفي أي أن يطالع هذه الصورة فتصرفه ظروفها الخاصة تلك عما تنطوي عليه من جوهر الإنسان حين يكون على نضارة الفطرة وتلقائية السلوك؟ كذلك صور شيكسبير هاملت في نسيج من تفصيلات حياته الفردية الخاصة، فما كل إنسان يقتل عمه أباه ليظفر بأمه فيثأر لأبيه من عمه ومن أمه، ما كل إنسان يحيط به ما قد أحاط بهاملت، ولكن هل يمكن لقارئ في أي بلد وفي أي عصر أن تصرفه هذه الظروف الخاصة عن رؤية الإنسان متمثلا في هاملت، حين يستيقظ في الإنسان ضميره فيهم بالعمل كما يملي عليه الضمير، لكنه مقيد بثقافته التي تظهر له من الأمر وجهين لا وجها واحدا، فيأخذه التردد؟ وصور دستويفسكي إليوشا في محيط من الظروف الخاصة، فله أب غير آباء الناس، وإخوة غير إخوتهم، وحياة غير حيواتهم، لكن هل يمكن لقارئ مهما يكن زمانه ومكانه أن يطالع صورته دون أن يلمس فيها جوهر الإنسان حين يطهر قلبه وتنفذ بصيرته ويعف لسانه؟
في هذا الجانب الإنساني من أدب الخيال يلتقي الناس بعضهم ببعض التقاء إنسان بإنسان، فليكن الكاتب قوميا إقليميا كيف شاء، بل ليكن فردا مستقلا بذاته عن قومه وعن إقليمه كيف شاء، وليختر من موضوعاته ومن أشخاصه ما شاء ومن شاء، ولكنه في هذا كله سينفذ إلى قلوب الناس من كل قوم وفي كل إقليم. إن اختلاف الأوطان عندئذ، واختلاف الثقافات والمذاهب وطرائق العيش، سينمحي كله ويزول؛ لتبرز صورة «الإنسان» جوهرا خالصا من لفائفه التي كانت تخفيه عن أعين تنظر إلى التباين الظاهر فتظنه تباينا أصيلا.
من ذا يستطيع أن يفرق في حنان الأمومة بين أم هنا وأم هناك مهما يكن لون البشرة التي تكسو ذلك الحنان؟ من ذا يستطيع أن يفرق في الطفولة اللاهية بين طفل هنا وطفل هناك، أو أن يفرق في جهاد الكادحين بين كادح هنا وكادح هناك، وأن يفرق في قلوب العابدين بين عابد هنا وعابد هناك، وفي لهفة المحبين بين عاشق هنا وعاشق هناك؟ كلا، إنه «الإنسان» هنا وهناك، وبقلم الكاتب الموهوب يبرز جوهر الإنسان، فيلتقي الناس على صفحاته إخوانا من كل لون وجنس؛ فهذا طاغور شاعر الهند يغني بوجدان هندي فيطرب لغنائه أهل الأرض جميعا، لا فرق بين حاكم ومحكوم، وهذا سومرست موم يكتب عن المتصوف الهندي فيجعل منه قديسا يمس القديس في كل إنسان، وتكتب هاريت ستو
Hariette Stowe
وهي أمريكية بيضاء عن زنجي، فتصوره في طيبة قلبه تصويرا يثير حب الإنسان للإنسان؛ فقلوب الناس ونفوسهم لا تتلون بلون البشرة التي تكسوها؛ فليس على الأديب إلا أن يمس بقلمه صميم الإنسان، وهو بذلك وحده كفيل أن يؤاخي بين الناس أجمعين.
3
وإذا كان أديب الخيال يؤاخي بين الناس بما يعرضه عليهم من صور فردية جزئية ينظرون إليها وخلالها، فإذا هي أمام أعينهم عدسات يرون بها حقيقة الإنسان وقد تبلورت وتجمعت بعد أن فرقها الأفراد في مختلف البيئات أشتاتا، إذا كان هذا هو ما يصنعه أديب الخيال، فأديب الفكر يحقق الغاية نفسها، ولكن بطريق آخر؛ فها هنا ينعكس الوضع، فبدل أن ينظر إلى الكل الواحد خلال الجزء، يبدأ بالكل يحلله ويشرحه ويصفه ويصوره لينتقل بعد ذلك إلى المواقف الجزئية والأشخاص الفردية فيطبق عليها ما قد انتهى إليه؛ فلئن كان أديب الخيال يبدأ بالعاطفة لينتهي إلى طمأنينة العقل، فأديب الفكر يبدأ بالعقل لينتهي إلى رضا العاطفة، أو إن شئت فقل إن أديب الخيال يتخذ من الجمال وسيلة، ومن الحق غاية، وأما أديب الفكر فيتخذ من الحق وسيلة، ومن الجمال غاية؛ فالطريق بينهما واحدة يقطعها الأول من اليمين إلى اليسار، ويقطعها الثاني من اليسار إلى اليمين.
ويضل كاتب الفكر طريق الصواب لو أنه اصطنع ما يصطنه كاتب الخيال من نظرة ذاتية فردية جزئية إلى الحق الموضوعي الشامل. وإذا كان العالم اليوم متخما بمشكلاته، ثم إذا أراد الكتاب المفكرون أن يعالجوا الأمر بأقلامهم، فسبيل ذلك هي أن ينظروا إلى الإنسان وحقيقته أولا، بغض النظر عن أقوامه وأفراده؛ لينتهوا إلى ما يجوز لهؤلاء الأقوام والأفراد أن يأخذوا به عن غير تعصب وهوى. ولو جاز لنا في هذا السياق أن نضرب المثل بما قد حدث في تاريخ الفلك، لقلنا إن كاتب الفكر لا يجوز له أن يتخذ من نفسه ومن قومه محورا يدير حوله بقية أجزاء العالم، كما كان الفلكي قبل كوبرنيق يتخذ من الأرض مركزا تدور حوله سائر أجرام السماء؛ لأنه لو فعل فسدت الحقيقة أمام عينيه وشاهت. وأولى من هذه النظرة البطليموسية أن ينظر الكاتب الفكري إلى مشكلات العالم التي يتناولها ببحثه نظرة كوبرنيقية تضعه هو نفسه وتضع وطنه وقومه وإقليمه مع سائر الناس والأقوام والأوطان في صورة واحدة؛ ليتمكن من رؤية الحقيقة التي هي موضوع بحثه من جميع أطرافها؛ وبمعرفة الحق الكامل يتحرر الإنسان من أوهامه، وقد تكون هذه النظرة المنزهة عسيرة على البشر، لكن في سبيل هذا المثل الأعلى سرق برومثيوس شعلة البرق من الآلهة لتكون للإنسان قبسا يهتدي به في طريقه الفكري العسير.
هل كان يفكر سقراط في المشكلات الإنسانية لنفسه ولقومه، أو كان يفكر للإنسان؟ لقد جعل قانون بلده موضع نقده وهجومه، ولما حكم عليه ذلك القانون نفسه بالموت، ثم عرض عليه تلاميذه سبيل الفرار، أبى وفرق بين وقفة ذاتية ينظر منها إلى الأمر نظرة شخصية، ووقفة أخرى موضوعية علمية يحلل فيها الفكرة بغض النظر عما يعود عليه هو من ثواب أو عقاب. إن جون لوك الإنجليزي، وجان جاك روسو الفرنسي، وتومس بين الأمريكي، لم يكتبوا في الحرية السياسية من وجهة نظر مواطنيهم، بل كتبوا فيها من وجهة نظر الإنسان، فكان لهم الخلود، والغزالي المسلم حين كتب في القرن الحادي عشر عن تحرير الإنسان لروحه من وساوس الشك، لم يكتب لنفسه ولا لقومه، بل كتب للإنسان، وهكذا فعل القديس أوغسطين وتوما الأكويني، ثم هكذا فعل سبينوزا وكانط، كل هؤلاء قد تناولوا مشكلة الإنسان كيف ينبغي له أن يحيا، فلم يكتبوا لأنفسهم ولا لأقوامهم، بل كتبوا للإنسان في كل مكان وزمان، ومن كل جنس ودين.
ليس عمل الكاتب الفكري وعظا خلقيا، بل عمله هو تحديد القيم الإنسانية العليا التي على أساسها يمكن الحكم بالصواب أو بالخطأ على مواقف السلوك الجزئية؛ فهكذا كانت رسالة المفكرين الإنسانيين منذ سقراط إلى برتراند رسل وسارتر، بل هكذا كانت رسالة الديانات جميعا على اختلافها، وما الكاتب الملهم إلا نبي صغير أوحي إليه برسالته؛ فإن أخلص التعبير عن رسالته تلك، وهي دائما رسالة تسعى إلى خلاص الإنسان مما هو محيط به من شر ونقص، أقول إن الكاتب إذا أخلص فله بعد ذلك أن يتصور القيم الإنسانية العليا كما تشاء له فطرته وبصيرته، فلن يجرؤ أحد على القول بأنه اختار هذا ولم يختر ذاك؛ فليجعل مثله الأعلى حياة نظرية أو حياة عملية، ليجعله حياة مطمئنة وادعة أو حياة تحف بها المكاره والخطوب، ليكن مثله الأعلى حياة العلم بحثا عن الحق، أو حياة الفن نشوة بالجمال؛ هو حر فيما يختار، ما دامت الإنسانية هدفه، والنزاهة رائده.
إن كاتبا سياسيا مثل مكيافلي خدم أميره ولم يخدم الإنسان، وإن شاعرا مثل كبلنج قد أنشد لقومه ولم ينشد للناس من سائر الأقوام؛ فأمثال هؤلاء هم الذين يزيدون أزمات الإنسان حدة، ويشعلون الكراهية نارا، فمستقبل الإنسان مرهون بفكره، وفكره هو ما تجري به أقلام كتابه، فإما أسالت تلك الأقلام مدادا للحياة، أو أسالت دما.
أخوان
هما وليم جيمس وهنري جيمس. أما أولهما (1842-1910م)، ففيلسوف لم يقتصر على أن دعا إلى المذهب البراجماتي في وطنه الأمريكي، بل عمل على نشره في العالم كله، حتى أصبح موضع الدراسة في الجامعات عند من يأخذ به ومن لا يأخذ على السواء. وأما ثانيهما (1843-1916م)، فأديب قصاص، هو من أعلام القصة الحديثة لا في الولايات المتحدة وحدها، بل في الأدب الحديث كله، والشقيقان - كما ترى - يكادان يتعاصران في العمر بداية ونهاية، وتعرضا لنفس المؤثرات إبان النشأة الأولى، فماذا تراه أقرب إلى الرجحان من أن يكونا على مذهب واحد في النظر إلى الحياة؟
لكن مسافة الخلف بينهما كانت كأبعد ما تكون المسافة بين رجال الفكر، حتى لو كان أحد الطرفين قد نشأ وتربى في شرق الدنيا وكان الطرف الآخر قد نبت في غربها، لكنهما أخوان شقيقان من أسرة أمريكية واحدة، فأيهما نقول عنه إنه يمثل الفكر الأمريكي والنظرة الأمريكية؟ اللهم إن هذا لمثل واحد يكفي لتعليم الروية والتحفظ عندما نصدر الأحكام بالجملة على الأمم التي قد يبلغ سكان الواحدة منها عشرات من ملايين البشر، خلقهم الله ليكونوا أفرادا متميزا بعضهم من بعض.
وأول ما يلفت النظر في اختلاف الشقيقين أن أكبرهما وليم قد أحب الإقامة في بلده، وآثر ثقافتها، وامتلأ بروحها، على خلاف الشقيق الأصغر هنري الذي رحل إلى أوروبا، وعب من ثقافتها، وأبى أن يضيق أفقه بحيث ينحصر في حدود بلاده، فكأنما وقف الأخوان ظهرا لظهر، يتجه أحدهما شرقا إلى أوروبا، ويتجه الآخر غربا إلى رقعة البلاد الأمريكية نفسها، ولقد ظهر هذا الاختلاف جليا عندما وجه وليم إلى أخيه هنري أمر النقد وأقساه، فقال عن فنه القصصي إنه سطحي تنقصه الحياة وعمقها! والحق أنهما نظرتان مختلفتان إلى الحياة، أما وليم فهو لا يريد أن يفرق بين التفكير العقلي والحياة العملية - وهو صميم الفلسفة البراجماتية - فما جدوى أن يسبح الإنسان مع تأملات ليس من شأنها أن تترجم إلى عمل منتج ناجح؟ فإذا وجدنا حركة عقلية خالصة، كلها منطق نظري صرف لا شأن له بأوضاع الحياة العملية، قلنا عنها إنها ناقصة، والذي ينقصها هو الحياة، وهذا هو ما قاله وليم عن فن أخيه؛ ذلك أن أخاه كان يؤمن بشيء آخر، وهو أن النشوة الحقيقية التي ليس عند النفس ما هو أمتع منها، هي نشوة المغامرات العقلية، فتلك هي حياة الثقافة الرفيعة، فمشكلات المثقف مشكلات عقلية، وكذلك حلولها حلول عقلية، وفي أمثال هذه المشكلات وحلولها لب الحياة في أعلى مدارجها، وإن شئت فانظر إلى رجال من أمثال سقراط وأفلاطون وكانط وهيجل، ماذا كانت مشكلاتهم وكيف كانت حلولها؟ ألم تكن عقلية كلها، ثم ألم يكن في مغامراتهما العقلية لباب حياتهم، بل لباب الحياة الإنسانية عندما تبلغ أعلى ذراها؟
لكن أين وليم من هذه النظرة؟ إنه اختلاف بين الشقيقين بلغ الجذور في معنى الحياة نفسها، أيكون في الفكر أم يكون في العمل؟ وترتب عليه اختلاف في القيم الأخلاقية؛ فمن شأن الفيلسوف الذي يربط الحياة بالعمل أن ينظر إلى الفضيلة فيراها متمثلة في تحقيق الأهداف وبلوغ الغايات، فما كان محققا لأهداف الإنسان كان فاضلا، وإلا فهو مضيعة إن لم يكن تعويقا لحركة السير إلى أمام؛ أو بعبارة أخرى إن مثل هذه النظرة تساير نظرية التطور في مجراها، فما عساه أن يحقق للإنسان تطورا كان هو الفضيلة، والعكس صحيح كذلك. وأما أديبنا هنري فشتان عنده بين صفات الشخصية الرفيعة وبين الأهداف العملية وتحقيقها. كلا، فللأخلاق الفاضلة جمال في ذاتها لا شأن له قط بما يحققه أو لا يحققه من أغراض العيش اليومي؛ فليس الوفاء بالعهد، وليست التضحية، وليس احترام المرء لنفسه وللآخرين، وليست الأريحية والكرم والنجدة، ليس هذا كله جميلا بسبب نفعه، بل هو جميل في ذاته وكفى.
ولقد كان لهذه النظرة الخلقية صداها في فلسفة وليم وفي أدب هنري. أما الأول فكما يعرف القراء عن فلسفته البراجماتية يجعل معنى الفكرة - أي فكرة - هو ما تؤديه، والفكرة التي لا تؤدى لا تكون ذات معنى على الإطلاق. وأما الثاني فقد جعل مدار فنه القصصي لا مجرد رسم أشخاصه، بل إن يحمل القارئ حملا على تقديره لهذا الشخص وازدراء لذاك على أساس جمال شخصيته في الحالة الأولى وحقارتها في الحالة الثانية، دون أن يكون للنجاح العملي المادي أثر في التقدير. إن العملية الفنية عنده ليست في أن يغترف الأديب من مجرى الحياة كما اتفق ثم يصب ما اغترفه على الورق، فلا يفرق بين ماء وطين، بل لا بد له من النظر فيما قد امتلأ به الدلو من مقومات الحياة العملية ليميز فيه بين ما يجب وما لا يجب، والتمييز بطبيعة الحال إنما يكون على أساس مبدأ عند الأديب، وهكذا لا مناص من أن يعبر الأديب في شخصياته عن وجهة نظره الخلقية كما يعبر في طريقة أدائه عن قدرته الجمالية على حد سواء.
هما شقيقان، وهما من قادة الفكر والأدب في العالم أجمع، لكن أحدهما يجعل الفكر عملا، والآخر يحيل العمل إلى فكر، غير أنهما مع هذا الاختلاف متفقان في الأغوار السحيقة التي لا تصور أعماق الفكر الأمريكي وحده، بل تصور الفكر العالمي كله إبان النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإبان هذا النصف من القرن العشرين، وأما هذه الأغوار العميقة فهي أن ينظر الإنسان إلى حقيقة الحياة، بل حقيقة الطبيعة نفسها - على أنها تيار متصل قد يبدو للنظرة السطحية مفككا في أجزاء منفصلة، لكنه نهر موصول. هكذا قال وليم جيمس عن تيار الشعور عندما وضعه في كتابه مبادئ علم النفس، وهكذا قال الفيلسوف الفرنسي برجسون عندما تكلم عن مجرى الحياة الدافق السيال، وهكذا وصفه الأديب الفرنسي بروست في قصصه، وهكذا أيضا نظر إليه هنري جيمس، بل هكذا ظهر الرأي في فن الانطباعيين الذين يصورون لك ما يصورونه وكأنه سيال واحد من ضوء، لا تفصل الأشياء المقررة فيه فواصل حادة تجعل الشجرة شجرة على سبيل التحديد والسحاب سحابا، بل جاء الفن الانطباعي ليصل الشجر بالسحاب في متصل واحد؛ لأن الحياة والطبيعة هما هكذا. وإن شئت فقارن هذه النظرة بما سبقها عندما كان الظن أن الإدراك مؤلف من نقاط مفككة، ومن هذه الوحدات الإدراكية تتألف الأفكار وتتألف الأشياء.
إنك لتقرأ لوليم جيمس نظريته فيما يسميه ب «الخبرة الخالصة»، أو مجرى الشعور المتصل، وتقرأ لأخيه هنري جيمس تصويره للعالم بما فيه من شخصيات وحوادث، فتحسب أن الأخ الأديب قد صب في القصة ما كان أخوه الفيلسوف قد أخذ به من الوجهة العلمية النظرية، وهو أن حقائق الحياة المرئية ليست وحدات في فراغ، بل هي كقطع الفلين سابحة على سطح مائي واحد، هو مجرى الشعور. انظر إلى طائر وهو يقف على هذا الغصن مرة، وعلى ذلك الجدار مرة، أتقول إن حياته هي هذه الوقفات أم لا بد لك أن تصل الوقفات بما يربطها في حياة واحدة، وما يربطها هو عملية الطيران من وقفة إلى وقفة؟ ومثل وقفات الطائر حقائق العالم المرئي، فطيرانه يمثل مجرى الحياة المتصل الذي بفضله ترتبط تلك الحقائق في قصة واحدة وكون واحد.
والعقل عند الأخوين الشقيقين ليس لوحة سلبية قابلة لما ينطبع عليها، بل هو فعال يختار هذا ويدع ذلك من ألوف المؤثرات التي يتعرض لها، وفي فاعلية العقل يقع صميم الفكر المعاصر، لا أقول الفكر الأمريكي الذي إليه ينتسب الشقيقان فحسب، بل الفكر العالمي كله. ولما كان الفرد من الناس إنما تتكون شخصيته من الأشياء التي يختارها بعقله الفعال طوال حياته، ثم لما كانت العناصر المختارة يستحيل أن تتشابه كل التشابه في فردين، كان وليم وأخوه هنري، بل كان الفكر الفلسفي والأدبي المعاصر على اتفاق من حيث تمايز الأفراد واستقلالهم الشخصي.
قرصنة في بحر الثقافة
تصوير رمزي لجانب من حياتنا الثقافية
لم أكد أصدق سمعي، حين أخذ صديقي عالم الآثار المصرية يقرأ لي نصا قديما من لفائفه البردية، كتبه كاتبه فيما يقرب من القرن الحادي عشر قبل الميلاد؛ ليصف به حياة الثقافة والمثقفين في عصره، وصفا لو أزلت منه أسماء الأعلام ومعالم الأحداث، لتضع مكانها أسماء المعاصرين وأحداثهم، لظننته قد كتب عن عصرنا الراهن هذا بعلمائه وأدبائه. نعم، لم أكد أصدق سمعي لأنني - وقد كنت أعلم أن خصائص الشعوب تخترق حجاب الزمن، فتصل حاضر الشعب بماضيه - لم أكن أعلم، مع ذلك، أن هذه الخصائص العنيدة المكافحة في سبيل بقائها تمتد رقعتها وتتسع لتشمل صفات كنت أحسبها من التوافه التي تظهر وتختفي مرهونة بظروفها، فليس عجيبا أن يجيء الأحفاد أشباها لأجدادهم في احتفالات الميلاد وفي شعائر الموت؛ لأن هذه أمور موصولة بشرايين الحياة نفسها، أما أن يتشابه أولئك بهؤلاء في الطرق التي يتخاطف بها العلماء والأدباء ثمرات جهودهم، بحيث يكون الحاصدون أناسا غير الزارعين، فذلك حقا هو موضع العجب؛ لأنه من التوافه التي لم يكن ليجدر بالزمن الوقور الجليل أن يحفظها ويصونها لتنتقل على ظهور الأجيال من الجد إلى الحفيد.
وكاتب البردية التي أخذ صديقي عالم الآثار يفك لي رموزها، هو كاهن من معبد آمون في مدينة طيبة، والظاهر أنه كان ذا مكانة مرموقة بين كهنة المعبد؛ لأنه يتحدث حديث الواثق بنفسه، تسري في كلماته رنة العظماء حين يتحدثون إلى من يصغرونهم منزلة وقدرا. اسمه - فيما أذكر - حريحور، أو ما يجري مجرى هذا الاسم في الوزن والنغمة، وقد بدأ رسالته هذه بذكر المكان الذي خطها فيه، فإذا هو قد كتبها في مركب أقلع به من طيبة إلى مصر السفلي؛ إذ هو في طريقه إلى البحر الكبير، قاصدا إلى بيبلوس على الشاطئ اللبناني، في مهمة لم يفصح عنها.
أخذ الكاتب يدون تفصيلات من حياته اليومية؛ ماذا كان يأكل، وأين ترسو به السفينة، وكيف يعترك النوتية آنا ويسمرون في صفاء آنا، ثم انتقل إلى تسجيل ما أراد تسجيله ليروي لنا عن معركة كلامية دارت بينه وبين كاتب قليل الشأن، كان لا يزال من السلم الكهنوتي في أدنى درجاته، ومع ذلك اجترأ هذا الصغير على مجادلة حريحور الذي كان يعلوه في مراتب الكهنة بدرجات كثيرة.
ففي أمسية مقمرة من أماسي طيبة الجميلة في شهر يقع في مستهل الصيف، كان حريحور - وهو كاتب البردية يروي فيها عن نفسه - جالسا في بهو مكشوف من أبهاء المعبد، وإذا بشبح إنساني يقترب منه في سكون خاشع، حتى إذا ما واجهه استأذن في الجلوس؛ لأن عنده أمرا يريد أن ينفضه عن نفسه ليستريح، وما هو إلا أن أشار له الكاهن الشيخ ليأذن بجلوسه، وينحني تجاهه انحناءة خفيفة ليسمع، فطفق الكاهن الشاب - ولم يذكر اسمه من أول البردية إلى آخرها، مكتفيا بالإشارة إليه إشارات لا تخلو من معاني التصغير والتحقير - طفق الكاهن الشاب، في لعثمة أول الأمر، وفي طلاقة بعد ذلك، طفق يشكو من أن حريحور قد نسب إلى نفسه قصيدة من الشعر، وتلاها على ملأ من الناس وكأنها من صنعه، فلم يشأ الشاب - وهو ناظم القصيدة الأصيل - لم يشأ أن يعترضه أمام الناس، وها هو ذا قد جاء إليه ليطلب منه أن يصحح للناس هذا الخطأ، وهو خطأ لا بد أن يكون قد وقع سهوا من الكاهن العظيم.
ويروي لنا حريحور كيف صعق لهذه الجرأة النادرة من صغير مغمور يواجه بها عظيما مشهورا، وحاول أن يفهمه بأن الملكية في ثمار الفكر هي للجماعة لا للفرد، على أن يظفر بفوائدها أطول الناس ذراعا وأجهرهم صوتا وأرفعهم منبرا؛ فأقل شيء في مجال الفكر هو أن تخلق الفكرة وتبدعها، أما الأهمية كلها فإنما تكون لمن استطاع أن ينشرها ويذيعها. هب أنك يا بني قد تركت لقصيدتك، لا تجد اللسان البليغ الذي ينشدها ، فما قيمتك عندئذ وما قيمة قصيدتك هذه؟ وهنا أراد الكاهن الشاب أن يقول شيئا، لكن الكاهن العظيم قد ضاق به صدرا فنهره وطرده من المعبد.
ولقد بدأ حريحور في برديته بذكر هذه الحادثة؛ لا لأن لها عنده خطرا في ذاتها، بل ليستهل بها حديثا يريد أن يثبته؛ لعله يرسي به للأجيال القادمة أصولا ومبادئ تكون هي العماد كلما أشكل عليهم أمر في أخلاقية العلم والأدب.
ففي شريعتنا - هكذا كتب حريحور - لا تقتصر البلاغة على الكلام المنطوق، بل هي صفة تصف الصمت قبل أن تصف الكلام؛ فالصمت عندنا أبلغ وأفصح، لكن الصامت البليغ ليس هو كل صامت، وإلا لجاز أن نصف بالبلاغة جلاميد الصخر وصم الجبال، وإنما تكون البلاغة للصمت عند وجهاء القوم وعظمائهم دون السفلة والسوقة والرعاع، فاظفر لنفسك أولا بمقعد كبير وثير، تحيط به الحاشية الخادمة المطيعة، قبل أن يحل لك أن تسلك في زمرة أصحاب الصمت البليغ. وينتج عن هذا المبدأ الأول مبدأ ثان، وهو أن الأديب لا يشترط فيه أن يقول أدبا أو أن يكتب أدبا؛ لأن شريعتنا تعطي الصدارة في دنيا الأدب لمن كسب لنفسه البلاغة الصامتة، فلا يسأل أديب عن أدبه إلا إذا كان أديبا ناشئا صغيرا، أما ذو الجاه العظيم فهو أديب بسحنته وملامحه وطريقة قيامه وقعوده، وهاكم تاريخنا الأدبي كله شاهدا على صدق ما أزعم؛ فكلما علا الأديب وصعد قل إنتاجه، حتى إذا بلغ قمة المجد كان إنتاجه صفرا، وسر في هذا المنطق إلى نهايته، تجد أن العلو والصعود - كعروش الأباطرة والملوك - قد تجيء أصحابها بالوراثة لا ببذل الجهود؛ فحين يكون الأديب - في ملتنا - أديبا أصيلا عريقا، نعفيه من قول الأدب وكتابته، فلغيره من الصغار العاملين أن يكتب وأن يقول، وله هو الريادة والقيادة، فأنى له بطول الزمن الذي يسع أن ينتج الأدب وأن يرود ويقود في آن معا؟ إنه إما هذه وإما تلك، ولا جمع بين الضدين في أمثال هذه الأمور.
إن هذا الكاهن الصغير حين اجترأ علي ببذاءته في سكون المعبد وجلاله، قد فاته ما قد خطته الأقدار للناس من حظوظ؛ فللمرضى عليهم أن يعيشوا في رفعة ونعيم، وأما المغضوب عليهم فلزام أن يعملوا كادحين، وهذا مبدأ حكيم مهما اختلف مجال التطبيق، فإذا كان فلاح الأرض يزرعها، وصاحب السيادة يأكل الزرع، فكذلك على صغار الناس في دنيا الفكر والأدب أن يكتبوا وينظموا، ليكون الحصاد من نصيب الكبار، تلك هي عدالة السماء التي لا تنحرف عن الجادة ولا تجور.
وهنا ينتقل حريحور ليضرب المثل بالتجارة والقرصنة، قائلا في يقين من لا تخالجه خلجة شك واحدة، إن التجار هم الذين يجوبون البحار بتجارتهم التي اشتروها بالمال، وأرادوا من ورائها الربح بالكد والكدح والعرق، لكن فوق هذه الطبقة طبقة أعلى وأرفع - إذا قيست الأوضاع بمقاييس السماء العادلة - وأعني فئة القراصنة، الذين لا يطلب منهم إلا شيء من مهارة وبراعة، فيعلمون كيف يباغتون وأين؛ لتكون ثروات التجار من نصيبهم هم حقا مشروعا حلالا. ويتعجب حريحور ممن يأنفون من تطبيق أصل القرصنة ومبادئها على دنيا الفكر والثقافة؛ فماذا يمنع أن تفكر أنت، وأسعد أنا؟ ماذا يمنع أن تشقى أنت، وأنعم أنا؟ ماذا يمنع أن تهيئ أنت الطعام لآكل أنا؟ تلك سنة الله في خلقه، لا فرق عندها بين زراعة وتجارة وثقافة، أليست الأرض مليئة بمن يعملون ولا يأكلون، وإلى جوارهم من يأكلون ولا يعملون؟ إذن فهذه قسمة واجبة معقولة، كائنا من كان العاملين والآكلون.
إلا أنها لبدعة وضلالة من هؤلاء الصغار أن يستنوا للأشياء طبائع غير ما أراد لها الله من طبائع، هي بدعة وضلالة ينبغي وأدها في مهدها قبل أن يستفحل أمرها، وتلك هي أن يظن الكاتب أو العالم أو الفنان أن ثمرة جهده عائدة عليه بجاه وسلطان! من هو الفنان الذي نحت في الجبل هيكلا، وشاد فوق الأرض معبدا؟ من هو النحات الذي نحت التماثيل وأقام المسلات؟ من هو الكاتب الذي أنشأ كتاب الموتى؟ من هو العالم الذي حسب الحساب بأرقامه عندما شيد الهرم؟ هل سمع بأسمائهم أحد؟ لكن الأسماء المسموعة هي أسماء الملوك والأمراء الذين من أجلهم أقيمت الهياكل والمعابد، ونصبت المسلات، ونحتت التماثيل، ومن أجلهم أنشئت الترانيم لتنشد لأرواحهم وهي في الطريق إلى دار الخلود، فمن ذا الذي خدع ذلك الكاهن الشاعر، فأوهمه بأنه ما دام هو الذي نظم الشعر فمن حقه أن ينعم هو بالثمرة والعائد؟ إن قسمته في اللوح المحفوظ هي أن ينظم الشعر، وقسمتنا نحن القادة الرواد هي أن نوجهه كيف شئنا، وأن نضعه أين شئنا، وأن تكون القطوف نصيبنا. لقد خرجت الفراشة الجميلة المزهوة بألوانها وزخارفها من دودة حقيرة، فهل يحق لهذه الدودة أن تقاسم الفراشة زينتها وزخرفها؟
إن هؤلاء العاملين الصغار عليهم تحميل السفن بأثقالها، ولنا نحن الكبار حق القرصنة لنأخذ الأحمال معبأة مجهزة؛ وبالقرصنة - لا بالتجارة - بنيت دول وأقيمت عروش، نحن الغزاة الفاتحون، وهم الأسلاب، فهل سمعتم بغزاة يقاولون ويفاوضون ويقاسمون بالقسطاس؟ ألا ترون الغزاة ينقضون على الفرائس انقضاضا، فتكون لهم الغنيمة، وللفرائس الذل والهزيمة؟ إن ثمرات التين الناضجة لها الحلاوة كلها، صنعت لها ولم تصنعها لنفسها؛ صنعتها لها الجذور والجذوع والأوراق والفروع، فهل نقول في نهاية الأمر إنها حلاوة التين، أو ترانا ننسب الحلاوة إلى صانعيها؟ ألا فليعلم هؤلاء الصغار أن الكتاب يكتبون والملوك يوقعون، وتلك هي الحياة كما أراد الله أن تكون على الكوكب الأرضي، فعلى الناقمين الثائرين أن يرحلوا - إذا استطاعوا - إلى كوكب غير هذا الكوكب؛ ليلتمسوا لأنفسهم أوضاعا جديدة ترتب على أساس الجهد المبذول، لا على أساس الأبهة ذات الطنين.
لقد أكثرت من كلمة «الصغار»، وأخشى أن ينصرف اللفظ إلى صغار العمر، بحيث يظن أن القسمة في شريعتنا هي قسمة بين صغار الأعمار وكبارها؛ فقد أردت بالصغار صغار الوزن والحيز؛ إذ قد تكون صغير السن لكنك ذو حيز ضخم ووزن ثقيل، كما قد تكون كبير السن لكنك خفيف تافه ضئيل.
فلما بلغ صديقي عالم الآثار من برديته هذا المدى، وجدها مهرأة محترقة مطموسة المعالم بفعل الزمن، فأخذ يلفها بسبابتيه في رفق، إلى أن ظهر منها جزء آخر تسهل قراءته، فاستأنف القراءة، فإذا الكاتب قد دخل في روايات يرويها عن أشخاص عرفهم أو سمع عنهم، ليؤيد بأخبارهم صدق مبادئه، فكم من عامل مرهق ذهبت جهوده عرقا على جبينه، وتيجانا على جباه الآخرين، وكم من رجل جاءه المجد منحة سماوية لم يبذل في سبيله ساعة من عمل!
أخذ حريحور في برديته يروي عن مجلس الكهنوت في مدينته طيبة، ويستعرض تواريخ أعضائه؛ ليطمئن إلى سلامة حكمه وسداد حكمته؛ فهذا عضو من أبرز أعضائه منزلة وأعلاهم مكانة، ماذا عنده إلا مقدرته الفائقة في اختيار أماكن الجلوس كلما أقيم للناس حفل في هيكل أو معبد؟ إنه يجيء إلى المكان مبكرا، ويقف عند الباب لحظة، يتلفت فيها يمنة ويسرة وإلى أمام، وبحدسه الصادق يعرف أين مكان الكاهن الأعظم ليختار هو أقرب المقاعد إلى حضرته ونظرته، بحيث يصبح على يقين من أن نظرة واحدة من نظرات الكاهن الأعظم لن تضيع عليه سدى، وأن الكاهن الأعظم ليعجبه من رعيته مثل هذه البصيرة النافذة والاختيار المتروي، فهل يسعه عند تعيين الحاشية إلا أن يجعل صاحبنا هذا في مقدمة التابعين، فما إن يجلس على كرسي الحاشية حتى تخلع عليه أردية العلم والفقه، علم الدنيا وفقه الدين؟ وإن حريحور ليروي عن صاحبه هذا ليبين للناس صدق الحكمة القائلة إن المرء حيث يضع نفسه، فضع نفسك على مقاعد الرئاسة تكن رئيسا، وعلى مقاعد العلماء تكن عليما، وعلى مقاعد الأدباء تكن أديبا، فهل شهدتم حقيقة أوضح من هذه الحقيقة وأجلى؟
ولست أدري لماذا لم يذكر لنا حريحور اسم صاحبه ذاك، أو لعله قد ذكره في الجزء الذي أصابه الزمن بالطمس والمحو، وأقول ذلك لأنه انتقل في حديثه إلى الرواية عن عضو آخر في مجلس الكهنوت، قال إن اسمه أميناتون، سلك طريقه إلى المجلس عن طريق المريدين والأتباع؛ فالطريقة هنا هي عكس الطريقة الأولى. كانت الطريقة الأولى هي أن تختار لنفسك أن تكون تابعا، وكل ما في الأمر أن تحسن اختيار الرائد المتبوع. أما هذه الطريقة الثانية فهي أن تختار لنفسك أن تكون رائدا متبوعا، ثم تعرف كيف تجمع حولك الأتباع؛ لأنه إذا كثر الأتباع وازدحموا وملئوا الهواء بضجيجهم، كانت الحصيلة المؤكدة المحتومة هي أن يقول الكاهن الأعظم لنفسه: إن لهذا الرجل لقدرا عظيما في دنيا الفكر والأدب والعلم والفن، فهاتوه في مجلسنا عضوا ليشرف المجلس بوجوده.
وينتقل الراوية إلى عضو ثالث، يقول إن اسمه حبحوت، قد سلك إلى المجلس طريقا ثالثا، فلا هو اتبع أحدا ولا استتبع أحدا، إنما طريقته أشبه ما تكون بعالم السيمياء الذي يحيل النحاس ذهبا، فلا تدري كيف يغري صغار الكتاب بأن يقدموا إليه أعمالهم ليهديهم في أمرها سبيل الصواب، فتقع عيناه الماهرتان المدربتان على ما يصلح من هذه الأعمال للصهر في معمله، فتراه يخفيها عن أصحابها في جب معتم، ويماطل أصحابها ويماطل، ثم يفعل النسيان فعله، فإذا هو يخرجها من محابسها لينشرها في الناس ملكا له حلالا، ولست أرى في ذلك شيئا من الظلم على أحد؛ لأن العبرة بمن استطاع أن يطالع الناس في نور الشمس، لا بمن أخفى عمله في ستر الظلام.
وعلى ذكر الظلام وستره، نقول إن القراصنة لم يكونوا دائما ممن يباغتون السفن في وضح النهار، بل منهم - ولعل هؤلاء أعتاهم - من يفضلون التسلل إلى مدن الشواطئ في عتمة الليل، ينهبون ويأسرون، ويخرجون بالغنائم والسبايا، وما يزال الليل «منشور الذوائب»، وعندنا في مدينة طيبة، ومن أعضاء مجلس الكهنوت أنفسهم، قراصنة الليل وقراصنة النهار، كل في مجال تخصصه يجول ويصول.
ويمضي حريحور في برديته مصورا لنماذج القراصنة في بحر الثقافة على عهده، فيلفت أنظارنا إلى قرصان يأبى عليه ضميره الحي أن يبقي السلعة المنهوبة على شكلها؛ لأنه يرى في ذلك خروجا على مبادئ الأخلاق، فتراه يعمد إلى تشويهها لتختفي ملامحها، كلها أو بعضها، لعل ذلك أن يكون له شفيعا، وأعسر مشكلة تصادف هذه الطائفة المهذبة من القراصنة أن السلعة المنهوبة المراد تغييرها، كثيرا ما تكون مفرطة في حيويتها، حتى لتراها كلما مسها إزميل التشويه، اختلجت يد القرصان العامل فيها بإزميله، وطفقت تنتفض هنا وتتلوى هناك، حتى يتركها قرصانها وعلى جسدها ملامحها الأولى، يعرفها بها أصدقاؤها القدامى إذا ما صادفتهم في بعض الطريق.
على أن أبرع القراصنة جميعا في دنيا الفكر والأدب، جماعة شأنها عجب من عجب؛ لأن الواحد منها لا يجاهد ولا يسعى، إن له طريقة عجيبة في اصطناع السحنة التي تشع هيبة ووقارا، إنه لا يمالئ أحدا ولا يدع أحدا يمالئه، إنه لا ينهب شيئا من بر أو من بحر، إنه في جلسته الوقورة الهادئة، أو في مشيته البطيئة الثابتة، أو في نبرات حديثه الواضحة المتأنية، يجذب الأضواء ويعكسها رائعة وضاحة، كما يتلقى القمر ضوء الشمس فيعكسه، فيروع الناس بجماله، هل يجوز لأحد أن ينكر على القمر روعة ضيائه لكون هذا الضياء منعكسا على سطحه الظاهر، وليس منبثقا من فطرته وطويته؟! كذلك قل في هذا النوع الجليل من قراصنة الفكر والأدب؛ لا يجرؤ مجترئ أن يسأل عنهم ماذا قدمت للناس رءوسهم، وبأي شيء جرت أقلامهم. وإذا سأل سائل مثل هذا السؤال عن أحدهم، كان هو الحقيق عند القوم باللعنة، وإن هذه الطائفة من القراصنة غالبا ما تكون لهم الريادة والقيادة، مؤهلهم الوقار الجاد، وشهادتهم الرصانة الرزينة، ولا عجب - إذن - أن يكون معظم أعضاء المجلس الكهنوتي في طيبة من هذا الصنف النفيس.
ومرة أخرى بلغ صديقي عالم الآثار من برديته موضعا نال منه الزمن بالبلى، فهتكت فيه الأسطر ومحيت الكلمات، فنظر إلي صديقي ونظرت إليه، وتوقع كل منا أن يسمع من زميله شيئا، ودام هذا الصمت المتعجب لحظة، لفظت أنا بعدها زفرة المبهوت لما سمع، فسألني صديقي: ماذا ترى؟ فقلت: ما أراك إلا رامزا أوضح الرمز بماض غابر إلى حاضر مشهود.
الصيت والغنى في حياتنا الثقافية
«الصيت ولا الغنى»، مثل سائر في مصر، وهو من بين الأمثال الكثيرة التي تسري بين أفراد الشعب تعبيرا عن وجهة نظره في ترتيب القيم صعودا وهبوطا، والقيمتان اللتان يريد هذا المثل أن يحدد العلاقة بينهما، هما قيمة الثراء الحقيقي من جهة، وقيمة أن يقول عنك الناس إنك صاحب ثراء من جهة أخرى ، سواء أكان ما يقوله عنك الناس في هذا الصدد بعيدا أم قريبا من الصواب، وليس هناك - بالطبع - ما ينفي أن تجتمع القيمتان في إنسان واحد، فيكون ثريا بالفعل، ثم يقول عنه الناس إنه ثري، وعندئذ يكون الأمر واضحا لا يحتاج إلى أمثلة سائرة تعين أفراد الشعب على اختيار طريق السير، لكن هناك - إلى جانب هذه الحالة - حالتين أخريين؛ إحداهما أن تكون صاحب مال، والناس لا يذيعون عنك هذه الحقيقة، فتمضي فيهم مضي الفقراء، والأخرى أن يذيع الناس عنك أنك غني مع أن جيوبك فارغة، وها هنا يجيء المثل السائر ليحدد للناس طريقة الاختيار بين هاتين الحالتين - لو كان لا مناص من اختيار إحداهما دون الأخرى - أن يفضلوا الحالة الثانية على الأولى. وإن الناس ليرتبون سلوكهم العملي على هذا المبدأ، فتراهم في مواقف كثيرة ينفقون ما لا طاقة لهم به؛ أعني أنهم ينفقون مما ليس في جيوبهم، خشية أن يقال عنهم إنهم غير ذوي مال، برغم أنهم في حقيقة الأمر غير ذوي مال، لكن هذه الحقيقة الواقعة على مرارتها أهون عندهم من علم الناس بها. لا، بل إن المثل السائر ليذهب في رسمه لسلوكنا إلى أبعد من ذلك، فيقرر لنا أن صاحب المال ينبغي أن ينفق ماله هذا في كسب الصيت، وإذا فعل فهو إنما يشتري بماله شيئا أنفس وأغلى.
وما هي إلا خطوة واحدة قصيرة، لينتقل الناس من دنيا الغنى في المال إلى دنيا الغنى في الفكر، وفي أيديهم المعيار نفسه؛ فالحالات الثلاث ما زالت قائمة في عالم الفكر قيامها في عالم المال؛ فهناك من اجتمع له الغنى والصيت، وهناك من كان له الغنى ولكن بلا صيت، وهناك من كسب الصيت ولا غنى. أما الطائفة الأولى فطوبى لها دنيا وآخرة؛ لقد أضنت نفسها كدا وكدحا ودراسة وتحصيلا، ثم لم يذهب هذا كله سدى، بل ملئوا الدنيا بدويهم، فإذا هم على ألسنة المتكلمين وأقلام الكاتبين موضع اعتراف وتبجيل. لقد غرسوا فما الغرس وأثمر. إنه الصيت قد اجتمع إلى الغنى. ولا مكان في هذه الحالة لريبة المرتاب ولا لعجب المتعجب، حتى لو أثمرت عندهم حبة القمح الواحدة سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة.
ولكن الريبة والعجب، بل الحيرة واليأس، تنزو كلها في النفس حين تواجهنا الحياة بضرورة الاختيار بين بديلين؛ فإما أن تعمل وتعمل وتعمل، وتكد وتكدح، ثم تكد وتكدح، والناس في شغل عنك كأن في آذانهم وقرا، وإما أن تفرغ لجذب انتباه الناس واستمالة آذانهم فلا تجد بين يديك فراغا تقرأ فيه كتابا، ودع عنك أن تخرج للناس كتابا، فماذا أنت صانع؟ أغنى ولا صيت، أم صيت ولا غنى؟ ماذا تختار لنفسك من البديلين؟ إنه ها هنا كذلك يجيء المثل السائر فيسعفنا في دنيا السلوك؛ إذ ينقل إلينا الحكمة التي اعتصرها هذا الشعب العريق من خبرته الطويلة، وهي حكمة تقضي بأن الاختيار - إذا كان لا مناص من اختيار - هو للصيت قبل الغنى؛ فلأن تقول الناس عنك في بلدنا إنك من الرواد في دنيا الثقافة، حين لا يكون بين يديك صحيفة واحدة تتقدم بها أمام الله يوم القيامة، خير ألف مرة من أن تغرق نفسك في الصحائف فلا يسمع منك إلا ما يشبه حشرجة الأنين. الصيت قبل الغنى، هذه هي حكمة الشعب، لا فرق بين أن يجيء الغنى في دنيا المال أوفي دنيا الفكر؛ ففي كلتا الحالتين أفضل منه كسب الصيت.
وإذا كان الأمر بهذا الوضوح كله، فكيف نفسر غباء الغني الذي يظل يرمي بشباكه حيث لا صيد؟ الجواب هو أن كسب صيت الغنى بلا غنى، لا يأتي عفوا وبغير تدبير، بل يحتاج إلى مهارات وشطارات من نوع آخر، قد تحتملها طبيعتك وقد لا تحتملها، فإذا لم تحتملها لجأت إلى أيسر الطريقين بالنسبة إليك، وهو أن تعمل، تاركا لمن يحتملها تحصيل الغنائم.
وقد تسألني أن أدلك على أطراف من هذه المهارات والشطارات، لعلك مجربها ذات يوم؛ فتقفز إلى ذهني مقالة قصيرة لفرانسيس بيكون، طولها صفحة ونصف صفحة من القطع الصغير، عنوانها «تظاهر الناس بالحكمة»، ألخصها لك قبل أن أضيف إليها حصيلة خبرتي.
يقول هذا الفيلسوف الأديب: لقد قيل إن الفرنسيين أحكم في حقيقتهم مما يبدون، وإن الإسبانيين يبدون أحكم مما هم على حقيقتهم، ومهما يكن من أمر بالنسبة إلى الأمم، فليس من شك في أن الظاهرة قائمة بين أفراد الناس، فهنالك منهم من هو أحكم مما يبدو، وهنالك من يبدو أحكم مما هو، فمن الناس من لا يفعل شيئا قط، أو قل إنه يفعل قليلا، لكنه يخلع على نفسه وقارا يوهم بأنه ذو حكمة وكفاية. وإنه لمما يدعو إلى الضحك، بل إلى السخرية، أن ننظر إلى الحيل التي يركن إليها هؤلاء «السطحيون» ليكسبوا «سطحيتهم» هذه تجسيما وعمقا؛ فمنهم من يلجأ إلى الصمت والتحفظ، كأنما هم حريصون على ألا يظهروا بضاعتهم النفيسة إلا في جنح الظلام، وهم إذا تكلموا فإنما يحرصون على إيهامك بأنهم لم يقولوا كل ما في صدورهم، وقد يعلمون في دخيلة أنفسهم أنهم قليلو المعرفة بما يحدثونك عنه، لكنهم عندئذ يظهرون كما لوكان هو القصور في التعبير عما يريدون التعبير عنه.
ومنهم طائفة تلجأ إلى ملامح وجوههم وقسماتها، فيجعلون من أنفسهم حكماء بالإشارات الجسدية، لا بالحصيلة العلمية، كما قال شيشرون عن بيزون، إنه حين أراد أن يجيبه عن سؤاله (سؤال شيشرون) رفع أحد حاجبيه إلى جبهته وخفض الآخر إلى ذقنه. ومنهم طائفة تعالج المشكلة بلفظة ضخمة تنطق بها، أو بلباقة في الكلام وذرابة في اللسان، ويحدثونك عن أشياء يفرضون أنها حقائق مسلم بها، لا لأنها كذلك، بل لأنهم لا يعرفون كيف يقيمون عليها البرهان. وطائفة أخرى منهم تستخف بما لا تستطيع الوصول إليه، فيقلبون جهلهم مقدرة على الحكم! وطائفة تحاول ستر الجهل بستار من محاولة التفرقة بين الأشياء تفرقات كثيرا ما تنتهي بهم إلى موقف سلبي ينحصر في إثارة المشكلات، بدل أن يتقدموا بحلول للمشكلات.
تلك خلاصة وافية ومشروحة للعبارة المركزة التي استخدمها فرانسيس بيكون في مقالته التي حدثتك عنها، وقد سألتني: على أية صور تجيء مهارات القوم وشطاراتهم في كسبهم للصيت بالعلم وهم خلو منه؟ فأردت هدايتك بهذا التصنيف الذي أجراه ذلك الفيلسوف الأديب: الصمت الذي يوهم بأن وراءه أعماقا، والإشارة بالملامح والجوارح، والزعم بأنه يعرف لكن يخونه التعبير، والتستر بضخام الألفاظ، وادعاء الدقة التي تفرق بين المتشابهات، فإذا هو ادعاء يثير المشكلات ولا يحلها.
ولماذا لا أستميح القارئ عذرا، فأنقل إليه صفحة كتبتها سنة 1946م، ونشرتها عندئذ في كتاب صغير ذهبت به الأيام إلى أنقاض الذكريات، فلابد أن أكون يومئذ قد ضقت صدرا بتلك المهارات والشطارات التي عجزت عن تحصيلها، فلجأت إلى أيسر الطريقين، وأيسر الطريقين هو العمل، فكتبت أقول في سياق من الحديث: ... أراد لنا نحس الطالع في صبانا أن يخدعنا المعلمون، والمعلمون أحيانا يخدعون، ويبشرون بما لا يؤمنون، فأوصونا أن نجعل من النجم غايتنا، فأبت علينا الأمانة البلهاء إلا أن نكد ونكدح لنبلغ النجم، وفاتتنا الحيلة التي يدركها الألوف إدراك البداهة في غير عسر ولا عناء، وهي أن نلتمس النجم في صورته على صفحة الماء، وأولو الأمر لا يفرقون بين النجم وصورته؛ فكلاهما في أعينهم لامع لألاء. وبربك لا تقل إننا إذ نروم النجم في سمائه تستقيم منا الظهور، وتشرئب الأعناق، وتشمخ الأنوف، أما إن أردنا الصورة فلا بد من «انحناء»، فتلك حكمة القدماء، والحكمة إنما تساير وسائل النقل في تطورها، فلا ينبغي أن تكون حكمة الطائرة مثل حكمة «الحمار». قال مكيافلي لأميره ناصحا: ليس المهم أن تكون رحيما بشعبك، إنما المهم أن يقال عنك إنك رحيم، فاقس ما شئت، وابطش بمن شئت، لكن ليكن لك في ذلك فن يخدع الناس عن حقيقة نفسك، فإذا أنت في ظنهم الأمير الذي يحنو على البائس ويعطف على المحروم. ألقى مكيافلي درسه على أميره، وكان درسا في سياسة الملك، فلقفه من فمه أصحاب الفطنة وجعلوه دستور الحياة؛ فليس المهم أن تكون ذا علم، وإنما المهم أن يعدك الناس بين العلماء، وكم من رجل رأيته يتربع على كرسيه رزينا رصينا، وعلى وجهه مخايل العلم والحكمة، وقد علق فوق رأسه قيثارة فخمة ضخمة مشدودة الأوتار، فتأتي إلهة الشهرة فتربت على كتفه وتمضي فخورة بابنها النجيب، ولا تني تنشر ذكره في طول البلاد وعرضها؛ لأنه «لو» عزف لكان خير العازفين؛ فلئن جمدت الألحان على أوتار قيثارته الآن، فما أيسر عليه أن يهذبها نغما شجيا طروبا إن أراد. وقد ضقت بغفلتها ذات يوم، فصحت بها: يا إلهة الشهرة لا تصدقيهم؛ إنهم لا يعزفون لأنهم لا يعرفون، لكنها ازورت عني وأدارت إلى قولي أذنا صماء، وما أكثر ما تحرج أولئك الإلهات صدري؛ لأنهن ينخدعن كما ينخدع البشر.
وحاشاي أن أقيس قولي إلى قول بيكون؛ فهذا قوله عقل هادئ، وأما قولي فوجدان ثائر، لكنني كنت بصدد المهارات والشطارات التي تغني أصحابها بالصيت في دنيا الثقافة والفكر، فتواردت الخواطر، ولو كان بيكون في مقالته القصيرة عن التظاهر بالحكمة ملما بالعربية العامية، لأضاف صنوفا أخرى إلى الطوائف التي ذكرها، ف «الفهلوة» و«الدردحة» كلمتان عاميتان معبرتان ودالتان على طرق موصلة إلى الصيت الذي يفضل الغنى، ولست أدعي القدرة على تحديدهما، لكنهما من قوة التعبير بما يغني عن التحديد، لكني أقول إن الفهلوة والدردحة في حياتنا الثقافية قد لا تكونان ذا أثر مباشر أحيانا - وأن تكونا مباشرتين في التأثير أحيانا أخرى - فبالفهلوة والدردحة قد تظفر بمنصب علمي مرموق، وعن طريق المنصب يأتيك الصيت بالعلم الغزير، أو قل إن غزارته تتفاوت في الدرجة بتفاوت ارتفاع المنصب في راتبه ونفوذه؛ فالوكيل أقل علما من المدير، والباحث من عامة الباحثين أقل علما من الوكيل، وهلم جرا. وهل يعقل - مثلا - إذا رشحنا لجوائز الدولة العلمية أن نسمح للباحث بالسبق على الوكيل، أو للوكيل بالسبق على المدير، أو إذا اخترنا أعضاء المجامع العلمية أو اللغوية أن نسمح للعالم اللغوي السبق على الوزير؟ تلك قاعدة مقررة كقواعد الجمع والطرح في علم الحساب، وهي أن يكون الاعتراف بعلمك على قدر العلو بمنصبك، وهي قاعدة لا يتنكر لها إلا العاجزون في مسالك الفهلوة والدردحة، ويريدون أن يروا في العنب - بمنظار عجزهم - حصرما.
تلك إذن هي الطريقة غير المباشرة لتأثير الفهلوة والدردحة في دنيا العلم والثقافة ، لكن لهما كذلك طريقة مباشرة؛ فبهما تعرف كيف تكتب ولا تقرأ؛ فلقد لبثت القراءة والكتابة مقرونتين في أذهاننا منذ عهد الكتاتيب، وربما تظلان مقترنتين في أذهان أولئك الذين أراد لهم عجزهم ألا يتقدموا مع الزمن، أما القادرون بالفهلوة والدردحة ففي وسعهم أن يفكوا هذا القيد السخيف الذي ربط القراءة إلى الكتابة، واستطاعوا أن يجعلوا الكتابة وحدها والقراءة وحدها، بحيث يجوز اختيار الأولى بغير الثانية، ولو اعترض عليهم عاجز، لأفحموه بأن الكتابة الحق إنما تغترف من الحياة لا من الكتب، وهي في الحق حجة لا أدري كيف أدحضها.
ومن الطرق المباشرة أيضا للفهلوة والدردحة أن تعرف من ذا تصاحب ومن ذا تجالس؛ فقل لي مع من تقضي فراغك وأين تقضيه، أقل لك ما تستحقه من درجات الصيت بالعلم والثقافة. وكان الجاهلون قبل ذلك يظنون أن درجات العلم والثقافة مرهونة بالجواب عن سؤال يسأل: من ذا تقرأ له وكيف تقرؤه؟ وقد فاتهم هذا الفارق الفسيح بين حيوية الحديث في ساعات السمر، وجمود المادة المقروءة تحت أضواء المصابيح. الأولى حياة، والثانية موت. الأولى حركة، والثانية سكون. الأولى وصول، والثانية قعود.
ولله في خلقه شئون.
شمشون العصر ودليلته
لم يكن بيني وبين ذلك الرجل إلا علاقة عابرة؛ فقد كنا نقصد إلى مكان بعينه يومين أو ثلاثة من كل أسبوع؛ إذ كان كلانا يقصد إلى مقهى على حافة الصحراء، بالقرب من أهرامات الجيزة، ولم يكن يقصد إلى هذا المكان إلا نفر قليل متناثر، وكانت تجمعني مع ذلك الرجل شيخوخة تلتمس العزلة الهادئة وشمس الشتاء الدافئة، فكنا نجلس في طرفين متباعدين، لكننا مع ذلك - أو قل لكنني مع ذلك - كنت أحس كأنما كانت بيني وبينه صلة من حديث؛ كلانا كان يصرف وقته في قراءة، أما أنا فقد كنت أوثر دائما ألا أحمل معي سوى كتاب صغير؛ حتى لا يثقل علي حمله في الذهاب وفي المجيء، وأما هو فكثيرا ما كنت أراه يضع أمامه أكثر من كتاب في شكل القواميس؛ كانت قراءتي للتسلية لا للدراسة المتأملة، وأما هو فقد كنت ألاحظ على جبينه تقطيبة التركيز، وكان - فيما بدا لي على بعد - يقرأ سطرا أو سطرين، ثم يرفع عينيه ليرسل البصر إلى الأفق البعيد، أو ليصعده نحو السماء، مربتا بكفه على جبهته تارة، وعلى صدغه تارة.
وكان مرجحا أن يجيء اليوم الذي تنشأ لنا فيه فرصة اللقاء والحديث، وهذا ما حدث ذات يوم من أيام الآحاد؛ فقد شاءت لنا المصادفة أن نصل إلى المكان في لحظة واحدة، وأن نجد المقهى ممتلئا بزائريه على غير ما اعتدنا أن نراه؛ فلعله كان يوم عيد لطائفة من الناس، أو لست أدري ماذا كان، ولم يكن هنالك إلا منضدة واحدة خالية، كان لا بد أن نشترك فيها، فتبادلنا التحية لأول مرة، ولم نكد نستوي على مقعدينا حتى وضعنا الكتب على المنضدة وأخذنا في حديث نجمع أطرافه من هنا ومن هناك، ثم انتقلنا بخطوات طبيعية إلى مادة القراءة التي تشغل كلا منا، فما كان أبعد المسافة بينه وبيني؛ فكتابي هو الترجمة الذاتية التي كتبها جيمس جويس عن نفسه بعنوان «صورة شاب فنان»، وأما كتابه فهو الكتاب المقدس، وسرعان ما أنبأني عن نفسه - إذ لعله شهد شيئا من الدهشة في نظرتي - أنبأني عن نفسه أنه يطالع الكتب الدينية وملحقاتها من تفسير وتعليق وشرح، كان يقرأ تلك الكتب الدينية بغير تمييز بين كتاب وكتاب، باحثا فيها جميعا عن قصص يستغلها في كتابة أدبية يحاولها آنا بعد آن، وهو في ذلك على عقيدة بأن أمثال تلك القصص تلقي له من الضوء على أحداث عصرنا وتياراته، ما لا يلقيه أي كتاب مما تخرجه المطابع اليوم، ولعله مرة أخرى قد لحظ دهشته في نظرتي، فقال: نعم يا صديقي؛ إنني في هذه القصص القديمة أطالع عصرنا، إنها قصص لا تبلى جدتها، ولا تذهب نضارتها، إنها تحمل في ثناياها فطرة الإنسان شفافة صافية. هذه - يا صديقي - كتب خالدة، إنها كتب خالدة، وسر خلودها أنها قد نفذت إلى الأعماق في فطرة الإنسان؛ فربما تغير الإنسان بتغير الحضارة عصرا بعد عصر، لكنه تغير يمس السطح ولا ينفذ إلى الأعماق. إنها كتب لكل العصور، لو أحسنت قراءتها.
سألته: هل تشغلك اليوم قصة بعينها في هذا الكتاب؟
قال: نعم، تشغلني قصة شمشون مع دليلة، ولقد وقعت على مفتاح أقرؤها على هداه، فينفتح لي شيء من غوامض عصرنا؛ ذلك أن شمشون في «عهده القديم» كان متسقا مع فكر عصره وخياله، فالقوة هي قوة البدن، والسطوة هي لصاحب العضلات، والشجاعة هي شجاعة اللقاء بالأجسام؛ وكان أول لقاء لشمشون لقاء مع أسد هم بافتراسه إذ هو في بعض الطريق، فأمسك صاحبنا بالأسد كما يمسك الرجل القوي بجدي صغير، وشقه نصفين، وألقاه على الأرض كومة من أشلاء.
أما شمشون عصرنا، فهو حامل العلم بجبروته، وتستطيع - على سبيل المفارقة - أن تقول إن شمشون عصرنا هو الذرة الضئيلة التي لا تبصرها العيون بأقوى المناظير، ولكنها تفجر طاقاتها فتزلزل الأرض، وتهدم المدائن، ويفنى البشر.
قلت لمحدثي: هذا شمشون العصر قد عرفناه، فمن تكون دليلته التي تغويه؟
فأجاب: إنها السياسة حين تكون غاشمة طامعة تغوي العلم فتضله عن سواء السبيل، فلعنة الله عندئذ على ساس ويسوس وسائس ومسوس، كما قال الأستاذ الإمام.
واستطرد صديقي هذا ليقول: لبث العلم قرونا طويلة، وكأنه منوح وزوجته - وهما والدا شمشون في العهد القديم - لا ينسلان ولدا؛ إذ لبث العلم طوال تلك القرون كلاما في كلام، يملأ الصفحات بلفظ وراء لفظ، وبسطر بعده سطر، لكنها رموز لا تحرك الحديد ليطير أو يجري أو يغوص؛ فعاش منوح وزوجته عيش الرعاة، يصبح بهما الصبح ثم يمسي عليهما المساء، وحياتهما اليوم هي نفسها حياتهما بالأمس، لم يتغير منها شيء، إلا أن ينتجعا مع الغنيمات مكان الكلأ.
وذات ليلة تراءى للمرأة في حلمها ملاك من السماء يحمل إليها البشرى بحمل وولادة، لكنه يحذرها من أن تدخل في جوفها ما يفسد الجنين من شراب مسكر أو طعام نجس، قائلا لها إنها ستوهب صبيا منذورا لله، فلا ينبغي لفطرته أن تفسد بعنصر دخيل، وسيكون شعر الولادة على رأسه علامة الفطرة، تفسد إذا مسها الموسى، فإذا داخل الفطرة عنصر ليس منها، انقلب الخير الذي أراده الله، شرا أراده الإنسان.
وتحقق الحلم، وولدت المرأة ولدا، أطلقت عليه اسم شمشون، وكبر الصبي وعظمت قوته ، والتقى بشبل الأسد فمزق الشبل المزمجر وألقى به على الأرض ركاما، فما هي إلا أيام حتى عاد الفتى إلى ذلك المكان من الطريق، فإذا هو يلحظ خلية نحل قد حطت على رمة الأسد وأنتجت عسلا، فاشتار شمشون من العسل على كفيه، ومضى في طريقه يأكل، ويعجب لنفسه «كيف خرج من الآكل أكل، ومن الجافي حلاوة؟» فمن حيوان كاسر للإنسان يولد طعام للإنسان، ومن جيفة نتنة خرجت حلاوة العسل.
وشمشون عصرنا لن يبالي أسدا في الفلاة يصارعه ويصرعه، ولن يدهش لحلاوة تخرج من جيفة، إنه يتصدى لأهوال أعظم خطرا؛ إنه لم يعد يرهب المسافة، فهو يطوي أبعادها بمثل ما طوى شمشون شبله الصغير، لم تعد تهوله أفلاك السماء، ولا أغوار الماء. إنه يدك الجبال دكا، ويخرج من أجاج البحر ماء عذبا، ومن يباب الصحراء زرعا. إن علاء الدين بمعجزات مصباحه، وسليمان بأعاجيب خاتمه، لعبتان أمام عقول الإلكترون. وإنك لتلهث لهاثا إذا أردت أن تجاري ما يتصدى له شمشون عصرنا من أعاجيب ومعجزات.
كان شمشون العهد القديم يباهي بقتله ثلاثين رجلا من أهل المدينة؛ لينزع عنهم قمصانهم وثيابهم، يعطيها وفاء لرهان أوقعته فيه امرأة غادرة؛ وذلك أنه في ليلة عرسه بها، أقام ذووها وليمة حضرها ثلاثون رجلا من عشيرتها، فتحداهم أن يفسروا له أحجية وقعت له في تجربته فأربكته، وهي: كيف يخرج أكل من آكل؟ وكيف تخرج حلاوة العسل من جيفة؟ وراهنهم أن يجدوا لهذه الأحجية حلا في سبعة أيام، فإذا وجدوا حلها قدم إليهم ثلاثين قميصا وثلاثين حلة ثياب، وأما إذا عجزوا، فعليهم أن يعطوه مثل هذا العدد من القمصان والثياب؛ وأوشكت السبعة الأيام أن تنقضي وهم عاجزون، لولا أن غدرت العروس برجلها من أجل أهلها، فراحت تبكي بين يديه ضارعة أن يسر إليها بحل الأحجية، ففعل، فنقلته إلى ذويها، فكان على شمشون أن يوفي بالرهان، ويقدم الثياب والقمصان؛ فما كان إلا أن انطلق إلى المدينة، فقتل ثلاثين من أهلها، ونزع من أجسادهم ما يقدمه وفاء بالرهان.
فأين رجال ثلاثون يقتلهم شمشون العهد القديم، من مئات الألوف يقتلهم شمشون العصر الحديث بقنبلة يلقيها فوق هيروشيما أو ناجازاكي؟ وكانت غاوية شمشون القديم امرأة غادرة، وكانت غاوية شمشون الجديد سياسة فاجرة.
كان شمشون العهد القديم إذا ما نقم وأراد الانتقام، أمسك بعدد من أبناء آوى، يربطها ذيلا بذيل، ويشعل في الأذناب المعقودة نارا، وأما شمشون العصر الجديد إذا ما نقم وأراد الانتقام، أمسك بالصواريخ يطلقها، وبالقنابل الجهنمية يلقيها، فيهلك حرث وزرع ونسل، وتمحي مدن كما تمحو بالممحاة خطوطا رسمت على الورق بقلم رصاص.
ثم جاءت دليلة وغوايتها في حياة شمشون، صادفها ولم تكن من أهله. لقد خلقه الله لشيء، وخلقها لشيء آخر؛ هو القوة وهي الضعف، هو يسكن أعلى الجبل وهي تسكن أسفله؛ تزوج منها شمشون، فرسمت لنفسها أن تتسلل إلى قلبه بالغواية لتستخرج منه سر قوته، وما انفكت حتى وقعت على السر. إن شعره المنذور لله، هو الذي إذا أزيل عنه بالموسى زالت معه قوة جسده؛ فما عتمت أن أنامته على حجرها، وأزالت شعر الرأس، وصاحت بقومها أن اهجموا، فإذا بالجبار يهوي في أيديهم ضعيفا خائرا، فيوثقونه بالقيد، ويودعونه السجن، ويربطونه إلى رحى الطاحون يديرها، مفقوء العينين.
لقد ضعف القوي وعمي البصير؛ لأن الله قد أراده لشيء، فأنصت هو لشيطان يريده لشيء آخر. كانت وصية السماء ألا تشرب أمه - وهو بعد جنين في جوفها - شرابا مسكرا، وألا تأكل طعاما نجسا، حتى لا يفسد الولد، فجاء الولد قويا فتيا إلى أن تسللت إليه عوامل الإفساد، فوقع صيدا لمن لا يرحمه. وإذا ترجمنا هذا إلى لغة العصر عن شمشون الحديث، قلنا إن وصية السماء لمن وهبته قوة الذكاء وقدرة العلم، ألا يذعن لأهواء الساسة، ذلك إذا كان الساسة من مستعمري الشعوب؛ لأنهم من فريق وهو من فريق؛ هم إرادة راغبة وهو عقل مدرك، هم دهاء وحيلة وهو ذكاء ومنهج؛ ولا ينبغي له الخلط بين أن يكون علمه للمجتمع وأن يكون علمه للساسة؛ فالعلم حين يكون للمجتمع يبحث عن الطعام للجائع، وعن الكساء للعاري، وعن العلاج للمريض، إنه حين يكون للمجتمع يزرع الأرض، ويصنع خامات الأرض آلات للعيش وأدوات للفراغ، وأما حين يكون للساسة فهو يفتك ويقتل ويدمر ويهدم. إن السفينة حين تشق الماء براكبيها هي علم للمجتمع، وأما السفينة حين تكون من طراز لبرتي وبويبلو، تختلس السمع والبصر، فهي علم للساسة.
وقع شمشون العهد القديم فريسة لامرأة خادعة هي دليلة، فذهبت قوته وكف عنه البصر، وأما شمشون العصر الحديث إذا وقع فريسة لهذه العابثة التي تسمى سياسة، فإن الجزاء لا يكون رجلا واحدا أعمى يدير رحى الطاحون، بل يكون الجزاء مصرع ملايين البشر، تذهب القوة عن شعوب بأسرها، ويقضي على شعوب بأسرها - بل على قارات - أن تدير أرجاء الطواحين للأعداء ليأكل الأعداء وبطون الشعوب خاوية.
إن السياسة إذا أضلت العلم فأخرجته عن سبيله - وسبيله كشف الحق - أصابه ما أصاب شمشون، فيبطل أن يكون كاشفا وهاديا، يعمى فلا يبصر، ويدير الطواحين على غير هواه. لقد كانت العدالة هي التي يرمز لها بعينين معصوبتين، حتى تنزل بسيفها على رأس المعتدي، لا تفرق بين إنسان وإنسان، وكان العلم مبصرا يتبين مواضع خطوه، ويتثبت من مواقع قدميه؛ فجاءت الغواية، فتبدل الأمر؛ أبصرت العدالة، فأصبحت تفرق بين الناس فيما تنزله بهم من الأذى؛ فهي تهوي على سود هنا، وعلى صفر هنا، وتحمي بيضا هناك. أبصرت العدالة، فعرفت أين تسقط قنابلها الذرية وأين لا تسقطها، فإذا كانت الشعوب صفراء أو سوداء أو سمراء، فلا بأس في القذف بقذائف الموت، وأما إذا كانت ذات جلدة بيضاء، فهنا تكون الاتفاقات الدولية، وهنا يكون التحريم، وهنا يكون الهول وتكون البشاعة. أبصرت العدالة؛ لتضع العصابة التي كانت على عينها موضعها من العلم، فتعميه بعد أن كان مبصرا، فبات المسكين أعمى يعتلي كتفيه مقعد، يسيره كيف شاء. أصبح على العلم أن يسير، ولكن ليس له أن يعرف إلى أين؛ عليه أن يفتت الذرة ليخرج طاقاتها، وعليه أن يصنع القنابل، ولكن ليس له أن يعرف أين تلقى هذه، ولا كيف تستخدم تلك؛ عليه أن يدير أحجار الرحى، ولكن ليس له أن يعلم أي الناس يصيبه الطحين؛ على العلم أن ينقل الصوت والصورة، ولكن ليس له أن يحدد بأي المعاني ينتقل الصوت في المذياع، ولا بأي المشاهد تنتقل الصورة إلى الشاشة. إن مهمته هي أن يشحذ السكين، ولكنه لا ينبغي أن يسأل من ذا يكون الذبيح.
أين ما أصاب شمشون العهد القديم من غدر غانيته دليلة، أين هذا مما أصاب شمشون هذا العصر من عبث السياسية السارقة الناهبة وأربابها؟ لقد فقئت عينا شمشون العهد القديم، وأما شمشون هذا العصر فقد فقئت عيناه وأخرس لسانه، فهو يرى بعيني المقعد الرابض على كتفيه، وهو ينطق بإذن منه. إنه لا يفصح عن الحق إلا إذا كان في ذلك قوة لراكبه، وإن هذا المقعد الراكب ليسمي قوته عندئذ مصلحة المجتمع، فيقتنع الذليل الأعمى بهذه الخدعة، ويخلط بين راكبه الذي يجثم على عاتقه وبين المجتمع الذي هو فرد منه، وإلا فهل يصنع علماء أمريكا اليوم ما يزيدون به قوة الفتك لرئيسهم، أم يصنعون ما يزيدون به لرجل الشارع مصادر الحياة؟
العلم موهبة من الله، منذورة لله، لا ينبغي أن يشرب حاملها شرابا مسكرا، ولا أن يأكل طعاما نجسا؛ حتى لا تفسد. هكذا قال ملاك السماء لامرأة «منوح» حين بشرها بصبي يوهب القوة من السماء.
لكن من يدري؟ ألا يجوز أن ينتهي إذلال العلم لضلال السياسة، بمثل ما انتهى به إذلال شمشون لبغي أعدائه؟
لقد نبت الشعر في رأس شمشون على مر الزمن، واستعاد قوته، ولو أنها أصبحت قوة عمياء؛ وحدث أن تجمع أهل المدينة من أعدائه في هيكلهم يسمرون ويلهون، ثم أرادوا أن يزيدوا من لهوهم لهوا، ومن نكايتهم بشمشون نكاية، فجاءوا به من سجنه ليلعب أمامهم بجسمه الغليظ فيضحكون، فلم يكن من شمشون إلا أن مد ذراعيه ليمسك بيديه العمودين الرئيسيين اللذين عليهما كان يقوم البناء، وانحنى بقوة، فسقط البيت على الأقطاب وعلى سائر الشعب اللاهي.
أفلا يجوز - إذن - أن تمضي السياسة في غوايتها إذلالا للعلم، فيجيء يوم يضغط العلم بكل قوته على الزناد، فيفني الأقطاب على أيدي العلم نفسه الذي استغلوه، ويفني البشر معهم ومعه؟
دمنة وكليلة
معذرة، فقد عكست الترتيب المألوف لهذين الاسمين عامدا؛ وذلك لسبين؛ أولهما: هو أن يتنبه القارئ، فيعلم أنهما اسمان لمخلوقين منفصلين؛ لأنه - فيما أقدر - قد نطق بهما على الترتيب المألوف، في عنوان «كليلة ودمنة» مئات المرات أو ألوفها، حتى تحول صوت العبارة عنده إلى عادة حركية لا يعي معها أين تبدأ الأجزاء وأين تنتهي، فانطمس - بالتالي - ما بين هذين المخلوقين من تميز واختلاف، مع أن هذا التميز والاختلاف بينهما هو ما قصدت إليه بهذا المقال. والسبب الثاني: هو أن الخصائص التي تميز «دمنة» من «كليلة» هي أن دمنة أكثر نجاحا في دنيا العمل والتعامل؛ فمن حقه أن يسبق زميله عند تلاوة الأسماء في المحافل، احتراما لقواعد البروتوكول التي تحرص على التمييز الدقيق بين من هو أعلى ومن هو أسفل.
وليس من شأني هنا أن أتعقب الرحلة التاريخية الثقافية التي انتقل بها «كليلة ودمنة» من أصله الهندي إلى الفارسية، ثم من الفارسية إلى العربية، بقلم «ابن المقفع» في أسلوبه النقي البليغ، وإنما شأني هنا هو أن أبرز الفرق بين «دمنة» و«كليلة»؛ لعله يضيء أمام القارئ - كما أضاء أمامي - طريق الفهم لجانب هام من جوانب حياتنا، أو قل من جوانب الحياة الإنسانية على إطلاقها.
فمن هما «دمنة» و«كليلة»؟ هما أخوان من أبناء آوى، أعني أنهما ثعلبان شقيقان، ورد ذكرهما في أول حكاية - وهي أطول حكاية - من مجموعة الحكايات التي قدمها كتاب «كليلة ودمنة»، وليس منا واحد - فيما أظن قد خلت حياته الدراسية في مراحلها الأولى من مطالعة هذا الكتاب، ولقد رأى صاحب الكتاب أن يطلق اسم هذين الأخوين عنوانا لكتابه.
لم يكن هذان الثعلبان الشقيقان من طبيعة واحدة، برغم كونهما فردين من نوع واحد، ومثل هذا - كما تعلم - يحدث كذلك في دنيا الناس، فلا يختلف في هذا التفاوت أبناء آدم عن أبناء آوى، أما أحد الأخوين - وهو كليلة - فقد كان قويم المبدأ، نزيه المقصد ، لا يفعل الفعل إلا إذا جاء على طريق خلقي مأمون من المزالق، وأما أخوه «دمنة» فهو على نقيضه، تهمه الغايات ولا تهمه المبادئ، معيار العمل الصالح عنده هو أن يكون نافعا له، محققا لأغراضه، سواء جاء بعد ذلك مقيما للحق والعدل أو هادما لهما، وإذا تكلم دمنة، فإنما يتكلم ليقنع السامع بما أراد له أن يقتنع به، لا يبالي أجاء كلامه هذا صادقا مع واقع الأمر أم كاذبا. إن دمنة، طموح يريد بلوغ الهدف بالشطارة و«الفهلوة»، فكان يسبق الآخرين على الطريق؛ لأن خطوات هؤلاء الآخرين مقيدة مكبلة بما يبذلونه من جهود.
كان «كليلة» الطيب المستقيم الصادق، يعرف عن أخيه «دمنة» تلك الخلال، فكان يسدي إليه من النصح ما يظن أنه يهديه، لكن «دمنة» قد أدار لنصح أخيه أذنا من طين، وأخرى من عجين، بل لعله كان يسخر من سذاجته؛ فلقد كان بطريقته هذه التي لم تعجب أخاه الطيب، أعلى شأنا - في حياة الغابة - من أخيه.
هذان الأخوان من أبناء آوى، هما في الحقيقة نمطان من أنماط البشر، فلم يكونا في الحكاية إلا رمزا لأمر عجيب، وهو أن بلوغ الغايات في شئون الحياة العملية قد لا يكون طريقه التزام المبادئ الخلقية المثلى، بل إن هذه المبادئ لم تكن لتصبح نماذج مثلى لو لم تكن «فوق» الواقع و«أعلى» منه، لكنها ليست جزءا من نسيجه، ولقد حق لابن المقفع في مقدمته التي قدم بها لترجمته العربية أن يحذر القارئ بقوله: إنه لا ينبغي أن يؤخذ الكتاب بظاهره، بل يجب على قارئه أن يستخرج ما قد خفي من معانيه وراء الرموز، كالرجل الذي لا ينتفع بالجوز إلا إذا أزاح قشرته الظاهرة عن لبه المستور.
وإن هذين النمطين اللذين يرمز إليهما الثعلبان الشقيقان «دمنة» و«كليلة»، ليذكراننا بطائفتين من أبناء المجتمع الواحد، أقام عليهما العالم الإيطالي الحديث «باريتو» نظريته في تحليل تطور الجماعات، خصوصا في فترات الانتقال الحضاري من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى تجيء بعدها (وكان ذلك في كتابه «العقل والمجتمع» الذي أصدره قبيل وفاته سنة 1923م بأعوام قلائل)؛ فلقد استخدم «باريتو» رمزين، هما «الأسود» «الثعالب»، ليدل بهما على طائفة تحافظ على القديم الثابت المأمون، وطائفة ثانية تغامر وتخاطر.
فلكل تحرك اجتماعي «أسوده» و«ثعالبه». أما «الأسود» فهم الذين يريدون أن يجيء التحرك في إطار الأخلاق كما تعارف عليها الناس، ويودون أن تصان العقائد والتقاليد وقواعد العرف، وأما «الثعالب» فدستورهم الجرأة والمغامرة في ظلام المجهول بلا حذر، وعمادهم الدهاء والمراوغة، لا القواعد المعروفة المكشوفة، وإن «الأسود» و«الثعالب» ليتجاوران معا في كل جماعة وفي كل عصر، ويكون الاختلاف في أي الفئتين يكون لها الغلبة في الجماعة المعينة أو العصر المعين؛ فالغلبة في حالات الاستقرار المطمئن تكون لجماعة «الأسود»، وأما في عهود التحفز للوثوب، فالغلبة تكون لجماعة «الثعالب»؛ فإذا كانت السيادة للأسود، أحيطت النظم القائمة بما يشبه القداسة، فلا يسمح لأحد أن ينال منها بأكثر من التغير الطفيف، وإذا كانت السيادة للثعالب، كان تغيير النظم والقواعد والقوانين هو الأساس.
والفرق الواضح بين ثعالب «باريتو» وبين «دمنة» - وكلاهما من نوع الثعلب، وكلاهما يستهين بالوسائل من أجل تحقيق غاياته - هو أن ثعالب «باريتو» طائفة في المجتمع تعمل على التغيير من أجل تطور حضاري يصيب الجميع، وأما «دمنة» فثعلب يمكر من أجل نفسه، وعلى حال فكلتاهما ثعلبة لا يستطيعها إلا من أوتي القدرة على تحطيم العرف المألوف، لكن ذلك يتم على صورتين؛ إحداهما تتم خلسة وخداعا، من أجل صالح فردي لا شأن للجماعة به، وتلك هي طريقة «دمنة»، والأخرى قد تتم جهرا وعلانية، حتى لقد تتخذ صورة الثورة الصارخة، من أجل صالح المجموع كله، وتلك هي طريقة الثعالب في تقسيم «باريتو».
ونترك «باريتو» بأسوده وثعالبه لنعود إلى ما أردنا الحديث فيه عن «دمنة» و«كليلة»، فنطرح السؤال: لأيهما الغلبة في حياتنا الحاضرة يا ترى؟ أهي لدمنة الذي يمكر في الخفاء ليصل، أم هي لكليلة الذي حفظ دروس الأخلاق كما أوصى بها المثل الأعلى؟ إنني لتحضرني الآن قسمة ثالثة ذكرها المتنبي ذكرا سريعا في بيت من شعره، حين قسم الأمر بين «النواطير» - أي رجال الحراسة - و«الثعالب»، ولعله كان قد أضمر في نفسه سؤالا كهذا الذي طرحناه (وكان حديثه عن مصر)، ثم أعلن الجواب، كما رآه في يومه، وهو أن النواطير قد نامت فغفلت عن الثعالب وفعلها، حتى لقد عاشت هذه الثعالب وسلمت وامتلأت بطونها، فلعل ليومنا جوابا عن سؤالنا، غير جواب المتنبي ليومه.
من هو الناقد؟
1
ألقى الأستاذ يوسف السباعي سؤاله هذا في سباق غاضب غضبة المظلوم على قاضيه، فلم تعد المسألة في رأيه مسألة الحكم وعدالته، ولكن أعمق من ذلك جذورا؛ لأن مناقشة الحكم وعدالته يسبقها سؤال حقيق بأن يلقى وينتظر الجواب: فمن ذا الذي أجلس القاضي على منصة القضاء؟ هكذا يعرض الأستاذ الأديب مشكلته وهو في ثورة غضبه من النقاد في «سخافاتهم وأحقادهم وكلامهم غير المفهوم»، فيمضي في حديثه ليسأل: «ما هي المميزات التي يجب أن يتميز بها إنسان معين لكي نقول عنه إنه ناقد؟»
إنه ليقال حقا إن السؤال المحكم أعمق أثرا في تاريخ الفكر من جوابه؛ لأن إلقاء السؤال السديد هو في الحقيقة إيذان بقيام حركة فكرية واسعة أو ضيقة، ثم تتتابع الإجابات متفقة أو مختلفة، لكنها في اتفاقها واختلافها تكون حركة فكرية واحدة ما دامت دائرة حول محور واحد، ولا تبدأ حركة جديدة إلا إذا نهض سائل آخر بسؤال جديد من هذه الأسئلة الخصبة المتحدية الشاحذة للعقول، وأعتقد أن سؤال الأستاذ السباعي هو من هذا القبيل؛ فقد كان لدينا نقد يغزر حينا ويضحل حينا، وكان لنا نقاد يعنف بعضهم مع بعض أو يتقارضون الثناء، لكني لا أذكر قبل الآن أن قد طرح السؤال الذي يتناول الجذور قبل أن يجادل في الفروع: من هو الناقد؟
ولو كان للنقد القائم محترفون وهواة، فأنا من هواته، أصحو له عاما وأرقد منه أعواما، ولست أدري إن كان لهواة الأدب والفن ما للمحترفين من حق في أن يتصدوا للسؤال المطروح بجواب أو محاولة جواب، فإن وجدني القارئ على ضلال رجوت المغفرة وهداية السبيل.
2
إنني على عقيدة راسخة بأنه لا نقد إلا إن كان الناقد على استعداد لتعليل رأيه، فإن قال هذا حسن وذلك رديء كانت عليه البينة، فلماذا كان الحسن حسنا والرديء رديئا، ولا يكفينا منه أن يمص شفتيه استحسانا وأن يمطهما استهجانا؛ فلو كان يستحسن لنفسه ويستهجن لنفسه لما كانت به حاجة إلى توجيه الخطاب إلينا، ولكنه يوجه إلينا الخطاب، وإذن فلا بد أن يجيء كلامه مما نستطيع المشاركة فيه، ولا يكون الكلام كذلك إلا إذا أشار الناقد في القطعة الأدبية المنقودة إلى مواضع بعينها وعلل موقفه إزاءها بعلل لا ترتكز كل الارتكاز على ذوقه الخاص من حب وكراهية؛ لأنه لو كانت حجته كلها هي أنه يحب أو يكره، لجاز لغيره أن يكره ما قد أحبه هو، وأن يحب ما قد أبغضه، ولقد كان الإمام الجرجاني على حق حين قال إنه «لا بد لكل كلام تستحسنه ولفظ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك علة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل» (ص33، دليل الإعجاز).
لا بد إذن للناقد من تعليل نقده، وإذا قلنا هذا فقد قلنا بالتالي إنه لا بد للناقد من الإشارة إلى شيء في مقومات الأثر الأدبي نفسه، خارج عن حالة الناقد النفسية الذاتية؛ لأنه لو اكتفى بالتعبير عن شعوره الذاتي من استحسان أو استهجان لم يكن في الأمر تعليل ولا شبه تعليل، واقتصر على أن يكون تقريرا لدعوى تنتظر الإثبات.
إنه إذا ما وقف الناقد إزاء الأثر الأدبي الذي ينقده، كان هنالك أربعة أطراف؛ فهنالك أولا الناقد وحالته النفسية إزاء الأثر الأدبي، وهنالك ثانيا الأثر الأدبي نفسه، ثم هنالك ثالثا الكاتب الذي أخرج الأثر، ورابعا البيئة المكانية والزمانية التي أحاطت بالكاتب وقت إنتاجه؛ فأي هذه الأطراف الأربعة ينبغي للناقد أن يتخذ منه محور الارتكاز في نقده؟ أي هذه الأطراف الأربعة يتخذ منه الناقد هدفا بحيث تجيء الأطراف الثلاثة الأخرى بمثابة الوسائل المحققة لبلوغ الهدف؟ أتكون بيئة الكاتب وظروفه هدفنا، بحيث ندرس الأثر الأدبي مصحوبا بنفسية الكاتب ونفسية الناقد على السواء؛ لنتخذ من هذه الجوانب كلها وسائل تعيننا على إلقاء الضوء على تلك البيئة وهذه الظروف؛ أم نجعل نفسية الكاتب هدفنا، بحيث ندرس الأثر الأدبي مصحوبا بدراستنا للبيئة ولنفسية الناقد؛ لنستعين بهذا كله على كشف الحجاب عن دقائق النفس عند الكاتب؟
أم يجعل الناقد نفسه وشعوره محورا؟ فكل هاتيك العناصر لا تعني شيئا إذا لم تكن حالة نفسية أحسها الناقد وهو إزاء الأثر، فلا يطلب منه في نقده إلا أن يعبر عن هذه الحالة التي أحسها تعبيرا صادقا، وكان الله يحب المحسنين. ورابعا وأخيرا، هل يكون الأثر الأدبي نفسه هو الهدف؛ فإذا درسنا ظروف البيئة، وإذا كشفنا الحجاب عن نفسية الكاتب، وإذا عبر الناقد عن شعوره إزاء ما قد قرأ، فما ذلك كله إلا لنزداد فهما للأثر الأدبي الذي نحن بصدده، ولنزداد علما بعناصر تكوينه وكيفية تركيب تلك العناصر؟
هذه اتجاهات أربعة في النقد الأدبي، ولكل اتجاه منها أنصار ومؤيدون، ولقد اتخذت لنفسي موضعا مع أنصار الاتجاه الرابع، الذي يجعل النقد الأدبي مقصورا على دراسة الأثر نفسه، وكل ما عدا ذلك إنما يجيء بمثابة الوسيلة التي تؤدي إلى غاية وراءها. إنني لا أكون ناقدا أدبيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة إذا ما اتخذت الأثر الأدبي نافذة أنظر خلالها إلى شيء سواها، كأن أنظر إلى البيئة والظروف الاجتماعية والسياسية التي هي قائمة وراء الأثر المدروس، ولو فعلت لكنت أدخل في زمرة علماء الاجتماع والسياسة، وكانت القطعة الأدبية التي أمامي بمثابة الوثيقة التاريخية لا أكثر ولا أقل، كلا، ولا أجعل من الأثر الأدبي نافذة أنظر منها إلى دخيلة نفس الكاتب، أو إلى دخيلة نفسي أنا، ولو فعلت لكنت أشبه بعالم النفس يحلل لمريضه أحلامه وردود أفعاله وخواطره ومشاعره، لا حبا في هذه الأشياء نفسها، بل لأنها هي الوسيلة الموصلة إلى غاية منشودة، وأما الناقد الأدبي فلا يكون جديرا باسمه هذا إلا إذا كان ناقدا أدبيا، فلا هو بعالم اجتماع وسياسة، ولا بعالم نفس أو طبيعة، إنما هو كما يريد لنفسه أن يسمى، هو ناقد أدبي، غايته هي دراسة قطعة أدبية يختارها للدراسة، فلا يجاوز حدودها إلى ما ليس منها إلا إذا كانت هذه العوامل الخارجية أدوات لفهمها هي، ووسائل للإحاطة بدقائقها وتفصيلاتها.
ولكن هذا الناقد الأدبي قبل أن يهم بنقده، لا بد له أولا أن يستحسن أو يستهجن ليبدأ بعدئذ في الدراسة التي يكشف بها عوامل استحسانه أو استهجانه في القطعة الأدبية نفسها؛ وإذن فلا بد للناقد من قراءتين على أساسين مختلفين؛ فقراءة أولى يتذوق بها، وإلى هنا ليس هو بالناقد؛ لأنه ربما قرأ وتذوق ووقف عند هذا الحد لا يتكلم ولا يكتب، أما إذا هم بالكلام أو الكتابة ليعلل تذوقه، فها هنا تأتي قراءة ثانية يبحث خلالها عن المقومات الخاصة في القطعة الأدبية التي أدت إلى تذوقه لها على النحو الذي وقع.
وإني لفي عجب بعد ذلك أن يثور خلاف بين أصحاب الرأي على طبيعة النقد الأدبي، أيكون ذاتيا أم موضوعيا؟ أيكون فنا أم يكون علما؟ لأن الأمر في عيني واضح المعالم بارز القسمات، فلو أراد الناقد بعد قراءته الأولى التي تذوق بها القطعة الأدبية أن يحدثنا عما تذوق، فماذا عساه أن يقول؟ أيقول كلاما آخر يعبر به عن حالة نفسية أخرى خاصة به، وعندئذ يكون أديبا منتجا للأدب، لا ناقدا يحلل قطعة أدبية؛ أم يقول كلاما يوضح به «لماذا» استحسن ما استحسنه أو استهجن ما استهجنه، بحيث يجيء الكلام هنا مشيرا إلى شيء في القطعة الأدبية نفسها، لا إلى شيء في نفسه هو؟ عندي أن ثاني الوجهين هو وجه الصواب.
3
لكن الناقد إذ يهم بقراءته الثانية التي يحلل بها القطعة الأدبية تحليلا يكشف عن مواضع سرها، محال عليه أن يؤدي ما يريد أداءه إذا لم يكن قادما وفي جعبته «مبدأ» معين على أساسه يقوم بعملية التحليل، فما هي الشروط التي يتوقع أن يراها متوافرة في الأثر الذي يدرسه؟
لا بد للناقد من «مبدأ» على أساسه يقوم بعملية التحليل، لا يستنبطه بادئ ذي بدء من عقله الخالص استنباطا ، بل يستخلصه من روائع الأدب التي أبقت عليها ظروف الزمن، بحيث جاءت أعوام وانقضت أعوام وهي ما تزال هناك مرموقة في أعين النقاد على اختلاف الأمزجة ومر القرون، من هذه الروائع الخالدة نستخلص «المبدأ» الذي إذا ما أجريته على تلك الروائع نفسها، وجدته شاملا للكثرة الغالبة منها إن لم يكن شاملا لها جميعا. إن الناقد لينطح برأسه جلمودا أصم إن هو اتخذ لنفسه مبدأ في تقدير القطعة الأدبية، لو أجراه على امرئ القيس والبحتري وعلى شيكسبير وملتن، وعلى أمثال هؤلاء جميعا، لوجدهم مارقين على مبدئه؛ فالذي ينبغي أن يتغير في هذه الحالة هو المبدأ المختار؛ لأن الجبل الراسخ رابض في مكانه ليس إلى زحزحته من سبيل.
غير أنه لحسن حظ القائمين بالدراسات الأدبية، يجوز لناقدين مختلفين أن يستخلصا من روائع الماضي مبدأين؛ لأن الأمر هنا أقرب إلى الأضواء الكاشفة، يمكنك أن تلقبها من هذه الزاوية فتبرز معالم وتختفي معالم، ثم تلقيها من تلك الزاوية فيختفي البارز ويبرز المختفي، فكيف يكون الفصل بين ناقدين اختلفا لأن كلا منهما اختار مبدأ غير المبدأ الذي اختاره زميله؟
أظن أن الأمر تفصل فيه الغاية المنشودة، فلماذا ينظم الشاعر شعره أو يكتب القاص قصته؟ لو اتفق الناقدان على غاية بعينها لم يحتج الأمر إلا إلى تحليل قليل ليتفقا بالتالي على مبدأ واحد شأنه أن يؤدي إلى تلك الغاية الواحدة، أما إذا اختلفا، فلم يعد سبيل بينهما إلى خصومة وجدال، أحدهما يريد السفر إلى الشمال، والآخر يريد السفر إلى الجنوب، ولكل منهما قطار، وإنما يكون الجدال مجديا إذا أرادا معا أن يتجها نحو الشمال، ثم اختلفا على أي الوسائل تكون أنسب للسفر.
4
ومن حق القارئ علي أن يسألني أي مبدأ تختار لنفسك على أساسه يكون تحليل القطعة الأدبية للحكم عليها، وجوابي في اختصار هو أن تكون القطعة الأدبية مكتفية بذاتها، غير معتمدة في فهمها وتقديرها على شيء وراءها ولا على شيء أمامها؛ فاعتقادي هو أن الأثر الأدبي - والأثر الفني بصفة عامة - يبعد جدا عن الفن الأصيل إذا كانت مهمته أن «يصور» شيئا، سواء كان هذا الشيء المصور خارج الإنسان أو داخله. إن كل كائن مخلوق في الدنيا قيمته في نفسه، لا في غاية يؤديها، فلماذا يشذ الخلق الأدبي والفني عن ذلك؟ هذا الجبل بديع لذاته، لا لأنه يصد الرياح الحارة ويلطف الجو، وكذلك قل في هذا النهر وتلك الزهرة، قله في الطائر الغرد، وفي كل فرد من الإنسان تستوقفك شخصيته لأي سبب من الأسباب. لو كانت مهمة القصيدة من الشعر هي أن تصف لي نهرا بذاته عند نقطة بعينها، ولو كانت مهمة القصة هي أن تصف لي شخصا بذاته في حقبة من الزمن بعينها، بحيث يجوز لي أن أنظر إلى الوصف من جهة وإلى الشيء الموصوف من جهة أخرى، فأقول إن الكاتب قد أجاد أو أساء، لما كان للأدب مهمة يؤديها؛ لأن النهر هناك لمن شاء أن يراه، ولأن الشخص المعين هناك لمن أراد أن يلتقي به أو أن يقرأ عنه في كتب التاريخ.
كلا، ليست مهمة الفن في شتى صوره أن «يحاكي الطبيعة» أو أن «يحكي» عن الإنسان؛ لأنه عندئذ يكون صورة باهتة لأصل ناصع، وفيم حاجتنا إلى الصورة وأصلها هناك قائم؟ ليست مهمة الفن في شتى ألوانه أن «يكشف» عن حقيقة سبق وجودها وجوده؛ لأن السابق عندئذ يكون متبوعا ثم يجيء الفن تابعا، كلا، ولا مهمة الفن في شتى قوالبه وأساليبه أن «يعظ» الناس كيف ينبغي أن يسلكوا في هذا الموقف أو ذاك؛ لأن الواعظين على المنابر قائمون بأداء هذه المهمة خير الأداء، ولكن مهمة الفن هي أن «يخلق» و«يبدع»، أن يخلق كائنا جديدا لم يكن له أصل سابق عليه، لا في جوانب الطبيعة الخارجية، ولا في حالات النفس الداخلية. نعم، قد يتخذ الفنان من هذه وتلك عناصره، كما يتخذ من لغة التفاهم نفسها أدواته، لكن الكائن الذي يبدعه من تلك العناصر وبهذه الأدوات لا بد أن يكون خلقا وإبداعا.
بهذا المبدأ الذي أوجزته إيجازا شديدا تراني أقبل على القصة أو القصيدة باحثا فيها عن مواطن سرها، وبمقدار ما أراها معتمدة على ما ليس منها وما ليس فيها يكون نقصها، فلست أريد لها أن ترتكز على حادثة أو حوادث معينة، بحيث لا يكون لها معنى مفهوم بغير تلك الحوادث، ولست أريد أن ترتكز على قيمة خلقية أو على عقيدة مذهبية معينة، بحيث تفقد كيانها كله لولا تلك القيمة الخلقية أو هذه العقيدة المذهبية. إنها لو فعلت شيئا من هذا كانت - على فرض بلوغها حد الكمال في مهمتها - شيئا يفتقر إلى ما هو أهم منها.
فإذا سألني الأستاذ السباعي قائلا: من هو الناقد؟ أجبته بهذا الجواب الموجز: هو رجل زودته تجاربه الفنية بمبدأ يسري على روائع الأدب في الماضي، ويريد له أن يسري على نتاج الأدباء في الحاضر.
الأديب ثم الناقد
لن أطاول نقادنا المحدثين في علمهم بمبادئ النقد الأدبي ومذاهبه؛ ولذلك فلن أستخدم في هذه الكلمة القصيرة لفظا واحدا من مصطلحاتهم، بل إني سأقول كلمتي بسيطة صادرة عن قارئ بسيط؛ فالعلاقة بين الأدب والنقد - كما أراها - هي نفسها العلاقة بين كاتب وقارئ.
فكما يتفاوت حملة الأقلام ارتفاعا وانخفاضا في القدرة على التعبير عن ذوات أنفسهم، فكذلك يتفاوت القراء ارتفاعا وانخفاضا في القدرة على فهم ما يقرءونه؛ فإن كان من يبلغ من القدرة الكتابية حدا ملحوظا هو الذي يسمى كاتبا، فالقارئ الذي تبلغ قدرته على فهم ما يقرؤه حدا بعيدا هو الذي نسميه ناقدا؛ فليس إذن في العلاقة بين الأدب والنقد سر ولا سحر، ما دام الأدب كتابة لكل من أراد أن يقرأ، والنقد قراءة تتميز بجودة الفهم لهذا المكتوب.
وإن هذه المقدمة الواضحة التي يمليها الإدراك الفطري لتستتبع نتائج هامة؛ منها أن الناقد الذي يقبل على كتاب ليقرأه، مزودا بمذاهب ومبادئ في النقد الأدبي، يخرج على طبيعة موقفه - من حيث هو قارئ - خروجا من شأنه أن يفوت عليه هدفه الرئيسي، وهو أن يقرأ ليفهم؛ فالبداهة تقضي بأن يكون الإنتاج الأدبي أسبق من المذاهب المختلفة في نقده.
لقد اختلف النقد مذاهب حين اختلف المجيدون لفن القراءة في فهم هذا أو ذلك من الآثار الأدبية المعينة؛ فالأثر الأدبي أولا، ثم اختلاف الرأي في فهمه ثانيا؛ فقارئ قد يقول إن الكاتب يصور الواقع، وآخر يقول بل إنه يصور دخيلة نفسه، وثالث يزعم أن الكاتب قد انصرف بأثره الأدبي إلى خلق شيء جديد، لا هو من الواقع، ولا هو من مكنون النفس، وهلم جرا. هكذا تختلف الآراء والعمل الأدبي واحد، وبعدئذ ينشأ عن اختلاف الآراء ما يسمى بمذاهب النقد، لكننا عند هذه الخطوة الثانية نكون قد جاوزنا النقد ذاته لندخل في شيء آخر، لك أن تسميه - إن شئت - بفلسفة النقد.
النقد قراءة نافذة؛ ولهذا فهو مرتبط حتما بعمل أدبي معين، قرئ مثل تلك القراءة الجيدة المبصرة. أما أن يكون نقد ولا قراءة، أعني أن يكون مستقلا عن الشيء المعين المنقود، فذلك كزرع شجرة في الهواء، لا اتصال بينها وبين الأرض التي تضرب فيها بجذورها لتستمد غذاءها.
هذه حقائق أراها واضحة إلى الحد الذي أتوقع معه أن يسأل سائل: لماذا تقول كلاما كهذا وما نحسب أحدا يجهله أو ينكره؟ لكن ما ظنك وهنالك بين نقادنا المحدثين - برغم معاركهم الصاخبة من حولنا - قد جهلوه وأنكروه؟ فهم يبدءون الشوط من آخره لا من أوله؛ إذ تراهم يبدءون بمذاهب نقدية يدرسونها كثيرا أو قليلا، ثم يحفظون ما قد درسوه حتى يجيدوا التحدث فيه، وكان ينبغي لهم أن يبدءوا بقراءة الأثر الأدبي المعين؛ ليروا كيف يفهمونه، فإذا اتفقوا أو إذا اختلفوا على طريقة فهمه، أعلنوا فينا مواضع اتفاقهم ومواضع اختلافهم؛ لنستعين بها نحن القراء الذين لم نوهب مواهبهم في الفهم والتحليل، عندما نقرأ بدورنا ما قد سبقونا إلى قراءته، ولن يجدينا شيئا قط أن يطنوا في آذاننا بأسماء المذاهب النقدية مجردة في الهواء، غير نابعة من المادة المقروءة نفسها.
كنت ذات مساء أسمع في الإذاعة ندوة في النقد الأدبي عن مسرحية عربية لمؤلف عربي، فسمعت الآراء تصطرع اصطراعا عنيفا حول «المذهب الأدبي» الذي تنتمي إليه تلك المسرحية؛ وذلك لأن نقادنا جاءوا إلى ندوتهم الأدبية ومعهم «خانات» من مذاهب درسوها في النقد، ويريدون الآن أن يجدوا للمسرحية المذكورة «خانتها» الملائمة لها، أو أن تأخذهم الحيرة ويدب بينهم الخلاف! إن أحدهم ليستشهد ب «إبسن»، والآخر يستشهد ب «إليوت»، ولكن المسرحية المسكينة لا هي مما كتب «إبسن»، ولا مما كتب «إليوت»؛ إنها المسرحية الفلانية ذات المضمون الفلاني وكفى؛ فماذا لو كانت تستعصي على الانضواء تحت مقولة أدبية بعينها؟
ومن الازدواج الطبيعي بين الكتابة الأدبية والقراءة النقدية تتكون عدة صور؛ فأحيانا يوجدان معا في عصر واحد، وذلك حين يكون إلى جانب الأديب الكبير قارئ كبير، وأحيانا أخرى يوجد الأديب ثم لا يكون بين معاصريه من يرقى إلى مستواه فهما وتحليلا وحسن تقدير، وعندئذ يكون أدب ولا يكون نقد، وأحيانا ثالثة يوجد القارئ الممتاز، لكن لا يجد من أدباء عصره من يحقق له المستوى الرفيع الذي تتطلبه قدرته على القراءة المستنيرة المنيرة معا، وهنا يكون نقد ولا يكون أدب، ويغلب في هذه الحالة أن يرتد هذا القارئ إلى العصور السالفة يختار من موروثها الأدبي ما يلائمه، وأحيانا رابعة يختلف الأديب المجيد والقارئ المجيد معا، وعندئذ فلا أدب ولا نقد.
فلو جاز لي أن أعمم القول في تاريخنا الأدبي خلال نصف القرن الأخير، لقلت إن قراءنا الكبار - وأعني النقاد - لم يجدوا أول الأمر كثيرا مما يكتب متكافئا مع قدرتهم النقدية، فارتدوا إلى التراث الأدبي في الشرق وفي الغرب معا، كما حدث - مثلا - عندما «قرأ» العقاد ابن الرومي، وعندما «قرأ» طه حسين المتنبي وأبا العلاء. نعم، كان مع نقادنا من يشغلهم من الأدباء، كما شغل شوقي ناقدينا العقاد وطه، لكنهما في الأعم الأغلب حسبا الطاقة النقدية على أدب عربي قديم أو أدب غربي قديم أو حديث، وسواء كان الأدب المنقود عندئذ قديما أو معاصرا، فقد كان دائما «قراءة» فاهمة مستأنية.
تلك كانت حالنا أول الأمر، ثم تبدلت؛ فقد أخذ الأدب الأصيل يكثر ويغزر، وكان ينبغي أن يجد له القارئ الأصيل، لكنه - وا أسفاه - لا يجد إلى جانبه إلا من يرطن له رطانة المذاهب والمبادئ، فلا العراة وجدوا من يكسوهم، ولا الأثواب المعروضة قدت على قد العراة!
إنه من قلب الأوضاع أن يضع الناقد نفسه موضع الرقيب الهادئ، يراقب سير الأديب ويهديه؛ لأن للأديب أسبقية منطقية وفعلية على الناقد؛ فهو بالتالي أسبق من رقابة الناقد وهدايته، ولو أراد الناقد أن يلتزم مكانه الصحيح، لجاء في عقب الأديب، يقرؤه ويفهمه ويحلله ويشرحه، وإلا فأين تكون الرقابة والهداية إذا نحن اتجهنا بالنقد إلى أدباء الماضي مثلا؟ هل كان طه حسين يراقب المتنبي ليهديه سواء السبيل؟ هل كان العقاد يعلم ابن الرومي كيف ينبغي له أن ينظم الشعر؟ ولا اختلاف في الجوهر بين أن يكون الأدب المنقود ماضيا أو حاضرا؛ ففي كلتا الحالين لا رقابة هناك ولا هداية، بل هنالك قراءة تستحسن المقروء أو تستقبحه.
إن النقد الأدبي - بحكم منطوق هذه العبارة نفسها - ينصب على «الأدب» لا على «الأديب»، والأدب لا يهتدي ولا يضل، إنما الذي يضل أو يهتدي هو الأديب، والأديب ليس من شأن الناقد؛ لسبب بسيط، وهو أن الأديب «إنسان» من لحم ودم، على حين أن بضاعة الناقد مادة مقروءة سطرت له في كتاب، لكن نقادنا المحدثين يريدون أن يمسكوا للأدباء بعصا التأديب، ويتركوا بضاعتهم الأدبية.
نعم، كان لدينا نقد أصيل حين لم يكن عندنا من الأدب الأصيل إلا قليل، فلما أن جاءنا الأدب الأصيل قليلا قليلا، زال عنا النقد السليم قليلا قليلا، وذلك هو موضع العجب والتساؤل.
أدب الناشئين
تدور الأحاديث في دوائرنا الثقافية منذ سنوات عن الأديب الناشئ كيف نشجعه، ولقد بذلت بالفعل جهود مذكورة ومشكورة في هذا السبيل لما انطوت عليه من حسن النوايا، وليس لما حققته من طيب النتائج، ولي في الموضوع رأي أعرضه، وهو أنني لا أتصور لتشجيع الأديب الناشئ طريقا سديدا سوى أن ننسى أنه ناشئ؛ لأنه إذا كان يعوق الناشئين عائق دون الظهور بما يستحقه نتاجهم الأدبي، فذلك أننا - أفرادا وهيئات، بصفاتنا الأهلية أو بصفاتنا الرسمية - نضع في اعتبارنا أنهم ناشئون.
أكبر عون نسديه إلى الأدباء الناشئين هو أن ننظر إلى حقيقة أعمالهم الأدبية، بعد أن نعصب أعيننا بغطاء كثيف، حتى لا نقرأ الأسماء، فلا ندري ونحن أمام تلك الأعمال، أهي للناشئين أم هي للناضجين، وعندئذ قد نرى من الأمر عجبا، حين ينكشف عن الأعين غطاؤها؛ إذ قد يتبين أن من بين أصحاب المواهب الناشئة من سبق الزمن بنضجه الباكر، كما قد نتبين أن من «الكبار» من يحيا على رصيد ماضيه.
إنه كثيرا ما يحدث أن يكون أول كتاب للكاتب هو أجود ما كتب، فكأنما يبدأ حياته الأدبية بعد ذلك نزولا من تلك الذروة إلى السفوح، ولذلك علته، وهي أن أول كتاب هو في حقيقته حصيلة خبرات أخذت خلال أعوام الصبا والمراهقة وأوائل الشباب تفرز وتتكاثر، حتى تفجرت في ذلك الكتاب الأول، ومن هذه الزاوية لا يكون «الناشئ» أحيانا هو الإنسان الذي يبدأ طريقه من أسفل الدرج متجها إلى صعود، بل قد يكون في حقيقة أمره في أعلى الدرج؛ لتجيء حياته الأدبية بعد ذلك هبوطا، وفي مثل هذه الحالة قد يروعنا صاحب الكتاب الأول بأكثر مما يروعنا صاحب الكتاب الأخير، على شرط أن نفحص الكتابين ونحن لا ندري أيهما لأيهما. وأما إذا أقبلنا على الكتابين وملء رءوسنا الفكرة بأن هذا «ناشئ» وذلك ناضج كبير، وأن الأول يحتاج منا إلى رعاية حانية تناسب بنيته الضعيفة، وأما الثاني فمن حقه علينا أن نحني له الرءوس احتراما، حتى قبل أن ندير عن كتابه الغلاف، فالغبن في هذه الحالة إنما يقع على الناشئ، والغنيمة كلها لأخيه الكبير! أفلسنا على حق - إذن - حين نقول إن أكبر عون نسديه إلى الناشئين هو أن ننسى أنهم ناشئون؟
بأي ميزان يقبل القارئ على كتاب يعرض في الأسواق على أنه لأديب ناشئ؟ أليس الشعور الأغلب عندئذ هو الشعور الذي ينتاب سائق سيارة حين يرى على سيارة أخرى تسبقه أو تجاوره علامة تنبئ بأن سائقها «يتعلم» القيادة، فعلى الناس أن يتذرعوا بالخوف والحذر؟ إنني أتمنى أن تجري وزارة الثقافة إحصاء لما قد نشر تشجيعا للناشئين، كيف استقبلته سوق البيع والشراء؟ وأريد أن أضع خطا تحت كلمة «سوق» حتى لا نخلط بين حالتين؛ حالة ينفد فيها كتاب لأن القراء أقبلوا على شرائه لقيمته، وحالة أخرى ينفد فيها كتاب آخر لأن المكتبات الرسمية - في المدارس والمعاهد وغيرها - قد ملأت به رفوفها، وإنه لخلط وقع فيه كثيرون قبل ذلك، حتى من كبار كبارنا، حتى كانت تشترى من كتبهم للمدارس أو لغيرها عشرات الألوف، فسرعان ما يتوهمون أن الكتب قد ذهبت من الأسواق وأعيد طبعها لقيمتها الذاتية، وينسون ساعتها ما كان لأسمائهم الضخمة من قوة ونفاذ.
لقد ذكرت الآن لتوي، بعد أن كتبت هذا السطر الأخير، شيئا كدت أنساه، فذكرت مقالا كتبته منذ أكثر من عشرين عاما، وكان عنوانه «شيوخ الأدب وشبابه»، وكان ذلك بمناسبة صدور كتاب للمرحوم أنور المعداوي، وهو كتاب «نماذج فنية من الأدب والنقد» - وأظنه كان كتابه الأول - فقمت لأسترجع ما كنت كتبته في ذلك المقال؛ لعل له صلة بما أنا في سبيله اليوم، وإذا بي أجد الفكرة متشابهة؛ وذلك أني أنكرت على مؤلف ذلك الكتاب أن يفرق في الأدب بين شيوخ وشباب، وأستأذن القارئ في أن أعيد له أسطرا مما كتبته في ذلك اليوم البعيد: «... في مصر بدعة أدبية لا أعرف لها نظيرا في الآداب الأوروبية، وهي أن يقسموا الأدباء إلى شيوخ وشباب، على أساس الأعمار ... وكان الأمر يستقيم بين أيدينا، لو فهمنا الشباب والشيخوخة في الأدب بمعنى آخر! فشيوخ الأدب هم من ساروا على نهج معين في فهمهم للأدب وفي معيارهم للإبداع الفني، حين يكون ذلك النهج قد استقرت به القواعد منذ حين، ولا فرق عندئذ فيمن ينهج هذا النهج بين من تقدمت بهم السن أو تأخرت، فكلهم «شيوخ» في الأدب لأنهم يلاحقون الزمن من قفاه، ويتأثرون السلف في الأهداف والوسائل، وشباب الأدب هم من خلقوا مدرسة جديدة يناهضون بها النهج القديم السائد، ولا فرق عندئذ بين من تقدمت بهم السن أو تأخرت، فكلهم «شباب» في الأدب لأنهم نبات جديد تتفتح أكمامه للشمس والهواء. إن أدباء الابتداع في الأدب الإنجليزي في أول القرن التاسع عشر - مثلا - كانوا في مجرى الأدب شبابا نضرا تتفجر الحياة الجديدة من سطورهم، ولسنا نسأل بعد ذلك كم كان عمر «وردزورث» حينئذ، أو عمر «كولردج»، فليكن عمره ما يكون في حساب السنين، لكنه «شاب» في خلقه وإنتاجه.» إلى آخر ما جاء في ذلك المقال القديم.
نعم، لقد كانت التفرقة يومها بين شيوخ الأدب وشبابه، ثم أصبحت التفرقة في يومنا بين «الناشئين» ومن لست أدري بماذا يسمونهم، لكن المحصلة متقاربة - إن لم تكن متطابقة - في الحالتين؛ فالمعقول إنما يكون على مضمون النتاج الأدبي وجودته، بغض النظر عن درجات السلم وأين يكون منها صاحب الكتاب، ولا تتوافر لنا هذه النظرة «المضمونية» الموضوعية، إلا إذا أغمضنا الأعين عن أسماء الكاتبين، ونسينا أين يقع الناشئ وأين يقف من عداه.
إن كلاما كهذا لا يقال بالطبع للناشر في القطاع الخاص؛ لأنه تاجر ينشد الربح قبل أن ينشد أي شيء آخر، وجزء كبير من هذا الربح يضمنه له صاحب الاسم المعروف، لكنه كلام نقوله محقين إلى الهيئات الرسمية التي جعلت مهمتها أن تتلافى سيئات التجارة الهادفة إلى الكسب دون سواه، بأن تتولى نشر ما لا يستطيع القطاع الخاص أن يتصدى لنشره، سواء كان ذلك لأن المؤلف ناشئ يأباه الناشر الخاص، أو لأن المؤلف ناضج لكن كتابته أثقل من معدة الناشر الخاص؛ ففي هذه الحالة تبطل مشروعية السؤال: كيف نشجع الناشئين؟ لأننا سنجد بين أيدينا صنفين من الكتب سدت أمامهما أبواب السوق، أحدهما للناشئين لأنهم ناشئون، والثاني للناضجين لأنهم بالغوا في درجة النضج، وفي كلتا الحالتين يكون مدار الاختيار هو الجودة وحدها، دون أن نقرع النواقيس في آذان القراء، مؤذنين بأن هذا الكتاب لناشئ وذاك لناضج، فلا تبقى بين شفاهنا إلا كلمة واحدة نقولها للقراء كلما أصدرنا لهم كتابا بأموال الدولة، وهي: هذا كتاب جيد استحق أن تنفق فيه الأموال، وأن يبذل فيه العطاء.
إنك إذا قدمت إلى الناس كتابا بقولك عنه إنه «ناشئ»، فقد قضيت على الكاتب والكتاب، وأظنه كان «جون رسكن» الذي قال عن نفسه - وهو بصدد الحديث عن قراءة الكتب - إنه لا يقرأ الكتب إذا عرف أنها لناشئين؛ إذ فيم المضيعة للجهد والمكتبة مليئة بما خلفه لنا سادة الكلام من أعلام الأدب؟ فإن لم يكن كاتب الكتاب أحكم منك - هكذا أذكر قول رسكن - فلا حاجة بك إلى قراءته. إنك تقرأ الكتب التي تقول عما ورد منها: ما أغرب هذا الذي أقرأ! إن فكرة كهذه لم تطف لي من قبل في بال، لكني أراها فكرة صحيحة، وإن لم أرها صحيحة اليوم، فأرجو أن أراها كذلك بعد حين. فاذهب إلى الكاتب - إذن - لتأخذ عنه فكرته، لا لتجد عنده فكرتك، فهل تراني بعد هذا كله ذاهبا إلى كاتب يقال لي عنه مسبقا إنه «ناشئ»؟ كلا، بل قدم لي الكتاب الذي يغريني بالقراءة لعلي أجد فيه رجلا أعلم مني وأحكم، وربما كان بين الناشئين من هو أعلم وأحكم وأنفذ بصرا وأصدق بصيرة، فناشدتك الله لا تضيع عليه منزلته الأدبية الرفيعة هذه بأن تعلق على جبينه لافتة تصرخ في الناس بأنه من «الناشئين».
ثقافة الجماهير
«ثقافة الجماهير» عبارة تتردد على الألسنة والأقلام، وترصد من أجلها الأموال، وتقام الإدارات وتخطط المشروعات، كأنما هي عبارة محددة المعنى لا اختلاف على مدلولها، وإنني لأشهد بأنني إذ حصرت ذهني في مفهومها لأرسم لنفسي حدودها، ألفيتها من تلك العبارات المبهمة المراوغة التي لا تكاد تمسك من حقيقتها بطرف حتى يفلت منك طرف آخر، ولكن تحديد ما نريده بهذه العبارة أمر لا مفر منه، وإذا لم يكن مثل هذا التحديد الحاسم لمعناها ممكنا، فلا أقل من الوصول به إلى درجة من التقريب، تتناسب مع أهميتها وخطورتها، حتى نبذل الجهود في سبيلها ونحن على شيء من الهدى.
وأولى المشاكل التي تعترضك في هذا الصدد، هي هذه: أنريد بثقافة الجماهير شيئا خاصا نوجهه إلى أكثرية الشعب التي لم تظفر بحظ موفور من التعليم المدرسي وما يشبهه، أم نريد بها تلك الثقافة التي تتمتع بها الأقلية المتعلمة نفسها، وكل ما علينا عندئذ هو أن نشق لها قنوات التوصيل التي توصلها إلى جمهرة الناس في حقولهم ومصانعهم وبيوتهم، بعد أن كانت تلك القنوات مسدودة مقفلة دونهم؟! بعبارة أخرى ربما كانت أوضح، هل نجعل بين أيدينا ثقافتين؛ أحداهما للقلة المتعلمة، والأخرى لجمهور الناس، أم نجعل بين أيدينا ثقافة واحدة هي التي تظفر بها الأقلية في مراحل تعلمها، وهي نفسها كذلك التي نوجهها - مع اختلاف في الأسلوب - نحو الجماهير؟
وإجابتي السريعة عن هذا السؤال، هي أن فكرة الثقافتين مرفوضة من الوجهة النظرية ومن الوجهة العملية على السواء؛ فمن الوجهة النظرية نريد رأيا عاما موحدا في مزاجه وفي منحاه، وإن لم يكن موحدا في تفصيلات أفراده، ومثل هذا الرأي العام الموحد المتجانس لا ينتج لنا إلا ثقافة واحدة، ومن الوجهة العملية لا يعقل أن يكتب الأدباء قصصا ومسرحيات للقلة، وقصصا أخرى ومسرحيات أخرى للكثرة، ولا يعقل أن يرسم الفنان أو أن ينحت المثال صورا وتماثيل للقلة، وأخرى للكثرة، وقل شيئا كهذا في سائر العناصر التي تتكون منها البنية الثقافية.
تلك إذن مسألة تعترضك في أول الطريق، وتجيء بعدها مسألة أخرى تتصل بالجانب أو الجوانب التي قد نقصد إليها عندما نتحدث عن «ثقافة الجماهير»؛ فربما كان البناء الثقافي واحدا للقلة وللكثرة معا، غير أن لكل منهما جوانب خاصة يقتصر عليها في حياته الثقافية؛ ذلك أننا نستطيع أن نتصور للبناء الثقافي الواحد أربعة جوانب على الأقل: أحدها هو المهنة التي ينتهي إليها التعليم والتدريب، وثانيها هو الإحاطة بحقيقة ما يجري من الأحداث، وهو ما يسمى بالإعلام، وثالثها هو المتعة الفنية التي نصيبها من مطالعة الفن والأدب، ورابعها هو الإحساس العام بالقيم. فهل نريد للجماهير بعض هذه الجوانب دون بعض، أم نريد لهم أن يظفروا من كل هذه الجوانب بنصيب لتجيء الحصيلة منسقة متكاملة ؟ كأن نزيد الفلاح - مثلا - تدريبا على الفلاحة المؤسسة على العلم، ثم نزوده في أوقات فراغه بمعلومات عما يجري حوله من أحداث، ونقدم له من وسائط الفن من سينما ومسرح ومعارض نحت وتصوير ما يرهف ذوقه الفني، ونعمل من خلال ذلك كله على أن نبث في نفسه إحساسا بالقيم العليا التي يراد له أن يعيش على منوالها، لو كان
الشعب - قلة وكثرة على السواء - يلتقون على ساحات ثقافية واحدة، ولا فرق بين هؤلاء وأولئك إلا في الدرجة وحدها.
على أنه لا ينبغي، لاختلاف الدرجة بين أبناء الشعب الواحد، أن ينقص من قوة وحدته الثقافية، فمن هذه الوحدة يأتلف الشعب في وجهة نظر واحدة، في إحساس واحد، في مجموعة من القيم واحدة، ومثل هذه الوحدة هو الذي تفجرت به روح الشعب في حرب أكتوبر، فأين - إذن - يكون الملتقى الذي يلتقي عنده الجميع، برغم ما يختلفون فيه من ارتفاع الدرجة الثقافية أو انخفاضها؟ إن هذا الملتقى لا يكون - بالطبع - في نوع المهنة أو في طرائق الحياة الخاصة التي قد يتميز بها فرد عن فرد، وأسرة عن أسرة، بل يكون الملتقى عند نقطة الوعي بمعنى الحياة التي نعيشها؛ فقد يحيا الإنسان حياته على دروب مكررة مألوفة، كما يفعل النحل أو النمل في مسالك حياته، وعندئذ يكون إنسانا بلا «ثقافة»، برغم أنه إنسان عامل ومنتج، وإنما يكتسب صفته الثقافية في اللحظة التي ينتقل عندها من الحركة الآلية إلى إدراك هدفها وما تنطوي عليه من معان وقيم ومبادئ. الثقافة هي الفرق بين مجرد الوجود - حتى وإن كان وجودا مليئا بالعمل، لكنه لا يعي قيمه وأهدافه - وبين الوجود الواعي بهذه القيم والأهداف.
ف «ثقافة الجماهير»، أو إن شئت فقل «تثقيف الجماهير»، هو أن نطلع الناس على أشياء من شأنها آخر الأمر أن تبين لهم على أي المبادئ نسير، وإلى أي الأهداف نتجه، بشرط أن يجيء ذلك كله إخراجا لما استقر في نفوسهم هم من آمال ولم يستطيعوا التعبير عنه، فجاءتهم القلة القادرة - وهي منهم - بمثل ذلك التعبير، في قصة وفي مسرحية، وفي شعر وفن، وفي قطعة من التاريخ تروى، وفي فكرة تضيء الطريق.
فهل هذا هو ما نصنعه فيما نسميه «ثقافة الجماهير»؟ إن الانطباع العام الذي أمكنني استخلاصه من كل ما أراه وما أسمعه، هو أن تلك «الجماهير» تتلقى ما تتلقاه وهي على شعور - في أغلب الحالات - بأنها تتلقى ما هو أقرب إلى الوعظ منه إلى التعبير الصادق عما تحسه في بواطن نفوسها؛ وبذلك تضيع الثمرة، ولا يبقى سوى الأعواد الجافة التي سرعان ما تتحول إلى هشيم، ولو كانت العلاقة وثيقة وحميمة بين السامع وما يسمعه، أو بين الرائي وما يراه، لتحول إدراكه لما سمع وما رأى إلى سلوك يغير به حياته على الوجه الذي نريد له أن يتغير، لكننا نلحظ فقدان الرابطة بين الإدراك والسلوك؛ فالمادة الثقافية المعروضة تذهب مع الريح، وتظل حياة الناس العملية سائرة على دروبها، وإلى أن يتغير هذا السلوك وفق المادة الثقافية المعروضة، لا يحق لنا حديث عن «ثقافة الجماهير».
أهي نكسة ثقافية؟
مائة وسبعون عاما مضت منذ انفتحت أبوابنا على حضارة العصر، وذلك بعد أن لبثت تلك الأبواب مغلقة دون تلك الحضارة ثلاثة قرون، كانت هي العصور المظلمة من تاريخنا، فما انفكت مصر طوال تاريخها المديد، تدير وجهها إلى بحرها الأبيض مرسلة بصرها عبر ذلك البحر إلى ما وراءه، لكنها استدبرته خلال تلك القرون الثلاثة المعتمة الراكدة، فلم تكن تدري عندئذ ماذا يحدث خلف البحر من أحداث. أقول إن مائة وسبعين عاما قد انقضت منذ انفتحت أبوابنا على حياة العصر الجديد، فهل يجوز عند العقل بعد هذه المسيرة الطويلة أن يسأل سائل منا: هل نبقي على الأبواب مفتوحة أو نوصدها؟ إنها إذا لم تكن نكسة ثقافية تصيبنا، فإن السؤال المشروع الوحيد ليس هو: هل؟ بل: كيف؟ فالأخذ عن مصادر الحياة الجديدة محتوم، ولكنا نسأل: كيف يكون؟
إننا خلال المائة والسبعين عاما الماضية لم نقف يوما لنسأل: هل نستقي الحضارة من معينها أو نترك حلوقنا لجفاف الظمأ، اللهم إلا نثارات بشرية حقدت على التقدم لأنها تخلفت، وأما التيار العام في تدفقه المطرد، فلا يعرف أصحابه سؤالا إلا أن يكون هذا السؤال: ماذا تنبغي إضافته من تراثنا إلى ذلك الشراب؟
جلس الطهطاوي مع تلاميذه في مدرسة الألسن يترجمون عن النتاج الأوروبي، لا يسأل أحدهم: هل نمضي على الطريق؟ وجاء أعلام فكرنا الحديث ليطالعوا صفحات الفكر الأوروبي، يقبلونه أو يتمردون عليه، لكنهم يطالعونه، وإلا فكيف كان يتاح لهم المعارضة إذا لم يفتحوا عقولهم له أولا قبل أن يقعوا فيه على مواضع الرفض ومواضع القبول؟ وهكذا سرنا جميعا على غرار ما صنعه الأئمة الأولون؛ نفتح أعيننا ونرهف آذاننا لنرى ونسمع ما يكتبه رجال الفكر الجديد عبر البحر. ولقد اختلف المثقفون منا أشد اختلاف حول الثقافة الوافدة إليهم من هناك، لكن قلما بلغ الخلاف بينهم حد السؤال: هل نمضي على الطريق أو نكف عن السير؟ لأن معظم الخلاف بينهم قد دار حول ما تجب إضافته ومزجه ليصبح الشراب شرابنا.
وجاءت ثورة يوليو سنة 1952م داعية في أصرح صراحة إلى فتح الأبواب كلها على مصاريعها لتهب رياح الفكر علينا من جهات الدنيا الأربع، على أن ننقد ونمحص ونعدل ونلائم حتى تتشكل الثقافة الوافدة تشكيلا يتفق مع ما تسيغه نفوسنا بما تتميز به هذه النفوس من خصائص، وهل في مقدور إنسان على وجه الأرض أن يكون سواه؟! إنك حتى إذا أردت عامدا أن تجعل نفسك أحدا سواها، فلن تستطيع ذلك إلا بعد عراك باطني هو أعنف عراك يتصدى له إنسان، فلست أدري فيم خوف الخائفين.
لنذكر دائما حقيقة هامة في هذا المجال، وواضحة غاية الوضوح لمن يتدبر الأمور ولا يتعجل الأحكام، وهي أن «العصر» هو «أهله»، ليس هناك عصر في ناحية وناس في ناحية، بل هؤلاء الناس هم أنفسهم عصرنا الذي نتحدث عنه؛ وبهذا لا يبقى أمام المترددين سوى أن يسألوا: هل نعيش مع الناس أم نعزل وحدنا في ركن نتقوقع فيه من أركان التاريخ، فيصبح الخبر عنا كالخبر تستمده من أحجار أثر قديم؟
غير أن العصر وإن يكن متجسدا في أبنائه، فهؤلاء الأبناء - برغم اشتراكهم في عصر واحد - يختلفون في ملامحهم الثقافية الإقليمية، فليس الإنجليزي كالفرنسي، وليس الأمريكي كالروسي، ولا الألماني كالياباني، لكن هؤلاء جميعا شعوب في مواضع الريادة والقيادة من عصرنا، لم تمنع سماتهم المتباينة أن يتشابهوا في تجسيد الحضارة القائمة، فماذا - إذن - يشكك العربي اليوم في إمكان أن يجمع بين عروبته وعصريته في آن معا؟ ولست أريد هذا الجمع بمجرد اللفظ نقوله، ولكني أردته بالفعل والسلوك ووجهة النظر. إنني كثيرا ما أسمع الأحاديث أو أقرأ المقالات، يقولها ويكتبها رجال هم من أفضل رجالنا وأخلصهم نية، لكنني - مع ذلك - لا يسعني إلا العجب، ماذا يريدنا هؤلاء الأفاضل أن نصنع لنعجبهم؟ فهذا متحدث - مثلا - يدير حديثه حول إفلاس الحضارة العصرية كلها، فهل كان هذا المتحدث يعبر للناس صادقا عن خبرته الحية في ذلك؟ هل اضطر إلى السفر فامتنع عن ركوب الطيارة أو السيارة أو القطار لبطلان هذه الوسائل وكذبها؟ هل اضطر إلى إجراء تحليلات طبية واستخراج صور بالأشعة السينية عن أجزاء جوفه فأبى على نفسه الخضوع لهذه العمليات الحضارية الجديدة لأنها باطلة وكاذبة؟ هل يطالبنا بالامتناع عن مشاركة الدول في هيئة الأمم المتحدة لأنها وليدة الفكر الجديد؟ هل عرض على ابنه أو أخيه أو أحد من ذوي قرباه بأن يسافر إلى بلاد الحضارة الجديدة دارسا، فنصحه ألا يستجيب لئلا يتعرض لمصادر البطلان والكذب؟ إنني أود مخلصا أن أعرف ماذا يصنع هذا المتحدث في حياته الشخصية بناء على اعتقاده بأن حضارة العصر كاذبة وباطلة، أم أن الأمر كله عنده كلام في كلام.
ولقد تسمع من يقول: نأخذ من هؤلاء الناس علومهم وتقنياتهم، ولا نأخذ الثقافة، وهي تفرقة ظاهرية تضرنا أكثر مما تفيدنا؛ فهي إذ تبلبل أفكارنا لا توضح لنا سبيل تطبيقها كيف يكون، فهل يتصور هؤلاء القائلون جهازا علميا لا تصحبه عادات جديدة وأسلوب من العيش جديد؟ أيظنون أن الأجهزة العلمية قطع من حديد نستخدمها «من الظاهر» دون أن تمس نفوسنا فتحولها من الأعماق؟ خذ مثلا بسيطا جهاز التليفزيون! هل تراه في دارك صندوقا أخرس لا شأن لثقافتك به، بحيث تقول إنني «أستورد» الجهاز العلمي ولا «أستورد» الثقافة؟ ألا تراه قد اقتضى أدبا جديدا وفنونا جديدة تلائمه؟ ألا تراه قد أرغمك إرغاما على طريقة جديدة في تمضية أوقات الفراغ؟ ألا تراه ذا أثر عميق في التسوية بين الناس في ضروب المتعة التي يملئون بها ذلك الفراغ بعد أن كان للأغنياء ضروب في ذلك وللفقراء ضروب؟ ألا تراه أقوى أداة في صياغة الرأي عند عامة الناس بإزاء مشكلات تقع من حياتهم في الصميم؟ فهل بعد هذا كله يصح القول بأن استيراد الجهاز العلمي جائز، وأما استيراد الثقافة فمرفوض؟ وما قلناه عن التليفزيون يقال مثله على كل جهاز علمي آخر، من راديو الترانزستور إلى مصانع الحديد والصلب، تأتي الثقافة الجديدة والقيم وطرائق العيش الجديدة مدمجة في أسلاك تلك الأجهزة ومساميرها، ولا بد أن يكون لحديثنا عن هذا الأمر الخطير عودة.
ماذا صنعت خمسون عاما؟
ترى ماذا صنعت لنا خمسون عاما في تطور حياتنا الثقافية بكل مقوماتها من فكر وأدب وفن؟ ماذا نحن واجدون من مدارج الارتفاع إلى أعلى، والتقدم إلى أمام، إذا نحن أجرينا مقارنة بين موقفنا الثقافي في العشرينيات، وموقفنا اليوم ونحن في السبعينيات؟
ولكي تدرك ما يمكن أن تصنعه خمسون عاما في رجل الثقافة، من حيث التطور الكيفي، قارن بين شيخ من شيوخ الأزهر في أواخر القرن الثامن عشر من جهة، ورفاعة الطهطاوي من جهة أخرى، ثم عد فقارن رفاعة الطهطاوي برجل مثل لطفي السيد أو طه حسين، فها هنا ترى اختلافا في «النوع»، وفي وجهة النظر، وفي سعة الأفق، وذلك لو كانت أحداث الفترة الفاصلة بين الطرفين مما يحدث في الناس مثل هذا الاختلاف؛ إذ يجوز أن تمضي قرون كاملة فارغة أجوافها من عوامل التطوير، فتمضي بلا أثر، من ذلك - مثلا - فترة القرون الثلاثة التي انقضت على مصر فيما بين الغزو التركي والحملة الفرنسية، فهنا لا تجد أي اختلاف يميز مثقفا من أواسط القرن السادس عشر عن مثقف من أواسط القرن الثامن عشر، فكلهم في طريقة النظر وفي مثيرات الاهتمام سواء.
ولكن علينا أن نسأل أولا: ماذا نريد بقولنا عن ثقافة أمة إنها تطورت على مر فترة معينة من الزمن، إلى أعلى وإلى أمام؟ أما التطور الثقافي إلى أعلى، فمعناه أن يرتفع الهرم الثقافي على قاعدة أعرض وإلى قمة أعلى، والقاعدة الأعرض هي التي تمحي فيها الأمية عن أكبر عدد ممكن من المواطنين، والقمة الأعلى أن تبلغ رسالتنا الثقافية إلى ما وراء حدودنا بحيث يسمعها العالم كله إذا أمكن؛ فبمقدار ما تزول الأمية في الداخل، وما يصل صوتنا إلى الناس جميعا في الخارج، يكون مقدار العلو الثقافي بالمعنى الذي نريده.
ذلك هو التطور إلى «أعلى»، وأما التطور إلى «أمام» فمقياسه أسهل؛ لأنه إنما يقاس بمقدار لحاقنا بركب الحضارة العصرية في علومها وفنونها، ولا يجوز لنا أن نقول: ولماذا نلحق بالحضارة العصرية مع أننا معارضون لها وثائرون عليها؟ أقول إنه لا يجوز ذلك؛ لأن تلك المعارضة معناها أننا - إذن - واقفون حيث نحن، لا نتقدم خطوة إلى الأمام. نعم، إن لنا كل الحرية في أن نقف أو نسير إلى الأمام، بل لنا كل الحرية في أن نختار الرجوع إلى وراء، «ومنا من يدعو إلى ذلك»، لكننا حين نسأل هل نتقدم، يكون الجواب «نعم» في حالة واحدة فقط، وهي أن تكون خطواتنا سائرة نحو اللحاق بتصورات العصر في شتى نواحي الحياة.
وبعد هذا التحديد لمعنى «الأعلى» و«الأمام» في تطور الحركة الثقافية، نعود إلى سؤالنا: ماذا صنعت لنا خمسون عاما، امتدت من عشرينيات هذا القرن إلى سبعينياته؟ هل تطورت حياتنا الثقافية إلى أعلى؟ وهل تطورت إلى الأمام؟
أما التطور إلى أعلى، فله - كما رأينا - جانبان؛ الأول: هو أن تتسع قاعدة الهرم الثقافي؛ بمعنى أن تشمل القاعدة أكبر عدد ممكن من الناس. والجانب الثاني: هو أن تكون لنا رسالة ثقافية نؤديها فينصت لها سائر الأمم. أما الجانب الأول، فيقال لنا إن نسبة الأمية تكاد تكون ثابتة خلال نصف القرن الذي انقضى، منذ شرعنا في حركة التعليم الإلزامي في أواسط العشرينيات حتى اليوم، وإذا كان هذا الزعم صحيحا فإنه لا تطور في هذا الجانب من حياتنا.
وأما القمة التي يناط بها أن تكون مسموعة الصوت، بما تنتجه من فكر وفن جديد، فالأمر يحتاج إلى شيء من الرؤية قبل إصدار الحكم، ولكي تسهل الرؤية، فلنأخذ بضع السنوات الأولى من العشرينيات، وهذه السنوات الأولى من السبعينيات - وبينهما خمسون عاما - ثم لنفرض أن زائرا جاءنا من الخارج ليلم بحياتنا الثقافية، فماذا يصنع إلا أن يسأل عن أعلام الفكر والفن والأدب من هم؟ ثم أن يسأل بعد ذلك عن إنتاجهم الذي يمكن أن يجد فيه ما يثير اهتمامه عن جديد لم يألف مثله في بلاده؟ إن مثل هذا الزائر في أوائل العشرينيات يجد من هؤلاء الأعلام الذين يبحث عنهم رجالا من أمثال لطفي السيد والعقاد وطه حسين وهيكل ومصطفى وعلي عبد الرازق وشوقي وحافظ إلخ ... إلخ، ويجد من إنتاجهم معالم تغير الطريق، يجد إعلانا بطريق جديد في نقد الشعر على يدي العقاد من جهة، وطه حسين من جهة، ويجد إعلانا آخر بطريق جديد في النظر الفلسفي، على يدي لطفي السيد من جهة، ومصطفى عبد الرازق من ناحية، ويجد شعرا فيه قوة الشكل الموروث وغزارة المضمون الجديد، على يدي شوقي هنا وحافظ هناك. إن ذلك الزائر الذي نتصوره آتيا من الخارج ليرى إنما يلفت نظره في أوائل العشرينيات أن الأمر لم يقتصر على كتب تؤلف ومقالات تكتب وشعر يقال، بل يلفت نظره أن طرقا جديدة تشق أمام الناس، من شأنها أن يديروا ظهورهم لهذا، وأن يستقبلوا بوجوههم ذلك، فإذا الناس أمام ثورة ثقافية تغير وجهات النظر إلى الفكر والأدب والفن، فلم تعد الفكرة فكرة بالمقاييس القديمة، ولا الأدب أدبا بتلك المقاييس، ولا الفن فنا، هي ثورة شاملة جاءت قسيما للثورة السياسية، ولولا تلك الثورة الثقافية الشاملة في وجهة النظر وفي المقاييس، لجاز ألا يظهر بعد ذلك بقليل الأدب المسرحي في ذروته العالية على يدي توفيق الحكيم، والأدب القصصي في مثل تلك الذروة عند نجيب محفوظ، ولجاز كذلك ألا ينشأ الفن التشكيلي من نحت وتصوير في صورة جديدة لم يألفها الناس قبل ذلك، وألا تنشأ الموسيقى الجديدة كذلك.
ذلك هو زائر الأمس وما جاء ليراه، فلننظر إلى زائر اليوم الذي جاءنا في هذه السنوات الأولى من السبعينيات، إنه سيسألنا - كما فعل زميله من قبل - عن أعلام الفكر والفن والأدب؛ ليعقب على هذا السؤال بسؤال آخر عن الجديد في إنتاج هؤلاء، ولأن زائرنا حريص على أن يخرج بفكرة صحيحة عما جاء ليسأل عنه، فإنه سيطلب منا ألا ندخل في الحساب رجالا هم امتداد للجيل الماضي؛ لأنه يريد أن يرى النبات الجديد، فمن هم الأعلام الذين نذكرهم له، وما هي المعالم الرئيسية في إنتاجهم لنوصيه بها؟ إنني أترك الإجابة لسواي ممن لهم القدرة على الرؤية في الضوء الباهر؛ إذ إن في عيني كلالة فتعمى عن الأبصار إذا واجهت ضوءا قويا على الطريق.
هنالك وجهة من النظر يجب أن يكون لها احترامها، وهي أن المقارنة على هذه الصورة الضيقة مقارنة باطلة، فلا ينبغي أن نقيس مفكرا بمفكر، وأديبا بأديب؛ لأن فكر العشرينيات وأدبها ربما يكون قد تحول إلى حياة عملية يعيشها الناس في أيامنا؛ فلقد كانت «الثقافة» مكومة في أفراد، فأصبحت تلك الثقافة نفسها موزعة على شعب بأسره، أقول إن تلك وجهة من النظر واجبة الاحترام، فإذا سألنا أنفسنا: ماذا صنعت لنا خمسون عاما؟ كان جوابنا هو: أنها نشرت في حياة الشعب ما كان متجمعا عند طائفة قليلة، وأعني بها طائفة المفكرين ورجال الأدب والفن؛ أعني أنها ترجمت الموقف النظري إلى حياة عملية.
لكن هذه الإجابة تزيد أعلام العشرينيات و«الثلاثينيات» قدرا على قدر؛ لأنها تعني أن أولئك الأعلام بقوة فعاليتهم قد خلقوا للناس حياة جديدة، تقاس بالمعايير الجديدة التي دعوا إليها، ولو قلنا للزائر الذي جاءنا من الخارج يسأل، إجابة كهذه، فإنني أتصوره يعاود السؤال في صورة أخرى، فيقول: لا بأس، وأريد أن أرى إنتاج هذه السنوات الراهنة؛ مما عساه أن يخلق تجديدا آخر في حياة الناس بعد أن يمضي جيل ويأتي جيل. ومرة أخرى أترك الإجابة لسواي من أصحاب البصر السليم الذي لا تعميه الأنوار الباهرة.
فليس مما يحتمل الشك أنه - بفضل الفاعلية الثقافية التي شهدها الجيل الماضي - قد ازداد الناس وعيا بحقوقهم، فلا فلاح اليوم كفلاح الأمس، ولا العامل كالعامل، ولا المرأة كالمرأة، وهذه الزيادة الملحوظة في وعي الناس بإنسانيتهم هي بالدرجة الأولى ما قد صنعته لنا الخمسون عاما الماضية، ولكن تيار الحياة إذا أريد له أن يتدفق في اتصال لا ينقطع، وجب أن تنشأ فاعلية جديدة لوثبة جديدة.
إلى هنا وحديثنا منصب على ما تطورت به ثقافتنا إلى أعلى، وكانت خلاصة الرأي في ذلك هي أن القاعدة الشعبية ما زالت على أميتها، وأن القمة ذات الصوت المسموع - ولو إلى حد محدود - هي من أبناء الجيل الماضي، وندير الحديث الآن إلى الوجه الآخر من السؤال، وهو: إلى أي حد تطورت حياتنا الثقافية إلى الأمام؟ ولقد حددنا معنى «الأمام» بأنه اللحاق بتصورات عصرنا الحاضر.
إنني أنظر، مقارنا بين العشرينيات والسبعينيات، فأجد أهل العشرينيات أقوى استعدادا لقبول الجديد من أبناء اليوم، فأبناء اليوم تشد أعناقهم إلى الخلف لتتجه أبصارهم إلى الوراء، بدرجة أكثر جدا مما يجوز لمن أراد أن يواكب عصره، ولست أريد أن أزيد على هذه العبارة الموجزة حرفا.
ماذا صنعت لنا خمسون عاما في حياتنا الثقافية؟ سؤال أوحت به إلي مناقشة سمعتها في إحدى وسائل الإعلام دارت بين فريق من الصف الأول في جماعة المثقفين، وكان موضوع المناقشة مما يمس الموقف الثقافي في الصميم، ومعذرة إذا قلت إني لم أسمع إلا ما لم يكن يجوز أن أسمعه في موضوع كهذا ومن نفر كهؤلاء، وسألت نفسي ساعتها: ترى لو طرح هذا الموضوع نفسه سنة 1920م ليتحدث فيه لطفي السيد والعقاد وطه حسين وهيكل، فهل كنا نسمع مثل هذه القشور السطحية؟
إني لأتمنى أن أكون قد أخطأت النظر وأخطأت التقدير .
كان عصر طه حسين
سيقول التاريخ الأدبي عن السنين الخمسين التي توسطت هذا القرن العشرين: لقد كان عصر طه حسين.
فما أظن كاتبا خلال هذه السنوات الخمسين - من العقد الثاني إلى العقد السابع - قد كتب شيئا دون أن يهمس له في صدره صوت يقول: ماذا عساي أن يكون وقع هذا عند طه حسين إذا قرأه؟ ترى هل يصادف عنده السخط أم الرضا؟ وهكذا كان هو المعيار المستكن في صدور الكاتبين، كأنه لهم في حياتهم الأدبية ضمير يوجه ويشير.
ورد عند أندريه جيد قوله: «لتكن حياتك ثائرة مثيرة، ولا تجعلها هامدة ساكنة!» وأحسب أن نداء كهذا ألقاه عصرنا على طه حسين، فجاءت حياته في دنيا الفكر والأدب ثائرة مثيرة، لم تعرف سكونا ولا همودا، جعل أمامه منذ بداية الشوط هدفا، فكان جبلا وعرا؛ حصر همه في بلوغ القمة، فلم يشغله دون ذلك ما يلاقيه على طريق الصعود من عقبات. إنه لم ينشط بكل هذا النشاط الجم الذي ملأ به حياتنا حركة وفاعلية، لم ينشط به تفريغا لطاقة تزخم شعاب نفسه وعقله، ثم لا يأبه بعد ذلك كيف جاء تفريغها وأين، بل جعل لنفسه الهدف منذ أول سفر، فكان هدفه ذاك هو الهادي على الطريق.
وما هدفه ذلك نقلة ينقلنا بها من عصر السذاجة في النظر والتصديق، إلى عصر يسوده العقل بدقة منهجه، شأنه في ذلك شأن قادة الفكر على طول التاريخ؛ فليست الرسالة عند هؤلاء جميعا هي أن يزيدوا المعرفة معرفة من جنسها، بل رسالتهم هي أن يغيروا من نوع المعركة كذلك، فينقلونها إلى «كيف» جديد. هكذا كانت رسالة سقراط، رسالة الجاحظ، رسالة أبي العلاء، رسالة ديكارت، وسائر الأئمة الذين كانوا ينقلون الفكر من طراز قديم إلى طراز آخر يتلوه على سلم الصعود.
لئن كانت أبصارنا وأسماعنا وقلوبنا وعقولنا جميعا - أعني أبناء الأمة العربية في مرحلتها الفكرية الراهنة - مشدودة كلها إلى غاية مرجوة؛ فغايتنا في دنيا الفكر والثقافة هي أن نجمع مجدنا الموروث إلى النتاج الإنساني الحديث، ولقد تجسدت في شخص طه حسين هذه الغاية المأمولة، حتى ليمكن أن يعد مثالا قائما لما ينبغي أن يكون عليه هذا الجمع بين قديم وجديد، فاستمع إلى كلمات بركليز في خطابه الجنائزي المشهور، الذي ألقاه تكريما لمن سقط من أبناء أثينا في ساحة الحرب، وحدد به بعض معالم الشخصية اليونانية - وعنها تفرعت فيما بعد الثقافة الأوروبية - تجدها معالم واضحة في شخصية أديبنا الراحل، قال بركليز في خطابه ذاك: «إننا نمجد الموهبة أيا كان مجالها؛ لأن التفوق الممتاز هو في ذاته جدير عندنا بالتمجيد. إننا نحب الجمال في غير إسراف، ونحب الحكمة دون أن تفقدنا شهامة الرجال. إن أحدا منا لا يستسلم لأحد في أمر يمس استقلاله الروحي وإبداعه المثمر، وإننا لنعتمد على أنفسنا اعتمادا كاملا.» وهكذا كان طه حسين.
ولكن إلى جانب ذلك، أو قل إنه قبل ذلك وفوق ذلك، عربي حتى النخاع؛ فهو ممن عايش أسلافنا معايشة خيل معها إليه وإلينا أنه إنما يعيش مع إخوة له معاصرين، يكتب عنهم وكأنه يبادلهم الحديث؛ ومن ثم استطاع أن يجعل من نفسه زميلا لهم، لا تابعا ينظر إليهم ذاهلا مشدوها، كمن يتجول بين شخوص نحتها النحاتون من حجر فأبدعوا، لا، إنه قد عايشهم ليكون معهم، ومنهم؛ وبهذا جعل من الماضي مادة يشكل منها حاضرا ومصيرا.
كان لنا طه حسين بشخصيه عصر تنوير، وكان لنا كذلك عصرا «إنسانيا» يعلي من شأن الإنسان؛ فلقد آمن بالتقدم وتفاءل بمصير الإنسان، كان لنا أبا العلاء وكان لنا فولتير في آن معا، دعا إلى حرية الفكر بادئا من طلاقة التعبير ومنتهيا إلى كرامة الإنسان؛ فلئن كثر حوله من أبناء عصره من قدم القوالب على دينامية الإنسان، فقد دعانا هو إلى أن تكون الأولوية لفاعلية الإنسان الحرة، وعلى القوالب أن تجيء بعد ذلك لتصوغ لتلك الفاعلية قوانينها. لقد استمد فكره وأدبه وفعله من نظرته، ولم يجعلها اشتقاقا من قواعد وضعها آخرون، فكان فكره وكان أدبه وكان فعله جميعا لصيقة به كالشمس وضوئها.
السؤال الحاسم في تقويمنا لعظيم أدى رسالته، هو هذا : هل صنعت رسالته من الإنسان إنسانا أفضل؟ وهل ارتفعت بالإنسان من أدنى إلى أعلى؟ والجواب بالنسبة إلى عظيمنا الراحل هو أنه قد أجاد الصنع وأحسن الأداء.
Unknown page