هما شقيقان، وهما من قادة الفكر والأدب في العالم أجمع، لكن أحدهما يجعل الفكر عملا، والآخر يحيل العمل إلى فكر، غير أنهما مع هذا الاختلاف متفقان في الأغوار السحيقة التي لا تصور أعماق الفكر الأمريكي وحده، بل تصور الفكر العالمي كله إبان النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإبان هذا النصف من القرن العشرين، وأما هذه الأغوار العميقة فهي أن ينظر الإنسان إلى حقيقة الحياة، بل حقيقة الطبيعة نفسها - على أنها تيار متصل قد يبدو للنظرة السطحية مفككا في أجزاء منفصلة، لكنه نهر موصول. هكذا قال وليم جيمس عن تيار الشعور عندما وضعه في كتابه مبادئ علم النفس، وهكذا قال الفيلسوف الفرنسي برجسون عندما تكلم عن مجرى الحياة الدافق السيال، وهكذا وصفه الأديب الفرنسي بروست في قصصه، وهكذا أيضا نظر إليه هنري جيمس، بل هكذا ظهر الرأي في فن الانطباعيين الذين يصورون لك ما يصورونه وكأنه سيال واحد من ضوء، لا تفصل الأشياء المقررة فيه فواصل حادة تجعل الشجرة شجرة على سبيل التحديد والسحاب سحابا، بل جاء الفن الانطباعي ليصل الشجر بالسحاب في متصل واحد؛ لأن الحياة والطبيعة هما هكذا. وإن شئت فقارن هذه النظرة بما سبقها عندما كان الظن أن الإدراك مؤلف من نقاط مفككة، ومن هذه الوحدات الإدراكية تتألف الأفكار وتتألف الأشياء.
إنك لتقرأ لوليم جيمس نظريته فيما يسميه ب «الخبرة الخالصة»، أو مجرى الشعور المتصل، وتقرأ لأخيه هنري جيمس تصويره للعالم بما فيه من شخصيات وحوادث، فتحسب أن الأخ الأديب قد صب في القصة ما كان أخوه الفيلسوف قد أخذ به من الوجهة العلمية النظرية، وهو أن حقائق الحياة المرئية ليست وحدات في فراغ، بل هي كقطع الفلين سابحة على سطح مائي واحد، هو مجرى الشعور. انظر إلى طائر وهو يقف على هذا الغصن مرة، وعلى ذلك الجدار مرة، أتقول إن حياته هي هذه الوقفات أم لا بد لك أن تصل الوقفات بما يربطها في حياة واحدة، وما يربطها هو عملية الطيران من وقفة إلى وقفة؟ ومثل وقفات الطائر حقائق العالم المرئي، فطيرانه يمثل مجرى الحياة المتصل الذي بفضله ترتبط تلك الحقائق في قصة واحدة وكون واحد.
والعقل عند الأخوين الشقيقين ليس لوحة سلبية قابلة لما ينطبع عليها، بل هو فعال يختار هذا ويدع ذلك من ألوف المؤثرات التي يتعرض لها، وفي فاعلية العقل يقع صميم الفكر المعاصر، لا أقول الفكر الأمريكي الذي إليه ينتسب الشقيقان فحسب، بل الفكر العالمي كله. ولما كان الفرد من الناس إنما تتكون شخصيته من الأشياء التي يختارها بعقله الفعال طوال حياته، ثم لما كانت العناصر المختارة يستحيل أن تتشابه كل التشابه في فردين، كان وليم وأخوه هنري، بل كان الفكر الفلسفي والأدبي المعاصر على اتفاق من حيث تمايز الأفراد واستقلالهم الشخصي.
قرصنة في بحر الثقافة
تصوير رمزي لجانب من حياتنا الثقافية
لم أكد أصدق سمعي، حين أخذ صديقي عالم الآثار المصرية يقرأ لي نصا قديما من لفائفه البردية، كتبه كاتبه فيما يقرب من القرن الحادي عشر قبل الميلاد؛ ليصف به حياة الثقافة والمثقفين في عصره، وصفا لو أزلت منه أسماء الأعلام ومعالم الأحداث، لتضع مكانها أسماء المعاصرين وأحداثهم، لظننته قد كتب عن عصرنا الراهن هذا بعلمائه وأدبائه. نعم، لم أكد أصدق سمعي لأنني - وقد كنت أعلم أن خصائص الشعوب تخترق حجاب الزمن، فتصل حاضر الشعب بماضيه - لم أكن أعلم، مع ذلك، أن هذه الخصائص العنيدة المكافحة في سبيل بقائها تمتد رقعتها وتتسع لتشمل صفات كنت أحسبها من التوافه التي تظهر وتختفي مرهونة بظروفها، فليس عجيبا أن يجيء الأحفاد أشباها لأجدادهم في احتفالات الميلاد وفي شعائر الموت؛ لأن هذه أمور موصولة بشرايين الحياة نفسها، أما أن يتشابه أولئك بهؤلاء في الطرق التي يتخاطف بها العلماء والأدباء ثمرات جهودهم، بحيث يكون الحاصدون أناسا غير الزارعين، فذلك حقا هو موضع العجب؛ لأنه من التوافه التي لم يكن ليجدر بالزمن الوقور الجليل أن يحفظها ويصونها لتنتقل على ظهور الأجيال من الجد إلى الحفيد.
وكاتب البردية التي أخذ صديقي عالم الآثار يفك لي رموزها، هو كاهن من معبد آمون في مدينة طيبة، والظاهر أنه كان ذا مكانة مرموقة بين كهنة المعبد؛ لأنه يتحدث حديث الواثق بنفسه، تسري في كلماته رنة العظماء حين يتحدثون إلى من يصغرونهم منزلة وقدرا. اسمه - فيما أذكر - حريحور، أو ما يجري مجرى هذا الاسم في الوزن والنغمة، وقد بدأ رسالته هذه بذكر المكان الذي خطها فيه، فإذا هو قد كتبها في مركب أقلع به من طيبة إلى مصر السفلي؛ إذ هو في طريقه إلى البحر الكبير، قاصدا إلى بيبلوس على الشاطئ اللبناني، في مهمة لم يفصح عنها.
أخذ الكاتب يدون تفصيلات من حياته اليومية؛ ماذا كان يأكل، وأين ترسو به السفينة، وكيف يعترك النوتية آنا ويسمرون في صفاء آنا، ثم انتقل إلى تسجيل ما أراد تسجيله ليروي لنا عن معركة كلامية دارت بينه وبين كاتب قليل الشأن، كان لا يزال من السلم الكهنوتي في أدنى درجاته، ومع ذلك اجترأ هذا الصغير على مجادلة حريحور الذي كان يعلوه في مراتب الكهنة بدرجات كثيرة.
ففي أمسية مقمرة من أماسي طيبة الجميلة في شهر يقع في مستهل الصيف، كان حريحور - وهو كاتب البردية يروي فيها عن نفسه - جالسا في بهو مكشوف من أبهاء المعبد، وإذا بشبح إنساني يقترب منه في سكون خاشع، حتى إذا ما واجهه استأذن في الجلوس؛ لأن عنده أمرا يريد أن ينفضه عن نفسه ليستريح، وما هو إلا أن أشار له الكاهن الشيخ ليأذن بجلوسه، وينحني تجاهه انحناءة خفيفة ليسمع، فطفق الكاهن الشاب - ولم يذكر اسمه من أول البردية إلى آخرها، مكتفيا بالإشارة إليه إشارات لا تخلو من معاني التصغير والتحقير - طفق الكاهن الشاب، في لعثمة أول الأمر، وفي طلاقة بعد ذلك، طفق يشكو من أن حريحور قد نسب إلى نفسه قصيدة من الشعر، وتلاها على ملأ من الناس وكأنها من صنعه، فلم يشأ الشاب - وهو ناظم القصيدة الأصيل - لم يشأ أن يعترضه أمام الناس، وها هو ذا قد جاء إليه ليطلب منه أن يصحح للناس هذا الخطأ، وهو خطأ لا بد أن يكون قد وقع سهوا من الكاهن العظيم.
ويروي لنا حريحور كيف صعق لهذه الجرأة النادرة من صغير مغمور يواجه بها عظيما مشهورا، وحاول أن يفهمه بأن الملكية في ثمار الفكر هي للجماعة لا للفرد، على أن يظفر بفوائدها أطول الناس ذراعا وأجهرهم صوتا وأرفعهم منبرا؛ فأقل شيء في مجال الفكر هو أن تخلق الفكرة وتبدعها، أما الأهمية كلها فإنما تكون لمن استطاع أن ينشرها ويذيعها. هب أنك يا بني قد تركت لقصيدتك، لا تجد اللسان البليغ الذي ينشدها ، فما قيمتك عندئذ وما قيمة قصيدتك هذه؟ وهنا أراد الكاهن الشاب أن يقول شيئا، لكن الكاهن العظيم قد ضاق به صدرا فنهره وطرده من المعبد.
Unknown page