95

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

كيف عاشت هذه الطفلة في أعماقي حتى اليوم؟! لا أعرف ... استطاعت أن تفلت من الموت، كيف؟ لا أدري! ربما تدربت على الموت منذ الولادة فلم تعد تخشاه، ربما أصابها ذلك الشيء الذي نسميه في الطب «بالحصانة»، يحتاج الجسد دائما إلى أن يحقن بالجراثيم ليكتسب مناعة ضدها، «داوني بالتي كانت هي الداء!» أيكون هذا المثل الذي سمعته من جدي صحيحا؟ هل نحتاج إلى جرعة من الموت لنكسب مناعة ضد الموت؟ «نفي النفي إثبات.»

في حصة الجبر في السنة الثانية الثانوية عرفت هذه القاعدة؛ إذا أضفنا الناقص إلى الناقص ينقلب إلى زايد «− + − = +».

دهشت في أول حصة للجبر والهندسة، كانت تسمى «الرياضة»، كنت أظن أن الرياضة تعني الألعاب الرياضية في الفناء، أدركت رياضة أخرى؛ هي علم الحساب والجبر والهندسة أو الرياضيات. أعجبتني هذه العمليات العقلية؛ أستشعر اللذة وأنا أحل المعادلات الجبرية الصعبة، تزداد اللذة مع ازدياد الصعوبة. تبدو لي المعادلات معقدة مستحيلة الحل، تتوالد العقدة وراء العقدة، تملأ الصفحة الأقواس والمكعبات والمربعات والمثلثات والمسدسات، المعادلة مثل البناء الضخم أو الهرم يعلو ويعلو دون حل، وفجأة وأنا أضرب أخماسا في أسداس أو أنفي النفي بالإثبات، إذا بالبناء الشامخ ينهار، تحل العقدة، تنتهي المعادلة الصعبة إلى صفر.

يقفز عقلي، كأنما أنا العلامة فيثاغورس، هذه اللوغاريتمات أصبحت لعبتي، أفتح كراسة الجبر في القطار أو الترام، أتسلى بحل المعادلات، أكاد أصرخ من اللذة.

في نهاية العام بعد الامتحان الأخير سافرت إلى منوف في إجازة الصيف، جاءت شهادتي ناجحة بامتياز، ورسالة من ناظرة السنية إلى ولي أمر التلميذة نوال السيد السعداوي، كالآتي: حصلت التلميذة على الدرجات النهائية في الجبر والهندسة، ويمكنها أن تدخل إلى قسم الرياضية مع حصولها على مجانية التفوق ومكافأة شهرية، على أن تدخل معهد المعلمات بعد حصولها على شهادة التوجيهية؛ لتصبح معلمة للرياضيات في مدارس البنات الثانوية بحسب الشروط في القانون.

لم يكن في مدرسة السنية قسما داخليا، لم يكن لي أن أعود إلى بيت جدي لأغترف الحزن، كنت أيضا أكره المعلمات أو الناظرات «الشروط في القانون»، لم أكن أعرفها أيضا، قال أبي: إن وزارة المعارف كانت في حاجة إلى معلمات في مادة الرياضة، إنها تشترط على خريجات المعهد أن يشتغلن كمعلمات لمدة أربع سنوات على الأقل، ألا يتزوجن، وفي حال الإخلال بهذه الشروط ترد إلى وزارة المعارف مصاريف الدراسة كلها مع المكافأة الشهرية.

سألني أبي ماذا أختار، كان متحيرا، إلا أنني حسمت الموقف، لا يمكن أن أقبل هذه الشروط، بدت لي الشروط نوعا من العبودية، كأنما وزارة المعارف تشتريني بدفع مصاريف دراستي، ثم تسمي ذلك مجانية التفوق، إذا كنت متفوقة فمن حقي المجانية دون شروط.

نهض أبي من مقعده وصافحني، المرة الأولى التي يصافحني فيها، برافو يا نوال! أثبت اليوم أنك ابنتي فعلا، كأنما لم أكن ابنته قبل ذلك، أو أنني لم أكن أستطيع أن أفعل ذلك إلا لأنني ابنته!

نهض من مقعده وصافحني، يده الكبيرة حانية في قوتها، يستند على يدي بقوة الحنان، كان أبي شديد الحنان، عيناه السوداوان يكسوهما بريق، دمعة كبيرة يبتلعها قبل أن تظهر، أيفرح أبي بنجاحي؟!

أخي طلعت لم ينجح ذلك العام، لم يعد أبي يحزن كثيرا لسقوط أخي، يغمض عينيه ويشرد طويلا، هل بدأ يراني في أحلامه؟ أيرى ابنته معلمة مرموقة؟ أستاذة أو طبيبة ماهرة؟ أيعوضه نجاحي عن فشل أخي؟! هل أخي؟! هل تنتقل أحلامه من الولد إلى البنت؟! •••

Unknown page