94

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

أعطتني عنوانها في حلمية الزيتون، تسكن في شقة أخيها يحيى مع زوجته وأطفاله، دخلت إلى غرفتها المعتمة بجوار المرحاض، تذكرت غرفتي في بيت عمي الشيخ، لمبة كهربية 20 وات، معلقة بين عوارض السقف الخشبية بلون الدخان، جهاز عرسها مكوم بعضه فوق بعض مثل النعش، سريرها الأصفر النحاسي في الوسط، راقدة بين الأعمدة الحديدية الأربعة كالمصلوبة، وجهها شاحب بلون ملاءة السرير، عيناها رماديتان مثل عيني جدتي آمنة، انفرجت شفتاها الجافتان: كتر خيرك اللي جيتي، فيكي الخير يا دكتورة نوال. «أنا جارية ورور يا طنط نعمات.»

سمعتها تضحك، عيناها تقاومان الظلمة، تشد جفونها، ويطل منها ببقايا بريق انطفأ في زمن قديم.

أشارت إلى ثديها الأيسر ... وضعت يدي على الورم، تجمدت في مكاني. «هو المرض إياه يا دكتورة نوال، أنا كنت عارفة إني لازم أموت بيه زي المرحومة أمك.»

خرجت من عندهم أتحسس صدري، أهناك ورم خبيث في الثدي الأيسر فوق القلب مباشرة، هل أموت خلال ثلاثة أشهر كما توقعت لطنط نعمات؟

ركبت القطار من محطة الزيتون، كنت أركب القطار كل يوم من هذه المحطة منذ أربعة عشر عاما، بدت محطة الزيتون معتمة متهدمة السلالم والجدران، رصيف القطار الذي كان طويلا لا نهائيا أصبح قصيرا، أجتازه من أوله لآخره في نصف دقيقة، كنت أجري فوق هذا الرصيف وألهث دون أن ألحق بالقطار، أنتفض في برد الشتاء وأتصبب عرقا في أيام الحر، كنت أقفز في القطار بعد أن يتحرك، كان التلاميذ من شدة الزحام يقفون على سلم القطار أو يرقدون فوق ظهره هربا من الزحام أو من دفع التذكرة، أحيانا يصعد إليهم الكمساري فوق ظهر القطار، يقفزون إلى الأرض قبل أن يمسك بهم، سقط أحد التلاميذ وبتر القطار ساقيه الاثنتين، رأيته ينزف على رصيف محطة سراي القبة، صورة الملك فاروق ترفرف فوق جسده المقسوم نصفين على عمود طولي من عواميد السواري، بركة حمراء من الدم تلوث الرصيف الأبيض اللامع كالرخام ، فردة حذاء طارت من إحدى الساقين المبتورين، بقيت الفردة الثانية في القدم الميتة، إلا أن التلميذ النازف فوق الأرض لم يكن يشعر أنه فقد ساقيه، يبتسم لمن حوله في براءة، يتساءل بصوت طفولي: فين الفردة الثانية؟! لم يكن شغله تلك اللحظة إلا البحث عن فردة حذائه المفقودة.

كان هذا التلميذ مثلي في السنة الثانية الثانوي، جاء من الريف مثلي ليدخل المدرسة، تركه أهله في المدينة الضخمة ليسكن مع بعض الأقارب، «الأقارب زرايب»؛ كما كانت زينب ابنة عمتي تقول: «المصايب من القرايب»، ربما كانت له عمة أو خالة تستولي على القروش التي يرسلها أبوه إليه، لم يكن يملك ثمن تذكرة القطار، كان يحلم بدخول الجامعة ليصبح أستاذا كبيرا مثل طه حسين.

في الليل وأنا نائمة كنت أرى نفسي تحت عجلات قطار الزيتون أو ترام السيدة، يضعون جسدي المبتور الساقين فوق الرصيف من الزحام، أبحث عن فردة حذائي دون جدوى، أمشي حافية بدون حذاء، أعرج فوق عكازين من الخشب، يلوح لي وجه حميدة الشقنقيري في مدينة منوف، أراها مقبلة نحوي تمشي على عكازيها، أهب من النوم مذعورة أتصبب بالعرق.

قطار الزيتون كان مشهورا بالحوادث الأليمة، لا أعرف لماذا؛ ربما كانت ضاحية المطرية من الضواحي الفقيرة، كان القطار يبدأ في محطة المطرية أو عين شمس وينتهي في محطة كوبري الليمون أو باب الحديد ... في المطرية كان يعيش التلاميذ الفقراء المهاجرون مع عائلاتهم من الريف ... أو المهاجرون وحدهم بحثا عن التعليم أو لقمة العيش. المدينة الضخمة تبتلعهم مثل بلاعة تشفط الصراصير، قد يأكل القطار أو الترام أطرافهم، قد يصبح الواحد منهم نشالا، يقفز بساق واحدة على سلم الترام يبيع الأمواس والأمشاط أو علب الكبريت، ثم يقفز من الناحية الأخرى بعد أن ينشل المحفظة أو كيس الفلوس، أو الساندوتش الذي تأكله واحدة من البنات في عربة «الحريم».

كان هناك عربة خاصة «للحريم» في الترامات والقطارات، أفضل الجلوس فيها عن الجلوس مع الرجال، عيونهم ترمق صدري بنظرات حادة أشبه بالسهام، تمتد يد أحدهم فوق المقعد وتقرصني في فخذي، في الزحام حين أقف بينهم قد يدس أحدهم إصبعه الصلب في ظهري، أو ذلك الشيء الآخر الذي يتصلب بين فخذيه يدسه في جنبي، أو في الإلية وأنا واقفة مصلوبة بين الأجساد، يداي مرفوعتان قابضتان على عمود علوي في سقف الترام أو القطار أو الأتوبيس .

كنت أستدير أحيانا وأصفع الواحد منهم فوق وجهه، من أين كانت تأتيني الشجاعة؟ كنت طفلة في الثانية عشرة أو الرابعة عشرة، لكن غضب الطفولة هو أقوى غضب ... أصدق غضب ... أنقى غضب ... يتراكم في الجسد منذ الولادة ... يتوالد مع الزمن ولا يلد إلا نفسه.

Unknown page