كان إبراهيم قد بلغ عامه الواحد والعشرين قبل أن يذهب إلى الحرب بأيام، كان يستعد لحفل زواجه من ابنة عمته زهيرة، جاءه أمر الاستدعاء في شهر مايو 1967، ترك القرية والعروسة، ارتدى الزي العسكري وانطلق يهتف: الله، الوطن، تحيا مصر حرة. حلقوا رأسه ورحلوه إلى منطقة بير الحما بالقرب من مغارة الفحم في العريش. قامت الحرب يوم 5 يونيو وهو في بير الحما، عرف ذلك من الراديو، سمع المذيع يقول انتصرنا انتصرنا. ثم فوجئ بعد ثلاثة أيام بالضبط يوم 8 يونيو بالدبابات الإسرائيلية تحيط به وبزملائه الجنود، وتم تدمير كتيبته بالكامل وقتل قائدها.
يمسك إبراهيم رأسه بين يديه ويجهش بدون صوت، تمسح أمه العرق فوق جبهته بطرف جلبابها، ترمقه النساء لاهثات، تسأله كل واحدة منهن عن ابنها: وكان مين معاك يا إبراهيم؟ مش فاكر كان مين معاك يا إبراهيم؟ يبربش إبراهيم بعينيه، يرمق السقف الأسود بلون الهباب، يمسك رأسه بين يديه ويقول: مش فاكر مين كان معايا لكن قائد الكتيبة كان اسمه فؤاد عبد الحكيم، أخذوه وقتلوه مع الأسرى.
يسكت إبراهيم يبتلع ريقه، تناوله أمه كوز الماء، تسأله إحدى النسوة: مش فاكر اسم حد من اللي كانوا معاك يا إبراهيم؟ يتذكر إبراهيم: كان معايا واحد اسمه أنيس كان شاويشا متطوعا من الإسماعيلية، وواحد تاني من بورسعيد اسمه جمعة، وجت دبابة ومشيت على الأرض، أمرونا إننا نرقد ع الأرض على شكل صفين فوق علامة جنزير الدبابة، وكانت الدبابة تمشي بعيد عنا وبعدين ترجع هاجمة علينا عشان تدفنا في الأرض، وكان اللي يقوم واقف عشان ينقذ نفسه من الدبابة يضربوه بالنار، وقلت لنفسي: خلاص يا إبراهيم ربنا أراد إن عمرك ينتهي، وماحدش بيموت ناقص عمر ده مصيرنا مكتوب على الجبين. والدبابة وهي ماشية كانت تضرب بالمدافع بين الصفين الراقدين ع الأرض.
ومات اللي مات، منهم جمعة من بورسعيد، وربنا كتب لي عمر جديد أنا وأنيس، أخذونا في الليل جوه عربية، وكنت تقريبا فاقد الإحساس ودراعي اليمين فيها جرح كبير ينزف مش عارف من إيه، وحطونا في مكان بعيد في الصحراء وحوطونا بالأسلاك الشائكة وحطوا علينا حارس اسمه ميخا. يتوقف إبراهيم عن الكلام، يلهث، وتمزق النسوة الطرح السوداء، يصرخن في نفس واحد: ربنا يحرقك في نار جهنم يا ميخا! أمه تناوله كوز الماء تمسح عرقه، يرمقها بعينين تبربشان: لا يمكن أنسى شكل ميخا يا أمه، كان عددنا حوالي تلتمية وميخا قال عشرة عشرة؛ يعني نقف صفوف، كل صف عشرة، ويضرب علينا الرشاش.
وكان الكل يندفن، اللي مات واللي لسه صاحي، وبعدين ميخا قال عشرة عشرة، ونقف صفوف، كل صف عشرة، بين الصف والصف متر، يمشي ميخا يعد الصفوف وإذا لقي صف ناقص واحد ياخذ منه اتنين، أو صف زايد واحد ياخد منه اتنين برضه، يطلعهم على جنب ويضربهم بالنار، ويقول لنا ياللا احفروا وادفنوا زمايلكم. وبعدين يقول عشرة عشرة، ويضرب بالنار. احنا الباقيين قسمنا مجموعة في اليمين ومجموعة في الشمال، اللي في اليمين عليها تحفر وتدفن، وأنا دفنت بإيديا زميل مضروب بالرصاص لكن صاحي وعينيه في عيني، وأنا بارمي الرمل عليه وفي ضهري مدفع وزميلي صاحي يقول لي اردم يا دفعة خلص علي بسرعة، ولما ردمت الرمل على عينيه الدنيا دارت بي ووقعت ع الأرض.
كنت فاقد الإحساس، ولما فقت لقيت نفسي جوة عربية ماشية في الصحراء وجنبي أنيس وفرحت أوي بأنيس، هو الوحيد اللي عرفته، قال ياللا ننط. وقفزنا من العربية في الضالمة ومشينا في الصحراء يوم وراء يوم لغاية ما وصلنا البحر، كان هو بحر العريش، ولقينا أعداد كتيرة أوي ماشيين على البحر مشينا معاهم. وجت الطيارات الميراج حلقت فوقنا، كانت الطيارة تنزل عجلتها الأمامية ويمكن تلمس الأرض وتضرب علينا، وشفت رأس طايرة في الهواء من غير جسم، أو جسم طاير في الهواء من غير رأس. وبعد الميراج جت الطيارات الهيلوكوبتر تصطاد واحد واحد من البحر، وخرجت من البحر مبلول ومش عارف أنا مين، وبعدين افتكرت إن اسمي إبراهيم وإنهم استدعوني من الاحتياط يوم 25 مايو، وافتكرت أنيس ورحت أدور عليه، يظهر إنه مات أو غرق في البحر مش عارف. ومشيت ع البحر وأقول يمكن ربنا ياخد بيدي، لكن جت عربيات جيب وأخذوني السجن، وكان اليوم ده هو 25 يونيو، يعني شهر بالضبط من يوم ما سافرت. قالوا إني أسير من الأسرى في بير سبع، وكان معايا زمايل كتير ما عرفش أسماءهم، عصبوا عينينا وكتفونا زي الفراخ ونقلونا لسجن تاني اسمه عتليت، مات فيه اللي مات، وأنا مش عارف إزاي عشت، لكن كل يوم كنت أدعي ربنا إني أموت، لغاية ما جه يوم قالوا اجهز، وعرفت إني راجع بلدي ضمن مجموعة في تبادل الأسرى، كان اليوم ده 26 فبراير 1968، يعني تسع شهور ويوم من أول ما استدعوني من الاحتياط.
سكت إبراهيم طويلا، كان يرتعش ، تصطك أسنانه، ينتفض كالمصاب بحمى الملاريا، همست أمه في أذني: ربنا يخليكي يا ضكطورة اكشفي عليه واكتبي له دوا يشفيه إلهي يكفيكي شر المصايب يا رب!
لم يكن إبراهيم مريضا بالحمى أو أي مرض عضوي، وأنا أفحصه انفرجت شفتاه الزرقاوان عن أنفاس متحشرجة وصوت خافت: مش قادر أنام يا دكتورة من يوم ما خرجت من عتليت وأنا بافتكر زمايلي اللي ماتوا وزمايلي اللي دفنتهم بإيديا. ويحملق إبراهيم في يديه الناحلتين المرتعشتين ويهمس: بإيديا دول دفنت زمايلي في الرمل في الصحراء، وكل ليلة أحلم إني واقف في الصحراء أردم الرمل على أنيس وهو صاحي عينيه في عيني ويقول لي كده يا إبراهيم تعمل كده يا إبراهيم؟! مع إن أنيس يا دكتورة غرق في البحر وما كانش واحد من اللي اندفنوا في الرمل، إيه اللي يخليه يقولي كده يا إبراهيم كده يا إبراهيم؟!
وتجهش أمه بالبكاء تمسح دموعها بكفها الكبيرة المشققة وتهمس: ما عندوش غير حكاية أنيس يا ضكطورة.
ومات إبراهيم حفيد دادة أم إبراهيم وهو يهذي باسم أنيس، يخفي يديه تحت الغطاء المهترئ ويصرخ: أبدا أبدا يا ناس مش إيديا دول اللي دفنت زمايلي في الرمل، ده ميخا يامه! وتلطم النسوة خدودهن، يمزقن شعورهن يمرمغن رءوسهن في التراب ويولولن في صوت واحد: إلهي يحرق قلبك وقلب أمك يا ميخا!
Unknown page