235

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

أصبحت بطة رئيسة لإحدى اللجان الدائمة في جهاز التلفزيون ، تظهر فوق الشاشة تتحدث، صوتها أصبح وقورا فيما عدا حرف الراء تقلبه إلى غاء، تقول: الاشتغاكية بدلا من الاشتراكية، هذه اللدغة في اللسان منذ الطفولة لم تستطع تغييرها مهما حاولت، يلتوي لسانها وعنقها القصير السمين وهي تنطق الكلمة، كأنما هي غصة في الحلق، تشهق قليلا كالمختنقة تمد عنقها إلى أعلى مزهوة بالشعر الأسود أو الباروكة المصفوفة فوق رأسها درجات فوق درجات، على شكل هرم أكبر من رأسها، تمط شفتيها الحمراوين المكتنزتين بحركة تكاد تشبه صديقتي سامية. وكانت بطة منذ أيام الدراسة لا تكف عن الضحك والكركرة، شفتاها منفرجتان دائما كأنما لا يمكن أن تنطبق إحداهما على الأخرى. «العمال والفلاحون نسف المجتمع ومن حقهم الحصول على نسف المكائد في مجلس الشعب.»

صوتها يرن في أذني وأنا جالسة أمام الشاشة الصغيرة في بيتي بالجيزة، شريف إلى جواري يتابع حديثها، يبتسم في هدوء حين يسمعها تقول «نسف المجتمع» بدلا من «نصف المجتمع»، و«المكائد في مجلس الشعب» بدلا من «المقاعد في مجلس الشعب». إلى جوارها يجلس الدكتور رشاد، ترك الطب وتفرغ للسياسة، أصبح من أعوان الوزير، يرأس إحدى اللجان العليا الدائمة، يظهر على شاشة التلفزيون، يعجز مثل بطة عن نطق حرف الراء، يقول: الديموكغاتية بدل الديموقراطية، يلتقي بي أحيانا في فناء وزارة الصحة أو مدخل نقابة الأطباء بدار الحكمة في شارع قصر العيني، يستوقفني ويهتف بصوته الرقيق: نوال مش معقول! شعرك بقه أبيض خالص زي التلج، لكن مديكي تشاغم خطيغ! (يعني تشارم خطير)، وكلمة «تشارم» تعني باللغة العربية «جاذبية».

منذ المؤتمر الوطني للقوى الشعبية عام 1962 لم ألتق بالدكتور رشاد إلا على شاشة التلفزيون، أو في الطريق بالصدفة. كان عضوا في المؤتمر الوطني مثلي عام 1962، إلا أنه كان يجلس في الصفوف الأمامية مع النخبة المثقفة، كنت أجلس في الصفوف الخلفية مع الشباب. حين جاء دوري في الكلام قلت بصوت سمعه الجالسون فوق المنصة، منهم جمال عبد الناصر ووزير الداخلية، تعكرت الوجوه وأنا أقول الفلاح هو الذي بوله أحمر، هذا ما سمعته من جدتي الفلاحة ، أهناك فلاح واحد في مصر لا ينزف الدم مع البول؟! ينتشر مرض البلهارسيا في الريف بنسبة 99٪. سجل وزير الداخلية اسمي الثلاثي فوق ورقة أمامه. بعد الاجتماع استوقفني الدكتور رشاد عند الباب الخارجي للجامعة في الجيزة، وقال: بأه ده كلام يتآل يا نوال؟ الفلاح بوله أحمر؟! ده تهكم واضح على الاشتغاكية وسيادة الغيس شخصيا (يعني الاشتراكية وسيادة الريس).

منذ هذا المؤتمر عام 1962 دخل اسمي القائمة السوداء، أصبح لي دوسيه صغير في وزارة الداخلية يحمل اسمي الثلاثي، الأب والجد السعداوي الذي مات قبل أن أولد. بعد أن تزوجت شريف حتاتة في ديسمبر 1964 أضيف إلى اسمي كلمة أخرى سيئة السمعة «شيوعية» يضيفون إليها كلمة أكثر سوءا «حمراء»، لي جريمة سابقة تصطبغ باللون الأحمر، هي عبارتي عن الفلاح وبوله الأحمر وأنا امرأة أيضا، المرأة الحمراء ليست كالرجل الأحمر، كان في مصر رجل يسمونه «الباشا الأحمر» تعني الباشا الشيوعي؛ يمكن للرجل أن يكون أحمر دون المساس بأخلاقه، فهي كلمة سياسية، أما «المرأة الحمراء» فهي تندرج - مثل الليالي الحمراء - تحت بند الأخلاق، مثل «امرأة الشارع» في اللغة تعني المومس أما «رجل الشارع» فهو المواطن الكادح من فئات الشعب، «الرحل الحر» يعني الرجل الأبي الشجاع المدافع عن الحرية، أما «المرأة الحرة» أو الداعية إلى حرية المرأة فهي إباحية تدعو إلى الفساد الأخلاقي.

سكن شريف معي في شقتي الصغيرة بشارع مراد بالجيزة، أصبحت الشقة تحت المراقبة ثمانية وعشرين عاما حتى انتقلنا منها، كانت مراقبة غير دائمة متقطعة بحسب ذبذبات الحكم في مصر، حكم مذبذب بين اليسار واليمين، يستقر في الوسط دون نظرية أو فكر، ينتقل من النقيض إلى النقيض بين يوم وليلة، يلعن الاستعمار كالشيطان يوما ويقدسه كالإله في يوم آخر، ما بين هذا وذاك يتحول الأصدقاء إلى أعداء، أو الأعداء إلى أصدقاء.

مثل هذا الحكم لا يؤدي في النهاية إلا إلى الهزيمة، منذ ولدت في بداية الثلاثينات حتى اليوم لم تشهد بلادنا إلا الهزيمة وراء الهزيمة، حل الأميركان محل الإنجليز، ودولة إسرائيل أصبحت تملك الترسانة النووية والسلطة العليا، تحلم بأرض الله الموعودة من النيل إلى الفرات، لم يعد الفرات بعيدا عنها بعد حرب الخليج عام 1991. منذ عهد السادات وبداية عصر الانفتاح عام 1974 كف رجال البلاط والنخبة المثقفة عن نطق كلمة الاشتراكية، أصبحت من الكلمات المحظورة، عادت مصر إلى مجتمع النصف في المائة، ازداد الفقراء فقرا والأثرياء ثراء، فتحت البورصة أبوابها المغلقة منذ العهد الملكي القديم، انتشرت كلمة الديموقراطية والليبرالية، تجمع نفر من النخبة المثقفة في قصر السادات وصدر قرار جمهوري بإنشاء المعارضة والأحزاب السياسية، أصبح حزب الحكومة هو الأكبر، يمكن عند الضرورة أن يبتلع الأحزاب الأخرى، يمين ويسار ووسط، كما ابتلعت عصا موسى الثعابين الصغيرة.

لم أدخل أي حزب بطبيعة الحال، كتبت مقالا بجريدة الشعب، إحدى الصحف الجديدة التي حملت اسم حزب العمل، أحد الأحزاب المعارضة، كان مقالا بعنوان «من ينشئ الأحزاب في مصر، الشعب أم الحاكم؟» وفي يوم 6 سبتمبر 1981 اقتحم رجال البوليس بيتي في شارع مراد بالجيزة، كسروا الباب وأخذوني إلى سجن النساء بالقناطر الخيرية، وجدت نفسي متهمة بالتآمر لقلب نظام الحكم في مصر لحساب دولة أجنبية اسمها بلغاريا، لماذا بلغاريا بالذات؟! لا أعرف.

لم أسافر في حياتي إلى بلغاريا، ليس لي معرفة بامرأة بلغارية أو رجل بلغاري، لا أعرف اللغة البلغارية، لا أكاد أعرف شيئا عن بلغاريا، أنسى موقعها فوق خريطة العالم.

إن تلفيق التهم للمعارضين أمر معروف في كل العهود، في كل البلاد، لكن هذه التهمة كانت أشبه ما تكون بالنكتة، يضحك شريف ويقول: كده يا نوال تتآمري مع بلغاريا على قلب نظام الحكم من غير ما تقولي لي؟!

لم أدرك مأساة هزيمة 1967 إلا في زيارة لقريتي صيف عام 1968، حين التقيت بحفيد دادة أم إبراهيم، اسمه على اسم أبيه الذي لم يعد من حرب 1948. كان راقدا فوق الحصيرة على الأرض، من حوله النساء يبكين في صمت، عيونهن ذبلت من البكاء، سقطت عنها الرموش، يولولن بأصوات جماعية خافية كالنحيب المكتوم: إلهي ينتقم منك يا ميخا! وجوههن ضامرة ممصوصة محروقة بالشمس، رءوسهن ملفوفة بالطرح السوداء، الجلاليب بلون التراب، وإبراهيم راقد فوق الحصيرة يهذي بالحمى، أمه تكاد تشبه أمها دادة أم إبراهيم، لكنها أكثر ذبولا وإعياء، تمسح عن وجه ابنها العرق بطرف طرحتها السوداء، تبكي بلا صوت وابنها يحكي ما حدث له في الحرب، نجا من الموت لكنه عاد حطام إنسان.

Unknown page