233

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

قبل الزواج حدثني شريف عن حياته في السجن وفي البيت، عن طفولته حين كان في العاشرة من عمره عام 1933. ينتمي شريف إلى الطبقة الأرستقراطية المصرية، أصحاب الأراضي والإقطاع منذ الخديوي والسلطان والمماليك، يملكون الأرض والمصانع والشركات، يشاركهم فيها الأسرة المالكة والأجانب، مثلهم الأعلى الملك فؤاد الأول ثم فاروق الأول، يتفاخرون بجذورهم في الأرض المصرية، يرثونها عن الأب والجد، يتزوجون الشقراوات الأجنبيات حين يسافرون إلى باريس أو لندن للسياحة أو للحصول على الشهادات العليا. مدينة القاهرة في الثلاثينيات من القرن العشرين كانت تتألق في الليل كالرجل الداعر، يتزوج المرأة الأجنبية أو الأرستقراطية من الطبقة العليا ، ثم يتسلل في الليل إلى العشيقة المصرية من الطبقات الدنيا. يتكلم اللغة الإنجليزية أو الفرنسية في البيت، وفي وكر العشق أو اللذة يتكلم اللغة العامية الدارجة، أو لغة الشوارع. يثبت في عروة البدلة الأنيقة وردة حمراء، والطربوش الأحمر فوق رأسه مائل نحو أذنه اليمنى أو اليسرى. ينتمي إلى حزب اليمين أو حزب اليسار، يحمل لقب الباشا الأحمر أو الأخضر أو الأصفر. يتحدثون عن الشعب المصري الفقير مع رشفات الويسكي وقضمات الكافيار ودخان السيجار، يتبارون في الانتخابات على المقاعد في مجالس النواب أو الشيوخ، وفي الليل يتبارون على بنات الهوى في الكباريهات والعوامات الراسية على شاطئ النيل. في البيت الكبير بيت العيلة الكريمة يحتفظون بالزوجة الأولى العجوز أم الأولاد، عفيفة طاهرة كالأم العذراء. في البيت الثاني الخفي، مثل الحكومة الخفية، هناك الزوجة الثانية الشابة المكتنزة باللحم، من أجل الحب والعشق واستعادة الشباب. تحت سنة الله والرسول، لكل منهم ثلاثة بيوت أو أربعة بحسب عدد الزوجات، ثم الشقة السرية تحمل اسم «الجارسونيرة» وهي كلمة فرنسية تعني المكان الذي تفد إليه المومسات أو العشيقات السريات. يعود الرجل منهم آخر الليل إلى زوجته الأولى، تفوح منه رائحة الخمر وعطر النساء، يخلع الطربوش والبدلة والوردة الحمراء في العروة، يعطي أم الأولاد ظهره، ثم يسقط في النوم يشخر حتى ظهر اليوم التالي.

لم يرث شريف عن هؤلاء الرجال العهر وفراغ الدماغ، ورث عن أمه الإنجليزية الإرادة الحديدية، وعن جدته الفلاحة أم أبيه ورث الضمير الحي والاستقامة. لم تقرأ جدته كتاب الله، كانت مثل جدتي الفلاحة أم أبي لا تعرف القراءة، وكانت تقول ربنا هو العدل عرفوه بالعقل. ورث شريف عن جدته الإيمان بالعدل، أصبح في أعماقه منذ الطفولة جهاز عضوي يؤمن بالعدل أشبه بجهاز المناعة ضد الأمراض، أليس هو الضمير؟!

منذ طفولته كان قلبه يرق للخدم في البيت والشحاذين ذوي العاهات في الشوارع. في النوم يرى نفسه نبيا أو قسيسا يدعو إلى العدل والخير، كان طفلا وحيدا حزينا في بيت كبير، أبوه غائب معظم الوقت، أمه تنظر إلى أصابعه الطويلة النحيفة وتقول أصابع فنان مبدع أو جراح ماهر. كان يحب الفنانين ويكره الجراحين، لم يكن رجال الطبقة العليا يحترمون أهل الفن، يقولون عنهم «أرتيست»، يلفظون الكلمة بطرف اللسان في ازدراء. يدخل الأرتيست إلى قصورهم في الأفراح من الأبواب الخلفية مع الخدم، يعزفون العود أو الكمنجة مع الطبلة والرق، يطرب السادة للغناء والموسيقى، يهزون رءوسهم طربا، يلقون طرابيشهم على الأرض، ينتشون، ينهلون من المتع التي حرمها الله حتى الثمالة، ثم ينامون، وفي الصباح ينهضون، يركعون لله ركعتين كنوع من الرشوة، يضعون الطرابيش فوق رءوسهم، يشمخون بأنوفهم يتفاخرون بالتقوى والصلاح.

على شاطئ النيل في الجيزة كنت أتمشى أنا وشريف، يحكي لي عن طفولته وأيام الدراسة وكلية الطب، المظاهرات الوطنية، أحداث كوبري عباس في الجيزة، فتح البوليس الكوبري على الطلبة المتظاهرين، غرق بعضهم في مياه النيل، تلقى بعضهم الرصاص في صدره قبل أن يقفز فوق السور، اختلط الدم الأحمر بالماء والطمي.

تخرج شريف في كلية الطب، عام 1946، كان طالبا متفوقا يحلم أن يكون طبيبا مثاليا، يعالج الفقراء بالمجان. اصطدم الحلم بالواقع القبيح، الدم والصديد والعرق في جلاليب الفلاحين، الوجوه الضامرة الممصوصة، ينزفون الدم في البول، يمرضون بسبب الفقر والجهل والاستعباد وليس بسبب الجراثيم.

تحول الطبيب المثالي إلى مناضل ثوري يحلم بإلغاء الفوارق بين الطبقات، كلمة الطبقة كانت محرمة، محظورا النطق بها، تعني الشيوعية والإلحاد، أليس الله هو الذي خلق الفقير والغني؟ أليس المال هو مال الله يعطي من يشاء بغير حساب؟

صوت شريف هادئ ينساب في أذني مع نسمة الليل في الربيع، نحن في عام 1965، عيناه يكسوهما حلم حزين، ملامحه تذكرني بملامح أبي وزوجي الأول، ملامح الفدائيين والقديسين، أتذكرهما رغم مرور السنين، المظاهرة الصامتة عام 1951، الهتاف يدوي تحيا مصر حرة. عيناه تلتقطانني من وسط الملايين يكسوهما البريق، الحب جزء من الخيال وجزء من الحقيقة، يخفق له القلب رغم الموت والحرب، الدماء فوق الأرض والأصابع حول عنقي، الهروب في الليل قبل طلوع الفجر أحمل طفلتي فوق صدري، فتح لي أبي بيته وذراعيه، لم يؤنبني ولم يعاتبني، ربما كان يحس تأنيب الضمير، ألم يملأ خيالي منذ الطفولة بأحاديث البطولة؟ سعد زغلول وثورة 1919، الحرب والقتال وتحرير الوطن، الحرية والاستقلال أو الموت الزؤام، في أعماقه جهاز للإيمان، أشبه بجهاز المناعة ضد الأمراض، في خياله صورة عن الله، يحاول أن يستبدل الصورة بالحقيقة، يلوي عنق الحقيقة، يلوي عنقي لأصبح مطابقة للصورة، عنقي غير قابل للالتواء مثل عنقه، رأسي غير قابل للانحناء مثل رأسه، كلما عجز عن تغييري اشتد به الإحباط، لم يملك شيئا يغيره إلا ابنته بعد أن عجز عن تغيير العالم.

راح أبي ضحية الحلم الكبير مثل زوجي الأول، يذوب الحلم في الحقيقة، مؤرق في الليل والنهار، يسمع الدقات المنتظمة للزمن والنبض، الساعة فوق معصمه وقلبه تحت الضلوع، دقات منتظمة غريبة في انتظامها، مفزعة في استمرارها كدقات الموت البطيء، يهب من النوم حاملا سلاحه، يذهب إلى حرب لا يعرفها، يندفع في الظلام كمن يمشي في النوم، يمشي فوق الموت دون أن يتوقف، دون أن ينظر إلى الوراء، يتطلع إلى السماء، يرى صورته محمولا فوق الأعناق، الناس تهتف باسمه: يعيش يا يعيش! وهو يمشي فوق السحب حاملا سلاحه، مرهق يبحث عن الراحة، حزين ينشد الفرح، مهزوم يحلم بالنصر، يمشي وحده مثل خيال، الوجوه من حوله ميتة، كلهم موتى، كلهم غارقون في الهزيمة، لا يملكون إلا سلاحا مكسورا أو قلما مقصوفا، كلمات فوق الورق تطير في الهواء، طلقات الرصاص والدم المراق، عيناه غارقتان في الدموع، أهي دموع الحزن أم الفرح؟ أهو الموت أم الانطلاق نحو حياة جديدة؟

كنت أخرج لأتمشى على شاطئ النيل في الجيزة، شريف يمشي إلى جواري، يحكي لي عن السجن، أربعة عشر عاما في السجن، دخل عام 1949 وخرج عام 1963، عشر سنوات منها تحت حكم جمال عبد الناصر من 1953 حتى 1963 مع الأشغال الشاقة، قطع الأحجار في الجبل في سجن طرة وأبو زعبل.

يسترجع شريف الذكريات وأنا أمشي إلى جواره صامتة أرمق الناس في الطريق، وجوه الرجال متهدلة، عيونهم منكسرة، إلى جوار كل واحد منهم زوجته يقبض على يدها كالأسيرة، النساء أجسادهن سمينة مربعة، يتأرجحن فوق كعوب رفيعة، ثقيلات الخطو بطيئات الحركة، بطونهم عالية، إلى جوارهن تسير بناتهن نحيفات رشيقات، كالزهور يتفتحن في الربيع، ثم يأتي موسم القطف، يصبحن مثل أمهاتهن بعد ليلة الزفاف مكسورات القلب مترهلات.

Unknown page