أسمع أبي يقول: إن الله ليس له يد أو لسان، فكيف تمتد يد الله حاملة تاج العرش لتناوله للملك فاروق؟ أو الماروق كما سماه أبي، يحلو لأبي أن يكتشف التشابه في الحرف والمعنى، فالنحاس هو النحاس حين ينظر بعينه اليمنى إلى الملك والعين اليسرى تفر بعيدا إلى الناحية الأخرى، لم يسلم أحد من سخرية أبي إلا جمال عبد الناصر، أشار إليه في الصورة بإصبعه وقال: «هو ده اللي فيهم لكن محمد نجيب مجرد يافطة.» «محمد نجيب» أول حاكم مصري منذ الملك مينا في مصر القديمة، ملامح وجهه ريفية بسيطة تطفو عليها ابتسامة خالية من الدهاء، صوته فيه بحة تقربه من قلوب الفقراء.
في بداية الثورة صدر قرار العفو عن المسجونين السياسيين، انفتحت أبواب الزنازين وخرج زملاؤنا من حزب الوفد والإخوان المسلمين والمستقلون وغيرهم، إلا الشيوعيين لم يشملهم قرار العفو، بقي داخل السجن شقيق صفية «سعد» وخطيب سامية «رفاعة»، أعلن زكريا محيي الدين «أحد الضباط الأحرار» أن الشيوعيين مجرمون اجتماعيون وليسوا مجرمين سياسيين، مطت سامية شفتيها بازدراء: «بقة دي ثورة يا نوال؟ دول شوية عساكر عملوا انقلاب وأمريكا معهم لتدخل مصر بدل الإنجليز!»
تحديد الملكية الزراعية بدأ بمائتي فدان للأسرة، وخمسين فدانا لكل ولد أو بنت، ثم إلغاء الألقاب والأحزاب وإسقاط النظام الملكي وإعلان الجمهورية في يوليو 1953م.
وجوه الناس في الشارع تغيرت، تغير الشارع، سقطت الحواجز بين الغرباء، كانوا يسيرون بوجوه شاحبة عابسة كل في طريقه، لا أحد يبتسم لأحد، لا أحد يقول صباح الخير لأحد، أصبح الشارع مثل البيت، الناس تكلم بعضها بعضا، يتصافحون دون سابق معرفة، يتساءلون عن الصحة وعن أخبار الثورة، يهنئون بعضهم بعضا، يتناقشون في السياسة، يتنبئون ماذا يحدث غدا، يتوقعون كل يوم قرارا جديدا.
في طريقي إلى الكلية ألتقط بعض تعليقاتهم على الأخبار: «أخيرا ربنا فرج علينا! حد كان يصدق يا ناس إن عرش الملك ده كله يسقط في يوم وليلة؟! خلاص يا عم ما فيش حاجة اسمها باشا ولا بيه! يعني هي كلمة «باشا» دي عربية؟ دي كلمة تركية يا عمي من أيام المماليك والعثمانيين! يعني خلاص البلد اتحررت يا ناس؟ يعيش محمد نجيب يعيش!»
لم يكن للأحزاب القديمة أن تستسلم، لم يكن للباشوات وأصحاب الأراضي أن يتنازلوا عن أملاكهم دون معركة، نشب الصراع بين القديم والجديد، تكتل القديم وراء محمد نجيب، كونوا جبهة قوية تحت اسم الديمقراطية أو الحريات أو إعادة الأحزاب المنحلة، ضمت الجبهة قيادات الوفد والإخوان والشيوعيين، بين الثلاثة عداء مشهود وبحور من الدم، في السياسة يتكتل الأعداء في حلف واحد ضد عدو أكبر، في الغابة أيضا قد يتحالف القط والفأر ضد النمر أو الأسد.
لم يكن الأسد ظاهرا في الصورة، بدأت الثورة بصوت أنور السادات في الراديو، ووجه محمد نجيب في الصحف، رأى أبي الأسد في الصورة واقفا إلى جوار محمد نجيب أشار إلى وجهه بإصبعه وقال: «هذا هو القائد الفعلي للثورة يا نوال!» كان الناس يهتفون لمحمد نجيب ولا أحد يعرف جمال عبد الناصر، سألت أبي: كيف عرفته؟ قال: عرفته من عينيه، عيناه تأملتهما في الصورة، نفاذتان غائرتان تحت جبهة عريضة عظامها قوية، أنفه كبير بارز مقوس في الجانب ، شفتاه رفيعتان مزمومتان في ثورة أو غضب منذ الطفولة، ملامح محمد نجيب إلى جواره تبدو بريئة ساذجة كالأطفال.
التقيت بجمال عبد الناصر أول مرة وجها لوجه في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية عام 1962م، كان أبي قد مات منذ ثلاث سنوات، الثورة في عنفوانها تحطم القلاع الإقطاعية وتعلن القرارات الاشتراكية، ملامح عبد الناصر في الحقيقة أكثر جاذبية من الصور، عدسة الكاميرا لا تنقل البريق في العينين، اللون البرونزي لبشرة بلون طمي النيل، القامة الطويلة الفارعة تشبه قامة أبي وجدتي الريفية، انحناءة خفيفة وهو يمشي تذكرني بمشية أبي، أيحمل العبء ذاته فوق كتفيه؟ يميل بهما إلى الأمام ويمشي بخطواته الواسعة، كأنما لا يحمل شيئا لولا هذه الانحناءة الخفيفة، تذكرني بالعبء، كان يحمله أبي ليطعم تسعة من الأطفال وأمهم وأمه وأخته المطلقة في القرية، العبء حملته بعد أبي.
لم يحمله أخي الأكبر، اجتمعت الأخوات والإخوة الصغار واتخذوا قرارا بعد موت أبي: «الوصاية علينا تكون لأختنا نوال.» لم يكن معاش أبي يكفي الأسرة الكبيرة، كان علي أن أعمل لأدبر مصاريف أخواتي في المدارس والجامعة وابنتي بعد الطلاق.
ألهذا زحف الشيب إلى رأسي وأنا في ربيع العمر؟ أم أنني ورثت الشعر الأبيض عن أبي كما ورثت عنه العبء؟ في طفولتي كأنما أرى الشعرات البيض تزحف إلى شعره الأسود الغزير، فاحم بلون الليل، لون شعري، تسري فيه الشعرات البيضاء كأنما خلسة، تشق سواد الظلمة كخيوط الفجر.
Unknown page