تخرجت في كلية الطب في ديسمبر 1954م، الدراسة كانت ست سنوات ونصفا من الأشغال الشاقة، محاضرات طويلة مملة تتلى علينا، نحفظها عن ظهر قلب ننساها بعد الامتحان، تعلق أسماء الناجحين على السبورة في مدخل الكلية، العبقرية المفاجئة لأبناء الأساتذة تظهر، يحتلون المراتب الأولى، يحصلون على المناصب العليا في المستشفى الجامعي والكلية، العرش يرثه الابن عن الأب عن الجد، النظام الوراثي في المملكة المصرية وكليات الطب.
الانهيارات العصبية تصيب الطلبة في الامتحانات النهائية، الإدمان على المنبهات «الآنفيتامجين» للسهر في المذاكرة، المنومات «الفاليون» لعلاج الأرق، ثم «الماكسيتون» لليقظة في الامتحان، الأساتذة لا يرحمون المرضى الفقراء فهل يرحمون الطلبة أطباء المستقبل المنافسين لهم في السوق؟!
كنت شديدة الانتباه للدروس، لا تفوتني محاضرة أو حصة في المعمل أو المستشفى، الأساتذة والمدرسون يعبرون عن إعجابهم بهذه الطالبة النجيبة، أذناها عيناها حواسها الخمس تلتقط الكلمة قبل أن تسقط من أفواههم، لا تغيب حتى في الإجازات، يرونها في عنابر المرضى تراجع التشخيص والعلاج، خطوتها وهي تمشي سريعة مستقيمة لا تتلكأ في الفناء مع زميل أو أستاذ، لا تتلفت حولها هنا أو هناك، كالسهم تنطق داخل الكلية وخارجها، قدماها لا تلتويان فوق الكعب العالي، عيناها تنظران مباشرة في عيون الناس.
كان يدرس لنا في قسم الجراحة أستاذ مساعد أو مدرس اسمه الدكتور رشاد، أصابعه طويلة صلبة كالمسامير الحديدية ينقر بها على صدور المرضى، يخرق بها الصدر أو البطن، يدوس بسماعته المعدنية بين الضلوع كما يدوس بحذائه على الأرض، طفل كان هناك في العنبر مريض بالقلب، اسمه مصطفى لا أنساه، ملامحه تشبه ابن عمتي نفيسة وكل أطفال القرية، عمره عشر سنوات، مثل عمري في منوف وأنا أحلم بالحب الأول، بشرته سمراء بلون بشرتي، عيناه سوداوان واسعتان باتساع عيني، مملوءتان بالبريق، انطفأ البريق بعد أيام من دخوله قصر العيني، كست عينيه سحابة من الحزن، الألم يكتمه حين تدوس السماعات فوق صدره، أربعون أو خمسون سماعة أو أكثر، بعدد الطلبة المتزاحمين حول السرير، المتنافسين على سماع الخشخشة في الدم، أو اللغط في صمام يرشقه الدكتور رشاد بنظرة صارمة، إن رفض أن يخلع الجلباب يرتفع الصوت الآمر: «اقلع يا ولد لأقلعلك عينك.» إن أصر على الرفض أو تردد قليلا هبطت اليد الحديدية فوق صدغه صفعة واحدة، يخلع بعدها مصطفى الجلباب الفلاحي الباهت، ضلوعه صغيرة هشة تنتفض كضلوع الفرخ الصغير، تطقطق تحت السماعات المعدنية، تنكسر بصوت مسموع للأذن، هل كانت الآذان كلها صماء؟! مسدودة بخراطيم من الكاوتش، تتدلى من أعناقهم مع رأس السماعة الغليظ.
لم يكن اللغط مسموعا لآذانهم، محشوة بالصمغ ربما وذرات التراب المتراكمة في الشوارع، ومدرجات الكلية وعنابر المستشفى والسنين ... يسلك الواحد منهم أذنيه بعود كبريت، ويظل اللغط غير مسموع ... خافتا هامسا كحركة الدم داخل صمام القلب، كحفيف الهواء يلامس ورقة وليدة في أول الربيع.
يخرج الدكتور رشاد من جيبه قطعة نقود فضية يلقي بها فوق المنضدة كمن يلقي الرهان في سباق الخيل أو البورصة: «الشلن ده مكافأة لمن يقول لي ما هو نوع هذا اللغط.» هذه العبارة كلها يقولها بالإنجليزية، الدراسة في كلية الطب لم تكن باللغة العربية، المراجع والكتب وأسماء الأمراض وأنواع اللغط، وكل شيء باللغة الإنجليزية، حتى النكت، ويندفع الطلبة من جديد نحو الطفل المريض، يدوسون على أقدام بعضهم، يتدافعون بالمناكب والأذرع والأكتاف، يضرب الواحد منهم كوعه في بطن الآخر، يشق طريقه نحو الصدر المكشوف، رأس سماعته منتصب أمامه كالقضيب يلمع سطحه المعدني مثل رأس الكوبرا يتلوى فوق خرطوم من الكاوتش يستقر في النهاية داخل الحفرة في اللحم بين الضلوع، وتنطلق من الطفل صرخة لا يسمعها أحد.
لم يكن للطالبات مجال في هذه المنافسة، معركة بالأجساد فهل تدس البنت العذراء جسدها بين الذكور لتسمع خشخشة في الدم أو تحصل على خمسة قروش؟ وكنت أقف في الصفوف الخلفية يتراءى لي وجه الطفل من بين الأجساد، تلتقي عيناه بعيني، تتشبث عيناه كأنما بعيني الأم أو العمة أو الأخت الكبيرة، يرمقني بنظرة استجداء طويلة تذكرني بعيني خروف العيد في طفولتي، كانت عيناه ترمقاني من وراء جسد الجزار بنظرة الاستجداء نفسها، وكنت أقف صامتة عاجزة عن إنقاذه كما أقف الآن.
في النوم تطاردني العينان، عينا الطفل المريض أو عينا الخروف المذبوح؟ متشابهتان واسعتان دامعتان بلا دموع، تشوبه صفرة تطفو عليها شعيرات دقيقة بلون الدم.
ترمقني العينان في الظلمة، مفتوحتين بلا جفون بلا رموش، لا صوت، لا حركة، فقط هذه النظرة الخرساء بذلك الاستجداء حتى أهب من النوم مبللة بالعرق.
كان الدكتور رشاد في قسم الجراحة يشبه الدكتور عمرو في المشرحة، يقف أمام الأستاذ رئيس القسم مكتوف الذراعين، مكتوف الساقين، كالتلميذ المؤدب أو البنت العذراء، يختفي الرئيس فيفرد الدكتور رشاد ذراعيه وساقيه، يتمشى في العنبر لاويا عنقه إلى الوراء كالطاووس أو الديك الرومي، يقلد الأستاذ رئيس القسم في مشيته، في الطريقة التي ينطق بها الحروف، يقلب حرف القاف إلى كاف كنوع من الرقة، أو الانتماء إلى الطبقات العليا المقلدة للأجانب، يضحك بصوت عال في غياب الرئيس، مقلدا قهقهة الأساتذة، ملقيا برأسه إلى الوراء، عيناه تتجهان نحو الطالبات: «الآنسات الكوارير (القوارير) ساكتين ليه؟ ما فيش واحدة فيكم عاوزة تكسب الشلن؟ ياللا يا ست بطة شدي حيلك، وانتي يا ست صفية وانتي يا ست فوزية ويا ست سميحة ويا ست نبيلة ...» ويأتي الدور علي، يهم أن ينطق اسمي بالسخرية نفسها لكنه يتوقف، لا أعرف لماذا، كنت أرمقه بنظرة مشبعة بالغضب، كلمة القوارير ترن في أذني الجوارير أو الجواري، تشتعل عيناي بنار سوداء أثبتها في عينه لا يطرف لي جفن.
Unknown page