في الطريق إلى البيت عاد إلي صوته: «أستودعك الله»، لم أفهم ماذا تعني هاتين الكلمتين، لكن قلبي ينوء بثقل كبير، ربما كان تأنيب الضمير، هل أسأت إليه دون أن أدري لماذا لم أفتح فمي وأشكره على الأقل؟ •••
في المظاهرات لم يكن «المنيسي» بين الطلبة، هل سافر مع كتائب الفدائيين إلى القنال؟ منذ إلغاء معاهدة 36 في أكتوبر 1951م فقد الاحتلال البريطاني سنده القانوني، بدأ الكفاح المسلح بين الطلبة والشباب، حكومة الوفد كانت تشجع المقاومة الشعبية من وراء الستار.
لم تكن زميلاتي البنات يشاركن في المظاهرات، أحيانا أكون الطالبة الوحيدة بين مئات الطلبة أو الآلاف، في خيالي حلم الطفولة، أحمل السيف وأضرب الأعداء، يحملوني مثل أبي فوق الأعناق: تحيا مصر حرة! تسري القشعريرة في جسدي كالكهرباء، أنتفض من مكاني حيث أكون في المشرحة أو المدرج أو المعمل، يندفع جسمي بقوة مجهولة كأنما تأتي من السماء، أسير بينهم والخفقات تتصاعد تحت ضلوعي قوية متلاحقة متدفقة تذكرني بالحب الأول.
صوتي يختنق بالدموع وأنا أهتف: «تحيا مصر حرة»، فيض من الدموع ينهمر من عيني يكتسح أمامه أحزاني منذ ولدت، يتخفف جسمي من الثقل، كأنما يسقط عني جسمي، أسير بينهم بلا جسم، بلا اسم، بلا أب ولا أم ولا أسرة، هؤلاء هم أسرتي وأهلي وبيتي.
أكان ذلك يسمونه حب الوطن؟ أم أنه الحنين إلى الحب الأول؟ لم أكن أعرف، كان الاثنان يذوبان معا داخل شلال واحد، فيضان من المشاعر كالطوفان يكسر الجسور والحواجز، أنسى أنهم رجال من جنس آخر، نصبح جنسا واحدا، نذوب داخل جسد واحد أو روح واحدة بلا جسم.
أكبر مظاهرة كانت في نوفمبر 1951م، يسمونها «المظاهرة الصامتة»، أحيانا يكون الصمت أقوى من الهتاف، في فناء الكلية تجمع مئات الطلبة، يحملون اللافتات الطويلة من الدمور، كتب عليها بخط النسخ الأسود: يحيا العمل الفدائي. لا مفاوضات مع الاحتلال البريطاني. طلبة الطب مع الشعب يد واحدة. يحيا كفاح الشعب المسلح. تحيا مصر حرة. مجموعة من الطلبة الفدائيين يرتدون ملابس حرب العصابات، مجموعة أخرى يعلقون الشارات فوق صدورهم ينظمون الصفوف، زعماء الطلبة يروحون ويجيئون، أصواتهم ترتفع من حين إلى حين: «عاوزين نظام يا زملاء، الهتاف ممنوع، المظاهرة دي إحياء لذكرى أول وفد شعبي راح للحاكم البريطاني سنة 19، وطلب منه رسميا جلاء الجنود الإنجليز عن مصر، دي أهم مظاهرة في تاريخ الحركة الوطنية، لأول مرة في تاريخ مصر الحكومة والشعب في يد واحدة، بيجهزوا لضربة كبيرة في القنال، لازم نوريهم النهاردة إن الشعب كله إيد واحدة قوية، عاوزين نمشي خطوة واحدة، ماحدش يطلع برة الصف، جايز عناصر من أعوان الملك والإنجليز يندسوا بينا عشان يعملوا شغب، يفسدوا المظاهرة، لازم نكون منتبهين لهم، لازم يكون فيه هدوء ونظام طول المظاهرة .»
كان معي طالبتان من سنة أولى مشرحة، تقدم نحوي أحد المنظمين: «يا زميلة نوال، الطالبات يقفوا في الصف الأول ودي اليافطة، تقدروا تشيلوها؟» كانت قطعة طويلة من القماش الدمور، كتب عليها بالخط الأسود الكبير: «طالبات الطب مع الكفاح المسلح لتحرير الوطن.» لها عمودان طويلان من الخشب، أمسكت بعمود، أمسكت الطالبة الثانية بالعمود الآخر، يساعدها أخوها طالب كلية الطب أيضا، رفعنا اليافطة فوق رءوسنا وسرنا في الصف الأول.
خرجت المظاهرة من باب الكلية مثل تمساح ضخم يزحف بلا صوت، التحمت مع المظاهرات الأخرى في شارع القصر العيني، أنهر من البشر تتدفق من الشوارع الجانبية، تلتقي معا كالشلال، تصب في ميدان الإسماعيلية، أقدام بلا عدد تخرج من جسد واحد له رءوس بلا عدد، أمواج تعلو وتهبط كالبحر، ملايين الأنفاس ذابت في نفس واحد، بلا صوت، الصمت يدوي أقوى من الرعد يرج الأرض.
خرجت مصر كلها ذلك اليوم، تحول كل شبر من الأرض إلى بشر، حتى الشجر صعد إليه الناس حين ضاقت الشوارع والميادين، أسطح البيوت والنوافذ تحولت إلى أجساد لها رءوس وعيون تطل على ما يشبه يوم القيامة، حين يقوم الناس أفواجا أفواجا، وينهض الأموات يسيرون فوق أقدامهم.
لم يتخلف أحد، حتى التلاميذ الصغار والأطفال، وربات البيوت والنساء بالملايات اللف، أطفالهن فوق صدورهن، فلاحون بالجلاليب والطاقيات فوق رءوسهم، عمال المصانع بالبدل الزرقاء تعلوها بقع الزيت والشحم، عجائز يسيرون بالعكاكيز، موظفون بالطرابيش والبدل، شحاذون بالجلاليب الممزقة، باعة متجولون فوق رءوسهم القفف، عربات كارو تجرها الحمير.
Unknown page