كلمة «أقاتل» خمسة حروف، أصبحت تلوح لي في النوم، ماذا يعني؟ هل يشترك في حرب العصابات في القنال؟ أيمسك السلاح في يده ويقتل الإنجليز؟ هذه اليد التي ترتعش وهي تمسك أنبوبة الاختبار؟ لكن أنفه من الجانب مرفوع، يرسم في الجو قوسا حادا، أيكون هذا هو أنف الفدائيين؟!
كلمة الفدائيين كان لها رنين ساحر، الدقات تحت ضلوعي تتصاعد، في النوم أراه يضرب الأعداء واحدا وراء الآخر، يتساقطون إلى الأرض وهو واقف شاهرا سيفه، قامته فارعة مثل قامة أبي، يحملونه عاليا فوق الأعناق، تتطاير رصاصة في الجو وتستقر في صدره، يسقط إلى الأرض ينزف الدم، يحملونه فوق عربة كارو، يضع يديه فوق قلبه تحت الضلوع، يستخرج شيئا يمسكه بين أصابعه المرتعشة، ثم يفتح أصابعه لأرى صورتي! لم يكن عندي إلا صور قليلة منها صورة الشهادة التوجيهية، التقطها لي مصور في منوف ضخم الجثة يعرج على قدمين متورمين، يلتوي إلى الوراء حين يمشي، ربما أصيب بمرض الفيل أو شلل الأطفال وهو صغير، جسدي كان يرتعد حين ألتقي به في طريقي إلى المدرسة، جاء إلى بيتنا حاملا صندوقه فوق ظهره كمن يحمل صليبه ويمشي، أوقفني في الحقل أمام البيت والشمس في عيني، وضع رأسه داخل الصندوق الخشبي ثم اختفى نصفه الأعلى تحت خيمة سوداء، رفع ذراعه اليمنى في الهواء وصاح بصوت يشفه صفارة الإنذار في الحرب: «انتباه! واحد اثنين ثلاثة! كان المفروض في هذه اللحظة (حسب أوامره) أن أتوقف تماما عن الحركة أو التنفس، وأفتح عيني وأغلق فمي، إلا أن العكس هو الذي حدث، إذ اهتزت الأرض تحت قدمي، وتركزت الشمس القوية الحارقة في العين السحرية الجاحظة من رأس الصندوق الأسود.
كنت أحفظ هذه الصورة مع أوراقي الخاصة ومفكرتي السرية في درج صغير أسفل مكتبي أغلقه بالمفتاح. كانت هناك صور أخرى لي التقطها أخي طلعت، منها صورة تشبه إستر ويليامز أو سامية جمال، فوق وجهي ابتسامة عريضة، عيناي يكسوهما بريق كضوء الشمس.
كنت أهدي هذه الصورة إلى صديقاتي البنات، نتبادل الصور، نكتب عليها من الخلف للذكرى والتاريخ.
لم تكن الصداقة تحدث إلا داخل الجنس الواحد، لا شيء اسمه الصداقة بين الجنسين، لا يمكن لبنت أن تعطي صورتها لرجل ليس زوجها أو خطيبها على الأقل، قد يحدث في الحب أشياء خارقة للعادة والتقاليد، كأن تهدي البنت صورتها دون أن تكتب عليها حرفا واحدا، كان يكفي أن تسقط هذه الصورة في يد شخص حتى تسقط البنت في نظر الناس.
منذ الرسالة داخل الكشكول لم أر «المنيسي» إلا مرة واحدة أخيرة، في معمل البيوكميستري، حرك رأسه ناحيتي وابتسم على غير العادة، عيناه ملأهما بريق، رموشه سوداء غزيرة تهتز، أصابعه حول أنبوبة الاختبار قوية صلبة رغم الرعشة الخفيفة، انفرجت شفتاه كأنما يقول شيئا، صوته خافت لا أكاد أسمعه: «عاوز صورتك معايا.»
كنت فتاة مثالية، لا تهدي صورها وإن خفق قلبها بالحب، لم يكن قلبي يخفق له كما خفق في الحب الأول، في عينيه رغم البريق القوي نظرة منكسرة خجولة تشبه نظرة البنات، كنت أنفر من هذه النظرة في عيون الزميلات، فما بال الزملاء.
كان المعمل في الدور الثالث، لا يوجد كراسي نجلس عليها، نقف على أقدامنا الساعة وراء الساعة أمام التخت أو الطاولة الخشبية الطويلة، نخلط الأحماض والمواد الكيميائية داخل أنبوبة الاختبار، نضعها على النار وتتصاعد الغازات السامة أو غير السامة.
فجأة سمعنا صوت فرقعة، انفجرت الأنبوبة في يد أحد الزملاء، امتلأ المعمل بالدخان، أسرعنا إلى الخارج نعطس ونسعل، هبطنا السلالم جريا إلى الفناء: «يا خبر، أنا نسيت شنطتي فوق في المعمل!» لم يكن لي أن أعود إلى البيت دون حقيبتي، «أنا حاطلع حالا أجيبها»، هذا هو صوت المنيسي الذي ناولني حقيبته لأحملها له حتى يعود، انطلق صاعدا السلالم بشجاعة الفدائي يقتحم النار لا يخشى الموت، عاد حاملا حقيبتي، تبادلنا الحقائب بلا كلمات، أطراف أصابعه لامست يدي عن غير قصد في حركة التبادل السريع: «متأسف!»
كان واقفا أمامي ينطق كلمة متأسف وأنا لساني معقود، كان المفروض أن أحوطه بذراعي، أو على الأقل أمد يدي أصافحه وأشكره، إلا أني وقفت مثل التمثال عاجزة عن فعل أي شيء، قيود تحيطني وحواجز تقف بيني وبينه لا أعرف ما هي، كان واقفا يلهث قليلا (صعد ثلاثة أدوار وهبط في لمح البصر)، وجهه محتقن بالدم، يضغط بأسنانه على شفته السفلى، لا أسمع منه إلا كلمة متأسف، لم أعرف لماذا يعتذر، عن الرسالة التي وضعها في الكشكول أم عن التلامس الخاطف غير المقصود؟ ثم سمعت صوته بصعوبة، كانت في الفناء ضجة وصخب وريح محملة بالتراب والرمل دوت في أذني كالصفير الحاد الطويل، رأيته يمد يده لي يصافحني بأصابع باردة، لم أسمع مما يقول إلا كلمتين: «أستودعك الله.»
Unknown page