وكنت أتردد في بعض الأحيان على منزل الرفيق «ف»، وهو موظف أوكراني يشغل منصبا كبيرا في رياسة تفتيش العمال والفلاحين، وكان وهو في أواخر العقد السادس من عمره من أعضاء الحزب القدامى، حصل على قسط وافر من التعليم، ويعرف معظم كبار رجال الثورة معرفة شخصية، وإذا ذكر لينين وتروتسكي ولونا تشارسكي وزبنوفيف وغيرهم ذكرهم بأسمائهم الأولى دون ألقابهم، وكانت زوجته سيدة شمطاء الشعر تبدو عليها أمارات الرقة والحنان، وتذكرني على الدوام بكربسكايا أرملة لينين.
وكنا إذا انفردنا نحن الثلاثة بأنفسنا، لم يجد الرفيق «ف» مناصا من التحدث إلينا في الشئون السياسية، ومهما كانت بداية الحديث، سواء كان عن المسرح أو عن كتاب جديد أو عن دراستي، فسرعان ما كان ينتقل هو إلى البحث في المشاكل الزراعية، والإرهاب المسلط على رفاقه القدماء، والسرعة التي يسير بها التنظيم الصناعي، وكان يخيل إلي أن الآراء التي يدلي بها طبيعية معقولة مع أنها لو جاءت من إنسان غيره لصدمتني صدمة عنيفة، وكان يشير عرضا إلى أنباء لم أكن أصدقها من قبل، بل كنت أظنها «شائعات تذاع ضد الثورة»، ولكنه كان يذكرها كأنها من الحوادث العادية التي تقع في كل يوم، وكان منصبه الرسمي يتيح له الاطلاع على الفظائع التي ترتكب في القرى، وعلى مقاومة الفلاحين، والقبض على الناس جملة، والتحدث عنها كأنها من الأمور التي يعرفها الناس جميعا.
ومهما يكن من أمر الرفيق «ف»، فقد عمل دون أن يعرف على أن ألتقي بجوليا، وذلك أنه أهدى إلي في يوم ما تصريحا بمكانين في مقصورة في مسرح الأوبرا لمشاهدة مسرحية شيوشيوسان، فاصطحبت إليها ألكسي كارنوخوف، وكان في المقصورة المجاورة لنا سيدتان ذواتا جمال بارع وملابس أنيقة، وعرفت من فوري أن إحداهما كانت مريضة في مصحة كيف حيث كنت أقضي دور النقاهة بعد الكارثة التي حلت بي على الحدود الإيرانية.
فهمست في أذن رفيقي قائلا: «هذه جوليا ميخائيلفنا زوجة «ر».»
فصاح مندهشا: ««ر»!»
وكان من حقه أن يدهش، فقد كان «ر» من أكبر الموظفين في الحكومة الأوكرانية، وكان رجلا عظيم السلطان يعرف الناس أنه من أقرب المقربين لستالين نفسه، وتذكرت وقتئذ أنه كان يرسل إلى زوجته الأزهار في صباح كل يوم بالطائرة من خاركوف حين كانت في كيف.
وعرفتني جوليا بطبيعة الحال، وأشارت إلي تدعوني إلى الذهاب إليها في فترة الاستراحة بين فصلين، وقلت في نفسي: «ما أجملها من سيدة! وكيف فاتني أن أشاهد هذا الجمال البارع في خاركوف من ثلاث سنين، ألا ما أشد غباوتي وقتئذ!» وظللنا طوال الفصل نتبادل النظرات، وكانت هي تبتسم إلي من فوق الحاجز ولا تخفي سرورها، حتى أخجلني هذا وإن لم أحاول أن أخفي إعجابي بها.
وكانت المسرحية الغنائية سخيفة مملة للغاية، وضعت بحيث تلائم الآراء السائدة وقتئذ، وملئت بالعبارات الطنانة الرنانة التي ألفها الناس في تمجيد الثورة، ولكنني ظللت طوال حياتي إذا ذكر شيء من سخافاتها، عادت إلي ذكرى حبي لجوليا، وكانت هي متوسطة القامة، أكبر مني قليلا، ذات جمال فاتن وشعر ذهبي مجدول في غدائر سميكة معقودة في شكل تاج على رأسها كأنه إطار من الذهب البراق يحيط بمعارفها الفاتنة.
ولما أسدل الستار ذهبنا إلى مقصورتها وعرفتها بألكسي، وعرفتنا هي بصديقتها ماري، وأخذنا نتحدث الحديث الذي يجري عادة بين المعارف الجدد الذين لم يزل ما بينهم من حرج، ولكن هذا اللقاء تخلله شيء من اهتياج المشاعر، وأحاط به جو من التوتر لا علاقة له بموضوع الحديث.
وبقينا في مقصورتهما خلال الفصل الثاني، وقبل أن ينتهي هذا الفصل همست جوليا قائلة: ولم نبقى إلى نهايته المملة؟ فلنذهب إلى بيتنا ونتناول بعض العشاء.» ووافقنا على هذا من فورنا.
Unknown page