1 - فرار في دجى الليل
2 - طفولة روسية
3 - المجد والجوع
4 - الشباب في الجيش الأحمر
5 - قطع الصلة بالماضي
6 - طالب في خاركوف
7 - انتصار الآلات
8 - الرعب في القرية
9 - حصاد في جحيم
10 - أول ما رأيت من حركة التطهير
11 - سر إلينا
12 - مهندس في نيقوبول
13 - السرعة السرعة!
14 - التطهير الأعظم
15 - بداية محنتي
16 - بحث عن العدالة
17 - تعذيب بعد منتصف الليل
18 - العمال أحرارهم وعبيدهم
19 - بينما يدون التاريخ
20 - أكذوبة سيبيريا
21 - والقتال ناشب في أوروبا
22 - حرب لم تكن في الحسبان
23 - الذعر في موسكو
24 - الكرملن في أيام الحرب
25 - حقيقتان
26 - التأهب للسفر
27 - رعايا ستالين في الخارج
28 - الفرار من الظلم
حاشية
1 - فرار في دجى الليل
2 - طفولة روسية
3 - المجد والجوع
4 - الشباب في الجيش الأحمر
5 - قطع الصلة بالماضي
6 - طالب في خاركوف
7 - انتصار الآلات
8 - الرعب في القرية
9 - حصاد في جحيم
10 - أول ما رأيت من حركة التطهير
11 - سر إلينا
12 - مهندس في نيقوبول
13 - السرعة السرعة!
14 - التطهير الأعظم
15 - بداية محنتي
16 - بحث عن العدالة
17 - تعذيب بعد منتصف الليل
18 - العمال أحرارهم وعبيدهم
19 - بينما يدون التاريخ
20 - أكذوبة سيبيريا
21 - والقتال ناشب في أوروبا
22 - حرب لم تكن في الحسبان
23 - الذعر في موسكو
24 - الكرملن في أيام الحرب
25 - حقيقتان
26 - التأهب للسفر
27 - رعايا ستالين في الخارج
28 - الفرار من الظلم
حاشية
آثرت الحرية
آثرت الحرية
تأليف
فيكتور كرافتشنكو
ترجمة
زكي نجيب محمود
محمد بدران
الفصل الأول
فرار في دجى الليل
لقد كانت كل دقيقة قضيتها في السيارة من الحجرة المستأجرة إلى «محطة الاتحاد» في ليلة الأحد تبدو مفعمة بالأخطار، وبما لا أعرف مما تخبئه لي الأقدار، فلقد خيل إلي أن الشوارع نفسها والمباني المظلمة تعاديني وتتوعدني، وكنت قد قطعت هذا الطريق نفسه عشرات المرات في السبعة الشهور التي أقمتها بعاصمة الولايات المتحدة، قطعته وأنا جذل مرتاح النفس لا أكاد ألحظ ما يحيط بي فيه، أما في هذه المرة فقد كان كل شيء عكس ما تعودته؛ لأني كنت فيها هاربا.
وكانت الأسرة الأمريكية التي أقيم معها في واشنجتن تكرم الرجل الغريب المقيم بين ظهرانيها، وتعامله معاملة الصديق، فإذا مرضت أهمها أمري، وعنيت بي عناية غير متكلفة، وسرعان ما تطورت تلك العلاقة التي لم تكن في بداية أمرها إلا علاقة مالية محضة؛ فأصبحت علاقة إنسانية تربط قلوبنا، وكل ما كان لاختلاف لغتينا من أثر في هذه العلاقة أن أضاف إليها قليلا من الحماسة، وأحسست أن أولئك الأمريكيين الطيبين حين يشفقون على روسي بعيد عن وطنه إنما يعبرون عن شكرهم لجميع الروس، إلى حلفائهم البواسل الذين كانوا وقتئذ يصدون جحافل الألمان المغيرين في جبهة طولها ألف ميل، وكان أولئك الأمريكيون يعزون إلي أنا نفسي الفضل في كل نصر تناله الجيوش السوفيتية.
وكنت قبل فراري قد أديت أجر مسكني مدة أسبوع مقدما، ولكني مع هذا غادرت المنزل في الليلة الموعودة دون أن أودع من فيه بكلمة، وكل ما قلته لهم أني آذن لهم بتأجير حجرتي إذا اضطرتني ظروف رحلتي إلى البقاء في خارج المدينة إلى ما بعد يوم الثلاثاء؛ وذلك أني كنت أريد أن يبقى أصحاب المنزل على غير علم بمكان وجودي وبعزمي على ألا أعود إليهم إذا ما جاءهم رجال بعثة المشتريات السوفيتية يسألونهم عني.
وبقيت بضعة أيام في مكاتب تلك البعثة أتظاهر بأني أشكو الصداع واضطراب الصحة بوجه عام، وأشرت في صباح يوم فراري إشارة عابرة إلى عدد قليل من الزملاء أن من الخير لي «أن أبقى في المنزل طلبا للراحة»، وأني قد لا أجيء إليهم في يوم الإثنين؛ وقصدي من هذا أن أعمل جاهدا على أن أكسب يوما قبل أن يكشف أمر غيابي.
وبعد أن قبضت مرتبي عن شهر مارس أصررت على أن أسوي مستندات نفقات رحلتي الأخيرة إلى بلدة لنكستر من أعمال بنسلفانيا ورحلتي السابقة إلى تشكاجو، وتبين لي أن نحو ثلاثين ريالا لا تزال باقية لي من ذلك الحساب، وكنت أبغي من هذا ألا أترك ما يبرر اتهامي بأن المخالفات المالية هي سبب فراري، وعمدت فضلا عن هذا إلى ترتيب أوراقي جميعها على خير وجه حتى يستطيع من يخلفني أن يبدأ العمل من حيث تركته.
وما من شك في أن بعض أعضاء البعثة من رجال ونساء قد عاد إلى أذهانهم بعد فراري وبعد أن نشرت أنباء هذا الفرار جرائد واشنجتن ونيويورك في صفحاتها الأولى، أن حالهم قبل أن أفارقهم كان يمتاز بشيء من الحماسة والحرارة، وأن ضغط يدي وأنا أسلم عليهم وأقول «مع السلامة» كان أكثر من المعتاد. وما من شك كذلك في أنهم أدركوا أني كنت أودعهم الوداع الأخير في صمت وسكون، ذلك أن أحدا منهم لن يجرؤ بعد الآن على لقائي حتى ولو كان هذا اللقاء هنا في أمريكا بلاد الحرية. لقد تقاربنا أنا وبعض هؤلاء المواطنين في خلال الأشهر التي قضيناها في العمل معا، وفهم كل منا صاحبه وإن لم يتحدث إليه كثيرا، ولو أنني استطعت أن أفارقهم علنا وأظهر لهم عواطفي على الطريقة الروسية، لخف عني دون ريب بعض العبء الذي ينوء به الآن كاهلي.
وكانت ليلة الفرار ليلة ليلاء، خفيت نجومها، وبدا لي أن محطة السكة الحديدية ملأى بالإنذار والوعيد، فماذا يكون من أمري لو أنني التقيت بزميل لي فنبه من يجب تنبيههم؟ وما من شك في أن حقيبتي الملابس اللتين كانتا معي، وهذه الرحلة التي لم يصرح لي بها، ستثيران الريبة في نفسه من فوره، وماذا يحدث إذا كان الرفيق سيروف أو القائد رودنكو قد عرف خططي، وكأن الأقدار أرادت أن تحقق هذه المخاوف، فوقعت عيناي فجأة على إنسان يلبس حلة من حلل الجيش الأحمر، وما كدت أراها حتى جمد الدم في عروقي من شدة الرعب، فجذبت قبعتي حتى غطيت بها عيني، وخبأت رأسي بطوق معطفي أكثر من ذي قبل، وتسللت بجوار الجدار وظهري متجه على الدوام نحو مواطني.
واتخذت مكاني في القطار في عربة من التي يركب فيها عامة الشعب؛ وذلك لأن موظفي السوفيت كانوا يسافرون على الدوام في عربات بلمان الفاخرة، وكان في هذا ما يقيني إلى حد ما خطر لقاء أحد ممن يعرفونني، وفي هذه العربة المعتمة المزدحمة الساكنة استسلمت وحدي لأفكاري.
وكنت أدرك من زمن طويل أن هذه الساعة الحاسمة آتية لا ريب فيها؛ لذلك هيأت أسباب فراري من عدة شهور، وأخذت أترقبه وأنظر إليه على أنه خلاص لي مما كانت تعانيه نفسي من ضلالات النفاق والغيظ والاضطراب التي ألحت عليها سنين طوالا، وقدرت أن هذا الفرار سيكون وسيلتي التي أكفر بها عن تلك الآثام المروعة التي ارتكبتها مع زملائي من الطبقة الحاكمة في بلادي، والتي يؤنبني عليها ضميري.
أما الآن وقد أصبح هذا الفرار حقيقة واقعة فلم يكن فيه شيء من الحبور أو الابتهاج الذي يصحب الحرية في أول عهد المرء بها، بل شعرت من حولي بفراغ مؤلم ترددت فيه أصداء المخاوف وتبكيت الضمير بأصوات عالية، خيل إلي معها أن الجنود والبحارة المغفين في العربة الملأى بالدخان قد سمعوها بلا ريب.
وقلت في نفسي: إنني أجتث حياتي من أصولها اجتثاثا لا يبقي على شيء منها، وقد يكون اجتثاثا أبديا، وإنني من تلك الليلة أجعل من نفسي إنسانا شريدا لا وطن يؤويه ولا أسرة تضمه ولا أصدقاء يركن إليهم، وإنني لن أرى بعد هذه الليلة وجوه الأقارب والأصدقاء، وأمسك بأيديهم أو أسمع أصواتهم، وهم الذين لحمهم من لحمي وعظامهم من عظامي، كأن هؤلاء جميعا قد فارقوا الحياة، ومن أجل هذا فارقني شيء في دخيلة نفسي عظيم القيمة لي، وأيقنت أن سأحس في حياتي أبد الدهر بذلك الفراغ، ذلك الفراغ الرهيب، وذلك الموت الزؤام.
أما موقفي من البلاد التي ولدت فيها فسيكون موقف الرجل الطريد المنبوذ من حكومتها، وسيصدر النظام السياسي الذي قضيت فيه حياة كلها كدح وولاء حكما علي من تلقاء نفسه بالإعدام، ولن يفتأ عماله السريون ينغصون علي حياتي ويقتفون أثري أينما كنت، ويتتبعون خطواتي، ويراقبونني من تحت نوافذ حجراتي، وسيقضون على حياتي إذا أمرهم سادتهم بالقضاء عليها. أما هؤلاء الأمريكيون الذين أرجو أن ألقي بينهم عصا التسيار فهل يكون في وسعهم أن يدركوا ما في انشقاق شيوعي روسي على الدكتاتورية الروسية من معان وأخطار؟ ألا ما أطيب قلوب هؤلاء الأمريكيين!
وفي بلادي نفسها سيكون أصدقائي وزملائي في العمل، بله الذين يحبونني ويعطفون علي، سيكون هؤلاء جميعا موضع الشبهات وغرضا للمثالب والاتهامات، وإذا شاءوا أن يظلوا أحياء من بعدي كان عليهم أن يمحوا ذكراي من صدورهم، وإذا أرادوا أن ينجوا بأنفسهم من العذاب فعليهم أن ينكروني ويتبرءوا مني، كما كنت أتظاهر في أيامي الخالية بأني أنكرت من جروا على أنفسهم انتقام الدولة السوفيتية وتبرأت منهم.
ترى هل أنا على حق من الوجهة الأدبية في أن أعرض إلى الخطر حياة أولئك الرهائن الأبرياء في الروسيا إذا كان في هذه التضحية إراحة لضميري ووفاء ما علي من دين يقتضيه مني الحق كما أراه أنا؟ لقد كانت هذه أقسى مشكلة واجهتني، وماذا كان يرى في عملي هذا جدي التقي فيودور بنتليفتش ذلك الرجل الصالح الذي قضى حياته في طاعة الله وخدمة القيصر لو أنه كان وقتئذ حيا يرزق؟ وماذا كان يقول عني أبي ذلك الثائر الروسي المتعصب لآرائه لو أنه بقي على قيد الحياة بعد العامين اللذين قضاهما في ظل الاحتلال الألماني الوحشي؟
لقد كان لي في هذه الأفكار المتلاحقة شيء من التعزية على الأقل. إن جدي لم يكن يدرك قط سبب وقوف ابنه ووالدي أندراي في وجه القيصر وتقاليد الأجيال الطويلة، ولكن أندراي كان قوي الإيمان بعقيدته الجديدة الغريبة، وكان لا يتردد في الذهاب إلى السجن في سبيلها، ومن أجل ذلك كان جدي يختم ما يكيله له من عبارات اللوم بأن يدعو له بخير. أما أبي فكان يحب زوجته وأبناءه، ومع ذلك فإنه لم يتردد قط في أن يعرضنا جميعا للجوع والدموع ليخدم بذلك القضية التي كان يدافع عنها، ولم أكن أشك مطلقا في أنه هو كان يفهم موقفي ويرتضيه لو أنه طال به الأجل.
وكان من أسباب عزائي - وإن يكن عزاء شديد الوقع على نفسي - أن أفكر أن أخي قنسطنطين الذي كان طول حياته بالقرب مني قد مات، قد قتل وهو يدفع عن بلادنا الغزاة النازيين، وهو ضابط في جبهة القوقاز، وإذن فهل يصب رجالنا الرسميون جام غضبهم على عجوز مسكينة لا سند لها ولا معين قد خرجت توا من أحد معسكرات الاعتقال الألمانية، يصبون عليها جام غضبهم لأنها والدتي؟ أو هل يثأرون لأنفسهم مني في شخص المرأة التي ظلت زوجة لي ثلاث سنين لم تعرف في خلالها شيئا عن شكوكي السياسية ولا عن فراري؟
كانت هذه الأفكار لا تزال تتردد في خاطري، وكان وقعها مؤلما لنفسي، ولكن صداها ضعف بعض الشيء وإن لم يخفت كله حين وقف بي القطار في نيويورك في الساعة الثالثة من صباح يوم الأحد، ورأيت الضابط الروسي السالف الذكر مرة أخرى على طوار المحطة يحمل في يده حقيبة ملابس، ولا يعرف شيئا عن وجودي في ذلك المكان، غير أني تباطأت في سيري؛ لأطيل ما بيني وبينه من بعد.
واتخذت لنفسي اسما إيطاليا تسميت به حين نزلت في فندق حقير في أحد أطراف المدينة، من ذلك النوع الذي تؤدي فيه أجر حجرتك مقدما، وكأن هذه الحجرة قد أعدت خصيصى لمن يريد الانتحار، فقد كانت ضيقة، مقبضة الرائحة، وأغلقت بابها علي وأخذت أكتب في ضوء مصباحها الكهربائي الضئيل بيانا نشرت بعض الصحف الأمريكية بعض ما جاء فيه بعد يومين من ذلك الوقت.
ولو أن إنسانا شهد مسلكي الخفي في تلك الأيام العصيبة، وعرف ما قضيته من الليالي ساهدا مؤرقا، واطلع على فراري خفية من واشنجتن، واختفائي في نيويورك؛ لظن أني ارتكبت جريمة شنعاء، وأني أعمل على تضليل رجال الشرطة، ولكنني في واقع الأمر لم أسرق ولم أقتل، وكل ما فعلته أني اعتزمت التخلي عن عملي بوصفي مبعوثا اقتصاديا لحكومتي.
وما من شك في أن الأمريكيين على بكرة أبيهم لا يوجد بينهم من يعرف أن ليس بين الجرائم التي يرتكبها أحد أبناء الدولة الدكتاتورية جريمة أعظم شناعة وأوخم عاقبة من الفرار؛ ذلك أن هذا العمل هو الكفر بالدولة إلههم الدنيوي، وهو لا يؤدي إلى اعتبار «المجرم» خارجا على وطنه مهدر الدم وكفى، بل إنه يحرم عليه تبادل الرسائل مع أحبابه من أهل بلده ويجلله العار أينما حل، وإذا جرؤ مواطن سوفيتي على مقابلته أو إظهار العطف عليه كان في ذلك انتحاره السياسي، بل قد يكون فيه انتحاره الجسمي.
ولم يكن العمل الذي أقدمت عليه من الخطى التي يخطوها روسي سوفيتي، وخاصة إذا كان شيوعيا قديم العهد بالشيوعية وذا مركز ممتاز في صفوف البيروقراطية، وهو مستهتر أو مندفع بمؤثرات وقتية. لقد كان هذا عملا نبتت أصوله في أعماق عقله من زمن بعيد، ثم ترعرعت ولم يكن في الإمكان اجتثاثها، وليست أسباب العمل الذي أقدمت عليه مما يطفو على السطح، بل هي مما يجب البحث عنه في الأعماق البعيدة، وفي طيات حياتي كلها.
وتحدثت إلى عدد من الأصدقاء في يوم الإثنين الثالث من شهر أبريل سنة 1944م، وفي مساء ذلك اليوم نفسه نشر خبر فراري في الصفحة الأولى من جريدة نيويورك تيمس، وكان نشر الخبر في هذا الوقت من الأهمية بمكان، بل لعله كان السبب في نجاتي من الموت، فلو أن حراسي السوفيت علموا بفراري قبل أن يعرفه عامة الشعب لاتهمتني السفارة الروسية في واشنجتن لدى وزارة الخارجية الأمريكية بأني جاسوس ألماني، ولطلبت إليها أن تقبض علي فورا لأنقل إلى اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، أما وقد كشفت الحقائق أمام الشعب الأمريكي وأخذ هذا الشعب يرقب فصول الرواية، فإن السفارة السوفيتية أصبحت عاجزة كل العجز عن عمل شيء، أو عاجزة عنه وقتا ما على الأقل.
ونشرت التيمس الخبر بالعنوان التالي: «موظف سوفيتي في هذه البلاد يعتزل عمله»، أما الخبر نفسه فقد بدأ على النحو الآتي:
بالأمس أعلن فكتور أ. كرافتشنكو أحد موظفي بعثة المشتريات الروسية في واشنجتن استقالته من عمله، ووضع نفسه «تحت حماية الرأي العام الأمريكي»، بعد أن اتهم الحكومة السوفيتية في هذه الاستقالة بأنها فيما تعلنه من رغبة في التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى إنما تجري على سياسة نفاق «ذات وجهين»، واتهم حكم ستالين بالعجز عن توفير الحريات السياسية والمدنية للشعب الروسي.
ويحمل مستر كرافتشنكو جواز سفر كتب فيه أنه «ممثل الحكومة السوفيتية» ... وهو ضابط في الجيش الأحمر، وكان قبل أن يرسل إلى الولايات المتحدة في شهر أغسطس الماضي مديرا لعدد من دور الصناعة الكبيرة في موسكو، ومن قبل هذا كان رئيسا لقسم الذخائر الملحق بمجلس وزراء الجمهورية الروسية الاشتراكية السوفيتية المتحدة، وهي أكبر الجمهوريات المنضمة إلى اتحاد الجمهوريات السوفيتية، وكان إلى وقت فراره عضوا في الحزب الشيوعي الروسي منذ عام 1929م، وشغل عدة مناصب هامة تحت الحكم السوفيتي.
ورفض مستر كرافتشنكو لأسباب وطنية أن يرد على الأسئلة الخاصة بمسلك الحكومة السوفيتية في الشئون العسكرية، أو أن يكشف عن شيء من التفاصيل المتعلقة بالأمور الاقتصادية، وبخاصة ما يتصل منها بتطبيق قانون الإعارة والتأجير على يد بعثة المشتريات السوفيتية، أو في بلاد الروسيا نفسها.
وتلت هذا النبأ فقرات من البيان الطويل الذي ظللت أكدح في إعداده طوال يوم الأحد. لقد حوى هذا البيان عصارة نفسي، ولكن شيئا من قوته لم يظهر من خلال المداد البارد الذي كتبه به الطابع؛ ذلك أن أبناء البلاد الحرة قلما يجدون في تجاربهم ما يحملهم على تصديق مشاعري ومسلكي، وهم لا يرون في أية مأساة مهما بلغت من الشناعة إلا أنها أمر شاذ خارج على المألوف.
وحاولت في هذا البيان أن أشرح للشعب الأمريكي، ولرفاقي في بلدي ولأصدقائي في بعثة واشنجتن، الأسباب التي دفعتني إلى أن أخطو هذه الخطوة الرهيبة، ولكني كنت كلما أمعنت في الكتابة، ومحوت ما كتبت، ثم أعدت كتابته من جديد، بدا لي العمل ميئوسا منه؛ ذلك أني لم أجد في لغة من اللغات التي يتكلمها البشر ألفاظا ألخص بها حياتي كلها.
ولم يكن عزمي على قطع صلاتي بالحكم السوفيتي - وهو يبلغ مبلغ إعلان الحرب إلى هذا الحكم وإلى كل دولة بوليسية - أمرا عارضا نشأ عفو الساعة، بل كانت أصوله متغلغلة في كل أطوار حياتي وأفكاري وتجاربي؛ وهو بهذا المعنى لم يكن قرارا اتخذته، ولا عملا من أعمال الإرادة، بقدر ما كان نتيجة منطقية وغاية محتومة، أدت إليها عملية طويلة متصلة الحلقات.
وإذا أردت أن أشرحها شرحا وافيا وجب علي أن أعود إلى الأيام الماضية، أيام الحماسة والغيرة على العدالة التي كانت تتأجج بين جوانحي منذ طفولتي على ضفاف الدنيبر، وإلى أيام الهيام بالحرية الذي كان يملأ قلبي وأنا غلام، حين كانت الثورة والحروب الأهلية تتأجج نيرانها في مدن أوكرانيا وسهوبها، وإلى حماسة الشباب الشيوعي، ثم إلى حياة العضو العامل في الحزب الشيوعي، وإلى الشكوك والإخفاق المتكرر، والمحاولات اليائسة التي توالت عاما بعد عام، والتي كانت تسند عقيدة منهارة مزعزعة بما تبثه في نفوس معتنقيها من أوهام خداعة قوية.
وقصارى القول أني إذا أردت أن أشرح هذا كله وجب علي أن أقص قصة حياتي من أولها إلى آخرها، وحياة الروسيا من حيث صلتها بحياتي نفسها.
الفصل الثاني
طفولة روسية
لقد كانت الثورة الروسية التي شبت نارها في عام 1905م أكثر من تجربة شخصية لأبناء أندراي فيودوروفتش كرافتشنكو الثلاثة، وكنت أنا ثاني أولئك الأبناء، إذ كنت أصغر من قنسطنطين وأكبر من يوجين. لقد كانت هذه الثورة بالنسبة إليهم حقيقة ذات معنى خاص عميق، تحيط بها في نظرهم هالة روائية لم تقلل الهزيمة من سناها، بل بدت لهم هذه الهزيمة نفسها شامخة متلألئة، وقد انطوت هذه الثورة على حوادث أوفت على الغاية في البسالة والرهبة والمثل العليا والتضحية، تعد هي المعيار الذي تقاس به هذه القيم فيما تلاها من عهود.
نعم، إنها كانت ثورة ضيقة النطاق، لم تقتصر على مدينة إيكترنوسلاف فحسب بل اقتصرت فضلا عن هذا على الاجتماعات والوقائع الحربية والاغتيالات التي كانت لأبي يد فيها، وأشرقت في سماء روسيا لأول مرة في عام 1905م أسماء عظيمة قدر لها أن تكون ذات أثر خالد في التاريخ؛ ولكن التاريخ وحده لم يكن ليضارع قط ما نعلمه نحن علم اليقين، وهو أن الزعيم الحق والبطل الذي قاد هذه الثورة هو والدنا الشديد البأس، البهي الطلعة، النحيف الجسم، المفتول العضلات، ذو الشعر الأسود الملتوي، والعينين الزرقاوين البراقتين.
والحق أن خيالنا هذا العزيز علينا كان ينطوي على شيء من الحقيقة، فقد كان النذير الأول للثورة إضراب عام بدأ بإضراب عمال السكك الحديدية، وظل هو المحور الذي يدور حوله الإضراب العام كله، وكان أبي، وهو موظف في مصانع السكك الحديدية في إيكترنوسلاف، عضوا في لجنة الإضراب، وظل يعمل وسط هذا الكفاح الميئوس منه، وجوزي بعد فشله على حماسته شر الجزاء.
وكثيرا ما سمعنا في عهد شبابنا تفاصيل هذه الثورة، حتى أضحت وكأنها قد نسج منها برد حياتنا لحمته وسداه، فلم نكن نعرف حوادثها فحسب، بل كنا نعرف فوق ذلك أسباب هذه الحوادث؛ ولذلك لم أكن في حاجة إلى أن ألقن كره الأوتوقراطية وحب الحرية والعدالة والمساواة، بل كنت أعد هذا الكره من الأمور الطبيعية البسيطة، كما يعد رفاقي في اللعب تعظيم ذوي الحلل الرسمية والسلطان.
وظلت أحداث ثورة 1905م التي قصها علي أبي وأصدقاؤه، والتي قوت أثرها في نفسي اتصالاتي بأمثالها من الحوادث فيما بعد، ظلت أحداث هذه الثورة منقوشة في عقلي، حتى لأستطيع الآن أن أحس حوافر خيل فرسان القوزاق، وكأنها قصف الرعد، تطأ أهل بلدتنا رجالا ونساء، وليس صوت مما سمعته في طفولتي أوضح من صلصلة السيوف الرهيبة، وإني لأتصور الآن أني واقف خلف المتاريس المقامة من عربات النقل المقلوبة، والأثاث المكدس في الطرقات والحجارة المقتلعة منها، وأخشاب الطرق الحديدية، وأرى بعين الخيال رفاقي يخرون صرعى من حولي وهم يئنون ويتوجعون، وجنود القوزاق يمرون بجثثهم كالموج المتلاطم، يصبون علينا جام غضهم وسخطهم، وأتصور نفسي في تيه الشوارع والأزقة الملتوية في حي العمال، يطاردني فرسان الجراكسة ورجال الشرطة في ظلام ليالي الشتاء.
ثم يخيم على المنظر سكون رهيب كسكون القبور، وتبدو جثث الموتى من حولي بمنظرها البشع الرهيب، والناس من حولي، ومناقع الدم تتسع فوق الثلج، كما كانت تتسع بقع الحبر على الورق الخشن الموضوع على مكتبي في المدرسة.
ولو أن أبي قد قبض عليه في تلك الليلة من ليالي شهر أكتوبر لشنق مع من شنق من زملائه أعضاء لجنة الإضراب كما يشنق العصاة المتمردون، لكنه فر، ولم تطاوعه نفسه على أن يفر من غير أن يلقي آخر نظرة على زوجته وعلى قنسطنطين وعلى بابشكا (جدتي لأمي) وكانت تقيم معنا دائما، ومن أجل ذلك تسلل في منتصف الليل وسط شوارع فرعية جانبية، مختفيا وسط الظلال الكثيفة، من بيت إلى بيت، حتى أقبل على منزلنا رقم 8 في شارع كانتناي بالقرب من طريق بشكين الكبير.
فلما وصله هاله ما رأى، وكاد يذهب الروع بلبه، فقد أبصر أنوار المنزل كلها مضاءة، وكان في وسعه أن يسمع ما فيه من حركة قائمة على قدم وساق، ولم يبق لديه شك في أن رجال الشرطة قد دهموا المنزل وأخذوا يفتشونه، ومع هذا فلم يكن في وسعه أن يعود أدراجه مهما يتعرض له من خطر، دون أن يلقي نظرة أخيرة على منزله وعلى أسرته اللذين قد لا يراهما قط بعد ذلك الوقت، فأخذ يتسلل خفية حتى وصل إلى النافذة، ورفع نفسه في حذر شديد وأطل منها إلى داخل الدار.
ثم أدرك أنه كان مخطئا في ظنه، وفتحت جدتي الباب حين سمعت طرقه الخفيف عليه، وأشارت إليه أن يظل صامتا، وأراد أن يذهب إلى حجرة النوم ولكنها أوقفته وقالت له: «إن تانيا نائم.» ثم تبسمت وقالت: «لقد رزقت ولدا آخر.» وذهبت هي نفسها إلى حجرة النوم ثم عادت من فورها وعلى ذراعيها حزمة صغيرة وضعتها بين ذراعيه.
وكانت هذه ليلة مولدي، ليلة الموت خلف المتاريس، ودوي البنادق وصلصلة السيوف الدامية، وصراخ الألم في الطرقات الرثة الملتوية.
وأخذت أصرخ فجأة صراخا عاليا أيقظ أمي من نومها، وقال أبي في حنو: «استمعوا إلى هذا الثائر!» وظل بعدئذ يسميني في ساعات حنانه وعطفه باسم الثائر، وبعد أن جاوزت سن الشباب وشغلتني أحداث الثورة الظافرة كان ينطق أحيانا بهذا الاسم التهكمي ويلوي به شدقيه التواء كان أشد وقعا علي مما يظن.
وقضيت بين أبي وأمي تلك الساعات الأولى من حياتي قبل أن يودع أبي زوجته، وليس في وسع إنسان كائنا من كان أن يقنعني بقوة المنطق وحده أنني لم أسمع ما نطق به وقتئذ من ألفاظ المعزة والحنان، أو أنني لم أره يطبع القبلات على يديها من أولهما إلى آخرهما، أو أنني لم أشهد بعيني أبي وجه الأم الشابة المصفر الجميل بين كومة الوسائد الناصعة البياض.
وكان أبي في أثناء التسع السنين الأولى من حياتي غريبا في بيتنا لا يغشاه إلا حينا بعد حين؛ ذلك أن فترات حريته لم تكن تطول حتى تجعله بيننا أبا عاديا مألوفا كما كان غيره من آباء سائر الأطفال في شارعنا، وكانت زياراته لنا في أثناء هربه تثير مشاعرنا إلى أقصى حد، وكنت أنا أنظر إلى هذه الزيارات كأنها جزء من دورة الفلك، مثلها في ذلك كمثل بيض عيد الفصح الملون، أو أشجار عيد الميلاد.
وصورت لنفسي صورة له من الإشارات العابرة والأقوال القصيرة، ومن عبارات العطف التي كنت أسمعها من أمي ومن بابشكا، ومما كان ينتابنا من روع مفاجئ وخوف على سلامته، ومن الهمسات المتفرقة التي كان ينطق بها رفاقه الثوار، وكثيرا ما كان بيتنا مأوى للرجال المطاردين، وللطلاب ذوي الوجوه الزاهدة المتقشفة والحلل الرسمية، والرجال ذوي اللحى الكثة القادمين من ذلك العالم الغريب المجهول المروع الذي يدعونه سيبيريا، وقد أصبح الزوار الذين يمرون بنا سراعا وما يروونه من قصص عن فرارهم من السجون، وعن الموظفين المرتشين، وكلمات السر وثياب التخفي، أصبحوا هم وقصصهم هذه جزءا من الصورة التي رسمتها لأبي في خيالي.
وكان قنسطنطين الذي يكبرني بثمانية عشر شهرا يأتيني بكل ما يعرفه من الأخبار مهما كانت صغيرة.
وكان يقول لي أحيانا وهو يتصنع الكبرياء: «يجب أن تذكر يا فيتيا أن بابا ليس لصا أو قاتلا بل هو رجل سياسي.»
فكنت أجيبه وأنا لا أفهم معنى ما يقول: «نعم، يا كوتيا.»
وثمة ليلة من ليالي عيد الميلاد - ثالث عيد ميلاد شهدته على هذه الأرض - لا تبرح ذكراها ماثلة في مخيلتي بكل ما حوته من تفاصيل، فهي صفحة من كتاب حياتي كثيرا ما أرجع إليها وأنا حزين، ولكنه نوع من الحزن اللذيذ.
فقد أيقظتنا بابشكا من نوم عميق بعد يوم من أيام العطلة، ولا أزال أرى بعين الخيال لعبنا الجديدة منثورة على أرض الحجرة العارية.
وقالت لنا وهي تنتحب: «تعاليا أيتها اليمامتان الصغيرتان وودعا أباكما المسكين.»
ثم أمسكت أنا بإحدى يدي جدتنا وأمسك قنسطنطين بالأخرى، ونحن بملابس النوم الطويلة لم نصح تماما من نومنا، وقد أخذت منا الحيرة كل مأخذ، وسارت بنا إلى حجرة الاستقبال، وعيناي لا تقويان على النظر إلى الضوء وإلى الجمع المحتشد فيها، وكان بين هذا الجمع أحد أصدقاء الأسرة، أما الباقون فكانوا غرباء في حلل رسمية.
وكانت الشموع لا تزال موقدة فوق شجرة عيد الميلاد، ولكن أمي أخذت تبكي في غير صوت وهي تضع الملابس في حقيبة، ثم تأخذ بابشكا بيدينا وتقودنا إلى حيث كان المصباح المقدس في الركن الذي كانت به صورة المسيح، فنخر معها راكعين، وتخافت هي بالصلاة ثم تسجد على الأرض، ويأتي رجل أعرف أنه أبي فيرفعني ويضمني إلى صدره بقوة، ويقبلني أكثر من مرة، ولكنه في هذه الليلة يبدو في نظري غريبا، فيخيل إلي أن وجهه عار قد أزيلت منه لحيته وشارباه التي تعودت أن أراها، ثم يرفع كوتيا من ذراعيه ويقبله، ثم تقودنا جدتنا إلى خارج الحجرة.
وأرى عند الباب - ولسبب لا أعلمه يبقى هذا الجزء من الصورة ماثلا أمامي أكثر من أي جزء آخر منها - شرطيا ضخما ملتحيا ذا أشرطة كثيرة على حلته يصرخ في غير حياء وتنحدر الدموع الكبيرة فوق شاربيه المرتجفين.
وعرفت فيما بعد أن أبي كان مختفيا، وأنه اعتزم أن يزور أسرته في ليلة عيد الميلاد، وكان رجال الشرطة يعرفون من تجاربهم الخاصة أن الفارين يعرضون أنفسهم في بعض الأحيان لخطر القبض عليهم باجتماعهم بأحبابهم في مثل هذه الأعياد الهامة، فانقضوا على بيتنا، ثم أخذوا يفتشون الدار، وأتاحوا للثائر ساعة من الزمان يحزم فيها متاعه قبل أن يرحلوا به.
وهناك صفحة أخرى في سجل طفولتي الخاص كثيرا ما أقلبها:
يقبل علينا ذات مساء ونحن جلوس حول مائدة العشاء طالب علم طويل القامة بهي الطلعة، وتملأ له أمي قدح شاي من الغلاية الكبيرة البراقة، وأدرك أنا من ارتجاف يدها واهتزاز قدح الشاي أن الشاب يحدثها عن شيء ذي بال.
فهو يقول لها إن كل شيء قد أعد للفرار من السجن في تلك الليلة، وإن أندراي فيودوروفتش سيكون في منزله قبل منتصف الليل إذا لم تحدث عراقيل ليست في الحسبان، ولكنه لن يقيم في المنزل أكثر من بضع دقائق، وإن من واجب والدتي أن تعد له بعض الأشياء اللازمة لرحلته، وإنه قد أعد له مخبأ في إيكترنوسلاف، وجهز له ما يحتاجه من أوراق تحقيق الشخصية.
وقد أسفنا كل الأسف لأنا ألقينا كلنا على فراش النوم قبل أن نعرف خاتمة هذه القصة المثيرة.
وأكثرت أمي هي وبابشكا من البكاء في اليوم الثاني، وأخذت كلتاهما تعزي الأخرى، ثم تعودان إلى البكاء، وجاء طالب العلم الطويل أكثر من مرة وهو ممتقع الوجه، مفعم القلب بالحزن، يحمل لهما آخر الأنباء.
وتبين أن المؤامرة المدبرة للفرار من سجن إيكترنوسلاف قد باءت بفشل ذريع، وكان سبب فشلها من غير شك أن كان بين مثيري الفتنة جاسوس، وأدى الاضطراب إلى قتل عدد من الحراس وكثير من المسجونين، وسرعان ما غلب المتمردون على أمرهم وإن كانوا قد استطاعوا أن يحصلوا على عدد قليل من الخناجر والمسدسات، هربت إليهم خلال الأسابيع الطويلة التي قضوها في إعداد عدتهم، وقد خلدت المذبحة التي وقعت في تلك الليلة هي وهزيمة المسجونين السياسيين في تاريخ الثورات الروسية.
ويبدو أن أبي جلد حتى كاد يقضى عليه، وقد ظل طول حياته يفخر بآثار الجراح التي أصابته في هذا الحادث، وأخذ إلى مستشفى السجن، وأكبر الظن أنه سيحاكم هو وعدد من زعماء الثورة إذا بقي على قيد الحياة، وقد يحكم عليه بالأشغال الشاقة في سيبيريا، وربما حكم عليه في هذه المرة بالإعدام.
وجاء الطالب مرة أخرى بعد عدة أشهر من ذلك الوقت، وجاءت معه في هذه المرة فتاة ممشوقة القد بارعة الجمال، وسرعان ما أخذت أمي وهي مضطربة مهتاجة تلفنا في معطفينا وتقول لنا: «إذا ظللتما صامتين وفعلتما ما تؤمران به فإنكما ستريان أباكما.»
ووقفت خارج بابنا عربتان، ركب الطالب والفتاة في إحداهما، وركبنا نحن كلنا في الأخرى، وتقدمت عربة الطالب، وسارت عربتنا من ورائها وعلى مسافة منها لا تترك مجالا للريبة في أمرها، واجتزنا على هذه الحال طريق بشكين الواسع، وسرعان ما كنا في قلب المدينة على مرأى من السجن القديم الكئيب، وتقف العربة لحظة أمام أحد أبراجه الأمامية، وكانت هذه هي الإشارة المتفق عليها، ثم تواصل سيرها، وحين تصل عربتنا إلى هذا المكان نفسه ينزل السائق ويعبث بجل الفرس.
وتبرق عينا والدتي وتلتهبان من شدة الاهتياج وتهمس في آذاننا: «ها هو ذا أبوكما، وتشير إلى نافذة في البرج، وأحاول جهدي أن أرى شيئا، ولكني لا أبصر إلا شبحا أسود خلف إحدى النوافذ ذات القضبان الحديدية يلوح بمنديل، وكان رأس الرجل الذي يشير إلينا حليقا براقا، وتنحدر الدموع على وجنتي والدتي ويصيح كوتيا قائلا: «بابا! بابا!» ثم يصعد السائق إلى مكانه ويضرب جواده بسوطه، فيعدو الجواد، وتنظر أمي إلى ورائها، وتلوح بيديها ما دام في وسعها أن ترى البرج.
ونجد الطالب والفتاة في انتظارنا عند مكان متفق عليه في البستان، ويقبل الطالب يد والدتي، ويحملنا بين ذراعيه القويتين، ويملأ جيوبنا بالحلوى، وكذلك تحنو علينا الفتاة الجميلة حنوا شديدا، وهكذا كان اليوم كله يوما خالدا، بما حواه من أحزان وخطر واهتياج، وكثيرا ما أفكر في ذلك اليوم حين أنفرد بنفسي، وتنتابني المخاوف فأشعر باطمئنان وهدوء لسبب لا أعرفه.
وكثيرا ما قالت بابشكا وهي تشير إلى المصباح القائم في ركن الصورة المقدسة وترسم على جسمها علامة الصليب: إن معجزة من المعجزات هي التي أنجت أبي من الشنق أو النفي إلى سيبيريا؛ ذلك أن المسجونين الذين ينتظرون حكم الإعدام كانوا يوضعون في ذلك البرج بالذات، ولا يؤذن لهم باستقبال الزوار، ولكن الحكم خفف على أبي لسبب لا نعلمه إلى الحبس مدة غير طويلة.
وكنت وقتئذ أصغر من أن أفكر كيف تستطيع أسرة كرافتشنكو أن تعيش، ورب الأسرة الذي يكسب لها أقواتها في داخل السجن، وخاصة بعد أن زادت شخصا بعد مولد أخي يوجين ، والواقع أن بعض رفاق أبي في القضية الوطنية كانوا يمدوننا ببعض العون، كما أن عددا قليلا من العمال في مصانع السكك الحديد كانوا يأتوننا ببعض الهدايا، وكانت تصل إلينا في بعض الأحيان هدايا من الدجاج والبط والفاكهة والخضر من ألكسندروفسك حيث يسكن جداي لأبي، ولم أر شيئا غير عادي في أن والدتي كانت تعمل على الدوام في خياطة الملابس لغيرها من الناس، حتى في الأوقات التي كانت فيها ملابسنا نحن في حاجة إلى الإصلاح.
وحدث ذات ليلة - وأنا بين الخامسة والسادسة من عمري - أن أرقت ولم أستطع النوم، فتسللت خفية على أطراف أصابع قدمي إلى باب حجرتي وفتحته في حذر شديد، فأبصرت أمي مكبة على الخياطة في ضوء مصباح الكيروسين، وكلما فكرت في أمي الآن بعد طول السنين عادت إلي أحيانا صورتها كما رأيتها في تلك الليلة، يغشاها الضوء بشعرها البراق ووجهها الحزين.
فسألتها: «لم لا تأوين إلى فراشك يا ممشكا؟»
فقالت وهي تبتسم: «لم أتعب بعد من العمل، ولكن لم لم تنم أنت؟ لا بأس تعال إلي يا ولدي؛ لأني أريد أن أتحدث إليك.»
وقطعت الخبز بأسنانها، وألقت بعملها إلى جانبها، وأجلستني في حجرها.
وقالت لي: «إنك ولد طيب ماهر، ولا شك عندي في أنك ستفهم ما أقول، إن لم يكن الآن ففي المستقبل حين تكبر، فاستمع إلي! ليس من السهل أن تطعم كل هذه الأفواه مهما طال عملي بالليل، هذا إلى أن أباك ترسل إليه أشياء من حين إلى حين.
وسيكون الأمر أسهل قليلا يا فيتيا حين تذهب للإقامة مع جدك فيودور بنتليفتش في مدينة ألكسندروفسك، فهو وجدتك الأخرى وعمتك شورا يحبونك حبا جما، وستذهب من عندهم إلى المدرسة، ونذهب نحن كثيرا لزيارتك، وستأتي إلينا غدا عمتك شورا لتأخذك معها، والآن اذهب إلى فراشك.»
وأبعدتني عن حجرها بغلظة، ولكني عرفت وقتئذ أنها تبكي.
وكانت ألكسندروفسك - التي سموها زبرزهي بعد الثورة - بلدة نظيفة هادئة من بلاد الريف، تجري الحياة فيها مطمئنة، وكأنها ستجري مطمئنة أبد الدهر، بين نهر الدنيبر المتسع الصافي الماء والغابات الكثيفة القريبة منها، وكانت حياة هذه البلدة لا تزال وثيقة الصلة بالتربة الأوكرانية وإن أقيمت فيها بضعة مصانع من الآجر والقرميد، وبضعة مصاهر للمعادن، وقليل من الأعمال الصناعية الأخرى في بدايتها، وكان في معظم بيوتها حدائق تنتج الخضر للأسواق، وبساتين كثيرة منزرعة، وكانت كل ذراع منها، كالمكان الذي أصبح الآن مركز حياتي الجديدة، تعج بالدجاج والبط والإوز والخنازير.
وبدا هذا المكان في عيني غلام نشط في السادسة من عمره، قضى حياته السابقة في مدينة إيكترنوسلاف الكبيرة، بدا هذا المكان مثيرا لعواطفه طوال إقامته فيه، وكان عطر التوابل يفوح شذاه من حوانيت البذور، وكان أي عطر منها كفيلا بأن ينسيني حنيني إلى مسقط رأسي، وكنت أقضي بعض الوقت أرقب الشرر يتطاير من حوانيت الحدادين، أو أشاهد الرجال والنساء يكدحون حول قمائن الآجر التي ينبعث منها الدخان.
وكان الشارع الرئيسي في البلدة يموج في أيام الأسواق بعربات النقل التي يمتلكها الزراع، وبالرجال يرتدون ملابس ملونة أو جلود الضأن، وبالنساء في أثواب فضفاضة كالتي تلبسها الدمى في بلدنا، وأبناء القرويين الحفاة ينظرون إلينا نحن أبناء الحضر على استحياء، وكانت تقوم على أطراف ألكسندروفسك ضياع الخضر الواسعة التي يمتلكها البلغاريون، ومن وراء هذه الضياع تمتد الأدغال التي ينشر فيها الغجر عربات نقلهم الزاهية المزخرفة، وينصبون فيها خيامهم، ويوقدون فيها نيران معسكراتهم في الليالي الطوال.
ولم يكن أهل ألكسندروفسك من ذوي الثراء الواسع أو الفقر المدقع، وإن يكن فيها أسر قليلة تعيش بالتسول وأسر قليلة أخرى موسرة كأسرة شتشيكتهين التي كانت تقيم في قصر كسي بالقرميد الأحمر، وكان في المدينة داران للخيالة تفخر بهما على كثير من المدن، وكان شيوخ الزراع إذا رأوا الأشباح تقفز على الشاشة لأول مرة يرسمون الصليب على صدورهم ليتقوا أذى هذه الشياطين، وأقبلت على البلدة من كيف أو أودسا في الخمس السنين التي أقمتها فيها فرقة من الممثلين لتقضي فيها أسبوعا تمثل فيه بعض المسرحيات، ولكن أكثر من كنت أشاهدهم فيها هم المشعوذون واللاعبون على الحبال وغيرهم من ذوي الملامح الأجنبية، ومعهم الدببة اللاعبة، وكثيرا ما كان هؤلاء يجتذبون الجماهير إلى البستان.
وكان آل كرافتشنكو يعيشون عيشة بسيطة ولكنها خالية من الضنك من معاش وسط يكمله أجر بيتين من بيوتهم الثلاثة الصغيرة، وكانت هذه الأسرة تتألف من جدي فيودور بنتليفتش وجدتي نتاليا مكسمفنا، ومن شورا التي أنجباها في شيخوختهما، وكانت الأسرة تحصل فوق هذا على قليل من المال في كل شهر نظير ما تمد به الجيران من الماء؛ ذلك أن أولئك الجيران كانوا يلقون من آن إلى آن قطعة من النقود الصغيرة في ثقب صندوق حديدي نظير أخذهم الماء من الفناء الخلفي لمنزلنا.
وكان جدي يحتفظ بمفتاح الصندوق، ولكن عمتي شورا حذقت بطول المران طريقة إخراج النقود الصغيرة منه لتؤدي بها ما لم يحسب حسابه من النفقات، دون أن يعلم بذلك والدها رغم شدته وحرصه، وسرعان ما شاركها في هذا السر ابن أخيها القادم من إيكترنوسلاف، وأحس بما تقترفه عمته من إثم، ولكن إحساسه هذا لم يكن من القوة بحيث يحول بينه وبين قسطه من الغنيمة، وكنت أتقاضى منها ثلاث كوبكات
1
كل أسبوع نظير معاونتي إياها في مسح البلاط، وهو قدر يكفي ثمن تذكرة لدار الخيالة ولشراء قطعة من الحلوى، وكانت تحبوني بقدر آخر من النقود في كل أسبوع نظير ابتعادي عنها إذا زارها خطيبها.
وكان بستاننا الضيق الرقعة وحديقتنا يمداننا بالخضر الطرية والمجففة، وبالفاكهة والبطيخ طوال العام، وبطائفة أخرى من المربيات الفتانة المختلفة الأنواع التي كانت بابشكا تفخر بها عن جدارة، وإن أنس لا أنس فصل عمل المربيات، فأنا أذكر على الدوام الأواني النحاسية تفيض على جانبها عصارة الفاكهة، وعبير السكر المغلي، والليالي العجيبة التي كنا نظل نجمع فيها الكرز حتى تتخضب أيدينا بالحمرة الداكنة.
وكان فيودور بنتليفتش في نحو الثمانين من عمره حين جئته لأقيم معه، وكان رجلا متوسط القامة قوي البنية عريض المنكبين معجبا بنفسه، ذا لحية صافية البياض وبطن كبير، وقد اشترك في الحرب التركية الروسية التي دارت رحاها في عام 1878م بقيادة شبليف، وظل بعدئذ في الخدمة عدة سنين تقاعد بعدها وهو برتبة ضابط صف، أما نتاليا مكسمفنا فكانت تصغر زوجها باثني عشر عاما، وكانت سيدة عجوزا وديعة أنيقة البزة، ذات عينين صافيتين براقتين، حلوة الفكاهة، إذا نطقت بفكاهاتها تركت جدي في حيرة من أمره، وكانت تعاملنا جميعا، ومن بيننا زوجها نفسه، كأننا أطفال في حاجة إلى التدليل والتهدئة.
وكان يسر فيودور بنتليفتش في ليالي الشتاء الطويلة، ونحن نستمع إلى طقطقة الكتل الخشبية في الأتون الضخم المطلي بالجير الأبيض، ونشهد لهيبها يخرج من بابه المفتوح، ويرسم صورا عجيبة على الأرض، كان يسر فيودور بنتليفتش أن يقص علينا قصص الأتراك والأكراد والوقائع الحربية والهجمات المفاجئة، وكان إذا حضر المجلس أصحاب له طاعنون في السن ينطلق يحدثهم عن أعمال الجرأة التي كان «الأب الصغير»
2
نفسه في سان بطرسبرج البعيدة ينزل من عليائه فيلحظها بعنايته، وكانت هذه الأعمال المجيدة تزداد غرابة كلما أعيدت قصتها.
وكانت بابشكا تقول في تهكم وازدراء: «ألا ما أعجب هذه الأعمال! ما أعجب ركوب الخيل وفتل الشوارب وإطلاق النار على الأتراك! كأن هذه أعمال تحتاج إلى شيء من العقل.»
وكان فيودور بنتليفتش في أيام المواسم والآحاد يرتدي حلته الرسمية، وهي حلة زرقاء اللون براقة، ذات أزرار نحاسية لامعة، وإطار أبيض حول طرفي سراويل الركوب الواسعة النازلة في حذاءيه المرتفعين، وكان من عادته أن يمسح حذاءيه هذين حتى يصبحا كالمرآتين، ويصف الأوسمة والصلبان على صدره، وينشر لحيته من فوقها كما ينشر العلم، فإذا ما جمل نفسه على هذا النحو أمسك بيدي الصغيرة في كفه الجاسية وسار بي إلى الكنيسة، ولم يكن في ألكسندروفسك كلها غلام أكثر مني إعجابا بنفسه، وكان يخيل إلي أن من حقه على أهل ذلك البلد - وهم أقل منه شأنا - أن يخلعوا قبعاتهم تعظيما له ويسألوه عن صحة بابشكا.
ولم يكن فخر الجد بحفيده أقل من فخر الحفيد نفسه بجده، وإن لم تكن القيود الشديدة التي فرضها على نفسه مما يجيز له أن يبالغ في إظهار هذه العواطف، فلم يكن ينطق بأكثر من قوله: «إنه ولد أبيه أندراي.» يقولها عرضا ولكنه عرض مقصود متصنع، ولم يكن خافيا على أحد أن أندراي ولد جدي البكر كان نزيل السجن، أو بعبارة أدق: كان حليف السجن، ولكن جيراننا لم يكونوا يذكرون هذا الأمر قط في حضرة جدي، وكان هو يرى أن هذه إحدى البلايا التي يمتحن بها الله عباده المتقين، وكان فيودور بنتليفتش يحب ولده أندراي، بل كان يعجب به إعجابا، وكل ما في الأمر أنه لم يكن يستطيع التوفيق بين حكمة أبي «والدم الزكي» الذي يجري في عروقه، وبين سخطه على القيصر، وكان يعزو هذا بطريقة غامضة إلى دراسة الكتب، وإلى انحطاط الروح الحربية في الروسيا انحطاطا يحزنه ويأسف له.
وكان يسره أن يقول على الدوام: «لقد كنت طوال حياتي جنديا شجاعا، وسأقضي حياتي كلها وأنا جندي شجاع، أؤدي واجبي وأعبد ربي ولا أشكو شيئا، وماذا يريد أندراي؟ ألا لعنة الله علي إن كنت أعرف!»
وكانت جدتي وشورا تعرفان أن هذا القول يؤلمني؛ ولذلك كانتا تعملان على إسكاته، وتقولان له: إن أندراي رجل متعلم، يعرف العالم على حقيقته، ولا يقتصر علمه على الأتراك والأكراد.
وكان فيودور بنتليفتش يقول وهو مكتئب حزين: «قد يكون هذا صحيحا، قد يكون هذا صحيحا.» ثم يضيف إلى قوله هذا تلك العبارة التي يبغي بها مجاملتي: «نعم، إن أندراي نزيل السجن، ولكنه لم يسجن لأنه سرق أو قتل، إنه سجين سياسي، وما أعظم الفرق بين هذا وذينك.»
وكنت أتلقى من والدتي رسائل تحتوى على الدوام نتفا من الأخبار عن أبي، وكانت عمتي شورا تقرأ هذه الرسائل بصوت عال قبل أن أعرف أنا القراءة، وكان يحدث أحيانا أن ينسى فيودور بنتليفتش نفسه، فيفوه بألفاظ شديدة قاسية طعنا على ابنه العنيد، وحدث في إحدى هذه المرات أن ثرت ثورة عنيفة صرخت في أثنائها صرخة قوية، وعضضت وأنا في سورة الغضب يد جدي ولكنه لم يضربني بالسوط كما كنت أتوقع، بل أخذ يهدئ من روعي، ويضمني بحنان إلى صدره، ويقول إنه يسره أن أدافع عن أبي و«إن هذا دمي يجري في عروقك، فنحن آل كرافتشنكو قوم أوفياء.»
وكنت بين الفينة والفينة أقضي عطلة آخر الأسبوع عند صديق من أصدقاء أبي، وهو رجل يعمل في صناعة المعادن كنت أدعوه عمي متيا، وكأني وأنا في بيته كنت أقضي الوقت مع أبي نفسه، بل إنه يفضله بما يبعثه من المتعة والحماسة وجودي مع ثلاث بنات صغيرات حسان خبيثات، وقد كبرن كلهن وأصبحن من أجمل النساء وأحبهن إلي، وكانت صلاتي بهن في مستقبل أيامي لا تقل عن صلاتي بأقاربي من دمي ولحمي.
وكان العم متيا يتحدث عن الحرية والعدالة، وعن ميلاد عالم جديد، كما كان يتحدث أبي عنها، وكثيرا ما كان يقرأ علينا موضوعات من مؤلفات هرزل وجوركي وتولستوي من صحائف ثنيت أطرافها، يقرؤها على مهل وبصوت ينم عن الإيمان والتقوى، شبيه بصوت جدي وهو يقرأ الكتاب المقدس، لكن أكثر ما كنت أحبه هو أن يوقظني عمي متيا قبل الفجر لنذهب سويا إلى الصيد، فكنا نقضي اليوم في الغابات في جهد متواصل ثم نعود وأنا أحمل على كتفي بندقيته وكيسا مملوءة بالأرانب والدجاج البري وأفاخر بها كأني أنا الذي صدتها.
أما جدي فكان يحب صيد السمك، فكان نهر الدنيبر بيته الثاني، يقضي فيه كثيرا من وقته، وبينا كان قارب الصيد يطفو فوق ماء النهر الهادئ، وبينا كنا نترقب ابتلاع السمك للشص، كان هو يعيد على سمعي قصصه المحبوبة عن الأتراك الذين قتلوا بالألوف، وعن الروس وبخاصة الأوكرانيين والقوزاق الذين كانوا يعودون على الدوام بجر الحقائب بالأسلاب، محلاة صدورهم بأوسمة الشرف، وكانت قصصه تزداد حماسة وإثارة لشعوري؛ لأن زوجته لم تكن إلى جانبه تكبح بفكاهتها جماح خياله.
فإذا علت الشمس في كبد السماء شددنا القارب إلى أيكة من الأشجار على شاطئ النهر وخلعنا ملابسنا وأخذنا نسبح في الماء نضربه بأيدينا وأرجلنا، ووجوهنا تطفح بالبشر، ولا نكاد نذكر أن بيني وبين جدي ما يقرب من ثلاثة أرباع قرن، فإذا حل بنا التعب وعضنا الجوع، عدنا إلى البيت ممتلئين نشاطا وقوة، نحمل صيد اليوم، فتأخذ جدتي نتاليا مكسمفنا بعضه لتقليه في فناء الدار، وكان ذلك الصيد يكفينا ويكفي بعض الأصدقاء الأعزاء، وتبقى منه بقية لليوم الثاني تطهيها جدتي وتصنع منها ذلك الصنف الذي انفردت هي بطهيه دون سائر النساء.
وكنا نحن آل كرافتشنكو نعيش في ألكسندروفسك معيشة شبه عسكرية لا يخفف من حدتها إلا رقة بابشكا المدنية، ولم يكن العمل الذي يقوم به زوجها مجرد ضرورة تحتمها الظروف، بل كان فوق هذا واجبا تأمره نفسه بأدائه، ولا يفترق في شيء عن أداء الصلاة وإضاءة المصباح طول الليل تحت الصورة المقدسة، والتصدق على السائلين. وكنا نأوي إلى فراشنا مبكرين، ونستيقظ وشروق الشمس؛ لنعمل في الحديقة وفي البستان ومع الماشية، وحتى في أيام الدراسة لم أكن أعفى من هذه الأعمال، فقد كان يطلب إلي أن أقوم بنصيبي منها قبل الفطور، وأما الدروس فلم تكن القواعد التي رسمها جدي تعدها عملا حقا مهما بذلت فيها من جهد، وكان يدربني على الاغتسال والاستحمام بالماء البارد في الهواء الطلق مهما تكن حالة الجو، كما يجب أن «يفعل الرجال والجنود»، ويعلمني أن أتحمل الألم دون شكوى أو تذمر، كما عودني من صغري ألا أتأثر بالحر أو البرد.
وكانت المرة الوحيدة التي عاقبني فيها جدي حين ذهبت وحدي في السابعة أو الثامنة من عمري إلى حلاق يقص لي ضفائر شعري، وكانت كوبيكات شورا هي التي أمكنتني من أن أثبت رجولتي بهذه الطريقة قبل أن يحل أوانها، وعدت إلى المنزل والعطور القوية تفوح من رأسي، وألقى علي جدي نظرة استشاط على أثرها غضبا، وكان العقاب الذي حل بي مناسبا لما ارتكبت من جرم، فقد جاء جدي بمقص من مقصات الضأن، وأخذ يفسد به ما صنعه الحلاق، على مرأى من جيرتي ورفاقي، ثم جاء بعدئذ بالماء والصابون وغسل بهما قحف رأسي المشوه ليمحو منه الروائح الخليقة بالبنات.
واتخذت لنفسي في المدرسة عدة أصدقاء ظلت صداقتي لكثيرين منهم قائمة إلى أيام كهولتي، وهو أمر يدعو إلى الدهشة في بلادنا وفي أيامنا هذه، وكانت أوقات الدراسة طويلة يعقبها في معظم الأيام واجبات نؤديها في منازلنا، وكانت العقوبات البدنية التي توقع علينا لتأخرنا وعدم التفاتنا للدرس من الأمور العادية، وكانت تعد من العناصر الضرورية التي لا غنى عنها في تربية الأولاد.
وكنت لحسن الحظ سريع الحفظ، ولم يكن يضايقني إلا دروس الدين التي يلقيها علينا الأب مكسيم العجوز ويتمتم بها من بين لحيته، كان يطلب إلينا أن نحفظ عن ظهر قلب أدعية طويلة لا نفقه لها معنى باللغة السلافونية القديمة، فإذا عجزنا عن أن نعيدها، وهو ما كان يحدث لنا كلنا تقريبا، عوقبنا على هذا عقابا صارما، وكان الذي يحدث وقتئذ أن يأتي كوزيا تلميذ الأب مكسيم المقرب إليه، والذي شوهت آثار الجدري وجهه، بعصا أعدها لهذا الغرض، ثم يركع المجرمون صفا ويأخذ كوزيا يجلدهم بالعصا على أعجازهم، والقسيس في هذه الأثناء يعد الضربات، وما من شك في أن الأب مكسيم كان يرى في هذا إصلاحا لأرواحنا، وإن لم نفد منه أقل فائدة في تعليم اللغة السلافونية، وكان الذي يحدث على الدوام بطبيعة الحال أن نكمن لكوزيا في الطريق بعد خروجنا من المدرسة ونكيل له الصاع صاعين، وكان هذا أيضا جزءا لا يتجزأ من منهج تعليمنا.
وكان ثمة هدف آخر نوجه إليه ضروب قسوتنا وهو الشاب شتشيكتهين ابن أغنى إنسان في البلدة ووارثه، ولم يكن نك هذا يأتي إلى المدرسة كما نأتي إليها نحن مشيا على الأقدام مسافات طويلة، بل كان يأتي إليها مستقلا عربة جميلة يحرسه الخدم، وكان يرتدي سترة من المخمل وطوقا مكويا منشى، وحذاءين ذوي أزرار براقة، وكان يسره فضلا عن هذا أن يصلصل بالنقود في جيبه، وكنا نحن نرى أن هذه جرائم لا يصح أن ينجو مقترفها من العقاب، على أنه كان يسعه أحيانا أن يرشونا بالنقود والحلوى فنتركه وشأنه، ولكني لا أنكر أننا كثيرا ما كنا نقبل منه الرشوة ثم نضربه على عمله ضربا شديدا.
وكنا على الرغم من شدة نظام المدرسة نلعب الهوكي ونرتكب الكثير من عبث الطفولة، وأذكر أني أنا ورفيقا لي اعتزمنا أن نغير على مزرعة للخضر في طرف المدينة، أذكر هذه الغارة أكثر مما أذكر أية مأساة حقة أصابتني في مستقبل حياتي، ولم نكد نملأ جيوبنا بالخيار الصغير ونتذوق البطيخ الحلو حتى داهمنا البلغاري الضخم، ولكنه لم يضربنا بل استعاض عن الضرب بمحاضرة ألقاها علينا عن ضرر السرقة، ثم أمرنا أن نخلع سروالينا، وأعطى كلا منا حفنة من الخيار، وأخلى سبيلنا وتركنا نعود من حيث جئنا من غير سروالين.
وانتظرنا عدة ساعات حتى جن الليل، فلما أظلمت الدنيا عدنا إلى بيتينا على هذه الحالة غير المشرفة بطرق ملتوية حتى لا يلتقي بنا أحد، وظل ما لحقنا من العار بسبب هذا العمل يلازمنا وقتا طويلا، وكان ما لقيناه من الألم بسبب السخرية التي أثارتها هذه الحادثة في المدينة أشد من كل ما كان يحدث لنا لو أن الرجل ألهب جلدنا بالعصي أو السياط.
وليس في وسعي أن أذكر الآن ما كنا نجلبه من البؤس والشقاء على المتكبرين المتغطرسين من المدرسين دون أن تصتك ركبتاي ويرتجف سائر جسمي من هول ما كنا نعمل، ولكن أفريشيف مدرس اللغة الروسية البائس الرقيق الحال ذا المنظارين، كان ينجو من عنتنا وعبثنا، ويكاد هذا الرجل أن يكون نموذجا متقدما لرجال الفكر الروس، فكان يتصف بالشدة والنزعة الشعرية والثرثرة وبعض المسكنة، وكانت عيناه غائرتين تبدو فيهما سمات التعصب، وكانت دروسه في الأدب الروسي تثير مشاعرنا جميعا، لا يستثنى منا الأولاد الصغار، وقد علمت بعد سنين من ذلك الوقت في أثناء زيارة لزبرزهي أن أفريشيف قتل في أثناء الثورة.
وكان صغار الأولاد من أبناء الأسر الكريمة ينهون عن الاختلاط بالغجر، ولكني كنت رغم هذا كثير الاختلاط بهم، فقد اتخذت لي صديقا منهم، وهو صبي يدعى سيدمان، وكانت نتيجة هذه الصداقة أن أصبحت وكأني من أفراد تلك العشيرة، وحدث مرة ونحن ننزلق على ماء نهر الدنيبر المتجمد أن هوى الجليد فجأة تحت قدمي، فما كان من سيدمان إلا أن غاص في الماء الثلجي وانتشلني، وقوى هذا الحادث ما كان بيننا من صداقة.
وكثيرا ما كنت أغادر البيت وأذهب إلى معسكر الغجر لأعذار أنتحلها، وكنت في هذه الزيارات أجلس إلى جوار نارهم، أصطليها معهم، وأصغي إلى قصصهم الشعبي، وأرقب أساليب أولئك القوم الأوداء الذين لا تفارقهم البهجة والمرح، وأنا مسرور بوجودي بينهم مفتتن بأساليبهم، وكانت نساء الغجر ينبئنني بمستقبلي نظير كوبك أو كوبكين أنقدهن إياهما، كن على الدوام يتنبأن لي بأني سأصبح رجلا سريا جميل المحيا ذائع الصيت، وأن حياتي ستكون حياة منعمة في جنان الخلد المرصعة بالجواهر، تجري فيها أنهار من عسل مصفى، وتشاركني فيها غادة حسناء شقراء اللون حينا، وسمراء حينا آخر.
وكان عرس هام سيحتفل به في معسكر الغجر في وقت قريب، وأخذوا يستعدون له في معسكرهم قبل يوم الزفاف بعدة أسابيع، وألح علي سيدمان أن أشهده، وصادف ذلك هوى في نفسي، فقد كنت شديد الحرص على حضوره، ولكن كيف السبيل إلى مغادرة المنزل في ليلة العرس؟ ولما أعيتني الحيل أفضيت بالسر إلى جدي، فغضب في أول الأمر، ولما أن نبأته كيف أنقذ سيدمان حياتي سمت دواعي النجدة والمروءة فوق الترفع العنصري، فلم يكتف بالإذن لي بالذهاب، بل رضي أن يرافقني بنفسه.
وارتدى جدي حلته الرسمية في هذه المناسبة، ومشط لحيته حتى جعلها أوسع مما كانت عادة، وجاء معه ببضع هدايا جعلته ضيفا مكرما في الحفل، وزاد ذلك من قدري في أعين الغجر، وكانوا كلهم صغارهم وكبارهم قد ارتدوا أبهى حللهم وازينوا بكل ما لديهم من حلى براقة، وأخذوا يعزفون على آلات الطرب من كمان وقيثارة حتى ذهب من الليل أكثره، وكان لهذا الحفل أعظم الأثر في نفسي، وجعلني طوال حياتي المقبلة أرثي لمن حرموا لذة الاستمتاع بحياة الغجر.
واندلعت نيران الحرب العالمية الأولى وأنا أجتاز السنة التاسعة من عمري، وأصبحت الحياة فجأة ثائرة مضطربة، كلها جنود وخطب ودموع ومجد، وأحسست كأن الوجود كله قد استحال إلى يوم عيد أبدي لا ينصرم، ونسي معلمونا دروسهم وأخذوا بدلا منها يشيدون بذكر الوطنية، أخذوا كلهم يشيدون بذكرها عدا أفريشيف، وقادنا الأب مكسيم إلى الصلاة؛ لندعو الله دعاء حارا أن ينصرنا على الأعداء، وأخذت النساء يبكين ويضربن أكفهن حين رأين الأبناء والأزواج يؤخذون إلى ميدان القتال.
وبكت بابشكا أيضا مشاركة لهؤلاء النسوة في عواطفهن، أما جدي فكأنه خلق خلقا جديدا، فقد أصبح جسمه أكثر مما كان اعتدالا، وأضحت أوامره لأسرته أكثر انطباقا على قواعد الجندية، وكان يرتدي حلته الموجهة
3
الزرقاء-البيضاء في كل يوم تقريبا، وكان يخيل إليه أن كل أسبوع يمر ولا تقوم فيه مظاهرة لتأييد الحرب أسبوع ضائع، وكان من أقواله المأثورة: «وا أسفاه! لو أن القائد اسكبليف لم يمت لألقى على الألمان درسا لا ينسونه أبدا، إن الأتراك أنفسهم لم يستطيعوا أن يصمدوا له!»
وطرق الباب طارق في يوم من أيام شهر أغسطس سنة 1914م على أثر عودتي أنا وجدي من رحلة لصيد السمك؛ وذهبت بابشكا لتفتح الباب وسمعناها نحن تصيح صيحة مضطربة تكاد الدموع تخنقها: «أندروشا! انظروا أيها الأطفال، ها هو ذا أندروشا نفسه!»
أجل، لقد كان أبي حقا، وكان أنيق الملبس، ولما أن خلع قبعته السوداء رأيت شعره مرجلا إلى الوراء على الطراز الحديث، وقد سوى لحيته فأصبحت كلحية الطبيب لا لحية الصانع، وكانت أقل سوادا من شعر رأسه، وبدا لي أنه أقصر قامة وأقل بهجة من الصورة التي احتفظت له بها في ذاكرتي، ولكنه كان إلى هذا أسهل منالا مني وأقرب إلى الآباء مما كان قبل، وسرني ذلك كل السرور، وأخذني أولا بيديه، وأمسكني على قيد ذراع منه، وأحدق بصره في وجهي وهو عابس، ولعله بذلك كان يختبرني، ولعلي نجحت في الاختبار، فلقد رفعني بيديه وأخذ يعانقني ويشهد العالم كله على أن ولده كان يشب قوي الجسم وسيم الوجه، وكان من حوله ينظرون إلينا والغبطة بادية على وجوههم كأني كنت من صنع أيديهم.
وكان سبب مجيئه أن القيصر أصدر عفوا عمن ارتكبوا جرائم سياسية من أنواع معينة ، وكان من بينهم أبي لحسن الحظ؛ فلما أطلق سراحه جاء ليرى أبويه وولده، واغتبط فيودور بنتليفتش وتاه عجبا بهذه الزيارة؛ وكانت غبطته حقيقية لا تصنع فيها، ولكنا لم نكد نجلس لتناول العشاء حتى عاد غضبه القديم على ولده الذي سبب للأسرة كثيرا من العناء، وطغى هذا الغضب على كل ما عداه.
وشرب جدي كوبا من الماء البارد، ورسم إشارة الصليب على صدره ثم بدأ يتناول الطعام، وكان هذا إيذانا لنا جميعا بأن نمد ملاعقنا إلى طبق السمك، وأخذنا نتحدث، واستطاع جدي أن يمسك لسانه برهة قصيرة يصغي فيها إلى أنباء الأسرة التي كان يلقيها أفرادها بالتناوب، ثم انطلق أخيرا يتحدث ويصارحنا برأيه فقال: «بالله قل لي يا أندراي، ما الداعي إلى هذا السخف كله؟ ولم تظل نزيل السجون كالمجرمين؟ أي شيء تريد؟ ألا تشعر بأن عليك واجبا لزوجك وأبنائك؟»
وأصغى أبي إلى هذا القول وهو صابر، ثم تجهم وجهه وأبرقت عيناه، ونفذت ألفاظه إلى قلبي، وزادها قوة على قوتها ما كان يصحبها من جد وحماسة، قال: «سأحدثك عما أريده يا أبي، وأرجو أن تفهم قولي؛ لأني أعرف فيك أصالة الرأي وأقدرها، إني أريد أن يعيش الناس أحرارا سعداء، وأريد أن يعيش الناس جميعا كما يجب أن يعيش الآدميون، وأريد أن أقضي على الاستبداد السياسي والاستعباد الاقتصادي، وثق يا أبي أني أتألم أشد الألم لما يقاسيه أبنائي الأعزاء، ولكن هذه الآلام التي يقاسيها جيل واحد ستجعل الأجيال المقبلة أعظم سعادة وأكثر مدنية من هذا الجيل.
لست أشك في أنك يا أبت ستفهم قولي هذا؛ لأنك رجل قوي الإيمان، توقد الشموع تكريما للشهداء والقديسين، فهل كان هؤلاء يسمحون لأزواجهم وأبنائهم أن يؤثروا فيهم، فيشتروا الضلالة بالهدى والرذيلة بالفضيلة؟ إن روسيا بلادنا المحبوبة تعيش في ظلام حالك، يستغل أبناؤها ويعمهون في ظلمات الجهالة، ولكن في وسعها أن تخرج من الظلمات إلى النور، ولا يكون فيها سادة وعبيد.»
وكان يتجه بحديثه إلى أبيه، ولكني كنت أحس أن ألفاظه موجهة إلي، فيقشعر لها بدني كما كان يقشعر لصوت القس في وقت الصلاة .
وختم أبي حديثه بأن قال وهو يحدق بعينيه في وجهي: «أما أبنائي فإنا نعمل لسعادتهم وسعادة جميع الأطفال في هذه البلاد ونسفك دماءنا لنحقق لهم هذه السعادة.»
وفكر جدي طويلا ثم قال: «ليس فيما تقوله شيء تلام عليه، ولكن فيه كثيرا مما يحيرني، لقد ظللت طول حياتي أخدم القيصر، كما كان يخدمه أبي وجدي من قبلي، ولكنك يا أندراي تختلف عني وعنهم، إنك تنظر إلى الأمور بغير العين التي ننظر نحن بها إليها، وكأنك تنظر إليها من تحتها، فليسامحك الله يا ولدي إن كنت مخطئا، أما وأنت تعتقد مخلصا في عدالة قضيتك فلتعمل بما يمليه عليك إيمانك، وسأبذل أنا كل ما أوتيت من جهد لأعول أبناءك ما دمت حيا.»
وظلت ألفاظ أبي زمنا طويلا تتردد أصداؤها في عقلي قبل أن أستغرق في نومي تلك الليلة.
وخرجنا في صباح اليوم الثاني في مظاهرة وطنية، اصطفت فيها الجماهير وصدحت الموسيقى، وخرج القساوسة في ملابسهم الفضفاضة يباركون الشعب، وأخذ الباعة الجائلون يبيعون المثلجات والشراب المحلى والفطائر المحشوة باللحوم؛ ولكن أبي ما لبث أن أمسك بيدي وقادني إلى دكة في بستان، جلسنا عليها نأكل المثلجات ونتجاذب أطراف الحديث.
وقال لي: «ها نحن أولاء يا ولدي نلتقي مرة أخرى، فهل تذكر يوم جئت أنت وأمك وقنسطنطين إلى السجن، فأشرت إليكم بيدي من برج الموت؟»
وأخذ يحدثني عن الحياة في السجن، وخيل إلي من وصفه إياها أنها حياة عظيمة فيها العذاب، ولكن الألفة والزمالة والتضحية في سبيل المبدأ العظيم تبدله وتخرج به عن طبيعته. «وأريد منك يا بني أن تذكر هذه الأشياء وألا تنساها ما حييت، لا تنس قط حقيقة أمرك، وكن على الدوام مخلصا صادق الدفاع عن الحرية؛ ذلك أن الحياة بلا حرية هي الفناء بعينه، ومهما يكن من أمري فإن عليك أن تواصل الدرس والعمل والكفاح بكل ما تستطيع من وسائل في سبيل المثل الأعلى، فإما أن نكون خنازير نضع أنوفنا في الوحل، وإما أن نكون آدميين نرفع رءوسنا إلى السماء، فإذا كنا آدميين فليس في مقدورنا أن نكون عبيدا أذلاء، وإذا سقطت أنا ورفاقي في ميدان الجهاد فسيحل محلنا فيه أبناؤنا من بعدنا.»
وسافر في تلك الليلة نفسها إلى إيكترنوسلاف بعد أن أهدى إلي بعض الهدايا، ووعدني أن أقضي عيد الميلاد في بيتنا.
وخيل إلي في الأشهر التي أعقبت هذا اللقاء أن الأيام تمضي على مهل، فقد كنت شديد الرغبة في أن أرى أبوي وأخوي، وكتبت إلي والدتي رسائل تفيض بهجة وانشراحا، ومما قالته فيها أنها لم تكن في هذه الأيام تواصل العمل في خياطة الملابس للناس بعد أن عاد أبي إلى العمل، وأنها تقضى وقتها في الكتابة، وأن أحوالنا كلها سارة ممتعة تنسيني أيامنا الماضية، وأن بيتنا قد تبدل حتى لا أكاد أعرفه.
وزادت عواطفنا اهتياجا كلما قرب موعد العطلة والزيارة المرتقبة، وأخذت جدتي تكد في عمل المربيات والفطائر، وذبح الخنزير الكبير الذي كان يسمن لهذا الغرض خاصة، وشغل كل من في الدار أسابيع عدة في سلق اللحم، وتدخين الأفخاذ، وفرم اللحم والخضر وخلطها بالأفاويه وحشوها في الأمعاء، ثم أقبل اليوم العظيم وكدس آل كرافتشنكو ومعهم حقائب ملابسهم وسائر أمتعتهم في عربة أقلتهم إلى محطة السكة الحديدية، وركبت القطار أنا وعمتي شورا، وأخذ من بقي من أفراد الأسرة يلوحون إلينا بأيديهم وهم على الإفريز، وقد غلبتهم عواطفهم فانحدرت الدموع من أعينهم كأننا نغادر البلاد إلى أمريكا.
ولما وصل القطار إلى إيكترنوسلاف وجدنا الأسرة كلها في انتظارنا، وكان استقبالنا مليئا بالقبلات والدموع والصياح؛ وقبل أن نصل إلى منزلنا زال ما كان بيني وبين أخوي من وحشة، فأخذنا كلنا نتحدث دفعة واحدة ونتحدث عن كل شيء، وظلت أمي طوال الوقت تحدق في وجهي وتردد قولها: «ما أحسن منظرك يا فيتيا! إنك رجل صغير بحق! صحة ونضارة!»
واستحال عشاء عيد الميلاد في تلك الليلة إلى صفحة من سجل أيام الطفولة لا تنمحي صورتها من ذاكرتي، ففي هذه الليلة علت شجرة عيد الميلاد حتى مست السقف وتلألأت كما تتلألأ المنارة الخضراء والذهبية في الكنيسة، وتكدس الطعام والشراب على المائدة، واشترك الأطفال في شرب الأنخاب فشربوها نبيذا حلوا من أقداح زجاجية صغيرة زاهية الألوان.
ورفعت جدتي لأمي - وهي أكبر أفراد الأسرة - القدح الأول وهي تقول: «الحمد لله الذي أنعم علينا بأن نلتقي هنا جميعا أحياء وأصحاء، وأتمنى لكم جميعا يا أبنائي الأعزاء خير ما تتمنونه لأنفسكم.»
ثم قام أبي، وكان كمألوف عادته وقورا بهي الطلعة، ورفع كأسه وقال: «أرجو أن نشرب نخب جميع الذين يجلسون في هذه الليلة بين جدران السجون، وأن ندعو الله أن يحقق ما آمل وما يأملون من حياة خير من هذه الحياة وأسعد منها!»
وهمست بابشكا قائلة: «إن هذا لا يكون في حضرة الأطفال يا أندراي، ولكنها مع ذلك شربت كما شرب غيرها من الحاضرين.»
وقضينا ساعات طوالا ونحن ملتفون حول شجرة عيد الميلاد، نغني الأغاني الشعبية الروسية والأوكرانية مصحوبة بأناشيد ثورية كنشيد المارسييز ونشيد: «لقد سقطتم صرعى أيها الضحايا»، وكان من الشواهد الدالة على ما أصبحت فيه الأسرة من رخاء، حاك جديد ذو بوق ضخم، وأخذ الأطفال يرقصون على نغماته العالية، وغلب النعاس يوجين في أثناء هذا المرح والشراب فأغفى بينما كان أبي يلقي قصيدة في الإشادة بالتضحية والمجد، وبينما كنت أنا الآخر أسخر من سني بوجين السبع وأفخر عليه بسني التسع أخذ الكرى بمعاقد أجفاني واستغرقت أنا أيضا في النوم.
وعدت بعدئذ إلى ألكسندروفسك وعشت فيها ثمانية عشر شهرا أخرى، حتى انقضى عام 1916م الدراسي، وهو الذي انتهى به منهج دراستي الأولية.
وكان إتمامي هذا المنهج حادثا مهما في حياتي، وإن كان الاحتفال به مملا والخطب التي ألقيت فيه ثقيلة، وكان أول مراسم الاحتفال في هذا اليوم العظيم هو حلق شعري بإذن من أسرتي، وأثار شعري الملتوي ما في الحلاق من ذوق فني فلم أقم من بين يديه إلا بعد أن ازين رأسي أجمل زينة كانت هي إيذانا بدخولي في مرحلة الرجولة، ثم أهدى إلي جدي حلة الطلبة الرسمية ذات السروال الطويل، وتحقق بها حلم طالما تمنيته، وكان يسرني أن أسير في الحادية عشرة من عمري وأن أكون موضع عناية الأسرة جميعها.
وكان فيودور بنتليفتش في حلته الرسمية تحلي صدره والأوسمة البراقة محط الأنظار في حفل التخرج الذي أقيم ظهر ذلك اليوم، فلقد وجهت إليه الأنظار أكثر مما وجهت إلى والد شتشيكتهين نفسه. وارتدت جدتي مئزرها الحريري الأسود الوحيد، وأخذت تخطر في هالة من عطر اللاوند والكافور. وشهدت الحفل عمتي شورا بطبيعة الحال كما شهده عمي متيا.
وكانت مفاجأة أخرى مثيرة تنتظرني في البيت في ذلك المساء؛ ذلك أن عمي بطرس شقيق والدي الأصغر عاد في تلك الليلة بإجازة رسمية من ميدان القتال على غير انتظار، وكان عمي هذا يختلف عن والدي أشد الاختلاف، فقد كان رجلا خلا قلبه من الهموم، محبا للحياة حريصا عليها، حلو الفكاهة كثير المزاح، ولم يحدث بينه وبين والدي شيء من ذلك الاحتكاك الذي أفسد العلاقة بين فيودور بنتليفتش وولده أندراي، وأحسست إحساسا غامضا يشوبه قليل من الغيرة أن بطرس هذا أحب الناس إلى أهل الدار.
ولما أنبئ عمي بطرس بالدرجات التي حصلت عليها في الامتحان النهائي توسل إلي وهو يضحك - ولكنه كان في ضحكه جادا غير هازل - ألا أتخذ والدي المجاهد مثلا لي أحتذيه، بل أن أتخذه هو مثلي الأعلى.
ونادى بأعلى صوته: «تبا لهذه الأعمال، دع العالم يا فيتيا ينجه غيرك مما فيه، وحسبك أن تنجي أنت نفسك، وأقولها لك قالة صريحة: إنك لا تحيا إلا حياة واحدة يجب عليك أن تستمتع بها.»
وأذن لي في الليلة التي اعتزمت العودة فيها إلى بلدي أن أذهب إلى معسكر الغجر لأودع فيه أصدقائي الكثيرين، وحملت لهم معي بعض الهدايا منها لفة من التبغ لوالد سيدمان، وقصبة تدخين لسيدمان نفسه، وأشرطة زاهية لأخواته، وكان فراقي لهم لا يقل عن فراقي لأسرتي، وعدت في صباح اليوم الثاني إلى مسقط رأسي، وبعد بضعة أشهر من ذلك الوقت دخلت المدرسة العليا، واجتمعت أسرتنا في ذلك الوقت لأول مرة، وكان يوجين وقتئذ تلميذا في المدرسة الأولية، أما قنسطنطين فكان في السنة الثانية من المدرسة الثانوية، وخيل إلينا أن حياتنا أصبحت في آخر الأمر حياة سوية منتظمة، فها هو ذا أبي يكسب في الشهر مبلغا يتراوح بين ثمانين ومائة وعشرين من الروبلات، وهو دخل طيب لعامل مثله، وها هما ولداه قد اجتازا جزءا غير قليل من مراحل التعليم.
وكانت أمي أسعد حالا وأبهى طلعة مما شهدتها من قبل، أما أبي - وهو بطبعه رجل عبوس بعض الشيء - فقد كان وجهه الهادئ يخفي تحته مظاهر القلق؛ ذلك أنه كان أكثر منا جميعا إدراكا للسحب القاتمة المتلبدة في سماء الروسيا والتي تنذرها بعاصفة هوجاء.
الفصل الثالث
المجد والجوع
تصرم شتاء 1916م وهو ينذر بانهيار القيصرية الروسية، وكان الإحساس بالكارثة الوشيكة الوقوع يسري في كياننا كله.
ذلك أن أمور الحرب كانت تجري على غير ما نشتهي، وازداد سخط الشعب وأصبح أكثر جهرة وأشد إلحاحا، ولم يعد من الأسرار الخفية أن الجنود يفرون من ميدان القتال جماعات، وأن نظام الجيش آخذ في الانهيار، وحتى في إيكترنوسلاف نفسها امتلأ الجو بالشائعات الرهيبة عن راهب مشئوم فاسد السيرة يدعى رسبوتين، وعن الفساد الخلقي في دوائر عليا، وعن الشغب والاضطرابات طلبا للطعام، وعن وجود أنصار للألمان حول القيصرة، ولم يحاول مدرسونا قط كبح جماح كبار التلاميذ، ومنعهم أن يتحدثوا عن الثورة، وأخذ أصدقاء أبي يتهامسون بأصوات خافتة متوترة عن إثارة «الجماهير».
وكان أبي يعمل طوال اليوم في المصنع، وقلما كان يجد بعد الانتهاء من عمله متسعا من الوقت يستريح فيه أو يغتسل أو يأكل، وكثرت الاجتماعات والمناقشات والتقارير يحملها الرسل من بتروغراد أو كيف، وكثيرا ما كان بيتنا يتخذ في تلك الأيام محطا ينزل فيه الفارون من سيبيريا وغيرها من أقاليم المنفى في أقصى الشمال، وما أكثر ما كنا نحن الأطفال نحجز عن حجرة الاستقبال حيث يجتمع عمال المصانع ذوو الوجوه الكالحة والمفكرون من أهل البلدة يتجادلون ساعات طوالا خلف الأبواب المغلقة.
وذهب والداي في عصر يوم من الأيام ليقابلا صديقا لهما يدعى برامونوف كان قد فر وقتئذ من السجن، وعادا وهما في أشد حالات الاضطراب؛ فقد جاءت والدتي تبكي، وجاء أبي تصطك أسنانه، وكان برامونوف هذا أحد بحارة الطراد بوتمكين الذي كان تمرده وثيق الاتصال بثورة سنة 1905م، ومن أجل ذلك كنا نعده بطلا من أبطال البلاد، وكان إلى هذا إشبين أخي الأصغر، واستطعت فيما بعد أن أجمع شتات الحوادث التي وقعت وأؤلف منها قصة لم تبرح قط من ذاكرتي، بل بقيت فيها رمزا للتضحية.
وكانت خلاصة هذه القصة أن برامونوف وعددا قليلا من أصدقائه اتفقوا فيما بينهم على أن يلتقوا عند ركن في مكان منعزل في حديقة المدينة، ولم يمض على لقائهم بضع دقائق حتى مر بهم جماعة من الأغراب يتظاهرون بأنهم يسيرون في المكان مصادفة، ولكن برامونوف ارتاب في أمرهم وظنهم من رجال الشرطة في ملابس عادية، فبادر بتوديع رفاقه وانطلق بين الأدغال وهو يرجو أن يتسلق سورا من الأسوار ويفر منهم، وسرعان ما سمع أصدقاؤه صوت طلقات مسدس ووجد الهارب بعدها قتيلا.
وكان في وسع أبي رغم مشاغله الكثيرة أن يقضي ليالي كثيرة وبعض أيام الآحاد مع أبنائه الثلاثة، وكنا نقطع الوقت في قراءة مؤلفات هرزن وتولستوي وغيرهما من الكتاب، وكان أبي يختار منها بعض الفقرات ليعلق عليها ويشرح بها آراءه عن تحرير الروس من رق العبودية وعن الحرية البشرية، وكان لآرائه الحماسية - ولعلها كانت أيضا آراء غير صائبة - أعظم الأثر في مشاعري، وكان لها من القوة في نفسي ما للعقائد الدينية.
وانعقدت في ذلك الوقت أيضا بيني وبين زميل لي في المدرسة يدعى أسبيريدونوف أواصر صداقة قوية، وكان ذلك الشاب ابن أحد مدرسي المدرسة الثانوية، وكنت أقضي كثيرا من الوقت في داره، وفي بيت هذا الصديق عرفت لأول مرة أسرة مثقفة كان الأدب والموسيقى والمسرح لديها حقائق واقعية أعظم شأنا من الخبز ومن العمل، وكان والد أسبيريدونوف يوجه نهمنا في القراءة إلى آفاق واسعة لا تقتصر على روائع الأدب الروسي، بل تشمل كذلك مؤلفات شيكسبير وجوت وأناتول فرانس ونت همسن وهوجو وفلوبير وزولا ودكنز.
وإذا عدت الآن بذاكرتي إلى تلك الأيام الخالية أدهشني حقا مقدار ما قرأت وتنوع ما قرأت في تلك الأيام التي ازدهرت فيها حياتي الذهنية، وامتزج جمال هذه الكتب بأماني أبي العالية حتى أضحت بطريقة ما عنصرا من عناصر الثورة التي كانت تكتسح في طريقها غلاما مثلي في الحادية عشرة من عمره، وخيل إلي وقتئذ أن الثغرة التي تفصل الأدب عن الحقائق الواقعية، والألفاظ عن الأعمال، قد أخذت تسد، وأنها عما قليل لن يبقى لها أثر.
وهبت العاصفة التي تجمعت نذرها من زمن بعيد في الأسابيع الأخيرة من شهر فبراير سنة 1917م (في أوائل مارس بالحساب الغربي)، ودهش الناس كلهم وتحيروا في أمرهم حتى الذين كانوا منهم أكثر الناس ثقة بهبوبها، فقد أصبحت كلمة الثورة ينطق بها الآن جهرة وتجري على كل لسان، وحدث ذلك فجأة على غير انتظار بعد أن كانت هذه الكلمة لا ينطق بها إلا الأصدقاء الذين توثقت بينهم الصلات، وحتى هؤلاء لم يكونوا ينطقون بها صريحة بل كانوا يلمحون بها تلميحا، وارتاع الناس من هذه الحقيقة العجيبة، وسرعان ما استحال ما كان يبدو من قبل حلا سهلا ميسرا للمشاكل القائمة إلى آلاف الآلاف من المشاكل الجديدة لعل أقلها خطرا إيجاد الطعام للجائعين والكساء للعارين.
واضطربت شئون الحياة المألوفة كلها وتزعزعت أركانها، وفقدت المدارس والمصانع والمعاهد العامة ما كان لها من معنى في عقول الشعب، وخرج أهل مدينتنا جماعات إلى الشوارع المكسوة بالثلوج حتى ضاقت بهم، وكأن البيوت ومكاتب الموظفين والمعامل قد انقلب باطنها ظاهرها، فلفظت كل من فيها من الناس إلى الميادين والمتنزهات، وقامت فيها المظاهرات، وخفقت الرايات، وعلت أصوات الهتاف، وتوترت الأعصاب، وانطلقت أحيانا بعض الرصاصات، وطغى على هذا كله جو صاخب من الكلام، الكلام الكلام، فقد انطلق من الصدور ما كان مكبوتا فيها من الألفاظ عدة قرون في خطب قوية عاطفية مثيرة للشعور سخينة وملهمة عالية مدوية داعية إلى الانتقام.
وامتلأ الجو بنداءات الثورة، وأخذت هذه النداءات تتكاثر ويتضاعف عديدها في كل يوم: لتسقط الحرب، الحرب حتى النصر! الأرض والحرية ! المصانع للصناع! هيا إلى الجمعية التأسيسية! السلطة كلها للسوفيت! وقرعت آذاننا في كل يوم ألفاظ جديدة وأسماء لا عهد لنا بها من قبل: بلاشفة، مناشفة، ثوار اجتماعيون وفوضويون ... وكرنسكي وميلوكوف ولينين وتروتسكي ... والحرس الأحمر والبيض والأشياع ...
وأقيمت المنصات في الميادين الكبيرة، وتعاقب عليها الخطباء بعضهم في أثر بعض يخطبون الجماهير بأعلى الأصوات، ووقف عليها الرجال والنساء الذين لم تعل من قبل أصواتهم عن الهمسات، ثم اندفعوا الآن يصيحون ويخطبون ويسبون ويصخبون، وتنحى الرجال المتعلمون ذوو اللحى المشذبة عن أماكنهم إلى الجنود والعمال، وعلت أصوات الجماهير كهزيم الرعد تنادي: «حقا! حقا!» و«فليسقط، فليطرد.»
وجاء أبي في يوم من أيام المظاهرات تظلله أيكة من الأعلام التي صنعها المتظاهرون بأيديهم، ووقف يخطب من فوق منصة، وكأن الناس كلهم كانوا يعرفون اسمه.
وبدأ خطبته بقوله: «أيها الأصدقاء والإخوان، أيها العمال والفلاحون ورجال الفكر والجنود.»
وكانت هذه أول مرة سمعت فيها أبي يخطب في الجماهير، ولم يكن في وسعي أن أخفي تأثري، وكان صوته رنانا، وقد تبدل كل شيء فيه حتى لم يكن لي بد من الرجوع إلى نفسي لأتأكد أن الذي يتحدث هو أبي بحق، وغدت الكلمات التي لم تكن من قبل تتعدى محيطنا، والتي تكاد تكون سرا من أسرار الأسرة، غدت هذه الكلمات بمعجزة لا يعلمها أحد تتردد على ألسنة الجماهير، فأصبح الناس كلهم وكأنهم من أفراد أسرتنا، وأخذ أبي يتحدث عن السجن والنفي، وعن حياة البطولة التي خاض غمارها الرفيق برمونوف، وعن المستقبل المجيد، ويحض الجماهير على التزام النظام وضبط النفس، ويحذرهم ممن يريدون أن يغرقوا الثورة في بحر من الدماء، وكان حديثه غاية في البساطة والإخلاص، كأن مستمعيه هم أبناؤه الثلاثة ضوعفوا مئات المرات.
ولما نزل عن المنصة وعزفت إحدى الفرق الموسيقية نشيد المارسييز اندفعت نحوه وشققت طريقي إليه بين أصدقائه المعجبين به، وصحت قائلا: «ليحي بابا!» وضحك أبي حين سمع ندائي بأعلى صوته.
وقال لي: «ها أنت ذا يا فتينكا ترى بعينيك أن الشعب سينعم بالحرية، لقد كانت هذه غاية جديرة بأن نحارب من أجلها.»
وعرفت حينئذ - أو لعلي عرفت في مستقبل أيامي - أنه كان يبرر أعماله في نظري، ويشرح لي أسباب ما حل بأسرته من ضنك وشقاء على يديه.
وسرعان ما تقدم الشهر الأول من شهور الثورة وجاء في أثره الانشقاق والتهم والشقاء، وتبدلت الحماسة الأولى غضبا وغلا في الصدور، واختلطت الألفاظ والحجج بالحجارة واللطمات وطلقات المسدسات، حتى أصبحت هذه أعظم شأنا وأقوى أثرا على مر الأيام، وعز الطعام وخيل إلينا أن الخشب والفحم والكيروسين كلها قد اختفت، ولم تعمل بعض المصانع إلا عملا متقطعا، وأغلقت بعضها أبوابها، وقال الناس وبخاصة ذوو الثياب الحسنة: «ها هي ذي ثورتكم! ها هي ذي الثورة التي طالبتم بها!»
وأخذ أبي يزداد في كل يوم كآبة وصمتا، وأصبح أكثر حساسية وأشد تأثرا مما كان في سني الخطر والتضحية؛ ولما طلبت إليه أن يشرح لي أسباب تعدد الأحزاب والبرامج بدت عليه مظاهر الحيرة والارتباك.
وكان جوابه لي: «إن المسألة معقدة يصعب على من كان في مثل سنك أن يفهمها، إن هذا نزاع على السلطان، ومهما تكن الأهداف التي يسعى إليها أي حزب من الأحزاب المتنازعة، فإن من الخير ألا يفوز واحد منها فقط بالسلطة؛ لأن هذا الفوز لا يثمر إلا استبدال سادة جدد بسادة قدماء، وقيام الحكم المستند إلى القوة لا إلى إرادة الشعب الحرة، ولم يكن هذا هو الغرض الذي ضحى من أجله الثوار بحياتهم.»
ولما استمعنا مرة أخرى إلى خطب المناشفة والبلاشفة وغيرهم في معهد التعدين، وقد أصبح وقتئذ المركز الرئيسي لسوفيت إيكترنوسلاف، هز أبي رأسه في حزن وقال: «لقد حاربت للقضاء على القيصرية، حاربت من أجل الحرية ورغد العيش لا من أجل العنف والانتقام، يجب أن نظفر بحرية الانتخاب وأن تكثر في البلد الأحزاب، أما إذا سيطر علينا حزب واحد فقد قضي علينا قضاء لا مرد له.» - «وأي مذهب سياسي تدين به يا بابا؟ أنت منشفي أم بلشفي أم ثوري اجتماعي أم لك مذهب آخر غير هذه المذاهب؟» - «أنا لا أدين بمذهب من هذه المذاهب يا فيتيا، لا تنس قط يا ولدي هذه الحقيقة: إن شعار أي حزب مهما يكن فيه من الإغراء لا يعد دليلا على حقيقة الخطة التي سوف ينتهجها هذا الحزب إذا ما استولى على أزمة الحكم.»
وذهب أبي إلى جبهة القتال في رومانيا؛ ليكون فيها واحدا من طائفة من العمال الدعاة للثورة، وكان لا يزال يعمل فيها في شهر نوفمبر حين استولى البلاشفة في بتروغراد بزعامة لينين وتروتسكي على أزمة الحكم، وتولوا قيادة الثورة، ثم عاد إلينا ليبلغنا أن الحرب قد انتهت، وأن كل ما يعمله الجند هو أن يلقوا بأسلحتهم ويعودوا إلى بلادهم، وهي أنباء عرفناها من قبل، فقد كنت أنا وكوتيا وأصدقاؤنا طلبة المدرسة الثانوية نقضي الساعات الطوال في محطة السكة الحديدية نشاهد القطر المقبلة من الجنوب والغرب، وقد اكتظت كلها بالجنود حتى امتلأت بهم أسقف العربات، وتعلقوا بنوافذها وفي أسفلها، وفاضت جموعهم على القاطرات نفسها، وأخذوا ينشدون الأناشيد ويسبون ويتشاجرون وينادون نداءات مختلفة، ولم نكن نحن الصغار ندرك معنى هذه الفوضى، وبدا أن الكبار أنفسهم لم يكونوا أقل منا جهلا بكنهها وحيرة من أمرها.
ولم نكن ندرك من الحقائق المؤكدة التي تطبق علينا في كل لحظة إلا الجوع والبرد، فقد فقدت النقود قيمتها وخلت أرفف الحوانيت من البضائع، وعلاها التراب، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى شق علينا الحصول على الخدمات التي كانت من قبل من مظاهر الحياة العادية كتنظيف الشوارع والمخاطبات التليفونية ومياه الشرب والنقل، وصارت هذه الأعمال نادرة باهظة النفقة أو ممتنعة بتاتا، وفشا وباء التيفوس حتى كانت جنازات الموتى مواكب متصلة تسير طول النهار.
وكانت بابشكا من زمن بعيد تدخر كسرا من الخبز المجفف، وكانت من آن إلى آن تحمصها وتهديها إلى الدير الذي كانت تؤثره بها عن غيره، وإلى ملاجئ الأيتام، فلما أزفت الآزفة حمدنا لها حسن صنيعها، وادخرنا كل كسرة منها لأنفسنا، واختفى من بيتنا ضوء المصباح الدفيء المبهج، وخيل إلينا أن أيامه الحلوة قد أصبحت في خبر كان، وحلت محله ذبالة مغمورة في صحن زيت صغير، لم يكن لدينا وسيلة غيرها تضيء لنا ليالي الشتاء الطوال.
وفي هذا الضوء المضطرب الضئيل كنت أقرأ لجدتي بصوت عال من الكتب التي تحبها، وهي كتب نكراسوف وتولستوي وترجنيف، وكانت بين الفينة والفينة تعيد بعدي عبارة تعجب بها فيلهيها هذا عن سماع ما يتلوها من العبارات.
وبينا كنت ذات ليلة أقرأ لها مقالة من مقالات ترجنيف شعرت بيدها تتحسس يدي، وواصلت أنا القراءة، ولما استرخت قبضتها ظننت أنها استغرقت في النوم، وأوشكت أن أتسلل من الحجرة على أطراف أصابعي حتى لا أوقظها من نومها، ولكني نظرت إلى وجهها فرأيت عينيها مفتوحتين، ووجدتها ساكنة سكونا عجيبا، وشاهدت ابتسامة عذبة مطبوعة على شفتيها.
وصرخت قائلا: «بابشكا! بابشكا!» وأقبل من في الدار مسرعين.
وكان موت جدتي لأمي من الحوادث التي ظلت منقوشة في الصورة المرسومة في ذهني عن الثورة، وكانت هذه السيدة امرأة قوية الجسم حتى طحنتها رحى الجوع والبرد بثفالها، وظللت أنا وأسبريدونوف نطوف بالمدينة عدة ساعات حتى وجدنا قليلا من الأزهار النضرة ننثرها على تابوتها، فقد بدا لنا أن نقلها إلى مقرها الأخير بغير أزهار أمر لا يليق.
واستقر النظام السوفيتي في شمالي البلاد، أي في الروسيا الأصلية، بعد أشهر قلائل، أما في سائر البلاد وبخاصة في أوكرانيا، فقد دامت الحرب الأهلية عدة سنين، وكانت حربا وحشية جرت فيها الدماء وسادها الاضطراب، ولم تخل في معظم الأحيان من الفساد الطليق، وكانت السلطة في إيكترنوسلاف تنتقل من جماعة إلى أخرى، ثم تعود إلى الجماعة الأولى فيما لا يزيد على شهر واحد، وكثيرا ما كانت تتداولها الأيدي عدة مرات في الأسبوع، ولم نعد نحاول أن نذكر أي الجماعات تمثل السلطة العليا في الإقليم، أهي جماعة الحمر أم البيض أم الخضر، أم أتباع بتليوري، أم قوى هتمان اسكروبودسكي أم بنكومخنو أم جريجوريف، واحتل الألمان بلدتنا بضعة أشهر، ثم جلوا عنها، وجاءت بعدهم طوائف من الجنود المتنافسين، معظمهم في أثواب بالية ممزقة، وكلهم لا يقيمون وزنا لحياتهم ولا لحياة غيرهم، وأخذوا يتعاقبون على مدينتنا البائسة الهزيلة.
ولا تزال صور من تلك الأيام منقوشة في خيالي كأنها صحف مزقت من كتاب.
منها صورة جنديين يرتديان حلتين من حلل جنود القيصر ويمتطيان صهوة جوادين يندفعان في طريق بشكين الكبير بالقرب من بيتنا، يطاردهما فارسان صينيان يهز أحدهما سيفا والثاني بندقية، ويقف الفارس صاحب البندقية فجأة، ويصوب بندقيته ويطلقها، ويهوي أحد الجنديين الأبيضين عن ظهر جواده، ويقف الجواد فلا يتحرك، وينتظر زميله هنيهة لينظر ماذا جرى، فيتيح بذلك الفرصة للفارس الصيني الآخر أن يلحق به ويطعنه طعنة نجلاء، وهو يصيح بأعلى صوته، فيسقط الأول كومة من اللحم مضرجة بالدماء فوق الحجارة، وتبقى الجثتان المشوهتان لا يحركهما إنسان في هذا السكون المفاجئ.
وجئت أنا وكوتيا مرة أخرى إلى محطة جوريانوف في الطرف النائي من المدينة بعد أن سرنا مسافة على أقدامنا كنا نتجادل فيها جدالا عنيفا في موضوع كتاب نقرؤه، وكانت الليلة السابقة ليلة رهيبة لم ينقطع فيها إطلاق النار، وإن كان أحد من أهل المدينة لم يعرف من كان يطلقه ومن كان يطلق عليه، فلما وصلنا المحطة ألفينا جثث الموتى منتشرة فيها، ورأينا على القضبان قطارا مملوءا بالجنود الألمان، وعلى أرض المحطة كثيرا من الألمان في ثياب سميكة دفئة، يضحكون ويتنقلون بين جثث الموتى، ووقف إلى جانب كومة من هذه الجثث جماعة من الجند يأكلون الشطائر ويشربون القهوة، ويضع كل واحد منهم إحدى قدميه على جثة من الجثث ليستريح.
وأسمع في إحدى الليالي بعد أن مضى هزيع من الليل جلبة خارج بيتنا، فأهرول لأستطلع جلية الأمر، وأرى الأرض مغطاة بالثلج يتلألأ في ضياء القمر، ويطرق أذني نباح كلب في مكان ما، ولا أكاد أقف حتى يمر بي رجل ضخم الجسم ينطق بألفاظ الفحش كأنه ثمل، وقبل أن تمضي على ذلك بضع ثوان يجيء في أثره رجال كثيرون يلوحون بالخناجر والعصي والبنادق، وأبقى حيث أنا لحظة أنصت فيها إلى طلقات بعيدة، وصراخ يدوي في سكون الليل، فلما أصبح الصباح كان كل من في المدينة يتحدث عن هذه المطاردة، وعن بيلوشيكا صاحب القلنسوة البيضاء وزعيم اللصوص، الذي طارده الحرس الأحمر في أحياء المدينة سيرا على الأقدام، حتى التجأ إلى شارع منعزل فضيقوا عليه الخناق وقتلوه رميا بالرصاص.
وقلما كان يمر يوم واحد لا تروى فيه قصص مروعة عن المذابح المدبرة في الأحياء اليهودية، وعن غارات العصابات المسلحة على المصارف المالية، وعن الهجوم على قطر السكك الحديدية، وتعاقبت الحكومات فكانت كلما جاءت واحدة منها لعنت سابقتها ووصفتها بأنها «عصابة مسلحة»، حتى إذا أفلت زمام الحكم من يدها أصبحت هي الأخرى «عصابة مسلحة» كأختها، ومر بنا أسبوع، ولعله أطول من أسبوع، بلغ فيه الاضطراب غايته حين تولت الأمر حكومة «مخنو» أو الحكومة الفوضوية التي تحصنت في إيكترنوسلاف، ولكن الحمر لم يلبثوا أن عادوا إليها، وقضوا على حكومة مخنو فأضحت كأن لم تغن بالأمس.
وليس من السهل أن يرسم أحد صورة لهذا العهد كما ارتسمت في مخيلة غلام ممن كانوا يعيشون فيه، نعم إن كثيرا من الأحداث التي عرفناها أو فهمنا معناها بعدئذ قد انطبعت في تلك الصورة، ولكن الحقيقة المدهشة التي لا تفتأ على طول العهد ماثلة في أذهاننا هي أن شئون الحياة العادية ظلت تجري في مجراها بطريقة لا نعرف كنهها خلال الاضطراب الناشئ من الحرب الأهلية والفتن الحماء، وأخطار ذلك العهد وأهواله، فقد ظللنا كسابق عهدنا نعمل وندرس ونأكل وننام ونقرأ ونضحك ونعقد صداقات جديدة، بل بلغ من أمرنا أننا كنا نضع الخطط للمستقبل؛ ذلك أن الاضطراب أصبح في تلك الأيام من الأمور الطبيعية المألوفة، بل إنه كاد يصبح طريقة من طرائق الحياة، لقد كان هذا الاضطراب عنصرا جديدا من عناصر الحياة اليومية الرتيبة.
وسبب ذلك أن الحياة - أي إرادة البقاء وعادة البقاء - كانت أقوى من أعمال العنف ذاتها.
كانت البرقية التي جاءت إلينا من ألكسندروفسك بتوقيع عمتي شورا، وكانت تسألنا فيها هل جاءنا عم بطرس لسبب ما؟ وأبرق أبي في الحال أنه ليس عندنا، ثم جاءتنا بعد بضعة أيام رسالة تقول: إن عمى بطرس قد وجد ميتا مقتولا، وإن حضورنا جنازته إن استطعنا قد يخفف من وقع المأساة على الكبار من أفراد الأسرة.
وسافر أبي من فوره وإن كان قليل الرجاء في أن يصل إلى ألكسندروفسك قبل موعد الجنازة، وقرر بعد أن استشار والدتي في الأمر أن يأخذني أنا وكوتيا معه، فقد يكون منظر الحفيدين الصغيرين القويي الجسم المفتولي العضلات بلسما لجراح الأبوين الثاكلين.
ولم يشترك بطرس في اضطرابات الثورة؛ لأن شئونها كلها كانت تسبب له الملل والضيق، وكان يخيل إليه أنها تقطع على الناس حياتهم، وهي حياة في وسعهم أن يجعلوها على قصرها سارة هنيئة إذا امتنعوا عن العبث بها ومحاولة إصلاحها، ولما عاد من ميدان القتال خلع حلته العسكرية وحصل على منصب مدير لمصرف صغير في ألكسندروفسك، ولم نكن ندري حين ركبنا القطار كيف قضى الرجل نحبه.
وكان القطار مزدحما بالركاب حتى كاد يختنق بهم، فقد كان آلاف الآلاف من الناس وقتئذ - أو لعلنا قد خيل إلينا أن آلاف الآلاف منهم - يسافرون فارين من نار إلى نار لينجوا بأنفسهم من أتون الثورة القومية المشتعل في جميع أنحاء البلاد، وكانوا تارة يبتعدون عن الانتقام بضع خطوات، وتارة أخرى يندفعون إليه ليتعجلوه، ولم يكن في القطار شبر واحد خاليا من الركاب والأمتعة، فقد كان الناس يجلسون على رفوف النوم العليا تصطدم أحذيتهم الموحلة وأقدامهم الملفوفة بالخرق البالية بأرجل من تحتهم من الآدميين، وكان جو القطار ثقيلا مليئا بالرائحة الكريهة.
ولما وصل محطة سلافجو رود ذهبت إلى دورة المياه لآتي بقليل من الماء، فلما عدت رأيت رجلا واقفا بباب العربة يحمل في يده مسدسا من طراز موزر، فراعني هذا المنظر وصحت قائلا: «بابا»، فرد علي الرجل بقوله: «لعن الله أباك! ادخل إلى العربة وأمسك عن الصياح، وإلا أرديتك قتيلا.»
وبدأ القطار يتحرك ساعة أن اتخذت طريقي إلى جانب أبي، ورأيت الركاب جميعهم وقد رفعوا أيديهم فوق رءوسهم، وأخذ الأطفال يبكون من الخوف بأصوات خافتة، ووقفت عند كل من طرفي العربة شرذمة من الرجال المسلحين، وأخذت شراذم أخرى تجمع النقود والبضائع القيمة من ركاب العربة جزءا جزءا بطريقة منظمة حتى وصلت إلى الجزء الذي كنا فيه.
وصاح أحد أفراد العصابة في وجه أبي بصوت الآمر المغيظ: «أي شيء معك؟ هاته!»
فأجابه أبي وهو هادئ يبتسم: «أي شيء معي؟ إن معي ساعة وقليلا من النقود الصغيرة وولدي.»
ولما تم للصوص مغنمهم هدأ سير القطار مرة أخرى وقفزوا منه، وانبعثت طلقات نارية من بعض العربات، وشاهدت أحد اللصوص يقف كأن الطلقات أدهشته، ثم يسقط من مكانه ببطء، وقتل أحد الركاب لصا آخر قبل أن ينزل من القطار، وكان جسمه لا يزال معلقا به حين وصلنا إلى مستقرنا، وما من شك في أن الذين هجموا على القطار في هذه المرة لم يكونوا رجالا دربوا على هذا العمل من قبل، وإلا لما حدث لهم ما حدث.
ولم أكد أعرف ألكسندروفسك حين أقبلت عليها، فقد زال عنها في هذين العامين ما كان لها من سحر وفتنة، وذهبت أناقتها وأفسدها «كر الغداة ومر العشي». ورأيت محطتها مهجورة خالية، ومصابيح شوارعها محطمة، وحتى الثلوج التي تكسو أرضها قد علتها الأقذار، ولما سأل أبي أحد الناس: «أية طائفة تتولى الحكم؟» هز الرجل الغريب كتفه مشمئزا، وتمتم قائلا: «علم ذلك عند الشيطان!»
وخيل إلي أن البيت الذي قضيت فيه أسعد أعوام طفولتي قد انكمش وتقادم عهده بين يوم وليلة. ووصلنا المدينة متأخرين عن موعد الجنازة فلم نشترك فيها؛ وذلك لأنا لم نتسلم رسالة شورا في الوقت المناسب، ورأيتها تخيط شيئا في ركن من أركان الدار، وقد احمرت عيناها وجرى الدمع على خديها، وعانقتنا جدتي نتاليا مكسمفنا، وحاولت أن تبتسم كسالف عادتها، ولكن بريق عينيها قد زال عنهما إلى غير رجعة، ولم تستطع أن تتملك عواطفها أكثر من بضع لحظات، ثم أخذت تولول وتنظر إلى المصباح الموقد تحت الصورة المقدسة، وترسم علامة الصليب على صدرها المرة بعد المرة. «إن بيتيا عمك الصالح يا فيتيا لن يعود إليك أبدا! لقد ذهب ولدي الصغير بيتيا إلى غير رجعة، رباه لقد قتلوه ولن يعود إلينا أبدا.»
وجلس فيودور بنتليفتش عند نهاية المنضدة ولم يلق بالا إلينا، وكان من أصعب الأشياء أن أصدق أن هذا الرجل هو جدي الوقور القوي، فقد تبدل كأن شيئا من داخل جسمه ذاب وتركه جسدا مترهلا وعظاما نخرة، ثم نظر إلينا بعد هنيهة، وهز رأسه بالتحية، وقام من مكانه على مهل.
وقال وقد ملئ صدره حقدا: «ها قد وقع يا أندراي ما كنت تنتظره! ها هي ذي ثورتك الحبيبة إلى قلبك! ها هم أولاء يقتتلون ويتبادلون إطلاق الرصاص، ويسرق بعضهم بعضا، ويعذبون الجماهير بالجوع والبرد! وها أنت ذا لا ترى ثورة بل ترى اغتيالا وجرائم.»
وعلا صوته من شدة الحزن والغضب، وصاح وهو يقبض على كتفي أبي ويهزهما هزا: «ويل لأبناء الكلاب! لم قتلوا بطرسا؟ وبأي ذنب قتلوه؟ إن الألمان لم يقتلونا ولم يفعلوا بنا ما يفعله إخواننا الروس. شكرا لك يا أندراي، شكرا لك على ثورتك الحبيبة إلى قلبك.»
وأطرق أبي برأسه وظل صامتا لا يحير جوابا، فقد رأى ألا جدوى في الألفاظ والشروح، وأبصرت أسرة فيودور بنتليفتش عميدها يبكي أمامها لأول مرة، وبللت الدموع لحيته البيضاء وعلقت بها، وسار متباطئا إلى ركن الدار الذي علقت فيه الصور المقدسة، وقد زايله انتصاب قامته العسكري وخر راكعا وقال: «اهد اللهم عبيدك الضالين، ولا تسلط الأخ على أخيه والابن على أبيه، ورد على عبيدك عقولهم ونجهم من الهلاك.»
ثم قام بعد أن هدأ روعه، ومسح الدموع عن خديه، وقال: «لعل الله يغفر لك يا أندراي كما يغفر لك أبوك.» ثم التفت إلى زوجته وقال: «أطعمي الأطفال وأنيميهم.»
وأخذت شورا بعدئذ تحدثنا عن موت أخيها وهي تبكي وتنتحب؛ فقالت: إنه لم يعد من المصرف في ليلة من الليالي، فظنت أنه ربما قرر لسبب ما أن يزورنا في إيكترنوسلاف، ومن أجل ذلك بعثت إلينا بالبرقية التي جاءتنا، وبعد أربعة أيام من تغيبه وجد أحد الفلاحين جثته بالقرب من إحدى الطرق على بعد من المدينة، وقد دس منديل في فمه، وشدت يداه خلف ظهره، واخترقت عدة رصاصات رأسه، وأخذت منه مفاتيح المصرف التي كان يحتفظ بها معه عادة.
وعادت شورا تندبه قائلة: «لقد سكت قلبه ولكن ساعته كانت لا تزال تدق، الساعة التي تملأ كل خمسة أيام، والتي كان بيتيا يفخر بها.»
ولعل سبب مقتله أن جماعة من اللصوص أرادوا أن يسرقوا أموال المصرف، فاغتصبوا مفاتيحه من بطرس، ثم بدا لهم أن يقتلوه ليتخلصوا من شاهد عليهم، وربما كانوا ممن يعرفهم عمي، ولعلهم بعدئذ خارت عزيمتهم، فلم ينفذوا ما أرادوا من السرقة.
وعدنا إلى بلدنا محزونين تتشعبنا الهموم، ولم يفق جدي من أثر الكارثة التي حلت به من جراء موت ابنه الأصغر، فقضى نحبه بعد أشهر قليلة، ولحقت به زوجته بعد زمن قصير.
كانت ضيعة إلين بالقرب من كربينو على نهر الدنيبر من أغنى الضياع وأكثرها جمالا في ذلك الإقليم، فقد كانت تضم آلافا مؤلفة من الأفدنة الخصبة التربة تنتج القمح، ومساحات واسعة من أرض الكلأ والغابات وبساتين الفاكهة، كما كان فيها كثير من الإصطبلات ومصانع الألبان الواسعة، وكانت تخترقها الطرقات المرصوفة بالحصباء، تظللها الأشجار، وتلتقي عند القصر العظيم الذي كان يسكنه أصحاب الضيعة في غابر الأيام، وينعمون فيه بمباهج الحياة، وكان النهر في تلك البقعة بخلع على الضيعة شيئا من هدوئه وجلاله، فقد كان يشق طريقه أسفل الصخور الصلدة الوعرة، وكأن الطبيعة قد أجهدت نفسها لتخلع على هذا الركن من أركان الريف كل ما فيها من تباين، وتكسوه حلة من الجمال لا يكاد يوجد لها مثيل.
فلما قامت الثورة قسمت معظم الأراضي على الزراع الذين كانوا يعملون فيها، ولكن قلب الضيعة نفسها، ويشمل خمسمائة فدان من الأرض المنزرعة، والبستان العظيم، وبركة لتربية السمك، وقصر إلين نفسه وغيره من الأبنية؛ كل هذه قد جعلت في بداية عام 1919م مزرعة تعاونية لصناع المدينة، واستقرت فيها نحو مائة أسرة جيء بها من إيكترنوسلاف، وكانوا يطلقون عليها اسم النبات، وهي كلمة روسية معناها «قرع الأجراس».
وكان آل كرافتشنكو من بين هذه الأسر، وبقينا أربع سنين أو نحوها حتى بلغت السابعة عشرة من عمري نتخذ المزرعة التعاونية موطنا لنا، والحق أن أبي كان من الذين وضعوا أساس هذا المشروع، وهو الذي جاء إليها بعدد كبير من عمال المصنع الذي كان يعمل فيه، وحبذ سوفيت الإقليم هذه الفكرة وقسم الأرض، وأمد الوافدين ببعض ما يحتاجونه من الأدوات والماشية زيادة على ما كان باقيا منها في الضيعة القديمة.
أما في المدينة نفسها فقد كاد الإنتاج أن يقف لقلة المواد الغفل، وعز الطعام حتى أصبحت تهددها المجاعة، وأخذ الناس يهاجرون إلى الريف لعلهم يجدون فيه ما يرد عنهم غائلة الجوع، وكانت المجاعة الروحية هي الأخرى من أسباب هذه الهجرة، فقد كان بعض المهاجرين يتوقون لأن يحققوا في إحدى المزارع التعاونية ولو قليلا من الأحلام التي كانت تتراءى لهم في سني حماستهم الأولى للثورة، وكانوا يأملون أن يكون «قرع الأجراس» نذيرا يذكر الناس بالمثل الأعلى للأخوة الذي نسوه في غمرة نزاعهم واقتتالهم، حين أخذ الشيوعيون يستعينون بالجاسوسية للقبض على الناس جماعات، وإعدامهم رميا بالرصاص لأتفه الأسباب.
ودعي والدي أكثر من مرة للانضمام إلى الحزب الشيوعي، ولكنه لم يلب الدعوة، وكان يقول في شيء من الغلظة إن معدته لا تهضم الطغيان والإرهاب وإن استظلا بالراية الحمراء، ورأى رجالا من المال ومن أرباب الفكر ممن ظلوا طوال حياتهم بمنأى عن النزاع مع القيصر ينضمون إلى الحزب الشيوعي بعد أن بدا لهم أن السلطة الدائمة ستئول إليه، ووضع بعضهم لأنفسهم سيرا ثورية خيالية، ولكن هذا كله لم يفد إلا في تقوية عزيمته على أن يبقى مجاهدا حرا في الكفاح لإصلاح شئون العالم.
وجاء صناع المدن إلى المزرعة ممتلئين غيرة وحماسة، بلغت حد الاستخفاف بالأخطار، وكان همهم الأول بطبيعة الحال أن ينتجوا القوت ليطعموا منه أهلهم، ولكنهم كانوا يريدون فوق ذلك أن يبرروا بإنتاجهم تضحيتهم الأولى في سبيل القضية السياسية، وكان الزراع الأولون من أهل مزرعة إلين وما جاورها يسخرون من صناع المدن المنعمين الذين انقلبوا زراعا ، ويقولون هازئين: «سنرى الآن كيف يفلح الشيوعيون أرضنا.»
وكانت سخريتهم اللاذعة صادرة من قلوب طيبة، ومنطوية على صداقة ساذجة، كما كان الكثيرون منهم يأتون إلينا ليرشدونا ويقدموا لنا المعونة في كل عمل من أعمالنا الزراعية، ولم يظهر هؤلاء الفلاحون تبرمهم من هذه التجربة، بل كانوا يأخذون الزراع الجدد في كنفهم ويبسطون عليهم شيئا من الرعاية غير الرسمية، ويرعون لهم حق الجوار، وكثيرا ما كانوا يأتون إليهم حين تشتد الحاجة إلى الأيدي العاملة، ويمدون لهم يد المساعدة؛ ولهذا كانت السنة الأولى سنة رخية ناجحة بفضل هذه المعونة، وبفضل الخبراء الزراعيين الذين جاءوا من مدرسة إرستفكا الذائعة الصيت، وإن لم تكن هذه المدرسة قريبة من المزرعة التعاونية.
وكانت حياة الشبان في هذه المزرعة مليئة بكل ما يدعو إلى النشاط ويستثير المشاعر، وأحببت أنا العمل وحياة الريف وشعور الزمالة مع رفاق مثلي. وقلق آباؤنا من جراء إهمال تعليمنا، وحاولوا أن يعوضونا عن ذلك الإهمال بشيء من التعليم الناقص، ولكن أحدا منا لم يكن يشاركهم في فزعهم هذا، وكنا نقضي الفترات القصيرة التي نخلو فيها من عملنا المجهد في السباحة وصيد السمك والتجديف والألعاب الرياضية وارتياد الأقاليم المجاورة لنا، ووجدت أن المجال واسعا لإشباع حبي للخيل، وهو حب متأصل في كأنه جاء معي إلى العالم من يوم ولدت. وكان يسرني أن أقدم المعونة إلى جراشف سائس الخيل في المزرعة، كما كانت حياة الزراع تستهويني، فاتخذت منهم أصدقاء لي أقضي في بيوتهم كثيرا من الليالي مع من كان من أبنائهم وبناتهم في مثل سني.
ولم تكن الحرب الأهلية بعيدة عنا بطبيعة الحال، وكم من مرة سببت الاضطراب لحياتنا، وكم من مرة أوشكت أن تمحو مزرعتنا التعاونية من الوجود، ولشد ما كنت أنا وقنسطنطين نفخر بأنا قد كبرنا وأصبح في مقدورنا أن نشترك في الوحدات المسلحة التي أنشأها أبي وغيره من الزعماء للدفاع عن مزرعتنا، بل إن أخي الأصغر أوجين نفسه قد تعلم وقتئذ استخدام الأسلحة النارية، وكانت هذه القرية مسرحا للمعارك بيننا وبين المغيرين من الحمر أو البيض أو العصابات الأخرى التي لا لون لها من قطاع الطرق، الذين كانوا يغيرون على المزرعة يطلبون الطعام والغطاء والخيل نفسها في بعض الأحيان، وكان التظاهر بالقوة مضافا إلى استعدادنا لأن نقتسم مع الوافدين ما نستطيع الاستغناء عنه من مواردنا سببا في نجاة المزرعة من هجمات كبريات العصابات النهابة الجوالة.
ومن حوادث ذلك الوقت حادثة لا تمحى أبدا من ذاكرتي، فقد كنت في صباح أحد الأيام أرعى الخيل على نشز من الأرض استطعت بفضله أن أرى الحادث الذي أصفه للقراء واضحا أمامي كأني أرقبه على شاشة في دار خيالة. خرج جماعة من الفرسان تبلغ عدتهم حوالي ثلاثمائة معظمهم من القوزاق وغيرهم من الروس البيض، خرجوا فجأة من الطريق الرئيسي يركضون فوق حقول القمح متجهين نحو النهر، وجاءت في إثرهم جماعة أخرى من الحمر أكثر منهم عددا تطاردهم مطاردة عنيفة. وضيق الحمر الخناق على البيض فلم يجد هؤلاء سبيلا للنجاة إلا بالاندفاع إلى ماء النهر من فوق الجرف الصخري، وحاولوا أن يعبروا النهر سباحة ولكن مطارديهم نصبوا مدافعهم الرشاشة على حافة الأجراف الصخرية وحصدوهم عن آخرهم.
وتكررت هذه الحادثة بجميع تفاصيلها تقريبا بعد شهر واحد من ذلك التاريخ أو أقل، مع فارق واحد، وهو أن الحمر في هذه المرة هم الذين دفعوا إلى النهر من فوق الأجراف الصخرية، وأنهم هم الذين قتلوا واحدا بعد واحد حين كانوا يحاولون العبور إلى الشاطئ الآخر، وألفنا نحن رؤية أجسام الموتى تقذفها المياه إلى أرض الضيعة أو قريبا منها حتى لم نعد نذكر هذه الحوادث.
وحدث مرة بعد الحصاد الأول في ليلة من ليالي الخريف قبل أن يخيم الظلام أن كنت أنا وجراشف في أحد الإصطبلات، فأقبلت نحونا عربة من عربات الزراع يجرها جوادان وفيها أربعة رجال وامرأة، وكان الركاب والخيل جميعهم يكسوهم العثير ويتصبب منهم العرق، ونصب في مؤخر العربة مدفع رشاش، وكانت المرأة في نحو الثلاثين من عمرها وعلى شيء من الجمال، وكانت تعلق على ملابسها شارة الممرضات، أما الرجال فكان أحدهم يلبس ملابس المدنيين، واثنان منهم يرتديان الزي الرسمي للتشيكا وهم رجال الشرطة السوفيتية السرية الرهيبة، التي أصبحت تقذف الرعب في القلوب، ولما يمض على إنشائها إلا وقت قصير، وأما الرابع فكان رجلا بدينا غليظا يرتدي زي البحارة.
وعرفنا الرجل المدني بنفسه فقال إنه ليهومانوف، وهو نفس ليهومانوف الذي أصبح فيما بعد رئيس لجنة إيكترنوسلاف الإقليمية، وصاحب الأمر والنهي في ذلك الإقليم. وقال لنا إن سرية من البيض تتعقبهم، وإنهم في حاجة إلى خيل جدد تمكنهم من الهرب، وقال: إن الوقت لا يسمح لهم بأن ينتظروا حتى نستشير أحدا، وإن في وسعنا إن كنا نريد أن نسترد خيلنا أن نصبحهم إلى كمسكوى.
ورضينا بهذه الخطة، وسرعان ما كنا نحن السبعة في العربة نسوط الخيل ونندفع في الطريق مسرعين حتى لم يكن في وسعنا أن نتبين ما كان ملقى على الجانبين من جثث الموتى التي ظنناها حجارة وأنقاضا، وحدثنا ليهومانوف عنها فقال إن معظمها من جثث الحرس الأحمر، وإن واقعة حربية عنيفة حدثت في ذلك المكان في الأيام القليلة الماضية.
وكان البحار يصيح من حين إلى حين قائلا: «سنأخذ حقنا من أولئك الأنذال، سنقطع حواصلهم أبناء الكلاب.»
ولم تحدث لنا حوادث غير مستحبة حتى اجتزنا قرية أولي، وبدأت أظن أن معظم الخطر الذي كنا نريد النجاة منه خطر موهوم، فلما أن اجتزنا أولي انثنينا إلى طريق مجاور للنهر، ولم نكد نسير في هذا الطريق عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة على الأكثر، حتى طرق أسماعنا دق الطبول وركض خيل مقبلة من خلفنا، وأدركنا أن نحو اثني عشر رجلا كانوا يقتفون أثرنا، وكان في وسعنا أن نسمع صراخهم دون أن نتبين أقوالهم، وعرفنا من هذا الصراخ أنهم يأمروننا بالوقوف، وقفز بحارنا من مقعده إلى جانب المدفع الرشاش وهو يسب ويلعن، وأخذ يطلق منه الرصاص، وشاهدنا بعض من كانوا يطاردوننا يهوون عن ظهور الجياد، وأكبر الظن أن الذين بقوا منهم على قيد الحياة قد كفوا عن مطاردتنا.
ووصلنا كمنسكوى في تلك الليلة، ونزلنا في بيت صغير اتضح لنا أن من فيه يعرفون ليهومانوف، وكان مما قاله لي: «ستنام الليلة مع الممرضة في حجرة واحدة، فأنت لا تزال طفلا.» واختص جراشف والبحار بحجرة أخرى مجاورة لحجرتنا، واتفقا على أن يتناوبا حراسة العربية والجوادين، وخرجت من الحجرة بعض الوقت لأتيح للممرضة أن تأوي إلى الفراش، ثم عدت إليها وخلعت ملابسي في الظلام، ولم ألبث إلا قليلا حتى استغرقت في النوم.
واستيقظت من نومي بعد بضع ساعات كما أظن على أصوات مهتاجة وجلبة شديدة طردت الرقاد من عيني، فسمعت الممرضة تصرخ بصوت مختنق ونغمة هستيرية: «دعني أبها الوحش، وإلا أيقظت كل من في البيت! اخرج من هنا لساعتك!» وكان يتسرب إلى الحجرة من ضوء القمر ما يكفي لأن أتبين بحارنا مرتديا نصف ملابسه، وقد انقلبت سحنته من أثر هياجه، وهو يحاول أن يغتصب الممرضة، وكانت هي تقاومه بكل ما فيها من قوة، وقد انتفش شعرها، وتعرى ثدياها حيث مزق قميصها.
وما أن رآني البحار أجلس في فراشي حتى خلى سبيلها وخرج مسرعا من الحجرة وهو يسب ويلعن، وأغلق الباب من ورائه بدوي شديد، وسمعته يتمتم قائلا: «أيها المزارع القذر!» أما الممرضة فأخذت تبكي وتنتحب.
وقالت والعبرات تكاد تخنقها: «أولئك القوم، أولئك القوم الغلاظ، أولئك هم الذين تقوم على أكتافهم الثورة.»
وعرضت عليها وأنا مضطرب مثلها أن أدعو ليهومانوف وسائر من معه.
فأجابت بقولها: «لا، خير لنا ألا نضايق ليهومانوف، فحسبه ما هو فيه، إنه من خيار القوم، وهو رجل من ذوي المثل العليا حقا.»
ولم ننم في تلك الليلة بعد هذه الحادثة، بل ظللنا نتحدث - أو بعبارة أصح ظلت هي تتحدث وأنا أستمع إليها - حتى طلع الفجر، وكان مما قالته لي أنها ابنة أحد كبار الموظفين في حكومة القيصر، وأضافت إلى ذلك قولها: «ولما شبت الثورة احتضنتها وألقيت بنفسي في تيارها؛ لأني كنت طول حياتي أحب عامة الشعب وأتوق إلى مساعدتهم، ومن أجلهم قطعت صلتي بأسرتي، وذهبت إلى مدرسة الطب في خاركوف، أتلقى فيها دروسا في التمريض، وأنا الآن في جماعة التشيكا - الشرطة السرية - وأنا أبغض الشيء الكثير من فعالهم، ولكني أعمل في مداواة الجراح لا في التقتيل.
وينبغي لنا ألا نفقد الأمل أو نتخلى عن الكفاح منضمين إلى الآلاف من أشراف الناس أمثال ليهومانوف، وإن وجد بيننا أولئك الطعام والوحوش أمثال ذلك الرجل الذي هجم علي في هذه الليلة، وإنك لتجد في مقابل هذه الحادثة القذرة مائة من حوادث الشهامة والبطولة.»
ثم أسرت إلي بأن ذلك الرجل الذي هم بها لم يكن بحارا بحق، فهو قد عثر على حلة البحارة في مكان ما، ولبسها لأنها ترفع من شأنه في أعين الثوار.
ولما عدت أنا وجراشف على ظهري جوادينا إلى ضيعتنا في صباح ذلك اليوم حدثته بما وقع في أثناء الليل، وكان هو صانعا بسيطا لا يفهم إلا القليل مما يحدث في البلاد، ولكن أسبابا قوية أعادت إلى ذاكرتي في السنين التالية ما قاله لي وقتئذ: «نعم، يا فيتيا، لقد كانت تلك الممرضة على حق فيما قالته، إن في الثورة كما في كل شيء سواها ما هو خير وما هو شر، ولكن المسألة هي هذه: أي الطائفتين سيكون لها الغلبة حين تهدأ الثورة وتستقر الأمور، طائفة الأشراف أو طائفة الوحوش؟ أتكون الغلبة لأمثال ليهومانوف أم لأمثال البحار الزائف؟»
والآن ونحن نسير على مهل، كان في وسعنا أن نشاهد الجثث التي مررنا بها في مساء اليوم الماضي، وكنا نرى في بعض الأماكن تلالا من الأرض قد كومت حديثا، ودفن فيها الفلاحون أهل تلك الجهات بعض الموتى، وكان كثير من أجسام الموتى عاريا، وقل منهم من كانت في أرجلهم أحذية، فقد كانوا يجردون من ملابسهم ليكتسي بها الأحياء.
وأدخلت أنا وقنسطنطين في مدرسة إرستفكا الزراعية في كمسرفكا في أواخر فصل الحصاد الثاني، أي في خريف عام 1920م.
وكان هذا المعهد قد أنشأه في الجيل الذي قبل الثورة رجل من كبار الملاك في ذلك الإقليم يدعى إرستس برودسكي، كما كان ينفق عليه بكرم وسخاء، واقتطع الأرض اللازمة له من ضيعته الخاصة، وأقام له أبنية فخمة على ربوة تشرف على بحيرة جميلة، وبنيت بعض ردهاته على طراز القصور الأوكرانية القديمة، وغطيت الجدران بصور من رسم كبار الفنانين الذائعي الصيت، ونقوش من الفسيفساء تصور موضوعات شعبية، وكان بالمعهد بطبيعة الحال أحدث ما اخترع من الآلات الزراعية.
وامتدت أيدي السالبين أكثر من مرة إلى المدرسة، فدمرت بعض مبانيها ومناماتها حتى أصبحت غير صالحة للانتفاع بها، ونهب أثاثها، وانتزعت بعض الكتل الخشبية من جدرانها وسقوفها لتتخذ وقودا، وتلفت الآلات الزراعية ولم تجد من يصلحها، وتشتتت معظم الماشية التي كانت في إرستفكا، وهي ماشية ذائعة الصيت نالت الجوائز في معارض ويانه وبراج.
لكن كثيرا من قدماء المدرسين ظلوا في أماكنهم، وانضم إليهم مدرسون جدد، ومن أجل ذلك تجمع في المعهد نحو ستمائة طالب وطالبة قدموا من جميع أنحاء الروسيا ليدرسوا فيه العلوم الزراعية الحديثة، ويدربوا على أعمالها، على الرغم من القحط الشامل ونقص الأدوات، وكانوا يستعينون على العيش بما تخرجه أراضي المعهد من الحاصلات، وألفت الصعاب المشتركة بين المدرسين والطلبة، وكانت المدرسة تحت إشراف السوفيت، ولكن السياسة لم يكن لها إلا شأن قليل في سير الدراسة، وكان المشرفون علينا يسلمون بأننا حين نهيئ أنفسنا لأن نستخرج من التربة الروسية أكبر ما يمكن استخراجه من الطعام وأحسنه لنطعم به الشعب الروسي، إنما نعمل كل ما تنتظره «الثورة» منا.
وكنت أنا وأخي وطالب ثالث يدعى فيودور من أهل توابسي نسكن معا في كوخ يمتلكه أحد الفلاحين في هذا الإقليم، وولى الشتاء مسرعا وأقبل الربيع، واستبدلت بالدروس في حجر الدراسة الزراعة العملية في أملاك المدرسة، وكانت هذه الفترة عظيمة الفائدة لي، وتبينت فيما بعد أنني أخذت منها أكثر مما كنت أتوقع وقتئذ، فقد كان القليل الذي تعلمته من العلوم الزراعية عظيم النفع لي في أيام الزراعة الجماعية.
وعز الطعام وأخذ الحصول عليه يزداد صعوبة يوما بعد يوم، وفقدت النقود قيمتها، وكان ما بقي من التجارة يجري بطريقة المقايضة البدائية، ولم يكن في وسعنا أن نحصل على شيء من المعونة من المزرعة التعاونية، بعد أن انقلبت فكرة المشروعات التعاونية الخلابة إلى تخاصم وتطاحن وأحقاد توغر الصدور، وشرع المقيمون فيها يهجرونها أفواجا أفواجا، وأخذ المدخر من الخبز ينقص تدريجا، حتى استلزم الأمر فرض أشد القيود على توزيعه، ولم يكن الفقر كما يبدو بشيرا صالحا بالعالم الجديد، ولو كان هذا العالم بقعة صغيرة كأرض المزرعة التعاونية، أرض قرع الأجراس.
لكن المتاعب لم تكن لتوهن عزيمة غلمان في أوائل العقد الثاني من عمرهم، أو تدخل الرعب في قلوبهم، فقد تعودنا أن نعيش على الكفاف، وأن نخرج للبحث عن الوجبة الثانية، ولم يكن ذلك ليكلفنا كبير مشقة، فقد كانت قطر السكك الحديدية بكمسرفكا في هذا الربيع غاصة بالجند الذاهبين إلى ميدان القتال، حيث كانت رحى الحرب تدور مع البولنديين.
ولم يكن علينا إلا أن نأخذ من الجند بعض طعامهم، وكان في وسع الرفاق الثلاثة الذين يسكنون معا في إرستفسكا أن يقوموا بهذا العمل على خير وجه.
فقد كنا في أيام العطلات، وفي أيام الدراسة إذا استطعنا أن نسترق منها بضع ساعات، كنا في هذه وتلك نقيم عند محطة السكك الحديدية «حانوت حلاقة متنقل للطلاب»، وكان هذا هو العنوان الذي كتبه كوتيا على لافتة كبيرة بخطه الجميل، ومن تحتها كتبت العبارات التي تكتب على أمثال هذا الحانوت: «حلاقة اللحى وقص الشعر، خدمة طيبة ممتازة، يدفع الأجر سلعا»، وتحت هذه العبارات كلها كان التوقيع الذي لم يخل من فكاهة ساذجة: «جماعة العمل الذي لا خير فيه».
وكان فيودور قد تعلم شيئا من هذه الصناعة في بعض أسفاره، فتولى هو حلاقة اللحى، وتوليت أنا وأخي قص الشعر، وكان من نصائح فيودور لنا: «لا يهمكم هذا العمل، فهو كحصاد الكلأ في المراعي، ضربات طويلة هينة ثم تسوية أعقاب الشعر بعدئذ.»
وتجمع الجند حول الشبان الحلاقين الهواة، وسخروا منهم ودفعوا لهم نظير إثخانهم بالجراح أجورا سخية كما يفعل خلق الله الكرام، وكثيرا ما كنا نعود إلى رفاقنا نحمل لهم الشيء الكثير من الخبز واللحم والخضر وغيرها من المأكولات ، وكثيرا ما كان حانوت الطلبة الحلاقين المتنقل يرفع علمه أيام الآحاد في سوق المدينة، ويكسب من وراء ذلك أجورا طيبة، وكان الفلاحون يؤجرونهم بيضا وبطاطس بل ودجاجا في بعض الأحيان.
وما لبث هذا الكنز الثمين أن نضب معينه، فلم يكن لدى أحد من الناس طعام يؤديه أجرا لقص شعره، وكانت نذر الجفاف الذي حل في عام 1921م غير خافية، وأدرك الفلاحون هذه النذر فغلوا أيديهم وقطبوا وجوههم، ولما لم نجد في المدرسة ما نأكله عدنا إلى المزرعة التعاونية، فوجدنا أن نار الحماسة التي كانت تضطرم في صدور أهلها قد خبت، وحل محلها قنوط هادئ مستكين، وهجرها معظم أهلها الأولين فلم يبق منهم إلا القليل، وحتى هؤلاء كان معظمهم يعمل في المصانع القريبة منها.
وكنت وقتئذ قد بلغت السادسة عشرة من عمري، وكان بكربينو على بعد بضعة أميال من «دق الأجراس» مصهر معادن صغير أتمرن فيه، والتحقت في هذه القرية صبيا أتمرن على العمل عند صانع أقفال، وكانت هذه أول مرة أؤدي فيها عملا جثمانيا شاقا أؤجر عليه، وأحسست وقتئذ بأني قد كبرت بحق آخر الأمر، حين كنت أعود إلى بيتي في ملابسي الملطخة بالزيت، رث الهيئة، مصدعا من شدة التعب.
وخبت نار الفتن الأهلية أو كادت، وأصبحت مجالس السوفيت هي المسيطرة على البلاد لا ينازعها في الأمر منازع، وجاء دعاة الحزب إلى المصنع أحيانا ليخطبوا فينا وقت الغداء أو بعد الفراغ من العمل، وكان الشباب ذكورا وإناثا يصغون إلى هؤلاء الدعاة ويعون أقوالهم، أما الكبار فلم يكونوا في الغالب يلتفتون إليهم، وبعثت خطبهم فينا نحن الشبان بعض الأمل في هذا الوقت العصيب وقت الشدة والقنوط، وكنا نتردد أحيانا على ناد للعمال تزينه صور مطبوعة للينين وتروتسكي وماركس وأنجل، وحكم مكتوبة بحروف بيضاء على قطع من النسيج الأحمر.
وكنت أنا أستمع بشوق إلى المحاضرات التي يلقيها علينا رجال من المراكز العامة، بل إني كنت أجرؤ أحيانا على إلقاء بعض الأسئلة، وزادتنا الصعاب العاجلة المحيطة بنا أملا في المستقبل الموعود، وكنت أنا شخصيا أتقلب بين نارين: نار الشكوك التي تحيط بي في منزلي، ونار التعطش إلى الإيمان القوي. وأدركت في تلك الأيام اعتراض أبي على وسائل العنف التي يلجأ إليها الشيوعيون، ولكن خيل إلى عقلي الفتي على مر الأيام أنه متزمت في فضائله فوق ما يجب، وأن مثاليته أصبحت لسبب ما مثالية «بالية» في غير أوانها.
وكنت أحيانا أسأله: «ولم لا تأتي إلى النادي وتستمع إلى المحاضرات؟» وذلك لأني كنت أتوق إلى أن أستدرجه معي إلى الحياة الجديدة.
فكان يجيبني بلهجة الآسف الحزين: «وماذا يستطيعون أن يقولوا لي؟ لقد نسيت أكثر مما يعرفون، لا يا ولدي أشكرك، ليست البيضة هي التي تعلم الدجاجة.»
وما أن حل صيف عام 1921م حتى بلغ القحط غايته، وصحب القحط ذلك الوباء الذي لا يفارقه أبدا وهو وباء التيفوس، وأهلك القحط والوباء ملايين الأرواح قبل أن ينقضي عهدهما الرهيب، فقد حل القحط بالبلاد في أبشع مظاهره بعد سني الحرب الطوال والنزاع الداخلي، وتركز في إقليم الفلجا ولكن آثاره الرهيبة امتدت إلى ما وراء الدنيبر، وكان أشد الأقاليم قحطا بوجه عام أشدها انهماكا في الحرب الأهلية، كأن الأرض هي الأخرى قد جشأت لكثرة ما طعمت من الدماء.
وليس في مقدور الكاتب مهما كان بليغا أن يصف ما عاناه الشعب من أهوال وآلام؛ فقد كان الناس ينظرون إلى كل شيء حي - من خيل وكلاب وقطط وغيرها من الحيوانات المدللة - بعيون نهمة يائسة، وماتت الحيوانات التي لم تذبح من شدة الجوع، وكان الناس يلتهمونها التهاما رغم تحذير السلطات الرسمية مما يتعرض له آكلوها من الوباء، وكانوا يقشرون لحاء الأشجار ويغلونها ليتخذوا منها «شايا» و«حساء»، ويمضغون الجلد غير المدبوغ ليقتاتوا به، وانتزع من الحقول كل ما كان فيها من بقايا النبات والكلأ، وانتشرت الشائعات بأن الناس أخذوا يأكلون موتاهم، ويحزننا أن نقول: إن معظمها كان صادقا، فقد عرفت أنا نفسي حوادث من هذا القبيل في رومنكوفا وأولي وبنكوفا وغيرها من القرى المجاورة.
وأصبحت مناظر الموتى - الموتى المنتفخين البشعين - من المناظر المألوفة في حياة الناس، وشغل كل منا بنفسه وبحرصه على أسباب حياته، فلم يكن يلاحظ غيره من الناس أو يعنى بهم في سريرة نفسه أقل العناية. وأخذ الصالحون من الناس الذين لم يكونوا في الظروف المادية يطيقون رؤية آلام الغير؛ أخذ هؤلاء يخفون الطعام ليطيلوا حياتهم بضعة أسابيع أو شهور، دون أن يفكروا في جيرتهم الذين كانت تنتفخ بطونهم ويموتون حولهم من فرط الجوع.
وكنت أنا قويا سليم الجسم لا أحتاج إلا للقليل من الطعام والشراب ليحفظا علي حياتي، فركبت القطار مع غلام آخر في الضيعة يدعى سينا وذهبنا شمالا إلى إقليم بلطوا؛ لنبحث عن الطعام، وأخذنا معنا كل ما يمكن أن يستبدل به الطعام، من ملابس قديمة، وملاعق من فضة، ومجوهرات من أنواع مختلفة لم تعد لها قيمة، وفرشات وغيرها من الأدوات المنزلية؛ ذلك أن النقود أضحت في تلك الأيام عديمة النفع، أما البضائع فكان يمكن استبدال بعضها ببعض إذا واتى الإنسان الحظ.
ووصلنا بلدة بريلوكي بعد أيام قليلة وقررنا أن نجرب حظنا فيها، فوجدنا بها مئات غيرنا وفدوا إليها للغاية نفسها، واشتدت المنافسة بيننا، فوقفنا طوال اليوم في الأسواق نعرض بضاعتنا الهزيلة ونرجو الزراع أن يفحصوا هذه الكنوز، ولما حل المساء ذهبنا نجوس خلال القرى، ونتنقل من قرية إلى قرية، ومن بيت إلى بيت، يعيننا في عملنا أنا كنا كلانا صغيري السن، وأني كنت أستطيع أن أتحدث إلى الفلاحين بلغتهم الأوكرانية، وأخذنا في كل يوم نتخلص من بعض ما معنا، ونشهد أكياسنا تملأ سويقا ودقيقا وحمصا وفولا، ولم نكن نجد صعوبة في المبيت بمنازل الفلاحين، وخاصة إذا اتخذنا البنات اللاتي في مثل سننا وسيلة إلى هذه الغاية، وكان في وسع أولئك البنات أن يأتيننا بالملح والسكر وبعض الحبوب الزيتية واللحم المقدد وما إليها من مواد الترف نظير ما نقدمه لهن من الخواتم والحلى الرخيصة.
وكنت أنا وسينيا أسعد حالا من أي رجل من رجال المال استطاع أن يعقد صفقة بآلاف الريالات؛ وذلك أننا كنا نرد إلى أسرنا الحياة ونطيلها عدة شهور.
وركبنا القطار إلى موطننا وقد غص بالخلائق من رجال ونساء وأطفال كلهم عائدون إلى أقاليم المجاعة يحملون أكياسهم ولفافاتهم الثمينة، ولم نكن نجرؤ على إغماض أعيننا لئلا يسرق متاعنا، فلما أن وصلنا زنامنكا في ظلام الليل أقبل الجند وعمال السكك الحديدية وأمرونا بالخروج من عربة القطار، وتكدسنا في حجرة انتظار كانت قبل مجيئنا إليها غاصة بغيرنا من الخلائق البائسين، ولم يعرف واحد منا شيئا عن سبب إخراجنا منه وبقينا كلنا ننتظر وصول قطار آخر ونحن صابرون صبر العير، خلقه في نفوسنا طول العذاب وتبلد الحواس، فلما أقبل لم يستطع ركوبه إلا أقوى الناس أجساما وأسرعهم حركة وتخلفت عنه أنا وسينيا.
ولم يكن في حجرة الانتظار القذرة ضوء إلا فتائل زيتية، وكان الزحام شديدا، والناس مكدسين في الحجرة يسير بعضهم فوق بعض إذا أرادوا الذهاب إلى دورات المياه، والأطفال يصرخون في أماكن متفرقة من الحجرة والرضع يمتصون أثداء جافة خاوية، وكان في ركن من أركان الحجرة زوجان يتعانقان ولا يأبهان لنكات من حولهما من الناس.
ولكن الذي وجهت إليه أنظار من لا تزال لديهم بقية من حب الاستطلاع تحملهم على أن يوجهوا أنظارهم إلى شيء ما؛ منظر امرأة جاءها المخاض فأخذت تئن وتتوجع كما يتوجع الحيوان المصاب، ونحى النساء عنها من كان حولها من الناس، وجاء الرجال بدلاء الماء، ونسوا كفاحهم مع الجوع وهم يشاهدون حياة جديدة تخرج إلى العالم أمام أعينهم، وانبعث صراخ خافت من مولود جديد ينبئ أن المعجزة قد حدثت، وارتد الناس إلى ما كانوا فيه من شقاء.
ورأيت أم الطفل في الصباح مستلقية على أرض المحطة القذرة ووجهها أصفر لا أثر للدم فيه، وقد وضعت رأسها على كيس قذر أظهر هذا الوجه الشاحب في وضوح، وعلى صدرها المولود الجديد ملففا في خرق بالية؛ فرثيت لحالها، وأشفقت عليها، وتركت سينيا ليعنى بمتاعنا، ثم هرولت إلى القرية، وكان معي ثلاث روبلات فضية من العملة القيصرية، فجست خلالها نحو نصف ساعة كاملة، استطعت في خلالها أن أحصل على زجاجة صغيرة من اللبن الساخن، وملء صفحة خشبية صغيرة من حساء الخضر، فلما تقدمت بهاتين الهديتين ومعهما فوطة نظيفة إلى الشابة حدقت في ورمقتني بنظرة تنم عن اعترافها بالجميل، وعن أنها لا تكاد تصدق ناظريها.
وخاطبتني باللغة الأوكرانية قائلة: «شكرا لك أيها الشاب.» وكان لها عينان جميلتان في وجه بائس معذب، ثم واصلت حديثها قائلة: «ما اسمك؟»
فأجبتها: «فكتور أندريفتش.»
فقالت بصوت خافت ضعيف وهي تبتسم لأول مرة: «متعك الله بما تحب ووقاك من كل مكروه، سأسمي ابنتي فكتوريا حتى تذكر صنيعك هذا طول حياتها.»
وحدث وأنا عائد إلى سينيا في الطرف الآخر من الحجرة أن قام شاب وبش كان يرقب ما حدث، وصاح صيحة تنم عن الخبث والسفالة: «انظروا أيها الرفاق ها هو ذا أبو المولود!»
وكان أطول مني قامة بحيث لا يعلو رأسي عن كتفيه، عريض العظام، تبدو عليه مظاهر القوة والغلظة، ولكن الإنسان إذا غضب لا يحسب للعواقب حسابا، فاندفعت نحوه وضربته ضربة قوية، وما كان أشد دهشتي حين رأيته ملقى على الأرض، وعرف من لغط الحاضرين أنهم كانوا في صفي، فقام من فوق الأرض في هدوء، ومسح الدم الذي كان تحت أنفه، وعاد إلى حيث كان متاعه.
ولم يستقبل فاتح منتصر بأحسن مما استقبل به الشاب فكتور حين جاء إلى بيته، يرزح تحت عبء كيس من الطعام. وقمت في الشهور التالية بعدة رحلات في القطار وعلى ظهور الخيل، وكان صليب جدتي الذهبي آخر ما بعناه من كنوز الأسرة، فقد ظللنا محتفظين به طالما بقي لدينا شيء من الأمل بأنا نستطيع العيش دون أن نفرط فيه، ثم جاءنا العون بعد ذلك من أمريكا على يد جماعة الإخوان «الكويكريين»
1
وإدارة الإنقاذ الأمريكية التي أنشأها الرئيس هوفر وغيرهما من الجماعات، ولكن معظم هذه المساعدات كان يذهب إلى إقليم الفلجا، أما أوكرانيا فكانت على أبواب حصاد جديد، ثم عادت الحياة فيها ببطء إلى مجراها المألوف.
وعدت أنا إلى دكتي في حانوت صانع الأقفال في كربينو.
الفصل الرابع
الشباب في الجيش الأحمر
وجاء المحصول الجديد موفورا في صيف عام 1922م، وتجدد في صدور الناس أملهم في الحياة وحرصهم عليها، ودفنوا موتاهم وكانوا يعدون بالملايين، ولم يعد أحد منهم يذكر الكارثة التي حلت بالشعب كأنهم أخذوا على أنفسهم عهدا صامتا بألا يشيروا قط إليها، أو كأنها كابوس ليل لا يكادون يذكرونه إذا طلع النهار.
وحملت أشجار البستان في «دق الأجراس» حملا ثقيلا من الفاكهة، وامتلأت البركة سمكا، وهب النسيم من نهر دنيبر على حقول القمح يداعب سنابلها الذهبية، وعادت العذارى الأوكرانيات إلى الغناء جماعات في موسم الحصاد الجديد، ولشد ما اغتبطت لأني بلغت السابعة عشرة إلا قليلا، وقد خط شاربي، وأصبحت أستحي فجأة إذا شاهدت البنات، بعد أن لم أكن أعبأ بهن في الأمس القريب.
وصحت عزيمتي في هذا الوقت على أن أعمل في صناعة التعدين، ولعل لهذا صلة من نوع ما بهذا الفصل من حياتنا الزراعية الرخية الجديدة، فقد أصبحت أتحرق شوقا إلى أن أضرب بمعولي في باطن أمنا الأرض، وأن أبني على ظهرها وأتوسع، وما من شك في أن ما كنا نسمعه من المحاضرين في نادي كربينو لم يكن إلا عبارات عادية ليست بذات قيمة كبيرة، فهي لا تزيد على طائفة من القوانين يضعها الحزب الشيوعي ليستنهض بها همم العمال، ولكني كنت أرى في كل لفظة منها دعوة قوية إلى الجد والعمل.
وقال الخطيب ذات ليلة في مستهل الخريف: «أيها الرفاق، إن بلدنا في حاجة إلى الفحم وإلى المعادن وإلى الزيت وهي أعصاب الحياة في المستقبل، وأنا أدعو كل من كانت الثورة حبيبة إلى قلبه أن يذهب إلى المصانع والمناجم؛ ذلك أن جمهوريتنا السوفيتية في أشد الحاجة إلى أيدي الصناع القوية، فمناجم الفحم في حوض الدنتز مثلا تحتاج إلى الآلاف من الرجال.»
ونظرت إلى سينيا ونظر هو إلي، وأدرك كل منا أن صاحبه قد صحت عزيمته على ما صحت عليه عزيمة صديقه، وإن لم ينطق أحدنا بكلمة واحدة عن عزمه هذا.
ولما عدت إلى المنزل وأبلغت أهلي أني اعتزمت الذهاب إلى مناجم الفحم في حوض الدنتز حزن لذلك أبي وبكت أمي بكاء صامتا، وقالت لي: إني لا أزال غلاما وإني سأجد كثيرا من العمل ينتظرني في مستقبل الأيام، ولكنهما لم يحاولا قط أن يثنياني عن عزمي، وقضت أمي بضعة أيام تعد لي الثياب، ثم حزمتها وعلائم الحنو بادية على وجهها.
وأرسلنا إلى منجم من مناجم الفحم بالقرب من ألجفرفكا في إقليم ألشفسك، وكان هذا الإقليم من أقدم أقاليم الفحم في حوض الدنتز، ولكنهم أخذوا وقتئذ يوسعون دائرته كثيرا، وقضينا ليلتنا الأولى في ثكنات طويلة مظلمة، نام فيها مئات من الناس على أسرة من ألواح خشبية عارية، من طبقتين تعلو إحداهما الأخرى، وكانت الروائح الكريهة تنبعث من أجسام الناس المكدسة في الثكنات، ومن الطعام الفاسد والدخان الرديء، فلا نكاد نطيقها وأخذ بعض عمال المناجم القذرين يلعبون بأوراق قذرة، ويتبادلون أقبح الألفاظ في ضوء الفتائل الزيتية الخافت.
ولكن الغلامين القادمين من الدنيبر استغرقا في نوم عميق لما نالهما من التعب في أثناء سفرهما الطويل في قطار مزدحم بالركاب، فلما استيقظنا في الصباح لم نعثر لحقائب ملابسنا على أثر، فقد سرقت ونحن نائمان، ولم يبق لنا إلا الملابس القذرة التي سافرنا ونمنا وهي على جسمنا، وأخذنا نطوف بمحلة المعدنين، ولكن طوافنا لم يدخل السرور على قلبينا، فقد كانت هذه المحلة زقاقا طويلا قذرا تمتد على جانبيه أكواخ عتيقة وثكنات جديدة أقيمت في غير نظام، وكان يغمر المكان كله جو خانق من تراب الفحم، وسرعان ما خبت في صدرينا نار الحماسة التي كانت تتقد فيهما وتدفعنا إلى أن نقيم بأيدينا «صرح الاشتراكية»، وكان لا بد من أن تمضى أسابيع وأسابيع قبل أن يعود إلينا ما بدأنا به رحلتنا من غيرة وحماسة.
وأرسل سينيا إلى منجم في قلب إحدى غابات البلوط، أما أنا فكنت أتعس الناس حظا، فقد كان المتعلمون منا قليلين؛ ولذلك أصر أحد موظفي نقابة العمال على أن أعمل في مكتب من مكاتب الإدارة، وهكذا تكشفت الصورة التي رسمتها لنفسي، صورة رجل يضرب بمعوله ومصباح التعدين مشدود إلى جبهته، عن حقيقة لم أكن قط أتوقعها، وهي أن أقبض على قلم للكتابة وجداول للعد والحساب.
وقضينا الشهور الأولى في ثكنة من الثكنات الضخمة القذرة التي حشد فيها القادمون الجدد، ثم حصلنا بعدئذ على حجرة في أحد الأبنية الصغيرة التي يقيم فيها المعدنون القدامى أو الدائمون، وما كدت أتعود تراب الفحم وظروف الحياة البدائية حتى زال ما كان في هذه الحياة من ملل وسآمة، وأصبح فيها شيء من الحماسة والمتعة، فقد ألفيت نفسي فيما يكاد أن يكون قطاعا مستعرضا من الهيئات الاجتماعية التي تتألف منها الدولة السوفيتية، أو كأن نماذج قد أخذت من جميع هذه الهيئات وجيء بها كلها في ذلك المكان.
وكانت الكثرة الغالبة فيه تتألف من الروس والأوكرانيين بطبيعة الحال، ولكنه احتوى أيضا على التتار والأرمن والصينيين وأهل القفقاس الجبليين وقازاق من سهوب سيبيريا، وكان من هؤلاء عدد قليل جاءوا كما جئت أنا وسينيا ليعملوا جادين في تصنيع البلاد، وأكبوا على عملهم جادين بحماسة وغيرة وطنية، أما معظمهم فقد جاءوا لأن الأجور التي يتقاضونها أجور عالية إذا قيست إلى مستوى الأجور في قراهم؛ ولذلك فإن آلافا منهم لم يبقوا إلا ريثما يقتصدون من هذه الأجور ما يكفي لشراء بقرة أو حصان أو بناء بيت جديد.
ذلك أن أهم ما كانت تعنى به الإدارة في تلك الأيام هو رفع أجور العمال حتى تتجاوز كل حد معقول.
ولم تكن قلوب هذه الشعوب المختلفة تنطوي على شيء من الحب المتبادل، ولم يكونوا ينزعون إلى المعيشة متفرقين فحسب، بل كانوا يعملون أيضا متفرقين؛ فكان الشرقيون يعملون في أعمق المناجم وأكثرها مشقة، أما الروس والأوكرانيون فكانوا يقومون بالأعمال الهينة على أن الفروق التي كانت تفصل الطبقات كانت أوسع من الفواصل التي كانت تفرق بين الأجناس، فكانت «بقايا» الشعب القديم من أبناء التجار وملاك الأراضي والقساوسة والموظفين والضباط السابقين في العهد القديم والطلاب الأقدمين؛ كان هؤلاء جميعا يشعرون أنهم غرباء ويحقرون علنا ولا يكاد يطيقهم أحد.
وكانت حياة الثكنات حياة خشنة لا تخلو في كثير من الأحيان من القبح والفظاظة، كان الرجال يشربون الفدكا من الزجاجات، فإذا لعبت الخمر برءوسهم صرفوا نشاطهم في التطاحن والتلاكم، ومنهم من كان يقامر ويجادل بأعلى صوته في أسخف الموضوعات؛ ولقد أبصرت عمالا لا يخسرون في ألعاب الورق كل أجورهم فحسب، بل يخسرون معها آخر حذاء لهم، ويخسرون غطاءهم الذي لا غطاء لهم غيره، وكانت أندية العمال وفصول محو الأمية والمكتبات تجتذب إليها عددا قليلا من الصناع الذين طبعوا على الجد والتعقل.
وكان من أسباب متعتي أن أرقب ما يطرأ على صبيان الفلاحين من تطور؛ فقد كانوا يأتون خرقا سماجا واسعي الأعين ليتصلوا لأول مرة بالعالم الكبير خارج قراهم، وكانوا يحتذون نعالا من الأعشاب وسراويل واسعة من غزل منازلهم وصدريات قروية طويلة، وإذا شاهدوا «صعاليك» الصناع والغرباء العجبي الأطوار القادمين من أطراف الروسيا النائية دهشوا لمنظرهم وأخذ منهم العجب كل مأخذ.
ولكنهم سرعان ما كانوا يتبدلون إلى غير ما كانوا إن لم نقل إلى أحسن مما كانوا، فقد كان كثيرون منهم يعودون من المدن وعلى أجسامهم ملابس ابتاعوها من مخازنها، حليقي اللحى متعطرين، يحتذون أحذية جديدة ذات صرير جميل، ويطلبون إلى المصورين أن يصوروهم في زيهم الجديد الجميل ليدهشوا بصورهم أهلهم وذويهم، وكانوا يتبخترون في المحلة جماعات جماعات يمرحون ويصخبون على نغمات المزمار، ومنهم من كانت تجتذبهم النوادي وفصول مكافحة الأمية، وسرعان ما شرع هؤلاء «يأسون» لما كان عليه أصدقاؤهم من «تأخر» ونقص في «الثقافة» ويناقشون الشئون السياسية كأنهم ولدوا في غمرة السياسة من آباء سياسيين.
أما أنا فقد كان النادي محور حياتي بطبيعة الحال، وقد عاد إلي شغفي بالقراءة كاملا بعد أن قطعته الحرب الأهلية والمجاعة إلى حين، ولم أكن أنا وأمثالي نقنع بما في متناول أيدينا من كتب المكتبة، بل كان كل منا يستعير الكتب من الآخر، وكنت في كل مساء وفي أيام العطلات أدرس مناهج في الكيمياء والرياضيات والطبيعة أو أستمع إلى محاضرات فنية عن استخراج الفحم، وارتبطت أنا وسينيا برباط الصداقة مع فتيان وفتيات لا يقلون عنا شغفا بالعلم، وأكسبتني دراستي السابقة شيئا من النفوذ بين الشبان من العمال الممتازين بجدهم، وبين أبناء الكبار منهم.
وامتلأت أعمدة الصحف بالدعوة إلى حياة خير من حياة البلاد الأولى، وأخذت تنشر على الناس أن روسيا الفقيرة المتأخرة تسير في طريق الرقي، وأن الروس جميعا لم يبق أمامهم إلا أن يخرجوا فحما أكثر مما يخرجون، وينتجوا حبا أكثر مما ينتجون، وينالوا من الثقافة أكثر مما ينالون، وكنت أقرأ هذه الدعوة كأنها موجهة إلى شخصي، وكان هذا وذاك من كبار الزعماء الجدد أمثال بتروفسكي، وركوفسكي، بل ولونا تشرسكي نفسه يمرون بالإقليم الذي كنا نعمل فيه، فكنت أصغي لأحاديثهم فأشعر أني جزء من شيء جديد كبير مثير للعواطف، فقد عرفت منهم أن في قصر الكرملن بموسكو يجلس رجال لا نسميهم بأكثر من الرفاق - لينين وتروتسكي وزرزنسكي - ولكني كنت أعرف أنهم جبابرة.
وإذا رجعت بذاكرتي إلى تاريخي الخاص تحت لواء الشيوعية، فإني أميل إلى إرجاع تاريخ اعتناق مبادئها إلى الوقت الذي أقبل علينا فيه الرفيق لزريف، وألقى علينا سلسلة من المحاضرات عن الاشتراكية، وكان لزريف رجلا في نحو الثلاثين من العمر، ومن أعضاء هيئة التدريس بسفرولفسك، طويل القامة، نحيف الجسم، أنيق الملبس؛ وكان حديثه سهلا مقصورا على ألفاظه هو لا يلجأ فيه إلى عبارات ينقلها عن ماركس أو لينين، وكان أهم ما انطبع في ذهني منه أنه يلبس رباط رقبة؛ لأنه بذلك قوى حجة القائلين منا بأن في وسع الإنسان أن يكون مواطنا سوفيتيا صميما، وأن يبيح لنفسه مع ذلك بعض الكماليات التي هي من خصائص الطبقات الوسطى.
وكنت في أحد الأيام في المكتبة منهمكا في قراءة كتاب وإذا إنسان من خلفي يقول: «ماذا تقرأ؟ يهمني أن أعرف ذلك.»
فالتفت وإذا الذي يحدثني هو الرفيق لزريف.
فارتبكت ولكني أجبته وأنا أبتسم: «أحاديث الأب جيروم كوينارد لأناتول فرانس.»
فقال: «أصحيح هذا؟ أناتول فرانس! ولم لا تقرأ للكتاب الروس الأقدمين أو لأحد الكتاب السوفيت المعاصرين؟»
فأجبته: «إني أجد في أناتول فرانس أشياء كثيرة لا أجد لها نظيرا في مؤلفات كتاب السوفيت، فأناتول كاتب دقيق صريح، وأنا أقرأ للكتاب الروس الأقدمين، أما المؤلفون المحدثون فهم لا يكتبون إلا في السياسة، ويخيل إلي أنهم يتحاشون الكتابة عن الحياة الحقة المحيطة بنا.» - «شيء جميل، فلنبحث هذا في إحدى الليالي المقبلة، تعال إلى حجرتي لنتعارف.»
والتقيت به مرة أخرى بعد بضعة أيام في أثناء «دورة العمل»، وهي الدورة التي يؤتى فيها بمئات المتطوعين ليقوموا بعمل عاجل لا يتقاضون عليه أجرا، وكان العمل في هذه المرة نقل أكوام كبيرة من الفحم لإخلاء طريق عام، وكان الرفيق لزريف يرتدي ثياب العمل، يغطيها تراب الفحم، وفي يده مجرف يدفعه بنشاط عظيم، وحياني الرجل كأنه صديق لي قديم واغتبطت بذلك أيما اغتباط.
والتقيت به في تلك الليلة نفسها في المكتبة، وسألني عما كنت أقرؤه في ذلك الوقت فأجبته بأني أقرأ «ماذا تفعل؟» تأليف تشرتشفسكي.
فأومأ برأسه علامة على الاستحسان وقال: «هذا مؤلف عظيم الشأن.»
فأجبته: «أجل، وإن سؤاله الذي يقول ماذا تفعل ليحيرني الآن.» - «إنه سؤال قد تلقى الإجابة عنها ملايين الناس من لينين ومن ماركس قبل لينين، فهل قرأت لينين وماركس؟»
فأجبته: «قرأت أشياء قليلة متفرقة للينين، أما ماركس فلم أقرأ له شيئا، ولقد قرأت نشرات الحزب بطبيعة الحال، ولكني غير واثق من أن فيها إجابة وافية عن هذا السؤال: ماذا تفعل؟»
فتبسم الرفيق لزريف وقال: «تعال معي إلى حجرتي لنشرب قدحا من الشاي، ونتناول بعض المرطبات، ونتحدث دون أن نشوش على أحد.»
وكانت حجرة نظيفة ساطعة الضوء، فيها أريكة مغطاة بطنفسة جميلة، ومكتب صفت عليه كتب بين حاجزين بنظام جميل، وآنية ملونة تحتوي على أزهار ذات لون بهيج، وعلقت على أحد جدرانها عدة صور لأفراد أسرته، ومنها صورة له وهو غلام يرتدي حلة المدرسة العليا الرسمية، وعند قدميه كلب، ومنها أيضا صورة لأخت له حسناء وقد ارتدت هي الأخرى زي الطالبات ، وعلقت على جدار آخر وفي إطارين منفصلين صورتا لينين وماركس الشمسيتان، وبينهما صورة تولستوي المألوفة في شيخوخته، وعليه رداء الزراع الطويل، وإبهاماه مثبتتان في منطقته، وكانت هذه الصورة الأخيرة هي التي نفثت روح الحماسة في صدري، واستمالتني إلى المذهب الجديد.
وقلت وقتئذ في نفسي: «ليس هذا بحارا جلفا يهاجم ممرضة ليلا، إن في وسعي أن أتبع هذا الصنف من الشيوعيين.»
وقال لزريف يشرح ما كانت تحدثني به نفسي: «لما كنت مضطرا إلى الإقامة هنا عدة أشهر فقد حاولت أن أجعل هذا المكان شبيها بمنزلي.»
وظللنا نتحدث في تلك الليلة عدة ساعات عن الكتب وعن الحزب وعن مستقبل الروسيا، وقال لي لزريف: إن المكان اللائق بي هو أن أكون مع الأقلية الشيوعية التي يجب أن ترشد الناس وتهديهم، وإن من واجبي أن أنضم إلى لجان الشباب، ثم إلى الحزب نفسه بعدئذ، وأقر بطبيعة الحال أن الحزب ليس مبرأ من العيوب، ولعل في برنامجه بعض النقص، ولكنه قال: إن الرجال أجل شأنا من البرامج.
وواصل حديثه قائلا: «إذا كان أمثالك من الشبان النابهين ذوي المبادئ يترفعون عنا فأي أمل لنا في الإصلاح؟ لم لا تدنو منا أكثر مما دنوت، وتعمل معنا للقضية العامة؟ إن في وسعك أن تقدم المعونة لغيرك بأن تكون لهم مثلا يحتذى في الإخلاص لوطنك، انظر إلى الثكنات من حولك؛ تر المقامرة والأقذار والسكر والشره، حيث يجب أن تكون النظافة والكتب والنفوس الطاهرة، إن عليك أن تدرك أن أمامنا أعمالا عظيمة تحتاج إلى جهود جبارة، إن أمامنا أقذارا تراكمت على مر القرون لا بد لنا من إزالتها، إن علينا أن نجتث الماضي العتيق القذر من أصوله الضاربة في كل مكان، ونحن من أجل ذلك في حاجة إلى خير الرجال، إن من واجبنا يا فيتيا ألا نقنع باشتراكية صورية، بل علينا أن ندعم أركانها بحسن الخلق والتعليم وتهيئة أسباب البهجة والحياة السارة للجماهير.»
ولم تكن هذه أول مرة ألح علي فيها الشيوعيون بأن أنضم إليهم، ولكني أحسست فيها بصدى المبادئ التي كانت تمتلك علي نفسي في أثناء طفولتي تتردد بين جوانحي، وأخذت أحاجج الرفيق لزريف، ثم قلت له آخر الأمر: إني سأفكر في ذلك الموضوع، ولكني كنت في خبيئة نفسي متفقا معه فيما قاله، وكان رأيي قد استقر.
ولما سافر الرفيق لزريف إلى موسكو بعد بضعة أسابيع من ذلك الوقت كنت أنا مع الجمع الحاشد - من عمال المناجم وموظفي المكاتب وكبار رجال الإدارة - الذي اجتمع لوداعه في محطة السكك الحديدية.
ووجه إلي الحديث دون سائر الحاضرين وقال لي: «ها أنت ذا يا فيتيا، لقد ترامى إلي مصادفة أنك انضممت إلى لجان الشباب، لقد أحسنت صنعا! وأهنيك! ولكن لم لم تخبرني؟ لقد كان في وسعي أن أزكيك.» - «أعرف هذا وأشكرك، ولكني أردت أن أعتمد في هذا على نفسي، وألا أجعل لأحد يدا علي.»
فتبسم وقال: «قد تكون على حق، وها هي ذي هدية صغيرة ادخرتها لك خاصة.»
وكانت الهدية كتابا، ظننته أول الأمر من كتب لينين أو ماركس، واطلعت على اسم الكتاب وأنا عائد إلى منزلي، فإذا هو يحتوي على ثلاث روايات لشيكسبير، لقد كان لزريف الشيوعي المتحمس، والزعيم القوي العامل، يجمع في شخصه بين إنسانية تولستوي وحب الجمال الممثل في شيكسبير، وبين الإيمان بمبادئ ماركس ولينين، ترى هل يدوم هذا المزيج؟ وهل يعقد لواء النصر لمن هم على شاكلة لزريف؟
والآن أصبحت لحياتي رسالة تؤديها، وغرض تهدف إليه، واتسعت آفاقها، وكأني نذرتها نذرا جديدا إلى قضية تعمل لها لتبلغ بها غايتها، وأصبحت أرى نفسي واحدا من طائفة مختارة اصطفاها التاريخ لتخرج بلادي والعالم بأجمعه من الظلمات إلى نور الاشتراكية، ولست أشك في أن قرائي سيظنون هذا كبرياء مني وادعاء، ولكنه هو الذي كنا نتحدث عنه ونشعر به، ولربما كان بين كبار السن من الشيوعيين من يسخرون من هذه المبادئ ومن يعملون لمآرب شخصية، أما نحن المبتدئين المتحمسين فلم يكن بيننا أحد من هؤلاء.
وكانت الامتيازات التي آلت إلي بوصفي أحد «المختارين» أن أكون أكثر من غيري كدحا، وأن أحتقر المال ، وأن أطلق المطامع الشخصية، وكان علي ألا أنسى مطلقا أنني عضو في لجان الشباب أولا، ورجل ثانيا، وخيل إلي أن انضمامي إلى اللجان، وأنا في إقليم من أقاليم التعدين «والغمرات الصناعية» مما يكسب هذا الحادث الجديد معنى لا أدري كنهه، شبيها في اعتقادي بذلك الشعور الذي كان يسري في نفس شاب من أبناء أعيان البلاد حين يبدأ حياته في بلاط القيصر، فهو شعور بأن صاحبه ينتمي إلى فئة من الفئات، وأنه لم يعد فردا مستقلا يعمل لنفسه.
ولم يعد هناك متسع من الوقت أقضيه في ضروب التسلية الصغيرة، فقد امتلأت حياتي بالواجبات، من محاضرات تلقى، ومسرحيات تمثل لعمال المناجم، ورسائل «حزبية» تدرس وتناقش، ولم يكن يغيب عنا في وقت من الأوقات أن من بيننا سيخرج زعماء الغد ليحلوا محل لينين وبوخارين؛ ولذلك أخذنا نكمل أنفسنا ونعدها لأن تتولى الزعامة، لقد كنا نحن الحواريين في هذا الدين المادي الجديد.
ولما تبين للرؤساء أني أعرف الكتابة والخطابة بلسان طلق فصيح اختاروني على الفور لأن أكون أحد ناشري الدعوة الشيوعية، وانتخبت عضوا في كثير من اللجان المختلفة، ونشرت الدعوة بين من لم يكونوا يؤمنون بالمبادئ الشيوعية، وكان لي شأن أيما شأن في الحفلات المتعددة، وكانت هذه الحفلات تقام في مناسبات لا حصر لها، فضلا عن أيام العطلة الثورية الدورية، فإذا ركبت آلة جديدة في مصنع من المصانع، أو حفر منجم جديد، أو تم إنتاج طائفة معينة من السلع، نظمت لذلك مظاهرات تصدح فيها الموسيقى وتلقى الخطب، لقد كان الفحم في غير بلادنا فحما لا أكثر، أما عندنا فكان «وقودا» لتسيير قاطرات الثورة.
وبفضل وساطة الرفيق لزريف نقلت إلى العمل في المناجم، فلم أعد أحسد سينيا على هذه الميزة، وكونا نحن الاثنين مع طائفة من الشبان الذين يعملون في المناجم جماعة تعاونية تضطلع ببعض الأعمال وتتقاضى نظير اضطلاعها بها أجرا بوصفها وحدة، وكان الزعماء وقتئذ يشجعون هذا النظام التعاوني، رغبة منهم في زيادة الإنتاج، وكان أعضاء الجمعيات الصالحة يكسبون في الغالب أكثر مما يكسبه عمال المناجم العاديين، لكن هذا الكسب كان أقل ما نعنى به، فقد كان همنا الأكبر أن نقوم بأصعب الأعمال وأكثرها خطورة، وذلك لحرصنا على أن نثبت غيرتنا وحماستنا بالأعمال لا بالأقوال، بل إننا اتخذنا لأنفسنا شعارا أبلغناه إلى ولاة الأمور، وهذا الشعار هو: «إذا كان الشيء لازما، فإن عمله مستطاع.»
وكان أعضاء جمعيتنا التعاونية يسكنون معا في بيت نظيف مريح مزود بالكتب النافعة، وكنا نتناوب تنظيف الأرض وغير ذلك من الأعمال المنزلية، ولم يكن يخالجني شك في أن زعماء السوفيت والكتاب الروس الأقدمين المنتشرة صورهم على جدران بيتنا يعجبون بهذا المثل الرائع من «الثقافة» وسط ذلك الجو من التأخر، وكان من بين هذه الصور صورة سرجو أورزنكدز أحد المقربين من لينين، والذي أصبح فيما بعد وزير الصناعات الثقيلة، وكنت من المعجبين بوجهه الكرجي الخشن، وأنفه الكبير الأقنى، وشاربيه الأشعثين المتهدلين، ولعلي كان يوحى إلي إيحاء غامضا بأن هذا الرجل سيصبح يوما ما نصيري - وإن شئت فقل ملهمي - في أكثر السنين نشاطا من حياتي الشيوعية.
وكنا بطبيعة الحال نجيز لأنفسنا في بعض المناسبات أن نقضي ليلة نستمتع فيها بشيء من الأنس والمرح، وكان الأصدقاء والرفاق يميلون إلى الاجتماع في بيتنا، فقد كان بيتا مطبوعا بطابع «المدنية»، وكان ما يدور فيه من الحديث «راقيا» رفيع المستوى، وكان واحد منا يجيد العزف على القيثارة، وكنا نحن نغني ونرقص ونتجادل حتى ينقضي من الليل أكثره، وكان عدد من أجمل بنات الحي يشتركن معنا في هذه الحفلات، وكنا إذا استمتعنا بسهرة من السهرات أكثر مما يجب، شعرنا جميعا بشيء من الندم، وفرضنا على أنفسنا جزاء خطيئتنا هذه عقابا شيوعيا بأن نزيد من عملنا ودرسنا ومناقشاتنا السياسية في الأيام التالية.
وحدث في أواخر الخريف حادث خطير ابتليت فيه جهودنا وصبرنا على العمل، وعرف فيه هل كنا نؤمن حقا بهذا المبدأ الذي كنا نفاخر به، وتفصيل الحادث أن الماء غمر أحد المناجم، وأقيمت كتل خشبية حول جدرانه لتمنعها أن تنهار، ولكن العمل لم يقف بل سار فيه سيره المعتاد، وعرضنا نحن أن نعمل في هذا المنجم لنضرب المثل للعمال العاديين الذين كانوا يعملون فيه، ومعظمهم من التتار والصينيين.
وكنت أنا في داخل المنجم أعمل بكل ما وهبت من قوة، والماء المثلوج يغمرني إلى ركبتي، ثم خيل إلي أن الدنيا كلها ترتجف وتصر وتئن، وسمعت أحد الناس يصرخ من الفزع، أو لعلي كنت أسمع صوتي بأذني؛ ذلك أن جزءا من فتحة المنجم قد انهار، ولما فتحت عيني بعدئذ ألفيت نفسي في حجرة كبيرة مطلية الجدران بطلاء أبيض، على سرير في صف من صفوف أسرة المستشفيات، وكان طبيب في ميثرة بيضاء يجس نبضي، وممرضة حسناء متوسطة العمر تقف إلى جانبه وبيدها لوح وقلم رصاص، وحيتني الممرضة بابتسامة لطيفة حين رأتني أفيق من غشيتي.
وقالت لي: «ستشفى يا رفيق كرافتشنكو، فلا تقلق»، وأومأ الطبيب برأسه ليؤمن على ما قالت.
وقالا لي إني ظللت في الماء داخل المنجم المنهار ساعتين أو ثلاث ساعات، وإن العامل الصيني الذي كان بجواري قتل، وإن الأمل في نجاتي كان في أول الأمر قليلا، فإذا لم تكن جدران المنجم المنهارة قد قضت على حياتي فقد كنت لا محالة هالكا غرقا في الماء المثلوج، ولكن ها أنا ذا أصبت بحمى شديدة وبكدمات في ساقي، غير أني فيما عدا هذين سليم الجسم، ثم تطورت الحمى فيما بعد إلى التهاب رئوي.
ومن عجب أن الشهرين اللذين قضيتهما في مستشفى ألجفرفكا قد بقيت ذكراها ماثلة في ذهني، وأني أعدهما من ألذ الفترات في شبابي، فقد كان الناس إذا تحدثوا عن قصة جمعيتي التعاونية وما بذلته من جهد في المنجم المنهار أحاطوهما بهالة من المجد والبطولة الاشتراكية، وكنت أنا فيهما أحد الأبطال، وزارني في المستشفى عدد من رجال الحزب ونقابات العمال، وكان يتردد علي في أوقات منتظمة فتيان وفتيات من لجنة الشبان التي أتبعها ومعهم في كل زيارة بعض الهدايا الصغيرة، وكنت لا أزال في المستشفى لما حان عيد ميلادي الثامن عشر، فأقبل علي أعضاء الجمعية التعاونية وأصدقاؤها مجتمعين، وأظهروا لي من المودة ما أثلج صدري.
وكانت الممرضة الحسناء تعاملني كأني ولدها، والحق أني وأنا ضعيف في دور النقاهة كنت أحس بأن الروسيا كلها قد تبنتني - الروسيا بعمالها ولجان شبابها ورجالها الرسميين - وأني كنت الابن المحبوب لأسرة كبيرة عجيبة.
وأمرني الأطباء ألا أعود إلى المناجم إلا بعد سنة على الأقل، وأصروا على أمرهم هذا رغم إلحاحي الشديد، وأبلغوا القرار إلى رجال الإدارة، ولم أكن أحب قط أن أرجع إلى أعمال المكاتب؛ ولهذا تأهبت للعودة إلى المزرعة التعاونية وإلى إيكترنوسلاف.
وبينا أنا أعد العدة للرجوع، وإذا الأنباء تأتينا في الرابع والعشرين من شهر يناير سنة 1924م بأن لينين قد مات، وكانت الصدمة التي حلت بهذا الركن من أركان وادي الدنتز صدمة حقة لا تكلف فيها ولا رياء، كما كان الحزن الذي سرى في نفوس أهله حزنا عميقا أقض مضاجعهم وأكسف بالهم، ولم يكن الباعث على هذا الحزن ذا صلة بالسياسة، فقد أصبح لينين في عرف الفحامين السذج، حتى المقامرين منهم في الثكنات والمعربدين والمختالين المتفاخرين بأحذيتهم ذات الصرير، بله شباب الحزب أنفسهم، لقد أصبح لينين لهؤلاء وأولئك رمزا للأمل المرجو، لقد كنا كلنا في حاجة إلى الاعتقاد بأن ما قاسيناه في تلك السنين الدامية إنما هو غرس سيخرج أينع الثمار في مستقبل زاهر بسام؛ ولذلك أحس كل منا بأنه أصابته هو نفسه خسارة لا تعوض.
ومشيت على قدمي مع آلاف غيري من العمال ثلاثة أميال حتى وصلنا إلى مكان الاجتماع التذكاري خارج مكتب النجم، وهو المكان الذي كان يطلق عليه اسم «مزرعة باريس التعاونية»، وكان ذلك في عجز النهار، والجو بارد قارس البرودة، والثلج يتساقط، والريح تحز في أجسامنا حز السكاكين، وأقيمت منصة في الخلاء غطيت بقماش أحمر وأسود، وإن كان الثلج المتساقط لم يلبث أن غطى كل جزء منها، وتعاقب عليها الخطباء، وقد علت أصواتهم على هزيم الريح، وأخذوا ينطقون بعبارات الحزن الرسمية.
وقام مندوب متباه من أهل خاركوف وصاح بأعلى صوته: «أيها الرفاق المعدنون، لقد مات لينين، ولكن العمل الذي قام به لا يزال يتقدم حثيثا، إن زعيم الثورة العمالية ... وزعيم الطبقات العاملة في العالم أجمع ... وخير تلاميذ ماركس وأنجل ...»
وكان لهذه الكلمات الرسمية أسوأ الأثر في نفسي، وعجبت لهم لم لا يتكلمون بأبسط الألفاظ تخرج من قلوبهم لا من أقلام محرري صحيفتي برفدا وإزفستيا، ولشد ما سرني وأنا عائد متثاقل إلى بيتي وسط الزوبعة الثلجية، أن أعرف أن سينيا وغيره من الرفاق كانوا يشعرون بنفس الكآبة التي أشعر بها، لقد كنا كلنا نحس بأن الخطباء عجزوا عن التعبير عما نشعر به نحو لينين؛ لأن ما نشعر به كان أقل صلة بالزعيم الراحل منه بآمالنا الحية.
وقرأنا في الصحف المحلية بعد بضعة أيام من ذلك الوقت نص القسم الذي أقسمه ستالين على نعش لينين في الميدان الأحمر في موسكو، وكان هذا القسم عهدا قصيرا أشبه شيء بالطقوس الكنسية، أخذ فيه على نفسه أن يسير في الطريق الذي رسمه له الزعيم الراحل، وأثر في هذا العهد أكثر مما أثرت في الخطب التي ألقيت في اجتماعنا التذكاري، وكان ستالين وقتئذ عضوا في الهيئة السياسية صاحبة السلطة العليا في البلاد، وأمين السر العام للحزب، وكان من بداية الأمر أحد أعضاء الحزب البارزين، ولكني لم أحس بوجوده إحساسا حقا قويا قبل هذه المرة، وعجبت كيف لم تعلق صورته على جدران بيتنا!
وأخذ اسم ستالين من ذلك اليوم يذيع ويعظم ويتردد على كل لسان، حتى ليصعب على الإنسان أن يذكر وقتا لم يكن فيه اسم هذا الرجل القوة المسيطرة على شئون حياتنا.
لم أقض في إقليم التعدين أكثر من عام واحد، ولكن مع ذلك لم أجد من السهل علي أن أنتزع نفسي من الحياة التي ألفتها فيه، ولو أن إنسانا أخبرني في صباح ذلك اليوم المقبض الذي قدمت فيه إلى ذلك الإقليم بأني سأحب ذلك المكان الأجرد، وأهله الأجلاف، وعمله المقبض؛ لظننت به جنة، غير أني أخذت من بادئ الأمر أشعر بشعور عمال المناجم، وأرى عيوبهم ونقائصهم، ولكني أراها كما يراها العمال أنفسهم، فتثير عطفي عليهم، لا كما يراها الخارج عنهم فلا تثير فيه إلا النقد والتجريح.
من أجل ذلك كانت حياة عمال مناجم الفحم التي غلبت عليها الكآبة والفساد، وتعرضت لأشد الأخطار، تثير في نفسي عطفا شديدا عليهم ورأفة بهم قربتهم إلي، فليس بصحيح أننا لا نحب إلا ما يشرح الصدر ويلذ العين، بل إن ما يثير الحزن أو يرتد عنه الطرف قد يستحوذ هو الآخر على الخيال والحواس، والناس يحبون ما تهتز له أوتار قلوبهم، ويربطهم بالأماكن وأهلها ما تبعثه وما يبعثونه فيهم من عواطف ولو كانت عواطف محزنة بعيدة كل البعد عن السرور والبهجة، وشاهد ذلك أني لم أنس قط الأيام التي قضيتها في مناجم الفحم، وما فتئت أحس بأني قريب من مستخرجيه سكان العالم السفلى المظلم.
وركب معي في القسم الذي كنت فيه من عربة القطار الذي أقلني من حوض الدنتز ستة مسافرين، ولم نلبث أن ثار الجدل بيننا كما هي عادة جميع الروس، وكنت أنا أصغر الجماعة سنا، ولكني شعرت بأن من واجبي أن أدير دفة الحديث؛ ذلك أني بوصفي عضوا في لجان شباب الحزب الشيوعي أرى فرضا علي أن أغتنم كل ما يتاح لي من الفرص لأنشر الدعوة إلى الحياة السعيدة المقبلة وأشرح أسباب المتاعب العاجلة وأهون من أمرها.
وقال واحد من الركاب وكان من رجال الفكر: «إنك أيها الرفيق لا تفتأ تتحدث عن حياتنا الحاضرة وكيف أصبحت خيرا مما كانت في الأيام الماضية، ولكني لا أرى فرقا بين هذه وتلك، فنحن كما كنا لا نجد الخبز ولا الكيروسين ولا الأحذية، وكثيرا ما أرتجف أنا وزوجتي من البرد الذي تتجمد منه أطرافنا، ونقضي نصف أيامنا بلا طعام، لعمري إن هذه ليست حياة، بل أخلق بها أن تسمى محنة ...»
وكان هذا الذي يحدثني رجلا كهلا نحيل الجسم رقيق الملامح، يلبس على عينيه منظارين سميكين في إطار ذهبي، ويرتدي معطفا من معاطف الربيع وإن كنا في غير الربيع، وحول رقبته لفاعة من الصوف مما تلتفع به النساء، وفي قدميه جوربان أبيضان يظهران من خروق حذاءيه.
وسأله راكب آخر قائلا: «معذرة يا سيدي، أي عمل تقوم به؟»
فأجابه بلهجة المتحفز: «أنا مؤلف موسيقي، أكتب المقطوعات الموسيقية.»
فقال الأول في سخرية لاذعة: «آه، إنك مؤلف موسيقي، ومن ذا الذي يحتاج إلى مقطوعاتك؟ من ذا الذي يطلب في هذه الأيام الأنغام التي يرقص عليها الناس في أيام البهجة والسرور؟ اذهب إلى المصنع يا صديقي واعمل فيه عملا حقا تقل أسباب شكواك.»
فصاح مؤلف الموسيقى في حماسة شديدة: «إذن ينبغي للناس كلهم أن يعملوا في المصانع! ألا يحتاج السادة الجدد الذين يقيمون صرح الاشتراكية إلى الموسيقى؟ أم هل يريدون أن نكون كلنا آلات بلا أرواح؟» - «نعم إنك على حق، فلسنا في حاجة إلى الألحان والنغمات الموسيقية الملعونة، بل الذي نحتاجه هو أن نزيد إنتاجنا من السلع.»
وقطع عليهم حديثهم رجل ثالث فقال محتدا: «إن الأرواح لم يبق لها وجود.»
فلما سمع المؤلف هذا صاح بأعلى صوته: «إذن لم يعد ثمة فائدة في مناقشتكم، فأنتم من الرعاع، ومن العبث أن أضيع وقتي في التحدث إليكم.»
واستعنت في هذه اللحظة بما يمليه علي مركزي في لجان الشبان الشيوعي لأنقذ الموقف، فقلت في جد ووقار: «اسمحوا لي أن أتحدث إليكم جميعا، إنكم تتجادلون متحمسين أكثر مما يجب أن تتحمسوا، ولكنكم لا تفهمون ما تتجادلون فيه حق الفهم، إذا لم يسؤكم مني هذا القول، لست أنكر أننا لا نزال تنقصنا أشياء كثيرة جدا، ولكننا نبذل كل جهودنا لسد هذا النقص، وسيكون لنا عما قريب كل ما نحتاج إليه بما في ذلك الموسيقى.
قد لا يكون هذا المواطن موسيقيا بارعا مثل تشيكوفسكي، ولكنه إذا كان يؤلف مقطوعات موسيقية جميلة، فإنه هو أيضا يعمل على إقامة صرح الاشتراكية، لقد جئت توا من مناجم الفحم، وأنا أدرك شدة حاجتنا إليه، ولكني أؤكد لكم أن حاجتنا إلى الموسيقى لا تقل عن حاجتنا إلى الفحم نفسه؛ ذلك أن من واجبنا أن نحتفظ بحرارة أرواحنا كما نحتفظ بحرارة أجسامنا.»
وتبين لي أن عبارتي كان لها أكبر الأثر في نفوسهم، ولم أكن في حاجة إلى أن أخبرهم أني أحد الصفوة المختارة، فقد كان صوتي ينم على أني من ذوي السلطان، ثم تطرق الحديث إلى موضوعات شتى قبل أن يصل بنا القطار إلى دنيبروبتروفسك، وهو الاسم الذي سميت به إيكترنوسلاف وقتئذ، وكنت أنا في جميع الأحوال المحكم في الخلاف وصاحب الرأي الأخير، ولعل الذين كانوا يخالفونني في الرأي آثروا الحكمة على الشجاعة، ولم يحاجون رجلا من شباب الحزب الشيوعي؟
ووصلت المزرعة قرب المساء، والتقى بي كلبي ركر في الطريق، فلما رآني بلغت الحماسة منه غايتها، ونظرت إلى نافذة كوخنا فشاهدت أمي تقرأ في ضوء مصباح كيروسين وقد تقدمت بها السن قليلا، وهزل جسمها قليلا، وشاب شعرها قليلا، وفتحت الباب بخفة، وناديت وأنا أحاول تغيير صوتي: «هل تقيم المواطنة كرافتشنكو في هذه الدار؟»
فصاحت ودموع الفرح تنحدر من عينيها: «فيتيا، حبيبي، عزيزي!»
وعرفت خلال السهرة ما وقع حولهم من أحداث، عرفت أن المزرعة التعاونية قد قضي عليها، وأن الأسر التي لا تزال تعمل فيها لا تزيد على ثلاث أو أربع، وأن بعض الأسر الأخرى لا تزال تقيم بها ولكنها كلها تشتغل بالصناعة في المدن القريبة، وأن أبي وإخوتي قد عادوا إلى دنيبروبتروفسك، وأنهم يتقاضون فيها أجورا طيبة، وأنهم يرجون أن يجدوا قبل الربيع شقة من حجرتين أو ثلاث حجر تلم شمل الأسرة من جديد.
أما مباني المزرعة التعاونية فقد أهملت وخيمت عليها الكآبة، فقد تصدعت سقفها في كل مكان، وانفصلت أبوابها، وانتزعت العروق الخشبية من الجدران والسقف واتخذت وقودا، وقال الفلاحون في الأماكن المجاورة: ها أنت ذا ترى أن الشيوعيين لا يستطيعون أن يفلحوا الأرض، وأن كل ما يستطيعون فعله أن يقبضوا على الناس ويجبوا الضرائب، وجاء بعضهم لزيارتي حين علموا بمقدمي، وكانوا يعاملونني بالاحترام الواجب للرجل الذي خبر العالم الخارجي، وأمطروني وابلا من الأسئلة عن مقاصد «السلطة الجديدة» نحو الزراعة ونحو أرضهم.
وكذلك أحاط بي العمال في مصنع كربينو وأخذوا هم أيضا يوجهون إلي الأسئلة، وارتجلت أنا الأجوبة التي خيل إلي أن الواجب يقضي على عضو في لجان الشبان أن يجيب بها عن أسئلتهم ، وألقيت بعد بضعة أيام خطبة في نادي المصنع عن حياة عمال مناجم الدنتز، وما من شك في أني في حديثي هذا قد جعلت الحياة في هذه المناجم تبدو لهم جميلة جذابة إلى حد ما، وإن لم أقف على ما فيها من صعاب وعيوب، وعلى أثر ذلك أعلن أربعة من عمال كربينو الشبان أنهم يعتزمون الذهاب إلى المناجم ليعملوا فيها، فأعطيتهم أسماء موظفي نقابة العمال الذين يتقدمون إليهم وعناوينهم.
وقطعنا كتلة كبيرة من الخشب وأصلحنا باب الدوار - وكانت لا تزال لنا فيه بقرة واحدة - ثم غادرت المزرعة إلى المدينة، وكان أبي وأخي الأصغر أوجين يعملان في مصنع بتروفسكي-لينين في استخلاص المعادن وسبكها، ولم ألبث إلا قليلا حتى انضممت إليهم لأعمل في المعمل الميكانيكي، أما أخي قنسطنطين فكان يعمل في مصنع آخر في دنيبروبتروفسك (وكان الاسم الذي أطلقه السوفيت على إيكترنوسلاف لا يزال غريبا غير مستساغ)، وبقيت في هذا العمل نحو ثلاث سنوات حتى بلغت سن الحادية والعشرين، فدعيت إلى الانضمام إلى الجيش الأحمر عملا بقوانين الخدمة العسكرية.
وكانت المصانع التي نعمل فيها - وهي مصانع استخلاص المعادن وسبكها - تتكون من عدة أبنية، وتشغل عدة فدادين على أطراف دنيبروبتروفسك، وكان يعمل فيها نحو 24000 رجل وامرأة، وتعد من أكبر المشروعات الصناعية في روسيا الجنوبية، واشتهر هؤلاء العمال قبل الثورة في الإضرابات والمشاغبات، فجعلوا بذلك لهذه المصانع شيئا من الأهمية التاريخية، وفيها كان يعمل الرفيق بتروفسكي رئيس جمهورية أوكرانيا السوفيتية في أيام شبابه كما كان يعمل فيها غيره من كبار الزعماء الشيوعيين في بداية أمرهم.
وكانت هيئة الحزب الشيوعي فيها ومنها لجان الشباب تضم حوالي ألفي عضو، وكانت أعمال الدعاوة على الدوام قائمة على قدم وساق، وكثيرا ما قدم إلينا كبار الزعماء أمثال بتروفسكي وركوفسكي وكجانوفتش ليخطبوا في اجتماعات المصنع، وأخذ نشاطي في أعمال لجنة الشباب يزداد زيادة مطردة، وأخذت أدرس عدة برامج فنية شغلت معظم وقتي بعد فراغي من العمل، واضطلعت بدور هام في المناقشات الأدبية والسياسية التي كانت تقوم في نوادي المصنع المختلفة.
على أن السنين التي انقضت بعد قيام الثورة لم تزد أبي ميلا إلى الشيوعيين، نعم إنه لم يكن ينكر أن كثيرين منهم كانوا رجالا شرفاء مخلصين صادقي النية، ولكنه كان يرى أن الثورة خيبت ما كان يرجوه منها في شبابه، ولست أنكر كذلك أنه لم يتدخل قط في نشاطي في لجنة الشباب، وأنه كان يسره أن يراني أشق لنفسي طريقا في المجتمع الجديد الذي حولي، ولكنه لم يستطع أن يحاجز نفسه من حين إلى حين عن توجيه الأنظار إلى ما يتمتع به الموظفون ورؤساء المهندسين من رغد العيش، وما يعانيه صغار الصناع من بؤس وشقاء.
ومن أقواله لي: «إننا يا بني نتحدث عن الوحدة، ولكن انظر إلى المسكن الفخم الذي يسكن فيه الرفيق ن، وإلى ما يتمتع به من سيارات وثياب غالية، ثم انظر بعد ذلك إلى الثكنات التي يحشر فيها العمال الجدد القادمون من القرى كما يحشر السردين في العلب، وانظر إلى مطاعم رجال الإدارة تر الحجرات النظيفة والطعام الشهي، أما مطاعم العمال فإن أي شيء يصلح أن يقدم لهم فيها ...»
فكنت أرد عليه قائلا: «تمهل يا والدي، إن لدينا مشاكل كثيرة تتطلب جميعها الحل في وقت واحد.» - «أنا أعرف ما لديكم من مشاكل، ولكني أعرف أيضا أن الثغرة التي تفصل الطبقات العليا عن السفلى لا تضيق، بل تزداد اتساعا. إن السلطة شيء خطر يا فيتيا.»
وارتقيت بعد قليل من المعمل الميكانيكي إلى مصنع الأنابيب، ولم تمض علي في هذا المصنع الثاني سنة واحدة حتى كنت من رؤساء العمال فيه، وارتفع أجري ارتفاعا صلحت بسببه شئون الأسرة المالية، وكنا أربعة أشخاص نتقاضى أجورا فاستطاعت أسرتنا أن تعيش في رغد رغم ارتفاع الأثمان، وكانت السياسة الاقتصادية الجديدة - التي جعلت التجارة الخاصة عملا مشروعا - قد أدت إلى فتح مئات من الحوانيت والمطاعم والمقاهي، وكان في وسع الإنسان أن يحصل على كل ما يريد تقريبا إذا كان معه مال يبتاعه به.
وأخذت في كل يوم أزداد صلة بالكبراء من رؤساء العمال ، وكبار الموظفين المشرفين على المصانع، وموظفي الحزب ونقابات العمال؛ ومن أجل هذا أصبحت أرى الحياة السوفيتية بعين زعمائها، وأخذ هذا الميل يقوى في يوما بعد يوم على الرغم مني وعلى الرغم من تحذير والدي لي من أن أقطع الصلة بيني وبين الجماهير، أما أخواي جيني وكوتيا فلم تتقد في صدريهما نار الحماسة السياسية، وكان حسبهما أن يعملا جادين ولا يشتركا في مظاهرات ولا اجتماعات إلا إذا لم يكن لهما بد من الاشتراك فيها، وكانا يقبلان الدعاية الشيوعية الرسمية كما يقبلها سائر العمال العاديين بكثير من الريب والشكوك.
وكثيرا ما كان جيني يقول لي وهو يحاورني: «إن كل شيء فيك يا أخي الأكبر ينبئ بأنك ستكون من رجال البيروقراطية الشيوعية على شريطة ألا تسمح لإنسانية والدنا الخيالية أن تضلك.»
ولعل ربيع عام 1927م لم يكن يختلف في شيء عن ربيع الأعوام التي جاءت قبله أو بعده، لكن مباهج هذا الفصل ستبقى أبد الدهر أعظم منها في سائر الفصول، وستبقى مساويه أخف من مساويها جميعا؛ ذلك لأن فيه أخذت نار الحب تضطرم في قلبي، وكان اسم من أحببت أنا، وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها زرقاء العينين ذهبية الشعر.
التقينا في وليمة في منزل أحد مفتشي الحوانيت، ولم نكن نتصافح باليدين حتى انمحى من أمامنا منظر الوليمة والضيوف، فلم يعد له وجود.
وكان والد أنا كبير المهندسين في أحد الطرق الحديدية الرئيسية، وكان بعيدا كل البعد عن المجتمع السوفيتي الجديد، وإن كان قد نشأ في أسرة من العمال وانضم وهو طالب علم إلى الجمعيات الاشتراكية السرية، أما أمها فقد ظلت تحتفظ بما انطبع في نفسها قبل عهد الثورة من شذوذ في الخلق ومن احتقار «للرعاع»، وظل شعوري بأن أنا ليست من «صنفي» كامنا تحت ستار عواطفي الملتهبة أيام كان حبي الحقيقي الأول متوقدا في صدري، وكانت تتظاهر بأنها تهتم بنشاطي في لجنة الشباب الشيوعي ، ولكني كنت أعلم علم اليقين أن هذا النشاط يضايقها، ولم تحاول والدتها قط أن تخفي احتقارها للشيوعيين ودعاواهم ، ولمركزي الاجتماعي الوضيع الذي لا يعدو أن يكون مركز رئيس عمال في مصنع.
وسمعتها ذات ليلة تقول لأنا وهي متبرمة: «لو أن صديقك عضو لجنة الشباب كان مهندسا على الأقل!»
وكانت أنا نفسها يتقسمها تأثير مدرستها السوفيتية والوسط الرأسمالي الذي كان يحيط بها في منزلها، واستطعنا أن نقضي معا شهرا في استراحة مصنعي على شاطئ نهر الدنيبر، وكانت تقابل كل دعاوتي الحزبية بالابتسام وهو حجة لم أجد لها قط جوابا.
ولكني أنا وهي أدركنا أن زواجنا أبعد من مناط النجم، وإن لم يصرح أحد منا بما يعتقد؛ لأننا لم نكن متفقين في «التفكير».
وقد يبدو هذا غريبا، ولكن هذه الحقيقة لا يستطيع فهمها إلا من عاش في زمان وفي مكان طغت فيهما السياسة على كل شيء، فلما عدنا إلى دنيبروبتروفسك افترقنا وبعدت بيننا الشقة، ولما غادرت المدينة للانضمام إلى الجيش في أواخر عام 1927م، كان كلانا يعرف أن فراقنا هذا فراق أبدي، على أنني قابلتها بعد أربعة عشر عاما من ذلك الوقت في مخبأ من الغارات الجوية بمدينة موسكو.
كانت الحدود الممتدة بين إمبراطورية آسيا الوسطى السوفيتية الواسعة الرقعة ذات الشمس الساطعة وبين فارس وأفغانستان وولاية كشمير الهندية، والتي يبلغ طولها ألفا وخمسمائة ميل، كانت هذه الحدود من زمن بعيد مسرحا للقلاقل والحروب بين الروس وقبائل البسمتشي الضاربة على طول هذه الحدود، وكثيرا ما ذكرت البلاغات الحربية أن هذه القبائل قد «أبيدت عن آخرها»، ولكنها كانت تعود مرة أخرى للظهور وهي أشد ما تكون شراسة، تشن غارات جديدة وترتكب فظائع جديدة.
وظلت أعمدة الصحف عدة سنين تفيض بالقصص المثيرة عن أعمالهم المروعة وطباعهم الذميمة، فكانت تصورهم كأنهم عصابات من قطاع الطرق المتوحشين لا هم لهم إلا شن الغارات للنهب والسلب بتحريض رؤساء الدين المسلمين، يستأجرهم الأمراء المخلوعون ويستخدمهم البريطانيون في أغراضهم الاستعمارية، وكان هؤلاء الناس كما تصورهم الصحف الروسية قساة غلاظا إلى أبعد حدود القسوة والغلظة، يعذبون أسراهم من السوفيت، وكان من عاداتهم المألوفة - كما تقول تلك الصحف - أن يدفنوا الأسرى في الأرض إلى مناكبهم، ويتركوهم على هذه الحال حتى يموتوا تدريجا من فرط الجوع والحر والظمأ، أو تلتهمهم الحشرات والنسور وهم أحياء.
وهذه الصورة التي ترسمها الصحف لأولئك القوم لم تكن تخلو من تناقض، فالتلصص والسلب لا يفسران ما كانت تتصف به جماعات صغيرة من البسمتشي من عناد وجرأة في هجومهم على قوات الجيش الأحمر النظامية الحسنة التسليح، والتلصص لا يتفق كل الاتفاق مع خضوع أولئك القوم لنفوذ الملا الديني أو مع صلاتهم السياسية بالأمراء المسلمين وبالبريطانيين.
ولما زدت علما بتلك المشكلة فيما بعد تبين لي أن القصة كما ترويها هذه الصحف من صنع الدعاوة السوفيتية، وأن البسمتشي لم يكونوا في واقع الأمر إلا وطنيين ديدنهم حرب العصابات يشنونها على المغيرين الأجانب الذين يعتقدون أنهم قضوا على استقلالهم القومي، وأنهم كانوا يعرضون حياتهم للخطر ليردوا عن بلادهم أولئك الذين يريدون أن يطمسوا معالم دينهم ويحولوهم عن تقاليدهم، فهم في المبدأ إن لم يكونوا في التفاصيل، يشبهون الوطنيين الهنود الذين كانوا يحاربون البريطانيين في الناحية الأخرى من الحدود.
وكان الحكام الروس في العهد القيصري يجبون الخراج من آسيا الوسطى، ولكنهم يتركون الأمراء والرؤساء الدينيين يسيطرون على البلاد، ولا يمسون النظم السائدة فيها، أما السادة الجدد فقد أخرجوا الأمراء من ديارهم باسم الإلهين الجديدين: لينين وماركس، وأخذوا يسخرون من العقائد الإسلامية ويستوردون آلات «الكفرة» وأفكارهم ليوقظوا البدو الرحل من سباتهم الطويل، وكانوا إلى هذا يفسدون عقول الشباب بما ينشرونه بينهم من الأفكار الغريبة، بل إنهم كانوا يحرضون النساء على خلع النقاب وحرقه والخروج من عزلتهن.
هذه هي المخاوف التي جعلت عصابات البسمتشي المتحصنة في تلال إيران، وفي مدن السهول الأفغانية، وفي التركستان الأصلية، تقاتل السادة الجدد وتظهر في قتالها الكثير من ضروب البطولة والحماسة، وما من شك فوق هذا في أن أهل آسيا الوسطى كانوا في السنين الأولى من هذه الحروب على الأقل يعطفون على أولئك الوطنيين، ولم يكن من قبيل المصادفة أن الجنود الذين اختيروا لقتال أولئك القوم كلما ثاروا لم يكونوا من الكتائب المحلية بل من بلاد الروسيا الأصلية.
ولكن القصة كما يرويها السوفيت لم تكن تخلو هي الأخرى من عناصر صادقة؛ مثال ذلك أن ما وصفت به البسمتشي من عنف وقسوة لم يكن مبالغا فيه كثيرا، فلقد روى لي شهود عيان وبعض من نجوا من هذا العنف وتلك القسوة وهم قليلون، تفاصيل مروعة عن أعمال أولئك القوم، ومما لا ريب فيه أيضا أن النهب والسلب وتجارة المهربات الرابحة كانت تمتزج بروح الحماسة الدينية والسياسية التي تضطرم به صدور هذه العصابات المحاربة، حتى ليصعب على الإنسان في بعض الحالات أن يرى أين تنتهي الوطنية وتبتدئ المنافع المادية.
ومهما يكن من أمر أولئك القوم فقد كانوا مقطوعي الصلة بالشباب من الصناع والفلاحين في أوكرانيا، فقد كان كل ما نعرفه من هذه الأحداث - إن كنا نعرف عنها شيئا على الإطلاق - أنها مأساة دموية مروعة في عالم قاص لا يكاد أحد يعرف مكانه، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى أصبحنا جزءا من هذه المأساة يدفعنا إليها حب المغامرة المتألق سناه أمام أعيننا، ولكن كان من وراء هذا التحمس الظاهر قلوب تحس بما يتهدد حياتنا من خطر فيقلق ذلك بالنا بعض القلق.
ووضع منا أربعة وعشرون - كلهم مجندون جدد من إقليم دنيبروبتروفسك - في سيارة نقل لتسافر بهم إلى بلاد البسمتشي، وأخذنا نغني ونقص القصص ونحن جد فخورين؛ إذ وقع علينا الاختيار لنكون من فرقة الفرسان المنتقاة التي تعسكر في جمهورية التركمان السوفيتية، لكنا تذكرنا في أثناء الليل ونحن في العربة المظلمة ما سمعنا أو قرأنا عن قسوة البسمتشي ووحشيتهم.
ثم سرى في قلوبنا حنين إلى أوطاننا، ودار حديثنا حول البنات اللاتي خلفناهن وراءنا، وحدث أن كان كستيا ابن عم حبيبتي أنا من بين هؤلاء المجندين، فأثار وجوده بيننا وما ينتظر من فراقي الطويل لها نار الحب الكامنة في قلبي.
ثم قدمنا إلى باكو مدينة «الذهب الأسود» وقضينا فيها بضعة أيام فأنسانا ما فيها من حركة دائمة كل ما كنا نفكر فيه من قبل .
لقد كان هذا المركز العظيم من مراكز الزيت خليطا عجيبا من الأساليب الشرقية والتنظيم الصناعي الحديث، وكان أهلها مزيجا من الروس والمغول، يلبس معظمهم ملابس الغربيين، ولكن الكثيرين منهم يرتدون ملابس أهل الشرق الأدنى الفضفاضة، ذات الألوان الكثيرة الزاهية والستر الضيقة الوسط التي تصل إلى الركبتين، والقبعات المستدقة المصنوعة من الفراء، والتي يلبسها سكان سهوب قزاقستان، وفي شوارع المسلمين الضيقة التي يتضوع منها أرج الطيب رأيت لأول مرة النساء المحجبات في مآزرهن السابغة المعروفة بالبرنجات، وقد غطين وجوههن بنقب مثلثة الشكل من شعر الخيل، فكن أشبه بالزكائب المتحركة لا تستبين لهن شكلا ولا سنا.
وستظل مدينة باكو أيضا مرتبطة في مخيلتي بمنظر البحر العظيم الذي وقعت عليه عيني لأول مرة، ذلك أن القادم من داخل البلاد ينطبع في ذهنه منظر الماء الممتد إلى ما وراء الأفق فلا ينسى هذا المنظر أبدا، وكانت رائحة الزيت تملأ جو المدينة كله، بل خيل إلي أن هذا الزيت قد امتصته وجوه سكانها كلهم وأيديهم.
وانضم إلينا في باكو مئات من المجندين جيء بهم من أنحاء متفرقة من البلاد، وعبرت بنا النقالة الصغيرة كلنتي بحر الخزر إلى ميناء كرستوفدسك، وقضينا بعض الوقت عند شاطئ البحر قبل أن نركب القطار إلى أسخاباد، ورأينا على رصيف الميناء أكواما من البطيخ الأصفر كأنها قنابل المدافع، وشاهدنا التركمان الضخام الأجسام السمر الوجوه، معظمهم ملتحون، وكلهم عراة الصدور والبطون، وعلى رءوسهم عمائم من مناديل ملونة، يقذفون البطيخ إلى رفاق لهم في سفينة قذفا منتظما، وهم يغنون أهازيج مطربة بصوت عال.
وكانت تبدو على أسخاباد - التي سميت فيما بعد استاليناباد - مسحة شرقية تكفي لأن تشبع رغبة الشباب في اجتلاء كل ما هو جميل، فقد كانت تخترقها شوارع ضيقة غير مرصوفة، تتلوى بين جدران عارية من اللون، خالية من النوافذ، تلتقي في ميادين مشتبكة صاخبة بعضها ذات سقف، وتتردد في أسواقها أصداء مطارق الأساكفة والحدادين وغيرهم من الصناع، يعملون في الهواء وهم جلوس مطويو السيقان، والنساء المسلمات في كل مكان كأنهن عمد قائمة لا شكل لها ولا لون، غير أنك كنت ترى أحيانا إحداهن ترفع طرف نقابها المتخذ من شعر الخيل، وتشير في دلال ظاهر إلى الروس السمجاء الأغبياء.
واستقبل القطار الذي أقلنا عند وصوله بالموسيقى والمظاهرات، ووقف العمال الذين جاءوا من مصانع القطن ووجوههم كالحة لا تستبين فيها معنى من المعاني، بينا كان الموظفون يلقون الخطب الرنانة يحيون بها الرفاق البواسل الذين جاءوا ليحرسوا الحدود من البسمتشي الأوغاد، ولم يكن لدي من الأسباب ما يجعلني أشك في أقوالهم وقتئذ، ولكنني فيما بعد تولتني الحيرة، فلم أدر لم لا يجند من أهل البلاد من يحرسون الحدود؟ ثم عرفت بعد ذلك أيضا أن الجيش الأحمر لم يكن في تلك البلاد إلا جيش احتلال في بلد أجنبي بالرغم من كل ما تلوكه الألسنة من دعاوى الزمالة.
وأقلتنا العربات من أسخاباد إلى المعسكر الكبير القائم على الحدود الإيرانية، والذي أقمت فيه طوال السبعة أو الثمانية الأشهر التالية، وأقمنا في الثكنات الطويلة الجرداء التي كانت مقرا للجنود في عهد القياصرة السابق.
وكان الإقليم الذي اجتزناه في طريقنا إلى المعسكر صحراويا في أكثر جهاته، منه بقاع صفراء جرداء، ومنه بقاع مغطاة بالحسك العطري الجاف، أما الإقليم المصاقب للحدود فكان ذا مناظر متعددة متباينة، يكثر فيه النبات الأخضر الغض، ونزلنا عند سفوح سلسلة الجبال التي تحرس حدود إيران من جهة الشمال.
وبدأ تدريبنا العسكري بحمام بخاري وتطهير ملابسنا وقص شعرنا حتى أصبحت رءوسنا ولا فرق بينها وبين وجوهنا، وخطبة سياسية ألقيت علينا، ولقنا أن ليس بين البسمتشي والجنود الحمر من صلات إلا أن نقتلهم أو يقتلونا، وقيل لنا: إننا سندعى للطواف في أماكن خطرة، فرادى أو أزواجا، ليلا أو نهارا، وإننا في حاجة إلى كثير من اليقظة والفروسية وإتقان الرماية، وقضينا بعدئذ في التدريب عدة أسابيع، لم يدخر فيها أحد منا جهدا حتى أقلنا طموحا.
ولم نكد نبدأ العمل حتى انضممت إلى أسرة محرري حرس الحدود الأحمر، وهي صحيفة المعسكر، وكنا نحن أعضاء لجان الشباب أقلية بين الجنود ونهضنا بالتبعات الملقاة علينا على خير وجه، وكان النظام الدقيق الذي يسود المعسكر الحربي يسري فيه قدر كبير من الروح الديمقراطي، فلم نكن نتردد في أن ننقد في صحيفة المعسكر الأحوال السائدة فيه أو الضباط أنفسهم، وكثيرا ما كنا نذكرهم بأسمائهم.
وكان من بين أولئك الضباط رجل يدعى جالشكا أغضب الجنود بفظاظته وسوء خلقه، وكنت أنا أطيعه وأنفذ أوامره دون تردد أو تذمر؛ لأني وأنا محرر في الصحيفة أحببت أن أكون حرا فيما أوجهه له من نقد، وألا يكون هناك شك في أني أطيعه بوصفه ضابطا، وإن كنت أشعر أن من واجبي أن أوجه إليه سهام النقد بوصفي محررا في صحيفة المعسكر.
ومضت فترة من الوقت تظاهر فيها بأنه لا يعبأ بالمقالات القصيرة التي أخذت عليه فيها أنه يرفع صوته على الجنود، ويوجه إليهم ما لا يليق من الألفاظ، ويستبد بهم، ولكنه لم يلبث أن خضع واستسلم.
وجاءني يوما من الأيام وقال لي: «يا رفيق كرافتشنكو، إني أريد أن أتحدث إليك.» وقال لي ونحن في طريقنا من الثكنات إلى الإصطبلات إنه لا يعرف قط سببا يحملني على اضطهاده، وسألني هل يليق بعضو في لجان الشباب أن يقوض دعائم سلطة قائد من قواد الجيش الأحمر؟
فأجبته وأنا معتد بنفسي اعتداد شاب في الثانية والعشرين من عمره: «إن الذي أهدف إليه يا رفيق جالشكا هو أن أدعم سلطتك لا أن أوهنها، فإن ظللت تعامل رجالك كأنهم أقذار لا قيمة لهم، فإنهم سيحتقرونك ولا يطيعونك إلا وهم كارهون، أما إن عاملتهم معاملة الآدميين والرفاق السوفيت، فإنهم سيطيعونك وهم راضون مغتبطون، وإذا جد الجد فإن هذه المعاملة قد تكون هي الفيصل بين النصر والهزيمة في ميدان القتال.»
وعقدنا اتفاقا فيما بيننا - بين الضابط والجندي البسيط - أخذ فيه على نفسه أن يهذب خلقه، ووعدته أنا ألا أتعرض له في حرس الحدود الأحمر، وأغرب ما في هذه القصة أن القائد جالشكا لم يف بوعده فحسب، بل أصبح فوق ذلك من أحب الضباط إلى الجنود في هذه الحملة، وكان هذا في نظره غريبا كل الغرابة، فقد كان إذا تولى القيادة تمنى الجنود أن يسيروا تحت لوائه، وإذا سار بنا إلى معركة محفوفة بالخطر عجبنا من شجاعته تحت وابل الرصاص.
ولما تم تدريبنا أرسلنا إلى مطاردة المهربين والبسمتشي في جنح الظلام؛ ولم نكن نعجز عن الحصول على معلومات سرية من عيون مأجورين عن الحركات الدائرة على جانبي الحدود، فقد كان الناس يتلقفون نتفا من المعلومات في المقاهي الفارسية والأفغانية عن البضائع الواردة أو الصادرة، وعن الحملات التي تدبر للإغارة على القرى السوفيتية، وكان الوسطاء ينقلون هذه المعلومات القليلة إلى قيادة الجيش الأحمر.
وكثيرا ما كانت الحملة تخفق في الالتحام بالطريدة بعد البحث الطويل، وكان الطرفان يتبادلان الطلقات أحيانا، ولكن وقعت مرة واحدة على الأقل في أثناء خدمتي ملحمة عجيبة تحمل فيها الطرفان بعض الخسائر، وأقول ملحمة عجيبة؛ لأنها دارت في ليلة مطيرة حالكة الظلام، كان فيها كل من الطرفين يقاتل عدوا لا يراه.
وتفصيل ذلك أن رجلا ملتحيا من التركمان، على رأسه قبعة عالية من الفراء، أرشد قواتنا في تلك الليلة إلى مكان قال مستندا إلى ما وصله من الأنباء: إن في وسعنا أن نقطع فيه الطريق على قافلة من المهربين، وسرنا على خيولنا سيرا وئيدا نحو ساعة من الزمان في جو مطير زمهرير، وكنا نقف من حين إلى حين ننصت لعلنا نسمع صوتا، حتى استطعنا في آخر الأمر أن نتتبع أثر العدو، فأرسلنا الصواريخ في السماء لتنير لنا ما حولنا برهة وجيزة، ثم أمرنا تارسوف - رئيس كتيبة القسم السياسي وقائد هذه الحملة - أن ننتشر ونبدأ الهجوم.
وظللت بعض الوقت أطلق الرصاص على غير هدف في اتجاه الأصوات التي أمامي، ثم لم أشعر إلا وأنا أكاد أسقط على رجل من التركمان اقترب مني حتى استطعت أن أرى عينيه في الظلام، ورأيته يصوب بندقيته نحوي، ولكنني استطعت أن أسبقه إلى إطلاق الرصاص عليه، وسقط الرجل عن جواده، ولكن يبدو أنه لم يصب إلا بجرح غير قاتل؛ لأنه حاول أن يطلق الرصاص علي مرة ثانية، فقفزت عن ظهر جوادي، وانتزعت البندقية من يده، وأمرته أن يقف.
ورأيت أمامي رجلا متقدما في السن، عريض اللحية، يداه مرفوعتان فوق رأسه، والدم يسيل على خده، ونطق ببضع كلمات بلسان قومه، ثم بكى، وأيقنت أنه يتوسل إلي أن أبقي على حياته، فانتزعت خنجره من جرابه، وأرسلته إلى أحد الضباط.
وانتهت المعركة قبل شروق الشمس، وفر كثيرون من المهربين بلا ريب، ولكن عددا كبيرا منهم جيء بهم إلى معسكرنا، ومعهم كثير من الجمال المثقلة بالأحمال، وقبل أن تغرب شمس اليوم كانت كتيبة من الرماة قد أعدمت كل واحد من الأسرى التركمان رميا بالرصاص؛ عملا بأوامر كبار الضباط.
ثم عينت بعدئذ أنا وكوتيا وبعض الجنود في أحد المراكز الأمامية على بعد بضعة أميال من المعسكر، وسر الذين كانوا يحتلون هذه النقطة قبلنا حين جئنا إليهم؛ لأن مجيئنا يعفيهم من العمل فيها، وكان أحدهم قرويا من كيف لا يحزنه إلا أنه سيضطر إلى التخلي عن حصانه، وهو جواد جميل نبيل كان يدعوه لورد كيرزن لأسباب لم تتضح لي في يوم من الأيام، ولم يسلمه لي إلا بعد أن أخذ علي المواثيق بأن أحسن معاملته، فلما عاهدته على ذلك قال لي مؤكدا: «أحسن معاملته، وسيكون كيرزن أخا لك، فهو أنبل شعورا من معظم الناس.»
وكان المركز الأمامي الذي نحتله عند مخرج ممر ضيق بين التلال، وحدث في الأسابيع التي تلت ذلك الوقت ما جعلني أحمد لمواطني أن أورثني لورد كيرزن، فقد وجدت أن الجواد ليس شديد الإحساس لأقل مس مني فحسب، بل إنه في رأيي يحس بأفكاري نفسها، وكان أشد ما يطمئنني أن أشعر بأني أمتطي صهوته وأنا قائم بنوبتي في الحراسة منفردا في أثناء الليل بعيدا عن رفاقي؛ ذلك أن كل صوت نسمعه سواء كان من حصاة ساقطة أو من حفيف أوراق الشجر، أو عواء ابن آوى جائع ، كان يكفي لتنبيه كيرزن وراكبه.
وكان النظام المتبع أن كل جندي يقبض على مهرب ينال ثلث قيمة البضائع التي تضبط معه، ولم يسعدني الحظ بشيء من هذا، ولكن كثيرين من الجنود كانوا يعودون من حراسة الحدود إلى قراهم بعد أداء خدمتهم وهم أغنياء كما يفهم من لفظ الغنى في بلاد السوفيت.
وإن أنس لا أنس ما حييت منظر زياما الشاب اليهودي الأسمر النحيل، ولم يكن زياما نفسه أو أي إنسان غيره يعرف أية حيلة منطقية بيروقراطية جاءت بهذا الفتى إلى كتيبة الفرسان وأرسلته إلى الحدود الإيرانية، فقد بدأ حياة الفروسية لا يعوقه إلا عائق واحد، وهو خوفه الشديد من الخيل، وكان بعض رفاق هذا الشاب المسكين يسخرون منه، ولكن معظمنا كانوا يشفقون عليه، وحاولنا أن نعلمه ركوب الخيل والقبض على أعنتها، فكان يخيل إلينا أحيانا أنه سيموت من شدة الخوف، ولكن زياما لم يكد يتغلب على خوفه حتى أدهشنا ببراعته في الفروسية وبجرأته ورباطة جأشه، فكان يقضي الليالي مقتفيا آثار المهربين، وهدته غريزته القوية النادرة في ليلة من الليالي إلى القبض على مهرب مثقل بالبضائع، فنال بذلك ثروة طائلة مكافأة له على هذا العمل. وكثيرا ما أنجاني لورد كيرزن من الهلاك بفضل قوائمه الثابتة القوية كما كان أيضا سبب ختام حياتي العسكرية.
فقد كنت في إحدى الليالي أطوف بأرض شجراء بعيدة عن مركزي، ومعي أحد الجنود، وقد انقضى من الليل معظمه، وسمعنا أصواتا من بعيد، فصحت بأصحابها الذين لا نراهم وأمرتهم بالوقوف، واندفعت أنا ورفيقي نحو مصدر الصوت، فزلت قدم كيرزن وألقاني على الأرض من فوق عنقه.
هذا كل ما عرفته عن نفسي في ذلك الوقت، وناداني رفيقي من بعيد ولكنه لم يتلق منى جوابا، وعثر على جوادي ولكنه لم يعثر على أي أثر لي، ثم عاد إلى المعسكر بعد أن قضى بعض الوقت يبحث عني من غير جدوى، وأرسلت سرية للبحث عني فعثرت علي بعد بضع ساعات في منقع من الماء مرضوضا فاقد الإحساس.
وقضيت عدة أسابيع طريح الفراش في مستشفى عسكري بالقرب من أسخاباد، أتلوى من شدة الألم وأحس أن ليس في جسمي عظم واحد سليم ومستقر في مكانه الطبيعي، ولكن القائمين علي تبينوا أن كل إصاباتي كانت سطحية، وكان في المستشفى ممرضتان تبديان علي وعلى غيري من المرضى عطفا وحنانا، وتبذلان لنا من العناية ما حببهما إلى قلبي وإلى قلوب سائر نزلاء المستشفى، ولم يكن خافيا علينا أنهما من الطبقة الراقية وأنهما منفيتان من بتروغراد، وصرحت لي إحداهما وهي ليديا بفلفنا بأنها أميرة من أميرات الأسرة المالكة.
ولما شفيت وأصبحت قادرا على السفر أرسلت إلى كيف، وبقيت في أحد مستشفياتها نحو شهر من الزمان، ثم قضيت شهرين آخرين في مصحة بهذه المدينة، سرحت بعدهما وعدت إلى عملي الأول رئيسا للعمال في مصنع بتروفسكي-لينين بدنيبروبتروفسك، وكان ذلك في صيف عام 1928م، وأنا أطوي السنة الثالثة والعشرين من عمري.
الفصل الخامس
قطع الصلة بالماضي
قلما يشعر صغار الممثلين في مسرحية تاريخية عظمى بما في هذه المسرحية من عظمة؛ ذلك أن انهماكهم في تمثيل أدوارهم فيها لا يمكنهم من رؤية خطوطها الرئيسية، ولقد كنت أنا واحدا من هؤلاء الممثلين في مستهل عام 1929م، كنت أحد الشبان المتحمسين الذين تشبعت نفوسهم بالمبادئ السامية والخطط التي وضعت في ذلك الوقت الذي أخذت فيه بلادي تستحث الخطى نحو ثورة جديدة أبعد غورا من بعض الوجوه من ثورتها الماضية، والذي كان فيه ستالين وأعوانه المقربون منهمكين في كفاح مرير مع خصومهم في الهيئة السياسية العليا وفي الحزب الشيوعي كله إلى حد ما، يبذلون قصارى جهدهم لاستئصال بقايا النزعة الاقتصادية الرأسمالية والعقلية الرأسمالية، حتى يقودوا روسيا في طريق التنظيم الصناعي والإنتاج الزراعي الجماعي.
ومن أجل هذا أخذ كل ما لا يزال عالقا بالثورة، ولكنه مطبوع بطابع الوهن والتردد، أو غير متفق مع مطالبها، أخذ كل هذا ينسلخ عنها، وأصبح الولاء للحزب، أي الواجب الذي تفرضه على الأعضاء طائفة معينة من الأهداف، أصبح هذا الولاء أجل شأنا من جميع المصالح الشخصية، وأضحت الآلة الجديدة - وهي رمز التنظيم الصناعي ومادته - ذات شأن خطير في حياتنا، يجعل لكل يوم من أيامها قيمة تعدل عدة أيام من حياتنا الماضية ، فهي منهومة لا تشبع، ذات قوة خفية في حياة البلاد العادية، وخيل إلينا أن ما يعانيه أصحاب النزعة الإنسانية من بلاء ليس إلا بقية من بقايا الماضي العجيب وأثرا من آثاره.
وجرف هذا التيار الجديد آلاف الآلاف من الخلق - طائعين أو مكرهين - فانتزعهم من حياتهم المألوفة ودفعهم أمامه في مجار جديدة، وكانوا في معظم الأحيان لا يجدون كفايتهم من الطعام أو الكساء، ولا يتطلعون إلى أمل وإن كان كاذبا يخفف عنهم ما هم فيه من شقاء، وأنا عليم بالحادثات الفردية التي وقعت خلال هذا التطور الجديد بطبيعة الحال، أعرف ما هو خير منها وما هو شر، ولكني كنت أنظر إليها بعيني حدث في الثالثة والعشرين من عمره، لقن مبادئه السياسية في أحضان لجان الشباب أو في الجيش الأحمر، وآمن بأن الروسيا مقبلة على مستقبل خير من ماضيها، وكنت لذلك من أشد عمال مصنعنا يقظة وأكثرهم شعورا بالواجبات الاجتماعية، يثلج صدري ما أبذله من الجهود في القيام بواجباتي اليومية الإنشائية.
ولقد كانت هناك عيوب كثيرة وآلام شديدة تقض مضاجع الكثيرين، ولكن هذه العيوب والآلام كانت تصحبها حماسة مروعة وآمال تلهب الصدور، لقد كان الأمل في حسن مستقبل البلاد قويا جياشا؛ ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة المحضة أنني اخترت هذه الفترة بالذات لأنضم إلى الحزب الشيوعي، وكنت فيه واحدا من تلك الأقلية التي تحركها الآراء الكامنة وراء المجهود الإنتاجي العظيم، وتملكتني أنا ومن معي رغبة في العمل كانت تبلغ من القوة أحيانا حد الجنون، وقد يكون في مواطني من يصبرون على الثورة الجديدة وهم ساخطون مكتئبون، كما صبروا من قبل على آلام القحط العظيم، وقد يقبلونها على أنها شر طبيعي لا بد منه، أما أنا وأمثالي ممن اعتصموا بالمبادئ وامتلأت قلوبهم إيمانا بالعهد الجديد، فقد بدا لنا أن ما نعانيه من آلام إن هو إلا ثمن نشتري به المستقبل السعيد الذي ترتقبه البلاد وأبناؤها، وخيل إلينا أن التنظيم الصناعي مهما يكن الثمن الذي يبذل فيه، وانتشال الأمة من وهدة التأخر، هما أنبل الأغراض التي يمكن أن يعمل لها إنسان.
وهذا هو الذي يوجب علي أن أقاوم ما قد تنزع إليه نفسي من الحكم على حوادث تلك الأيام في ضوء ما أشعر به اليوم، لقد كانت حياتي كلها عملا وكدحا وحرمانا، وبدا لي أن المطاعن التي يوجهها إلي هذا النظام «الأحرار الذين ولى زمانهم» والذين لا هم لهم إلا الانتقاد ثم البقاء خارج دائرة الجهود؛ خيل إلي أن هذه المطاعن لا تفيد إلا في بث الملل والسآمة في النفوس.
واغترق العمل جهدي وتفكيري، اغترقه عملي رئيسا فنيا للعمال في مصانع تطريق المعادن، وما عقدته من صلات جديدة مع الموظفين وذوي النفوذ من الشيوعيين، وما يلقيه علي الاشتراك في تحرير صحيفة المصنع من واجبات عاجلة، وكنت مولعا بالعمل، لا يخطر ببالي قط أني - بعد أن أكدح طول اليوم في حر المصنع أو المعمل الكيميائي وصخبهما - قد أكون متعبا لا أستطيع حضور الاجتماعات أو سماع الدروس الفنية، أو القيام بالمشروعات الاجتماعية أو أداء بعض الواجبات الكتابية، كأن التعب من أوهام الممولين.
وكانت الصحافة والإذاعة ترددان العبارات التي اتخذت شعارا للعهد الجديد، اللحاق بالبلاد الرأسمالية وسبقها! إلى العمل على تصنيع الروسيا والقضاء على طبقة كبار الملاك! وكأن البلاد كلها قد استحالت مصنعا ضخما تغلي مراجله، فكنا نأكل وننام ونعمل وسط عجيج المعارك، وكانت حياتنا تغمرها اجتماعات المال والدرس المتواصل، والاستماع إلى الخطب الرنانة طعنا على أعداء البلاد من أهلها ومن الأجانب عنها.
وكان يخيل إلينا أن مناقشة القرارات التي تهبط علينا من سماء الكرملن بألفاظ من نار لا تقل حمقا عن مناقشة الصواعق أو الزلازل، لقد كنا نقبل هذه القرارات كأنها وحي من السماء، وكانت بطبيعة الحال تشرح لنا وتفسر في خلال دراساتنا السياسية التي لم تكن تنقطع أبدا، ولم يكن ما يقال لنا يتفق حتما مع ما تضمره عقول الزعماء في الكرملن، ولكن عقولنا لم تفطن إلى هذه الحقيقة في تلك الأيام.
ولم يكن لي قط شأن بالشرطة السياسية المعروفة «بالقسم السياسي»، على أني كنت أحسب أن الخطر المحدق بالبلاد في تلك الساعة الحاسمة من حياتها يحتم فرض الرقابة على كل إنسان فيها، ولم يكن أحد تسوءه هذه الرقابة إلا أبي وأمثاله من الشيوخ ذوي الذكريات الماضية الطويلة، ولكن هذا التحذلق كان يبدو لنا في غير موضعه، ولا فرق بينه وبين الدعوة للسلم في ميدان القتال.
وجاء إلى مصنعنا في أوائل عام 1929م رجل من كبار البلاشفة القدامى يدعى كرستيان ركوفسكي، وألقى خطبة في اجتماع عام، شهده عدد كبير من المستمعين، وتكاد تكون هذه آخر مرة أجيز فيها لرجل من أعداء ستالين أن يتحدث إلى الجماهير، وجاء أبي بعد بضعة أيام يقص علينا نبأ هذا الاجتماع، وكان في أثناء حديثه مكتئبا، وأنا أدرك الآن سبب هذا الاكتئاب.
وكان مما قاله لنا: «لقد انتقد ركوفسكي زعماء الحزب، ولست واثقا من أن هذا النقد صحيح كله أو أن كثيرا من العمال يوافقونه عليه، ولكنا فهمنا من قوله أن هناك نزاعا على السلطة، وأن كفة ستالين هي الراجحة في هذا النزاع، وكان بعض المستمعين يميلون إلى جانب ركوفسكي ويعطفون عليه، وأخذوا يلقون عليه الأسئلة ويصفقون بأيديهم تأييدا لرأيه، ثم غادرنا ركوفسكي، ولم تكد تشرق شمس اليوم الثاني يا ولدي حتى استدعى رجال القسم السياسي العمال الذين أظهروا شيئا من العطف عليه ...»
وبعد بضعة أيام من ذلك الوقت ذهبت إلى كزلوف أمين سر اللجنة الإقليمية (الرايكوم) للحزب، فلما أقبلت عليه حياني أحسن تحية، وكان يعرف أني أوشك أن أتقدم بطلب رسمي للانضمام إلى الحزب، ويرى في جنديا من جنوده كبير القيمة عظيم النفع، فقد أصبحت جم النشاط في شئون المصنع والمدينة على السواء، وأخذ اسمي وصورتي يظهران كثيرا في نشرات النقابات والنشرات الصناعية والمحلية التي تصدر في المدينة.
وقال لي كزلوف وهو يضحك: «إن أباك يا رفيق كرافتشنكو رجل شاذ غريب الأطوار.»
فسألته وقد استولى علي بعض القلق: «ماذا حدث؟» - «لم يحدث شيء ذو بال، وكل ما في الأمر أن عددا قليلا منا ممن ينتمون إلى لجنة الحزب الإقليمية ذهبوا إلى الإدارة الميكانيكية، حيث لا يزال لزيارة ركوفسكي بعض الأصداء الفاسدة، وأردنا أن نتحدث إلى عدد قليل من الصناع لنتعرف حقيقة الموقف هناك، فسألنا منهم أفرادا قلائل متفرقين، ثم تقدمنا آخر الأمر إلى أبيك الشيخ.»
وسألته أنا بأرق الألفاظ وأكثرها مجاملة: «كيف تسير الأمور؟ فماذا كان جوابه في ظنك؟ لقد حدجني بنظرة فاحصة من قمة رأسي إلى أخمص قدمي ثم قال لي: لا تتدخل في عملي، إن هذا مصنع لا ناد، وإذا أردت أن تعرف أفكار العمال فاسأل عنها قسمك السياسي فإن من عمله أن يعرف هذه الأفكار.
ما أغرب أباك يا فكتور أندريفتش! وكان سينيا فلجن معي في أثناء الحديث وهو عضو في لجان الشباب كما تعرف، ولهذا حاول هو أيضا أن يحمل أباك على الإفصاح عن رأيه فقال له: إنك يا مواطن كرافتشنكو من العمال القدامى المحترمين، وقد حاربت القيصر، ونحن أعرف الناس بك، وهذا هو السبب الذي يدعونا إلى أن نعرف أفكارك، فما كان من أبيك الشيخ إلا أن ثار وقال محتدا: اسمعا أيها الشابان، إنكما لا تزالان طفلين في السياسة، وليس في وسعي أن أناقشكما في شيء من الشئون الجدية.»
ثم ضرب كزلوف صفحا عن الموضوع كله وقال في شهامة ورحابة صدر إن الأقوال التي صدرت من أبي ليست إلا سورة من شيخ مكلوم طاعن في السن ساخط على ما ارتقى إليه العالم الجديد، ثم سألني: «ومتى تتقدم بطلب الانضمام إلى الحزب؟» - «في القريب العاجل على ما أظن.» - «حسن! سأحضر الاجتماع لأزكيك، فإنا في حاجة إليك يا كرافتشنكو؛ لأن أمامنا أعمالا شاقة كثيرة، وليس في مقدورنا أن نعتمد على الجيل القديم، بل ليس في مقدورنا أن نعتمد على خير رجال ذلك الجيل.»
وهكذا كان كبار الشيوعيين يغرونني من آن إلى آن بالانضمام إلى الحزب، وكانوا يقولون لي إني ما دمت أعمل معهم وأعينهم في كفاحهم من أجل الحياة الجديدة، فلم أتنحى عنهم من الوجهة النظامية، والحق أني كنت متفقا معهم في كل شيء، وكنت منضما إليهم بقلبي وآمالي؛ ولذلك اعتزمت أن أنضم إلى الحزب مخلصا لمبادئه، لا تخالجني فيها ريب ولا هواجس، سأنضم إلى الجيش العامل على إقامة صرح العالم الصناعي الجديد والعالم الاشتراكي الجديد.
وكنا في صحيفة المصنع نستمتع بحرية واسعة داخل دائرة نظام الحزب، ولم يكن بين محرري الصحيفة من لم ينضم بعد إلى الحزب إلا أنا ورجل آخر يدعى بلسكوف، وكانت الصحيفة في بادئ الأمر أسبوعية ثم أصبحت فيما بعد يومية، وكان يوزع منها نحو 35000 نسخة، وكان يقرؤها بطبيعة الحال كل شخص يعمل في مصانع بتروفسكي-لينين تقريبا، بل إنها تعدت دائرة المصنع وانتشرت بين رجال الاقتصاد وبين موظفي الحزب في الإقليم كله بل وفي موسكو نفسها.
وكان كل ما يكتب في الصحيفة يمر بطبيعة الحال على الرقيب، ولم يكن يسمح لها بأن تنشر شيئا يمكن أن يلقي ظلا من الشك على التنظيم الصناعي أو على سياسة الحزب الشيوعي، والحق أن أحدا لم يكن يدور بخلده أن يكتب شيئا من هذا القبيل إلا إذا كان بعقله خبال، أما مهاجمة إدارة المصنع وموظفي الحزب والنقابات، وما كان يحدث في أعمال الإنتاج والإدارة من أخطاء فردية معينة، فهذه كلها كان يسمح بنشرها، وكان القراء يخدعون بهذا فيعتقدون أن الصحيفة تعبر عن الرأي العام.
وكان النقد الذاتي - سمو كريتيسكا - من أهم شعائر ذلك العهد، وكان الناس جميعا يشجعون على أن يقولوا «كل ما يعرفون» من العيوب والأخطاء والوسائل التي يمكن أن يستعان بها على الإصلاح في الصحف العامة، وفي صحف المصانع والمزارع، وفي النشرات المعروفة «بأوراق الجدران»، وكان هذا الانتقاد من الوسائل التي ابتكرت لتحسين نوع العمل، ولكنه كان في بعض الأحيان سوطا يسلطه كبار البيروقراطيين على رءوس صغارهم.
وكانت المصانع وقتئد لا تزال تديرها هيئة ثلاثية مؤلفة من ممثلين للإدارة والحزب ونقابات العمال، وفي هذا الجم الغفير من الموظفين الذين يراقب بعضهم بعضا كان الانتقاد الذاتي ينقلب في بعض الأحيان إلى وسائل خفية للنزاع على المناصب والسلطة.
وألقيت بنفسي في تيار هذا الانتقاد الذاتي بحماسة أزعجت بعض زعماء مصنعنا، فأخذت أهاجم ما فيه من عيوب مهاجمة عنيفة شريفة غير عابئ بمن يصيبه الضرر من جراء هذا الهجوم أيا كان مركزه، وسرعان ما أدركت السبب الذي من أجله أخذ بعض ذوي المكانة في المصنع يتقربون إلي على غير انتظار؛ فقد كانوا بلا شك يعتقدون أن خير ما يضمن لهم مراكزهم أن يكسبوا صداقة شاب مرهف القلم يسدده إلى أولئك الرؤساء المتأخرين المجاملين.
ولم تكن مقالاتي تنشر في صحيفة المصنع وحدها، بل كانت تظهر كذلك في نشرات خاركوف ودنيبروبتروفسك التي كنت مراسلا لها في المصنع الكبير، وكانت الصحف التي تنطق بلسان الحزب في المدينة تعلق على مقالاتي وتضرب بها المثل لما يجب أن يكون عليه «الشباب العامل».
وماذا يظن القارئ أني كنت أكتب فيه؟ كنت أكتب في الإسراف الذي لا يرتضيه الضمير، وفي التلف الذي يصيب السلع، وفي العمال الذين لا يقدرون عددهم وآلاتهم التقدير الواجب، وفي التكاليف الباهظة التي تتكلفها كل وحدة من إنتاج مصنعنا إذا قيست إلى ما يتكلفه مثلها في مصانع السويد وأمريكا، وفي الموقف غير اللائق الذي يقفه الرفيق فلان من العمال، وفي رداءة نوع المنتجات المادية، وفيما يمكن إدخاله من الإصلاح على بعض وسائل الإنتاج؛ لنقتصد بذلك آلاف الأيدي العاملة.
على أن أكثر ما كان ينزعج له المشرفون على الحياة الرتيبة في المصنع تلك المقالات العنيفة التي كنت أهاجم فيها الظروف المحيطة بالعمال المقيمين في الثكنات، وقد أوضحت في هذه المقالات أن الأجور مرتفعة في ظاهرها ولكنها لا تتمشى مع الأثمان الجديدة التي تباع بها المأكولات في مطاعم المصنع ومخازنه، وتساءلت: متى يتم بناء المساكن التي كثر التحدث عنها؟ ولماذا يعيش بعض الموظفين في رغد من العيش على حين أن الكثيرين من عمال المصنع لا يجدون ضرورات الحياة؟
وكانت نتيجة هذه الحملات الصحفية أن أصبح لي كثيرون من الأعداء الأقوياء، دامت كراهية بعضهم لي كثيرا من السنين، ولكني كسبت أيضا كثيرا من الأصدقاء الأوفياء، وكان أخص ما لقيت فيه تأييدا قويا شكواي المتكررة من كثرة الموظفين في المصنع كثرة لا تتناسب مع إنتاجه؛ ذلك أني استخرجت من بعض الصحف الفنية إحصاءات تدل على أن مصانع صهر المعادن في السويد تستخدم موظفا إداريا واحدا، فيما نستخدم فيه نحن موظفين أو ثلاثة موظفين، وكان مما قلته: إن ذلك يحدث تضاربا في العمل، ويبطئ من سيره، ويزيد نفقات الإنتاج.
وكان الانتقاد الذاتي آخر ما بقي من الوسائل التي تعبر بها الطبقات الدنيا في الاتحاد السوفيتي عن قوتها، وكانت في حد ذاتها نوعا من الرأي العام، وقد أفلحت في كبح جماح الموظفين المحليين وحالت دون الشيء الكثير من مكرهم وغطرستهم، وإن لم يكن لها أثر في السياسة العليا ولا في القرارات التي تصدرها السلطة المركزية في موسكو.
ولما أقبلت على والدي لأعلن له أني أريد الانضمام إلى الحزب شعرت بشيء من الارتباك، وكان منشأ ارتباكي هذا أسبابا أحس بها، ولكن يصعب علي أن أوضحها لنفسي؛ لأن أصولها مستقرة في أعماق عقلي، حيث كانت ذكريات مثل الطفولة العليا تحيا حياتها الخاصة بها.
وقال لي أبي: «لقد كنت أعرف أنك ستنضم إلى الحزب في يوم من الأيام سواء أكان ذلك اليوم قريبا أم بعيدا، فقد كنت أراقبك عن كثب وأرى صلاتك بالنشاط السياسي تزداد يوما بعد يوم، فأنت تكتب في السياسة وتدرسها، ولكني لا أقول لك إن انضمامك هذا يسرني ويثلج صدري كثيرا، فأنت نفسك تعلم مقدار ما يحيط بنا من المظالم وما بين الطبقة الحاكمة والشعب من فروق تزداد على مدى الأيام ... وأحب أن أعرف كيف تنظر إلى هذه الأشياء؟ وماذا يدور في خلدك؟» - «إني ليسرني يا أبت أن تسألني هذا السؤال، وأحب أن أتحدث إليك حديثا صريحا، وأنا شاكر لك فضلك علي، فأنا مدين لك بالشيء الكثير، وأنا أجلك لشرفك ونزاهتك وما لك في الثورة من ماض مجيد، ولكني أرجو منك أن تفهمني على حقيقتي، فأنا أكاد أبلغ الرابعة والعشرين من عمري، وقد شببت وعملت مع رجال من ذوي الآراء الحديثة في محيط كل من فيه مخلص لهذه الآراء والخطط التي توضع لإنهاض البلاد في المستقبل، ولم أقفز إلى الحزب قفزة، بل إن إيماني بمبادئه نما في قلبي على مهل، حتى شعرت آخر الأمر كأني من رجال الحزب.
وأنا أعلم أن في الحزب نقائص وعيوبا وسعيا وراء المناصب، وأن فيه أقذارا ومظالم تكتنف الحياة اليومية العملية؛ ولست أحب هذه الأشياء أكثر مما تحبها أنت، ولكني أعدها مرحلة من المراحل ستنقضي حتما؛ ذلك أن تحويل قطر بدائي إلى دولة اشتراكية صناعية حديثة عمل ضخم يتطلب جهودا جبارة، ولا يمكن النهوض به من غير أخطاء، بل قل: من غير مظالم، ولكني لا أريد أن أتنحى عن هذا العمل وأكتفي بتوجيه النقد إليه، بل أريد أن أعمل مخلصا في داخل الحزب وأقاوم ما فيه من شر وأؤيد ما فيه من خير.
ولقد فكرت طويلا قبل أن أخطو هذه الخطوة، وليس ثمة سبيل يعرف بها هل يسير الحزب في الطريق السوي إلا سبيل التجربة ومر الزمن، ولكني أومن بغاياته وأريد أن أبذل ما أوتيت من جهد لتحقيق هذه الغايات، ومهما يكن من أمرك أنت يا والدي فإنك لا تعارض فيما نريده لبلادنا من نهضة في الصناعة، كما أنك لا تعارض في استبدال الجرارات بالخيول المنهوكة الخائرة القوى، ولا تعارض في السماح إلى العمال بأن ينضموا باختيارهم إلى المزارع الجماعية.»
ونظر إلي نظرة قاسية ولكنها خالية من الغضب وقال: «أنا يا فيتيا لا أعارض في هذه الأشياء بطبيعة الحال، وأنا أعلم الناس بشعورك نحوها، بل إني في واقع الأمر أتبين نفسي فيك، فقد كنت في شبابي أسلك هذا المسلك نفسه، كنت أطيع وحي ضميري ولا آبه بنفسي ولا بزوجتي ولا بأولادي؛ ذلك أن دينا أيا كان خير من لا دين، أتذكر قول لك
luk
في كتاب جوركي الأعماق الدنيا
Lower Depths : إذا اعتقدت بوجود الله فهو موجود، وإذا لم تعتقد بوجوده فهو غير موجود. ولقد وجدت أنت دينا تؤمن به وأنا أدعو لك من أعماق قلبي بالخير والتوفيق.
ولكن نصيحتي لك يا فيتيا أن تبقى قريبا من الشعب ولا تقدر فائدتك له بما تناله من المناصب بل بنوع الحياة التي يحياها الشعب، وهل هو أكثر رخاء مما كان وأسعد حالا وأوسع حرية، وإذا اقتربت منه بحق وفهمته على حقيقته، وأعنته في أموره، فإني سأظل أبد الدهر شاكرا لك فضلك، لا تعش بالألفاظ تتخذها لك شعارا، واحكم على الساسة بأعمالهم لا بأقوالهم، واعلم أن الذين يقيمون في الكرملن يجيدون وضع النظريات، فلننظر نحن مقدار نجاحهم في تطبيقها، وأرجو ألا تجد قط ما يزعزع إيمانك!»
وسكت هنيهة ثم واصل حديثه مسلما ببعض آرائي: «ومن يدري لعل جمهور الشعب ينال على أيدي أبنائنا حرية حقة وحياة أسعد من حياته السابقة.» - «لست أشك يا أبت في أنه سينالهما على أيدينا.»
وظل هذا الحديث منقوشا في ذاكرتي في السنين التي أعقبت تلك الأيام، حين كنت أكدح في الحزب وفي سبيل الحزب، وكنت أحس كأن أبي يراقبني ويحكم على أعمالي، وينظر إلى الحقائق وإلى الأعمال من وراء الألفاظ.
وقبلت عضوا في الحزب في عام 1929م، وخيل إلي أن هذا الحادث أعظم أحداث حياتي وأجلها شأنا، فقد أصبحت به أحد الطائفة «المختارة» في روسيا الجديدة، فلم أكن بعد فردا عاديا يختار لنفسه بملء حريته من يشاء من الأصدقاء، ويعمل لما يشاء من المصالح، ويعتنق ما يشاء من الآراء، بل وهبت نفسي أبد الدهر إلى فكرة وقضية، وأضحيت جنديا في جيش منظم أحكم تنظيم، طاعة المركز الرئيسي فيه أولى الفضائل في نظري أو قل: إنها تكاد تكون الفضيلة الوحيدة، جيش لا يسمح لمن ينضم إليه من الجنود أن يجتمعوا بغير المرغوب فيهم من الأفراد، أو أن يستمعوا لغير المرغوب فيه من الألفاظ.
واستدعيت أنا ومدير قسمي في يوم من الأيام بعد انضمامي إلى الحزب إلى مكتب مدير المصنع الذي كنت أعمل فيه، فلما قابلناه قال لنا: إن نوع المواد التي كانت تورد من عندنا إلى مصنع درزكسفكي في الدنباص أخذت تسوء، وإن علينا أن ننتقل إلى هذا المصنع لساعتنا، وأن نبحث عن علة فساد موادنا وعدم وفائها بأغراضه، وأن نقدم له تقريرا بنتيجة هذا البحث.
ودامت هذه الرحلة أسبوعا، عدت بعده إلى المدير وقدمت له تقريرا شاملا، وظننت أني وضعت إصبعي على مواضع الداء فيه، وعرضت عليه عدة اقتراحات لعلاجه، وسر المدير من هذا التقرير، وقال إنه سيوصي بمنحي مكافأة مالية قيمة جزاء لي على خدماتي الطيبة، وسألني هل يرضيني هذا؟
فأجبته: «لست في حاجة إلى المال، ولكني في حاجة إلى مسكن، فإن أبي وأحد أخوي يعملان في هذا المصنع كما لا يخفى عليك، ولكنا ظللنا عدة سنين لا نحيا حياة الأسرة الحقة لحاجتنا إلى المسكن الصالح، بل إننا في هذا الوقت لا نعيش معا، وفضلا عن هذا فإن أمي مضطرة إلى البقاء في الريف.»
ووعدني المدير بتحقيق رغبتي وقال لي: «سأرى ماذا أستطيع أن أفعله لك.» ولم تمض إلا بضعة أيام حتى كان آل كرافتشنكو يعيشون جميعا في شقة مريحة من أملاك المصنع مبنية على الطراز الحديث، وبذلك استطاعت والدتي آخر الأمر أن تغادر بيتنا في مزرعة دق الأجراس التعاونية التي كانت تعيش فيها من قبل.
فاضت أنهر الصحف في بلادنا وتحدثت صحف البلاد الأجنبية نفسها في عام 1928م بما سمته حادث شختى، وتفصيل ذلك الحادث أن جماعة من كبار المهندسين الذين يعملون في صناعة الفحم قدموا للمحاكمة في موسكو على مشهد من مراسلي الصحف الأجنبية والسوفيتية، ورسمت آلات التصوير مناظر المحاكمة، ونقلت إجراءاتها على أمواج الأثير إلى جميع أنحاء البلاد الروسية.
وكأن أرباب الكرملن كانوا بعملهم هذا يقولون للشعب: «ذلك هو سبب ما لدينا من عيوب كثيرة على جانب عظيم من الخطورة، إن عمال الرأسمالية وبقايا العهد القديم يعملون عن قصد لوقوع الحوادث في المصانع ولنقص الإنتاج وتعطيله.»
وكانت هذه المحاكمة أولى المحاكمات الصورية الاستعراضية التي صارت فيما بعد عادة مألوفة في البلاد، والتي يقر فيها الناس في سكون وهدوء بجرائم اقترفوها ضد الدولة، أما في محاكمة شختى فقد ظل بعض المتهمين ينكرون ما وجه إليهم من التهم، ويكافحون للنجاة من القتل، وكان لا بد من منع هذا الشذوذ فيما يجد من محاكمات في المستقبل.
وحدثت بعد سنين من ذلك التاريخ محاكمة أخرى أخطر من هذه شأنا وأقرب منها إلى المسرحيات، وكان المتهمون فيها أيضا من المهندسين، وكانت هذه المحاكمة مظاهرة كبرى اتهم فيها جماعة من المهندسين بأنهم تزعموا حزبا صناعيا موهوما، يهدف إلى قلب النظام السوفيتي، وإعادة الرأسمالية والاستيلاء على أزمة الحكم، وصدقت أنا هذه المزاعم رغم ما فيها من سخافات ومتناقضات، كما صدقها الكثرة الغالبة من أهل البلاد؛ ذلك أن أنصار الحزب الشيوعي من رجال الجيل الجديد كانوا يقبلون من غير مناقشة المزاعم القائلة بأن كثيرين من المهندسين والعمال الفنيين الذين نشئوا قبل الثورة يناصرون بطبيعة الحال العهد القديم ويقاومون بقلوبهم - إن لم يكن بأعمالهم - ما يبذل من الجهود لتحويل الروسيا إلى بلاد صناعية.
ولم يكن أحد يشك في أن من الواجب أن يستبدل بأولئك المهندسين الذين ورثتهم البلاد من العهود الماضية جيل جديد خلت عقولهم من ذكريات الماضي، يدينون بالولاء للمبادئ السوفيتية ولخطط الحزب الشيوعي، وكان أكبر مورد تستمد منه هذه الطائفة هو الشبان من الصناع والموظفين، ومن الصناع المنضمين إلى الحزب، أو الذين يفكرون تفكير رجاله على الأقل، ومن أجل هذا اتخذت الدوائر العليا قرارا يقضي بإنشاء «آلاف» من شباب الحزب ونقابات الصناع؛ ليدرسوا في الجامعات والمعاهد الفنية الحديثة والقديمة، وكانت هذه خطة وضعت أسسها الهيئة السياسية العليا ذات السلطان الأعظم في البلاد.
وجاءت في عام 1930م هيئة ممثلة للجنة الإشراف المركزية التابعة للحزب لتبحث في شئون مستخدمي مصنعنا وجهوده، واستدعيت أنا إلى مكتب المدير، فلما دخلت الحجرة رأيت على كرسي مدير المصنع، خلف مكتبه الفخم وعدده التلفونية التي يخطئها الحصر، رجلا غريبا عرفت من الصور التي كنت أراها من قبل أنه أركادي روزنجولتز من أكبر الزعماء أصحاب السلطان العظيم في موسكو، ومن أبرز أعضاء اللجنة المركزية.
وتبسم الرجل لي وقال وهو يسلم علي بيده: «كيف حالك يا رفيق كرافتشنكو؟ لقد استدعيتك لأني وصلتني الأنباء عن أعمالك، فأنت شديد الاهتمام بتعقيل
1
الإنتاج، وهذا عمل جميل، وأنت جريء فيما تكتب في صحافتنا، وهذا أيضا حسن، فهل لك من حاجة عندي؟» - «لا، وأشكرك يا رفيق روزنجولتز.» - «حسن، هل لك أن تحدثني عن نفسك؟»
وألقيت على مسامعه ملخص تاريخ حياتي، فحدثته عن نشأتي في أسرة ثورية، وعن عملي في المزرعة التعاونية، وعن الفترة التي قضيتها في مناجم الفحم، وكيف انضممت إلى لجان الشباب، وعن خدمتي في الجيش الأحمر، وعن عملي في هذا المصنع، وعن كيفية انضمامي إلى الحزب، وما أكثر ما قصصت هذه القصة! ذلك أن الكشف عن حياة الإنسان الخاصة في المجتمع السوفيتي يكاد يشبه الطقوس الدينية في غير تلك البلاد، يؤديه الإنسان بلسانه وبقلمه ردا على أسئلة مكتوبة، تقدم له ليجيب عنها إذا ما ثارت حوله أقل شبهة.
واستمع إلي روزنجولتز وهو يدرسني دراسة دقيقة، ثم قال وكأنه وصل من هذه الدراسة إلى نتيجة: «إنك لا تزال شابا لم تبلغ بعد الخامسة والعشرين من عمرك، والحزب في حاجة إلى مهندسين صناعيين، فهل ترغب في الدرس؟ إن كنت ترغب فيه فإنا سنرسلك إلى معهد فني تقيم فيه بضع سنين، وستفيد الحزب بأن تهبه خير ما لديك من جهود؛ ذلك أن الحزب في حاجة إلى فنيين من رجاله المفكرين ليقوموا هم بتنظيم البلاد الصناعي مخلصين لمبادئه وسياسته.» - «شكرا لك، وإني ليسعدني أن أضع كل جهودي في خدمة بلادي.»
وجاء سرجو أورزنكدز نفسه إلى المصنع في اليوم الثاني، ودخل قسمنا على حين غفلة ومن ورائه عدد كبير من موظفي المصنع والإقليم الذي يقوم فيه، واضطربت حين رأيته كأني أرى ستالين نفسه؛ ذلك أن أورزنكدز كان من أقرب المقربين إلى ستالين، وهو الوزير المشرف على شئون الصناع والفلاحين، ورئيس لجنة الإشراف المركزية التابعة للحزب، وكان أول خاطر مر بخلدي حين شاهدته أنه شبيه كل الشبه بالصورة الشمسية المعلقة على جدار جمعيتنا التعاونية في حوض الدنتز!
وكان يرتدي نفس القبعة الرمادية الطويلة، ونفس السترة الزرقاء ذات الطوق الرمادي، وقد حشا سرواله الواسع في حذاءين من جلد لين يصلان إلى ركبتيه، وكان أنفه الأقنى ينحني انحناء أفخم منظرا مما كنت أشاهده في الصورة، أما شارباه فقد كانا يبرزان من تحت منخريه أوسع مما كانا في صورته، وشعرت حين رأيته كأني أعرفه طوال حياتي، وأن في بساطته وابتسامته سرا قد أزال ما بينه وبيني من بون شاسع يفصل بين إله هبط من سماء الكرملن ومخلوق عادي لا حول له ولا طول.
وقدمني مدير المصنع له.
وهدر أورزنكدز وهو يمد يده إلي: «نعم، لقد سمعت عنك، كيف يسير العمل؟»
فقلت له: «إنه يسير سيرا حسنا.» ثم أضفت إلى ذلك قولي: «ولكن في الإمكان أن يكون أحسن مما هو.» - «هذا كلام طيب! وماذا نستطيع فعله لنجعله أحسن مما هو؟»
فأجبته: «ليس من السهل أن أجيب عن هذا السؤال في بضع كلماته.»
فضحك أورزنكدز وقال: «لا تستح وكن صريحا.»
فقلت: «حسن، يستطاع ذلك بشيء مما سأقول، إن لدينا إسرافا في الأجهزة وفي الرجال الذين يراقب بعضهم بعضا، لقد اطلعت على سجلات هذا المصنع نفسه في السنين السابقة لعهد الثورة، فوجدت أن موظفيه الإداريين يكادون يزيدون الآن 35٪ على ما كانوا من قبل، وأرى أن ذلك خطأ يجب تلافيه، إن كل إنسان هنا يقف في وجه الآخر؛ وتبعة النتائج ملقاة على عاتق كل إنسان، أي إنها لا تلقى قط على إنسان ما، والعمل رديء والنفقات كثيرة، ولست أدري لم استطاع الرأسماليون أن يجنوا من هذا المصنع أرباحا، على حين أننا نتكبد فيه خسائر، إن العمال يشتغلون كما كانوا يشتغلون في الماضي؛ ولهذا أرى أن الذنب ذنبنا نحن.»
ولاحظت وأنا في شدة حماستي الكلامية أن موظفي المصنع قد بدأ يساورهم القلق، وسعل المدير وارتجف ممثلو الحزب والنقابات، ووقف دولاب العمل في القسم، وخرق أذني صوت من مكان ينادي: «إنك محق يا فكتور أندريفتش، إنك محق!»
وواصلت حديثي وقد نسيت نفسي في أثناء حماستي الكلامية فقلت: «نعم، كثيرا ما أسمع جعجعة ولا أرى طحنا، إن النظام ضعيف لأن الذين يفرضونه كثيرون، وكل ما نحتاجه يا رفيق أورزنكدز هو إدارة موحدة وتبعة موحدة، من غير أن تتدخل فيها جهات كثيرة.»
فقال مرة أخرى: «هذا شيء جميل، وأنت على حق بوجه عام، والفزهد (الزعيم) نفسه يفكر هذا التفكير، ومن الواجب أن تذهب لتدرس يا رفيق كرافتشنكو.»
وسلم علي بيده، وخرج ومن ورائه أتباعه وقد تملكهم الخوف، ولكنه التفت إلي بعد خطوات قليلة وقال لي: «إذا حزبك أمر أو كانت لك حاجة عاجلة فاكتب إلي تجدني في عونك.»
وكان يسرني أن أقبل هذه الدعوة في السنين الكدرة التي أعقبت ذلك الوقت، وشعرت من تلك الساعة كأن أورزنكدز قد «تبناني» وأن لي نصيرا في مجالس «الأرباب» القادرين، وظللت إلى أن مات في أوائل عام 1937م لا يفارقني شعوري بأن أحدا لا يستطيع أن يمسني بسوء، وكان علمي في أحرج الأوقات أن في وسعي أن ألجأ إلى زميل ستالين ومواطنه ذي الوجه الصقري وأطلب إليه العون، كان علمي هذا يبعث في قلبي من الجرأة ما ليس في قلب أحد غيري.
وظلت هذه المحاضرة، التي ألقيتها على صديق عظيم من أصدقاء ستالين موضع حديث كل من في المصنع عدة أسابيع، وكان العمال في أثنائها يربتون على ظهري ويبدون سرورهم من صراحتي.
ولكنني استدعيت بعد إلقائها بيوم واحد إلى مكتب لجنة الحزب، وكان فيه قنسطنطين أكوروكوف أمين سر الحزب ومعه مدير المصنع إيفانشنكو.
فلما دخلت صاح الأمين بأعلى صوته: «ماذا أصابك يا كرافتشنكو؟ هل جننت؟ هل تعلم أن سرجو وجه إلينا أشد اللوم، وكاد يلقي بالمحابر في وجوهنا؟ لقد بقي لطيفا مسرورا حتى أثرته أنت، فأخذ يسبنا ويعيرنا بأنا قوم كسالى عاجزون وأنغال.»
وظللت أنا رابط الجأش، وأجبته بأني لم أنطق بغير الحقيقة، ألم يقل لينين نفسه إن الأعمال الصناعية تتطلب قيادة مسئولة موحدة؟ ولما كان لينين وأورزنكدز في صفي، فإن غضب أمين الحزب نفسه لا يصيبني بسوء، ولم يكن في وسع إيفانشنكو أن يحاجز نفسه عن أن يبتسم ابتسامة السرور والرضا عن موقفي؛ لأنه كان في خبيئة نفسه متفقا معي في آرائي مستاء من تطفل الحزب ونقابات العمال وتدخلهم في شئوننا.
هذا فضلا عن أنني لم يكن مقامي ليطول في المصنع إلا ريثما أفرغ من بعض الأعمال القليلة فيه، ثم أعود طالبا كما كنت من قبل، وكنت أحسب أن بعض الموظفين في إدارة المصنع سيسرهم خروجي منه.
وسر والداي وأخواي من هذا التحول في مجرى الحوادث؛ ذلك أن أمي بنوع خاص لم تكن في يوم من الأيام راضية عن بقائي رئيسا للعمال كما كان زوجها، وكانت في خبيئة نفسها مستاءة؛ لأن الثورة قد حالت بيني وبين مواصلة الدرس والتعلم، وها هي ذي الآن تراني أعد نفسي لأن أكون مهندسا وإن جاء ذلك الإعداد متأخرا بعض الشيء، وسرها هذا وأثلج صدرها، بل إن أبي نفسه ظهرت عليه علائم السرور والغبطة، وأخذ يستمع إلى ما وصفت به الرفيق أورزنكدز راضيا مسرورا.
وسمعته يقول ذات مساء لبعض الشيوخ المجتمعين في بيتنا حول إبريق الشاي: «سيكون ولدي مهندسا.» يقولها في فخر وإعجاب.
وقضيت عدة شهور في الاستذكار استعدادا لامتحان الدخول في المعهد؛ ذلك أن برامج إعدادية خاصة كانت تعد للشبان الموظفين المختارين ليكونوا من بين «الآلاف» الذين سيصبحون رجال الفكر السوفيتيين في مستقبل الأيام، فلما استهل عام 1931م التحقت بالمعهد الفني في خاركوف.
الفصل السادس
طالب في خاركوف
ها أنا ذا أعود في سن الخامسة والعشرين طالبا وأمينا على مصالح الدولة، وقد خصص لي مرتب أتقاضاه في كل شهر من ميزانية مصنع بتروفسكى-لينين يفي بنفقات معيشتي ويترك لي فضلة من المال تكفي ثمن ملابسي ونفقات تسليتي، غير أن الجوع والبرد، وهما التوأمان اللذان ألفتهما في إبان الحرب الأهلية، لم يفارقاني طويلا، نعم إنهما لم يكونا من القسوة وطول الأمد كما كانا في الأيام الماضية، بل كانا يتركان لي بين الفينة والفينة مهلة أنجو فيها من عذابهما، ولكنهما مع ذلك كانا يعودان بكل ما فيهما من قسوة كما يعود مرض الأسنان المزمن.
وكان المعهد الفني في خاركوف يشغل بناء ضخما قديما مشيدا على طرف حديقة غناء في شارع كبلونوفسكي، وما من شك في أنه كان في الأوقات العادية نموذجا لما يجب أن تكون عليه المدينة الجامعية، وفي وسعي أن أتخيله في تلك الأوقات وقد اجتمع فيه الشبان بحللهم الجامعية الأنيقة، معظمهم من الأسر الموسرة، يجمعون بين العمل وبين نزق حياة الطلاب، وما من شك أيضا في أن روح الشباب كانت تسري في جو الدراسة، أما في الوقت الذي التحقت فيه بهذا المعهد فقد كان صاخبا مزدحما يكد فيه الطلاب كما يكد العمال في مصهر عظيم دائب على العمل، ترى فيه اللجاجة والدعوة إلى العمل والعجلة الملازمة لمشروع الخمس السنين كما تراها في أية صناعة من الصناعات.
ولعل هذا الخليط الذي شاهدته في هذا المعهد من رجال ونساء وفتيان وفتيات لم يحشر مثله في معهد واحد من معاهد التعليم قبل ذلك الوقت أو بعده إلى يومنا هذا، وكان معظم الطلبة يزيدون على الثالثة والعشرين من عمرهم، وكثيرون منهم بين الثلاثين والأربعين، وكان الذين أوتوا منهم قسطا من العلم والثقافة يجتمعون في فصول واحدة مع الشبان من العمال الذين لم يكونوا يحلمون قط بأنهم سيدرسون العلم في يوم من الأيام، ويرون في هذه الدراسة نوعا من العذاب؛ ذلك أننا جندنا من المصانع وأفران صهر المعادن والمناجم والمكاتب، ليؤلف منا ذلك الجيش العرمرم من رجال الفكر الفنيين على الطراز الجديد، وكنت ترى في هذا الحشد العظيم رجالا من ذوي الوجوه الكالحة من وسط آسيا لم يروا من قبل مدينة غربية يعيشون مع طلبة ذلك الإقليم نفسه المقيمين مع أسرهم في بيوتهم، كما كانت بينهم طائفة كبيرة من الجنود القدامى المحنكين وأنصار الحزب السابقين - من رجال العصابات المحاربة - جيء بهم من سيبيريا، والموظفين الشيوعيين الذين يتقنون أساليب السياسة الحديثة.
وأكبر الظن أيضا أن فئة غيرنا من الطلاب المجدين لم تدرس منهاجا يشبه في صعوبته المنهاج الذي وضع لنا، لقد كنا نشق طريقنا في هذا المنهاج كما يشق جماعة من الناس طريقهم وسط غابة تكتنفهم فيها الأخطار من كل ناحية ، أو كما يشق الجيش طريقه في بلد معاد له، فلم يكن عملنا في هذا المعهد شبيها بحال من الأحوال بعمل الطلبة الممهد في المدرسة العادية وفي الأوقات العادية.
وكنت أسكن مع آلاف غيري من طلبة معاهد مختلفة في خاركوف في مجموعة من حجر النوم في شارع بشكين غصت بنا كأنها خلايا النحل، وكنا نكدس فيها كل أربعة أو خمسة في حجرة واحدة، يشوي أجسامنا حر الصيف وتتجمد أطرافنا من زمهرير الشتاء.
وكثيرا ما اشتد البرد في شتاء 1930-1931م في هذه الأماكن حتى تجمدت منه المياه في المغاسل، فكنا نجمع ما نعثر عليه من قطع الخشب المتفرقة وأسوار الحدائق والأثاث المحطم والصحف القديمة، لنلقيها في الموقد الذي وضع في حجرتنا، وكان موقدا صغيرا من الحديد ذا مدخنة بالية من قطع متعددة، تخرج من إحدى النوافذ، وفي هذا الجو كنا نسكن وندرس ونتناقش ونحلم بمستقبل بلدنا الصناعي، ونحن نقاوم البرد والجوع في ذينك الزمان والمكان.
وكان النساء يقمن في جناح خاص بهن، ولكننا كنا مع ذلك أحرارا في الاختلاط بهن في قاعات الاجتماعات العامة وفي المطاعم، ولم نكن نمنع من المذاكرة معهن في حجراتنا وحجراتهن، وما من شك في أن صلات كانت تنشأ بين الطلبة والطالبات، فلم يكن ثمة شيء من التزمت في هذه الأماكن، وإن كان المستوى الخلقي ساميا بوجه عام؛ ذلك أن مزاج الطلبة والطالبات كان مزاجا تغلب عليه الصرامة والكآبة، وأن الصعاب التي تحيط بهم كانت قاسية كثيرة، واحترام بعضهم بعضا كان احتراما حقا لا تشوبه شائبة، وكل هذا يحول بينهم وبين العبث والاستهتار.
وكان يشاركني في حجرتي أربعة من الطلاب هم: ألكسي كارنوخوف، وجورج فجورا، ونجلسكين، وفانيا آفداش تشنكو، وكلنا من «الآلاف» المعبئين، وكلنا من أعضاء الحزب.
وكان ألكسي في واقع الأمر رجلا له بعض الخطر؛ لأنه كان عضوا في اللجنة المركزية لمنظمات الشباب، وكان فتى بهي الطلعة مفتول العضلات أصفر الشعر عسلي العينين، يشع منهما الجد والوقار، جميلا في أخلاقه كما كان جميلا في ملامحه نبيلا صريحا، ذا عقل نقاد يندر وجوده بين الموظفين الشيوعيين، وقلما كنت تراه يزهو بنفسه اعتمادا على سمو مركزه، أو يتهرب من المناقشة الصريحة في الشئون المدرسية أو الشئون العامة.
وسرعان ما استحكمت عرى المودة بيني وبين ألكسي، فقد كنا كلانا نحب حزبنا ونؤمن به، ومن أجل هذا السبب نفسه لم نتردد في التحدث عنه بمنتهى الصراحة، فنسائل أنفسنا عن سبب وجود تلك الهوة السحيقة بين المبادئ والأعمال، وبين الأقوال الرسمية والحقائق الواقعة، وكنا نبحث هذه المشكلة إشفاقا منا على الحزب لا غضبا عليه، وكان أسهل علينا أن نجد من الأسباب ما يبرر حكم الإرهاب الذي بدأت بوادره في الظهور، وأن نكشف عن البواعث النبيلة الكامنة وراء هذا المسلك الآثم في ظاهره، وأن تثبت قلوبنا على الإيمان بعهد الآلام الذي كنا نعيش فيه.
أما جورج فجورا فكان شيوعيا من طراز غير هذا الطراز، وكان يخيل إلى هذا الرجل أن مجرد التفكير في مناقشة ما يصدره الحزب من الأوامر والقرارات هو الكفر بعينه، فأي شيء في هذه الأوامر والقرارات يمكن أن يناقش؟ ألم يكن كل شيء فيها واضحا جليا؟ ولم يكن لجورج رأي خاص، وكل ما كنا نسمعه منه أقوال ينقلها عن ستالين وعن جريدتي إزفستيا وبرفدا وما إليهما من المراجع، أما الموضوعات التي لا يجد لها سندا من الأقوال الرسمية فلم يكن لها وجود لديه، ولم يكن يشك مطلقا فيما نجيزه لأنفسنا أنا وألكسي من تنقيب في الشئون العامة، وما نتكلفه من عناء في بحثها أو عدم التحرج في الحديث عنها، لم يكن يشك مطلقا في أن هذا كله سيكون وخيم العاقبة علينا.
ولم يكن نجلكين أقل إخلاصا للحزب من جورج، ولكنه كان فتى متسامحا، مثابرا، صبورا على ما يصيبه من آلام، وكان كثير الاحترام لجميع رفاقه، يشعرني بأنه فتى ذليل، يرى أن مجرد وجوده على ظهر الأرض نعمة أنعم بها عليه، ولشد ما كان شعوري بحاله هذه مؤلما لي، وكان يخشى تطرف فجورا في حزبيته التي لا يقبل فيها جدلا، بقدر ما يخشى أسئلتي الجريئة، ولعلنا كنا نستغل وداعته هذه فنحمله من أعباء العمل أكثر مما يجب أن يتحمله.
أما الشخص المشكل حقا في حجرتنا فقد كان هو فانيا أفداش تشنكو، وكان فانيا هذا أكبرنا سنا يزيد على الثلاثين من عمره، وكان بدينا قوي الجسم طيب القلب، كسولا فوق ما يتصوره الإنسان، ولما كان قد اشترك في الحرب الأهلية في صف الشيوعية فقد كان يقنع بالحياة في ظلال ما ناله من المجد الزائل في مغامراته الماضية، وكأنه كان يعتقد أن هذه الأعمال تعفيه طوال حياته المستقبلة من القيام بكل عمل جدي أيا كان نوعه.
ولم يكن فانيا شخصا غبيا، وكان في وسعه أن يتقن دروسه لو أنه بذل في ذلك بعض الجهد، وطالما أسدينا إليه النصح في هذا، وأخذنا عليه العهود بأن يجد في العمل الذي ضم من أجله إلى «الآلاف»، ولكن جهودنا كلها ذهبت أدراج الرياح، فقد كان يستلقي على فراشه ويتظاهر بأنه يحفظ القوانين الكيميائية عن ظهر قلبه، بينما هو في واقع الأمر يقرأ إحدى الروايات الرخيصة.
على أنه كان يعوض كسله وضعفه في الدرس بقدرته على الاتصالات السياسية، فلم يكن يجهل أحدا من الناس، كما أن أحدا من الناس لم يكن يجهله، وكان من أجل هذا يختار بطبيعة الحال في كل اللجان الهامة التي لا يعمل فيها شيئا معينا؛ ولذلك لا يرتكب فيها خطأ يؤخذ عليه، وكان له أصدقاء في مطابخ البيت، وفي أحسن مخازن البقالة التعاونية، وفي غيرها من الأماكن التي يمكن الحصول منها على جرايات إضافية، وكنا نحن نقتسم ما يأتي به بفضل عبقريته السياسية، وإن لم يحل هذا بيننا وبين تعنيفه على كسله وإهماله.
وطرد فانيا من المعهد قبل انتهاء الفترة الأولى من السنة الدراسية، على أنني لم يدهشني قط أن أعرف منه حين قابلته مصادفة في موسكو بعد عدة سنين من ذلك الوقت أنه أصبح رئيس مواثقة
1
كبيرة؛ ذلك أن فانيا لم يكن ذا حظ عظيم من العلم أو الذكاء أو الشعور المرهف يقف في سبيله وهو يرتقي سلم البيروقراطية.
وكان للتربية السياسية في منهاج دراستنا شأن أعظم من شأن التعليم الفني نفسه؛ ذلك أن الحكومة لم تكن تهدف إلى الحصول على مهندسين وحسب، بل كانت تريد مهندسين ذوي عقول سوفيتية، وكانت كلية لينين التابعة للمعهد وعلى رأسها الأستاذ فيليب الأحمر تعمل جاهدة لهذه الغاية، وكان الذين يعجزون عن استيعاب كتاب رأس المال
Das Capital
لكارل ماركس، ومحاورات إنجل ومؤلفات لينين وأبحاث ستالين وهي أهم من هذه كلها، يخرجون من المعهد أسرع مما يخرج منه الذين يعجزون عن استيعاب حساب التفاضل والتكامل، أو الذين لا يجيدون عمل التصميمات الهندسية.
والتحقت أنا ورفاقي الأربعة بمعهد بناء الطائرات، وإن لم يكن لأحد منا خبرة عملية في بنائها عدا فجورا، وكان لموضوع الطيران في حد ذاته صفة رمزية خاصة؛ لأنه كان أحدث ما اتبع من الوسائل في تجديد روسيا؛ ولذلك كان التحاقنا بمعهد الطيران سببا في شحذ همتنا وانشراح صدورنا.
وكنا في صباح كل يوم نمارس ضروبا من الألعاب الرياضية في حجرتنا لنخفف من آثار البرد القارس، ثم نفطر في المطعم. وكان الفطور المقرر يشمل مقدارا قليلا من الحساء وكسرة صغيرة من الخبز الأسود والشاي من غير سكر أو ليمون، وكنا نذهب بعدئذ إلى المعهد، جياعا نرتعد من البرد، ولكننا لم نر في هذا شيئا من البؤس والشقاء، بل كنا نتحدث طويلا ونضع الخطط الكثيرة للمستقبل، نتحدث عن المعهد والمطعم والحزب وعن أنفسنا نحن.
ونشأ بيننا شيء من الولاء لجماعتنا رغم ما كان بيننا من فروق في الآراء واختلاف في الشخصية، فإذا كان واحد منا نحن الخمسة على موعد مع فتاة جاء له زملاؤه الأربعة بما يحتاجه من رباط للرقبة أو سترة نظيفة أو سراويل أنيقة، بل كنا نقدم له أحيانا بعض الروبلات ليستعين بها على مطالبه في هذه المناسبات.
وكان للمعهد صحيفته الخاصة شأنه في ذلك شأن كل معهد سوفيتي آخر، وسرعان ما انضممت إلى هيئة التحرير فكنت محررا مساعدا لهذه الصحيفة، وكان التذمر من أحوال مسكننا شائعا بين العمال، ورددت صحيفتنا أصداء هذا التذمر، وكثيرا ما وجه النقد فيها إلى قلة الطعام وسوء طهيه، وعدم العناية بغسل الملابس، وقذارة المكان وسوء الإدارة.
وبلغ هذا التذمر غايته حين انتظم الطلاب في اجتماع عام نظمته خلايا الحزب ولجان الشباب، وألقيت في هذا الاجتماع كثير من الخطب وعرضت عدة اقتراحات، وعرضت أنا بناء على اتفاق سابق مع لجنة تنظيم الاجتماع أن يقوم الطلاب أنفسهم ببعض الأعمال الإدارية، وأن يتحملوا هم بعض التبعات، فلما تقدمت بهذا الاقتراح عرض ألكسي أن أقوم أنا من فوري بهذا التنظيم، ولم يكد يعرض اقتراحه حتى قامت فتاة حسناء جذابة لم ألق بالي إليها من قبل وطلبت الكلمة، فلما أذن لها قالت: «أؤيد انتخاب الرفيق كرافتشنكو، فقد عرفته من ثماني سنين وفي وسعي أن أشهد بأنه رفيق مخلص.»
وكانت فتاة حسناء بلا جدال، ممتلئة الجسم، أنيقة الملبس، جريئة في قولها، تبدو عليها شواهد الاعتماد على نفسها، وظللت طوال الاجتماع لا أدري من تكون هذه الفتاة وكيف عرفتني. وانتخبت رئيس «هيئة البيت الكبير»، ولما انفض الاجتماع لحقت بالفتاة في الردهة.
فلما رأتني قالت وهي تضحك ضحكة خبيثة: «كيف حالك يا فكتور أندريفتش؟ لست أشك في أنك قد نسيتني، ولكن حسبي أنني أذكرك.»
فسألتها: «هل لك أن تبوحي بالسر؟» - «أنا باشا، فهل هذا يساعدك على أن تعرفني؟» - «باشا؟ أخشى أن أقول إن هذا لا يساعدني قط.» - «إذن، فسأقدم لك شاهدا آخر لعله يهديك إلى معرفتي، لقد كنت أدفع عربة فحم في مناجم ألجفرفكا.»
ثم تذكرت فجأة فصحت: «رباه! وهل يمكن أن تكون هذه باشا نفسها؟» ثم ضحكنا وضممتها إلى صدري وأنا مغتبط جذل.
وصحت حين انضم إلينا ألكسي: «اليوشا! ها هي ذي باشا، لقد كانت حين رأيتها آخر مرة حالكة السواد كالفحم، ممزقة الثياب.»
وأضافت هي من عندها: «وأمية لا تقرأ ولا تكتب.»
وزدت على ذلك قولي: «نعم، ولكن انظر إليها الآن، فهي طالبة ومثقفة تعجب من يراها، هذا فضلا عن ملامحها الجميلة التي كان يخفيها تراب الفحم، ألا ما أعظم هذا النصر الذي ظفرت به الثورة!»
والحق أن هذا الانقلاب كان مدهشا خارقا للعادة، حتى لقد كان من أصعب الأشياء على الإنسان أن يتبين فيها أثرا من آثار الفتاة القروية المكتئبة المتأخرة، ذات الخرق البالية حول قدمها، والغدائر الطويلة المرسلة على ظهرها، التي عرفتها في مناجم الفحم، وتذكرت ساعتئذ أنها كانت في أيامها الماضية أشبه بحيوان بري مصيد تقاوم كل ما نبذله من جهود لتمدينها.
وسجلت في أعماق عقلي ما طرأ على باشا من تطور، وأضفته إلى محاسن الثورة لأوازن به ما يعادله من مساوئها.
وتوثقت الصداقة بين ألكسي وباشا وازدهرت، وأحسست أني أنا راعي هذه الصداقة والحفيظ عليها.
وأفلحنا في إصلاح أحوال البيت وحجر النوم بفضل سوفيت مدينة خاركوف والصحف المحلية التي تنطق بلسان الحزب، فزيدت مقرراتنا من الطعام، وأنشئت عدة مغاسل في الطبقة السفلى من البناء، وجهزت بما يلزمها من الأدوات، وتألفت جماعات متطوعة لنظافة الدهاليز أكثر من ذي قبل، وأنشئ في البناء حانوت لحلق الشعر به حجرة للزينة، وكان هذا أعظم شيء ظفرنا به، وإذ كنت أنا المشرف على هذه الجهود كلها فقد ارتفعت مكانتي كثيرا بين الطلاب.
ولكن حياتنا ظلت قاسية مخشوشنة رغم هذه الإصلاحات كلها.
وكان معظمنا يدرك - ويؤلمه أن يدرك - ما هو حادث في المدينة من تدهور سريع في أحوالها بوجه عام، وما هو حادث في الريف من تدهور أسرع منه، فضلا عما يكتنفنا نحن من صعاب، ولم يكن منا من لا يعرف بعض هذه الحقائق إن لم يعرفها كلها، رغم ما كان يفرض علينا من حظر وصمت، ورغم ما كان يحدق بمن لا يمسك لسانه عن التحدث في هذه الظروف من خطر شديد.
وكان الناس يتلقفون الشائعات التي كانت تنتشر بينهم عما كان يحدث في القرى أثناء تصفية أملاك كبار الزراع من فظائع تقشعر لها الأبدان ولا تصدقها العقول، وكنا نرى قطرا طويلة من العربات غاصة بالزراع تمر بمدينة خاركوف، وأكبر الظن أنها كانت تقلهم إلى أقاليم التندرا في الشمال، وكانت هذه وسيلة من وسائل «تصفيتهم». وكان الموظفون الشيوعيون يغتالون في القرى، والفلاحون المشاغبون ينفذ فيهم حكم الإعدام جماعات، وراجت الشائعات أيضا أن من الوسائل التي يلجأ إليها الفلاحون لمقاومة نظام المزارع الجماعية أن يذبحوا ماشيتهم حتى تبقى الأرض بلا حرث ولا زرع، وكان مما أيد أسوأ هذه الشائعات ذلك المرسوم الذي صدر في موسكو، والذي يعد ذبح الماشية بلا إذن جريمة يعاقب مرتكبها بالإعدام.
وغصت محطات السكك الحديدية في المدينة بالفلاحين الجياع ذوي الملابس الرثة البالية الفارين من منازلهم، وانتشر الأطفال المشردون الذين لا مأوى لهم، والذين كانوا في أثناء الحرب الأهلية وسني القحط يواجهون الإنسان أينما سار، وعاد المتسولون إلى الظهور في شوارع المدن، وكان معظمهم من الفلاحين، ولكن كان من بينهم أيضا بعض سكان المدن.
ومع هذا فقد كانت الصحف تشيد بما قامت به الدولة من أعمال عظيمة، فقد تم إنشاء الخط الحديدي بين التركستان وسيبيريا، وشيدت مصانع جديدة في جبال أورال وفي سيبيريا وفي جميع أنحاء البلاد، وتم في إقليم بعد إقليم تحويل المزارع كلها إلى مزارع جماعية، ونشرت الخطابات المفتوحة «ثناء على ستالين»؛ لما شيده من المصانع وما وضعه من مشروعات لإنشاء المساكن، وجاءت الوفود من البلاد الأجنبية النائية - ومن بلاد أمريكا وأستراليا نفسها - تشاهد معجزات مشروع السنوات الخمس، وأخذوا في مقابلاتهم يمتدحون بحماسة جنونية ما أحرزه السوفيت من نصر عجيب، أما كيف غفل هؤلاء الزوار عن الجانب الآخر من الصورة فذلك سر لم نستطع نحن الروس أن نكشف عنه الستار.
ترى أين الحقيقة وأين الخداع؟ هل الحقيقة هي ما في القرى من جوع وفزع وأطفال مشردين، أو ما تنشره الصحف من إحصاءات وما تشيد به من أعمال مجيدة؟ أو هل كانت هذه وتلك عناصر من حقيقة واحدة مركبة معقدة؟ إن هذه الأسئلة وأمثالها لم يكن يسألها إنسان أو يجيب عنها جهرة، ولكننا كنا نتحدث عنها في مجالسنا الخاصة، كنت أتحدث عنها أنا وألكسي وكان يتحدث عنها آلاف الآلاف غيرنا.
وحدث بعد دخولي المعهد بزمن قليل حادث آخر زاد الحياة فيه اضطرابا على اضطرابها، وذلك أنه صدر أمر يقضي بأن تكون اللغة الأوكرانية لا الروسية لغة التعليم كله ولغة الامتحانات كلها، وطبق هذا النظام على جميع المدارس ومعاهد التعليم على السواء، وكان أكبر إذعان من جانب موسكو للأماني القومية في أكبر جمهورية من جمهوريات السوفيت التي تقطنها العناصر غير الروسية.
وكان حقا علينا نحن الطلبة الأوكرانيين أن نغتبط بهذا القرار من الوجهة النظرية، ولكن الواقع أن القرار الجديد أساء إلينا بقدر ما أساء إلى الأقلية غير الأوكرانية؛ ذلك أننا لم نتعود قط أن نستخدم اللغة الأوكرانية في التعلم والدرس حتى الذين كانوا مثلي يتخذونها منذ طفولتهم لغة للتخاطب؛ ولذلك كان لهذا التغيير المفاجئ أسوأ الأثر في عدد كبير من أحسن الأساتذة، وشر من هذا كله أن لغتنا القومية لم ترتق بارتقاء العلم الحديث، ولم تكن تفي بحاجاته، فقد كانت مفرداتها خالية من الاصطلاحات الفنية في الكهرباء والكيمياء وعلم الغازات وضغطها وحركتها والعلوم الطبيعية ومعظم العلوم الأخرى.
وأصبح فانيا المسكين في حال من العجز يرثى لها بسبب هذه العاصفة الجديدة التي قلبت كل شيء فجعلته أوكرانيا، وقد كان من قبل يضل في بيداء التعليم أيا كانت اللغة التي تدرس بها العلوم، وكان شأنه في ذلك شأن مئات غيره من الطلاب، واستطاع جورج فجورا بطبيعة الحال أن يستعين بولاة الأمور في الحزب على ترجمة نصوصه المقدسة كلها إلى اللغة الأوكرانية، فلم يتأثر بهذا التغيير المفاجئ كما تأثر به غيره، أما سائر الطلبة فقد قاسوا الأمرين من جراء هذا العبء الجديد، وكانوا يرجعون إلى الكتب المدرسية الروسية في الخفاء، ويهزءون في مجالسهم الخصوصية من هذا الإغراق الساخر في القومية.
وكان الواجب يقضي بأن يكون هذا حقا من الحقوق يمارسه الناس بحريتهم، ولكنه استحال في تطبيقه إلى فرض بغيض مرهق؛ ذلك أن استخدام لغتنا القومية لم يسمح به فحسب بل أرغمنا عليه إرغاما، وطرد من وظائف الحكومة مئات ممن لم يستطيعوا إتقان هذه اللغة رجالا كانوا أو نساء، وكاد يصبح من أعداء الثورة كل من ينطق في خارج داره بغير اللغة الأوكرانية، ولاقى أبناء الأسر التي تروست أشد العناء، وتأخروا في دراستهم؛ لأن اللغة الأوكرانية كانت بمثابة لغة أجنبية لهم.
ولا حاجة إلى القول بأن هذه التطورات الجامحة كلها ألغيت فيما بعد، وعوقب دعاة الوطنية الأوكرانية المختلفة عن الوطنية السوفيتية - والتي كانت وليدة هذه التطورات - بالنفي أو الإعدام.
وكان الشيخ البلشفي اسكربنك وزير التربية في أوكرانيا ضحية ذلك الانقلاب الثاني، فأخرج من بلده، واضطر إلى الانتحار لهذا السبب ولغيره من الجرائم «الفكرية».
ولكن المشرفين على هذه المأساة الهازلة لم يكونوا يسمحون بأقل نقد لها وقت تمثيلها، وعدنا نحن الرفاق الخمسة إلى بيتنا ذات مساء بعد أن استمعنا إلى خطبة ألقاها الرفيق اسكربنك في امتداح سياسة الأكرنة الجديدة والإشادة بنعمها، وأثر فينا جميعا إخلاصه هذا وذكاؤه، على الرغم من ارتيابنا في حكمة السياسة اللغوية الجديدة.
وقال فانيا: «قد يكون الرجل على حق، ولكن تبا له! إني لا أستطيع دراسة شيء ما باللغة الأوكرانية، وحسبي ما ألاقي من صعاب في دراسته باللغة الروسية.»
فلما سمع منه فجورا هذا السؤال هز رأسه وهو محزون وقال له: «ليس من حقك أن تنطق بهذه الأقوال، إن الحزب يرى هذا فرضا واجبا وعلينا نحن أن نصدع بما نؤمر.»
فأجابه ألكسي بقوله: «إن النظر إلى الأمور هذه النظرة الرسمية لا يجدي نفعا، وإنك يا جورج لا تفيد الحزب أقل فائدة بإصرارك على عدم التفكير المستقل، وإن منهج الأكرنة المتطرف لا ينفع قضيتنا بل يضرها، ومهما يكن من شأننا فإنا أقدر على تبين النتائج واضحة من الهيئة السياسية العليا في الكرملن.»
وقلت أنا: «إن ألكسي على حق فيما يقول، وهذا العمل كله خرق وحماقة، ومن حق الناس أن يستخدموا أية لغة يشاءون.»
وصاح فجورا قائلا: «إنك الآن تطعن في الكرملن ، إن المسألة قد أصبحت من الأمور المقررة، وأنا أرفض البحث فيها بعد أن تقررت.»
ولما واصلنا بحث الموقف وتحليله، وجهرنا بأملنا في تغييره، غادر فجورا الحجرة وهو غاضب ، وأقبل اليوم الثاني وإذا أمين سر لجنة الحزب يستدعيني أنا وألكسي، فلما دخلنا عليه بدأ يتحدث عن أمور أخرى، ولكنه لم يلبث أن انتقل إلى برنامج الأكرنة، وقال إنه قد بلغه أننا ننتقد هذا البرنامج، وأننا نشيع حوله جوا من الشك.
وتبين لنا أن فجورا نقل أخبارنا إليه؛ ولهذا جلسنا نحن الأربعة في انتظاره حين عاد من العشاء في مساء ذلك اليوم، وكان فانيا أول من تكلم، فقال: «يا جورج، إنك تستطيع أن تساعدنا في الوصول إلى رأي كنا نتناقش فيه، إنك تعرف الكتاب المقدس، أليس كذلك؟» - «بلى، إني أعرفه.» - «إذن فقل لنا كم كان عدد أولاد نوح وما هي أسماؤهم؟»
فأجاب فجورا الأديب المثقف: «كان لنوح ثلاثة أولاد: سام وحام ويافث.»
فرد عليه فانيا بسخرية لاذعة: «لا، إنك مخطئ، صحيح أنه كان له ثلاثة أولاد ولكن أسماءهم هي سام وحام ويهوذا، ولعلك تفهم قولي.»
واحمر وجه فجورا وتزعزعت للمرة الأولى تقواه واعتداده بفضيلته، وتمتم وهو يخرج من الحجرة: «إني لا أفتأ أؤدي واجبي.» ولم نستطع تنقية الجو الذي أعقب هذا الحادث إلا بعد أسابيع كثيرة، ولما انتحر اسكربنك بعد أن بدل الحزب نفسه خطته وأصبح رأيه في هذا الموضوع أقرب إلى رأيي ورأي ألكسي، لم ير فجورا نفسه شيئا من التناقض في مسلكه، وكان يقول: «لكل زمان حقائقه.»
ولقد أصبح الآن حق الجمهوريات أو الأقاليم غير الروسية الداخلة في نطاق الاتحاد السوفيتي في أن تستخدم لغتها الخاصة المظهر الوحيد من مظاهر الحكم الذاتي الذي تتمتع به تلك الجمهوريات والأقاليم، أما أن تكتب بهذه اللغة شيئا لا يتفق في كل صغيرة وكبيرة مع خطة الحزب، أو أن تفكر بها في شيء من هذا القبيل، فذلك هو الخيانة العظمى. وبهذا أصبحت حرية اللغة في واقع الأمر آخر مظاهر الاستقلال القومي، وكان الواجب يقضي أن تكون بدايتها، وأضحى شعار القوم الذي يسترون به سيطرتهم البوليسية التامة هو: «القومية شكلا والاشتراكية قلبا وقالبا.»
وهمس في أذني صديق ساخر في يوم من الأيام: «ها هو ذا كل ما لنا من استقلال ذاتي قومي.» وأشار وهو ينطق بهذا إلى مرحاض عمومي كتبت عليه كلمتا: «الرجال» و«النساء» باللغتين الأوكرانية والروسية.
ولقد نبتت في بعض البلاد الأجنبية لسبب ما تلك الخرافة القائلة بأن الجمهوريات السوفيتية المختلفة تتمتع بقسط من الاستقلال، يتضمن حتى حق الانفصال، وليس ثمة - بطبيعة الحال - إنسان واحد في بلاد الاتحاد السوفيتي كلها يصدق هذه الخرافة؛ ذلك أن أية نزعة ثقافية قوية تظهر بين أقلية من الأقليات وتتعارض مع العقائد الشيوعية في أتفه الأمور، يقضى عليها بلا رحمة، ومن أجل هذا أعدم مئات من الأوكرانيين وسجن أو نفي عشرات الآلاف منهم؛ ل «مروقهم القومي» ولوجود ميول انفصالية مزعومة بينهم.
وانتهت إقامتي في خاركوف دون سابق إنذار بمقتضى قرار لم يستشرني أحد فيه؛ ذلك أني نقلت فجأة من أعمال الطيران إلى أعمال التعدين، وأمرت أن ألتحق بمعهد للتعدين في لنينغراد أولا ثم في بلدتي الأصلية بعدئذ، ولكن العهد الذي قضيته في خاركوف على صغره يشغل حيزا كبيرا من ذاكرتي؛ ذلك أن هذا العهد ازدحم بالأعمال الحزبية ونواحي النشاط الصحفية، وبما ألقي علي من تبعات في إدارة بيت الطلاب.
ومن أبرز الصور التي بقيت في ذاكرتي صورتا امرأتين كلتاهما حسناء وكلتاهما رزئت مما رزئت به الأخرى فلم توفق في زواجها.
أما الأولى فهي زوجة الدكتور سمرين أستاذنا في الكيمياء، وهو رجل أحدب له ذراعان طويلتان لا تتناسبان قط مع قامته القصيرة المقرقمة، ورأس تخاله بطيخة، ولكنه كانت له عينان تشعان حكمة، وعقل قوي وثاب، وعطف على الناس صادق غير متكلف، وسرعان ما غطت هذه الفضائل الخلقية والذهنية في عقول الطلبة على عيوبه الجسمية، وكنت أنا أنتظر محاضراته بشغف عظيم.
ودعوته يوما إلى العشاء معي في بيت الطلبة، وطفت به في الحجرات وقاعات الاجتماع؛ فسر من نظامها ونظافتها، ولما فرغنا من العشاء قال لي: «عليك يا فيتيا أن ترد لي هذه الزيارة في وقت قريب، إن زوجتي تجيد العزف على البيان، وأنا أعلم أنك مولع بالموسيقى.»
وكانت أسرة الدكتور سمرين تقيم في شقة ذات أثاث يدل على ذوق راق حسن، في إحدى حجراتها بيان يشغل معظم فراغها، وعلى جدرانها صور لكبار الكتاب الروس، ووضع في أحد الأركان تمثال نصفي لبيتهوفن مصنوع من الشبه قائم على قاعدة.
ولم أكن في تلك الليلة الأولى أرى كلافديا بعيني وحواسي وحسب، بل كنت أراها أيضا بعيني زوجها وحواسه، وكان حبه لهذه السمراء النحيفة القوام حبا أكاد ألمسه في الحجرة لمسا، وكأن جمالها قد محا من الوجود تشويه جسمه فأصبح معافى سليما، وأحسست بقلبي يجذبه إليها سحر جمالها، كما أحسست بجو من الحزن لا أستطيع التعبير عنه يحيط بها، فسرى في نفسي شعور هو أقرب ما يكون إلى الجريمة أفسد علي استمتاعي بموسيقاها الشجية وحديثها العذب، فانتحلت بعض الأعذار وغادرت الدار مبكرا.
ومرت على هذه الزيارة أيام قليلة، وبينما كنت أسير في يوم يتساقط فيه الثلج خفيفا، إذ وقفت وجها لوجه أمام كلافديا.
وما أن رأتني حتى فاجأتني من غير أن تحييني: «لقد فررت منا في تلك الليلة، وسيكون جزاؤك أن تزورني في هذه، وسأعد هذا وعدا منك، وسأنتظر قدومك.»
ولم يخامرني شك في أني لن أذهب لزيارتها، ولكن مع ذلك وجدت نفسي أدق جرس بابها بعد بضع ساعات من لقائنا، وأشاهد المائدة في قاعة الطعام وقد أعدت لاثنين.
وشعرت فجأة بشيء من الارتباك، وبأني وقعت في شرك لم تنصبه لي كلافديا بل نصبته لي عواطفي، فسألتها وأنا على هذه الحال: «ولكن أين الدكتور سمرين؟» - «آه، لقد ذهب ليزور أخاه الذي يسكن في الريف غير بعيد من هذا المكان، ولن يعود إلينا إلا بعد بضعة أيام.»
وكان حديثنا على المائدة في أثناء العشاء حديثا مجهدا غير طبيعي، ثم شربنا خلاله زجاجة من النبيذ القفقاسي، وعرضت عليها بعد أن فرغنا من العشاء أن نتنزه في الحديقة، وكان ضياء القمر فيها أبيض ناصعا.
فضحكت وقالت: «لا يا سجيني العزيز، إذا كان لا بد لك من لوثة قمرية فها هي ذي «أنشودة ضوء القمر».» وأخذت تعزفها على البيان.
ثم أخذت بعدها تعزف وتغني أغنيات غجرية، كنت أذكر كثيرا منها منذ طفولتي في ألكسندروفسك، وحدثتها عن معسكرات الغجر وعن صداقتي لسيدمان، وكنت طوال الوقت جالسا على الكرسي الساند الذي كان زوجها يجلس عليه في أثناء الزيارة السابقة، وخيل إلي أن هذا الكرسي حصن لي يقيني من كل شيء، ثم أعلنت فجأة - وكاد يكون ذلك في منتصف جملة - أن لا بد لي من مبارحة الدار.
فنظرت إلي وعلى ثغرها ابتسامة حزينة وقالت: «أتريد الفرار مرة أخرى؟ لكنني لن أسمح لك به في هذه المرة.» - «أنا آسف، ولكن الدروس ... لقد وعدت أليوشا أن أذهب إليه.» - «إنك تكذب يا عزيزي فيتيا وأنا أعرف ذلك، فلنتحدث بصراحة: لم لا يكون من حقي أن أقضي سهرة مع إنسان، نعم مع إنسان أقرب إلى نفسي من غيره؟»
وكانت العبرات المكبوتة قد أخذت تخنق صوتها، فعدت إلى الجلوس، وشرعت تقص علي شيئا من تاريخ حياتها، فلما تحدثت به زال ما كان بيننا من تباعد، ولم أر فيها إلا فتاة بائسة يفيض لسانها بما ينطوي عليه قلبها من أسباب شقوتها.
وعرفت من قصة كلافديا أنها كانت في السنة التاسعة من عمرها حين شبت الثورة، وأنها ابنة أسرة موسرة تعلمت على يد مدرسين خصوصيين ومربيات، وقبض على أبويها في الأشهر الأولى من الثورة ثم أعدما بعد وقت قصير في مذبحة عامة، قتل فيها الرهائن من الطبقات الموسرة، وذهبت كلافديا لتعيش مع خالة لها عجوز في علية مظلمة في البيت الذي كان من قبل قصر أسرتها، وقضي عليهما أن تقاسيا في هذا المسكن شظف العيش الذي كانت تعانيه الطبقات المحرومة «السابقة» طريدة العدالة الخارجة على القانون، التي انحطت مكانها، ولم تعط كلافديا الصغيرة حق الذهاب إلى المدرسة ولا حق العمل، وكانت هي وخالتها تعيشان من بيع ما أخفيتا من بقايا متاعهما القديم.
وقالت لي: «إني أعرف أن الشبان الشيوعيين أمثالك لم ينظروا قط إلى صورة الأشياء من خارجها؛ ولذلك فإنكم لا تستطيعون أن تتصوروا معنى ما يشعر به من يحقرون، ومن لا يحميهم القانون، ومن يحسون أن بلادهم في غير حاجة إليهم، وخاصة إذا كانوا صغارا، إن الفقر مؤلم لكل إنسان، فما بالك بوقعه على من نعموا بالراحة ورفاهة العيش؟»
وأحبت كلافديا وهي في السابعة عشرة من عمرها شاعرا يكبرها بمثل سنها، وذهبت إليه لتعيش معه، وقالت: إن الأشهر القلائل التي قضتها معه كانت أقرب أيامها إلى السعادة الحقة، ولكنه اختفى فجأة، وبقيت هي إلى ذلك اليوم لا تعرف ما حدث له، وكان فتاها من المعارضين للنظام الجديد، وهي تظن أنه يقيم الآن في أحد معسكرات الاعتقال إن كان لا يزال حيا. - «وكنت جميلة يغازلني كثيرون من الشبان، ولكنهم بلا استثناء كانوا شبانا من طبقتي، أي من أطفال الماضي، ولما كنت قد قاسيت كثيرا وسئمت الحياة التي كنت أحياها فقد كنت أتوق إلى شيء من الأمن والطمأنينة، وأرى أن خطيبي، إذا قدر لأحد أن يخطبني، يجب أن يحمل بطاقة الحزب. ثم التقيت بالدكتور سمرين في يوم من الأيام، وانقبضت نفسي من صورته، ولكن كان من أسباب فخري أن شيوعيا وأن شابا معروفا ينتمي إلى السلطة الحاكمة يهتم بأمري، وأحبني حب من يهابني ويحنو علي، ولكن عن بعد، أما أنا فقد راعني وسحرني إخلاصه الشبيه بإخلاص الحيوان.
وكان أكثر ما أحمده له طيبة قلبه، ولم أختلف أنا وخالتي في أن له روحا جميلة، رغم أنه أحدب وشيوعي، وأخشى أن يكون هذان العيبان في نظر خالتي صنوين، وظل يتردد على بيتنا أكثر من عام، ويأتي لنا بالطعام والكساء، ويعلمني بعض الدروس دون أن يقول لي في خلال العام كله شيئا عن عواطفه نحوي، وبلغ من أمره أن استطاع الحصول لي بطريقة ما على بيان.
وبينا كنت في يوم من الأيام أعزف له بعض المقطوعات التي يحبها من وضع كشيكووسكي قلت له: إني أعرف أنك تحبني، وأنا لا أحبك ولكني أعجب بك وأحتاج إلى حمايتك ورفقتك، فلم إذن لا نتزوج؟ وجلس الرجل في مكانه جامدا كالمصعوق، وهو مغتبط، لا يصدق ما سمع وقد غلبه الحياء، وأظن أنه كان يعرف الحقيقة وإن حاول أن يطردها من عقله، وتلك الحقيقة هي أن فتاة من الأسر التي كان لها شأن، طريدة القانون، وطفلة من أطفال الماضي قد قبلت من فرط يأسها مخلوقا مشوها قبيح المنظر.»
وختمت حديثها بقولها: «فانظر الآن يا فيتيا، ما أقل ما تعرفون من الحقائق أيها الشيوعيون الماهرون! إنكم لا تعرفون كم ألفا من نساء الروس اللاتي أخرجن من بيوتهن وابتعد الناس عنهن بسبب أصلهن، لم يجدن لهن عاصما إلا أن يتزوجن بالأرستقراط الجدد، أي الشيوعيين والعمال، وقد وجد بعضهن السعادة، ولكني وا أسفاه لست من هؤلاء السعيدات، وليس في وسعي أن أنسى من قضوا على الشعب وعلى جميع ما كنت أحبه أشد الحب، وأعنى به كل العناية، ليس في وسعي أن أنسى هؤلاء أو أن أعفو عنهم.
إن من كان مثلي لا بد أن يشعر بالوحدة، واعتقادي أن هذا أشد ما يؤلمني في حياتي، آه من هذه الوحدة! إننا ندعي أننا من الحزب ولكننا نحيا في نفوسنا حياة خفية لا يعرفها أحد غيرنا، ولقد حاولت أن أقوم بعمل من الأعمال، وعرضت أن أعلم الموسيقى، وخيل إلي أن ولاة الأمور قد اهتموا بهذا، اهتموا به حتى أجبت عن الأسئلة المكتوبة التي قدمت إلي وعرفوا منها أني من الأشخاص السابقين.»
ولم أخرج من المنزل إلا بعد منتصف الليل.
وقالت لي وهي تودعني عند الباب: «فلنفترق صديقين يا فيتيا، ولا تظن بي السوء، إني بائسة، ولا أرى شيئا أمامي إلا الوحدة الأبدية، ورجائي إليك أن تأتي إلينا أحيانا لترانا حين يكون الدكتور سمرين في المنزل، فهو مدرس ماهر وأنا أعرف أنك شديد الإعجاب به.»
وكان إعجابي بسمرين من حيث هو أستاذ ومن حيث هو رجل هو الذي حال بيني وبين الاعتداء على حياته العائلية.
وكنت أتردد في بعض الأحيان على منزل الرفيق «ف»، وهو موظف أوكراني يشغل منصبا كبيرا في رياسة تفتيش العمال والفلاحين، وكان وهو في أواخر العقد السادس من عمره من أعضاء الحزب القدامى، حصل على قسط وافر من التعليم، ويعرف معظم كبار رجال الثورة معرفة شخصية، وإذا ذكر لينين وتروتسكي ولونا تشارسكي وزبنوفيف وغيرهم ذكرهم بأسمائهم الأولى دون ألقابهم، وكانت زوجته سيدة شمطاء الشعر تبدو عليها أمارات الرقة والحنان، وتذكرني على الدوام بكربسكايا أرملة لينين.
وكنا إذا انفردنا نحن الثلاثة بأنفسنا، لم يجد الرفيق «ف» مناصا من التحدث إلينا في الشئون السياسية، ومهما كانت بداية الحديث، سواء كان عن المسرح أو عن كتاب جديد أو عن دراستي، فسرعان ما كان ينتقل هو إلى البحث في المشاكل الزراعية، والإرهاب المسلط على رفاقه القدماء، والسرعة التي يسير بها التنظيم الصناعي، وكان يخيل إلي أن الآراء التي يدلي بها طبيعية معقولة مع أنها لو جاءت من إنسان غيره لصدمتني صدمة عنيفة، وكان يشير عرضا إلى أنباء لم أكن أصدقها من قبل، بل كنت أظنها «شائعات تذاع ضد الثورة»، ولكنه كان يذكرها كأنها من الحوادث العادية التي تقع في كل يوم، وكان منصبه الرسمي يتيح له الاطلاع على الفظائع التي ترتكب في القرى، وعلى مقاومة الفلاحين، والقبض على الناس جملة، والتحدث عنها كأنها من الأمور التي يعرفها الناس جميعا.
ومهما يكن من أمر الرفيق «ف»، فقد عمل دون أن يعرف على أن ألتقي بجوليا، وذلك أنه أهدى إلي في يوم ما تصريحا بمكانين في مقصورة في مسرح الأوبرا لمشاهدة مسرحية شيوشيوسان، فاصطحبت إليها ألكسي كارنوخوف، وكان في المقصورة المجاورة لنا سيدتان ذواتا جمال بارع وملابس أنيقة، وعرفت من فوري أن إحداهما كانت مريضة في مصحة كيف حيث كنت أقضي دور النقاهة بعد الكارثة التي حلت بي على الحدود الإيرانية.
فهمست في أذن رفيقي قائلا: «هذه جوليا ميخائيلفنا زوجة «ر».»
فصاح مندهشا: ««ر»!»
وكان من حقه أن يدهش، فقد كان «ر» من أكبر الموظفين في الحكومة الأوكرانية، وكان رجلا عظيم السلطان يعرف الناس أنه من أقرب المقربين لستالين نفسه، وتذكرت وقتئذ أنه كان يرسل إلى زوجته الأزهار في صباح كل يوم بالطائرة من خاركوف حين كانت في كيف.
وعرفتني جوليا بطبيعة الحال، وأشارت إلي تدعوني إلى الذهاب إليها في فترة الاستراحة بين فصلين، وقلت في نفسي: «ما أجملها من سيدة! وكيف فاتني أن أشاهد هذا الجمال البارع في خاركوف من ثلاث سنين، ألا ما أشد غباوتي وقتئذ!» وظللنا طوال الفصل نتبادل النظرات، وكانت هي تبتسم إلي من فوق الحاجز ولا تخفي سرورها، حتى أخجلني هذا وإن لم أحاول أن أخفي إعجابي بها.
وكانت المسرحية الغنائية سخيفة مملة للغاية، وضعت بحيث تلائم الآراء السائدة وقتئذ، وملئت بالعبارات الطنانة الرنانة التي ألفها الناس في تمجيد الثورة، ولكنني ظللت طوال حياتي إذا ذكر شيء من سخافاتها، عادت إلي ذكرى حبي لجوليا، وكانت هي متوسطة القامة، أكبر مني قليلا، ذات جمال فاتن وشعر ذهبي مجدول في غدائر سميكة معقودة في شكل تاج على رأسها كأنه إطار من الذهب البراق يحيط بمعارفها الفاتنة.
ولما أسدل الستار ذهبنا إلى مقصورتها وعرفتها بألكسي، وعرفتنا هي بصديقتها ماري، وأخذنا نتحدث الحديث الذي يجري عادة بين المعارف الجدد الذين لم يزل ما بينهم من حرج، ولكن هذا اللقاء تخلله شيء من اهتياج المشاعر، وأحاط به جو من التوتر لا علاقة له بموضوع الحديث.
وبقينا في مقصورتهما خلال الفصل الثاني، وقبل أن ينتهي هذا الفصل همست جوليا قائلة: ولم نبقى إلى نهايته المملة؟ فلنذهب إلى بيتنا ونتناول بعض العشاء.» ووافقنا على هذا من فورنا.
ولما خرجنا من المسرح صرفت جوليا السيارة الكبيرة التي كانت في انتظارها، وقالت: إنا إذا عدنا إلى المنزل في مزلقتين كان ذلك أدعى إلى السرور، واخترنا من بين الصف الواقف أمام دار الأوبرا مزلقتين من أنظف المزالق، وركب ألكسي وماري واحدة وركبت أنا وجوليا الأخرى، ولا تزال صورة هذه المركبة منقوشة في ذاكرتي بجميع تفاصيلها واضحة المعالم حتى هذه الساعة، وما زلت أذكر هذه الليلة الباردة الصافية البراقة لفها الثلج المتلألئ، وأذكر فتات الثلج تتطاير من حوافر الخيل وهي تعدو بنا في غير جلبة، وأذكر سحب البخار الخارج مع أنفاسنا، وأحس بيد جوليا في يدي فوق ركبتينا تحت طنفسة الفرو.
وتحدثت إليها عن معهدنا، وعن حياتي في المصنع وفي الحزب، وحدثتها عن ألكسي وعن سائر رفاقي الذين يقيمون معي في الحجرة، وقاطعت نفسي وسط هذا الحديث الذي لا يهدف إلى غاية وصحت: «ما أجمل كل شيء في هذه الليلة!» والتقت شفتانا بقبلة.
وتحولت بنا العربة بعد قليل إلى شارع جانبي، ووقفت أمام بيت صغير من طابقين قائم وراء سور عال، شبيه بالمساكن الخاصة التي كان يسكنها التجار الأثرياء في الأيام الخالية، ووقف حارس مسلح عند باب البيت، وأحست ماري كما أحس ألكسي أننا نريد أن نكون وحدنا، فأصرا على أن يذهبا إلى مطعم، وفتحت جوليا الباب بمفتاح مزلاج ودعتني إلى الدخول.
وأضاءت الأنوار فألفيتني في أجمل بيت وقعت عليه عيني، فقد فرشت أرضه بالطنافس الشرقية، وعلقت على جدرانه الستر المزركشة والصور الزيتية، وانتشرت في حجراته الثريات البلورية والأرائك الوثيرة والمناضد البراقة من خشب الكابلي، وكان كل ما فيه ينطق بثراء أصحابه، وإن كان في ترتيبه شيء من التحفظ يدل على حسن الذوق.
ووقفت في وسط هذه العظمة منبهرا بادي الحيرة.
وضحكت جوليا وقالت وهي تلقي عنها دثارها المتخذ من جلد الفقمة: «تلك حقائق يا عزيزي، وليست صورا في دار خيالة.»
فأجبتها: «ولكني ما كنت أتصور أن شيئا من هذا لا زال له وجود في خارج المتاحف.»
دعك من هذا يا فيتيا، إن في بلدنا أشياء كثيرة لا يدور بخلدك أنها توجد فيه، هيا بنا إلى المطبخ وأعني على تناول لمجة، فإني أكاد أموت جوعا، فالخدم في خارج الدار الليلة، وهو في موسكو ليشهد مؤتمرا أو شيئا من هذا القبيل.
ورأيت المطبخ فزادني إحساسا بأن كل ما فيه أقرب إلى أن يكون من نسج الخيال، لقد كان جوه كله مشبعا بالوفرة والمتعة ، فقد امتلأت خزائنه بالأواني الخزفية الجميلة، وصفت فيها الأواني البلورية يحمل بعضها شعار القياصرة، وقامت على إحدى المناضد الجانبية غلاية براقة كبيرة، ولما فتحت المثلجة الضخمة أبصرت فيها من المأكولات الشهية ما عاد بذاكرتي إلى ما كان من المثلجات في قبو جدتي في ألكسندروفسك، وتمثلت ما بين هذا وذاك من فروق، وخيل إلي أني هنا في عالم آخر أبعد ما يكون عن الفقر المدقع والحرمان اللذين أصبحا من مستلزمات حياتنا السوفيتية.
ولما عدت إلى حجرتي في منزل الطلاب صباح اليوم الثاني، لم أكد أجد من الوقت ما يكفي للاغتسال وحلق الذقن قبل الذهاب مسرعا إلى المعهد، ولم تكن المحاضرات التي ألقيت طوال اليوم تجد في إلا طالبا نعسان غافلا ذاهلا لا يسمع ما يقال ولا يعي شيئا مما يسمع؛ ذلك أن أفكاري جميعها كانت مع جوليا، وقلت لنفسي من فرط الدهشة: «إن في العالم إذن حبا من أول نظرة.» ولكن لم تكون محبوبتي امرأة متزوجة، ومتزوجة فضلا عن هذا بزعيم من زعماء حزبي وبلدي؟
وعاهدت نفسي على ألا أزور جوليا بعد ذلك اليوم، وكنت في الوقت نفسه أعجب كيف أستطيع الحياة في الأيام القليلة الباقية على الموعد الذي حددناه للقائنا.
وقلت لنفسي في حزم وجفوة في أثناء محاضرة عن علم الغازات وضغطها وحركتها: «إن سلوكك يا كرافتشنكو ليشبه سلوك إحدى الشخصيات في رواية فرنسية رخيصة، ما لك ولهذه المهزلة؟! وماذا تكون عاقبها؟»
وبحت بسري إلى ألكسي في تلك الليلة، وأدرك من فوره أني لم أكن أطيق المزاح، فأخذنا نتحدث حديثا جديا، وكان مما قاله لي أنه عرف من ماري أن جوليا بائسة من زمن طويل، وأنها لا تحب زوجها العظيم، وأن من أكبر أسباب بغضها له أنها تكره قسوته على الشعب، وحياته المترفة، وعدم اكتراثه بما تعانيه جمهرة الشعب من شقاء.
وكان مما قالته له ماري: «لست أنكر أن هذا يبدو لك كأنه منظر من مناظر مسرحية «بيت العرائس» لإبسن، ولكن الواقع أن جوليا تحس بأنها سجينة، وتقول إنها لا ترى فرقا بين أن تكون زوجة ل «ر» أو زوجة لأحد أعضاء البيت المالك السابقين، وتظن أن حياتها معه سخرية بآلام الشعب الروسي.»
وقابلت جوليا مرارا في خلال الأسابيع التي أعقبت هذا اللقاء الأول، وسألتها ذات ليلة عن زوجها فاعتذرت عن الجواب، وقالت والدمع يفيض من عينيها: «أعفني من الجواب في هذه الليلة يا عزيزي، وسنجد في غيرها وقتا طويلا نتحدث فيه؛ لأني لا أريد أن أفسد علينا الليالي الأولى التي نقضيها معا.»
وكنا ذات مرة نسير معا في الحديقة الواسعة المسورة الواقعة خلف بيتها، بعد أن أزيل الثلج من طرقاتها وفرشت برمل جديد.
وقلت لها وألححت في قولي: «لا، إن من الخير أن تكشفي لي عن أمرك؛ ذلك أن «ر» ليس زوجك فحسب، بل هو أيضا زعيم من زعماء حزبي.»
فقالت: «لست من أعضاء الحزب، ولكني كنت أشعر من بادئ الأمر بميل إليه أو على الأقل بميل إلى الثورة، وكان أبي من رجال العلم ومن كبار الأحرار، آه! لقد نسينا كلمة الأحرار يا فيتيا، ونحن نسخر منها إذا نطقنا بها، ولكن كل سنة تمر بنا تزيدني إجلالا لها، إجلالا لها بالمعنى الذي كان يفهمه منها أبي على الأقل. لقد كان أبي يفهم منها حب العامة، والعدالة التي تشمل جميع الناس، وبفهم منها فوق هذا كله احترام الناس جميعا رجالا كانوا أو نساء، وكان يعلي من قيمة الحياة، ولعلنا قد نسينا هذا كله، ولكني أعتقد أن هذه المبادئ هي التي كانت تهدف لها الثورة.»
فقلت لها: «إن هذا لمن أعجب الأمور، لقد كان أبوك من رجال العلم أما أبي فعامل بسيط في أحد المصانع، وكان أحدهما يسمي نفسه حرا ويسمي الآخر نفسه ثوريا، ولكنك حين تحدثينني بما كان يعتقده أبوك أكاد أسمع في حديثك حديث أبي نفسه.» - «ليس في هذا شيء من الغرابة، إن زوجي يدعو للاشتراكية بين العمال الكادحين، ويهيب بهم أن يثبتوا دعائمها في المستقبل، ولكنه يعيش الآن في الحاضر لا في المستقبل، ولعله فيما بينه وبين نفسه يرى أن في اشتراكية اليوم ما يفي بغرضه، وأي حق لنا في هذه المتعة كلها؟ (قالت هذه الكلمات الأخيرة وهي تشير بيدها إشارة شملت الحديقة والقصر المترف ومعطفها المصنوع من الفراء.) على حين أن الملايين لا يجدون ما يسد رمقهم، وعلى حين ترى معسكرات المساجين تزداد اتساعا وقبحا في كل يوم؟ وقد لا تصدقني إذا قلت لك إني أبغض هذا النهم في الزعماء، وهل اتفق لك أن عرفت بطريق المصادفة ما يحدث في القرى في هذه الأيام؟» - «يؤلمني يا جوليا أني أعرف أكثر مما أريد أن أعترف به لنفسي.» - «لا يدهشنك مني أن أتحدث إليك على هذا النحو، إن عواطفي هذه ليست سرا خافيا على «ر»، فكثيرا ما أفصحت له عن رأيي في هذا كله، ولكنه إذا سمع هذا سخر مني وقال إنني طفلة بلهاء واهمة أطلق العنان لعواطفي، وأدعي أن أحدا لا يضار بهذا، وأن الزعماء يعملون وينقبون، ومن حقهم أن يحيوا حياة راضية هنيئة، ولكني لا أشك في أنه مخطئ في قوله هذا؛ لأن الزعماء الذين لا ينقصهم في حياتهم شيء سرعان ما ينسون ألم العذاب ويصبح حديثهم عن التضحية مجرد رياء.
وإني لأشعر يا عزيزي بأننا قوم مخدوعون، وأن على أبصارنا غشاوة فلا نبصر ما يحدث من حولنا، حتى ليخيل إلي أحيانا أن ما كان يعانيه الشعب من استغلال وهمجية في أيامه الماضية كان أنبل قصدا مما يعانيه في هذه الأيام؛ ذلك أن المسيطرين عليه لم يكونوا يدعون على الأقل أنهم رجال مبادئ ومثل عليا، ولم يكن منهم من يسمي عمله هذا اشتراكية، إن أمثالك من الشبان الشيوعيين لسعداء حقا؛ ذلك أنكم لا تزالون تؤمنون بمبادئكم، ولا تعرفون شيئا عن الدسائس القذرة، وعن الصراع القائم بين كبار الزعماء في سبيل السلطة.
وهل تعرف ما يدور من معارك تتقزز منها النفوس للاستيلاء على بيت ريفي في الغابات الفضية القريبة من موسكو، أو بيت شتوي كان يملكه في يوم من الأيام أمير من تجار القفقاس؟ ألا ما أكثر ما يذاع من أكاذيب وأباطيل! إني قريبة من هذا كله بحكم مركزي الذي أوجدتني فيه الظروف، حتى ليخيل إلي أحيانا أني أكاد أختنق منه، وما أشبهني في هذا الوضع بإنسان في حمأة يزيد تورطا فيها كلما حاول التخلص منها.»
ولم يخالجني أدنى ريب في إخلاص جوليا رغم ما بدا لي من مغالاة في أقوالها.
ثم تشجعت فقلت لها: «لو أنك كنت شديدة الحب لزوجك لما رأت عينك هذا، وأرجو ألا تسيئي فهم قولي إذا ما ذكرت لك أن سخطك السياسي قد لا يكون إلا صدى لسخطك الشخصي.»
وسكتت جوليا وهي تفكر برهة طويلة ثم قالت بعد هذا التفكير: «لا، لست أظن أن هذا هو السبب، لقد كنت حتى في السنين الأولى من حياتي الزوجية أنكر على «ر» وعلى أصدقائه العظماء الحياة التي يحيونها، والطريقة التي يتحدثون بها، وشدة احتقارهم للشعب الذي يستغلونه ويمتصون دماءه، وكنت أحس من أول الأمر أنني أشبه برقيق الأرض في مزرعة رجل من أصحاب الحول والطول.» - «ولم إذن لا تفارقين زوجك، وتتخذين لك عملا، وتعيشين من أجل مثلك العليا؟ إني أحبك وأظنك تحبينني، فما الذي يمنعنا أن نعيش معا؟» - «لا يا فيتيا، ليس الأمر سهلا كما تظن، فأنا أعرف الكثير مما لا تعرفه أنت، وليس فرار امرأة في مثل مركزي بالأمر اليسير، إذ ليس في وسعي أن أفارق زوجي وأختفي في غمار الشعب المجهول، لقد كنت طول حياتي شديدة القرب من ذوي السلطان؛ ولهذا فإنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي إذا أقدمت على هذا العمل، وأرجو ألا تطلب إلي أن أصرح لك بأكثر مما صرحت به، وإذا كنت تحبني حقا فلا تردني عنك، وهذا كل ما أريده منك.»
وكان ما أشارت إليه من عالم السلطان غير المحدود والدسائس التي لا تقف عند حد، عالما أجهله كل الجهل ولا أستطيع قط أن أفهمه، وما من شك في أن روسيا من السوقة يقع في حب أميرة من البيت المالك لا بد أن يشعر ببعض ما كنت أشعر به وقتئذ.
وكثيرا ما قابلت جوليا في بيت صديقتها ماري بعد عودة زوجها من موسكو، ولم يكن خافيا علي أن زوجها يعلم بأنها تحيا حياتها الخاصة، وأنه كان يغمض عينيه عما تفعل، وكنا في لقائنا نتحدث عن أملنا في أن نعيش معا جهرة كما يعيش الزوجان، ولكن لم يكن منا من يصدق هذا القول؛ ذلك أن اسم «ر» كان يبرز كثيرا في أعمدة الصحف، فهو اليوم يلقي خطبة وغدا يوقع مرسوما، وأخذت الألسنة تلهج بذكره «لقد قال «ر» هذا، وفعل «ر» ذاك.» ومن أجل هذا كان مركزه السامي وسلطانه القوي، ومهابته في جميع القلوب، كان كل هذا يبدو لي كأنه حواجز قائمة بيني وبين جوليا حتى في تلك اللحظات التي كنت أحتضنها بين ذراعي.
ثم تبدلت الأحوال فجأة؛ ذلك أنني استدعيت للمثول أمام لجنة الحزب المركزية، واستقبلني من أعضائها رجل يدعى الرفيق شلكين مساعد رئيس قسم المستخدمين.
وقال لي: «يا رفيق كرافتشنكو، لقد أصدر الحزب قرارا يأمرنا فيه بأن نوائم قدر المستطاع بين عمل المهندسين الآن وبين تجاربهم السابقة، ولقد كنت قبل أن تلحق بالمعهد تعمل في صناعة التعدين، أليس كذلك؟» - «بلى، وكنت في مصنع بتروفسكي-لينين.» - «ها أنت ذا ترى بنفسك، وأي معنى في تدريبك على صنع الطائرات على حين أنك بدأت العمل بداية موفقة في صناعة التعدين؟»
فأجبته في وهن: «ولكني أفضل العمل في الطيران.» - «ربما كان هذا، ولكني لا أظنك تنكر أن هذا التفضيل لا يعدو أن يكون مسألة شخصية محضة.» ثم التفت إلى أحد أمناء السر وقال له: «اعمل على نقل الرفيق كرافتشنكو إلى معهد التعدين في دنيبروبتروفسك.»
وقضيت بعدئذ عدة ساعات أطوف في بستان سمسكايا، لا أبالي بالأوحال التي تتراكم في أواخر الربيع، وأسائل نفسي كيف يعرف الحزب أن الأمر ليس مجرد انتقال من الطيران إلى التعدين، بل هو انتقال من الحياة مع جوليا إلى الحياة بعيدا عنها، ولم يدر قط بخلدي إلا بعد زمن طويل أن الحزب، أو على الأقل بعض أعضاء الحزب، قد عرفوا ذلك الأمر ، وسواء أكان ذلك أم لم يكن فقد بدا لي أن قرار الحزب قرار عادل في جوهره.
وتحدثت إلى جوليا تلفونيا وأطلعتها على الخبر، واجتمعت بها عدة مرار قبل سفري، وكان اجتماعنا في كل مرة اجتماعا عاصفا، أذرفت فيه الدموع مدرارا، وألححت عليها أن تسافر معي مهما تكن النتائج، وخيل إلي في بعض الأحيان أن عزيمتها قد وهنت، وأنها قد تتبعني بالفعل، ولكن الأسباب التي تحول بينها وبين عملها هذا - أيا كانت هذه الأسباب - أقوى مما تستطيع التغلب عليها. «لا تطلب إلي هذا، ولا تقس علي يا فيتيا، إني لا أستطيع أن أفعل، وإن كانت الحياة بعيدة عنك ستكون موتا حيا، لا تطلبه إلي؛ فحسبي ما بي من آلام.»
وخرجت مع صديقي ألكسي في مساء اليوم السابق لسفري، وقضينا عدة ساعات نسير في شوارع خاركوف، ووعدني أن يوافيني على الدوام بأنباء جوليا، وأفضيت إليه بعزمي على أن تلحق هي بي، فإذا لم يكن ذلك في الأيام القريبة فلا أقل من أن يكون بعد فراغي من دراستي في المعهد حين يكون في وسعي أن أتزوج.
وجاءت إلى المحطة في صباح اليوم الثاني جوليا وماري، كما جاء أيضا رفاقي في حجرتي وغيرهم من الأصدقاء؛ ليودعوني وقت سفري، وتحدرت الدموع على خدي جوليا، وتظاهر كل من كان حاضرا بأنه لم يرها، ولم يدر قط بخلدي وقتئذ أنني لن أراها بعد تلك الساعة.
وكتبت إليها مرارا من دنيبروبتروفسك ولكنني لم أتلق منها جوابا، وألححت على ألكسي أن يتوجه تلقاء مسكن «ر» ففعل، ودق الجرس، ففتحت له الباب خادمة، ولما سألها عن مدام «ر» أخذت تنتحب وأجابته بقولها: «إن جوليا ليست هنا، وقد خلت منها الدار.» وأخذت تبكي، ولكنها لم تنبئه بشيء غير هذا، وأخبرته ماري أن جوليا فارقت زوجها بعد عودتي إلى دنيبروبتروفسك بزمن قليل، ولعلها لم تكن تعرف غير هذا، أو لعلها صدرت إليها أوامر مشددة ألا تبوح بغيره.
وأخذ جرح الفراق المؤلم يلتئم رويدا رويدا، ولكن الآلام الناشئة من سر الفرار الخفي وما كان يحوم حوله من شكوك ظلت تنتابني على الدوام. وحدث في إحدى السنين التي أعقبت ذلك الوقت أن ترامت إلي إشاعة غامضة فحواها أن جوليا ميخائيلفنا تعمل مدرسة في مدرسة في إحدى المقاطعات البعيدة بعد أن أطلقت على نفسها اسما مستعارا، ولكني لم يكن في وسعي أن أتحقق من صدق هذه الشائعة، ولعله كان من القسوة بعد ذلك الوقت الطويل أن نهتك أستار الماضي، أو أن نزبل ما تراكم فوقه من أنقاض على مدى الأيام.
الفصل السابع
انتصار الآلات
وسر أبواي وأخواي من عودتي إلى دنيبروبتروفسك غاية السرور، وأردت ألا أفسد عليهم سرورهم، فأظهرت أنا الآخر سروري لوجودي بينهم، وتطلب هذا مني مجهودا عنيفا؛ لأن ألم فراقي لجوليا كان ينغص علي حياتي كلها، وبدا لي ألا شيء يفرج عني هذا الهم إلا الانهماك في العمل، فألقيت بنفسي في تيار الدرس وأناشيد الحزب ومشروعات المصنع حتى لا أترك لنفسي فسحة من الوقت أكتئب فيها أو آسى على نفسي، وعملت على أن أزيد راتبي من الدولة بإعطاء دروس في الاقتصاد السياسي لبعض الفصول في المعهد الفني.
وكانت أمي لا تفتأ تشكو من حالي هذه وتقول: «إنك يا فيتيا ترهق نفسك بالعمل.» وما من شك في أنها كانت تظن أن هذه الغيرة كلها ليست غيرة عادية خالصة للعمل.
وسكنت في منزلي فنجوت بذلك من متاعب الإقامة في البناء العام المخصص لنوم الطلاب، وكل ما كان هناك من فرق بين هذا البناء ونظيره في خاركوف أنه أكثر منه اضطرابا وأقل راحة، وكنت أنا المشرف الرسمي على المصنع، ومن أجل هذا كانت علاقتي به وبالصناع فيه علاقة حقة وثيقة، واستعدت ما كان بيني وبين المهندسين والمدربين من صداقة قديمة، وأنشأت صداقات جديدة مع رؤساء العمال ومع العمال أنفسهم، وكانت مصانع بتروفسكي-لينين المتحدة تستخدم وقتئذ نحو 35000 عامل، وكان لهذه المصانع شأن عظيم في مشروع الخمس السنين.
وتبين لي أن ن. جليوبنكو الرئيس الجديد للمصنع رجل ذكي شريف، وإذ كان يعرف علاقتي القديمة بمصنعه، واهتمامي العظيم بتقليل نفقات الإنتاج وإجرائه على أحدث النظم، فقد كان يدعوني مرارا كثيرة إلى حضور الاجتماعات الصناعية، ويعهد إلي من حين إلى حين بعمل دراسات خاصة فيما يستجد في المصنع من مشاكل.
وكنت أعيش مع أبي تحت سقف واحد وأختلط بغيره من صغار العمال، فلم يكن في وسعي أن أغمض عيني عن المأساة المؤلمة التي كانت تمثل فصولها في الضياع والحقول، وكنا نحن الشيوعيين فيما بيننا وبين أنفسنا نحوم حول هذا الموضوع، أو نعالجه بالألفاظ الملطفة المنمقة التي ينطق بها الحزب، فكنا نتحدث عن «جبهة الفلاحين» و«خطر كبار الملاك الزراعيين» و«الاشتراكية القروية»، وكان علينا إن أردنا أن نحيا حياة الشيوعيين أن نغشي الحقائق بستار من الألفاظ المعسولة حتى لا تراها الأعين وتدركها العقول.
أما الصناع العاديون فلم يكن ثمة ما يضطرهم إلى هذا المسلك، فقد كان الكثيرون منهم زراعا قدامى لا تزال لهم كلهم إلا قليلا منهم صلات بالريف؛ ولهذا لم يكن في وسعهم أن ينظروا إلى المزارع الجماعية نظرة «علمية» مجردة عن أشخاص الزراع أنفسهم، فكانوا يتحدثون حديثا صريحا عن العنف والقسوة والجوع والموت، كما يتحدث الناس عن حوادث شخصية تمس زيدا وعمرا في قرية معينة من القرى، لا كما يتحدث العلماء عن قوانين عامة، وكنت أسمعهم من حين إلى حين يروون قصصا عن أشخاص في إقليمنا اضطرهم الجوع إلى أكل لحوم الآدميين، فكنت أعدها منهم مغالاة لا أصدقها، ولكنها رغم عدم تصديقي إياها تقذف الرعب في قلبي.
ولم يكن في وسع من في داخل المعهد أن يغمضوا عيونهم عن رؤية الفظائع التي تحدث في خارج أبوابه وعلى مقربة منه، وكان الرؤساء يحذرون العمال من أنصار «اليمين المنشقين» و«أنصار تروتسكي» و«مأجوري طبقات الزراع الأقدمين» الذين ينشرون «الشائعات المعادية للحزب»، ولكن الشائعات لم تنقطع بل زادها التهديد والقمع انتشارا، وكان من شأن هذا كله أن يجعل حياة طلاب المعهد الألفين حياة يسودها جو التوتر الخفي الصامت. وكان كثيرون من أنشط الطلاب يرسلون إلى القرى في مهام خاصة ، فإذا عادوا حذروا من أن يتحدثوا بما شاهدوا، ولكن صمتهم ومراوغتهم كانا أفصح من الحديث، هذا إلى أن كثيرين منهم كانوا يتحدثون إلي بما رأوا بعد أن أعاهدهم على ألا أذيع ما أسمع منهم، ويروون لي من الفظائع ما يقشعر من هوله بدني.
وكان لي زميل في فصلي عرفته في اجتماعات خلايا الحزب، فقلت له عقب عودته من إقليم بلتافا: «إن من يراك يحسب أنك شاهدت أطياف الموتى.»
فأجابني بقوله: «نعم لقد شاهدتهم.» ثم أطرق ببصره.
ولم أواصل حديثي معه، فقد أحسست بأنه محزون يريد أن يبوح لإنسان ما بما يحز في قلبه، ففررت منه مذعورا مما عسى أن يصيبني من هذا الحديث.
وكان «مروجو الشائعات» بين الطلاب يقبض عليهم من حين إلى حين؛ ذلك أن الرقابة على عقائد الطلاب السياسية كانت تستنفد من جهد المشرفين عليهم أكثر مما تستنفده الدراسات الفنية نفسها.
وكان في المعهد كما كان في كل مشروع سوفيتي وكل فرع من فروع الحكومة إدارة متصلة بالقسم السياسي، وكان يرأس هذه الإدارة عندنا الرفيق لبد، ولم يكن أحد يدخل مكتبه حين يدعى ليستجوب إلا تملكه الرعب، وليس منا من كان يعرف ما يجري وراء الكوة الصغيرة ذات القضبان الحديدية التي بباب غرفته المصنوع من الصلب؛ ومع ذلك فلم يكن بيننا من تبلغ به السذاجة حدا لا يعرف معه أن لكل طالب في هذه الإدارة الخاصة ملفا تسجل فيه كل كلمة ينطق بها، وكل عمل يصدر منه، ولا يفوت المشرفين عليه أن يسجلوا نبرات أقواله وحركاته.
وكانت الملفات الخاصة «بالأحوال الشخصية» تحوي معلومات عن حياة الطالب أو المدرس الخاصة، وعن أهله وماضيه السياسي، وكان أهم ما تحتويه التقارير والشكايات التي كان يرفعها العيون السريون المنبثون في كل فصل من فصول الدراسة، وفي كل منامة في المعهد، أو المخبرون المتطوعون الذين يريدون أن تكون لهم حظوة عند ولاة الأمور، أو الذين تحركهم الأحقاد والحفائظ الشخصية.
وكانت هذه الملفات سرا مكنونا لا يطلع عليها مدير المعهد نفسه ولا أمين لجنة الحزب فيه، وكان الغرض من ذلك حماية المخبرين وإحكام شبكة التجسس، وكان للإدارة الخاصة عمالها السريون في كل فرع من فروع المعهد بل وفي خلايا الحزب نفسها، على أن لجنة الحزب كان لها هي الأخرى مخبرون في هذه الخلايا، لا تعرفهم الإدارة الخاصة، وهكذا كان على كل جاسوس جاسوس مثله في نظام معقد دقيق يقذف الرعب في قلب كل إنسان.
ولم يكن هذا هو كل ما في الأمر، فقد كان للقسم السياسي هو الآخر عمال في المعهد غير عمال الإدارة الخاصة يتصلون مباشرة برياسة هذا القسم في الإقليم، وكان هؤلاء بمثابة رقابة ثانية على لبد وموظفيه، وكان للجنة الحزب بالمدينة عيونها في الخلايا، كما كانت لجنة الإقليم تتلقى التقريرات السرية من أفراد معينين في لجنة المدينة، وكان هذا الهرم المتشابك من الرقابة يمتد إلى أعلى قمته، إلى لجنة الحزب المركزية في موسكو ثم إلى الهيئة السياسية العليا التي يرأسها ستالين.
لقد كانت الحياة السياسية تحيط بها شبكة من التجسس تمتد خيوطها من أعلاها إلى أسفلها ومن أسفلها إلى أعلاها، تجسس من الحزب وعلى الحزب، من القسم السياسي وعلى القسم السياسي، يتعاون العمال فيها على جمع المعلومات في بعض الحالات، ويتنافسون على جمعها في حالات أخرى؛ ولذلك كنا نعيش في عالم كله عيون وآذان، وما من شك في أن الرجل العادي لم يكن يعرف مدى هذا النظام ولا دقته، بل إني أنا نفسي حين أكتب هذه الخلاصة الموجزة أستمد بعض ما أكتب من المعلومات التي كشفتها بعد خلال تجاربي في السنين التالية، وكل ما كان يعرفه الرجل العادي أن «للجدران آذانا» وأن الصراحة أقرب سبيل إلى الهلاك.
ولكن رغم هذا كله كانت المعلومات المحظورة تنتشر في كل مكان، وانتشارها هذا دليل على توتر مشاعر الناس في ذلك الوقت وعلى ما تمتاز به طبيعة الروس من حب للكلام، ومن عطف على البائسين، ومن إفصاح عما في ضمائرهم، ومن أجل هذا كنا إذا قطعنا على أنفسنا العهود بألا يفشي أحدنا ما يسمعه من زميله نخاطر بالتحدث فيما يخالجنا من شكوك مغيظة مؤلمة، وترتعد فرائصنا فرقا حين نفكر في أن كل كلمة ننطق بها ستجد سبيلها إلى سجلات حياتنا الخاصة، وكم من مرة حدث في سني التطهير المقبلة أن ووجهت بعبارة عارضة جرت على لساني في مجلس خاص لصديق كنت أثق به! وكم من مرة سئلت لم لم أنقل إلى من يهمهم الأمر عبارات سمعتها من غيري؟! لقد كان عدم التبليغ عن العواطف «المعادية للحزب» أو «المعادية للسوفيت» يفسر بأنه اشتراك في هذه الجرائم ورضا عنها.
ولم تكن الإدارة الخاصة تتوانى لحظة عن مطاردة «الأعداء»، وكان منا من يعرفون مثلا ما وضعته من خطط لفرض الرقابة الشديدة على الأستاذ دنيك العلامة الذي كان يدرس لنا علم الميكانيكا الإنشائية، وكان أهم من تدريسه وأعظم منه نفعا ما يجربه في معمل المعهد من أبحاث في مشروعات الإنشاء الصناعي الخطيرة التي تتطلب نفقات باهظة، وإذ كان هذا الرجل لا ينتمي إلى الحزب، وكان قبل الثورة من رجال الفكر المعدودين، والإخصائيين الذين لا يبدو عليهم شيء من الاهتمام بالسياسة، فقد كان بطبيعة الحال هدفا للارتياب الشديد، فكيف السبيل إذن لمراقبة نشاطه وهو نشاط فني إلى حد يصعب معه أن تتبين العيون ما عسى أن يكون فيه من عبث بالآلات أو المصانع.
لقد وجد الجواب عن هذا السؤال عند زوجة الأستاذ، وكانت تشغل هي الأخرى منصب كبيرة مساعديه، وكانت سيدة طويلة القامة نحيفة الجسم، شقراء اللون، متوسطة الجمال، في وسط العقد الرابع من عمرها، فكانت بذلك تصغر زوجها بنحو ثلاثين عاما، ولما كانت بطبيعة الحال تحترم زوجها لجهوده وعلمه، فلم يكن ولاة الأمور يرون أن في وسع رجال القسم السياسي أن يعتمدوا عليها كل الاعتماد في أن تكون عينا لهم عليه؛ ولهذا عمدوا إلى وسيلة أخرى فوضعوا في طريقها محبا لا تستطيع مقاومة حبه، وكان هذا المحب هو بفلنكو، وهو مهندس متطرف في حزبيته، قوي الجسم عريض المنكبين ضخم الرأس والوجه، لم يلبث أن أسر قلب الزوجة الشابة، ولم يكن في المعهد من لا يعرف أن زوجة دنيك وقعت في هواه إلا عدد قليل ومنهم زوجها نفسه، كما لم يكن فيه أحد غير الزوجة نفسها يظن أن حبيبها إنما يؤدي عملا عهدت به إليه الإدارة الخاصة، على أن ما ضحى به بفلنكو في هذه التمثيلية لم يجده نفعا، ولم يكن في وسعه أن يكشف عن أي عطل أو تخريب في معمل الأستاذ دنيك.
وقلما كان أحد يشير في حديثه إلى هذا التجسس المعقد المنظم اللهم إلا في عبارات غامضة خبيثة «ونوادر سياسية» رمزية - أي فكاهات ترمي إلى غرض سياسي - ولكنه مع ذلك كان نظاما حقيقيا شاملا لا يقل في حقيقته وشموله عن الهواء الذي نتنفسه. وكان هذا النظام المحكم يحيط بالمعمل ويتغلغل فيه كما يحيط بالمعهد وبالصحف المحلية التي كنت أكتب فيها، وبالهيئات الحزبية التي كانت تستنفد مني نشاطا مطردا لزيادة؛ لأني كنت وقتئذ من أعضاء الهيئة السياسية للجنة الحزب في معهدنا.
وتجمع من هذه الجاسوسية الشاملة سيل جارف من البيانات الشخصية والاتهامات، بعضها يعتقد ناقله بصدقه وبعضها قائم على حب التشفي والاستهزاء، وقناطير مقنطرة من الملفات دونت فيها أقوال آلاف الآلاف من الجواسيس وكلها مرتبة ومدروسة ومرقومة، ترسل منها صور إلى المدعي العمومي وإلى موظفي الحزب المنوطين بتأديب أعضائه، وإلى المحاكم السرية التابعة للقسم السياسي إذا ما تطلب الأمر اتخاذ إجراء عاجل، وكانت هذه كلها سيوف مرهفة مسلولة فوق رقاب المارقين المرتدين أو المتشككين المترددين، إذا احتاج الأمر إليها في مستقبل الأيام، وكانت كلها مصفوفة في عشرات الآلاف من الخزائن تعد كل واحدة منها حصنا مليئا بالأسرار الخاصة، وحوادث النزق والطيش، وبالأكاذيب والملق والأخطاء.
وكان هذا النظام السري الدقيق من نظم الرقابة على الأهلين وهتك أسرارهم، هو الذي قضى أبد الدهر على الأسرار الداخلية والحرية البيتية وجعلها من العادات العتيقة البالية، ومع ذلك فقد كان يسمى في عرف حزبنا الحاكم «الديمقراطية الحزبية».
في عام 1931م ألقى الرفيق ستالين خطبة في مؤتمر عام من الموظفين المشتغلين بالشئون الاقتصادية زلزلت قواعد الصناعة السوفيتية من أساسها وبدلت مظاهر حياة الصناع والموظفين على السواء، واشتملت هذه الخطبة على «عناصره الستة المهمة» لرفع القدرة على الإنتاج، وكان هم هذه العناصر الدقة في حساب النفقات، والعناية أكثر من الماضي بتركيز إدارة المشروعات، وزيادة تحديد تبعة العجز والإتلاف، والتفرقة العظيمة بين دخل الأفراد.
ومما جاء في هذه الخطبة قوله: «لقد خرجت الصناعة عن حكم العقل من زمن بعيد، ولم تعد مشروعاتنا الصناعية تعنى بالعد والحساب وتحضير حسابها الختامي الدال على إيرادها ونفقاتها، وما من أحد يبدو مسئولا عن شيء ما، والزعماء بكم فهم لا ينطقون، ولم هذا؟ إن الشواهد كلها تدل على أنهم يرهبون الحقيقة.»
وسرني بعض هذا التبدل في التفكير الرسمي، وخيل إلي أنه يكاد يكون نصرا مؤزرا لي أنا نفسي؛ لأني طالما كتبت وحاججت في هذا التعقيل نفسه، ولكن بعضه أقلق بالي، وخيل إلى أبي ومن على شاكلته أن هذه الآراء تؤيد أسوأ ما تنبئوا به من العواقب.
لقد كانت المساواة في الدخل من المثل السوفيتية العليا، وها هي ذي قد أصبحت جريمة ما بين يوم وليلة، وقيل عنها: إنها غير خليقة بالمجتمع الاشتراكي، ونبذت قاعدة «الحد الأعلى لإيراد أعضاء الحزب»، وهي التي كانت تقضي بألا يزيد دخل هؤلاء الأعضاء على الدخل المتوسط إلا قليلا، وبذلك أطلق العنان لسيل من النهم والجري وراء المصالح الشخصية في الأوساط الرسمية، وأدخل نظام الأجر بالقطعة في الاقتصاد السوفيتي بأجمعه حتى في الأعمال التي لا يخفى فيها سخف هذا النظام من الأجور إن لم نقل استحالته. وبفضل هذه العبقرية السوفيتية العجيبة التي تستطيع التحول من النقيض إلى النقيض استبدل بالفساد الناشئ من كثرة الرؤساء فساد مثله ناشئ من تحكم رئيس واحد مستبد، قضى قضاء مبرما على آخر ما بقي من آثار دعوى السيطرة من أسفل أي «سيطرة العمال» على شئون الدولة.
ولا حاجة إلى القول بأن الأمر بإجراء الإصلاحات شيء وتنفيذها شيء آخر، لقد كان ستالين محقا في اتهامه الزعماء بأنهم يخشون الحقيقة، فهم يخشونها لأنها من وسائل الترف العظيمة الخطر التي لا تتفق مع مطالب الثورة، وكان الذي يخطئ خطأ بريئا في حكمه أو يقوم بتجربة فنية غير محكمة يتهم بالتخريب وتعطيل الآلات المتعمد، ويجازى على ذلك بالنفي أو السجن، كما أن الموظف الصغير الذي يرتكب خطأ في عمله كان يحل به أقسى عقاب؛ لأن ولاة الأمور ذوي العقول البوليسية كانوا في كثير من الأحيان يتهمونه بالخيانة المتعمدة، وكان التهرب من المسئولية يضع العراقيل في سبيل الجهود الاقتصادية الضخمة، ويعقدها تعقيدا لا سبيل إلى التخلص منه، وقد وصف لي جليوبنكو هذه الحال وقتئذ بقوله: «إنهم يطلبون إلينا تعقيل الصناعة والتجديد فيها وتخفيض نفقاتها، وكل هذا شيء جميل جدا يا رفيق كرافتشنكو، ولكننا لا نكاد نفعل شيئا جريئا أو خارجا عن المألوف حتى نعرض حياتنا للخطر، أليس كذلك؟ إن السلامة في رأيي ألا نفعل شيئا قط.»
واستدعيت في أواخر الخريف من ذلك العام إلى مقر لجنة الحزب الإقليمية في صحبة تسبليا كوف مدير معهدنا وزميل من الطلاب يدعى برتز كوي، ولما دخلت أغلق أمين السر الباب وأعلن أنه يريدنا أن نقوم ببحث في نيقوبول، وهي بلدة تبعد عنا بضع عشرات من الأميال.
وقال لنا: «إن العمل في تلك المدينة يسير سيرا رديئا على الرغم من مبادئ ستالين الستة، فالاجتماعات قائمة على قدم وساق، والصخب عظيم، ولكن العمل أقل مما نتطلب، هذا إلى ضعف النظام وانتشار روح التذمر بين العمال. وحال نيقوبول من الحالات التي تتطلب البحث والعناية، فأنتم تعلمون أننا ننشئ مصانع لعدة صناعات في تلك البلدة تكلفنا مئات الملايين من الروبلات، ولكن عملية الإنشاء لا تتقدم على الإطلاق لسبب لا نعلمه، والإنتاج ضئيل إلى حد لا يصدقه العقل.
ونحن نريد أن تذهبوا أنتم الثلاثة إلى هذا البلد، وأن تقيموا فيه من الوقت ما يكفي لقضاء مهمتكم، أسبوعا أو أسبوعين إذا لزم الأمر، ثم ترفعوا إلينا تقريرا عما ترونه من عيوب وعن وسائل إصلاحها، وسندرس تقريركم هنا ونعرضه على الرفيق أورزنكدز إذا وجدنا أنه جدير بالعرض عليه .»
ولما جئنا نيقوبول وجدنا أن البناء قد بدئ به من نحو ثلاث سنين في سهل خال على بعد ستة أميال من البلدة وبضعة أميال من السكة الحديدية، وزاد ذلك البعد من متاعب العمال، ولم يكن أحد يعرف السبب في اختيار هذا الموقع غير الملائم لهذا الغرض، ولو أن البناء قد اختير له مكان أقرب من هذا إلى المدينة ليسر ذلك مشكلة مساكن العمال بعض التيسير.
وكان بطرس برتشكو مدير المصنع رجلا حديث العهد بمنصبه؛ ولهذا لم يجد ما يمنعه أن يكشف عن مئات الأغلاط والسخافات التي كان العمل يتورط فيها.
وقال لي وهو يتحسر: «لقد رأيت المكان غاية في الفوضى والقذارة، حتى إن عملية الحفر وحدها كانت تعد من المشروعات الكبرى، يضاف إلى هذا عدم الانسجام بين أجزاء العمل المختلفة، فأنتم أيها الرفاق تعلمون حق العلم أن كل مصنع يشتغل باستخراج المعادن وصهرها يعتمد في عمله على غيره من المصانع، فإذا أقيم بعضها دون مراعاة البعض الآخر كان هذا هو السخف بعينه، وقد يبدو هذا العمل لا غبار عليه من وجهة الإحصاءات العمومية، ولكنه لا يبدو كذلك إذا ما بدأت عملية الإنتاج بالفعل.»
وهالنا ما وجدناه من الآلات الغالية الثمن المستوردة من ألمانيا على الأكثر ملقاة في العراء يعلوها الصدأ وهي منتشرة في الأرض الواسعة المعدة لإقامة المصانع والمصاهر، وبيوت المديرين ومساكن العمال، وشاهدنا في كل مكان زرناه مباني مهجورة بعضها لم يبن منه إلا نصفه، وبعضها لا يزيد ما بني منه على قواعده.
وقلت ونحن نتعثر في هذه البيداء الملأى بالحجارة والمعادن: «لكن هذا أمر فظيع يا رفيق برتشكو.» - «إني أعرف ذلك ولكن ما حيلتي فيه؟ فنحن لا نكاد نبدأ العمل في أحد الأبنية حتى تأتينا الأوامر من المركز الرئيسي بأن نقف كل شيء وأن نوجه جهودنا كلها إلى مكان آخر؛ لأن الخطط تغيرت! هذا إلى أننا في الوقت نفسه نجد العمال عاجزين عن القيام بما فرض عليهم القيام به من العمل، ونسبة المرضى والغائبين بينهم مروعة حقا، فهم قد سئموا عملهم لأنهم يعيشون في ظروف قاسية، ولست أخفي عنك أنهم لا يجدون ما يكفيهم من الغذاء الملائم لهذا النوع من العمل.»
ثم قال بلهجة الراضي عن نفسه : «وأنا حديث العهد هنا بطبيعة الحال، وكل ما تراه قد ورثته عن عهد الإدارة السابقة.»
ألا ما أتعس حظك يا برتشكو! أنى لهذا الرجل أن يعرف أنه لن تمضي على حديثه هذا بضع سنين حتى يكفر بحريته عن هذه الفوضى الضاربة أطنابها في نيقوبول؟ وأنى لي أن أعرف أني سأدعى في يوم من الأيام لأن أضطلع بقسط هام في إدارة هذا المصنع «الجبار»، لقد كنا في هذه الزيارة نخطو وسط تلك الفوضى التي لا يتصورها العقل والتي تشمل المكان برمته، وكل منا يجهل لحسن الحظ ما تخبئه له الأقدار.
ووجهت اللجنة الزائرة الأسئلة إلى المهندسين ورؤساء العمال وصغارهم، وتبين لنا من دراستنا أن العمل كان يسير في فترات متقطعة في غير نظام، وأن الأموال والجهود تذهب هباء، وخيل إلي أن أسباب هذا الاضطراب تنقسم قسمين:
أما القسم الأول:
فناشئ من دسائس من لا شأن لهم بالعمل ومن تدخلهم في شئونه، لقد كان هذا العمل على ضخامته مرتبط الأجزاء بعضها ببعض، يتكون منه كله مشروع شامل يبلغ من الاتساع حدا يكاد العقل البشري يعجز عن الإحاطة به كله، وكثيرا ما كان التغيير الضئيل في الخطة الرئيسية لهذا المشروع - ولو كان له ما يبرره - يؤدي إلى اضطراب في أجزائه النائية، ولم يكن في وسع الموظفين البعيدين عن مركز العمل أن يدركوا في جميع الأحوال ما تسفر عنه أوامرهم المرتجلة بشأن هذا الجزء أو ذاك من عواقب وخيمة تؤثر في العمل برمته، ولم يكن الموظفون المحليون يجرءون على مخالفة تلك الأوامر، فلم يكن لهم بد من إطاعتها مؤملين أن تستقيم الأمور فيما بعد، يضاف إلى هذا أن التدخل كان من نوع التدخل الشرطي طابعه القبض المستمر على القائمين بالعمل، واستجوابهم وتهديدهم مما أحاطهم بجو من الخوف وعدم الاطمئنان.
أما القسم الثاني:
من أسباب اضطراب العمل وضآلته فيمكن تلخيصه كله في عبارة واحدة هي إغفال الجانب الإنساني في عملية الإنتاج؛ ذلك أن أجور العمال كانت ضئيلة ضآلة يرثى لها إذا قدرت بالقيمة الشرائية للنقد الروسي في ذلك الوقت، مع أن عشرات الملايين من الروبلات كانت تبدد بلا حساب في شراء آلات لا ينتفع بها، وفي إقامة مبان يتخلى عنها بعد قليل، أما مشروعات مساكن العمال فقد بقيت مجرد رسوم على الورق، وظل العمال أنفسهم يحشرون في ثكنات خشبية أقيمت على عجل، ذات سقوف يتسرب منها ماء المطر، وجدران وأرض رطبة تنقصها الوسائل الصحية البدائية، لقد كان كل ما يهتمون به هو الإنتاج، أما من يقوم على جهودهم هذا الإنتاج فلم يكن أحد يوجه إليهم أقل عناية، بل كانوا موضع الإهمال والازدراء.
وقررت في مساء اليوم الثاني من مجيئنا إلى نيقوبول أن أزور الثكنات في صحبة الرئيس المشرف على أعمال البناء، وأمين لجنة الحزب المحلية، والموظف المشرف على المساكن، وسرنا نخوض في الوحل إلى كعوبنا حتى وصلنا إلى صفوف من المساكن قبيحة المنظر لم يمتد إليها النور الكهربائي مع وجود الكهرباء في أبنية الإدارة العامة، بل كانت مصابيح الكيروسين مع فتائل مغمورة في أوعية زيت صغيرة تلقي ضوءا شاحبا على مناظر من القذارة يرتد منها البصر خاسئا وهو حسير.
وبدت إحدى الثكنات من خارجها وكأنها لا ضوء فيها على الإطلاق، فدققت بابها ففتحه رجل ملتح كبير السن: «مساء الخير أيها الرفيق، هل تأذن لنا بالدخول؟» - «ومن أنتم؟» - «أنا أمين سر لجنة الحزب ومعي هنا» وأشار إلينا «لجنة من المركز العام.»
فقال العامل في سخرية ساذجة: «شيء جميل! مرحبا بكم في قصرنا! أتريدون بعض الجرذان أم تفضلون البق؟ دعكم من الروائح الكريهة.»
وكانت الثكنة مظلمة تقريبا، وجلس على فراش قذر شبان أصغر منه سنا يقرءون في مصابيح زيتية ضئيلة الضوء، وجلس غيرهم يلعبون الورق، ولم يلتفت إلينا معظم من كانوا في الثكنة من العمال البالغ عددهم نحو خمسين أو ستين، ولكن جماعة منهم التفوا حولنا يشكون ويلعنون ، وجاءت فأرة تجري بين أرجلنا.
وقال أحد العمال: «أتسمون سقط المتاع هذا فراشا؟ وهل هذه وسائد؟ لا، إنها خرق بالية قذرة.»
وسألته: «كم يوما تمضي حتى تغير أغطية الفراش ؟» - «تغير كل شهر إذا واتاك الحظ، وإذا لم يواتك فكل شهرين أو ثلاثة أشهر، وقد لا تغير أبدا.»
وصاح رجل آخر قائلا: «إنا لا نجد ما ينجينا من الحشرات والجرذان، تعال هنا وانظر.»
ورفع أحد أطراف سرير من حديد وضرب به الأرض عدة مرات، فخرج البق منزعجا من معششاته حتى اسودت منه أرض الحجرة وتراجعت مرتاعا على الرغم مني.
وجاء عامل آخر يكمل القصة فقال: «ولم لا تعشش عندنا الحشرات؟! إنا هنا نتناوب العمل، طائفة تروح وطائفة تجيء قبل أن يبرد الفراش، والأرض لا تغسل أكثر من مرة في الشهر، والحق أن هذه ليست حياة بل هي العذاب بعينه، فإذا أمطرت الدنيا فنحن في سفينة نوح، وإذا اشتد البرد كنا في القطب الشمالي.»
وسألته: «ولم تسكتون على هذا؟ ولم لا تشكون؟»
فقال مستهزئا: «نشكو! ألا ما أكثر الخير الذي نناله من الشكوى! إن اللجان تأتي إلينا كما أتيتم أنتم، ثم لا نسمع بعد ذلك شيئا، ونحن نريد أن نعمل، ونعرف أن العمل لازم وخطير، ولكننا خلقنا من لحم ودم لا من حجارة، ثم إن العمال في إحدى الثكنات الأخرى قرروا يوما ما أن يفعلوا شيئا يصلحون به تلك الحالة التعسة التي لا تطاق، فأجمعوا أمرهم على ألا يذهبوا إلى العمل حتى تنصلح أمورهم، وأظنكم تعرفون ما حدث.» - «ماذا حدث؟»
وسكتوا كلهم فلم يحر أحد جوابا. - «لا تخف وقل لي ما حدث، إني قادم من دنيبروبتروفسك وأؤكد لك أني لا أعرف ما حدث!»
وتطوع رجل آخر بالجواب فقال: «لقد استدعي الزعماء.» - «وإلى أي مكان استدعوا؟» - «لا حاجة بي إلى القول إنهم لم يدعوا إلى الكنيسة أو إلى مشرب البيرة، بل دعوا إلى القسم السياسي بطبيعة الحال، وفوق ذلك فإنهم لم يعودوا إلينا أبدا.»
وقاطعه العامل الملتحي وهو يضحك ضحكة مريرة: «لعلهم كانوا في حاجة إلى إجازة يقضونها في سيبيريا.»
ونقلت ما رأيت إلى زميلي عضوي اللجنة، وكانا هما أيضا قد فتشا البيوت وما تم من أبنية المصانع، ولم يكشف أحد منا عن شيء يسره ليخبر به رفيقيه، وقضيت الليلة ساهرا أتقلب في فراشي، يؤرقني ويقض مضجعي ما شاهدت من أقذار وما يعانيه العمال من آلام وشقاء، ويفت في عضدي قنوط الذين لم يشكوا أمرهم إلينا لفرط تعبهم أو لعدم اكتراثهم، فآلمني ذلك منهم أكثر مما آلمتني سخرية الذين تحدثوا إلي وكراهيتهم اللتان عبروا عنهما بأقوالهم، ومما زاد هذه الصورة قتاما وزادني يأسا من إصلاح الأمور ما قاله أولئك العمال عن الزعماء الذين استدعوا ولم يعودوا إليهم أبدا.
وعقد في اليوم الثاني اجتماع في مركز لجنة الحزب بالمدينة شهده جميع الرؤساء المسئولين في مصانع نيقوبول، وشرحت لهم ما رأيت بكل ما أسعفتني به اللغة من ألفاظ، وأعلن الرفيق برتشكو مدير المصانع أن موظفيه سيدعون ليحاسبوا على أعمالهم أمام السلطات السوفيتية العليا إن لم يحل بعد خمسة أيام من ذلك الوقت شيء من النظام محل الفوضى الضارية أطنابها في الثكنات، وأعلن الرفيق تسبكياكوف أن اللجنة لن تعود إلى مقرها، بل هي باقية حيث هي لترقب ما يئول إليه الأمر في نهاية الأيام الخمسة.
وكانت هذه أيام ما أعجبها، فقد جيء بمئات من الرجال يمسحون الأرض ويغسلونها ويصلحونها، واهتزت أسلاك البرق والمسرة مرارا كثيرة إلى خاركوف ومرة على الأقل إلى موسكو نفسها، فجاءت أسفاط ملأى بأغطية الفرش وأكياس الوسائد، وشرع العمال يمدون الأسلاك الكهربائية إلى الثكنات، وكأن الموظفين الذين سمحوا من قبل بأن تتجمع هذه الأمور المروعة قد أصبحوا هم أنفسهم أحرص الناس على إصلاحها وأكثرهم اغتباطا بهذا الإصلاح.
وتحدث إلي أحدهم فقال: «لم توجد هذه الشرور لأنا راغبون فيها، بل كان سبب وجودها أنا عاجزون عن علاجها، وإن ترك الأمور تجري في مجاريها خير من العمل وبذل الجهود، إنك لا تجد إنسانا يرغب في تحمل التبعة، انظر مثلا إلى عملية التنظيف الشاملة، فهي عملية لم تكن مستطاعة إلا لأنكم تمثلون لجنة الحزب الإقليمية، والميزانية لا تحوي اعتمادات للأغطية النظيفة أو الإصلاحات الضرورية، ومن ذا الذي يستطيع العبث بالميزانية؟ إنها كما ترى دائرة مفرغة لا أول لها ولا آخر.»
وتناولت العشاء في الليلة السابقة لسفرنا مع أحد رؤساء المهندسين، وكان رجلا كبيرا من غير أعضاء الحزب.
فقال لي في أثناء حديثه: «لست من حزبكم، بل أنا من رجال الفكر الروس وكفى، ولا أريد أن أتدخل في شئونكم الخاصة، ولكني مهندس يعز علي أن تذهب جهودي أدراج الرياح، فأنا أحب بلادي وأبغي لها الخير والرخاء، وأرجو أن تصدقني في قولي هذا.
إن كل ما نتقدم به إلى المركز العام عرضة للنقد الشديد، والذين فيه لا يدرسون ما نتقدم به إليهم على أنه عمل هندسي، بل يدرسونه من وجهة النظر «السياسية»، ومهما يكن قرارهم فإنا مرغمون على إطاعته، مهما يكن من سخافته وبعده عن الصواب، فإذا أخطأ الرؤساء قاسينا من جراء خطئهم الأمرين، ولكننا لا نستطيع الكلام، بل إننا في الواقع نكون سعداء محظوظين إن لم تلق علينا تبعة أخطائهم.» - «وماذا تقول في أعضاء الحزب المحليين؟ ألا تلقون منهم معونة؟» - «آه يا عزيزي الرفيق كرافتشنكو، إن لديهم مناصب لا حصر لها للتجسس والرقابة، أما المعونة فليس لها عندهم مناصب كثيرة، إن لجنة المصانع التابعة للحزب تفحص، ولجنة المدينة تفحص، والقسم السياسي يفحص، وأنتم هنا الآن لتفحصوا، وهم يفحصون عنا ويفحص بعضهم عن بعض، وقد تظن أن الواجب يقضي بأنه إذا عهد بالمال الكثير إلى الذين يحسنون تدبيره فلتترك لهم الحرية الكافية لإنفاقه على أحسن وجه، لكن الذي يحدث فعلا أننا نقضي من أوقاتنا نتناقش فيما عسى أن يظن بنا هذا الرجل أو ذاك أكثر مما نقضي منها في الأعمال الهندسية وفي الإنشاء، ولم أكن أجرؤ أنا نفسي على التحدث إليك بهذه الصراحة إلا لأني رجل كبير السن.»
وغادرت نيقوبول وأنا مكتئب محزون، وإذا ما عدت الآن بفكري إلى هذه الزيارة كان أعجب ما فيها أن قسما كبيرا من المصاهر قد تم إنشاؤه بطريقة ما هي أقرب الطرق إلى المعجزات وخوارق العادات، لقد استغرق إنشاؤها أكثر مما قدر له القائمون على أمرها، وأنفق عليها من المال أكثر مما رصد لها، وقاسى منشئوها ألوانا من العذاب لا يمكن تصورها، وضحي في سبيلها بأرواح لا حصر لها، ولكنها أنشئت آخر الأمر.
ورفعنا إلى الحزب تقريرا مفصلا، ورفعه الحزب إلى موسكو مشفوعا بتوصياته، ولم أغفل أنا شيئا مما لم أرض عنه حتى البق وحتى شكوى العمال من اعتقال القسم السياسي لزملائهم، ولست أعرف هل وصل ما ذكرته عن هذه الاعتقالات إلى موسكو أو لم يصل إليها.
وزادتني هذه التجربة تصميما على تنفيذ خطة كنت أفكر فيها من عدة شهور، لقد اعتزمت أن أسافر إلى موسكو وأحاول مقابلة الرفيق أورزنكدز والتحدث إليه وجها لوجه عما شاهدت حولي من أخطاء ومساوئ، وإذ كانت هذه الخطة تتفق مع حاجة مصنع بتروفسكي-لينين فقد وافق عليها الرفيق جليوبنكو مدير المصنع، ورضي أن يتحمل المصنع نفقات الرحلة.
وذهبت من المحطة إلى وزارة الصناعات الثقيلة مباشرة.
وكانت هذه زيارتي الثالثة لموسكو، ولكني شعرت فيها بما لم أشعر به في زيارتي السابقتين من فرق عظيم بين عاصمة البلاد وسائر مدنها، وكان من أسباب هذا الفرق ما أدخل على العاصمة من تحسين عظيم في مظهرها، ولكن أكبر أسبابه ما طرأ على مدن الأقاليم من تقهقر سريع.
وبدت لي موسكو كأنها مهد الرفاهة والرخاء إذا وازنتها بدنيبروبتروفسك أو بخاركوف نفسها، فلم تكن صفوف الناس أمام الحوانيت في العاصمة الكبرى طويلة كصفوفهم في المدينتين الأوليين، ولم تكن الرفوف فيها خالية مثلها فيهما، وكان النشاط فيها ظاهرا محسوسا والناس متفائلين، والشوارع نظيفة معتنى بها، والطرقات الكبرى قد رصفت حديثا بالأسفلت، والمباني الحديثة تبهر القادم إلى المدينة من خارجها، ومر بي السائق في ميدان الأوبرا الذي تحيط به دور التمثيل والفنادق، ودار الأوبرا الكبيرة والحوانيت الجميلة الكثيرة العدد، ورأيت الناس الذين تزدحم بهم طرقات المدينة أحسن ملبسا من أمثالهم في سائر المدن، وكان أكثر ما سرني فيهم أنهم لا يتسكعون في الطرقات ولا يجولون فيها على غير هدى، بل كانت مشيتهم نفسها تبدو عليها مظاهر النشاط والرشاقة التي تكاد أن تكون غريبة في بلاد الروسيا بأجمعها.
ووصلت إلى حيث كان الرفيق أورزنكدز، وعرفت من كان هناك بنفسي، وحصلت على جواز مرور، ثم قدمت نفسي للرفيق سمشكين أمين سره، وكان من حسن حظي أنني قابلته من قبل فيسر لي سبيل المقابلة، وأطلعته على ما معي من رسائل التوصية من جليوبنكو وغيره، ووعدني بأن يبلغ الوزير نبأ قدومي.
وأحصيت ستة عشر شخصا ينتظرون في حجرة الاستقبال، وكانوا كلهم حسني البزة تلوح عليهم مظاهر النعمة، وكان بعضهم يلبسون ملابس أجنبية في أيديهم كلهم تقريبا مكاتيب مختصرة، ويدل مظهرهم كلهم على أنهم من ذوي المراكز الهامة ومن ذوي اليسار، ويبدو عليهم أنهم من رؤساء الصناعات المتحدة أو مديري المشروعات الصناعية الكبرى، وكلهم من أعلى طبقات الزعماء الاقتصاديين، وكنت أصغر من في الحجرة سنا وأقدمهم ملبسا، وأحسست كأني دخيل أو فقير بينه وبين الزعيم قرابة، ونظر الحاضرون إلي بشيء من الريبة وكأن لسان حالهم يقول: «ماذا يصنع هذا الإنسان في هذا الحفل من العظماء؟»
وسمعنا فجأة أصواتا وصراخا منبعثة من خلف الأبواب الكبيرة المؤدية إلى مكتب الوزير، وتبينت فيها نبرات صوت أورزنكدز الوزير الكرجي، وتطلعت أعيننا كلنا إلى الباب باهتمام وبغير قليل من الرهبة؛ ذلك أننا لم نكن نشك في أن غضبه إن كان غاضبا سيكون نذير شر لنا وخيبة للأغراض التي جئنا كلنا من أجلها، ثم فتح الباب بعنف واندفع منه رجل بدين يتصبب العرق من جسمه، وتبدو عليه مظاهر الخوف، يجر حقيبة ملابس مفتوحة، وسقطت من الحقيبة حزمة من أدوات المائدة: ملاعق وسكاكين وأشواك، ووقف المسكين وهو مثقل بحمله ليجمع الأدوات، ثم ألقاها بحركات عصبية في حقيبته، وأغلقها بأصابعه المرتجفة، وهرول من الحجرة دون أن ينظر إلى واحد منا.
وبعد دقيقة أو دقيقتين من ذلك الوقت خرج أورزنكدز مبتسما باش الوجه ليس في مظهره أثر من آثار ذلك المنظر العنيف، ووقفنا جميعا إجلالا له.
وقال وهو يضحك موجها خطابه إلى من في الحجرة بوجه عام: «لست أشك في أنني قد سلقت هذا الوغد بألسنة حداد ، وفي الحق أنه جدير بهذا، لقد جاء يحمل إلي أدوات المائدة لتكون نماذج للإنتاج بالجملة، ولكنها كلها بشعة المنظر، بدائية الصنع، شبيهة بالفئوس، لا تصلح حتى للمتوحشين من الآدميين، إن من واجبنا أيها الرفاق أن نمحو من الأذهان تلك الفكرة القائلة بأن أي شيء يصلح لشعب السوفيت، إنا نريد الكيف كما نريد الكم، والآن فلأنظر ما جاء بكم كلكم إلى هذا المكان؟»
وتنقل الوزير من زائر إلى زائر وإلى جانبه سمشكين، وكان إذا سمع مطالب واحد منهم أحاله إلى أحد مساعديه، أو طلب إليه أن يعود لمقابلته في يوم معين، ورأيت أن أورزنكدز قد زاد بدانة عما كان حين رأيته في المرة السابقة، وزاد الشيب في شعره الكث وشاربه المتهدل، ولكن ملامحه الضخمة ذات البشاشة الطبيعية غير المتكلفة، كانت لا تزال تبعث الثقة في نفس من يراه.
ولما وصل إلي ناولته ما معي من الرسائل، فألقى نظرة سريعة على واحدة منها ثم نظر إلي وقد أبرقت أسارير وجهه وقال: «كيف حالك يا صديقي القديم؟ نعم، إني أذكرك جيدا يا رفيق كرافتشنكو، وأرجو أن تكون ناجحا في دراستك، ويسرني أن أتحدث إليك، وليكن هذا في الساعة العاشرة مساء، اعتن بهذا الرفيق يا سمشكين، وهيئ له جميع أسباب الراحة.»
ولما عاد الوزير إلى مكتبه جاءني سمشكين وضغط بيده على ذراعي ليهنئني على ما نلت من حظوة، لقد أظهر لي أورزنكدز دلائل الرضا والمودة، وجاء أمين سره يسلك معي مسلك رئيسه، ونظر إلي من في الحجرة بشيء من الحسد على ما نلت من رضا، وما من شك في أنهم قالوا في أنفسهم: «أهذا الذي لم يزل في شرخ الشباب يحظى بابتسامة العظماء؟»
وركبت عربة زرقاء كبيرة أقلتني إلى «فندق العاصمة» وقدمت إلى من فيها ورقة من الوزير، فأخذني من فوري إلى غرفة كبيرة في الطابق الأعلى، وأحسست في خبيئة نفسي بالعظمة التي عادت علي لقربي من ذوي السلطان، وبما يخلعه علي هذا القرب من نفوذ.
وذهبت في المساء إلى مطعم الفندق، وهو حجرة ضخمة عالية الجدران مزينة بأصص النباتات الاستوائية الضخمة، ورأيتها مزدحمة وفيها جوقة جاز تعزف بعض الألحان، وفي وسطها ما يشبه أن يكون بركة سمك وعلى شواطئها الممردة رجال ونساء، يرقص كل اثنين منهم على نغمات الموسيقى، وقد ازدحمت بهم هذه الشواطئ فكانوا كأنهم كتلة واحدة من البشر يموج بهم المكان موجا.
ولم يكن في مقدوري أن أوائم بين نفسي وبين هذا المنظر الجديد إلا بعد عدة دقائق، وساءلت نفسي: «هل يمكن أن يكون هذا المكان قطعة من اتحاد السوفيت حقا؟ أو هل قادتني قدماي خطأ إلى ملهى أرى فيه مناظر تعرض على الشاشة البيضاء؟» وأبصرت من وراء نخلة في أصيص صحاف الطعام والراقصين والراقصات، وشاهدت في أماكن متفرقة رجالا في قمصان نصفية روسية، ولكن سائر من في المطعم كانوا يرتدون الثياب الأوروبية بما فيها أربطة الرقاب، أما النساء فكان بعضهن يرتدين جلابيب قصيرة لم أرها قط إلا على أغلفة الكتب، وكان عدد الأجانب كثيرا، ومنهم طائفة ترتدي ملابس العشاء والقمصان البيضاء المنشاة، وشاهدت من خلال إحدى البواكي في نهاية المطعم مكان الشراب، وفيه عدد من الفتيات الحسان يقدمن المشروبات إلى عدد من الرجال الواقفين على كراسي عالية تدل ملامحهم على أنهم من غير الروس.
وما كدت أستقر في المكان حتى طاف بمخيلتي منظر ثكنات نيقوبول، وتذكرت قول أحد نزلائها: «مرحبا بك إلى مسكننا أيها الرفيق، أتريد جرذانا أم بقا؟» ولكنى أبعدت هذه الفكرة من مخيلتي وقلت لنفسي: إن هذه موسكو، ولن يمضي إلا قليل من الوقت حتى أكون في «حديث» مع واحد من الستة الزعماء الذين يتصرفون في مصاير البلاد.
وقبل أن يحل الموعد المحدد بزمن طويل كنت مرة أخرى في حجرة الاستقبال الملاصقة لمكتب الوزير، وقبل الساعة العاشرة بقليل، اقترب مني سمشكين، وقال لي: «ربما اضطررت إلى الانتظار بعض الوقت ؛ لأن الرفيق بوخارين مع الوزير.»
الرفيق بوخارين! ودق قلبي دقة عنيفة، وكأني في هذه الساعة في حضرة لينين نفسه، إذ لم يكن بين أسماء العظماء في الثورة من هو أعظم من بوخارين إلا لينين وتروتسكي، ولقد درست كتابه المسمى «أبجدية الشيوعية»
1
حين كنت أعد نفسى للانضمام للجان الشباب، نعم إن نيقولاي بوخارين قد اتهم قبل ذلك ببضع سنين بأنه من المنشقين أنصار اليمين، وجرد من وظائفه الرسمية وحرم على الناس أن يطالعوا كتبه، ولكن اسمه كان لا يزال تحيط به رغم هذا هالة من السحر، وكان مجرد إحساسي بأنه هناك في ذلك المكان، لا يحجبه عني إلا ذلك الباب، كان مجرد إحساسي بهذا كافيا لأن يهز مشاعري على الرغم مني.
وبعد قليل من الوقت أشار إلي سمشكين بأن أدخل وهمس قائلا: «إن بوخارين لا يزال هناك؛ لأن الوزير طلب إليه أن يبقى وأن يقابلك.»
وما هي إلا لحظة حتى كنت أصافح أورزنكدز وبوخارين، وجلس الوزير خلف مكتب كبير، انتشرت عليه أوراق وكتب وست مسرات، وصفوف من الأزرار الكهربائية وجلست أنا وبوخارين أمامه إلى جوار المكتب في حجرة رحبة، علقت على جدرانها صور كبيرة لماركس ولينين وستالين، ووضعت على المكتب صورة شمسية لستالين كتب صاحبها في أسفلها بخط رديء: «إلى سرجو.»
وقال الوزير وهو يحاول على ما أظن أن يهدئ روعي: «مرحبا يا رفيق كرافتشنكو، حدثنا حديثا واضحا مختصرا بما تعرفه عن مشروع نيقوبول.» - «أحب أن أحدثك أولا أيها الرفيق الوزير عن مصنع دنيبروبتروفسك، فإن لي آراء خاصة في عمله أريد أن أبسطها لك.» - «قل.»
وكان في وسعي أن أبسط المسألة بسطا واضحا؛ لأني رتبتها من قبل في ذهني ترتيبا منتظما، فقلت له: أولا إن بعض أجزاء المصنع في حاجة إلى التوسيع وإلى التنظيم على أحدث الأساليب، وأظهرت له أن بعض مبانيه القديمة قد أهمل أمرها لشدة حرص ولاة الأمور على تشييد مبان جديدة، وبرهنت له بالإحصاءات الدقيقة أن إنفاق ملايين قليلة من الروبلات في تحسين بعض الأجزاء القائمة من هذا المصنع يؤدي إلى إنتاج أكثر مما يؤدي إليه إنفاق عشرات أضعافها في تشييد مصانع جديدة.
وابتسم بوخارين ابتسامة عريضة حين سمع هذا الحديث دلالة على رضائه عنه، فقد عرف عنه من قبل أنه يعارض في الإسراع في تشييد المصانع الجديدة، وكان قبل أن يرغم على السكوت قد طعن في بعض نواحي مشروع السنوات الخمس ووصفه بأنه «مجرد نزعة إلى المغامرات».
ورد علي أورزنكدز بقوله: «إني متفق معك بوجه عام يا رفيق كرافتشنكو، وإن كانت المشاكل الخاصة بمصانع بتروفسكي-لينين المتحدة في حاجة إلى الدرس والتمحيص.» ودون بعض ملاحظات على إضمامة من الورق كانت أمامه ثم واصل حديثه قائلا: «أبلغ المدير جليوبنكو أننا سنعنى ببحث مطالبه، والآن فلتستمر في حديثك.»
ثم أخذت بعدئذ أصف ما انطبع في ذهني من زيارتي لنيقوبول، والتزمت في بادئ الأمر العبارات الفنية الشكلية التي أعددتها في عقلي من قبل، ولكني حين واصلت الحديث عادت إلى مخيلتي ذكرى الثكنات وما فيها من قذارة وتبرم، فذهب ما كان لدي من حصافة وسرت في صوتي نغمة الغضب وأنا أشرح ما شاهدته من تلف وإسراف واضطراب، وخاصة حين كنت أصف ما يحيط بحياة العمال من ظروف لا قبل لهم بها، وقلت له: «لست أشك في أننا إذا أنفقنا بضعة ملايين من الروبلات في إصلاح الظروف التي يعيش فيها العمال سنوفر مبالغ طائلة من نفقات المشروع، أما إهمال العنصر الإنساني فيه فإنه سيحول المشروع كله في مكان مثل نيقوبول إلى مأساة من السفه والدمار وخيمة العاقبة.»
وما كدت أنطق بهذه العبارة حتى قاطعني بوخارين بقوله: «مرحى، مرحى!» وحاول أورزنكدز أن يكبت ابتسامة ولكنه لم يستطع.
وواصلت حديثي وقد انسقت وراء لساني فقلت: «إن المشكلة الرئيسية هي مشكلة الأجور بأجمعها من أكبر المهندسين إلى أصغر العمال، وتأتي بعدها مشكلة السلع التي يستهلكونها، حتى يستطيع العمال أن يشتروا بما ينالون من الأجور ما يحتاجونه من السلع كالطعام والكساء ولوازم المنازل، ولقد شكوت إليك أيها الوزير حين اجتمعت بك أول مرة من التدخل الذي لا ضرورة له في إدارة المشروعات الصناعية، وما من شك في أن الإدارة الموحدة والتبعة الموحدة لازمتان لنجاح كل مشروع، ولكننا الآن قد ذهبنا في الناحية الأخرى إلى الغاية القصوى، ولم يبق للعمال كلمة يقولونها في شئون عملهم، ولقد بلغ من أمرهم أن أصبحوا يدعون أمام القسم السياسي إذا سولت لهم أنفسهم أن يرفعوا أصواتهم بالاحتجاج على ما يقاسونه من متاعب لا قبل لهم بها، على أني أخشى أن أكون في حديثي هذا قد عدوت طوري، فإن كان الأمر كذلك فلا تؤاخذني لأني أشعر بما أحدثك عنه في أعماق نفسي.»
وصاح أورزنكدز قائلا: «لا، لا، لا، أيها الرفيق، إني يسرني أن أسمع إنسانا يفصح عما في قلبه كله لا عن بعض ما فيه، إن كل ما تقوله صحيح ولا تظن أنه خاف علينا، وأؤكد لك أن الرفيق ستالين يعنى أشد العناية بمشكلة الأجور مثلا، ولكن تشخيص الداء أسهل كثيرا من مداواته.»
ودام هذا الحديث ما يقرب من ساعة، وسألني الوزير في أثنائه هل خرجت في حياتي من بلادنا؟
فأجبته قائلا: «لا، لم أخرج منها، ولكني قرأت الصحف الفنية التي تصدر في بلاد السويد وألمانيا وأمريكا، فعلمت منها أن في تلك البلاد أشياء كثيرة، نحن في أشد الحاجة إلى أن نتعلمها.» - «قد نرسلك إلى أمريكا أو ألمانيا بعد أن تتم دراستك في المعهد، والآن فلتنس أمر العمل والعمال بعض الوقت، هل شاهدت ما في موسكو من مسارح ومتاحف؟» - «لا، لم أذهب إليها بعد، ولكنني أرجو أن أشاهد منها أكثر ما أستطيع مشاهدته.» - «حسن، إني أمنحك إجازة خمسة أيام تقضيها في موسكو، فانتظر سمشكين في حجرة الاستقبال، وإلى اللقاء مرة أخرى.»
وكدت أفقد وعيي حين خرجت من عنده، لقد كنت في هذا اللقاء أقرب ما أكون إلى السلطة العليا، وكاد إحساسي بهذه السلطة يذهب بعقلي، وأخذ الجالسون في حجرة الاستقبال ينظرون إلي في دهشة لم يحاولوا قط أن يخفوها، وما من شك في أنهم كانوا يعتقدون أن الرجل الذي يستأثر بساعة كاملة من وقت الوزير لا بد أن يكون رجلا خطير الشأن، وجاءني سمشكين بعد قليل.
وقال لي: «أهنئك أيها الرفيق، لست أشك في أن ما كان معك من المال قد نفد، وإليك تذكرتين، إلى مسرح البلشوا، وإلى مسرح موسكو الفني، وسنؤدي نحن نفقاتك في الفندق، وهذه ألف من الروبلات لنفقتك الخاصة وهي منحة لك من الرفيق أورزنكدز، فمتع نفسك كيف شئت، وإذا احتجت إلى شيء فما عليك إلا أن تخاطبني تليفونيا.»
وجيء لي مرة أخرى بسيارة كبيرة أقلتني إلى الفندق، ولما ذهبت إلى مطعم العاصمة لأتناول عشائي شاهدت فيه جوقة من عشرين مغنية من الغجر، يغنون أغاني بلدية، ولم يدهشني ما رأيت في هذه المرة فقد ذهب عني ما كنت أشعر به قبل من غرابة، وما من شك في أن وجودي مع أورزنكدز وبوخارين قد أشعرني بأني هنا في المكان اللائق بي، كأني أصبحت أحد الصفوة المختارة، ألا ما أسهل على الإنسان أن يخضع لمغريات النعيم والسلطان! ترى كم من الزمن تطول آلامي النفسية مما يعانيه بعض صغار العمال المعذبين المجهولين في مصانع نيقوبول وأمثالها لو أنني كنت أنا أيضا أعيش في موسكو مثقل الجيوب بالمال، وبالقرب مني سيارة فخمة تقلني إلى حيث أشاء، وفرقة موسيقية تغرق نغماتها ما عسى أن أشعر به من وخز الضمير؟
وشاهدت في الخمسة الأيام التالية تمثيلية راقصة صامتة وعدة تمثيليات غنائية، ومعرضا للفنون في موسكو، وتمثيلية مسائية في مسرح يختنجوف، وقضيت عدة ساعات في معرض تريتاكوف الفني، وفي متحف الثورة ومكتبة لينين، وغيرها من المعاهد التي يتحتم على كل إنسان أن يشاهدها، ألا ما أكثر ما يحتويه العالم من علم وجمال!
ثم تذكرت أن الرفيق لزريف، المحاضر الأول الذي جذب أفكاري إلى الحزب ومثله العليا في مناجم فحم الدنتز من زمن بعيد كان هو أيضا في موسكو، فاعتزمت أن أذهب لزيارته، فلما دخلت عليه تذكرني وأحسن استقبالي، وكان يسكن في شقة صغيرة في إحدى الوحدات المقامة على الشاطئ الثاني من نهر موسكو، وسرني لسبب يصعب علي أن أعبر عنه أن أرى صورة تولستوي لا تزال معلقة في حجرته.
وعرفني الرجل بزوجته، وهي شابة حسناء ومن العاملات في الحزب لا تقل نشاطا عن زوجها نفسه ، وقدمت لنا أكواب الشاي، وأخذت وأنا أتناوله أقص عليه ملخص تاريخ حياتي مذ التقيت به في إقليم التعدين، وكانت خاتمة حديثي بطبيعة الحال وصفا مفصلا حماسيا لاجتماعي بأورزنكدز وبوخارين، وأصغى إلي لزريف وهو صامت، وأحسست أن نشوتي هذه قد ضايقته.
وقال بشيء من الأسى: «ألف روبل وتذاكر للمسارح وسيارات ودار الأوبرا! نعم، هكذا كان أمراء الأسرة المالكة في العهود المنصرمة يكرمون المحظوظين من أتباعهم، وكل ما هنالك من فرق بيننا وبينهم هو الاسم لا غير.»
ورددت عليه بشيء من الحماسة: «إنك لا تنصفهم كل الإنصاف يا رفيق لزريف، إن الذي أعجبني في هذا اللقاء أن الوزير كان راغبا في الاستماع إلى أقوالي، ولست أشك في أنه يدرك آلام الشعب ويعطف عليه، وإذا كان هو يدرك آلامه ويعطف عليه فإني أظن أن لينين لا يقل عنه إدراكا لهذه الآلام وعطفا على المتألمين، وهذا هو الذي يوحي إلي بالشجاعة والطمأنينة.»
وكان لزريف يشغل وقتئذ منصبا هاما في جامعة موسكو، كما كان يختار في لجان الحزب الهامة ذات السلطات الواسعة، ولكن خيل إلي ونحن نتحدث في تلك الليلة أن الآية قد انعكست، فخبت آماله الخداعة وحماسته، وأصبحت أنا الذي أدافع عن الحزب وألتمس المعاذير لأعماله.
وسألني فجأة في أثناء الحديث: «هل سافرت إلى القرى من زمن قريب؟» - «لم أسافر إليها ولكنني أعرف الكثير مما يحدث فيها.» - «إن معرفة ما يحدث فيها شيء ورؤيته بالعين شيء آخر، لقد عدت منذ قليل إلى مدينة أودسا في أوكرانيا حيث كنت أشرف على تنفيذ نظام المزارع الجماعية في أحد الأقاليم، وأخشى يا صديقي ألا يكون في وسعي أن أتحدث عن تلك البلاد بمثل الهدوء الذي تتحدث به عن كرم الوزير ...»
وكان مما أخبرني به لزريف أنه كان عضوا في لجنة من أعضاء موثوق بهم أرسلت إلى ذلك الإقليم بعد أن فصل كثير من الزعماء المحليين؛ لأنهم عجزوا عن تنفيذ المهام التي كلفوا بها هناك، وكان سبب فشلهم أن مقاومة الزراع فيها اشتدت، وأن الغل ملأ صدورهم، وأن وسائل «القمع الشديدة» التي لا بد من اتخاذها لمعالجة الموقف كانت مما لا يستطيعه الموظفون المحليون، وبدا الموقف شديد الخطورة إلى حد اضطر مولوتوف إلى الذهاب إلى هناك بنفسه نيابة عن الهيئة السياسية العليا ليشد من أزر الحكومة ويزيد في قسوتها.
وواصل لزريف حديثه قائلا: «وجمع الرفيق مولوتوف أعضاء الحزب العاملين في الإقليم وتحدث إليهم حديثا صريحا صارما، وقال: إن المشروع يجب أن ينفذ مهما ضحي في سبيل تنفيذه من الأرواح؛ ذلك أن الثورة تظل معرضة للخطر ما دام في البلاد ملايين من أصحاب الملكيات الصغيرة، فإذا ما جاءت الحرب، فإن هؤلاء الملاك قد ينضمون إلى أعداء البلاد ليحتفظوا بأملاكهم؛ ولهذا يجب ألا يكون هناك مجال للين ولا للأسف. ولم نخطئ نحن في فهم أقواله، ولم يكن ثمة حد لضروب القسوة التي ارتكبت في البلاد بعد هذا الإنذار الذي وجهه مولوتوف للقائمين على تنفيذ المشروع.»
وغطى لزريف وجهه بكلتا يديه كأنه يريد أن يطرد بهما تلك الذكريات المؤلمة.
وزرت عددا من معارفي قبل أن أغادر العاصمة، وكان منهم من يردد أصداء دعاوى الحزب وأقوال محرري الصحف، وهؤلاء هم الراضون الذين يعيشون في جنان من الدعاوة، وفي عالم منعزل لا يتجاوز أطراف موسكو، ويكاد يكون مقطوع الصلة بسائر البلاد بوجه عام، ومنهم آخرون من أمثال لزريف تبدو عليهم مظاهر مصطنعة من تفاؤل عاصمة البلاد، ولكنهم في حقيقة أمرهم تكاد تتفطر قلوبهم من هول ما دهى أهل البلاد، وهؤلاء هم الذين أفسدوا ما تركته زيارتي للوزير من أثر طيب في نفسي، ووجهوا أفكاري وجهة أخرى.
ولم يستخفني الطرب وأنا أقص على مسامع أهلي ما رأيت وما لاقيت في موسكو، أو أنقل ما شاهدته لجليوبنكو، ولم أذكر شيئا عن الروبلات الألف ولا السيارات ولا تذاكر المسارح؛ لأني أحسست إحساسا غامضا بأني إن ذكرتها كشفت للقوم عن جريمة اقترفتها، وإن لم يكن في وسعي أن أحدد نوع هذه الجريمة.
وكان لا بد من مضاعفة الجهد في الحفظ والدرس لتعويض ما فاتني منه بسبب انقطاعي عن معهدي في زيارتي لنيقوبول وموسكو ولغير ذلك من الأسباب، وكان من حسن حظي أني لم أجد صعوبة في تلك الدراسة الفنية، فلم ألبث أن حصلت ما حصله زملائي في فرقتي.
وجاءت كاتيا الصغيرة إلى منزلنا بعد أشهر قلائل من عودتي من موسكو، فقد عدت من المعهد ذات مساء وهممت بالدخول إلى الحمام لأغتسل استعدادا للعشاء، ولكن أمي أوقفتني وهمست في أذني قائلة: إن البنت الصغيرة تستحم فيه.
فسألتها: «أية بنت؟» - «صه، سأخبرك فيما بعد، إن أحداثا مروعة تقع في القرى.»
وذهبت إلى حجرتي ولحقت بي أمي بعد قليل، وقصت علي القصة في بضع كلمات، فقالت: إن نتاشا ابنة عمي، وهي من أعضاء الحزب ومديرة لإحدى الكليات التابعة لمصنع من المصانع، كانت تركب القطار عائدة من رحلة قامت بها لقضاء بعض الأعمال المصلحية، فأقبلت عليها في عربة القطار فتاة صغيرة في أسمال بالية، تبلغ من العمر عشر سنين أو إحدى عشرة سنة، وطلبت إليها في صوت متهدج لا يكاد يسمع أن تعطيها كسرة من الخبز تتبلغ بها، ولم يكن هذا الصوت غريبا عليها، ولكن شيئا في عيني الطفلة الحزينتين وملامحها المتغضنة ترك في قلب نتاشا أعمق الأثر، فجاءت بالفتاة البائسة إلى المنزل.
وقالت نتاشا لأمي وهي تعتذر عن مجيئها بها: «ولعل الذي أثر في نفسي هو البرد الشديد، فإني لم أطق رؤية هذه القطعة من الإنسانية حافية القدمين عارية الجسد إلا من قليل من الأسمال البالية تخرج في البرد القارس في مثل تلك الليلة.»
وقررت أمي من فورها أن تبقي الطفلة في منزلنا، وقالت وهي تبتسم: «إن فردا آخر يضاف إلى أفراد الأسرة الكثيرين لا يكلفنا شيئا.» وأخذتها بين ذراعي وعانقتها.
وخاطبت أمي قائلا: «إنك أم بحق، ويسرني أنك قررت هذا القرار.»
وذهبنا إلى حجرة الطعام فرأيت كاتيا الصغيرة جالسة على الأرض بجوار أنابيب التدفئة، وكانت صفراء اللون مرتاعة، منكمشة الجسم كأنها تريد أن يصغر جسمها حتى لا تراها العين، وكادت بعض تلافيف ثياب أمي أن تحجبها عن ناظري، وكان شعرها الأسود المبتل مجدولا ومفروقا في وسط رأسها، ووجهها الصغير بيضاويا، ذهب لونه من فرط التعب وتغضن قبل الأوان، ولكن معارفها كانت وسيمة وفي وسعك أن تقول: إنها كانت جميلة، وجلست الفتاة في مكانها ساكنة لا تبدي حراكا، ولا يميزها من الموتى إلا حركات عينيها اللتين كانتا تتقلبان في جميع أركان الحجرة.
وقالت لها أمي: «لم تجلسين على الأرض يا كاتيا؟ قومي واجلسي على الكرسي، هذا هو ابني فكتور أندريفتش، تعالي سلمي عليه.»
وصدعت الطفلة بما أمرت.
وجلست على الأرض أمامها وناديتها: «مرحبا بك يا كاتيا، لم لا تتكلمين؟ لا تخافي شيئا، فنحن جميعا نحبك، هل مسك أحد بأذى؟»
فأجابت بصوت خافت: «لا.»
وكانت كاتيا ونحن جلوس حول مائدة العشاء حيية صامتة، وكانت قبضتها على ملعقتها سمجة غير لطيفة، ولكن الجوع لم يلبث أن تغلب على ما كانت فيه من ارتباك، فأخذت تلتهم الطعام التهاما، وحاولنا أن نتحدث في موضوعات شتى لا تمت بصلة إلى حالها، ولكن بؤس هذه الطفلة أثر فينا وأحزننا، ولم يكد أبي ينبس ببنت شفة.
ولما ذهبت والدتي بعد العشاء لتغسل الصحاف أقبلت عليها كاتيا وقالت لها: «خالتي، هل تأذنين لي أن أساعدك؟» ولما حملت الصحاف من المائدة إلى المطبخ بدت لأول مرة بنتا صغيرة عادية، وكأنها وهي في ثوبها الكبير ذي الذيل الطويل في حفلة من حفلات التخفي، ودخلت في تلك الساعة جارتنا ألجا إيفانوفا، وهي موظفة نشيطة في لجنة الحزب الإقليمية، ولما علمت بأمر الفتاة لم يكفها استحسان ما فعلناه لها، بل عرضت علينا أن تشترك معنا في نفقات كسائها، وسمعنا فجأة صوت الفتاة تبكي في المطبخ.
وقالت أمي: «دعوها تنفس عن كربها بالبكاء.»
ولكن صوت بكائها أخذ يرتفع حتى أصبح نحيبا هستيريا، وشرعت تردد في نحيبها باللغة الأوكرانية عويل النادبات وتقول: أين ماما؟ أين بابا؟ آه! أين فاليا أخي الأكبر؟ وذهبنا إلى المطبخ، ورأينا الفتاة منكمشة فوق كرسي تضرب كلتا يديها الصغيرتين الباديتي العظام بالأخرى، والدموع تنهمر من عينيها وتجري على خديها الغائرين .
وتوسلت لها أمي أن تسكت قائلة: «أرجو أن تهدئي يا كاتيا، إن أحدا لن يمسك بسوء، وستقيمين معنا وسنأتيك بأحذية وملابس ونعلمك القراءة والكتابة، وثقي أني سأكون لك أما رءوما.»
ولكن الفتاة لم تهدأ وشرعت تقص علينا قصتها.
وألحت عليها أمي أن تمسك عن سرد هذه القصة قائلة: «لا تقصيها علينا يا بنيتي العزيزة، لا تقصيها علينا، وستحدثيننا عنها في غير هذا الوقت.»
فقالت كاتيا وهي تنتحب: كلا، لا أستطيع، بل لا بد لي أن أقص عليكم قصتي الآن، إذ ليس في وسعي أن أقف صامتة، بعد أن قضيت عاما كاملا من غير أهل، نعم عاما كاملا، لقد كنا نعيش في بكرفنايا، ولم يشأ أبي أن ينضم إلى المزارع الجماعية، وأخذ ناس كثيرون يناقشونه، ثم ساروا به إلى مكان بعيد، وشرعوا يضربونه، ولكنه أصر على عدم الانضمام إليها، فصاحوا قائلين: إنه من عمال «كبار الملاك».
وسألتها: «وهل كان والدك من الملاك الزراعيين؟ وهل تعرفين معنى لفظ «عمال كبار الملاك»؟» - «لا يا عمي لست أعرف معنى هذه الألفاظ؛ لأن معلمي لم يعلمني إياها، لقد كان لنا جواد وبقرة وعجلة وخمس نعاج وبضعة خنازير ومخزن، ولم يكن لنا شيء غير هذا، وكان الشرطي يأتي في كل يوم ويأخذ أبي إلى سوفيت المدينة فيطلبون إليه أن يورد لهم الحبوب، ولا يصدقونه إذا قال: إنه ليس لديه منها شيء، ولكني أقسم لكم إنه كان صادقا في قوله.» ورسمت على صدرها علامة الصليب في جد ورزانة؛ «وظلوا أسبوعا كاملا لا يسمحون لأبي بالنوم، ويضربونه بالعصي والمسدسات، حتى ازرق جلده وتورم جسمه كله.»
وواصلت كاتيا حديثها قائلة: «إنهم بعد أن انتزعوا من أبيها آخر حبة من القمح، ذبح خنزيرا، وترك لأسرته قليلا من اللحم، وباع ما بقي منه في المدينة ليشتري بثمنه خبزا، ثم ذبح العجل، وعادوا «هم» بعدئذ يخرجونه من المنزل كل ليلة ويقولون: إن ذبح الماشية من غير إذن جريمة.
ثم جاء إلى بيتنا من نحو عام جماعة أغراب في صباح أحد الأيام، وكان أحدهم من رجال القسم السياسي ومعهم رئيس سوفيت بلدنا، وأخذ رجل آخر منهم يدون في سجل معه كل شيء في منزلنا، بما في ذلك الأثاث والملابس والأواني وغيرها، ثم جاءت عدة عربات ونقلت كل ما كان في المنزل، وسيق ما كان في بيتنا من الماشية إلى المزرعة الجماعية.
وصاحت أمي العزيزة وبكت وتوسلت، وخرت على ركبتيها، بل إن أبي نفسه وفاليا أخي الأكبر وأختي شورا أخذوا كلهم يبكون، ولكن هذا كله لم يجدهم نفعا، وأمرنا أن نرتدي ملابسنا وأن نأخذ معنا بعض الخبز ولحم الخنزير المملح والبصل والبطاطس؛ لأنا على سفر طويل.»
وكانت هذه الذكرى أكثر مما تطيقه كاتيا فعادت تنتحب بحرقة، ولكنها مع ذلك أصرت على أن تواصل سرد قصتها: «ووضعونا كلنا في الكنيسة القديمة، وكان فيها معنا كثيرون من الآباء والأطفال من أهل قريتنا، يحملون جميعا أشياء محزومة ويبكون، وقضينا الليلة كلها في ذلك المكان نصلي ونبكي ثم نبكي ونصلي في الظلام، فلما طلع النهار سيقت نحو ثلاثين أسرة إلى الطريق يحيط بها رجال الدرك، وكان الذين يشاهدوننا في الطريق العام يرسمون على أجسامهم علامات الصليب ثم يبكون.
ووجدنا في المحطة جماعات أخرى من الناس مثلنا جيء بهم من قرى غير قريتنا، يحسبهم الناظر إليهم آلافا، وحشرنا كلنا في هرء خال مقام من الحجر، ولكنهم لم يسمحوا لكلبي فلتشك بالدخول معي وإن كان قد تبعنا طول الطريق، وسمعته يعوي وأنا في داخل البناء المظلم.
ثم أخرجونا بعد قليل وساقونا إلى عربات من التي تنقل فيها الماشية، مصفوفة صفوفا طويلة، وبحثت عن كلبي في كل مكان فلم أجده، وسألت عنه الحارس فلم يجبني إلا بركلة من قدمه، ولما امتلأت عربتنا عن آخرها حتى لم يبق فيها مكان لإنسان يقف على قدميه، أغلقت علينا من الخارج، وصرخنا كلنا وأخذنا نصلي إلى العذراء، ثم تحرك القطار، ولم يكن أحد ممن فيه يعرف مستقرنا، فقال بعضهم: إننا ذاهبون إلى سيبيريا، وقال آخرون: إننا ذاهبون إلى أقصى الشمال، وأعلن البعض أننا مسوقون إلى الصحارى الحارة.
وأذن لي أنا وأختي شورا أن نخرج من العربة لنأتي ببعض الماء، وأعطتنا أمنا شيئا من المال وزجاجة، وطلبت إلينا أن نحاول شراء قليل من اللبن لأخ لنا طفل صغير اشتد عليه المرض، وتوسلنا إلى الحارس أن يأذن لنا بالخروج؛ فأذن لنا بعد إلحاح طويل، وقال: إن ذلك يخالف القواعد المرعية. وكان على مقربة منا أكواخ لبعض الفلاحين فجرينا نحوها بأسرع ما تستطيع أقدامنا أن تحملنا.
ولما علم من في هذه الأكواخ منا حقيقة أمرنا أخذوا يبكون، وأعطونا من فورهم بعض الطعام، وملئوا الزجاجة لبنا، ورفضوا أن يأخذوا منا له ثمنا، ثم أسرعنا عائدين إلى المحطة، ولكننا جئناها متأخرين، ووجدنا القطار قد غادرها قبل أن نصل إليها.»
وقطعت كاتيا قصتها مرة أخرى لتندب أمها وأباها وإخوتها وأختها، وأخذ كل من كان منا في المطبخ يبكي على بكاء هذه الطفلة، وكلما حاولت أمي تهدئتها زاد صوت بكائها علوا، ونظر أبي إليها في حزن وصمت ولم يقل شيئا، وكان في وسعي أن أرى عضلات وجهه تتحرك بحركات تشنجية.
وانضمت كاتيا وأختها بعد فراق أهلهما إلى جيش الأطفال المشردين الذين لا يحصى عديدهم، وأخذتا تتنقلان من قرية إلى قرية، وتعلمتا التسول والطواف بالقرى طلبا للطعام، والتعلق بأسوار عربات القطر الحديدية، وأتقنتا رطانة المتشردين أبناء السبيل، ثم افترقت الأختان في سوق إحدى القرى على أثر مطاردة أحد رجال الدرك لهما، وبقيت كاتيا وحدها في هذا العالم حتى جاءت بها نتاشا إلى منزلنا.
وأحببنا كاتيا وأصبحت تشعر كأنها واحدة منا، ولكننا كنا نسمع في بعض الليالي نحيبها المكبوت، وهذه الشكوى القديمة الشبيهة بالنديب: «أين أنت يا أماه؟ أين أنت يا أبتاه؟»
الفصل الثامن
الرعب في القرية
كثيرا ما يغمض الناس أعينهم وعقولهم؛ ليخفوا عن أنفسهم ما يحيط بهم من الحقائق المرة المؤلمة؛ لينجوا بذلك من الآلام العقلية التي تضرم القلب وتقبض الرجاء، وهم يتلمسون لعملهم هذا معاذير يختلقونها لساعتهم، ويتخلصون من المعلومات التي تجابههم، قائلين: إنها مبالغات وهوس، ثم يحدث حادث فجائي يضطرهم إلى أن يفتحوا عقولهم وعيونهم، فيتطلعوا إلى ما حولهم دون أن تطرف عيونهم.
وهذا ما حدث لي في الأسابيع التي أعقبت مجيء كاتيا الصغيرة إلى بيتنا، لقد كنت قبل مجيئها أحرص على ألا يتزعزع إيماني بالمبادئ الشيوعية مهما أحاط بي من الحقائق المزعزعة لإيماني هذا، وتحاشيت الذهاب إلى المزارع الجماعية القريبة مني، ثم حدثت مأساة طفلة واحدة بريئة فصدمتني صدمة عنيفة، وأرغمتني على أن أواجه مآسي الزراع الروس على بكرة أبيهم؛ ولهذا اعتزمت أن أنتهز أول فرصة أستطيع فيها التغلغل في أقاليم المزارع الجماعية.
وأتيحت لي هذه الفرصة أسرع مما كنت أتوقع، فقد تلقيت من مكتب الحزب في معهدنا أمرا بالذهاب إلى اللجنة الإقليمية، وكان الغرض الذي ذهبت من أجله هو تنظيم فرق من أعضاء الحزب للعمل في القرى.
واجتمع في قاعة المؤتمر نحو ثمانين منا، كثرتهم الغالبة من الشبان، ومن بينهم عدد قليل عرفتهم في أثناء النشاط الحزبي في السنين القليلة الأخيرة، وكنا جميعا متوتري الأعصاب، ولم يكن في وسع بعضنا أن يخفوا ما يساورهم من القلق واضطراب النفس، وصدرت إلينا الأوامر بأن نذهب إلى الريف لنساعد في جمع الحبوب، ونعجل عمليات الحصاد الختامية، ولكننا كنا جميعا نشعر كأننا مقدمون على حرب عوان، وكان مسلكنا مسلك من قد تملكهم هذا الإحساس.
وخطبنا الرفيق هياتيفتش أحد أعضاء لجنة الحزب المركزية، وكان كل ما لخطبته من أثر فينا أن زادت أعصابنا توترا، فقد كنا نظن أننا سنستمع إلى حديث فني عن الزراعة وعن الشئون الاقتصادية في الريف، ولكننا سمعنا بدلا من هذا خطبة من نار دعينا فيها إلى الذهاب إلى الريف لنقاتل أهله، فننفذ ما أمرنا به أو نموت في سبيله.
وكان مما قاله لنا: «أيها الرفاق! ستقضون في الريف شهرا أو ستة أسابيع، فقد تأخر إقليم دوبتردنبروفسك عن غيره من الأقاليم ، وكنا قد تلقينا الأوامر من الحزب ومن الرفيق ستالين أن يتم تنظيم المزارع الجماعية قبل أن يحل الربيع، ونحن الآن في أواخر الصيف ولم يتم العمل بعد، وتبين لنا أن ولاة الأمور المحليين في الريف يحتاجون إلى حقن من الحديد البلشفي، ومن أجل هذا بعثنا بكم إليهم.
وعليكم أن تضطلعوا بواجبكم وأنتم أشد ما تكونون شعورا بالتبعة الملقاة عليكم من حزبكم، فلا تشكوا ولا تسمحوا لمبادئ الحرية البالية أن تنفذ إلى عقولكم، وألقوا بالمبادئ الإنسانية التي تعتنقها الطبقات الوسطى من النافذة، وكونوا في عملكم بلاشفة خليقين بزعامة لينين عليكم، واقضوا على عملاء كبار الزراع أينما رأيتموهم، فنحن معهم في حرب، إما أن يقضوا علينا فيها أو نقضي عليهم! ويجب أن تمحى البقية الباقية من النظم الزراعية الرأسمالية مهما بذلنا في سبيل محوها من الجهود!
ويجب بعدئذ أيها الرفاق أن تعملوا على تنفيذ خطة الحكومة في الاستيلاء على الحبوب؛ ذلك أن كبار الملاك وبعض الزراع المتوسطي الثروة بل وبعض الفقراء منهم لا يسلمون حبوبهم، وبذلك يفسدون على الحزب خططه، وولاة الأمور المحليون يترددون أحيانا ويضعفون أمامهم، وواجبكم أن تحصلوا على الحبوب مهما كلفكم حصولكم عليها، انتزعوها منهم مهما يكن المكان الذي يخبئونها فيه، في الأفران أو تحت الأسرة أو في السراديب، أو مدفونة في الأفنية الخلفية للبيوت.
ويجب أن يتلقى القرويون منكم يا فرق الحزب دروسا لا ينسونها في الشدة البلشفية، يجب أن تحصلوا على الحبوب، وما من شك في أنكم ستحصلون عليها، وذلك عمل ستنجلي فيه قوة ابتكاركم وروح الشرطة السرية السوفيتية، ولا تترددوا في اتخاذ الإجراءات الرادعة مهما كانت قاسية، إن الحزب من ورائكم يناصركم، والرفيق ستالين ينتظر ذلك منكم، إنكم في كفاح ليست له نتيجة إلا الحياة أو الموت، وخير لكم أن تفرطوا في أداء واجبكم من أن تفرطوا في شيء منه.
وثالث واجباتكم الهامة أن تتموا دراس الحبوب، وأن تصلحوا العدد من محاريث وجرارات ومحاصد وما إليها من الآلات.
لقد بلغت حرب الطبقات في القرى أشدها، وليس هذا وقت الحذلقة أو التظاهر بالحنو ورقة الإحساس، فتلك كلها أمور عتيقة بالية، إن صنائع كبار الملاك يتسللون خفية إلى المزارع الجماعية؛ ليعطلوا العمل ويقتلوا الماشية، والذي نطلبه إليكم هو اليقظة والصلابة والشجاعة الجديرة بالبلاشفة، ولست أشك في أنكم ستنفذون تعاليم الحزب وتوجيهات زعيمنا المحبوب.»
وأغرقت هذه الألفاظ الأخيرة، وما تحمله في ثناياها من وعيد، في عاصفة من التصفيق ودلائل الطاعة والخضوع. «هل منكم من يريد سؤالا؟ هل كل شيء واضح؟»
ولم يسأل أحد سؤالا. «إذن فانتظروا هنا، وستدعون فرادى بعد لحظة وجيزة لتقابلوا الرفيق برودسكي.»
وسألت نفسي: هل يمكن أن تكون هذه كل «التوجهات» التي نتلقاها؟ وهل ينتظر من طائفة من الطلاب وموظفي المصانع أن يحلوا ما في الأقاليم الزراعية من مشاكل اقتصادية وسياسية كثيرة مستعصية بوسائل لا تزيد على استخدام «الشدة البلشفية» المطردة الزيادة؟ وكيف يعهد لطائفة من الأحداث مثلنا لا تعرف كثرتهم شيئا من المشاكل الزراعية أن يفصلوا في مصاير مئات الآلاف من الزراع؟
وكان عن يميني شاب لعله أحس بما يجول في خاطري فقال لي بصوت خافت: «أظن يا رفيق كرافتشنكو أننا سنتلقى أوامر أخرى، أقصد أوامر توجهنا وجهة عملية.»
فأجبته بقولي: «لا أعرف.» وتبينت أنه طالب في المعهد، ولكني لم أعرف عنه غير هذا، ولم أكن أرغب في أن تكون بداية استخدام «حزم البلاشفة» هي الإقدام على نقاش «خطر» مع شخص لا أعرفه.
وواصل الشاب حديثه قائلا: «اعلم أيها الرفيق أني لم أعش قط في قرية، ولا أعرف شيئا عن الحياة في الريف، وليس لي أقل علم بالوسائل التي يمكن أن أؤدي بها هذه الواجبات الشاقة التي ألم أمين السر بأطرافها، ولكنها مع ذلك واضحة، أليس معناها أننا سنفقد مركزنا في الحزب، أو أننا ستطيح رءوسنا إذا أخفقنا في مهمتنا؟»
وضايقني هذا منه أشد المضايقة، وقلت لنفسي: إن هذا الشخص إما أن يكون أبله إلى درجة لا يصدقها العقل، وإما أنه يحاول أن يثيرني لأنطق بما لا يصح النطق به.
فأجبته دون أن أحاول إخفاء غضبي: «أنا آسف، ولكنك كان في وسعك أن تلقي ما تشاء من الأسئلة.» - «هذا صحيح، غير أن الحاضرين كلهم كانوا يصفقون، ولم أجد في نفسي من الجرأة ما ينطقني بأن شيئا مما قاله لم يكن واضحا لي، ولكني أعرفك من المعهد يا رفيق كرافتشنكو وأثق بك، ولو أنني عينت معك في فرقة واحدة لكان في ذلك كل الخير لي.»
وحدقت في عينيه وشعرت فجأة بالخجل يسري في نفسي لسوء ظني به، وبدا لي أن ألمه ألم حقيقي غير متكلف، وكانت نظراته نظرات الغلام الصغير الساذج وإن لم يكن يصغرني إلا ببضع سنين.
فأجبته: «لا مانع لدي من أن تكون معي إذا استطعت أن تنظم أمرك على هذا النحو، وإن كنت أظن أن توزيع الأفراد على الفرق قد بت فيه.»
فقال وهو يبتسم وفي صوته ما يدل على تجدد أمله: «سأحاول، إن اسمي تفتكوف، سرجي ألكسيفتش تفتكوف.»
وتركني، وبعد بضع دقائق دعيت إلى مكتب الرفيق برودسكي، فأبصرت رجلا قوي الجسم، على رأسه كومة من الشعر الأسود، يجلس خلف مكتب كبير.
وخاطبني من فوره قائلا: «أتعرف يا رفيق كرافتشنكو شيئا عن القرى؟» - «لقد عشت في مزرعة تعاونية عدة سنين في أثناء الحرب الأهلية، ثم درست بضعة مناهج في إحدى المدارس الزراعية في عام 1920-1921م.» - «حسن جدا! قل أن تجد من أعضاء هذه الفرق من يعرف الفرق بين القمح والشعير.»
ودق جرسا فأدخل رجلان آخران إلى مكتبه: أحدهما الطالب تفتكوف وقد دخل وهو يبتسم في حياء دليلا على نجاحه في مسعاه، أما ثانيهما فرجل في الأربعين من عمره لا أعرفه.
وقال الرفيق برودسكي: «فليحي كل منكم زميله، ستعملون أنتم الثلاثة معا، وعليكم أن تذهبوا إلى قرية بدجردنوى، وستتولى أنت يا رفيق كرافتشنكو إتمام عملية الدراس، وسيناط بك أيضا إصلاح جميع العدد والآلات، وستتولى أنت يا رفيق تفتكوف بمعاونة الرفيق أرشينوف إتمام أعمال التنظيم الجماعي للمزارع وجمع الحبوب، وستعملان كلاكما برياسة الرفيق أرشينوف هذا، فسيرأس هو الفرقة المؤلفة من ثلاثتكم؛ ذلك أن هذا الرجل ليس من عمال الحزب فحسب، بل إن له فوق ذلك تجارب سابقة في مكتب المدعي العمومي.» - «هذا كل ما أقوله لكم، فاخرجوا إلى الردهة وخذوا أوراق انتدابكم ونقودكم.»
وكان أرشينوف رجلا بدينا قصير القامة حليق الرأس والوجه مبرقشهما كالرخام القديم، لا يفصل جبهته عن رأسه فاصل، وكان وجهه مستويا لا مركز له كأنك تراه في مرآة غير منتظمة السطح، أما عيناه فلم تكونا تزيدان على فتحتين ضيقتين في وجهه المستوي، وجملة القول: إن شكله كله لا يروق الناظر إليه.
ولما كنا في الحجرة الخارجية أمرنا أرشينوف أن نأتي معنا بملابس مدفئة، وكل ما نستطيع شراءه من الطعام، وأضاف إلى ذلك قوله: «ومسدس بطبيعة الحال.» واتفقنا على أن نلتقي في استراحة المحطة في اليوم الثاني، ثم تفرقنا فسار أرشينوف في طريق، وسرت أنا وتفتكوف في طريق آخر.
ولم يكن تفتكوف من الذين يستطيعون كتمان ما في ضميرهم فقال لي: «أصدقك القول يا فكتور أندريفتش، إنني لست متحمسا كل التحمس للعمل مع رئيسنا هذا، وأرجو أن أكون مخطئا في ظني، ولكني أحس بأنا لن نستريح إلى العمل معه.» - «دع هذا الهراء يا رفيق تفتكوف، لم تبدأ عملك وأنت كاره لرفيق تجهل كل شيء عنه؟ وقد يتبين لك فيما بعد أنه رجل رقيق الحاشية، وما من شك في أن الحزب يثق به، وأقل ما يجب علينا نحوه أن نثق به نحن أيضا، وأهم ما في الأمر ألا نبدأ العمل ونحن نتوقع الإخفاق.»
وأدركت وأنا أتحدث أني كنت أطمئن نفسي أكثر مما أطمئن صديقي.
ثم واصل حديثه في إصرار قوي: «وما حاجتنا إلى المسدسات؟ لست على استعداد لأن أستولي على الحبوب بالقوة، لقد قال لينين: إن المزرعة الجماعية تعاون اختياري بين الزراع، وكرر ستالين هذا القول نفسه أكثر من مرة، وقد قرأت أنا من أيام قليلة ...» - «اسمع يا تفتكوف، لا يؤلمنك مني إذا تحدثت إليك بصراحة، إن حديثك هذا عجيب حقا، ولي كل الحق في أن أظنك إنسانا سليم النية إلى حد بعيد، أو أنك قد عينت معي لتكون عينا علي.»
فصاح بصوت مرتاع ندمت حين سماعه على صراحتي: «رباه! ما أفظعها من فكرة! لست أشك في أنك ستدرك أنك مخطئ في سوء ظنك بي حتى فيما تقوله عن سذاجتي، فأنا مدرك خطر المهمة التي نحن مقبلون عليها، وذلك هو سبب دهشتي من أننا لم نتلق تعليمات عملية صريحة، فأنا روسي وابن روسي، ولم أكن في يوم من الأيام من الدساسين المأجورين، وليس في وسعي أن أكون هذا الدساس المأجور ولو كانت حياتي معرضة للخطر، وما أفظع أن يتهم الناس بعضهم بعضا بالتجسس والدس المأجور.»
وكأنما أوحي إليه بفكرة جديدة فأضاف إلى أقواله السابقة قوله: «تعال معي في زيارة لأسرتي، فإن بيتي لا يبعد عن هذا المكان أكثر من بضعة مبان.»
وكانت هذه الفكرة التي أوحي إليه بها فكرة موفقة معقولة، فقد كان التقائي بأبويه، والجو المحيط ببيته المتواضع، سببا في إزالة آخر ما بقي لدي من ارتياب في سلامة طوبته وإن كان ذلك قد قوى ظني في ضعفه وقلة تجاربه، ورأيت والده رجلا كبير السن يلبس منظارين على عينيه، ذا لحية صغيرة لها طرف دقيق، أما والدته فكانت سيدة ضئيلة الجسم، ضعيفة البنية، شمطاء الشعر، رحيمة القلب.
وكان كلاهما أشبه بشخصيتين في كتاب من عهد ما قبل الثورة، والغريب في أمرهما أنهما لم يفسدهما ما حدث من عنف في هذه السنين الكثيرة الأحداث، وكأنهما يعيشان في عالم خاص بها لا تستطيع شرور العالم الخارجي أن تصل إليه بسهولة، وخيل إلي أنه يكاد يكون من غير المعقول أن تفتكوف الكبير من أعضاء الحزب قبل حوادث عام 1917م، وكان مما يسر له الإنسان أن يبقى في الحزب إلى الآن رجل «طيب القلب» بالمعنى الذي كان يفهم من هذا اللفظ في العهد القديم، والذي كاد الناس ينسونه الآن.
وقالت مسز تفتكوف تشكو من فعل ولدها: «ولكن لم لم تقل لي يا سريزها إنك مسافر إلى القرى؟ إني أسمع عن فظائع محزنة ...»
ورد عليها زوجها محتجا: «لا ، لا، يا عزيزتي، إن كل ما تسمعينه عما يرتكب من الفظائع في المزارع الجماعية مبالغ فيه كثيرا، ولا يمكن أن تكون الأحوال كما يصورها لك هؤلاء المبالغون، وأنا نفسي من أعضاء الحزب القدامى، وأنا متفق مع الرؤساء في أن نظام المزارع الجماعية هو أملنا الوحيد في حل المشكلة الزراعية، ونجاح هذا النظام يقف معظمه على اختيار الذين ينفذون الأوامر، وأرجو ألا تقدم أنت يا سرجي ولا أنت يا رفيق كرافتشنكو على ارتكاب أي نوع من الفظائع، وما من شك لدي في أن الحزب لا يرغب في شيء من هذا.»
ولما عدت إلى المنزل أبلغت أسرتي نبأ بعثتي إلى الريف، وكان كل من في المنزل لا يزال متأثرا بقصة كاتيا، فبدت عليهم جميعا مظاهر الوجوم والاضطراب مما عسى أن ألاقيه في هذه المهمة، وبعد أن آويت إلى الفراش في تلك الليلة سمعت دقا على باب حجرتي ثم دخلت علي أمي.
وقالت بعد أن جلست على السرير: «معذرة يا فيتيا على هذا التطفل، ولكني قد لا أجد فرصة أتحدث إليك فيها ونحن نودعك غدا.
إني أعرف أن ما يلاقيه القرويون من متاعب يؤرقك ويحزنك كما يؤرق كثيرين غيرك ويحزنهم، ولكني أرجوك أن تهدئ من روعك وتصبر على كل ما عساه أن يصادفك، وتذكر أن ما يحدث في إقليم من الأقاليم لا يعد دليلا على ما يحدث فيها جميعا، وأبغض الأشياء إلي أن تكون تجربة واحدة محزنة سببا في القضاء على كل ما هيأته لمستقبلك في حياتك الشيوعية كلها، وما من شك لدي في أنك ستجعل حياة القرويين المساكين ميسرة قدر ما تستطيع.» - «شكرا لك يا أماه! وأرجو ألا تشغلي بالك بأمري، وثقي أنني لن يصيبني مكروه، وأنا أعلم أن الثورات ليست رحلة للتنزه والاستمتاع.»
ولم يكن الحديث الذي دار بين أعضاء الفرقة الثلاثة في القطار المسافر إلى بدجردنوى حديثا وديا؛ ذلك أن أرشينوف كان يحمل معه مسدسا من طراز موزر معلقا بشريط من الجلد على كتفه، وكان اختياله وإعجابه به سببا في مضايقتنا وإثارة مشاعرنا، على أن أرشينوف نفسه لم يحاول أن يخفي احتقاره لتفتكوف الصغير السن الأشقر اللون، الوسيم الوجه، وتحاشينا كلنا أن نذكر شيئا عن عملنا المشترك.
وقال لي تفتكوف: «إن أهلي الكبار يرسلون إليك يا فكتور أندريفتش تحياتهم.» - «شكرا لك يا سريزها، وهل لك أن تخبرني بهذه المناسبة عن المكان الذي يعمل فيه والدك؟» - «إنه يعمل في مكتب تابع للسكك الحديدية، فهو مهندس كما تعلم، وهو في عمله هذا منذ زمن طويل، وهو عضو في الحزب من قبل عام 1917م.»
وبدا الفزع على أرشينوف حين سمع منه هذا القول، وما من شك في أنه كان يظن أن تفتكوف ابن رجل من رجال الفكر المتحذلقين المجردين من النفوذ، أما وهو ابن بلشفي قديم فقد يصبح هذا الشاب أصعب مراسا مما كان يظنه أولا.
وصاح أرشينوف بامتعاض ظاهر: «تقول: إن أباك عضو في الحزب؟» - «نعم، وأي شيء من الغرابة في هذا؟ ولم تسأل هذا السؤال؟» - «لا شيء، إنه مجرد سؤال لا أكثر.»
ووصلنا إلى المكان الذي نقصده قبيل الغروب، وكان المطر يتساقط رذاذا والطريق الموصل إلى القرية موحلا، ولم ينظر إلينا من لاقيناهم من القرويين بشيء كثير من الاهتمام، ولم يلفت نظرهم إلا مسدس أرشينوف وهو يلطم فخذه السمينة في أثناء مشيه.
وناديته بصوت واطئ: «استمع إلي يا رفيق أرشينوف، أتسمح بأن تخفي مسدسك تحت سترتك؟ فأنا لا أرى موجبا لإرهاب الناس على هذا النحو؟» - «إن هذا من شأني أنا لا من شأنك!» - «لا يا رفيق، إنه ليس من شأنك وحدك، فنحن نعمل هنا مجتمعين، وهو لذلك من شأننا جميعا، وهو فوق هذا من شأن الحزب، وأنا أصر على أن تفعل ما أطلبه إليك وإلا فلن أذهب معك إلى القرية.»
وقال تفتكوف: «إن الرفيق كرافتشنكو محق فيما يقول، فلم تخيف الخيل من غير موجب؟ إن معي أنا أيضا مسدسا، ولكني أخفيه تحت سترتي.»
وعمل أرشينوف برأينا وهو على مضض، ولكنه لم يتحدث إلينا بكلمة واحدة في أثناء سيرنا إلى مقر سوفيت القرية، وهو بيت خشبي كبير قبيح المنظر متهدم، وكان في داخله مصباح كيروسين يشع فيه نورا ضئيلا من تحت مدخنة من الورق، وكانت الحجرة ملأى بالدخان وأطراف لفافات التبغ منتشرة فيها، وجلس على أرضها نحو عشرين من الفلاحين صامتين وعلى وجوههم غبرة.
وسألهم أرشينوف بصوت عال يريد أن يظهر به سلطانه: «أين رئيس السوفيت؟»
وأشار الفلاحون بأيديهم وقالوا: «هو هنا في مكتبه.» - «وماذا تفعلون أنتم هنا؟ أليس لديكم عمل خير من الجلوس على أعجازكم؟»
فأجابه أحد الفلاحين: «إن لدينا أعمالا كثيرة، ولكنا دعينا إلى هذا المكان، وهم يطلبون إلي خبزا، ولكني أنا نفسي أسأل الخبز.»
وسخر منه أرشينوف وقال: «أرى أن سيكون لدي عمل كثير في هذا الجحر النتن.»
وسرنا من ورائه إلى مكتب السوفيت فأبصرنا فيه شابا متعبا رفيع الوجه ذا نظرات فاترة يجلس خلف منضدة ويتحدث إلى شيخ قروي.
وصاح أرشينوف قائلا: «نحن فرقة الحزب، وقد جئنا إلى هنا في عمل.»
وقام الرئيس واقفا وسلم علينا بيده وقال: «مرحبا بكم، كيف حالكم؟» ولكن وجهه كان ينم عن غير ما نطق به لسانه، فلم يكن الرجل مغتبطا بقدومنا، ثم واصل حديثه قائلا: «سأفض الاجتماع ونبدأ العمل من فورنا.»
وسأله أرشينوف قائلا: «وماذا يصنع هؤلاء الناس جميعا هنا؟» - «لقد دعوتهم إلى الحضور، إن أمر هؤلاء الناس ليس بالأمر الهين، وهم يصرون على أن ليس لديهم حبوب، وكان المحصول رديئا في هذه الجهات، والناس كلهم يتوجسون خيفة مما سيصادفهم في الشتاء المقبل، وليس من السهل علينا أن ننتزع الحبوب منهم أيها الرفاق، وهم يرفضون الانضمام إلى المزارع الجماعية، ومهما فعلنا بهم فإنهم لا ينضمون إليها.»
وقال أرشينوف وهو مقطب الوجه: «سننظر في هذا الأمر، وما دمت قد دعوتهم للحضور فخير لك أن تفرغ من عملك معهم، وسنبدأ عملنا نحن في صباح الغد.»
واستدعى الرئيس أحد مساعديه وأسر إليه بعض الأوامر، وسار هذا الرجل بنا نحن الثلاثة إلى داخل القرية، وكان يخيم على شارعها الرئيسي سكون مقبض لا يقطعه إلا نباح كلب ينطلق فيه من حين إلى حين، وكنا نبصر في أماكن متفرقة منه نورا ضئيلا مضطربا في إحدى النوافذ ودخانا يخرج من مدخنة، ولما وصلنا إلى بيت كبير يفضل ما حوله من البيوت وقف دليلنا.
ثم قال: «ستقيم في هذا البيت يا رفيق أرشينوف، وأرجو أن يوافقك.»
ثم واصل سيره في الشارع نفسه إلى بيت فخم ذي مبان منفصلة عنه، وحديقة صغيرة وبئر ذات دلو.
وقال: «سيعجبكم هذا المكان، لقد انضم آل استيوبنكو من وقت قريب إلى المزرعة الجماعية، وبيتهم هذا نظيف خال من صغار الأطفال، وكلهم كبار ولهم ابنة جميلة.» قال هذه العبارة الأخيرة وهو يشير بطرف عينه في اتجاه تفتكوف.
وقابلنا عند الباب رجل طويل القامة يبلغ حوالي الستين من العمر، حليق الوجه إلا من شاربين طويلين يتدليان على طرف فيه على الطريقة الأوكرانية القديمة، وحيانا الرجل في تحفظ وكرامة غير متكلفة سررت لها، ثم سار أمامنا إلى حجرة صغيرة ولكنها أنيقة ومريحة.
وقال لنا: «اغتسلوا أولا ثم تعالوا وانضموا إلينا على الرحب والسعة، واقتسموا معنا ما يبعثه الله لنا وهو غير كثير.»
ووجدنا الأسرة كلها جالسة حول المائدة، وكانت ابنتها في الثامنة عشرة من عمرها، وهي جميلة حقا، وكانت الزوجة امرأة حنونا كبيرة السن تعقد منديلا ملونا أسفل ذقنها، لها يدان مجعدتان خشنتان من العمل شأن زوجات الفلاحين، وكان للأسرة أيضا ولد في الثامنة من عمره، وعرفناهم بأنفسنا وانضممنا إليهم، وصب في أوانينا حساء بلا لحم، ثم أعقبته بطاطس مسلوقة وشبت مخلل، وكان الخبز مقطعا قطعا رقيقة أكلها كل منا بحرص وعناية كما لو كانت رقاقا مقدسا.
ولما كنت قد اعتدت حياة القرويين، وعرفت أن الخبز الكثير الغليظ هو طعامهم الرئيسي، فقد أدركت بوضوح أن الأسرة في ضنك شديد، واستأذنت أنا وسريزها وذهبنا إلى حجرتنا ثم عدنا بما كان لدينا من الطعام الملفف، وحدق فينا آل استيوبنكو حين كشفنا عما معنا من أمعاء محشوة، وأنواع متعددة من السمك، ودجاج بارد، وألححنا عليهم أن يشتركوا معنا في طعامنا، وما لبث جو التحفظ الذي كان مخيما علينا أن انقشع.
وكررت ربة الدار قولها: «شكرا لكم، شكرا لكم، لا شك أنك قد أدخلتم السرور على بيتنا المتواضع.»
وأضاف زوجها إلى ذلك قوله: «لست أذكر آخر مرة رأينا فيها الأمعاء المحشوة والحلوى، ونحن أحسن حالا من كثيرين ممن حولنا، ولكننا مع ذلك في ضنك شديد، وليس لدينا من الحبوب ما يكفينا حتى يحصد المحصول، آه! أيها الرفاق لو تعلمون ما مر بنا من الظروف القاسية في أوكرانيا! إن أحدنا إذا حصل على قطعة من الخبز أكلها خفية.»
وكنت في أثناء ذلك أرقب الولد الصغير، فرأيته مكتئبا ساكنا سكونا غير طبيعي، حتى إن الحلوى التي أخذ يلوكها من غير عناية لم تفلح في أن تثير اهتمامه بنا، فسألت الرجل: «وما اسم ابنك الصغير؟»
وأجاب الولد عن سؤالي بقوله: «فاسيا.» ثم غادر الحجرة فجأة.
وقال رب الدار: «ليس هو ابننا، بل هو ... ماذا أقول؟ هل أقول: إنه يتيم يتمته المزارع الجماعية؟» - «وماذا تقصد بهذا القول؟» - «إنه يتيم وكفى، ولكن لا تسأل الولد شيئا، إن الصدمة التي تلقاها لا تزال تذهله، فهو يذهب في كل ليلة إلى بيته ويطوف بفنائه ساعات طوالا، ونحاول نحن أن نمنعه ونقول له: وماذا تفيد من تعذيب نفسك؟ ولكنه لا ينفك يذهب إلى البيت.» - «قل لنا ماذا أصابه؟» - «لست أدري هل أخبركما بذلك أو لا أخبركما به، إنكما جديدان علينا، وأنتما فضلا عن ذلك من رجال الحكم.» - «قل يا أبت ولا تخف، إنا لم نأت هنا لنؤذي أحدا، بل جئنا لأنا نحب الفلاحين ونريد أن نساعدهم.» - «حسن، فلأجرب حظي معكما، إنكما تبدوان من خيار الناس، وفوق هذا فقد تجاوزت السن التي أخشى فيها أحدا، وكل الذي يسوءني وأخشاه أن يلحق ابنتي أذى.»
ثم أخذ يقص علينا قصة الغلام فقال: «كان آل فورفان يسكنون على بعد عشرة بيوت من هذا المكان، وكانت الأسرة تتألف من رجل وزوجته وابن واحد هو فاسيا الذي شاهدتماه هذا، وكانت أسرة سعيدة مجدة طيبة الأخلاق، ولم تكن من كبار الملاك الزراعيين، فلم تكن تملك إلا جوادين وبقرة وخنزيرا وبضع دجاجات، شأنها في هذا شأن سائر الناس، وأخذوا يلحون عليه لينضم إلى المزرعة الجماعية ولكنه رفض كل إلحاح.
وأخذوا منه كل ما بقي لديه من الحبوب وعادوا إلى مجادلته وتهديده، ولكنه لم يتحول قط عن رأيه، وظل يقول لهم: تلك أرضي وماشيتي وبيتي ولن أعطيها للحكومة قط. ثم جاء قوم من المدينة - وهم المكلفون بإخراج الناس من بيوتهم - وأحصوا أملاكه وسلبوه كل متاعه ولم يبقوا له آنية ولا فوطة، وأخذت أدواته الزراعية وسيقت ماشيته إلى المزرعة الجماعية.
واتهم فورفان بأنه من كبار الملاك ومن وكلائهم وجاءوا في المساء ليقبضوا عليه، وأخذ ابنه وزوجته يبكيان وينتحبان، ورفض الرجل أن يذهب معهم، فأخذوا يضربونه حتى سال الدم من جسمه كله، ثم أخرجوه من المنزل وجروه في الوحل من الشارع الذي يسكن فيه إلى سوفيت القرية، وجرت زوجته من خلفهم وهي تصيح وتعول وتطلب العون من الله ومن الناس، وخرجنا جميعا، ولكن أحدا منا لم يستطع أن يقاوم الحراس المسلحين، وإن كنا نحب فورفان ونعرف أنه لم يكن من كبار الملاك.
وظلت المرأة البائسة تبكي وتصيح قائلة: «من ذا الذي يعنى بنا من بعدك يا بيوتر؟ إلى أي مكان يسوقك هؤلاء الوحوش الكفرة؟ ودفعها أحد رجال القسم السياسي بعنف فارتمت في الوحل، وظلوا يجرون فورفان إلى عربات الحيوانات، والله وحده يعلم أين مقره الآن، وعدنا بالمرأة إلى بيتها وحاولنا أن نهدئ من روعها حتى نامت وتركناها جميعا.»
وكانت المرأتان الجالستان أمام المائدة تبكيان وهو يقص هذه القصة، وأخذ مضيفنا نفسا طويلا من لفافته المصنوعة باليد الكريهة الرائحة، ثم واصل حديثه قائلا: «وجاءت في الصباح جارة من جارات أسرة فورفان المسكينة لترى الزوجة، ولكنها لم تجدها، ونادتها باسمها فلم ترد عليها، فدخلت الهرء الخالي، فوقعت عينها على منظر روعها، وصرخت منه صرخة جنونية أقبل على أثرها كثيرون من الفلاحين مهرولين، وكنت أنا من بينهم، فرأينا المرأة معلقة في حبل مشدود إلى إحدى العوارض الخشبية، وقد قضت نحبها، وكان منظرا لن أنساه مدى الحياة ولو بلغت سني مائة عام، وحدث كل هذا من شهر واحد لا أكثر.
وقررت أنا وزوجتي العجوز أن نأخذ فاسيا في كنفنا؛ لأنا ليس لنا أبناء صغار، وقد قضى شهرا كاملا بين صمت وبكاء، وهو يذهب كل يوم إلى البيت المهجور كما قلت لكما، ثم يعود إلينا ويأوي إلى فراشه على ظهر الفرن دون أن ينبس ببنت شفة.
وبعد أن رأيت أنا وزوجتي ما حدث لآل فورفان تباحثنا في الأمر وقررنا أن ننضم إلى المزارع الجماعية، باختيارنا.»
وجلسنا حيث كنا صامتين مدة طويلة، فقد ترك في مصير آل فورفان كما ترك في مصير كاتيا الصغيرة أثرا لا تضارعه آثار الأرقام التي قرأناها عن عدد من نفوا وشردوا وقتلوا.
وقال تفتكوف آخر الأمر: «شكرا لك يا والدي على ثقتك بنا، وثق بأني لن أكون غير جدير بهذه الثقة، وصدقني إذا قلت لك: إن الشيوعيين ليسوا كلهم سواء، وإن منا من يعترضون على هذه الأعمال كاعتراضك أنت عليها، واعلم بأن الحزب نفسه لا يرضى عنها.»
وكان وهو يتحدث كأنه يعتذر عن نفسه وعني وعن الحزب.
وقلت أنا مؤيدا رفيقي: «نعم، إنا نشكر لك كرم ضيافتك وثقتك بنا، وسنقيم معكم شهرا ولا نريد أن نثقل عليكم في شيء، وهاك كل ما لدينا من نقود، ونصر على أن نؤدي ثمن كل شيء، فاشتر كل ما تحتاج إليه، ولا تخرج عن مألوف عادتك من أجلنا.» - «لقد أمرت ألا آخذ نقودا مطلقا.» - «ليس عليك إلا أن تغفل هذه الأوامر، واللجنة المركزية لم تعطنا النقود إلا لهذا الغرض، وكلي أمل في أن تساعدنا فيما جئنا من أجله، فنحن لا نريد إلا الخير، وأنت خبير بشئون قريتك؛ أما نحن فلا علم لنا بها.»
وطار الرقاد من عيني زمنا طويلا في تلك الليلة، ولكني ظللت ساكنا حتى لا أوقظ تفتكوف، وسرني كل السرور أنه تكشف عن إنسان رقيق القلب ذي أدب جم، ولم يكن شيوعيا رسميا متطرفا في شيوعيته.
وسمعته يقول: «أأنت نائم يا فكتور؟» - «كلا يا سريزها، لا أستطيع النوم، إن الأفكار لا تفتأ تساورني.» - «أتعرف أني لا أستطيع أن أرفع عيني في وجه أولئك الفلاحين الطيبين؟ وأني أشعر بأني أنا نفسي ملوم على ما فعله أولئك الأوغاد؟ وشر ما في الأمر أنهم فعلوا ما فعلوه باسم حزبنا المحبوب!»
وكنت قد قررت أن أتحفظ بعض الشيء في حديثي إلى تفتكوف، فقد عرفت أنه ليس بالرجل القوي الكتوم، وخشيت أن يضعف ويلين تحت الضغط الشديد، فيفشي على الرغم منه ما قلته له؛ لذلك رأيت أن من الخير لي وله ألا يعرف من أفكاري إلا القليل.
وقلت له مستحثا إياه أن ينام: «خير لك أن تنام، فإن علينا أن نستيقظ مبكرين.»
ولما وصلنا إلى السوفيت في الصباح وجدنا فيه أرشينوف غاضبا ثائرا، وكان سبب غضبه أنه وضع في بيت لم يجد فيه كفايته من الطعام، ولم يلق من أصحابه كثيرا من المجاملة، وإن لم يسيئوا إليه، وقضينا صدر النهار في مراجعة السجلات، وأطلعنا الرئيس على المعلومات التي جعلتنا نلم بشئون القرية إلى اليوم الذي قدمنا فيه، وقسمنا القرية أقساما، واخترنا لكل قسم من الفلاحين الجماعيين من يناط بهم تنفيذ الخطط المقررة.
ثم ذهب رئيس السوفيت وأرشينوف وسريزها إلى القرية ليطلعوا على أحوالها، وذهبت أنا ورئيس المزرعة الجماعية إلى هذه المزرعة.
وأبصرنا في فناء كبير في ضيعة قديمة تهدم معظم بيوتها بيادر من حبوب حصدت من زمن قريب، وسرني أن رأيت الحبوب قد حملتها العربات إلى الحقول، فهي هنا يستطاع دراسها في عشرة أيام أو اثني عشر يوما إذا وجدت من يعمل فيها بجد، ولم أجد ما يسرني غير هذا، فقد كان كل ما شاهدته في حال من الإهمال والاضطراب يرثى لها.
شاهدت كميات كبيرة من العدد والآلات مبعثرة في العراء، قذرة معطلة يعلوها الصدأ بعد أن كان أصحابها من قبل يعنون بها كما يعنى الإنسان بالجواهر الثمينة، وشاهدت أبقارا وخيلا عجافا تغطيها فضلاتها وتتجول في الفناء، ورأيت أسرابا من الدجاج والإوز والبط تحفر في البيادر غير المدروسة، وذهبنا إلى الإصطبلات فرأينا الخيل تغوص إلى ركبها في الأقذار «تقرأ الصحف» كما يقول الفلاحون حين تقف الماشية على مذاودها الخالية من الطعام ، ولم تكن الأبقار التي في الجرن أحسن حالا من الخيول.
وهالني ما رأيت، فقد كانت هذه حال لا تتفق وطبيعة مواطني من الفلاحين الأوكرانيين.
وقلت لرئيس المزرعة الجماعية وأنا غاضب أشد الغضب: «اجمع أعضاء المزرعة الجماعية على الفور.»
ولم تمض إلا ساعة حتى كان الجميع من الرجال والنساء المنوطين بأمر المزرعة الجماعية حاضرين في الفناء، ولم تكن نظراتهم إلينا مشجعة، وكأني بهم يقولون: «ها هو ذا شخص آخر يتدخل فيما لا يعنيه. وماذا نستطيع أن نفعل أكثر من الإنصات إلى ما يقول؟»
وأردت أن أظهر لهم المودة فبدأت حديثي بقولي: «كيف تسيرون في عملكم أيها المزارعون الجماعيون؟»
فرد علي واحد منهم بصوت جاف شكس: «كما ترانا، كما ترانا. لا نزال على قيد الحياة كما ترانا.»
وقال ثان: «ليس بيننا غني وفقير بل كلنا معدمون متسولون.»
وتظاهرت بأني لم أفهم هذا التهكم. «لقد أوفدتني إليكم لجنة الحزب الإقليمية لأعاونكم على دراس محاصيلكم، وإصلاح آلاتكم، وتنظيم أموركم بوجه عام، خبروني أيها الزراع الجماعيون، من الذي اختار رئيس هذه المزرعة؟»
فأجاب أعضاء اللجنة الإدارية: «نحن كلنا.» - «ولم إذن تسببون له المتاعب؟ ألا تعلمون أن تبعة هذا الاضطراب كله ستلقى عليه؟ انظروا إلى ما حولكم، ألا تستحون وأنتم الفلاحون مما ترون؟ ماشية قذرة وبيادر لا تجد من يحرسها، وآلات قيمة في كل مكان تصدأ وتتلف، إن من أسهل الأمور أن يسجن رئيسكم بسبب هذا كله وأن يسجن معه أعضاء اللجنة الإدارية أيضا.
ولكني لم آت إليكم لأفعل بكم هذا، إن السجون لا تأتيكم بالخبز، ومن ذا الذي تضرونه بهذا الإهمال المروع: أنا أو أنتم؟ لقد قضيت جزءا من حياتي في الريف، وكان بعض أهلي من الفلاحين، ولكني لم أر في حياتي كلها شيئا مخجلا كهذه الإصطبلات وهذه الجرون، وهذا الفناء، إني أدرك ما يشعر به بعضكم، ولكن لم يحل العقاب بالخيل والأبقار؟ إني لأتوارى منكم خجلا، وأنا أعرف أنكم لا تزالون فلاحين وألجأ فيكم إلى كرامة الفلاحين.»
وصاح واحد منهم قائلا: «حسن، إن هذا الرفيق يتكلم كلاما له معنى.» - «إذن فلنبدأ عملنا، أعلن افتتاح الاجتماع أيها الرئيس، واختر عددا من الأشخاص يعرف كل واحد منهم ما يجب عليه أن يقوم به، وسندون نحن الأسماء والتواريخ وما يجب على كل واحد أن يعمله.»
وقضينا عدة ساعات نتكلم ونضع الخطط، وأبى كثير من الفلاحين أن يتحملوا أية تبعة، ولكن كل عضو من أعضاء اللجنة الإدارية وافق في نهاية الأمر على أن يقوم بعمل معين: كتنظيم الدراس، وتنظيف حظائر الحيوانات، وتسجيل الأدوات وما إلى ذلك، وانتهى الاجتماع بروح ودية.
وحدثني مضيفي وقت العشاء فقال إنه قابل بعض أعضاء اللجنة الإدارية عقب الاجتماع، وإنهم يقولون: «إنك بدأت بداية طيبة، وإنهم مسرورون منك، وبخاصة لأنك لا تسب ولا تملأ الدنيا صخبا ووعيدا.» - «قل لي يا أبي، هل أصبت حين طلبت إليهم أن ينظموا من فورهم ما في المزرعة الجماعية من أدوات؟» - «لقد أصبت كل الإصابة، إن الفلاحين أنفسهم يدركون أن الأمور لا تسير كما يجب أن تسير، وكل ما في الأمر أن صدورهم تنطوي على أشد الغيظ؛ لأنهم خسروا أرضهم وماشيتهم وآلاتهم، ولكن الأمور يجب مع هذا أن تنظم والحياة يجب أن تجري في مجراها.»
وانفردت بسريزها بعد العشاء فوجدته مكتئبا حزينا. - «كيف حالك يا رفيقي؟» - «لست كما أحب يا فكتور أندريفتش، إني أسير في عملي حسب خطط أرشينوف، ولكني لا أحصل على نتائج كثيرة طيبة، فقد استدعيت المقصرين في توريد الحبوب واحدا بعد واحد، ولكن قصتهم جميعا كانت قصة واحدة، فقد كان الواحد منهم يخلع قبعته ويجلس في أدب واحترام.
ثم أبدأ أقول له: «إنك لم تؤد ما عليك من الحبوب بعد.» - «ربما أكون قد أديته وربما أني لم أؤده.»
فأقول له: «لا يزال عليك للدولة عشر بودات.»
فيهز كتفه ويقول: «وأنى لي بهذا القدر كله ؟! ليس لدي منه شيء.» - «وكم تستطيع أن تورده منه اليوم؟» - «قد أستطيع أن أورد بودتين أو ثلاث بودات.»
1
وهكذا نظل في جدال مستمر فأقول أنا: إن الحكومة في حاجة إلى الحبوب، ويقول الفلاح: «نعم، إن الحكومة في حاجة إليها، ولكن ماذا يفعل أطفالي وزوجتي؟ أظنهم في غير حاجة إليها! وأنت نفسك تعرف أن المحصول قد خاب، ومن ذا الذي يطعمنا طول العام بعد أن اغتصبتم كل حبوبنا؟»
وجمعت اليوم اثنتين وخمسين بودة، ولكن هذا لا يساوي معشار ما كان ينتظره أرشينوف مني، وليس في وسعي أن أفعل خيرا مما فعلت، فهؤلاء الناس متعبون مكتئبون في أشد حالات الوجل، ولعل عند بعضهم من الحبوب أكثر مما يعترفون به، ولكنهم لا يريدون أن يوردوه للحكومة ولا يجرءون على توريده، والشتاء الطويل مقبل عليهم وعيالهم يطلبون القوت.»
وحاولت أن أهدئه بقولي: «لا تقلق بالك إلى هذا الحد يا سريزها، بل افعل خير ما تستطيع أن تفعله؛ لأن القلق لا يجدي نفعا.»
وذهبت مع مضيفي إلى المزرعة الجماعية في صباح اليوم الثاني، وسرني أن أرى العمل قائما على قدم وساق، فالعدد تنظف وتزيت، والسماد يخرج من الحظائر والإصطبلات، والاستعدادات تتخذ لدراس الحبوب، واستمر العمل على هذه الحال عدة أيام كاد المكان بعدها يعود إلى حاله الطبيعية، وخير من هذا كله أن روح الفلاحين الجماعيين المعنوية قد تحسنت كثيرا عن ذي قبل، وأخذت النساء والبنات يغنين الأغاني الأوكرانية كما كن يفعلن في أيامهن الماضية؛ ذلك أن أولئك القوم السذج يحبون العمل بطبيعة نشأتهم، وقد كان الجو صحوا وهم يدركون خيرا مما أدرك أنا نفسي ما لكل يوم غير مطير من قيمة.
ومر علينا أكثر من أسبوع، وأبطأت عملية إصلاح العدد لنقص المسامير والأسلاك والحديد والخشب وغيرها من المواد الضرورية، ولكن مهارة الفلاحين عوضت هذا النقص، غير أننا لم يكن في وسعنا أن ننظم حسابات المزرعة لعدم وجود الورق؛ ولهذا عولنا على أن نرسل سريزها إلى دنيبروبتروفسك ليقضي فيها يوما يشتري في خلاله ما نحتاجه.
ولما عدت إلى المنزل في تلك الليلة شاهدت سريزها وفي يده خيط يقيس به فاسيا الصغير، ويعقد فيه عقدا، وتظاهرت بأني لم ألاحظ ما يفعل.
وذهبت في اليوم الثاني قبل أن يعود سريزها لزيارة أرشينوف، وكان يعلم أن العمل الذي نيط بي يسير سيرا حسنا، ويحسدني على هذا التوفيق، ولم يجد وسيلة ينفس بها عن كربه إلا أن يطعن على تفتكوف فأخذ يتهمه بأنه شخص ضعيف أصفر الكبد، وبما هو أسوأ من هذا كله، وهو أنه حر إنساني فاسد.
وقال: «لقد فتشت بالأمس عدة بيوت كان زميلي الضعيف قد اصطنع مع أصحابها اللين، فوجدت في كل بيت غلالا مخبوءة، فصادرت كل حبة وجدتها دون أن أدخل مع أصحابها في جدال عقيم، إن هؤلاء المزارعين القذرين الأوغاد يكذبون على السلطات السوفيتية، وسألقي عليهم درسا لا ينسونه أبدا! فقد ذهبت اليوم إلى لجنة المركز، وهم مقبلون بعد قليل وسترون ما يحدث يوم الثلاثاء.» - «أي شيء سيحدث في ذلك اليوم؟» - «ذلك شأني أنا.»
واستمر الدراس طوال يوم الأحد، ولم تكن بي حاجة إلى إقناع الفلاحين بأن يعملوا في ذلك اليوم، فقد كانوا جميعا حتى أكثرهم تدينا يدركون أن الوقت من ذهب، وعاد سريزها قبيل الغروب ومعه حقيبته وعدة أكياس وهدايا للأسرة كلها: كتاب للبنت، وخيط للأم، ودخان لاستيوبنكو الشيخ، ولكن الذي أدهشنا أكثر من ذلك كله في هذه الفرصة السعيدة أنه أخرج من حقيبته الكبيرة سروالا طويلا وسترة وملابس داخلية لفاسيا.
وسرعان ما ألبس الغلام ملابسه الجميلة، وأعجب به جميع الحاضرين، وأقبل اثنان من الجيران ليشهدا ذلك المنظر العجيب منظر فاسيا في ثيابه الجديدة الجميلة، وتبسم الولد نفسه لأول مرة مذ تقابلنا وقال: «شكرا لك يا عمي سريزها.» واغرورقت عيناه بالدموع حين قدم إليه سريزها العظيم كراسة وأقلاما من الرصاص وصندوقا من الحلوى الجامدة الملونة.
ولم تأو الأسرة إلى فراشها إلا بعد منتصف الليل، ولما انفردت بتفتكوف في حجرتنا سألته كيف تسير الأمور بينه وبين أرشينوف؟
فأجاب من فوره: «إنه كلب لعين، يا فكتور أندريفتش، لقد ترددت طويلا قبل أن أطلعك على حقيقة أمره، ولكني لا أستطيع السكوت بعد الآن، إن ذلك الوحش يخرج الفلاحين من بيوتهم في ظلام الليل، ويسبهم ويهددهم بمسدسه، وقد قيل لي : إنه يضربهم ضربا وحشيا.» - «ولم لم تخبرني بذلك قبل الآن؟ ارتد ملابسك في الحال وهيا بنا نذهب إليه.»
وكان في وسعي أن أرى أضواء في بناء السوفيت من خلال مصاريعه الخشبية، فلما دخلناه وجدنا الفلاحين متربعين على الأرض، وكان على الباب الخارجي حارس مسلح، وجلس في الداخل كونستبل من القرية وبيده مسدس وفي فمه لفافة يدخنها، ولما دخلت الدار سمعت صياح أحد الفلاحين وأرشينوف يسب وينهر خلف باب حجرته المغلق.
وسألت الكونستبل بصوت يجلجل من شدة الغضب: «ماذا يعمل هؤلاء كلهم هنا في هذه الساعة؟»
فوقف الرجل على قدميه مذعورا وقال: «إن الرفيق أرشينوف ينتزع منهم الحبوب كعادته، ويتحدث قليلا إلى الذين لا يريدون منهم أن ينضموا إلى المزرعة الجماعية.»
وعلا صوت أرشينوف فجأة واحتد حدة جنونية، وسقط جسم ثقيل على الأرض، وسمعنا الفلاح يئن ويقول: «لم تضربني؟ إنك لا يحق لك أن تضربني ...» ثم صاح أرشينوف: «يا كونستبل ألق بهذا الوغد في البرادة، وسألقي عليك درسا لا تنساه أيها المالك الحقير.»
واندفع الكونستبل نحو الغرفة المجاورة، فأمسكت بذراعه وقلت له: «قف هنا، وسأذهب أنا نفسي.»
ودفعت الباب فانفتح، وفزع أرشينوف، وعض شفتيه، وتحرك حركة عصبية في كرسيه، وأراد أن يرفع مسدسه عن المنضدة، وكان الفلاح الملقى على الأرض رجلا هرما، في ثياب مهلهلة ووجهه ملطخ بالدماء، وأشرت إليه أن يخرج.
ثم سرت نحو أرشينوف وهممت أن أستخدم قبضتي معه.
وصحت به قائلا: «دع الفلاحين يخرجون من هذا المكان! دعهم يخرجون من فورهم. أتسمع ما أقول؟» - «أنا صاحب الأمر في هذا المكان يا رفيق كرافتشنكو، وأرجوك ألا تتدخل في عملي.» - «لا، إن هذا من عمل الحزب، وأنا بوصفي شيوعيا لا أسمح لك أن تدنس سلطة السوفيت بهذه القسوة الوحشية.» والتفت نحو الغرفة الخارجية وصحت: «يا رفيق تفتكوف، أرجوك أن تكتب اسم الشيخ الذي كان يضرب توا واسم الكونستبل أيضا.»
وتظاهر أرشينوف بالجرأة، ولكن غضبي أقلقه وبلبل أفكاره، فقال لي: «ويلك ماذا تريد أن تفعل؟ ما هذا الاستفزاز؟ أتريد أن تحقر مبعوثا للجنة الإقليمية في أعين الجماهير؟» - «دعك من هذا النفاق! إن أمثالك هم الذين يحقرون الحزب والبلاد بأجمعها، يا كونستبل، ليذهب كل هؤلاء الناس إلى بيوتهم، وأنتم أيها الرفاق الفلاحون، إذا ضرب واحد منكم بعد الآن، فليرفع أمره إلي، وأنا أعلنكم أن الضرب مخالف للقانون.»
ودخل تفتكوف المكتب وهو ممتقع الوجه كأنه شبح، ويداه ترتجفان، وأمرته أن يذهب إلى المنزل وينتظرني فيه، ثم التفت إلى أرشينوف وقلت له: «اسمع يا أرشينوف، أتدري ماذا تفعل؟ أهذا تنظيم المزارع الجماعية أم هو السلب والنهب بالاستعانة بالمسدسات؟ إن من حقك بلا شك أن تطلب الحبوب، وأن تفتش البيوت إذا اضطررت إلى تفتيشها، ولكن ليس من حقك أن تلجأ إلى العنف، وأن تفعل فعل محاكم التفتيش في ظلام الليل، وإذا لم تشأ أن تعرض نفسك للمتاعب مع اللجنة الإقليمية فعليك أن تمتنع من فورك عن هذه الفعال، وإلا فسأكشف أمرك مهما كلفني هذا. أتفهم ما أقول؟»
وأدرت ظهري إليه، وغادرت المكان، ولم أجد سريزها في المنزل حين وصلته، فقلقت عليه، ولكنه جاء بعد نصف ساعة.
وقال لي: «لقد ذهبت إلى كوخ الفلاح الذي كان يضرب، فوجدت فيه زوجة مريضة وخمسة أطفال، ولم أجد فيه كسرة من الخبز، بل رأيت البيت ينضح فقرا ويأسا، وهذا وأمثاله هم الذين نسميهم كبار الملاك! والأطفال لا تغطي أجسامهم إلا أسمال بالية، وهم كالأشباح، ورأيت قدر الطعام على الموقد، وليس فيها إلا قليل من البطاطس في الماء، وكان هذا عشاءهم في تلك الليلة.»
ثم أطلعني على ورقة قذرة وقال: «انظر إلى هذا يا فكتور، لقد عاهدني الرجل على أن ينضم إلى المزرعة الجماعية؛ ذلك أني رجوته أن يقلع عن عناده، وأن يشفق على أسرته، فرضي آخر الأمر.» - «اذهب إلى فراشك يا سريزها ولا تشغل بالك بهذا الأمر ، وسنفكر فيما يصح أن نفعله.» وعجلت بجواب ما ظننته أن سيسأل عنه، فقلت: «سأحدثك غدا عما دار بيني وبين أرشينوف، وعليك أن تواصل العمل معه كأن لم يحدث بيني وبينه شيء، واسمح لي بعدئذ أن أشكر لك عطفك على فاسيا وشرائك حلة له.»
ثم قبلت وجنتيه. - «شكرا لك يا فكتور، أما قصة هذه الحلة فهي أني لما عدت إلى المنزل قصصت القصة كلها على أسرتي، فخرج أبي وجاء من حيث لا أدري بالحذاءين من بعض أصدقائه، وذهبت أمي تنقب في علية البيت، وجاءت بحلة قديمة لي كنت ألبسها وأنا تلميذ في المدرسة، وظلت تعمل طول النهار لتجعلها ملائمة لمقاس فاسيا.»
فقلت له: «نعم، إن في الحزب خلقا كأبيك وخلقا كأرشينوف.»
كان العمل في المزرعة الجماعية يجري على أحسن حال، وفي وسعي أن أقول: إنه أحسن مما كنت أتوقع، فالهمة مبذولة في دراس الحبوب، والماشية والخيل يعتنى بها، والأدوات الزراعية حسنة الترتيب.
وقررت اللجنة الإدارية للمزرعة - بناء على اقتراحي - أن تدعو الفلاحين إلى عشاء احتفالا بإتمام الدراس، واتفق على أن يقام الاحتفال يوم الأربعاء، ورضي جميع من في المزرعة أن يعملوا حتى مطلع الفجر؛ لكي يقام الاحتفال في الوقت المحدد. وذبحت الخنازير ومدت في فناء المزرعة موائد طويلة مرتجلة، وبعثت رائحة الطعام المطهي والحفلة ومستلزماتها في جميع سكان الضيعة شعورا بأنهم في عيد.
وذهبت بعد ظهر الأربعاء إلى الحقول حيث كانت النساء يقشرن الذرة ويعبئنها في العربات، وانضممت إليهن في العمل - وفي الغناء - بضع ساعات وأنا مغتبط بما أبذل من مجهود جثماني، غير أني لم أكن على ثقة بأن في وسعي أن أكبح جماح أرشينوف، وإن كنت قد وقفت منه موقفا جريئا. وكانت هذه المشكلة لا تنفك تحز في نفسي، غير أني كان في وسعي وأنا في الحقول أن أنساها، فقد كانت النساء يتكلفن السرور حين يبصرنني أتطوع لمشاركتهن في تقشير الذرة، وإن لم يكن هذا من عملي، ولكنهن كن في واقع الأمر يشعرن بشيء من العزة حين يرين «الحكومة» تنزل إلى مستواهن المتواضع.
وأذنت الشمس بالمغيب حين عدت راكبا إلى القريبة ومعي بعض الرفاق، وما كدنا نصل إليها حتى أدركنا لساعتنا أن حدثا ما يحدث فيها، فقد تجمعت في أنحائها جماعات مضطربة متهيجة، وكان النساء يبكين، فأسرعت إلى مبنى السوفيت.
وسألت الكونستبل: «أي شيء يحدث؟»
فأجابني بقوله: «حشد كبير من المزارعين، ويخيل إلي أن هذا العمل القذر لن يكون له آخر، لقد أقبل علينا في هذا الصباح رجال القسم السياسي وأعضاء لجنة المركز.»
ورأيت جمعا كبيرا في خارج البناء، ورجال الشرطة يحاولون أن يفرقوا الخلائق المحتشدة ولكنهم كانوا يعودون إلى أماكنهم، وكان بعضهم يلعنون، وبعض النساء والأطفال يبكون وينتحبون، فهؤلاء ينادون آباءهم، وأولئك يذكرن أسماء أزواجهن، وكان المنظر كله يرمض القلب ويحز في النفس.
ووقف أرشينوف في خارج دار السوفيت يتحدث إلى أحد موظفي القسم السياسي، وكلا الرجلين يضحك، ولعلهما كانا يتبادلان بعض الفكاهات، وقف في الفناء الخلفي نحو عشرين من الفلاحين كبارا وصغارا، وعلى ظهورهم بعض الأحمال في حراسة جنود من القسم السياسي يسددون نحوهم المسدسات ووقف سائر الفلاحين مكتئبين مستسلمين يائسين.
كانت هذه إذن هي عملية «تصفية طبقة كبار الملاك»، كما يقول الرجال الرسميون، أما الحقيقة فهي أن طائفة من الفلاحين السذج تنتزع منها أرضها، وتبتز منها جميع ممتلكاتها، وتنقل على الرغم منها إلى معسكرات خشبية لتعمل في قطع الأخشاب أو في أعمال الري، وكانت معظم الأسر في هذه المرة تترك في بلادها لسبب ما، وامتلأ الجو بالصياح والضجيج، ولما خرجت من مقر السوفيت رأيت اثنين من رجال الدرك يقودان فلاحا متوسط السن، ولم يكن ثمة شك في أنه كان يضرب، فقد كان في وجهه كدمات زرق وبيض، وكان ألمه باديا في مشيته، وملابسه ممزقة دلالة على أنه كان يقاوم من يعتدون عليه.
وبينا أنا واقف هناك محزونا خجلا يملأ اليأس قلبي، إذ سمعت امرأة تصيح بصوت لم أسمع مثله على ظهر الأرض، والتفت الناس كلهم إلى ناحية الصوت، وأسرع إليها رجلان من رجال القسم السياسي، وكان شعر المرأة مهدلا على جسمها، وبيديها حزمة من السنابل مشتعلة ألقتها على سطح البيت المصنوع من الغاب والقش قبل أن يدركها أحد، فاشتعلت فيه النار على الفور.
وأخذت المرأة تصيح وهي في حالة شديدة من الذهول: «أيها الكفرة! أيها القتلة! لقد قضينا العمر نعمل في إنشاء بيتنا ولن تأخذوه منا بل ستلتهمه النيران.» وانقلب صياحها فجأة إلى ضحك جنوني.
واندفع الفلاحون إلى البيت المشتعل وشرعوا يخرجون منه ما فيه من أثاث، وكان المنظر من أوله إلى آخره منظرا رهيبا أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، منظر النار والعويل، والمرأة التي ذهب عقلها، والفلاحين يجرون في الوحل ويحشرون جميعا لكي يبعدوا عن ديارهم، وكان أكثر ما فيه إيلاما لنفسي منظر أرشينوف، وضابط من رجال القسم السياسي، وهما يطلان على هذا المنظر هادئين، كأنه منظر عادي مألوف، كأن الكوخ المحترق ألعاب نارية أشعلت ليلهوا بها ويستمتعا بمنظرها.
أما أنا فقد وقفت في وسط هذا المنظر مرتجفا حائرا لا أكاد أتملك حواسي، وسولت لي نفسي أن أطلق الرصاص، أطلقه على إنسان أيا كان، ليزول بإطلاقه توتر أعصابي الذي لم يعد يطاق، ولم يستطر لبي في وقت من الأوقات مثل ما استطار في تلك الساعة، ومددت يدي تحت سترتي أبحث عن مسدسي، فقبضت يد قوية في تلك اللحظة على ذراعي، وكانت هي يد مضيفي استيوبنكو، ولعله قد استشف أفكاري.
وقال: «يجب ألا تعذب نفسك يا فكتور أندريفتش، إنك إن أقدمت على عمل جنوني ستضر نفسك ولا تنفعنا، صدقني فأنا رجل كبير السن مجرب للأمور، وتملك عواطفك، واعلم أن الخير كل الخير في أن تتجنب المتاعب؛ لأنك لا سلطان لك على هذه الأحداث، هيا بنا نعود إلى المنزل، إنك ممتقع الوجه كالموتى، أما أنا فقد ألفت هذا المنظر، فلم يعد غريبا علي، فقد كانت حملات العام الماضي الكبيرة شرا من هذه الحملة.»
ولما عدت إلى المنزل أخذت أذرع حجرتي الصغيرة وأنا في أشد حالات الاضطراب واليأس، وكنت قد فكرت من قبل في أن أحتج للجنة الحزب في المركز على أعمال أرشينوف، ولكن ها هم أولاء ممثلو اللجنة ورجال القسم السياسي يشهدون هذه المأساة، ويشتركون في تلك الأعمال الوحشية، وأي أمل لي في أن أصيب خيرا من اللجنة الإقليمية .
وكان الظن قد بدأ يساورني في أن هذه الجرائم الشنيعة لم ترتكب عفو الساعة، بل دبرها ووافق عليها كبار ولاة الأمور، أما في هذه الليلة فقد استحال هذا الظن يقينا، لم يترك في نفسي بارقة أمل في الإصلاح، وكان في مقدوري أن أتحمل من قبل ذلك العار، ما دمت أعتقد أن أرشينوف ومن على شاكلته من الأفراد هم الملومون على هذه الأعمال.
وغلبني النعاس من فرط التعب دون أن أخلع ملابسي، ولما فتحت عيني بعد بضع ساعات راعني ألا أجد سريزها في فراشه، فانطلقت إلى الفناء ثم إلى الحديقة.
فسمعت صوت سريزها يقول: «من القادم؟» ولاح لي بريق مسدس، ثم أبصرته جالسا على دكة تحت شجرة من كراز.
وما هي إلا قفزة واحدة حتى كنت إلى جانبه، واختطفت المسدس من يده، فغطى وجهه بيديه وأخذ ينتحب ويرتجف.
وقلت له: «إنك إنسان أبله خائر العزيمة، ولست ممن أفخر بصحبتهم، ومن ذا الذي يفيد من انتحارك؟ إن هذا غباء وبلاهة، وليس ما تريد أن تفعله هو الذي ترد به على ما رأيت اليوم، بل يجب أن نظل أحياء ونبذل كل ما نستطيع لنخفف أعباء الشعب الروسي، أما إذا قتلنا أنفسنا فلن يبقى إلا أمثال أرشينوف.»
فهدأ روعه قليلا وأخذ يحدق في عيني. - «يا فكتور أندريفتش، لقد شاهدت بعيني كل شيء وفهمت كل شيء، وثق أن عقلي من الوجهة السياسية أكبر من سني قليلا، ولن يفيدنا التعامي عن الحقائق أقل فائدة، إن الحزب نفسه مسئول عن جرائم العنف والقسوة والتقتيل، وليست الألفاظ الجميلة التي ينطق بها المسئولون إلا ستارا لإخفاء الحقائق البشعة، أهذا هو الذي جاهد من أجله أبي الصالح طول حياته؟ أهذا هو الذي كنت أنا نفسي أعتقده منذ انضممت إلى الحزب؟»
وما زلت به حتى آوى إلى فراشه، ولكننا لم نغمض أجفاننا، بل أخذنا نتحدث عما رأينا، وكان ما رأيناه يتفق كل الاتفاق مع ما كنا نسمعه، فلم يخالجنا بعدئذ شك في صدق «الشائعات المعادية للحزب»، وكان سرورنا عظيما حين دق الشيخ صاحب البيت الباب وقال: «قد آن أن تصحوا أيها الرفيقان.»
وأقيمت حفلة العشاء في ذلك اليوم حسب النظام الموضوع، ولكنها خلت من السرور والبهجة، فقد كانت ذكرى جمع «كبار الملاك» تثقل صدورنا جميعا.
وظلت علاقتي بأرشينوف علاقة رسمية محضة، وأعددت تقريرا مطولا مفصلا عن مسلكه وأرسلته إلى اللجنة الإقليمية، وكان العدد القليل الباقي من المعاندين قد انضموا «باختيارهم» إلى المزرعة الجماعية بعد الاعتقالات الكثيرة التي وقعت في الأيام الماضية، وقدم الفلاحون كل ما لديهم من الحبوب «باختيارهم» أيضا، ويظهر أن أولئك القوم قد فضلوا أن يموتوا في منازلهم جوعا على النفي إلى أقاليم لا يعرفونها، وطلب كثيرون منهم أن يؤذن لهم ببيع ما بقي لديهم من الماشية وأثاث بيوتهم نفسه ليشتروا بأثمانها حبوبا من المدن ليوفوا بها بمطالب الحكومة.
وحولت كنيسة القرية إلى هرء، فلما امتلأت بالحبوب، شعر أرشينوف بنشوة الظفر، وأخذ يفخر «بنجاحه»، ولم يدع فرصة تمر دون أن يوجه قوارص اللوم إلى تفتكوف، فكان يقول له: «انظر كيف أسير الأمور وتعلم، إن عيبك هو أنك لا تعرف الحزم «البلشفي».»
واقترب يوم رحيلنا، وأبلغنا أرشينوف أنه سيبقى خمسة أيام أخرى يراجع فيها أعماله للمرة الأخيرة، ولم يخالجني شك في أنه لم يتأخر عنا إلا ليجمع «أدلة» على تهم يوجهها إلي وإلى تفتكوف، وقضيت اليوم الأخير في المزرعة الجماعية أعد النقط التي سأضمنها تقريري الأخير.
وقلت لأعضاء اللجنة: «والآن وقد تم جمع المحصول أظن أن في وسعكم أن تقدروا ما تطلبون من أجر على جهودكم.»
فقال الرئيس وهو يهز رأسه في حسرة: «نعم، لقد قدرنا ثم قدرنا، فإذا التقدير لا يزيد على 1200م جرام (رطلين ونصف رطل) من الحبوب لكل مزارع منضم إلى المزرعة الجماعية عن كل يوم عمله فيها، وإذ كنا لم نعمل إلا جزءا من العام فإن ما يعطاه الفلاح من أجر على هذا العمل هو الذي سيقتات منه هو وأسرته سنة كاملة، أما كيف يوزع هذا القدر حتى يحين موعد الحصاد الثاني فعلمه عند الله، وقد يكون عند الحزب أيضا.»
وقال آخر في غضب مرير: «أظن أننا كلنا سنهلك جوعا.» وأكبر الظن أن الرجل لم يكن يقصد بقوله هذا معناه الحرفي، وإلا فكيف استطاع أن يحزر أن أهل قرية بدجردنوى سيهلكون كلهم من الجوع في العام المقبل؟ وكيف استطاع أن يحزر أن ولاة الأمور سيأخذون من الفلاحين بعض الحبوب التي حصلوا عليها نظير عملهم في جمع المحصول؟
وافترقنا نحن والقرويون افتراق الأصدقاء، وأظهروا حبهم الخالص لي ولتفتكوف، وأسف مضيفنا وأسرته أشد الأسف على فراقنا، وأحضر استيوبنكو في أثناء العشاء الأخير زجاجة من خمر الكرز، جاء بها من فناء الدار الخلفي، وعليها آثار التراب ظاهرة.
وقال لي: «لقد كنت أدخر هذه الزجاجة ليوم عيد هام، وقلت لنفسي: إن الناس سيشربون منها يوم أزوج ابنتي أو بعد أن أموت ثم يترحمون علي، ولكني رأيت أن سفركم خليق بأن يقدم لكم فيه أحسن ما عندي، فلنشرب إذن نخب صحتكم، وندعو الله أن ينجي بلادنا البائسة المعذبة.»
وأخذنا بعد العشاء نغني أغنيات أوكرانية قديمة، وحل الشراب القوي عقدة لسان زوجة استيوبنكو فأخذت تقص علينا أقاصيص فيها حنين لوطنها عن خيول خرافية، وتقصها بنفس الألفاظ التي سمعتها من جدتها.
ولما عدت إلى دنيبروبترفسك بدا لي أن اللجنة الإقليمية راضية عن عملي، ولكنني لم أستطع أن أثير اهتمام أي إنسان بتقريري عن أرشينوف، فقد كانوا يقولون لي: إنهم يعلمون أن فيه عيوبا، ومن من الناس لا عيب فيه؟ ولكن أحدا لا ينكر عليه أنه يحصل من عمله على نتائج طيبة! وأرسلت رسالة إلى جريدة برفدا في موسكو عن حادث وحشي يسوئ سمعة الحزب في القرى، ولكن الرسالة لم تنشر ولم أتلق عنها ردا.
وكان من نتائج ما قضيته في القرية من وقت طويل أن تأخرت في دراستي، وأردت أن أعوض ما فاتني، فبذلت في هذه الدراسة غاية جهدي، وكلما شغلت نفسي بكتبي الفنية قل ما لدي من الوقت الذي أقضيه في أفكاري المؤلمة وشكوكي، حتى أصبح العمل لدي مخدرا أتجرع منه جرعات كبيرة .
في الحرب لا يستوي المجاهدون في ميدان القتال والقاعدون في بيوتهم، بل إن بين الطائفتين بونا شاسعا لا يمكن إزالته بزيادة المعلومات عنها أو بشدة العطف على من يكتوون بنارها؛ لأن هذا الفرق مستقر في الأعصاب لا في العقول.
ومن أجل ذلك أصبح الشيوعيون الذين تورطوا بأنفسهم في فظائع النظام الجماعي رجالا يعرفون بسيماهم، فقد تحملنا نحن الأعباء الثقال وقاسينا الأهوال، وامتزنا من غيرنا بصمتنا وبتجنبنا كل مناقشة عن «جبهة الفلاحين»، نعم إننا كنا نتحدث عن هذا إذا خلا بعضنا إلى بعض، كما فعلت أنا وسريزها بعد عودتنا من رحلتنا، ولكننا كان يبدو لنا أن حديثنا لمن لم يكابدوا الأمر بأنفسهم لا يجدي نفعا؛ ذلك أننا لم يكن بيننا وبين هؤلاء الأحداث ألفاظ مشتركة مشتقة من تجاربنا الماضية نتفاهم بها فيما بيننا.
ولست أشير بطبيعة الحال إلى أرشينوف ومن على شاكلته، فهؤلاء هم الجلادون ورجال الشرطة في ظل كل نظام سياسي، ولكني أشير إلى الشيوعيين الذين لم يفقدهم استهتارهم بما يحدث من حولهم كل حواسهم، ومهما حاولنا إقناع أنفسنا بأن ما يرتكب في هذه الأيام من فظائع هو الثمن الذي نشتري به سعادة آلاف من الناس في الغد، فإننا لم نجد لهذا القول معنى، وتعذر علينا أن نجد ما يبرر الإرهاب السائد في الأقاليم الزراعية.
ولما اجتمعت لجنة الحزب المركزية في شهر يناير من عام 1933م نشر ستالين في طول البلاد وعرضها أن نظام المزارع الجماعية تم بنجاح، وأن «هذا العهد قد قضى على التسول والفقر في القرى، وأن عشرات الملايين من الفلاحين الفقراء ارتفعوا إلى درجة كبيرة من الطمأنينة ... لقد كان الفلاحون في العهد القديم يعملون لخير النبلاء وكبار الزراع والمضاربين وكانوا يعملون ويجوعون ليثرى غيرهم، أما في عهد الزراعة الجماعية فإن الفلاحين يعملون لأنفسهم ولمزارعهم الجماعية.»
وجاء في وصف الصحف لهذا الاجتماع أن المكان دوت فيه عاصفة من التصفيق، وصاح المندوبون: «ليحيى الأب والمعلم الحكيم الرفيق ستالين!»
وقرأت هذا الوصف فجال بخاطري منظر بدجردنوى وأهلها المعذبين، وأرشينوف يضرب الفلاحين ، والمرأة المخبولة تشعل النار في بيتها، والخلائق ذوي الثياب الممزقة يحشرون في الأفنية الخلفية لينفوا من بلادهم. وكنت أدرك كما يدرك كل من في أوكرانيا أن قحطا لا يقل فظاعة عن القحط الذي قاسيته منذ عشر سنين أو أكثر كان في هذا الوقت الذي يخطب فيه ستالين يجتاح أرض «المزارع الجماعية الكاملة» و«الحياة السعيدة الراضية».
كلا! إن ألفاظ ستالين لم تكن لتهدئ نفوسنا الثائرة، ولم يكن ثمة شيء يعيد إلينا إيماننا، أو على الأقل يحول بيننا وبين القنوط إلا أن نحول أبصارنا عن القرية، ونفكر في غيرها من أجزاء الصورة التي صورها لنا الزعيم، إلى الجهود الصناعية مثلا أو إلى «مراجل الثورة التي تغلي في البلاد الرأسمالية».
وقال لي سريزها: «إنك لتعلم يا رفيق فكتور أندريفتش أني قرأت مرارا كثيرة خطب ستالين في الاجتماعات العامة للجنة المركزية التي تعقد في شهر يناير من كل عام، وإن ما يقوله عن القرى ليقشعر منه بدني: الآن تتمتع القرى «بحريتها» ... وقد محي الفقر من القرى. وهو يقول هذا بعد الذي رأيناه فيها أنا وأنت رأي العين!» - «لكن انظر إلى الجهود الصناعية يا سريزها؛ تر لها قصة أخرى، فكم من مناجم فتحت، ومصانع ومصاهر وسدود ومحطات كهربائية شيدت! إن الإنسان ليسر حين يشعر بأننا نخطو إلى الأمام بخطى سريعة جبارة، وأنا لن نصبح بعد اليوم أمة استعمارية متأخرة، إن المهندسين الأكفاء في أمريكا نفسها يبيعون التفاح وأربطة الأحذية في شوارع المدن، أما هنا فإني أنا وأنت نجد في الدرس؛ لأن بلادنا في حاجة إلى أكثر مما عندها من المهندسين، فهناك التعطل، وهنا نقص في الأيدي العاملة.» - «فليكن هذا ما يكون يا فكتور أندريفتش، ولكني لن أنسى قط فظائع بدجردنوي ...» - «وأنا أيضا لن أنساها يا سريزها.»
وأخذ خطباء الحزب يذيعون خطبة ستالين في خلايا الحزب وفي مجتمعات المراكز، وكانوا يقولون: إن الثمن الذي تؤديه البلاد ثمن غال بلا شك، ولكن انظروا إلى المشروعات الجديدة وإلى السرعة التي تنمو بها، انظروا إلى مجنى تستروي ودنيبروستروي ، ومصنع ستالين للجرارات، وإلى المصاهر المتحدة، وإلى عشرات المصانع الأخرى، وبينا نرى العالم الخارجي الرأسمالي لا ينجو من أزمة إلا ليتورط في أزمة نرى العالم السوفيتي يسير إلى الأمام بخطى ثابتة، وإن حلت به أزمات فهي أزمات نمو لا أزمات انحلال.
وكانت التعزية الكبرى التي تعزي بها الروسيا نفسها عن جهودها المضنية هي أنها سوف تحطم الرأسمالية، وتقضي على ما تستمتع به من «ثبات قصير الأجل». لقد كانت الدولة توزع ما لدينا من أطعمة مطردة النقص بالبطاقات، أما في القرى فقد عم القحط وغصت السجون والمعازل ومعسكرات الاعتقال «بأعداء الشعب»، وكان لا بد من تطهير البلاد من آلاف من رجال الفكر - من مهندسين وموظفين بل وشيوعيين مشهورين - لأنهم يعطلون الإنتاج، ولأنهم «عمال للحكومات الأجنبية»، ولكن الطبقة العاملة في جميع الدول توشك أن تثور! كما قال ستالين، و«نجاح مشروع السنوات الخمس يحشد كل القوى الثائرة لطبقات العمال في جميع بلاد العالم».
ولم يمض على خطبة ستالين إلا ثلاثة عشر يوما بالضبط حتى قبض هتلر على زمام السلطة في ألمانيا! وانفجرت في وجوهنا تلك الفقاعة التي كانت سلوتنا الوحيدة.
لقد ظلت الدعاوة الروسية عدة سنين تعلن على رءوس الملأ أن ألمانيا هي أولى الدول الرأسمالية التي ستحذو حذو روسيا السوفيتية، وكان هذا الحلم هو القوة المعنوية التي تتراءى لأعضاء الحزب ليلا ونهارا، لتشد من عزائمهم وتحيي آمالهم.
وكان يقال لهؤلاء الأعضاء: إن الاشتراكيين الديمقراطيين «صنائع طبقة الملاك» قد أفلسوا، على حين أن الحزب الشيوعي ينال ملايين الأصوات في الانتخاب.
فلا عجب والحالة هذه إذا روعتنا تلك الأنباء وصعقنا عند سماعها، وقضينا جميعا عدة أيام عاجزين عن التفكير، ثم شمرت الدعاوة عن ساعد الجد، فلم تكد الدوائر العليا في موسكو تستقر على تفسير رسمي لهذا الحادث الجلل حتى أخذت تدفعه دفعا في عقول جمهرة أعضاء الحزب، فقام كبار الموظفين يخطبون في المجتمعات الإقليمية، وصغارهم ينشرون الرسالة في مجتمعات الأقاليم، والدعاة المتنقلون يحملونها إلى خلايا الحزب الصغيرة.
وخلاصة ما كان يقال لنا أن ما نالته الفاشية من انتصار في ألمانيا ليس في حقيقة أمره إلا نصرا مقنعا للثورة العالمية، فهو آخر جهد تبذله الرأسمالية، وآخر أنفاسها تلفظها قبل موتها، لقد انقضى عهد البرلمانات المهرجة في الديمقراطيات الزائفة، ولم يعد في وسعها أن تصعر للناس خدها، وليس في مقدور الرأسماليين أن يسيطروا على الجماهير الغاضبة ولو استعانوا عليها بالأتباع الأذلاء من الاشتراكيين الأحرار، ورأوا ألا بد لهم من أن يستعينوا على هذه الجماهير بالإرهاب السافر وأن يتخذوا الفاشية أداة لهم في هذا الإرهاب.
وقال لنا خطيب في المعهد: «إن الفاشية الألمانية هي رأس الحربة تسددها الرأسمالية العالمية إلى الصدور، لقد أسفرت الرأسمالية آخر الأمر عن وجهها، ولم يبق أمام عمال العالم في هذه الأيام إلا أن يختاروا بين الفاشية والشيوعية، وهل ثمة إنسان يشك فيما سيختارون؟ والاتحاد السوفيتي وحده هو الذي يقف في وجه الفاشية، تؤيده في ذلك الكتلة العاملة في جميع بلاد العالم، أيها الرفاق إن موسوليني في إيطاليا، وهتلر في ألمانيا ليسا إلا نذيرين من نذر ثورتنا العالمية، وهم بعد أن أماطوا اللثام عن حقيقة الرأسمالية الفاشية سيدفعون الجماهير دفعا لأن تدرك الأمور على حقيقتها، وما أصدق القول المأثور: اشتدي أزمة تنفرجي.»
وهكذا أصبحت هزيمة الروسيا في ألمانيا نصرا لمشروع السنوات الخمس، وكنا فإذا خلا بعضنا إلى بعض، أو اجتمعنا في حجراتنا، كنا أبعد الناس عن تصديق هذه الأقوال، فقد كانت الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية وأحزاب الأحرار ونقابات العمال الرجعية نفسها، كانت هذه كلها هي والأحزاب الشيوعية تحل وتصفى في ألمانيا، ألم يكن في أقوال الزعماء السوفيت خطأ وتناقض بين؟ وهل كانت الضرورة تقتضينا أن نبدد قوانا كلها في محاربة الاشتراكيين والديمقراطيين، وقد كان في وسعنا إذا ضممناهم إلى جانبنا أن نصد تيار النازية؟ وهل كان حتما مقضيا أن تنضم البلاد الرأسمالية وبخاصة إنجلترا إلى ألمانيا الهتلرية ضد روسيا السوفيتية في الحرب المقبلة؟
الحق أنه لم يكن في مقدورنا أن نجيب عن هذه الأسئلة إلا بالرجوع إلى المعلومات الضئيلة التي كانت تبيحها لنا الحكومة، فقد كانت الصحف والمجلات الأجنبية ممنوعة عنا. نعم إن رجال الحزب كان يباح لهم أن يطلعوا على ما لا يطلع عليه جمهور الشعب، وذلك من نشرات خاصة يصدرها هو، ولكن غذاءنا العقلي كان مع ذلك يختار وينسق، ولم يكن أحد يشك في أن الأخبار السرية نفسها التي تذاع من المصادر العليا كانت في الأعم الأغلب تصنع وتنظم تنظيما دقيقا ثم تجري علينا كما يجري الطعام على الجنود.
غير أن التفسير الرسمي لهذه الضربة الهتلرية لم يرق في أعين معظم الشيوعيين، بل كان الأثر الذي تركته في صفوف المؤمنين، وقد جاءت في أحرج ساعات الحياة السوفيتية، كان هذا الأثر هو ازدياد روح الكآبة التي أخذت تنتشر انتشارا سريعا في صفوف الشيوعيين الصادقين، وشرعت صحف الحزب تندد بروح التردد والهزيمة، وتدعو إلى استئصال شأفتها، وكانت الأسس توضع لإجراء تطهير عظيم في الحزب يخرج من صفوفه كل المتشككين المتحذلقين الذين أتخمت حياتهم بتعذيب الناس وسفك دمائهم، حتى لم يعودوا يطيقون منها مزيدا.
الفصل التاسع
حصاد في جحيم
لم تكن أحداث العالم أو حوادث الوطن عند الشيوعيين العاملين أمورا موضوعية مما لا يتصل بمجرى حياتهم اتصالا مباشرا، بل أوشك الحد الفاصل بين ما هو خاص وما هو عام من شئون الحياة أن يمحى في بلادنا، وتدخلت الحياة اليومية في التطورات السياسية تدخلا جعل منهما وحدة، فالنصر يحرزه هتلر، والأرقام الدالة على المزارع الجماعية وافتتاحية «برافدا» في عددها الأخير، كل هذه كانت عناصر من قصة حياتي.
وإن الرجل من خارج روسيا ليتعذر عليه أن يصدق روايتي إذا ما رويت له الحقيقة الواقعة، وهي أن أمثال هذه الوقائع السياسية أعمق أثرا وأشد وضوحا في ذكرياتي عن ذلك العهد، من زواجي من «زينا» الذي لم يدم إلا أمدا قصيرا.
التقيت ب «زينا » قبل رحلتي إلى الريف بشهرين، وقد كان جمالها هادئا رقيقا كالزهر، فلم يكن بها ما ب «جوليا» من عاطفة وشهوة، وهما الصفتان اللتان جذبتاني إلى هذه الأخيرة، كانت «زينا» رقيقة نحيلة ناعمة الصوت مرهفة المشاعر، لكن جسمها هذا الرقيق كان يغلف لبا صليبا من أثرة؛ فبينا كانت الكثرة الغالبة من فتياتنا السوفيت منبسطات النفوس، إذ كن بسيطات قويات، كما كان لهن وعي اجتماعي - على حد التعبير الذي جرى به العرف الاصطلاحي بيننا في الحزب - كانت «زينا» تنطوي على نفسها.
لم يكن لشيء وجود في رأي «زينا» إلا ما ارتبط بعواطفها الخاصة أو اتصل بهواها، ولقد أنذرني أصدقائي بأنها مترفعة بطبعها، والحق أن فتنتي بها كانت منذ البداية يشوبها شيء من وخز الخطيئة، فما عتمت - حتى قبل تسجيل زواجنا - أن أظهرت عدم ارتياحها لما كان يقتضيه مني الحزب من أعمال كثيرة، وكأنما لسان حالها يقول محتجا: «وأنا؟ أين منك نصيبي؟ لا أظنك مستطيعا أن تفرغ لي من وقتك شيئا.» ولئن أنطقتها بالشكاة شواغلي، فلم تكن أقل شكاة من قلة مالي ومن اضطرارنا أن نعيش مع أسرتي، وأحس أهلها بخيبة الرجاء في زواجها، ولم يجعلوا من شعورهم هذا سرا مكنونا.
فلما أمرت بالسفر إلى منطقة من مناطق المزارع الجماعية، شعر كلانا كأنما انزاح عن صدره كابوس جاثم، إذ جاءت غيبتي تلك قطيعة صادفت من نفسينا ارتياحا، وقد كانت مدة انفصالنا - ولو أنها لم تزد على قليل من أسابيع - كفيلة أن تفصم عرى الزوجية بيننا، حتى إذا ما عدت من الريف مهدود القلب مشتت الفكر، لم تأبه «زينا» لروايتي لها عن رحلتي، فوقع مني ذلك موقع الإيذاء، ولم ألاحظ بادئ ذي بدء أنها تأنقت في لباسها؛ فثوب من حرير، بل وأحجار كريمة.
وكان الطلاق عندئذ أمرا بسيطا يأتي من جانب واحد، فما عليك إلا أن تسجل ختام زواجك، فتعلن زوجتك بطلاقها ببطاقة ترسل إليها بالبريد، ولقد علمت - بعد أن حللت عرى زواجي ب «زينا» - أنها كونت لنفسها «أصدقاء جددا تحلو لها معهم الصلات »، وكأنما هدتها فطرتها الأثرة سواء السبيل، إذ كان بين هؤلاء الأصدقاء رجل ذو مركز ممتاز، تربطه الروابط بالطبقة العليا من أصحاب القوة والنفوذ، فكان في مقدوره أن يشبع لها ميولها المترفعة، فلم يكد زواجنا تنفصم عراه حتى تزوجت منه.
هكذا تبين أن ما كان ل «زينا» من جمال الزهر الرقيق، إنما هو ترف فضفاض بالنسبة إلى طالب مفلس، بل هو أوغل في الترف بالنسبة إلى شيوعي جاد في عقيدته، ولبثت أعواما بعد ذلك أصادفها في المسرح وحفلات الموسيقى، فما رأيتها قط إلا أنيقة الثياب، مترفعة عن غمار الناس، محشورة في زمرة اللامعين من أبناء مجتمعنا الجديد، وكنت لا أكاد أحتمل مجرد الذكرى بأني قد كنت يوما لها بعلا.
كان الموت أول ما حصدناه من مزارعنا الجماعية، وشاع بين الناس ما أصيبت به روسيا الجنوبية وآسيا الوسطى من مجاعة فاتكة، على الرغم من أن الصحف السيارة لم تذكر كلمة واحدة عن هذه المأساة، بل كان الناس يستنكرون هذا النبأ على أنه «دعاية ضد السوفيت»، مع أنهم كانوا على يقين أنه الحقيقة الصارخة.
وعلى الرغم مما اتخذته الشرطة من تدبير عنيف لكي تحصر صرعى المجاعة في ديارهم، فقد اجتاحت جموع من عمال المزارع مدينة «دنيبربتروفسك» وهم يتضورون جوعا، واستلقى على الأرض منهم كثيرون حول محطات السكة الحديدية لا يملكون حراكا، خارت قواهم حتى عن سؤال الإحسان، وأوشك أطفالهم أن يكونوا هياكل انبعجت منها معدات منتفخة، لقد كانت العادة فيما مضى أن يرسل الأهل والأصدقاء من الريف رسائل الطعام إلى ذويهم في الحواضر، أما الآن فقد انعكس الوضع، وعلى كل حال فقد كان نصيبنا من الطعام من القلة والاضطراب بحيث لم يستطع أن يستغني عن شيء من زاده إلا قلة يسيرة.
ولما كانت هذه المجاعة قد وقعت في نفس الوقت الذي بلغنا فيه ختاما ظافرا لأول مشروع وضع ليتم في أربعة أعوام، فقد طفقت الصحف فيما يشبه الهوس، تعلن في ازدهاء «جليل أعمالنا»، لكن هذه الدعاوة التي تصم الآذان بصياحها، لم تستطع أن تطمس في عجيجها أنات الذين كانوا يكابدون الموت، وقد رنت هذه الصيحة «بالحياة السعيدة» الجديدة في أسماع فريق منا رنين الصراخ تبعثه الشياطين، ويروع النفوس أكثر مما تروعها المجاعة نفسها.
وكان الأمر كله مرهونا بالحصاد الجديد، أفيكون لهؤلاء الزراع المتهافتين جوعا، أفيكون لهم من القوة والعزيمة ما يحصدون به وما يدرسون، والموت ضارب حولهم بجرانه؟ لكي يضمن أولو الأمر جمع الحصاد، ويحولوا بين الفلاحين أعضاء المزارع الجماعية وبين أن يدفعهم القنوط إلى التهام الزرع وهو بعد أنجم خضراء، ويصونوا نظام المزارع الجماعية من أن يتداعى بنيانه إذا ما دب دبيب الفوضى، ويقاتلوا أعداءه. لكي يحققوا ذلك كله؛ أنشئوا في القرى أقساما سياسية يديرها رجال من الشيوعيين الأكفاء، فمنهم رجال الجيش والموظفون وأصحاب المهن ورجال القسم السياسي والطلاب، وهكذا جندت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي جيشا يربى على مائة ألف من الصناديد، جندتهم في ربوع هذه المزارع الجماعية، ليكون واجبهم صيانة الحصاد الجديد، وقد كنت أحد هؤلاء المجندين، اجتمع منا عند مقر اللجنة الإقليمية ثلاثمائة جيء بهم من هيئات مختلفة من المدينة، وألقى فينا الخطاب الرئيسي أمين سر اللجنة، وهو من طليعة الشيوعيين في أوكرانيا، وأعني به الزميل هاتايفش، ولم يخف في خطابه ما عسانا ملاقوه في القرى من صعاب، وكان يعيد في خطابه مرة بعد مرة ذكر «التطهير» الذي وضع الحزب خطته بحيث يتم في زمن معين من ذلك العام، فكان تلميحه هذا أوضح من أن يخطئه سمع سامع، فبقاؤنا السياسي مرهون بما يصيبه في مناطق المجاعة من فشل أو نجاح.
أعلن فينا محذرا: «إن ما تعملونه في القرى هو برهان ولائكم للحزب وللرفيق ستالين، وهو مقياس ما تضمرونه من ذلك الولاء، ليس أمامنا للتخاذل من سبيل، كلا، ولا في هذا الميدان موضع لمتهافت، فلا مندوحة لكم عن معدات قوية وعزيمة من حديد، ولن يقبل الحزب عذرا إذا ما فشل في المهمة فاشل.»
بهذه السلطة التي سلمتني بها اللجنة المركزية، أخذت سمتي نحو إقليم «بياتيخاتسكي» يرافقني «يوري» وهو زميل في الدراسة وصديق، فوجدنا أولي الأمر في ذلك الإقليم قد نفد صبرهم لما خاضوه من عقبات، وأخذنا نستفسر عن المحصول الجديد، فلم يجيبوا إلا بنبأ المجاعة التي تفتك بالناس جماعات جماعات، وبنبأ التيفوس وقد تفشى، وبأخبار الناس يقتاتون على لحوم البشر.
وكانوا إذا ما استنهضتهم يوافقونك قائلين: نعم لا بد من إعداد أنفسنا لحصد الغلة الجديدة ودرسها، أما كيف يبدءون فقد كان ذلك فيما يظهر فوق عزائمهم التي كأنما أصابها شلل، وغصت مكاتب الشرطة كما غصت السجون بالمزارعين سيقوا إليها من القرى المجاورة، متهمين بجمع غلال لم يأذن لهم الحاكمون بجمعها، وكانت تهمتهم الرسمية في ذلك هي «التخريب» و«سرقة أموال الدولة».
بلغنا قرية كبيرة - بتروفو - عندما دنت ساعة الغروب، فوجدنا صمتا كصمت القبور قد ساد المكان، وكان معنا فلاح يهدينا الطريق إلى القسم السياسي، فقال: «لقد أكل الناس الكلاب جميعا، وهذا هو السر فيما ترون من سكون.» ثم أضاف إلى ذلك قائلا: «إن الناس لا يطيلون المسير، فليست لديهم قوة تعين على ذلك.» وقابلنا رئيس القسم السياسي، ومن ثم بعث بنا إلى كوخ لفلاح حيث نقضي المساء.
لم يكن يضيء الدار إلا سراج ضئيل، وكانت صاحبة الدار فلاحة شابة، خيل إلي أن قسماتها التي شفها الجوع، قد غاض منها كل الشعور، فلم يبق لها منه شيء حتى شعور الحزن والخوف، كانت قسماتها بمثابة قناع من الحياة يخفي وراءه الموت، وعلى مخدع ضيق في ركن من أركان الدار، رقد طفلان رقادا ساكنا كأنما فارقتهما الحياة، فلم يكن فيهما من علائم الحياة إلا عيون تنظر، فكنت إذا ما التقت تلك العيون بعيني، أهتز من ألم.
قال «يوري»: «يؤسفنا أن نقحم أنفسنا عليك إقحاما، لكننا لن نسبب لك عناء، وسنغادر الدار مع الصباح.» قال هذا بصوت متكلف خفيض كأنما كان يتحدث في غرفة مريض أو بين القبور.
قالت الشابة: «لقد حللتم أهلا، وإنما يؤسفني ألا أملك ما أقدمه إليكم، فلم تشهد دارنا لقمة من خبز طيلة أسابيع طوال، لدي قليل من بطاطس، لكني لا أجيز لنفسي أن نمضي في أكلها فنأتي عليها في وقت أقصر مما ينبغي.» ثم قالت وهي تبكي في صوت خافت: «ألهذه الغمة نهاية تنقشع بعدها، أم أنه لا منجاة لي ولصغاري من الموت كسائر الناس؟»
فسألتها: «وأين زوجك؟» - «لست أدري، أمسكوه! ولعلهم أبعدوه، كما أبعدوا أبي وأخي، لست أشك في أنهم قد خلفونا ها هنا لنلاقي حتفنا جوعا.»
عندئذ قال «يوري» إنه يريد التدخين، وغادر الدار من فوره، وإني لعلى يقين أنه إنما خشي أن تخذله قواه فينفجر باكيا أمام هذه الفتاة.
وقلت لها: «أي عزيزتي، لا تستسلمي لليأس، أنا عليم بصعوبة الأمر، لكنك إذا أحببت أطفالك كان لزاما ألا تيأسي من الجهاد، أحضري أطفالك إلى المائدة، فإن معي وصديقي شيئا من الطعام جئنا به من المدينة، وستشاركوننا - أنتم جميعا - طعام العشاء.»
عاد «يوري» ووضعنا على المائدة كل ما كان لدينا من زاد، وأكلنا - أنا و«يوري» - قدرا ضئيلا؛ لنبقي للآخرين أكثر ما نستطيع، ونظر الأطفال إلى لحم الخنزير والسمك المقدد والسكر والشاي بعيون فازعة، وطفقوا يلتهمون الطعام التهاما شرها سريعا، كأنما أوجسوا خيفة أن يختفي عن أبصارهم بغتة كما هبط عليهم بغتة، وبعدئذ أرقدت الأم صغارها، ثم أخذت في الحديث.
قالت: «لن أحدثكم عن الموتى، فأنتم بذلك عالمون لا ريب، لكني سأحدثكم عن أنصاف الموتى وأشباههم، فهم أبعث على الأسى؛ ففي «بتروفو» مئات يتضورون من جوع، وليت شعري كم من هؤلاء يلاقون حتوفهم كل يوم، وكثير من الناس قد هدهم الهزال بحيث لم يعودوا يغادرون ديارهم، فتمر علينا عربة آنا بعد آن لتجمع أجساد الموتى، ولقد أكلنا كل ما استطاعت أن تصل إليه الأيدي، أكلنا الهررة والكلاب والجرذان والطير، وسترون إذا ما أصبح الصباح أن الأشجار قد عريت عن قشورها، فقد أكلنا كذلك هاتيك القشور، بل أكلنا كذلك روث البغال.»
وقع مني هذا الكلام - فيما أرجح - موقعا أظهرني في هيئة الفزع المرتاب. «نعم، أكلنا روث البغال، بل إنا لنعترك عليه؛ لأن فيه أحيانا حبوبا كاملة من غلال.»
كانت هذه أول مرة يزور الريف صديقي «يوري»؛ فخشيت أن يشتد اضطرابه لوقع هذه المفازع في نفسه لأول مرة، فطلبت إلى المرأة أن تمسك عن روايتها، وأصرت أن نأوي جميعا إلى مخادعنا لننام، لكني و«يوري » لم ننم إلا غرارا، وسرنا أن أصبح الصباح.
فلما أن بلغنا «القسم السياسي» بعد شروق الشمس بوقت قصير، لم نجد هناك سوى الخبير الزراعي لمزرعة الدولة، وتبين أنه صديق قديم؛ لأنه كان طالبا في مدرسة الزراعة ب «آراستوفكا» فضمني ضم الصديق لصديقه، وسألته عن زميله «ياشا جرموف» الذي كان قد زاملني في العمل في المصنع لبضع سنوات خلون. - «سيأتي بعد قليل، أأنتما مقيمان في «بتروفو» أم أنتما في الطريق إلى مكان آخر؟»
فأجبته قائلا: «سنواصل السفر إلى بلد ليس ببعيد، إنما نزلنا ها هنا لنقضي المساء ولنعرف الناس، وإني لأرجوك رجاء لعلك متفضل به علي، أي زميلي «باشماكوف» فهل لك أن تستغني لي عن شيء من زادك؟» - «هل تريده لنفسك؟» - «ليكن ذلك، وعلى أية حال سأدفع لك ثمنه.» - «تدفع لي! كأنما المال هو موضع الإشكال، اصحبني إلى الدار، وإنها لعلى مقربة من هذا المكان، لعلي مستطيع أن أستغني لك عن قليل.»
ولما كنا في طريقنا إلى داره، قال: «إني لعلى يقين أنك تريد الطعام لبعض هؤلاء الفقراء المناكيد، ولست على ذلك بلائم، لكن - أي زميلي «كرافتشنكو» - لن يرجى منك نفع لو أحللت الرأفة مكان السياط، إنه لا مندوحة لك عن تدريب نفسك على أن تطعم أنت حتى لو رأيت الجوع قد أشفى سواك على الهلاك، وإلا لما وجدت من الناس من يجمع لك الحصاد، فنصحي إليك كلما رأيت مشاعرك قد غلبت على حزمك، أن تقول لنفسك: «إن الوسيلة التي لا وسيلة سواها للقضاء على هذه المجاعة، هي أن نضمن المحصول الجديد.» ولا تحسبن أني قد هيأت نفسي لمثل هذا بغير عناء، فلست بالحيوان الذي يخلو من حنان.»
ومع ذلك فقد أعطاني قطعة من لحم الخنزير وزجاجة من زيت، وشيئا من الدقيق وكيسا صغيرا من رقائق الخبز ، فشكرته وحملت هذا كله إلى الدار التي كنا قضينا فيها المساء، فكأنما نزلت بالمرأة صاعقة أمسكت لسانها أن يتحرك بالشكر، وفررت من عرفانها لجميلي كأنما كان اعترافها بالفضل تقريعا أليما.
وسرت يصحبني «يوري» خلال القرية، فأحسسنا من جديد بضائقة تلم بصدرينا لما ساد المكان من سكون غير مألوف، وسرعان ما انتهى بنا السير إلى مكان مكشوف لا بد أن قد كان فيما مضى ساحة السوق، وفجأة أمسك «يوري» بذراعي وضغط حتى آلم، ذلك أن وقعت عيناه على جثث طرحى على أرض المكان، جثث لرجال ونساء وأطفال، سترت بغطاء رقيق من قش قذر، وقد عددتها سبع عشرة جثة، وبينا نحن واقفان نرسل البصر إذ جاءت عربة وأخذ رجلان يقذفان على سطحها بأجساد الموتى كأنما هي جذوع من حطب.
ذهب «يوري» إلى مزرعة الدولة ليهيئ للنقل أسبابه، وعدت أنا إلى «القسم السياسي»؛ لأتحدث مع «جروموف» فسر لرؤيتي سرورا كانت له في نفسه نشوة، فالزائر كائنا من كان يأتيهم من خارج حدود هذه المجاعة، يحل عندهم أهلا لأنه تذكرة لهم بأن الدنيا لم يزل بها أصقاع تجري فيها الحياة على نحوها المألوف، وأخذني إلى مزرعة الدولة، وهي نموذج لمشروع تملكه الدولة وتشرف على سيره، لا يشاركها في ذلك سواها، وفي مثل هذا الضرب من المزارع يؤجر المزارعون، وبهذا يختلف عن المزارع الجماعية التي يديرها المزارعون جماعة.
وبينا نحن سائران خلال حقول القمح والشعير التي لم يكتمل نضجها، قلت لزميلي: «ياشا، لقد كنت في ساحة السوق هذا الصباح، و...» - «نعم، أعلم ما تريد يا «فيتيا»، كم وجدت هذا الصباح؟ سبع عشرة جثة فقط! إن العدد ليزيد على ذلك أحيانا، وماذا ترانا صانعين إلا أن نجمع الأجساد لنواريها القبور! إن الحكومة قد استلبتهم كل غلتهم في الحصاد الماضي، والقليل الذي بقي لهم أجرا على عملهم أو الذي استطاعوا أن يخفوه، قد استهلكوه منذ أمد بعيد، إنها حال تبعث على الحزن والفزع، اصحبني إلى الدار لنمضي في الحديث، فقد طال بي الزمن الذي احتبست فيه أفكاري لنفسي طولا جاوز المعقول.»
إن حديث الموت من جوع حديث مملول، حديث معاد مكرور، وإنه لمما يبعث على الحسرة أن نستخدم الألفاظ التي تلوكها الألسن في الحياة الجارية، أن نستخدمها بنفسها حين نصف ما هو قطعة من الجحيم، فلم يكن ما قاله لي «ياشا» سوى ما كانت قالته لي الشابة الفلاحة في الليلة السابقة، وما شهدته بعيني في ساحة السوق، وقد أخذت بالفعل أتعود هذا الجو تملؤه المفازع، وكان ينمو في نفسي رويدا رويدا شعور دخيل بالمناعة إزاء الحقائق الواقعة، بحيث أشهدها ولا أتأثر بها، تلك الحقائق التي ما كدت أسمع عنها أمس القريب حتى تحطمت لسمعها قوائمي.
امتد بنا السمر حينا طويلا، وأخذ «جروموف» يصف لي الناس الذين سأزاول معهم مهمتي في القرى التي كلفت بالعمل فيها، ووعدني المعونة ما استطاع إلى المعونة سبيلا، ولوح بيده مودعا حين أقلتني مع «يوري» عربة صغيرة وضعتها مزرعة الدولة رهن أمرنا.
كانت الشمس آيلة للغروب والسماء ملطخة بالدماء، وسمعت الرجل الكهل الذي كان يسوق لنا العربة يوجه الحديث إلى جياده قائلا: «امضيا أيها الصقران الصغيران، امضيا بنا أيها العزيزان!»
وقدمت له لفيفة تبغ، فأحدث تبغها الجيد - فيما يظهر - نشوة في نفسه ومد ذراعه يقلب فيها تحت مقعده، وأخرج مزمارا من غاب، وطفق يغني ألحانا شعبية أوكرانية حزينة.
قال له «يوري»: «الظاهر يا أبت أنك تستمتع بعيش سعيد.»
فأجاب: «أي والله! كلنا ها هنا نعيش عيشة الأمراء، زوج واحد من السراويل لكل رجلين، وكل إنسان ها هنا حي حتى يموت، ليس منا فقراء ولا أغنياء، كلنا سائلون إحسانا، يا صقري الصغيرين عليكما بذلك التل! أخرجا ما لديكما أمام أهل الحضر! أي صغيري!»
فسألته: «ومن أنت يا جدي؟» - «ليس في هذا المكان من يجهل من أنا، كان الناس يطلقون علي «كوزما أفانوفتش» حين كانت لدي مزرعتي وحين كنت في وفرة من قوت، أما وقد أصبحت اليوم حوذيا، فهم ينادونني باسم «كوزكا»، لم يبق لي إلا هذا المزمار، فتراني أعزف عليه، لقد ماتت زوجتي العجوز في الشتاء الماضي، ماتت جوعا، وتزوجت ابنتي واشتغلت في المناجم، وأرسل اثنان من أبنائي مع أسرهم إلى سيبيريا، أرسلهم هناك الرفقاء ... ولعلهم إذ رأوني كهلا لا يخاف له بأس، استخدموني حوذيا في مزرعة الدولة ، لقد لبثوا طويلا يرفضونني ظنا منهم أني قد أدبر تلفا للمزرعة، ولكن فيم إتلافي لهم شيئا؟ لقد بت من الموت قاب قوسين.
إني أصدع بكل ما يأمرونني به، ومتعتي في حياتي هي هذان الجوادان، أعنى بهما خير عناية، نعم إنهما ملك الحكومة، لكني أخيل لنفسي أنهما لي، إنهما أسرتي التي لا أسرة لي غيرها الآن؟ إني أغذوهما وأنظفهما وأتحدث إليهما، إنهما يفهمان عني، يفهمان كل كلمة أقولها، إنني بهذين الجوادين لا أزال «كوزما إيفانوفتش» ولست «كوزكا» مجردة عن الألقاب، إن كل رجائي هو أن يدفن جسدي إلى جانب زوجتي العجوز إذا ما جاءت منيتي، لقد رجوت ناسا من أطيب الناس أن يذكروا ذلك، فوعدوا أن يحققوا لي الرجاء، فأنا - كما تريان - خلي من الهموم.»
ثم استأنف عزفه على المزمار.
ولما بلغنا الغاية المقصودة، وهي القسم السياسي في القرية، كان قد أمسى المساء، وقد كان مقر القسم السياسي دارا جميلة في نهاية طريق محصوب تحف جانبيه أشجار من حور، وكان في القسم كثير من الموظفين يرقبون قدومنا فرحبوا بنا، وبعد أن قدم كل منا نفسه للآخر، صحبناهم إلى كوخ كان يقيم به مساعد الرئيس، وكان المكان نظيفا، والعشاء شهيا كافيا رغم بساطته.
لم يكن يسيرا عليك وأنت جالس إلى المائدة المليئة بصنوف الطعام، ومصباح الغاز يرسل شعاعا بهيجا من الضوء، لم يكن يسيرا عندئذ أن تتخيل أن الجوع والموت قد استوليا على المنازل المحيطة بنا جميعا، لقد أخذت أمعن النظر في هؤلاء الرجال الذين سأزاول معهم مهمتي، ولم يكن خافيا أنهم كذلك بدورهم يمعنون في النظر.
كان «سومانوف»، رئيس القسم السياسي، رجلا من رجال الجيش، كان بكباشيا في المدفعية، هو قصير مليء سنه حول الأربعين، ووجهه هادئ يشيع في ملامحه شيء من العطف، ولم أكد أراه حتى أحببته، أما مساعده - وهو صاحب الدار - فكان مديرا لمصنع من مصانع المعادن في حوض الدونتز، كان أنيق الملبس كثير الجلبة ثرثارا يفيض فيضا بنكاته، وأما المساعد الثاني فضابط شاب من الشرطة السرية، وهو أسود الشعر والعينين أنيق الثياب، كان لا يتكلم إلا قليلا، لكنه يرهف السمع إنصاتا للحديث، ثم عضو رابع من القسم السياسي كان محررا في إحدى الصحف جاء من مدينة في الإقليم الذي كنت من أبنائه.
أخذ كل منا يقلب النظر في الآخرين، وعرفت كيف أسوق في الحديث عرضا أسماء أصدقائي الذين يحتلون مكانة عالية، بل أشرت تلميحا إلى معرفتي الشخصية بالوزير «أورزنكدز»، ولما ألقيت في حديثي أسماء معارفي من رجال الشرطة السياسية في المدينة التي نشأت فيها، وجه الضابط الشاب الذي ينتمي إلى هذه الفرقة انتباها لقولي واعتدل له بجسمه اعتدالا اندفع إليه بلا شعوره، فمهما يكن من أمر المهمة التي تنتظرني، فقد كان لا بد لي من أن أحشد كل قطرة أستطيع حشدها من المكانة في أعين الناس حتى أستطيع أداء مهمتي.
ولما فرغنا من عشائنا عقدنا اجتماعا رسميا، وأخذت أنا و«يوري» نزداد معرفة بطبيعة ما نحن مقدمان عليه من عمل، وتفضل علينا الحاضرون بوصف موظفي ذلك الإقليم ومختلف شخصياتهم، أعني موظفي المزارع الجماعية التي ألقيت تبعتها على عاتقينا، والظاهر أن قد شاء لنا حسن الحظ أن تكون المحصولات مبشرة بوفرة وجودة، فكانت مهمتنا إذن أن نصونها وأن نرعى جمعها رعاية تضمن للحكومة نصيبها كاملا، وحدد اليوم الأول من سبتمبر تاريخا أقصى للحصاد، وقد جمع ما بيننا اشتراكنا في التبعة، على الرغم من أن كلا منا خصص له جزء معين يكون تحت رعايته.
وفي صبيحة اليوم التالي دعاني الرفيق «سومانوف» إلى مكتبه الخاص.
قال لي: «إن خبرتك بالزراعة أوسع من خبرة الكثرة الغالبة من «الممثلين الرسميين» وذلك شيء محمود، لكني أحب أن تكون على حذر، سيصادفك كثير من ألوان الشقاء، وستكون صاحب الكلمة لأني لن أشير عليك كيف تتصرف فيما عساه أن يصادفك من مواقف ، لكن شيئا واحدا أريد أن أشير عليك به، وذلك ألا تتخاذل إزاء ما ترى، وإلا كنت عديم النفع لنفسك ولمهمتك، اعمل ما تظنه لازما ولا تأبه لما عدا ذلك من ضروب التدخل، إن كل سيئة قمينة أن تجد الغفران لو أنك نفذت الخطة في إحكام ودقة، وإلا ... ماذا أقول وكلنا يعرف النتائج، إن لك مني كل معونة مستطاعة، وفي انتظارك الآن رؤساء المزارع الجماعية ورئيس السوفيت في القرية، فأتمنى لك حظا سعيدا!»
وما هو إلا أن عدت مع «يوري» إلى استئناف السفر، وكانت قراه تبعد عن قراي ما يقرب من ثمانية أميال، فلما بلغنا «لوجينا» التي ستكون مركز إقامتي، نزلت من العربة أمام مقر السوفيت وواصلت العربية سيرها تحمل «يوري» وحده.
كان مركز السوفيت صغيرا لكنه نظيف، وكان الاجتماع معقودا ساعة وصولي، فقدمت نفسي للأعضاء وأبرزت وثيقة انتدابي «ممثلا رسميا ينوب عن القسم السياسي» و«اللجنة الإقليمية»، وألحفت في أن يواصل المجتمعون عملهم، وكان رئيس الاجتماع - فيما علمت - يدعى «بلوسوف» ولم يكن خافيا ما كان يستولي عليه من رعب إزاء أمين الحزب الرفيق «كوبزار»، كذلك كان بين الحاضرين مدير محطة الجرارات الآلية واسمه «كاراس».
قال «كوبزار»: «أيها الرفيق كرافتشنكو، أنت ها هنا الآن صاحب الأمر، فتول رياسة هذا الاجتماع.» - «لا، لا، امضوا فيما أنتم ماضون فيه، وإذا سمحتم فسأجلس منصتا، ولن يكون منذ الآن - أيها الرفاق - «نحن» و«أنتم» فلا بد لنا من تعاون، فأنتم أدرى مني بمشكلات هذا الإقليم، وستكونون في كل شيء عمادي، لكني في الوقت نفسه مسئول عن الأمر، وسيكون لي القول الفصل، سأعقد أول اجتماع لي غدا، وأحب أن تحضروا جميعا مزودين بما يلزم من حقائق، وأريد من كل رئيس لمزرعة جماعية - بوجه خاص - أن يأتيني بخطة عمله، وإلى أن يحين الغد، امضوا فيما أنتم مشتغلون به الآن كائنا ما كان.»
استأنف الأعضاء اجتماعهم، وكانت الكلمة لرؤساء المزارع الجماعية واحدا بعد واحد، فأكدوا جميعا أن مزارعيهم لن يقووا على جمع الحصاد إذا لم يجدوا ما يقتاتون به من طعام.
قال أحد هؤلاء الرؤساء: «إن من أشرف عليهم يتضورون جوعا، إنك لتراهم طرحى في منازلهم من هزال، فليس لنا أن نعد هؤلاء من الأيدي العاملة، وسيزداد هؤلاء العاجزون عددا، وسيمضي الموت بعدد قبل أن يبدأ الحصاد، فماذا نحن صانعون؟»
أجاب «بلوسوف» و«كوبزار» إجابات مهمة وأشارا إلى أوامر الحزب، فأدركت أنهما مهوشان يسيران على ضلال، وأنهما في أعماقهما لا يهمهما من الأمر كثير أو قليل، فقلت لنفسي: «الظاهر أني سأجعل المزارعين أنفسهم عمادي، فهم أرسخ عمادا من هؤلاء الموظفين.» فقد تبين لي في وضوح أن السوفيت وما للحزب من أداة تنفيذية قد تعودوا المجاعة حتى عميت أبصارهم، وأنه لا أمل في جمع الحصاد إذا لم أنفض عن هؤلاء ما خيم عليهم من عدم اكتراث.
قال لي «بلوسوف» عندما ختم الاجتماع: «تعال فنم في منزلي، فلا بد أن قد أنهكك السفر، وأظنني قادرا على إمدادك بما يرد لك النشاط.»
ثم قال أحد رؤساء المزارع الجماعية: «يسرني أن تصحبني إلى داري، اسمي «شاداي» وأسرتي صغيرة العدد، ونستطيع أن نخلي لك غرفة.»
فقررت على الفور أن أقبل دعوة «شاداي»؛ لأنني أحسست أنني كلما ازددت قربا من رجال المزارع الجماعية، كنت أقرب إلى الصواب، فصافحت الحاضرين جميعا، وصحبت «شاداي»، وهو رجل متوسط العمر فيه بساطة وذكاء، كان حليقا وسيم المحيا، ورافقنا رئيس آخر من رؤساء تلك المزارع هو «دمشنكو».
وصلنا الدار فابتسمت قائلا: «لنقصد أولا إلى حظيرة الجياد أيها الصديقان، فقد علمني جدي في «اسكندروفسك» ألا آوي إلى مخدعي قبل أن أستيقن أولا أن الخيل لم تهمل.» - «إذن فأنت سليل أسرة مزارعة؟» - «لست على وجه الدقة كذلك، أيها الرفيق «دمشنكو» لكني أطلت المقام في المزارع.»
واستطعت أن أرى على ضوء مشكاة أن الجياد في مرابطها، لكن لم يكن في مذاودها دريس، ولم تكن حظيرتها على ما ينبغي لها من نظافة.
قال «شاداي» في اضطراب: «لقد أهمل ابن الكلبة تنظيف الحظيرة مرة أخرى؛ لأرينه الجحيم غدا.»
قلت: «لست أدري من ذا وكل إليه هذا العمل، لكني أرى أنك أنت أولى بهذا الجحيم، فأنت الرئيس، والخطأ خطؤك أنت كلما وقع، وفي هذا وحده معنى الرياسة.»
ووافق «شاداي» في خشوع: «لقد أصبت القول، ومع ذلك فليس الأمر سهلا هينا، فكيف يعمل الناس بغير قوت؟ إنهم لا يستطيعون حصر أذهانهم في أعمالهم إذا ما كانوا جياعا.»
ووافق «دمشنكو» على ذلك قائلا: «هذا صحيح، ليس الأمر هينا، عما مساء، وسأراكما في الصباح.»
دخلت الدار حيث زوجة «شاداي» وأطفاله، وعلى الرغم مما بدا عليهم جميعا من هزال وضعف، فقد كان جليا أن ظروف العيش ها هنا لم تبلغ ما بلغته في دور الفلاحين من سوء.
قلت: «أي رفيق «شاداي»، حدثني حديث رجل لرجل، حدثني حديثا بعيدا عن الأوضاع الرسمية، كيف حال الناس؟ ماذا أعددتم من خطة لجمع الحصاد؟ كيف حال الآلات؟ لا تخف عني شيئا، بل كن معي مخلصا صادقا فنحن كلانا معنيان بشيء واحد.» - «لست أدري أين أبدأ الحديث أيها الرفيق «كرافتنشكو» ليس المحصول سيئا، والآلات صالحة على الرغم من فقدان بعض أجزائها، وبغير هذه الأجزاء المفقودة سيقف دولاب العمل.» - «اكتب لي قائمة بما تريد، وسأرسل في طلبه من القسم السياسي في «بتروفو».» - «شكرا فذلك عون عظيم، وشيء آخر في حالة من السوء، وهو موقف الجياد، فليس لدينا علف لها، ويعوزنا ولو قليل من الشوفان. طبعا نستطيع أن نحصد لها بعض شوفان المحصول الجديد، لكن ذلك تحرمه الأوامر تحريما قاطعا.»
قلت: «لا عليك من الأوامر، فسيكون لك ذلك إذا لم تر طريقا آخر، وستكون التبعة كلها علي وحدي، سيكون ذلك في طليعة مهامنا غدا، ماذا نحن صانعون بغير جياد، وهل تكون جياد بغير شوفان؟»
فحذرني «شاداي» قائلا: «لا أظن أن «بلوسوف» و«كوبزار» سيوافقانك على ذلك.» - «دعني وإياهما.» - «وأخيرا، وأهم من ذلك كله أيها الرفيق «كرافتشنكو» حال الناس أنفسهم، إنهم ليموتون كأنما هم الذباب يتساقط، ومن لم يمت فهو من الضعف والهزال بحيث لا يستطيع حراكا، من ذا سيحصد لنا الغلال، لقد توسلت إلى «السوفيت» أن يعيرونا شيئا من حبوب، فأرسلوا إلي مقدارا ضئيلا، ولست أنا بموسى ولا عيسى حتى أطعم ألوف الناس على مثل هذا القدر الضئيل، لقد شهدت أيها الرفيق الموت والدماء حين كنت في الجيش، لكني فيما شهدت لم تقع عيناي على شيء يوازي في بشاعته هذا الذي أراه ها هنا في قريتي.»
ونظر إلي محدجا، ولمع في حزنه بريق من أمل. - «أيها الرفيق، وأنت الممثل الرسمي، لو أردت حصد المحصول فلا بد لك أولا من إنقاذ هؤلاء الناس من براثن الجوع، أضف إلى ذلك أني لم أعد أحتمل النظر إلى هذا البؤس من حولي، كلا، لم أعد أطيق رؤيته لحظة واحدة.» - «لست بمستطيع أن أعدك شيئا أيها الرفيق «شاداي» سوى أن أبذل وسعي، سننهض من فراشنا غدا مبكرين، وسننتقل من دار إلى دار، لا بد أن أشهد الحال بنفسي قبل أن أصمم العمل.»
إن ما رأيته ذلك الصباح، حين أخذت أزور المنازل مع «شاداي» لأبشع من أن تصوره العبارة، فالرجال في ميدان القتال يموتون في لحظة، وهم يردون قتالا بقتال، ولهم في ذلك سند من الزملاء والشعور بالواجب، أما ها هنا فالناس يموتون في عزلة بعضهم عن بعض، وهم يموتون موتا متدرجا بطيئا، الناس ها هنا يموتون على نحو بشع فظيع، دون أن يكون لموتهم مبرر كأن يكون دفاعا عن مبدأ، لقد صيدوا ها هنا في فخ أغلق من دونهم، ثم تركوا هناك ليموتوا جوعا، كل في داره وحيدا، وصائدهم في هذا الفخ إنما هو قرار سياسي اتخذه الرؤساء في عاصمة بعيدة، إذ هم جالسون حول مائدة يتشاورون الرأي أو يأكلون ويشربون، ولو كان زوال هذه المفازع أمرا محالا، لكان في هذه الاستحالة شيء من العزاء، لكن الأمر يخلو حتى من هذا العزاء.
وأبشع ما كانت تقع عليه الأبصار هم الأطفال الصغار بأطرافهم الهيكلية مدلاة من بطونهم المنتفخة كأنما هي البالونات، لقد طمس الجوع من وجوههم كل علائم اليفاعة وأحالهم أمساخا شاهت مما لاقته من ألوان التعذيب، ولم يكن بهم ما يذكرك بطفولتهم إلا آثار بقيت في عيونهم، كنا حيثما أدرنا البصر نرى الرجال والنساء طرحى وقد انتفخت منهم الوجوه والبطون وغاضت من أبصارهم كل معاني الحياة.
طرقنا بابا فلم نسمع جوابا، وطرقنا الباب مرة أخرى ، ثم بيد واجلة دفعت الباب ودخلنا في ممشى ضيق يؤدي إلى الغرفة الواحدة التي يحتوي عليها الكوخ، واتجهت عيناي أول ما اتجهتا نحو سراج في أيقونة في أعلى السرير العريض، ثم صوبت النظر إلى جثمان امرأة في منتصف العمر مسجى على ذلك السرير، وقد ربعت ذراعيها فوق صدرها على صدار أوكراني مطرز نظيف، ووقفت عند حافة السرير امرأة عجوز كما وقف على مقربة منها طفلان: ولد في الحادية عشرة أو نحوها وبنت تقرب من العاشرة، كان الطفلان يبكيان في غير صوت مسموع، وينشدان في صوت حزين أغنية ريفية «أماه يا أماه العزيزة»، ثم أدرت البصر فإذا بالبصر يقع على جسد منتفخ متصلب لرجل ممدود على حافة الفرن.
لم تكن بشاعة المنظر في الجثة الراقدة على السرير بقدر ما كانت في حالة الأحياء المشاهدين، فساقا المرأة العجوز انتفختا إلى حد جاوز كل معقول، ولم يكن ثمة من شك في أن الرجل والطفلين كانوا في آخر مراحل الحياة بفعل الجوع، فعدت مسرعا وبي خجل من سرعة عودتي.
ورأينا في المنزل المجاور رجلا في نحو الأربعين من عمره، رأيناه جالسا على دكة يصلح حذاء، كان الرجل منتفخ الوجه، وكان إلى جواره صبي صغير مرتب الهندام استحال إلى ما يشبه أن يكون هيكلا من عظام، كان هذا الصبي يقرأ كتابا، وإلى جانب الموقد امرأة شاحبة مشغولة بطهيها.
سألها «شاداي»: «ماذا تطهين يا ناتالكا؟»
أجابت في صوت غاضب يشف عن رغبة في انتقام: «أنت تعلم ماذا أطهى.»
وجذبني «شاداي» من كمي وغادرنا الدار.
سألت «شاداي»: «فيم كانت غضبتها؟» - «لأنها ... ماذا أقول؟ إنه ليخجلني أن أنبئك، «فكتور أندريفتش» ... إنها تطهى روث خيل وأعشابا.»
كان أول ما بدا لي أن أفعله هو أن أعود إلى الدار فأمنع المرأة عن طهيها، لكن «شاداي» أمسك بي قائلا: «كلا لا تفعل، نشدتك الله، إنك لا تدري كم يحس الناس من ألم الجوع، إنها قد تقتلك يأسا إذا ما سكبت لها ما في قدرها.»
وبعد أن زرنا ما يقرب من اثنتي عشرة دارا، استمعت لنصيحة «شاداي» في الاكتفاء بما شهدناه إذ قال: «سترى ما رأيت أنى سرت، فقد عرفت الآن ما يكفيك.»
اتضح لي الآن ما يجب أن أصنعه، فالموقف من سوء الحال بحيث لا يحتمل أنصاف الحلول، فلا بد من إهمال الأوامر والقوانين مهما يترتب على ذلك من نتائج بالنسبة إلى نفسي، فإذا لم أرد لهؤلاء المزارعين قواهم، ضاع منا كل شيء، ولما عدنا إلى دار «شاداي» كتبت خطابا إلى الرفيق «سومانوف» وهو رئيس القسم السياسي الذي كنت تابعا له، وأرسلت الخطاب مع رسول خاص، ولما اقترب المساء جاءني الرسول يحمل رد الخطاب. «أنا على أتم العلم بالحالة، وإني لأود أن تعاود التفكير في الأمر من جديد وأن تزن كل جوانب الموقف، فإن ما تقترحه فيه عصيان خطير لما لدينا من أوامر صريحة، ومع ذلك فإذا لم يهدك التفكير إلى مهرب آخر، فلك أن تفعل ما تراه حتما لازما، وسأحاول أن أجد لك بعض الغلال، لكني أصارحك أنني لست كبير الرجاء في التوفيق.»
اطمأننت لهذا الجواب، فهو على الأقل لم يكن جوابا يحمل كلمة «لا»، ولم يكن ما اقترحته سوى أن أجمع بعض الشوفان لنطعم الخيل، وأن أحصد قليلا من الشعير النامي على حفاف الحقول ليأكل الناس، لكن مثل هذا الحصد السابق لأوانه كان في رأي جريدة «إزفستيا» المنشورة أمامي «سرقة لأموال الدولة» و«ضربا من التخريب»، ولقد ألقي القبض على الفلاحين وأرسل بهم إلى مطارح النفي عقابا على مثل هذه «الجرائم».
كانت الظروف في المزرعة الجماعية الأخرى لا تختلف عن ظروف هذه المزرعة جوهرا، فقد بقيت لبعض الفلاحين أبقارهم لكنهم كانوا يرسلون اللبن كله إلى مصنع الزبد التابع للدولة، وحتى هؤلاء الناس الذين لبث لهم من القوة ما يجولون به هنا وهناك، كانوا في حالة من الضعف واليأس والقنوط.
طلبت من «شاداي» و«دمشنكو» أن يستحضرا معلمي القرية وطبيبتها وبعض النساء ممن لهن شجاعة وذكاء في المزرعة، ثم أرسلت في الوقت نفسه إلى «بلوسوف» و«كوبزار» و«كاراس» آمرهم بالحضور، فلما اجتمع شملهم، جلسوا حول المنضدة يرقبون لا يدرون أي مفاجأة أنا مباغتهم بها من أوامر الحزب، ولم يستطع بعضهم - وكوبزار بصفة خاصة - أن يخفي ما يجول في نفسه من ريبة.
بدأت الحديث قائلا: «لقد دعوتكم للحضور أيها الرفقاء وبخاصة السيدات؛ لأنني بحاجة إلى نصحكم، وإنه ليسرني أن أرى بين الحضور الرئيس السوفيتي، وأمين الحزب، ومدير محطة الجرارات الآلية، لقد كنت أنتقل من دار إلى دار، وعرفت ماذا هناك، ولئن أفزعني كل ما رأيت، فقد أفزعتني حالة الأطفال على وجه خاص، كيف نطالب الناس بالعمل إذا كان أطفالهم يتضورون في المنازل جوعا؟
والآن هاكم خطتي، فقد أنبأني «شاداي» أن في القرية بعض المنازل الخالية، وأريد منكن أيتها السيدات أن تنظفن هذه المنازل وتبيضن جدرانها وتجعلنها صالحة للكائنات البشرية، وسنبدأ بالأطفال، سنعد لهم هذه الأماكن يعيشون فيها حتى يتم الحصاد، فاجمعن الأطفال واحلقن لهم شعرهم ونظفن أجسادهم واحقنهم وقاية من التيفوس، أنا أعلم أيها الطبيب أن لديك بعض الأدوية الضرورية، أعددن مناضد في حدائق تلك المنازل، واجمعن آنيات كبارا لطهي الطعام، هل أنتن على استعداد للمعونة؟»
قالت امرأة: «إننا على استعداد لا شك فيه، لكن ماذا عندك ليطهى؟» - «سأنبئكم بذلك فيما بعد، ولكني أحب أن أعلم الآن من تظنونه أكثر الناس جدارة بالركون إليه في الإشراف على هؤلاء الأطفال نيابة عنكم؟»
أجابت أصوات عدة: «كونوننكو إيفان بتروفتش، المعلم.»
فلما أشير إلى الرجل الكهل المقصود، وجهت إليه الخطاب قائلا: «إيفان بتروفتش، ما دام الناس قد وثقوا فيك، فلك مني الثقة كذلك، أنت المنوط بأمر الأطفال لا يشاركك في ذلك سواك، خذ من تشاء ليعاونك، ولك أن تعتمد على معونتي إلى أقصى الحدود، وإذا ما تدخل أحد في عملك فبلغ أمره لي.»
قال المعلم في صوت يختلط بالعبرات : «أنا على أتم استعداد، وكيف لا أكون وهؤلاء عشيرتي، هيئ لنا الطعام أضمن لك كل ما تريد.» - «شكرا لك يا إيفان بتروفتش، ابدأ عملك مفترضا أن الطعام هيئت أسبابه، اركن في ذلك إلى صدق وعدي.»
أذنت للحاضرين بالانصراف إلا الموظفين، فقد جمعتهم في غرفة أخرى وأغلقت من دوننا الباب.
قلت: «أيها الرفقاء، لنشمر السواعد للعمل، لا يفزعنكم ما أنا قائله، فأنا أعرف الأوامر كما تعرفونها، بل ربما كنت بها أتم منكم علما، ومع ذلك فإني سأصدر الأوامر الفلاحين أن يجمعوا الشوفان ليطعموا الجياد، وكذلك سآذن لهم بجمع الشعير من حفاف الحقول ومن حيث تم للشعير النضج، ابدءوا في درسه من فوركم، وأعدوا منه ما يكفي أن يوزع على الناس بحيث يصيب الواحد منهم في كل يوم كيلوجرام من شعير مجروش، وامضوا في زيادة هذا المقدار رويدا رويدا، بحيث إذا ما بدأ الحصاد كان للناس من القوة ما يعينهم على العمل، وأمدوا «إيفان بتروفتش» بقدر كاف من هذه الغلة الجديدة ليعنى بالأطفال، وإني لآذن لكم أن تذبحوا من خنازير المزرعة الجماعية ما يكفي أن يطعم الأطفال من لحم ودهن جنبا إلى جنب مع مجروش الشعير.»
وبينا أنا أتحدث كانت تبدو على وجوه هؤلاء الموظفين التابعين للإقليم علامات الريبة التي جعلت تتحول تحولا سريعا إلى فزع، فكأنما لغة عيونهم كانت تقول بأفصح مما تستطيعه الألفاظ: هل جن جنون هذا الرجل؟ هل يريد بنا وبنفسه الهلاك رميا بالرصاص.
وبدأ «كوبزار» الحديث فقال: «لكن أيها الرفيق كرافتشنكو ...» - «ليس في الأمر «لكن» بل افعل ما آمرك به والتبعة واقعة علي وحدي.»
ونهض «بلوسوف» مضطربا وقال: «إن واجبي يحتم علي أن أبلغ القسم السياسي.»
فقال مدير محطة الجرارات الآلية مؤيدا لموقفي: «لقد أخطأت أيها الرفيق «بلوسوف» إذا أمر الممثل الرسمي للجنة الإقليمية أمرا، إذن فهو يرمي إلى هدف يريده، وما علينا جميعا إلا الطاعة.»
ثم قلت أنا: «لست أمنعك من تبليغ من شئت، ذلك من حقك، لكنك إذا لم تنفذ ما آمرك به، كنت مسئولا عن هذا العصيان، أما أنت أيها الرفيق «كوبزار» فإنك لتقامر بمركزك في الحزب إذا لم تعمل على تنفيذ خطتي بغير إبطاء، هذا كل ما أريده منكم أيها الرفقاء.»
وبينا نحن خارجون واحدا في إثر واحد ، أحسست يدا تضغط على يدي ضغطة الشاكر وكانت تلك يد «شاداي»، ثم لحق بي «دمشنكو» وهمس في صوت أجش قائلا: «سأكون في عونك وإن كلفتني معونتك حياتي، أما وقد بدأت المغامرة، فما رأيك في مواصلة السير في طريقك بأن تفحص مخزن التعاون، تعال معي أقدمك إلى مديره ماكارنكو.»
كان المخزن قذرا مهملا، فلو استثنيت تماثيل نصفية لستالين وأكداس من صور مطبوعة لغيره من الزعماء، وجدت الرفوف خالية، وأما «ماكارنكو» فقد كان رجلا ضئيلا ذليلا ماكرا مسترضيا، فأنبأته في إيجاز عما قررته بشأن إطعام الأطفال في القرى، وطلبت منه المعونة. - «أنا أعلم أنك تخفي قدرا من مواد الغذاء، ولا مندوحة لك الآن عن إخراجها وتسليمها، حتى إذا ما تم لنا الحصاد سنرد لك الدين غلالا، ولن يصيب أحدا شيء من الأذى.»
صعق الرجل، وألفى نفسه موزعا بين أمرين: فهذه هي أوامر المركز الرئيسي من ناحية يقابلها خوفه أن يسيء إلي باعتباري ممثل الحزب. - «نعم أيها الرفيق، إن لدي شيئا من ملح وسكر نباتي، وحب مجروش وسمك مدخون وقليلا من صابون، فإذا تعهد رجال المزرعة تعهدا مكتوبا بأن يردوا هذه الأشياء غلة ودريسا وافقت على تسليمها، لكن قبل تسليمها لا بد أن أستأذن مكتب الإقليم وسأنبئك بالقرار غدا، وكذلك أحب أن أقدم لك شيئا من النصح، لماذا لا تطرق محطة الزبد؟» - «ماذا تعني؟»
فقال دمشنكو شارحا: «إنه يعني المكان الذي نسلم فيه كل ما لنا من لبن ليصنع هناك زبدا للتصدير.» - «للتصدير!» - «نعم أيها الرفيق كرافتشنكو، لإرساله إلى الخارج، إنهم يلفونه في ورق عليه كلمات من لغة أجنبية غريبة، نعم فموت الناس من الجوع شيء، وتبادل التجارة مع الخارج شيء آخر.»
كان مصنع الزبد يبعد عن القرية مسافة قصيرة، وكان مديره رجلا من رجال الحزب، وديعا، في نفسه غم دفين، فصحبني خلال المصنع ليريني أجزاءه، فرأيت الزبد في إحدى الغرف يقطع شرائح مستطيلة ويلف في ورق كتب عليه بالإنجليزية: «تصدير الزبد التابع للاتحاد السوفيتي الاشتراكي.»
قال المدير: «أنا أعلم أن الفلاحين يتضورون جوعا، وفكرة إرسال هذا الزبد ليطعم أجانب قد أحسن غذاؤهم تمزقني تمزيقا كأنها السكين الماضية، ولكن ماذا أصنع؟ أنا مأمور لأطيع، بل إني متأخر جدا في إنتاج ما يجب إنتاجه وفقا للخطة؛ ولذلك فعقابي آت لا ريب فيه، إن الفلاحين يسرقون اللبن لأنهم جياع، والأبقار لا تحلب لأنها لا تجد ما يكفيها من علف.»
فأجبته: «ومع ذلك كله فلا بد من معونتك لي، لا بد من تغذية الأطفال، ولست أشك في أن صناعة الزبد تترك من المخلفات ما يمكن أن نستفيد منه.» - «من اليسير عليك أن تقول ما أنت قائل، لكني - مثل ماكارنكو - لست مطالبا فقط بتحقيق ما تضعه الإدارة المركزية من خطط، بل لا بد لي إلى جانب ذلك من إطعام الموظفين في الإقليم، فكلهم - كوبزار وبلوسوف وأعوانهم الكثيرون - يأخذون مني الزبد واللبن.»
فقلت: «سينصرف اللبن المخيض كله منذ اليوم إلى مشروع الأطفال الجديد.» - «لا بأس بقرارك هذا من ناحيتي، لكني لا بد أن أتلقى موافقة على ذلك من رؤسائي.» قال مدير المصنع ذلك ثم سكت لحظة كأنما يستجمع كل ما في جعبته من شجاعة مدخرة، وقال: «لا، لن أستأذن في ذلك أحدا، مر رجالك أن يحضروا غدا ليحملوا المخيض، إنني كذلك والد لأطفال.»
ثارت في نفسي ثورة الغضب إذ أنا عائد بالعربة إلى القرية، إنهم يصدرون الزبد وسط هذه المجاعة! لقد صور لي الخيال كيف ينعم أهل لندن وبرلين وباريس بأكل الزبد الذي طبعت عليه العلامة التجارية السوفيتية، كما صور لي الخيال كذلك أنهم إذ يأكلون زبدنا لا بد قائلون: «إنهم في روسيا يتقلبون في النعيم ما دام في مستطاعهم أن يرسلوا هذا الزبد خارج بلادهم، ها هو ذا أيها الأصدقاء برهان الاشتراكية في صورة عملية.»
لم أسمع خلال عودتي بين الحقول أحدا يتغنى بأناشيد أوكرانيا الحبيبة إلى فؤادي، لقد نسي الناس كيف يكون الغناء، لم أسمع سوى أنات قوم يلفظون أرواحهم، وإلى جانبها في أذني رنات مصمصة الأجانب البدينين وهم يستمتعون بزبدنا.
لما بلغت المزرعة التي كنت أشرف عليها، وجدت الناس يحصدون الشوفان والشعير، كما وجدت أن بضع مئات من الأطفال قد جمعوا من القرى ووضعوا في الحدائق ليتم لهم الغسل والتنظيف، وقد عرف «إيفان بتروفتش» كيف يوحد العمل، وكان يعاونه نحو عشرين رجلا وامرأة، وكانت زوجة شاداي - وهي مضيفتي - مشغولة مع غيرها من النساء في تبييض المنازل، فأذاب حبي لهؤلاء الناس في بساطتهم ما كان يتأجج في رأسي من أفكار الغضب، لقد شهدت هؤلاء الناس تكرههم على العمل عذبات السياط وطلقات البنادق، وها أنا ذا أراهم مدفوعين في إيثارهم لأداء عمل مشترك لا يخالطه شيء من الوعيد.
ولما كنا على مائدة العشاء في ذلك المساء، جاء رجل من حظيرة الجياد ينبئ «شاداي» أن حصانا قد مات لتوه، فأمره «شاداي» أن يسلخه وأن يرمي الجثة بعد ذلك بعيدا عن القرية بمسافة طويلة، وأن يصب عليها غازا (كيروسين) ثم يغطيها بالجير المحترق، ثم اتجه لي شارحا أنه إن لم يفعل ذلك جعل القرويون الجياع من اللحم الموبوء طعاما لأنفسهم، وبعدئذ جاءنا المعلم والطبيبة وأنبآنا أن الأمور تجري على نحو طيب، فالشعير الجديد قد جفف في الأفران ليوزع على أبناء المزارعين في اليوم التالي فيأكلوا بذلك أول إفطار جيد يقدم لهم، كذلك ذبح عدد من الخنازير.
قال «إيفان بتروفتش»: «لقد علمنا بنبأ المخيض، لكن ذلك لا يكفي؛ لأن بعض الأطفال قد ساءت حالهم إلى حد بعيد، لا بد لنا من اللبن ذاته.»
فكرت لحظة، وكنت حينئذ قد بلغت حدا بعيدا في الخروج على القواعد وفي «التخريب» حتى إنه ليسهل أن أمضي في الطريق خطوة أبعد.
قلت: «يا شاداي، ها أنا ذا أفوض لك بصورة رسمية أمام هؤلاء الشهود ألا تعطي لبنا بعد الآن للموظفين الذين جروا على أخذه، وأن تحتفظ بثلث الإنتاج كله لإرساله إلى منزل الأطفال، وعليك أن تبلغ «دمشنكو» أن ينفذ هذا الأمر بعينه في مزرعته.»
ولما أويت إلى مخدعي في المساء أخذت أفكر في هذه الطبقة الجديدة الممتازة في القرية، أعني رجال الحزب ورجال السوفيت الذين كانوا يستولون على اللبن والزبد والمؤن من المخزن التعاوني في الوقت الذي كان الناس فيه من حولهم يموتون جوعا، إن هؤلاء الموظفين كانوا يتلقون الأوامر من المركز الرئيسي فيتقبلونها في طاعة العبيد غير آبهين للآلام التي كان يعانيها الشعب من حولهم، إنه لمما يحز في النفس أن ترى ما يؤدي إليه الامتياز من فساد الخلق، فهؤلاء الرجال الذين كانوا منذ أعوام قلائل من الفلاحين الفقراء، قد زالت عنهم بالفعل آخر علامة من علامات الشبه بينهم وبين جيرانهم، وأصبحوا طبقة ممتازة بعيدة عن الناس، يعيشون في زمرة وحدهم يتآخى أفرادها ويعين بعضها بعضا ويتحدون معا عصبة تناهض الشعب.
ذهبت في اليوم التالي لأشاهد الحاصدين والدارسين وآلات الذر، وكانت الأجزاء البديلة التي أرسلت في طلبها لإصلاح الآلات قد وصلت وأخذ الرجال يصلحونها، وبينما كان عضو من أعضاء اللجنة الإدارية للمزرعة يقص علي ما يصادفه من صعاب، جاء فلاح وأسر في أذنه شيئا.
فقال عضو الإدارة: «ارفع صوتك حتى يسمع قولك الممثل الرسمي.» - «إذن فاسمع قصتي أيها الرفيق المندوب من الهيئة الرسمية، مات حصان ليلة الأمس، فسلخ جلده ثم غمست الجثة في غاز (كيروسين) وغطيت بالجير المحترق، لكنهم حين ذهبوا صباح اليوم لدفنها لم يجدوا لها أثرا، فقد حمل الناس أثناء الليل هذا اللحم الفاسد الموبوء، يا إلهي! إلى أية حال وصل بنا الأمر أيها الرفيق؟!»
دنا يوم الحصاد، وشاع في القرية روح جديد، فالكثرة الغالبة من الأسر كان لكل منها في روضة الأطفال التي يشرف عليها «إيفان بتروفتش» طفل أو أكثر، ووزع شيء من الشعير على أعضاء المزرعة جميعا، وبعد أن انفض الاجتماع، بقيت لأتحدث إلى الناس، فأخرج أحدهم عودا، وعزف فلاح على زامرة، فعادت أناشيدنا الأوكرانية إلى سمعي من جديد، واطمأن إلى ذلك قلبي.
وجاءني شاب يحمل إلي رسالة لم يستطع أن يجري بها لسانه لكنه جاهد حتى أخرجها تمتمة. - «أيها الرفيق الممثل الرسمي! أنت مطلوب في مكتب السوفيت، شخص هناك يريد لقاءك، شخص من ... من ... الشرطة السياسية.»
فسكت عن الغناء أولئك الذين كانوا على مقربة منا بحيث يسمعون ما يقال، وقعت هذه الكلمات المخيفة وقع الصواعق، ودار الخبر بين الحضور أني مطلوب لمقابلة رجال الشرطة السياسية، فخيم عليهم سكون وتوقع الجميع كما علمت من رؤساء المزرعة؛ توقع الجميع في القرية أنني سألقى عقابي جزاء ما هيأت للناس من قوت.
فلما أن ذهبت إلى مكتب السوفيت، وجدت ضابط الشرطة السياسية الأنيق الذي كنت قد لقيته في القسم السياسي، وكان هناك كذلك «كوبزار» و«بلوسوف»، فوجهت الخطاب إلى «كوبزار» قائلا: «لماذا لم تحضر اجتماع اليوم وقد طلبت إليك الحضور؟»
فقال مجيبا في تمتمة وتجهم: «آسف فقد شغلتني شواغل أخرى.»
ثم قال ضابط الشرطة السياسية: «أريد أن أتحدث إليك على انفراد أيها الرفيق كرافتشنكو.»
قلت: «لا مانع من ذلك، فاصحبني إلى مكتبي في المزرعة.» وبينا نحن في طريقنا ثم بعد أن استوينا إلى مقعدنا في المكتب، دار بيننا حديث عام عن شئون القرية واحتمال أن يجيء المحصول جيدا وما إلى ذلك من أمور.
ثم قلت له آخر الأمر: «أيها الرفيق سكوبين، خير لنا أن نأخذ في الكلام عن الحقيقة العملية، ما الذي جاء بك إلى هنا؟»
قال: «إذن فاعلم أن قد وصلنا كثير من الأنباء والتقريرات الرسمية عما صنعته هنا، وصفوة هذه الأنباء والتقريرات كلها هي أنك لا تقف عند حدود القانون، تتجاهل أوامر الحزب ولا تبالي بالسلطات المحلية.» - «ماذا تعني حين تقول «وصلنا»؟ هل تشير بذلك إلى رئيس القسم السياسي؟ أهو الذي طلب إليك الحضور ها هنا؟» - «هذا خارج عن الموضوع.» - «كلا بل هو أساس الموضوع كله، هل خول لك أولو الأمر أن تراجع فعلي؟» - «بل جئت ها هنا لأتحدث إليك حديث الصديق مع صديقه، وليس في الأمر مراجعة.» - «أيها الرفيق سكوبين، إنني أفعل ما أراه حقا، ولست بمستطيع أن أناقش معك ما يبرر فعلي، هنالك شخص واحد في مستطاعه أن يوجه إلي السؤال، وذلك هو رئيس القسم السياسي، أنا هنا الممثل الرسمي للجنة الإقليمية وأنا مسئول أمام تلك اللجنة وحدها عما أصنع، وواجب السلطات المحلية أن تعينني، ولكن رجالها بدل أن يساعدوا تراهم لا يصنعون شيئا سوى أن يملئوا بطونهم بالطعام الجيد، في الوقت الذي يموت الناس فيه جوعا، وعندي قوائم أثبت فيها ما أخذه كل موظف من المزرعة ومن مخزن القرية لاستعماله الخاص، أنا أعلم علم اليقين من هؤلاء الذين يستنكرون صنيعي، ولكني أعلم كذلك ما هم غارقون فيه من شراب ومجون، لقد علمت عن ذلك شيئا كثيرا.» - «صدقني أيها الرفيق «كرافتشنكو» أنني هنا بمحض مشيئتي، وأن الرئيس لا يعلم عن هذه الزيارة شيئا، فقد رأيت أن أحدثك حديثا قصيرا قبل أن أقدم الوثائق للرئيس، فقد بلغني أنك أخذت مقدارا من مصنع الزبد ومن المخازن التعاونية، وأنك تتصرف في إنتاج اللبن التابع للدولة، فتجريه في غير ما أريد له من مسالك، وأنك تحصد الغلة قبل أوان حصدها، وهذه كلها أمور خطيرة.» - «إذا شئت فارفع تقريرك إلى القسم السياسي، وقل لهم: إنني مصر على فعلي، وسأذهب هناك غدا لأقرر أمري بنفسي، وبعد، فهل تريد أن تجول في القرية جولة أيها الرفيق سكوبين؟» - «لا، لا يتسع وقتي لذلك، مع السلامة - إذن - ولست في هذا إلا مؤديا واجبي كما أراه.» - «مع السلامة أيها الرفيق، وسأراك غدا.»
وذهبت في اليوم التالي فقابلت الرفيق «سومانوف».
قال لي: «كنت على أتم صواب حين رفضت الحديث مع «سكوبين» دون استئذاني بذلك، إن هؤلاء الكسالى في قراك ليستنكرون ما تصنع فيما يكتبون؛ ليكون ذلك بمثابة التأمين لأنفسهم إذا ارتبكت معك الأمور، أنا أعلم أنك بذلت مجهودا، وأعلم ما أقدمت عليه من مخاطر، وسأحمل معك تبعة ما صنعت، فإذا ما أجرينا الحصاد وأسلمنا المحصول للدولة في الوقت المحدد، ذهبت كل معالم الخطر، وإلا فقد طاح رأسانا معا.» - «أيها الرفيق سومانوف، لقد صارحتك بكل شيء، فلم أخف عنك شيئا مما صنعت، لكني أريد أن أحمل عبء التبعة وحدي، وهاك الرسالة التي بعثت بها إلي وفوضت لي فيها - وإن يكن تفويضا في عبارة غير قاطعة - أن أصنع ما أشاء، ها أنا ذا أردها إليك.»
أخذها ووضعها في جيبه ثم صاح رفيقي «سكوبين»! وعندئذ دخل الضابط. - «هات لي من فضلك ملف الأوراق والإقرارات الخاصة بالرفيق كرافتشنكو.»
وأحضر «سكوبين» ملفا ضخما، أعطانيه «سومانوف» بدوره، وغادر المكان، ولبث خارج الغرفة حتى فرغت من قراءته، وقد كتبت مذكرة بأسماء المخبرين التابعين للقسم السياسي الذين قرروا في غير صالحي، وأسماء الموظفين الذين استنكروا فعلي، ووعد «سومانوف» بعدئذ أن يبيد الملف، ووضعه في خزانته حتى يحين يوم إبادته. - «سأزورك في لوجينا غدا، فاجمع الموظفين هناك، وسأرينهم الجحيم الذي يستحقون.»
ولما عدت إلى القرية راجعت أسماء المخبرين على القائمة الرسمية بأسماء سكان المكان، فوجدت أنهم موزعون في أنحاء الإقليم توزيعا فيه شيء من العناية، فواحد في دكان التعاون، وآخر في مصنع الزبد، وثالث في إدارة المزرعة، ورابع يشتغل سائقا في محطة الجرارات الآلية، وهكذا كان للشرطة السياسية عيونها وآذانها أعدت بحيث يصبح كل شيء منها على مرأى ومسمع، وإذن فقد كان خلف أصحاب الأمر الاسميين ومديري الاقتصاد الصوريين شبكة من الجواسيس، بعضهم ينتمي إلى الشرطة السياسية، وبعضهم الآخر ينتمي إلى الحزب، فكل لا يدري شيئا عمن عداه، وهكذا وجدت أن وراء الحكومة الظاهرة حكومة أخرى بمعنى الكلمة الدقيق.
وفي ساعة متأخرة من ذلك النهار، صادفت «إيفان بتروفتش» في بعض الطريق، فكان يتهلل بكثير من البشر الذي أثاره في نفسه ما يؤديه من عمل.
قال لي إذ نحن سائران معا: «ما أجمل أن ترى الأطفال في طريقهم إلى العافية! ما أجمل أن ترى طفولتهم تعود إليهم من جديد! إننا نعلم جميعا ما أنت مجازف بنفسك فيه من خطر، ولئن أردت صراحة، فاعلم أن القرية كلها يساورها القلق لهذه الدعوة التي جاءتك من ضابط الشرطة السياسية.»
فابتسمت قائلا: «لا يساورنكم قلق فالآلهة ترعاني، أو هي قد رعتني حتى الآن في أقل تقدير، لكني مغتبط أن أرى الفلاحين على دراية بالموقف، وها قد آن لهم أن يردوا لي صنيعي جميلا بجميل، فيحسنوا إلى أنفسهم إذ يحسنون إلي؛ ذلك أن الحصاد قد دنا موعده، وأريد منكم أن تذيعوا في الناس أنني لا أريد منهم شكورا، إنما أريد العمل، أريد العمل النشيط، أريد العمل موصولا في الليل والنهار، إذ قد يكون من الناس من يركن إلى التراخي.
بلغ الناس هذا: يا أعضاء المزرعة الجماعية هل تريدون أن تبقوا للرفيق كرافتشنكو على حياته؟ إذن فاجمعوا الغلة وادرسوها وقدموها وفقا للخطة المرسومة، إنني لا أحسن الشفاعة أرجوها لنفسي، ولكنكم أنتم تحسنون.» - «كن على يقين أني فاعل لك ما تريد، فلك في هذا البلد أعوان، صدقني فيما أنبئك به، إن من يتراخى في أداء واجبه خير له أن يصلى نار الجحيم، فلن نخلي بين أحد منا وبين التراخي.»
ولما ذهبت إلى مكتب السوفيت في اليوم التالي، كان «سومانوف» قد وصل، فقد سمعت جلجلة صوته من بعيد، وكان موظفو الإقليم جميعا وبينهم مدير المخزن حاضرين.
قال رئيس القسم السياسي وكأنما يضع للسامعين قاعدة هي القانون: «إن الرفيق كرافتشنكو ها هنا هو صاحب الأمر، والقانون هو ما يصدره لكم من أوامر، إن الزمن ليمضي سراعا، وليس لدينا مدخر من الجهد ننفقه في الإنصات إلى لغوكم، فهيا إلى العمل وعاونوه، اذهبوا إلى الحقول بأنفسكم، فإن في ذلك خيرا لأبدانكم، وها هو ذا الممثل الرسمي قد أتانا بشخصه!»
حياني تحية المشتاق كأنما قد غبت عنه السنين، وقد أراد بهذه المظاهرة الودية أن يؤثر في أعدائي، وغادرنا معا مكان الاجتماع، وذهبنا إلى مقر إدارة المزرعة الجماعية.
قال: «فكتور أندريفتش، إني سليل أسرة مزارعة، وما يعانيه أهلي يحز فؤادي، ليس هناك إلا الدموع والدماء والموت والنفي، ولماذا؟ إن الأرض خصبة والقوم جادون، فلماذا نراهم يتضورون جوعا ويموتون ويردون موارد الهلاك ثم نغضي؟ إنني كلما ازددت في الأمر تفكيرا ازددت حيرة، سأرسل لك بعد يوم أو يومين مزيدا من الدقيق ومزيدا من أجزاء الآلات الدارسة.
لكن ليس ذلك ما أردت في حقيقة الأمر أن أنبئك به، إنما أردت أن أعبر لك عن عظيم تقديري لما صنعت، وخاصة ما صنعته للأطفال.» قال ذلك ثم وقف في الطريق بغتة وعاد يقول: «فيكتور أندريفتش، كلانا شيوعي، لكننا كذلك إنسانان من البشر، سأدفع عنك الأذى كما أدفع الأذى عن شخصي.»
ومضى بعد ذلك يومان فكان كل شيء على أتم إعداد، وما أن لمعت تباشير الصبح حتى جست بالعربة خلال الحقول، فوجدت أعضاء المزرعة رجالا ونساء، قد سبقوني إليها، يجمعون أعواد الغلال ويحزمونها، وبعد قليل جاءنا موظفو الإقليم يعرضون ما في وسعهم من معونة، فقد فعلت الخطبة - فيما يظهر - فعلها في نفوسهم، ساد الجميع شعور الجد والنشاط، وكما يعرف سائق السيارة أن سيارته ستحسن السير حين يسمع لآلاتها دمدمة يعرفها، فكذلك أنا في ذلك الصباح، استطعت أن أحكم بالبداية التي رأيتها أن كل شيء على ما يرام.
كانت المئونة من زاد وماء قد أرسلت على عربات إلى الحقول في الليلة السابقة، وأقيمت للأطفال الخيام، فهؤلاء الفلاحون يؤثرون لأنفسهم أن يقيموا في الخلاء بعيدا عن دورهم حتى يتم الحصاد، وها هم أولاء يعملون الآن ما اعتادوا في الأيام السوالف أن يفعلوه، وأذنت لهم أن يذبحوا ثورا وعددا من الخنازير، وعلى الرغم من أن بين هؤلاء المئات من الرجال والنساء الذين لم يجدوا في هذا الطعام ما يشبع بطونهم، وعلى الرغم من أنه لم يكن بين هؤلاء المئات إلا عدد قليل لم يدب في أجسادهم الضعف أو لم يهدهم المرض بالفعل، فقد أخذ الجميع في غناء ومزاح وعمل منذ شروق الشمس حتى غروبها.
وهمس «إيفان بتروفتش» في أذني قائلا: «كن مطمئنا، فكلهم راغب في إنقاذك من الموت.» فضحكت وضحك.
ولما جاء اليوم التالي أنفقت النهار في المزرعة الجماعية التي يشرف عليها «دمشنكو»، فوجدت أن الحصاد قد بدأ هناك كذلك بدءا طيبا، وأن الروح السائدة ليس بعدها زيادة لمستزيد، ولم تمض أيام قليلة، وكان جمع المحصول لم يزل قائما، حتى بدأت جماعات جديدة في درس الغلال، وأخذ الحب يندفق اندفاقا في عربات مملوءة نحو الآلات الروافع.
وحدث ذات يوم - إذ كان الحصاد في ذروته - أن ركبت إلى مزرعة «دمشنكو» فوقع بصري على إحدى آلات الحصاد وقد وقف دولابها وتعطلت، عندئذ أسرعت نحوها لأستفسر عن السبب في تعطلها، فإذا أنا أعلم أن عاملها قد سقط في غيبوبة من شدة الإجهاد، وأحاط به عدد كبير من النساء يحاولن رد شعوره إليه، فأمرتهن أن يحملنه إلى القرية، وأخذت مكانه بنفسي من الآلة الحاصدة، وكان قد طال بي العهد منذ آخر مرة عملت فيها على مثل تلك الآلة، فأشاع العمل في نفسي لذة، وأسعدني أن أواصله ساعة بعد ساعة.
ولما دنا شفق الغروب، أخذ العمل عني عامل آخر، وعندئذ كشفت عن خسارة فادحة ألمت بي، وتلك أني فقدت محفظة نقودي، فلم يحرك من نفسي شيئا أني فقدت كل ما كنت أملك من مال، إنما الذي اضطربت له هو أن وثيقة انتدابي قد ضاعت كذلك، وضاعت معها تذكرة الحزب، وبحثنا في الحقول ذلك المساء وفي اليوم الذي تلا، لكننا لم نجد للمحفظة الضائعة أثرا، فأبلغت القسم السياسي واللجنة الإقليمية، وتوقعت أن يكون لهذا الحادث أسوأ الأثر في حياتي مدى أعوام طوال.
ثم تبع هذا الغم غم آخر، وهو أني تلقيت من القسم السياسي هذا الأمر: «بناء على تعليمات اللجنة المركزية التنفيذية، عليك أن تعد كنيسة القرية مخزنا لغلة الحكومة، وينبغي أن يتم هذا الإعداد في ثمان وأربعين ساعة، حتى إذا ما أتممت هذه المهمة أبلغت بذلك.»
اضطربت لهذا الأمر يصدر إلي، إذ لم يساورني شيء من الشك فيما يقابل به الفلاحون مثل هذا الفعل من شعور، إنه فعل سخيف كأنما دبر ليكون حجر عثرة يقف عندها دولاب العمل في حصاد هو للبلاد بمثابة الحياة، لكن «كوبزار» و«بلوسوف» وغيرهما أثلجت صدورهم بمثل هذا؛ لأنهم أخذوا رويدا رويدا وفي تدرج غير محسوس، ينقلبون للناس في ذلك الإقليم أعداء لا لشيء سوى أنهم يستمتعون بالعمل الذي يمقته الناس في سائر القرى، هم أعداء الناس لهذا السبب وحده (أعني لأنهم يؤدون واجبهم في اغتباط)، وجردت الكنيسة من تعاليقها ومصابيحها وتحفها، جردها بعض الشيوعيين الشبان.
وسرى النبأ في الحقول سريان النار في الهشيم، فما أن سمعه الناس حتى رأيت عشرات من الفلاحين يقذفون بأدواتهم ويهرعون إلى القرية مسرعين، يستنزلون اللعنة تارة ويستعطفون ويبكون طورا عندما شهدوا ما نزل من نفوسهم منازل التقديس يزول من مواضعه، إن قدسية هذه الأشياء في نفوسهم لم تكن إلا جزءا مما أنزل في قلوبهم الأذى، إنما آذاهم حقا ما أحسوه في الأمر من إهانة صريحة لكرامتهم الإنسانية.
وسمعت فلاحا كهلا يقول: «لقد أخذوا منا كل شيء ولم يتركوا لنا شيئا، وها هم أولاء يزيلون عنا آخر ما بقي لنا مما يبعث الطمأنينة في نفوسنا، فأين عسانا بعد اليوم منصرون أبناءنا ودافنون موتانا؟ أين عسانا بعد اليوم متجهون بأبصارنا إلى شيء من العزاء فيما نحن فيه من ألوان الأسى؟ لعنة الله عليهم من مجرمين! لعنة الله عليهم من كافرين!»
لم يكن لي إزاء هذا حول ولا قوة، ولقد تذرعت وتذرع «إيفان بتروفتش» بكل ما لدينا من جهد وبلاغة لكي نعيد للعمل اطراده، وفي اللحظة التي ظننا أن قد كلل مجهودنا بالنجاح وقعت حادثة جديدة فقلبت لنا كل شيء رأسا على عقب من جديد، وقعت هذه الحادثة يوم الأحد التالي، وهي أن أمين الهيئة الشيوعية للشبان - وهو شاب بليد الحس شائه الوجه يدعى «شز» - ظهر فجأة في الطريق، وكان يعزف على العود وإلى جانبه صديقته، وكان يغني أناشيد تهزأ عباراتها بالدين، وكان ذلك في ذاته منظرا مألوفا، ولكن الذي أثار الثائرة هو ما كان على هذين الصديقين من رداء، فقد لبس هذا الشاب وصديقته قميصين من الحرير الأحمر الناصع، يمسكهما عند الخاصرة خيوط مذهبة وأفواف من حرير، ولم تكن هذه إلا تعاليق الكنيسة المنزوعة، رآها الفلاحون فعرفوها من فورهم، وثارت في نفوسهم نار الغضب التي سرعان ما انقلبت إلى روح اعتداء عنيف على الشاب وصديقته، ولم ينقذهما من الموت إلا أنهما كانا أسرع عدوا ممن تعقبوهما من الفلاحين الكهول، فأويا إلى الدكان التعاوني، وبذلك سلما من أيدي الشعب الثائر.
ولما جاءني نبأ هذه الحادثة أرسلت إلى «شز » أدعوه للحضور.
وصحت في وجهه: «لماذا سرقت تعاليق الكنيسة؟» - «لست لها بالسارق، إنما أخذتها علنا، وقد فعل مثل فعلي كثير سواي من الرفقاء.» - «إذن فلا بد لك ولسائر هؤلاء الرفقاء أن تردوا كل شيء إلى مكانه، هل تسمع ما آمرك به؟ وإن لم تفعلوا بعثت بكم إلى الشرطة مصحوبين بكل مجرم يناصركم، وشيء آخر، ما دمت ها هنا فلن أسمح بأغنية تهزأ بالعقيدة الدينية تنشد في الطريق العام، هذا مني أمر واجب الطاعة.»
ومضت أيام قلائل بعد ذلك، وذبح الفلاحون ثورا كبيرا، وملحوا لحمه وحفظوه في برادة ليكون طعاما في أيام تالية، فلما أقبل المساء جاءني «شاداي» ينبئني أن جزءا من اللحم قد سرقه سارق، فدعوت كاراس إلى الحضور من محطة الجرارات الآلية، وقبل أن يعاونني في الأمر، فانتظرنا جميعا حتى انتصف الليل أو كاد، وعندئذ حمل «شاداي» و«كاراس» بندقيتين من بنادق الصيد وحملت أنا مسدسا، وكان لكل منا شيء من الحدس النافذ عمن عسى أن يكون السارقون، واعتزمنا أن نتابع البحث في غير إبطاء.
قلت: «لنقف في عرض الطريق فنصطحب «كوبزار» كاتم السر، فلا بد له أن يكون عالما بما يقع في منطقته.»
كانت داره معتمة، وطرق الباب «شاداي» فلما لم نسمع جوابا دفعه بيده، وهنا فوجئنا بأصوات، فدخلت الدار وأضأت مصباحا يدويا معي، فصاحت امرأة، وأدرت ضوء المصباح نحوها، فرأيت شابة عارية من رأسها إلى قدمها، رأيتها تحاول أن تستر وجهها برداء، وأخذت تصيح فزعة، ثم خرجت على هذا النحو مسرعة من الدار حيث يسترها ظلام الليل.
أضأت مصباحا كان على المنضدة، فرأيت زجاجة من شراب الفودكا وإلى جانبها رأيت كأسين وقطعة كبيرة من الشواء، وكان «كوبزار» جالسا على السرير وقد أوشك جسمه أن يكون عاريا عما يستره، منفوش الشعر مأخوذا، ورأيت في إناء خشبي على أحد المقاعد قلب ثور كبير.
سألته: «أنى لك هذا اللحم؟»
قال: «اشتريته ... من الدكان التعاوني ... ولك أن تحقق صدق ما أقول.» - «سأفعل بلا تردد، هيا معي يا رفيقي، ولنتركه حتى يفرغ من طعامه، بما فيه من قلب الثور الذي أرى.»
سار «شاداي» أمامنا وتبعناه في طريقنا إلى أعلى التل حيث دار في أطراف القرية وكانت تلك الدار - فيما روى الناس - مقر «العربة» التي كان يتحدث بها الفلاحون حديث الممرور، ومشينا في حذر وصمت حتى دنونا من الدار، ونظرت خلال كسر في شيش النافذة إلى غرفة كبيرة، فرأيت منضدة قد أثقلتها حمولة من الزجاجات واللحم وألوان الخضر، كما رأيت رجالا ونساء تلاقوا كما يتلاقى العاشقون، ثلاثة رجال هم: مدير الدكان التعاوني ووكيله والطحان، وثلاثة نساء على درجات متفاوتة من العري.
وقف «كاراس» عند الباب الأمامي، ووقف «شاداي» عند الباب الخلفي، ونقرت أنا على النافذة.
فصاح صائح في فزع: «من الطارق؟» - «أنا ممثل الحكومة الرسمي، افتح توا وإلا رميتك بالرصاص.»
وفتح الباب فإذا مجمع اللهو قد انقلب مشهدا للاضطراب والجزع، وأخذ النساء في البكاء، فقالت إحداهن: «إنما جئت إلى هنا مدفوعة بالجوع.» وقالت أخرى باكية: «لقد دفعوني إلى الحضور دفعا.» فأمرت النساء أن يرتدين ثيابهن ويغادرن المكان، ثم طلبت إلى رفيقي أن يفتشا الدار، فوجدا مقدارا من اللحم وكثيرا من الزبد والجريش والعسل، كما وجدا عددا كبيرا من أكياس الدقيق.
صحت صيحة غاضبة: «بينا يموت جيرانكم جوعا، تسرقون من أفواههم الطعام أيها القعدة؟ ثم تسمون أنفسكم شيوعيين! احملوا هذه المؤن على ظهوركم وسيروا بها الآن إلى دار السوفيت!»
سرت خلف الرجال الثلاثة حتى بلغنا دار السوفيت في القرية، ولما أصبح الصباح جاء فريق من الجند وساقوا اللصوص الثلاثة إلى المحاكمة في عاصمة الإقليم «بيانيخانكي»، ولما شاع النبأ في القرية سخط له الفلاحون.
قال لي كثير منهم: «ما كان ينبغي لك إرسالهم للمحاكمة، فنحن أعلم من المحكمة بما يجب أن يلاقوه.»
ولما بدأنا تسليم محصول الغلال إلى مخازنه القريبة من محطة السكة الحديدية، كشفت عن حقيقة وقعت فظاعتها من نفسي وقوع الصواعق؛ ذلك أني وجدت في تلك المخازن مقدارا هائلا من غلة العام السابق! كانت هذه الغلة المخزونة ما أمرت به الدولة من احتياطي يحفظ لهذا الإقليم، فانظر إلى هذا المقدار من الغلال يأمر الموظفون الرسميون بإخفائه عن أعين القوم وهم يموتون من الجوع! لقد مات مئات من الرجال والنساء والأطفال في هذه القرى، ماتوا من قلة الغذاء، في الوقت الذي خزنت فيه الغلال قاب قوسين من دورهم أو أدنى!
وحين كشفت عن «احتياطي الدولة» من الغلال، كان معي طائفة من الفلاحين، فحدقوا الأبصار لا يكادون يصدقون ما هم مبصرون، ثم أخذوا يسبون في ثورة من غضب، وبالطبع لم ألمهم على سبابهم ذاك، لكني استحلفتهم ألا يذيعوا النبأ في الناس حتى لا تتحطم فيهم القوة المعنوية فتتأثر بذلك حركة الحصاد، وقد علمت فيما بعد أن هذا الأمر بنفسه وقع في كثير من أنحاء البلاد، فتخزن الحكومة الغلة احتياطا، وبموت الناس من جوع، فيم هذا الفعل؟ إن الجواب عند حاشية ستالين السياسية وحدها وهي لا تجيب.
تم الحصاد فخرجت أشق الحقول ذات يوم رخي في عربة صغيرة، وكانت الشمس قد مالت للغروب، فسمعت على مبعدة أنشودة الحصاد يغنيها رجال ونساء اختلطت أصواتهم في امتزاج جميل، فها هم أولاء يرسلون أصواتهم بالغناء مرة أخرى بعد كل ما شهدوه من موت وشقاء، الله لهؤلاء الناس من أهل التربة الأوكرانية في بساطتهم المباركة وطيبتهم التي ليس لها حدود!
وما هو إلا أن رأيت المنشدين يسيرون نحوي موكبا وعلى رأسه المعلم «إيفان بتروفتش»، فما كان أوقعه في القلب من منظر: الرجال في أبهى حللهم والنساء في أرديتهن المطرزة التي يلبسنها في مواسم العطلة، وعلى رءوسهن أكاليل من ورود الحقول، وفي وجوههن علائم الفرح الذي لا تشوبه شائبة، فأوقفت الجواد وترجلت، ودنا موكب الناس مني ثم وقف، وقد كان قوامه ما يقرب من مائتي فلاح وفلاحة.
قال المعلم في صوت يسمعه الحضور جميعا: «فيكتور أندريفتش، لقد وفينا ما وعدنا، فالحصاد في مخازنه قبل الموعد المضروب بعشرة أيام، وقد رأيت بعينيك كيف كان منا العمل، وإنك لتعلم أن كثرتنا الغالبة كانت جائعة ضعيفة من شتاء فربيع كلاهما فظيع، وإن ذلك منا البطولة بعينها.»
فأجبته قائلا: «أشكرك يا إيفان بتروفتش، وأشكركم جميعا يا رفاق.»
وانفرط الموكب وعزفت الزامرات ورقص الشباب، وجاء «شاداي» و«دمشنكو» فوقفا إلى جواري، لقد مات ما يقرب من نصف سكان الإقليم في العام المنقضي منذ الحصاد الماضي، ماتوا من الجوع ومن الأمراض التي تتفشى بسبب الجوع، وها هم أولاء أحياؤهم قد جددوا للحياة مجراها، ولئن كانت الدولة تستولي على معظم الغلة الجديدة، فجودة الحصاد ستجعل مما يبقى مئونة تقرب مما يكفي لحفظ أود الحياة عاما جديدة.
وأدب الناس مأدبة في فضاء الحقول التي كان يشرف عليها «دمشنكو»، فلما وجه إلي الدعوة لزيارتهم لم يسعني إلا القبول، على الرغم مما كان ينتظرني من واجب تحرير خطابات لا بد من تحريرها في غير إبطاء، وهناك التف مئات من الفلاحين حول الموائد، وأضاء المكان قناديل ومشاعل، وبعد ساعات قضيناها في الترحيب وتبادل التهنئة وإلقاء الخطب، انتهت حفلة العشاء إلى عزف ورقص، فها هنا أيضا تبدى الرجاء في عودة الحياة إلى مجراها من جديد.
وفي مساء ذلك اليوم كتبت في غرفتي تقريرا ختاميا رفعته إلى القسم السياسي، منبئا بتمام مهمتي قبل الموعد المضروب بعشرة أيام، كما أنبأت كذلك بأني ألقيت القبض على اللصوص وأوصيت بطرد «كوبزار» و«شز» وكثير غيرهما من الموظفين.
وحدث بعد ذلك بأيام قلائل أني كنت أفتش حقلا، فسمعت فجأة صوت سيارة، ونظرت فإذا أمامي سرب من سيارات كبيرة أنيقة جاءت منسابة على طول الطريق، فلم أشك في أنها جاءت تحمل طائفة من أهم الزائرين، واستحثثت جوادي وعدوت صوب السيارات فوقفت ونزل منها ستة رجال، ودنا مني أحدهم، فعرفت فيه الرفيق «هاتايفتش» فنزلت عن جوادي وسرت إليه.
تصافحنا، ثم قال لي في لهجة الجاد: «أيها الرفيق كرافتشنكو، متى فرغت من الحصاد؟» - «فرغت منه منذ ثلاثة أيام، أي قبل الموعد المضروب بعشرة أيام.» - «هكذا سمعت، كما سمعت أشياء أخرى، فمثلا، من ذا أذن لك أن تقطع الشوفان والشعير وأن تتصرف في ملك الحكومة من إنتاج اللبن؟ لماذا حرمت أن يعمل الناس ما ينافي العقيدة الدينية؟ أأنت عضو نظامي في الحزب أم أنت ضرب من ضروب الدعوة إلى الفوضى؟»
فأجبت في هدوء: «أيها الرفيق «هاتايفتش»، لم يسعني سوى أن أصنع ما صنعت، كان الأطفال يلفظون الروح وكانت الجياد في طريقها إلى الهلاك، ولم يكن لدى مزارعي الحقول الجماعية من القوة ما يستطيعون به حصادا، وها هي ذي الدولة قد تسلمت غلتها وافية وقبل الموعد المضروب، نعم، قد كلفني ذلك مقدارا من غلال، لكني بمثابة من استثمر هذا المقدار من الغلال ليحصل أضعاف أضعافه، فإن كان ذلك جرما فأنا على استعداد أن أحمل تبعته.»
فأمسك «هاتايفتش» بذراعي، وضغطها ضغطة فيها دليل الرضى على عكس ما دلت عليه ألفاظه الغلاظ، فلا بد أنه كان يبدي شيئا ويخفي آخر، تظاهرا أمام الذين صحبوه حتى لا تسود صحيفته، ثم سار في خطو بطيء حتى بعد عن مسامع أصحابه وحارسيه: «لقد أنبئت أنك صائر إلى أعمال الهندسة، وأنك من خيرة رجال الحزب، ولكني أشك في أنك قد أسأت فهم ما كان يجري من أمور، فبين الفلاحين ونظام الدولة حرب شعواء، إنها حرب حتى الفناء، وقد كان هذا العام امتحانا لقوتنا وقدرتهم على الاحتمال، ولم نتخاذل أمام المجاعة حتى ندلهم من يكون في البلاد سيدا، نعم دفعنا لذلك ثمنا ملايين النفوس التي أزهقها الجوع، لكن نظام المزرعة الجماعية باق، وبهذا خرجنا من القتال ظافرين.
أغلب ظني، أي رفيقي كرافتشنكو، أن قلبك أقوى من عقلك، فلو لان الجميع كما لنت لجاز ألا نظفر بالنصر في هذا القتال، ولا تحسبن أني بذلك أنحو عليك بلائمة، كلا بل إني لأعتقد أنك أديت مهمة تستدعي كل إعجاب، فلا بأس من أن أسر في أذنك أن قلبي - كقلبك - يقطر دما من أجل الفلاحين المساكين، لكني مع ذلك أحب أن تذكر أني وجهت إليك النقد، فإن سألك سائل فلا تنس أني حاولت أن أؤدبك بحيث تنطوي تحت طاعة القانون.»
فيظهر أنه حتى «هاتايفتش» الجبار يخشى على صحيفته في الدولة أن تسوء، كما يخشى من حركة «التطهير» القادمة.
وإن هي إلا دقائق معدودات بعد ذلك حتى أحاط به معاونوه وحارسوه المدججون بسلاحهم، وتحركت السيارات صوب القرية المجاورة فأثارت في الفضاء غماما من تراب، وركبت جوادي وعدت إلى دارى أتساءل: من ذا يا ترى قد وشى بي إلى «هاتايفتش»؟ لقد كنت على يقين أن «سومانوف» لم يكن هو الذي اقترف هذا الجرم مجاوزا به ما بيننا من عرى الود، فلا بد أنه «سكوبين» الذي كان في الظاهر خاضعا لأوامر «سومانوف»، أما حقيقة الواقع فهي أنه مسئول أمام الشرطة السياسية رأسا، وهي صاحبة السلطان الحقيقي في بلادنا، ولا شك كذلك أن «سكوبين» حين وشى، لم يكتف بالوشاية إلى واحد، بل أرسل عدة صور إلى أشخاص آخرين، وسيعلن المستقبل عن صدق هذا الرأي فيه، حين يحين يومي في حركة «التطهير».
تأهبت للرحيل، وكانت فورة النفوس التي نتجت عن توفيقنا في الحصاد قد هدأت، بل أخذ الفلاحون في إعلان تذمرهم من قلة نصيبهم من المحصول؛ ذلك أنه لم يبق إلا النزر القليل بعد أن دفع للدولة مقدار لقاء استخدام الآلات، ومقدار يسد النقص في الاحتياط المخزون، وبعد أن تسلمت الحكومة حقها كاملا من المحصول، فكانت نسبة ما بقي للمزارعين هي أربعة أرطال ونصف الرطل، أو يزيد قليلا، عن كل يوم في العمل لكل شخص، وهو مقدار يروعك بضآلته، أين هو مما يكفي لإطعام أسرة كاملة بله أن يمكن أصحابه من شراء الثياب وسائر ضرورات الحياة مدى عام كامل.
نعم، إنهم كانوا يأخذون بالإضافة إلى ذلك شيئا من أنواع الحبوب الأخرى ومقدارا من الخضر، ولكن ماذا كان في مستطاعهم أن يشتروه بما يحصلونه من كدح عملهم؟ إن أرخص حذاء يلبسه ريفي في ذلك الوقت كان ثمنه ثمانين روبلا، وأبسط رداء قطني كان ثمنه مائة، فبالأثمان الرسمية التي كانت الدولة تشتري بها الغلال، لم يكن الفلاح ليستطيع أن يشتري بأجوره مدى عام كامل أكثر من حذاء ورداء واحد! ولما كان النظام الحكومي نفسه هو الذي يشرف على شراء الغلال وبيع الحذاء سواء بسواء، ولما كان ذلك النظام يقتضي أن تحدد الأثمان في كلتا الحالين بما يلائم مصالح الحكومة، فقد كان ذلك النظام في حقيقة أمره استغلالا ذا حدين، وإلى جانبه رجال الشرطة السياسية والمستبدون من أعضاء الحزب يفرضون أنظمة اقتصادية لا تعرف شيئا من الرحمة الإنسانية.
كان بعض الفلاحين أميا لا يعرف القراءة، لكنهم جميعا، من يقرأ منهم ومن لا يقرأ، كانوا يفهمون الظلم بأوفى معانيه، ولطالما قالوا في نغمة الساخر: «اشتراكية، خير لك أن تسميها سرقة ونهبا، فتلك تسمية أدل على المراد.»
قابلت «يوري» خلال تلك الأشهر مرات عدة، وحدث ذات مرة أني تدخلت لصالحه في القسم السياسي فمنعت عنه عقابا، ولقد أيأسه ما صادفه من مر التجربة، وأحزنه أن يرى حركة الحصاد في مزرعته متأخرة عنها في مزرعتي بمسافة طويلة من الزمن، على أن علاقة الود بيننا كانت تقرب بين قلبينا، فكيف يسبق إلى ظني أنه سيصبح بعد أعوام واحدا من جماعة توجه إلي التهم حين كنت في موقف سياسي لا أحسد عليه؟ لست أشك في أنه صنع ما صنع مدفوعا بإرغام لم يكن له قبل برده.
ولما آن رحيلي أوشك أهل القرية جميعا أن يخرجوا لتوديعي، وقد سالت العبرات على وجه «إيفان بتروفتش» ذلك الكهل الرفيق، واستوعدني «شاداي» وأسرته أن أراسلهم، وأخيرا فرقع الحوذي بسوطه لجياده، فلوحت للمودعين مودعا.
الفصل العاشر
أول ما رأيت من حركة التطهير
لم يكن يسيرا علي أن أوائم بين نفسي وبين مجرى الحياة المألوفة بعد عودتي من أقاليم المجاعة، فالفصول الدراسية في المعهد، والمؤتمرات التي تعقد في المصنع، والاجتماعات المركزية بل ومكرورات الحياة اليومية في المنزل، كل هذه بدت لعيني تافهة بالقياس إلى ما عدت به من ذكريات، لقد كنت ثائرا قلقا، وحاول أبي أن يسترويني قصة كاملة عما شهدته، لكنه حاول عبثا فأمسك، وسرعان ما تنمو عند الشيوعيين مناعة تحول بينهم وبين التأثر بما تردده الصحف والمذياع والاجتماعات من ألوان اللجاجة الجوفاء، أما أنا فقد عدت من ثورة النفس بحيث كانت هذه الأشياء تحرك في صدري شجنا أوشك أن تكون له لذعة الألم ينزل بالبدن.
وإذ أعود الآن بالذاكرة إلى ذلك العهد، أراني أميل إلى العقيدة بأني إذ ذاك كنت قد بدأت في طوية نفسي وثنايا ضميري، أن أعتزل الحزب، فالمفازع التي شهدتها في الريف تركت في نفسي جروحا هيهات أن تندمل، ومع ذلك، فلهذا السبب عينه أخذ عقلي الواعي يتلمس تلمس اليائس طريقا يهادن به ضميري، وما أحسب أن قد كان أمامي طريق آخر، في ظروف تحتم عليك إذا أردت أن تعيش، أن تذعن للأمر الواقع الذي لم يكن منه مهرب لهارب.
ومع ذلك فلم يكن في مقدور إنسان أن «يترك» الحزب حين يشاء، بل لم يكن في مقدور إنسان أن يتراخى في نشاطه إزاء الحزب أو أن يبدي من الأمارات ما ينم عن ضعف إيمانه فيه، فإذا ما التحق إنسان بالحزب فقد وقع في الفخ إلى الأبد، نعم يجوز للحزب أن يطرده، ويكون معنى ذلك أن تنزل به الكوارث، لكن ليس في وسعه هو أن يتنحى منشقا عليه، فلو كنت أظهرت ما يدور في صدري من عواطف على حقيقتها؛ لكانت النتيجة إبعادي عن المدرسة ووصمي بالعار وتعقبي بألوان الاضطهاد، بل ربما كانت النتيجة المحتومة أن يزج بي في معسكرات الاعتقال أو ما هو شر من ذلك وبالا.
كان لزاما علي أن أكتم عواطفي بين جوانحي، كان لزاما علي أن أدسها دسا في أعماق فؤادي، هذا إلى ما بذلته جاهدا أن أستعيد للحزب ولائي، فلئن كان ذلك ضرورة في الظروف المعتادة، فقد كان عندئذ أشد ضرورة؛ لأن حركة التطهير قد نشرت قلاعها للريح.
عينت مئات من لجان التطهير، ولم يكن ليمضي طويل وقت قبل أن تعقد تلك اللجان اجتماعاتها العلنية في المصانع والمكاتب ودور الحكومة والمعاهد ، وكان على كل شيوعي في البلاد أن يذعن لما يطالب به من محاكمة واعتراف، واشتد شعورنا عندئذ بأننا محاطون من كل جانب بالعيون الرواصد والآذان المنصتة، تلك العيون والآذان التي تخفى عن النظر لكنك تحس وجودها في كل مكان، وكذلك اشتد شعورنا بالأضابير الضخمة التي سجلت في أوراقها دخائل حياتنا الخاصة ومكنون أفكارنا، وبأعدائنا الذين قد ينتهزون مثل هذه الفرصة فيبرزوا ما لنا من سقطات، ما هو حقيقي منها وما هو من نسج الخيال.
كان السؤال الذي يسبق إلى ذهني وإلى ذهن كل شيوعي إذ ذاك هو هذا: ترى هل تمضي عني موجة هذه المحنة سالما؟ هذا سؤال رن صداه في كل وجه من وجوه نشاطنا، وفي كل عبارة من أحاديثنا، لم نعد ندبر للمستقبل سبيلا، فلا مستقبل هناك إلا إذا اجتزنا في سلام تلك العقبة الكأداء.
كنت ترى في كل طابق من طوابق معهد سبك المعادن صندوقا خاصا أعد لتلقى به «الإقرارات» عن الشيوعيين، ممهورة بتوقيع مرسلها أو غفلا من التوقيع، وواصل أعضاء «القسم الخاص» خلف بابهم الحديدي ليلهم بنهارهم يرتبون تلك الشكاوى ويبوبونها ويقارنونها بعضها ببعض، فوقت التطهير هو الموسم الذي يتيح لكل إنسان أن يتصيد من يكن له ضغينة، هو الموسم الذي يفسح المجال للحاسدين والناقمين والمرائين.
كانت كل لجنة من لجان التطهير تتألف عادة من عضوين أو ثلاثة أعضاء وعليهم رئيس، كلهم من رجال الحزب الذين لا تشوب ولاءهم شائبة، ومثل هذه اللجنة تكون بمثابة المحكمة، لها حق الاتهام وحق القضاء في آن معا، وكان رئيس اللجنة التي عقدت في المعهد رجلا اسمه الرفيق «جالمبو»، وهو رجل ارتفع فيما بعد إلى منصب وزير الشعب لصناعة سبك الحديد.
فإذا ما تبين لإحدى اللجان عن أحد أنه معيب سحبت منه تذكرة الحزب وأصبح عضوا سابقا، وهو أمر يختلف كل الاختلاف عن كونه لا ينتمي إلى الحزب عضوا من أعضائه، فمن ينعت بأنه عضو سابق فهو طريد لن يكون أهلا للثقة حتى ختام حياته، ولا سبيل أمامه للرقي، وإذا ما حزب البلاد أمر، عد هذا العضو السابق خطرا على الشعب، إن أفظع ما ينزل بعضو الحزب من نكبات هو أن يطرده الحزب من عضويته؛ لأن ذلك يجعل منه مجذوما سياسيا يجتنبه الأصدقاء السابقون وينكره الأقرباء الذليلون، وإذا ما التقيت به عرضت نفسك لخطر سياسي وهو أن توضع في القائمة السوداء.
إذن فقد كان هناك من الأسباب ما يكفي لتبرير هزة الخوف التي ارتجف بها المعهد كله حين اقتربت منه موجة التطهير، وكان ذلك حين دنا عام 1933م من ختامه، وإنه لخوف كانت به مسحة من هوس، فالصحف تنشر القوائم بمن جاء دورهم في التطهير وأين ينتظر أن تقع عليهم الواقعة، ولكل إنسان أراد الوقيعة بمن دنا دوره أن يرسل اتهاما إلى لجنة التحقيق فيضاف إلى ما جمعه الحزب فعلا في ملفاته وفي «ملفات» الشرطة السياسية، ولئن كان من الطبع الإنساني أن تغتبط إذا ما نزلت النوازل بجيرانك الذين يعلونك مقاما أو يسبقونك في الحياة نجاحا، فلقد زادت الآن هذه الحركة التطهيرية تلك الميول الفطرية شدة وسعيرا.
وبالطبع كان الشرط الأول لاحتفاظك بعضوية الحزب هو أن تكن للقادة ولاء لا ذبذبة فيه، وأن يكون ولاؤك ناصعا لا تشوبه شائبة ل «ستالين» بوجه خاص، وإنه ليكفي أن يقول عنك فلان عن فلان عن فلان تلميحا خفيفا يفيد «انحرافك» عن جادة الولاء الخالص، لكي تورد موارد الهلاك، بل إن أخص خصائص الحياة الداخلية لمن وقع عليه التطهير، وما يدور في رأسه من خواطر في كل الشئون كائنة ما كانت، استهدف لهجمات الناس علانية دون أن يروا في ذلك ما يعاب، وكانت إجراءات التحقيق تحتوي على أفظع الفظائع التي عرفت في حمل المتهم على الاعتراف، وفي جعله عرضة لشهادة الزور وفريسة لألوان التعذيب على أيدي الشيوعيين، أما الفريسة القنيصة فقد كانت ترى وقت المحاكمة محنة رهيبة، وأما النظارة فكانوا في أغلب الأحيان كأنما يشاهدون مسرحا لترويض الوحوش، وكان حضور هذه المحاكمات خلال أسابيع التطهير كلها إلزاما محتوما على كل من ينتمي للحزب، وأما من ليسوا في الحزب أعضاء من غمار الشعب فيغرونهم بالحضور بشتى وسائل التشجيع.
ولم يكن أحد من الشيوعيين ليخطر قبل محاكمته بالتهم التي يكون في النية توجيهها إليه، فكانت هذه القلقلة أشد ما يحرج الصدر من عناصر المأساة، إذ كان عليك أن تتحسس طريقك في الظلام لتكون على أهبة لما عسى أن يفجأك من مباغتات، فتستعرض ماضيك مرة بعد مرة متسائلا: ترى من أين يأتي الخطر؟
ألم يحدث مرة أنك أفرطت في الحديث ذات مساء منذ ثلاثة أعوام مدفوعا في حديثك بما بعثته روح الزمالة في نفسك من طمأنينة؟ قد يكون واحد من هؤلاء الزملاء الذين ركنت إلى حسن طويتهم وشى بك منبئا بما أفرطت به من ملاحظات. إن أحد أعمامك كان ضابطا في عهد القياصرة، نعم قد لا تكون التقيت به أبدا، ولكن ماذا لو حدث أن أحدا استخرج هذا الشبح من مكمنه وإذا أنت متهم «بإخفائه» عن الحزب، إن امرأة كنت أحببتها قبض عليها بعد حبك إياها بتهمة الانحراف نحو اليمين؟ ماذا لو فوجئت بتهمة يقذفونك بها قذفا لعلاقة نشأت بينك وبين من يعادي النظام الاجتماعي؟ إن «بافلوف» ينتظر له الإبعاد من الحزب، فكيف أنسلخ عنه قبل أن يجرني معه إلى مهوى الدمار؟ انج بجلدك على أي نحو ومهما تكن الظروف؛ لأنك ها هنا إنما تخاطر بالحياة نفسها.
بدأ التطهير في معهدنا بصورة رسمية بخطبة طويلة مملة ألقاها الرئيس «جالمبو»، قال: «إن حزبنا العزيز قد امتلأت شعابه «بعناصر غريبة» وأعداء متلونين ووصوليين ومنشقين مقنعين وأفراد يقاومون نظامنا الاجتماعي مقاومة حقيقية، وواجبنا أن نخرجهم من بين صفوفنا فننتزع أقنعتهم من على وجوههم ونعرض خبثهم في ضوء النهار، إن البلاد قد فرغت لتوها من تأميم المزارع ومحو المالكين الزراعيين باعتبارهم طبقة اجتماعية قائمة بذاتها، وقد ختمت مشروع السنوات الخمس الأول وحالفها فيه التوفيق، وها هي ذي تبدأ مشروعا آخر لسنوات خمس أخر، فهؤلاء الذين يداخلهم الريب في أننا نسير في طريق قويم مؤد إلى الاشتراكية الكاملة والحياة السعيدة هم أنجاس عقدوا الخناصر مع أعداء البلاد، فلا بد من اقتلاعهم من جذورهم ليسلم الحزب وزعيمه الأكبر وأبوه الرفيق ستالين المحبوب!»
وكان كلما ذكر اسم الزعيم؛ دوى المكان بالتصفيق لبضع دقائق يسودها قلق في النفوس.
وأخيرا دارت عجلة التطهير دورتها، وهاك وصفا للإجراء الذي اتبع: يجلس أعضاء اللجنة خلف منضدة ملفوفة بغطاء أحمر، وفوق منصة تزينها صور الزعماء كما تزينها عبارات مما تجري به الألسنة دفاعا عن الحزب، وفي أبرز مكان يوضع تمثال نصفي لستالين، تزخرفه عقود من الزهر، فإذا ما بدئ في محاكمة شيوعي، نودي إلى المنصة، حتى إذا ما بلغها سلم تذكرة الحزب التي معه، وأخذ يقص قصة حياته، فتجيء القصة بمثابة التقرير السياسي والاعتراف الروحي؛ لأنه كان يدلي بمختصر عن أصله ونشأته وسيرته واهتماماته، ويعترف خلال ذلك بما اقترف من خطايا وأشباه الخطايا، وما زل فيه من عثرات، وإنه لمن الخير لك أن تنبئ بنفسك عن أخطائك، لو شككت في أن اللجنة قد يكون لها علم بها، «فإخفاء» شيء كائنا ما كان عن الحزب يضاعف من وزر الجريمة التي أخفيتها.
فإذا ما فرغ المتهم من اعترافاته، أخذ أعضاء اللجنة ومن شاء من النظارة يوجهون إليه الأسئلة، فيذكرونه بما قد أهمل ذكره في روايته، ويوقعونه في أقوال ينقض بعضها بعضا، وكان لمن شاء من الرفقاء أن يتكلم في صالحه أو في غير صالحه، فإذا كانت اللجنة تميل إلى جانبه، جاءت المحاكمة قصيرة في العادة وصورية لا جد فيها، أما إذا أحس النظارة أن المتهم لا يتمتع من اللجنة بالرضى، أو أنه منها على السفود، فإنهم يثبون عليه وثبا، ويدقونه بأقدامهم دقا بغير رحمة، وخصوصا أصدقاءه والمتصلين به، فهؤلاء يأخذهم الخوف على أنفسهم ويسارعون إلى رشقه بألفاظ غلاظ مع الراشقين؛ حماية لأنفسهم من الأذى، وقد تدوم المحنة نصف ساعة، وقد تطول مساء بأسره، وأحيانا يستطيع المتهم أن يرد عدوانا بعدوان، وأن يناقش ويدلي ببرهان براءته، ويبكي ولكنه أحيانا أخرى ينعقد لسانه من شدة الهجوم فيظل في صمت رهيب.
أما من اجتاز التطهير آمنا فترد له تذكرة الحزب ويهنئه الأصدقاء الذين انزاح عن صدورهم هم ببراءته عبء فادح، وكانت اللجنة أحيانا تؤجل حكمها حتى تزداد للقضية بحثا، وأما من انتهت محاكمتهم بالطرد من الحزب فيهملون ويجتنبهم الناس ، فتراهم يقفون في عزلة يتلفتون حولهم في حيرة فلا يرون أمامهم إلا عالما تحطمت قوائمه، ثم ينسلون خارج القاعة يملؤهم الشعور بأنهم طريدو القانون منبوذون، وما أكثر ما كان هؤلاء المطرودون يزهقون أرواحهم بأيديهم.
أمثال هذه اللجان التطهيرية لم يخل منها موضع من بلاد السوفيت على رحبها، ريفها والمدن، وكانت الصحف والمذياع تذيع مقتطفات من هذه المعارض الصاخبة، وكانوا يصفون هذه الحركة في جملتها بأنها «ديمقراطية حزبية»، لكني إذ كنت جالسا في قاعة المحاضرة في المعهد، أخذني شعور عجيب بأن هذا الذي أرى إن هو إلا جزء صغير من مسرحية كبرى يمثل فيها ملايين الرجال والنساء، ومسرحها هو سدس اليابس على هذا الكوكب الأرضي.
أخذ اضطرابي العصبي يزداد رويدا رويدا، إذ كنت أنتظر في قلق دوري على المسرح.
صاح الرئيس جالمبو: «الرفيق سانين، من فضلك.» فتقدم إلى المنصة بخطوات سريعة رجل أشقر الشعر، تقع سنه بين الثلاثين والأربعين، وسلم تذكرته. كان نحيلا وسيم المحيا يلبس منظارا، كلنا نعرفه ونحبه، هو محاضر في الرياضة، محبوب لقليل من الضعف فيه، ولأنه لا يغالي في الدقة، وأخذ يروي قصة حياته، فهو ابن فلاح، بدأ سيرته في الشيوعية بالتحاقه عضوا في هيئة الشباب الشيوعي، واستهل حياته المهنية عاملا بسيطا يعمل على المخرطة في أحد المصانع، ثم التحق بالمعهد وقام فيه ببحث، وانتهى أمره إلى التدريس.
كانت سيرة حياته التي رواها كأنما هي المثال يحتذى، وأخذ السأم يدب في نفوس النظارة مما يسمعون، لولا أن قوطعت هذه السيرة النقية بسؤال وجهه عضو في اللجنة.
قال في صوت خافت: «أيها الرفيق سانين، هل حدث مرة أن وقعت برنامجا يقوم على أساس مذهب تروتسكي مع طلاب آخرين أيام دراستك؟»
هنا حدثت حركة بين النظارة وأخذ الناس يتهامسون ويتبادلون النظرات. - «نعم، لقد فعلت ، لكني عدت فتبرأت منه منذ أمد طويل، وكل الناس يعرفون موقفي منه.»
فقال عضو اللجنة في إصرار: «إذن فقد وقعت ذلك البرنامج ولست بمنكر هذا؟» - «بالطبع لا أنكر ذلك، فلم أكتم ذلك سرا عن الناس ، إن كل زملائي ليعلمون، وإن الحزب ليعلم، أنني زللت في هذا الخطأ، وأنني اعترفت به فيما بعد.» - «قد يكون ذلك أيها الرفيق سانين، ومع ذلك فإني لا أزال أتساءل إذا كنا قد عرفنا عنك كل شيء، إني لأتساءل هل يعلمون عنك أنك لا تزال تدين بمبادئ ينكرها الحزب ويبرأ منها الشعب السوفيتي؟»
ازداد اهتمام الناس في القاعة على نحو ملحوظ، كأنما شم الجمهور رائحة الدماء، وأخذ الهم يستولي على من كانوا مع «سانين» صحبة منذ دقائق، وجعلوا يرشقونه بالأسئلة صديقا في إثر صديق، ولم تخف غايتهم من ذلك، فقد أرادوا أن «يوقعوه» بأسئلتهم لعلهم بذلك ينقذون رقابهم، وكلما ازداد الزميل به صلة، ازداد حماسة في محاولة إدانته، حتى يبين للناس أنه لم يكن يسايره في شنيع «جرائمه»، ولأنهم يعرفون منه أوجه النقص والضعف، أخذوا يتلاعبون به حتى ارتبك ولم يعد قادرا على أن يقول دائما ما يريد حقا أن يقول.
قال في دفاعه عن نفسه: «أيها الرفاق أعضاء اللجنة، لقد أعلنت منذ أمد طويل براءتي مما كنت قد زللت فيه، إنني لم أؤيد أنصار «تروتسكي» قط تأييدا ذا خطر، فلم أساهم أبدا في هيئتهم، ولم يحدث إلا مرة واحدة في لحظة من لحظات الضعف، أني أغريت بتوقيع ورقة، ثم لم ألبث أن أعلنت براءتي منها، إن هؤلاء الناس الذين يتهمونني ليعلمون عني هذا علم اليقين، ولست أدري لماذا يقلبون الحقيقة فيما يقولون ...»
لكن الرئيس لم يمهله حتى يتم حديثه، وكان في صوته سخرية ظاهرة.
قال: «لا عليك، لا عليك، إننا نعلم علم اليقين كيف تتلونون أيها التروتسكيون يا أعداء الحزب، إن لدينا من الحقائق ما يثبت أنك لم تتغير في باطنك، وليس مما يخلو من المغزى أن يثير أخلص خلصائك حولك الشكوك.» ثم توجه إلى النظارة وقال: «من يريد الكلام؟»
لم يعد إلى الشك إلا سبيل ضئيل في أن ما يصيب «سانين» أصبح قضاء محتوما، فأما وقد انتهى فيه الرجاء فقد تدافع أصدقاؤه ليركلوه ويدفعوه من ذروته إلى الهاوية، كنت تراهم ينهضون في أماكنهم ليقولوا: إن «سانين» مخادع، يظهر الولاء للحزب ويبطن انشقاقا خبيثا، ولا تسمع منهم أحدا يخصص الاتهام بنقط معينة، بل هم يلقون الاتهام جزافا في عبارات محفوظة، وظلوا كذلك حتى وقع ما لم يكن في الحسبان، فكأنما أحدث بوقوعه هزة كهربائية؛ وذلك أن مهندسا يعرفه المعهد كله ويجله المعهد كله، طلب الكلام.
بدأ يقول: «لقد كنت أصغي في انتباه إلى كل ما قيل في هذا المكان، فلم أسمع نقطة واحدة في صميم الموضوع حقا، أيها الرفاق، إننا الآن نقضي في أمر عضو من أعضاء الحزب، فسنحكم عليه بحياة أو موت من الوجهة السياسية، أين التهم المحددة التي وجهت إليه؟ لم أسمع منها شيئا!»
فلم يقع هذا الدفاع إلا موقع المزيد من الوقود يلقى به في النار، فقد احتدت العواطف، وأمعن زملاء «سانين» في وصمه بما يشين وفي قذفه بألوان السباب، شجعهم على ذلك أعضاء اللجنة الذين كانوا بغير شك قد اتخذوا قرارهم في شأن «سانين» قبل انعقادهم، وقضي الأمر وطرد الرجل من الحزب.
وما هو إلا أن بدأنا نسمع طالبا يقص قصة حياته، كان أسود الشعر كثيفه، فيه الملامح السامية، وهو شاب سيرة حياته قصيرة، فلم تلبث المحكمة أن انتقلت به إلى مرحلة الاستجواب. - «قل لي، أيها الرفيق شلمان، ماذا كانت منزلة أبويك من المجتمع قبل الثورة؟» - «كان أبي خياطا، وكانت أمي زوجة تدير دارها فحسب.»
هنا صاح أحد النظارة قائلا: «إنه كاذب.»
وهنا سرت في الحضور هزة عصبية، وبدا أن جلسة المحكمة هذه المرة ستكون ممتعة بعد ما أحس به النظارة من سأم، فالمتهم «شلمان» من ذلك الطراز المكتئب الغارق في كتبه، ليس له من الأصدقاء إلا نفر قليل.
توجه «جالمبو» بالكلام إلى الرجل الذي صاح من النظارة، وكان واضحا أن صيحة الرجل لم تكن مفاجأة للجنة، قال جالمبو: «كيف تستطيع أن تقيم البرهان على أن عضو الحزب الذي نحن بصدد اتهامه، قد خدع اللجنة والحزب جميعا؟» - «برهان ذلك يسير، ف «شلمان» وأنا من مدينة واحدة هي «شركاسي»، وقد التحقت منذ أمد قصير بالمعهد فكان لي بذلك أن شهدت «شلمان» لأول مرة، لكنني أعرف أسرته وأعرف أن أباه كان صاحب دكان للخياطة، وأنه كان يستخدم عددا من العمال، فكان بذلك ممن يستغلون الأيدي العاملة، وكان دكانه في شارع ألكساندروفسكي، أنا أزعم لكم ذلك وأعلم صدق ما أنا زاعمه، ف «شلمان» - باعتباره ابنا لرجل استغل الأيدي العاملة - يجب طرده من حزبنا المحبوب.»
اصفر وجه المتهم وأخذ في اضطرابه العصبي يطقطق أصابعه، فقد دارت عليه دوائر الحوادث على نحو لم يتوقعه، وأوشك ألا تكون له القدرة على ترتيب ألفاظه.
نقر الرئيس على المنضدة يأمر بحفظ النظام، وسأل المتهم متجهما: «هل أنت من شركاسي؟» - «نعم، هذا صحيح، وقد ذكرت ذلك.» - «هل كان لأبيك دكان للخياطة في العنوان المذكور؟» - نعم هذا صحيح، لكنه لم يستغل أحدا، كان سائر العمال بمثابة الأعضاء في شركة وأبي رئيسهم، إني أقسم لكم أيها الرفاق إن الأمر كان تعاونا اقتصاديا بينهم، أضف إلى ذلك ألا شأن لي بالأمر إطلاقا، فأنا قد اشتغلت عاملا في مصنع في مدينة أخرى.» - «ألم يكن هو أباك؟» - «يقينا، يقينا، إنه أبي.» - «إذن فقد أخفيت عن المحكمة أنك سليل أسرة من المستغلين.» - «أنا لا أخفي شيئا، كان الأمر شركة تعاونية اقتصادية، وعن نفسي أنا فقد اشتغلت في مصنع، وصحيفتي باعتباري عضوا في الحزب وباعتباري طالب علم لا عيب فيها.»
كانت الطريقة التي يتحدث بها في غير صالحه؛ لأنه كلما ازداد اضطرابا ازدادت نبرته اليهودية وضوحا وبروزا، وطافت بالقاعة موجة خفيفة من الضحك، ثم أخذنا نسمع صيحات، فواحد يصيح «أخرجوه» وآخر يصيح «اطردوه إنه خدع الحزب!» وغادر «شلمان» المنصة فتعثر؛ لأن عبراته قد أعمت ناظريه، ولم يكن يخفى على أحد أنه سيطرد من المعهد وأن مستقبله قد انهدم.
وجاء بعد ذلك عدد من المتهمين جرت محاكمتهم على صورة مكرورة مألوفة، ثم ردت لهم تذاكر عضويتهم، وبعدئذ جاء دور الرفيق «تسارف» فكان محط الأنظار، لقد كان في نحو الأربعين لكنه لم يزل طالبا ، وكانت جبهته وصدغاه قد تغضنت بفجوات عميقة، وكنت ترى في حركاته سرعة وعسكرية، ثم سرعان ما كشف اعترافه عن خدمته بالجيش أعواما عدة، وأنه ساهم بنصيب موفور في الحرب الأهلية، ثم ينتهي أمره إلى أن يكون موظفا في مصنع، وبعد ذلك بعامين اجتاز مرحلة الدراسة الثانوية في المعهد، وقال إنه متزوج ذو طفلين.
سأل الرئيس: «قل لي أيها الرفيق «تسارف» ماذا ارتأيت في نظام المزارع الجماعية، أي موقف اتخذته حيالها على وجه الدقة؟» - «أي رفيقي، لقد اشتغلت في القرى وعاونت في حل طائفة المالكين الزراعيين باعتبارهم طبقة اجتماعية قائمة بذاتها، وإني لأعترف أنني وجدت من الإجراءات ما أحدث في نفسي حيرة وضيقا، لكني كنت راضيا عن الحركة من حيث المبدأ.» - «الظاهر أنك لم تفهم سؤالي، أيها الرفيق «تسارف»، أو ربما آثرت لنفسك ألا تفهمه، فلست الوحيد الذي أحس حيال هذا المشروع العظيم ضيقا، لكنني أحب أن أعرف استجابتك للمشروع من وجهة النظر السياسية.» - «لم أقف إزاء الحزب موقف المعارض قط.»
فلوح عضو اللجنة ببضع أوراق في يده الله أعلم ماذا تكون، وقال: «ليس ما تقول صوابا لسوء الطالع، فلدينا ها هنا من الحقائق ما يثبت أنك إبان تسريح المالكين الزراعيين بدرت منك إشارة استحسان لما كان قرره «بخارين» من أوجه النقد للرفيق «ستالين»، أيها الرفيقان «كاساريك» و«سوموف» تقدما وأيدا أمام اللجنة ما قررتماه في هذا الشأن.»
كان كثير منا يعرف هذين الطالبين، فهما ممن يدرسون قليلا ويتكلمون كثيرا، وها هما يتقدمان إلى صدر القاعة ويعيدان من الذاكرة ما حفظاه من اتهام مؤداه أنهما حين كانا في الريف مع «تسارف» سمعاه يتحدث بلسان النقد عن سياسة المزارع الجماعية على وجه الإجمال، وهما يسوقان مقتطفات بنصها مما يزعمان أنه كلام المتهم، وكنت ترى «تسارف» يحاول المقاطعة ، لكن محاولاته كلها في هذا السبيل ذهبت هباء، ولم يك ثمة سبيل إلى الشك في أن قضيته خاسرة.
هنا تصبب العرق البارد من جبيني، فالسلوك الذي سلكه «تسارف» في الريف، بل وألفاظه بنصها، تذكرني بما سلكت وما نطقت.
واتجه الرئيس نحوه قائلا: «تسارف، ألا تزال تنفي عن نفسك الخروج على مبادئ الحزب؟» - «نعم، وإنهم ليبالغون، أضف إلى ذلك أن النقد ليس بالضرورة خروجا على الحزب، فلست إلا إنسانا من البشر، وقد كان حولي من صنوف الألم ألوان وأشكال.»
فصاح «جالمبو» ليسكته خشية أن يقول ما لا ينبغي أن يقال: «إن من يضمرون الولاء من أعضاء الحزب يثقون بلجنتهم المركزية وزعيمنا المحبوب الرفيق ستالين.» فصفق هنا الحاضرون، «إن الحزب لا يفسح من صدره مكانا لأمثالك ممن تبلغ بهم القحة أن ينكروا أخطاءهم.» وهنا صفق الحاضرون مرة أخرى، «مطرود.»
فصاح «تسارف» قائلا: «سأرفع شكاتي إلى اللجنة المركزية، إن صحيفتي إبان الحرب لتعلن عن مجدها، وأصبت نجاحا فيما وكل إلي في الريف من مهام، لقد أرقت دمي في سبيل الثورة، وليس لكم الآن أن تقوضوا بنيان حياتي.»
ولكن أعضاء اللجنة أداروا لهذا القول آذانا صماء، وأخذوا يعدون ملفات القضية التالية، كان «تسارف» في المعهد مقربا إلى القلوب جميعا، أما الآن فهم يجتنبونه، إذ هو يغادر المنصة، إنه يوشك ألا يصدق ما قد حدث، ما قد حدث له وهو من هو بين سائر الناس!
وتلاه على المنصة «ديخوفتسف» الذي جعل يشتغل بيديه عاملا منذ أن كان في الثامنة من عمره وأصبح رئيسا لطائفة من العمال، ثم وقع عليه الاختيار من بين «الألوف» ليكون مهندسا، ولقد جاء حديثه الآن بحيث يترك في السامعين أعمق الأثر، وكانت إجاباته عن الأسئلة السياسية التي وجهت إليه، وعن الأسئلة التي أريد بها اصطياده في الفخ فيما يتعلق بالحزب وتاريخه، كانت إجاباته كلها بغير شائبة تشوبها.
سأله «جالمبو» سؤالا كأنما هو عابر: «هل أنت متزوج أيها الرفيق ديخوفتسف؟» - «نعم!» - «متى تزوجت؟ ومن زوجتك؟» - «تزوجت في العام الماضي، وزوجتي ابنة وراق ، وهي تشتغل الآن بصناعة التمريض في أحد المستشفيات.» - «قل لي: هل سجلت زواجك أو لم تسجله؟ بعبارة أخرى: كيف جعلت من زواجك زواجا شرعيا؟»
احمر وجه «ديخوفتسف» وأخذ يتململ في ارتباك وحيرة، ثم أشرقت عليه فجأة علة التماس هذا السؤال، واشرأبت أعناق النظارة وأرهفت منهم الآذان، وساد المكان سكون تام، وأخيرا تكلم المتهم بصوت خافت، فاعترف بالحقيقة المروعة.
قال مطأطئ الرأس: «تزوجت في الكنيسة.»
وبهذا القول انفجر الصخب من جوف السكون السائد، إذ ضحكت النظارة في قهقهة اهتزت لها أجسادهم.
وعلا «ديخوفتسف» بصوته فوق الضحك، وقال: «أنا أعلم يا رفاقي أن مثل هذا الكلام يبعث على الضحك، إنه مهزلة مضحكة وأنا بذلك أعترف. إن الحفل يعقد في الكنيسة ليس يعني عندي شيئا، صدقوني فيما أقول، لكني شغفت بزوجتي حبا وأبى والداها علي زواجها إلا إذا قبلت مهزلة الكنيسة، إنهما رجعيان، وليست زوجتي بأقل مني استخفافا بالخرافات، لكنها الابنة الوحيدة لأبويها ولم ترد أن تؤذي الأبوين الشيخين.
ناقشتها ورجوتها وأنذرتها أن ذلك لن يؤدي إلى خير نرجوه، لكنها لم تذعن، ولم أستطع العيش بغيرها، فانتهى أمرنا إلى زواج عقدناه في كنيسة ريفية بعيدة، ولما كنا في طريقنا عائدين، أخفيت برقع العرس وزهوره في محفظة أوراقي.»
لم يملك الحاضرون إلا مضيا في زئاطهم، ونقر الرئيس يطلب النظام، ولا نظام، وفقد «ديخوفتسف» اتزانه فازداد بصوته ارتفاعا: «أؤكد لكم أننا بالله كافران، إن زوجتي عاملة وأنا ماض في دراستي ولنا طفل، أتوسل إليكم يا رفاقي أن تصفحوا عن زلتي، إني أعترف أنني قد أذنبت بما أخفيت من هذه الجريمة عن الحزب.»
وحاول كثير من الناس أن يدفعوا عنه الأذى، لكنه طرد، فليست جريمته تنحصر في عقد زواجه بالكنيسة فحسب، بل ما هو أخطر من ذلك، وهو أنه قصر فلم ينبئ رؤساءه بمثل هذا العدوان الفظيع على مبادئ حزبه.
هكذا مضت حركة التطهير بوما بعد يوم، فتبدأ الجلسة بعد الفراغ من الدراسة فورا، أي نحو الساعة الخامسة عصرا، ثم تظل منعقدة حتى تضرب في أحشاء الليل، وفي ختام الأسبوع الأول، وقد أصبح الأمر مشهدا لأفظع المآسي، بما يصاحبه من عبرات وضحكات ولهو العابثين، فوجئنا بما هزنا فأيقظنا؛ ذلك أن معلما موهوبا وإخصائيا في البحث العلمي، وهو الرفيق «بطرس بولكين» نودي للمحاكمة، إننا نعلم عنه أنه من أب قسيس، وهي حقيقة تزعزع موقفه، ولو أن أباه بطبيعة الحال قد برئ من الكنيسة، بل والتحق بجمعية «الكافرين بالله» ليمحو من صحيفة أبنائه نقطة سوداء.
وما كان «بطرس» ليقبل عضوا في الحزب بغير انسلاخ أبيه عن الكنيسة، على الرغم من أنه عالم بارع، لقد أخلص الرجل للعلم إخلاصا نسي فيه نفسه، فواصل العمل ساعات بعد ساعات، يشير على كثير من المصانع، ويقف أمام مخابير العامل، ويشرف على طلابه في حجرات الدرس، فكأنما أسرف في حماسته للعلم على هذا النحو ليمحو «عارا» يصمه من تاريخ أسرته.
وتصادف أني قابلته في البهو صباح اليوم السابق ليوم محاكمته في التطهير.
سألته: «كيف حالك يا بطرس؟» - «ليست حالي أطيب حال يا «فيتيا»، فما أدري أيصيب السهم مني مقتلا فأسقط صريعا أم يخطئ فأنجو.»
وضحكت قائلا: «أوهو! ما دمت قد جعلت تتمثل بشعر من نظم «يوجين أونجين» إذن فقد ملأ صدرك الهم.»
أخذ يروي قصة حياته على مسمع من الحضور الذين زاد عددهم عن المألوف، ولعله فيما أظهر من براعة في طريقة الاعتراف قد استفاد من أصله الكنسي، فقد صرح أنه لم يستر قط وصمة العار في حياته، زد على ذلك أن أباه قد طلق العقيدة الدينية تطليقا أعلنه للناس في الصحف، ومضى فقال: إنه لم يكن يسيرا أن يمحو القديم ليستبدل به جديدا، بل اقتضاه الأمر مجهودا شاقا طويلا لكي يقضي على كل أثر من آثار الخرافة التي تلقاها إبان الطفولة، لكنه فعل ذلك ووفق فيما فعل أيها الرفاق، وها هو ذا قد كرس كل فكره للبحث العلمي، فالبحث العلمي - فما يرى - خير وسيلة يستطيع أن يخدم بها الحزب وستالين.
قال «جالمبو» الرئيس: «قل لي أيها «الرفيق بولكين» هل طال عهد اتصالك ب «سانين»؟» - «نعم، عرفته منذ أمد ليس بقصير، كنا زميلين في الدراسة، وتخرجنا في المعهد معا، وها نحن أولاء زميلان في التدريس ها هنا.» - «هل علمت أن «سانين» وقع على وثيقة تتشيع لمذهب تروتسكي؟» - «نعم علمت ذلك كما علمه كثيرون من الحاضرين الآن.» - «لست أسألك عن سواك، بل أسألك عن نفسك.» - «نعم، علمت ذلك عن «سانين»، ولست بمنكر ذلك.»
هنا رفع «جالمبو» صوته في غضب: «وإذن فلماذا لم تنبئ لجنة التطهير أنك كنت تعلم ذلك؟!» - «لم أجد ما يدعو إلى مثل هذا النبأ، لقد بلغ من شيوع العلم بهذه الحقيقة ما أبعد ذكرها عن روايتي، إن «سانين» نفسه قد استنكر زلته علنا، وقد مضى على الحادث وقت طويل.» - «اسمع يا «بولكين» إنك لا تنكر أنك كنت على صلة وثيقة ب «سانين» وإنك بين أعضاء الحزب لرجل عليم ببواطن الأمور، وكان ينبغي عليك أن تعرف كيف يخفي أعداء الحزب - سواء منهم من يجنحون إلى يمين أو شمال - حقيقة أمرهم، فهل أظهرت ما يدل على يقظة بولشفية فيك؟ هل بلغت الحزب بما كان يقوله «سانين» من كلام كلنا يعرف الآن ما هو؟» - «إنه لم يقل شيئا من هذا القبيل على مسمع مني قط، وليس لدي ما أقوله غير هذا.» - «هذا جميل، وهل عرفت بونوموريف؟» وبونوموريف هذا عضو آخر من أعضاء الجماعة التي تهاجم الحكومة. - «نعم عرفته، وقد وقع هو كذلك على البيان الذي يدعو إلى سياسة تروتسكي.» - «وهل أنبأت لجنة التطهير بأمره؟» - «لا، لم أفعل لنفس الأسباب التي أبديتها في حالة سانين.» - «وبعبارة أخرى أنت لم تقتصر على أن يكون لك أصدقاء من أنصار مذهب تروتسكي، بل زدت على ذلك أن أخفيت دسائسهم الحقيرة عن الحزب.» - «أولا ليس هؤلاء المعلمون أصدقاء شخصيين لي، لكنهم زملاء المهنة، أي أنهم معي في هيئة التدريس لا أكثر ولا أقل، وثانيا لم يكتم أحد منهم ماضي حياته سرا.» - «يظهر أيها الرفيق بولكين أنك لا تدري أن الحزب يجاهد في مناهضة المنشقين عليه، إنك فيما يبدو تنظر إلى هذا الكفاح كله نظرة استخفاف، أليس كذلك؟ فليس من الخطر في رأيك أن يكون أصدقاؤك تروتسكيين مقنعين، هذا أمر لا يعنيك، فكيف إذن يجوز لنا أن نثق فيك؟»
فقال بولكين في صوت رزين: «لست أرى أين جريرتي!»
فقال جالمبو: «وهذا مما يزيدك في رأينا سوءا.»
هكذا أخذت محاكمة «بطرس» تنحرف في اتجاه يخشى عليه منه، فلما أدرك الناس اتجاه التيار، نهض منهم كثيرون ليغمسوا رأس هذا العالم في الماء فيغرقوه، وقد حدث لواحد من هؤلاء أن أدرك إبان حديثه أنه إنما يفتري كذبا، فغلبه شعوره بالخيانة، والتاث عليه القول في منتصف عبارته، وتلعثم لسانه، ثم انفجر قائلا: «إنني أقول لغوا، إن الرفيق بولكين زميل ممتاز ورجل عظيم.»
فهبط السكون على أرجاء القاعة كلها، كأنما أصيبت بشلل من جراء هذه الصدمة التي وقعت عليها من هذا الفعل الجريء، واضطر أعضاء اللجنة أن ينفقوا خمس دقائق في أقوال خطابية يلهبون بها عواطف أنفسهم بحيث يلبسون لبوس الغضب من جديد، وسحبت من «بولكين» تذكرة الحزب، فدهش لهذا جل الحاضرين.
ولقد علمت فيما بعد أن هذا الطرد قد انتهى إلى سحق أسرته، ثم ازداد الموقف سوءا بطرد أخته - وهي طالبة في معهد آخر - لا لشيء سوى أن أخاها قد ارتكب إثما، وإذن فتضحية أبيهما بعقيدته الدينية لم تنتج نفعا، وتحطمت حياة شخصين، لكن حدث بعد بضعة شهور لم ينقطع خلالها بعض الأعلام من الزملاء من استئناف الحكم الذي صدر ضد «بولكين»؛ لأنهم قدروا فيه نبوغه، أن أعيد الرجل إلى عضوية الحزب، فعادت أخته إلى معهدها تبعا لازما لذلك.
ومضت اللجنة في محاكماتها، وخرج منها أربعة أو خمسة من الزملاء سالمين، ثم جاء دور طالبة نعرفها جميعا ونقدرها جميعا لذكائها وإخلاصها، فنوديت إلى المنصة. كانت سوداء الشعر والعينين، في نظراتها التماع وفي صوتها رنين، هي من هؤلاء النسوة اللاتي يجذبنك دون أن يكون لهن أدنى درجات الجمال، قالت عن نفسها إنها لأب صانع يشتغل بالنجارة، وإنها عملت في مصنع وهي في أوائل العقد الثاني من عمرها، وإنها أنفقت أمساءها في الدرس حتى وقع عليها الاختيار أخيرا للالتحاق بالمعهد حيث تتلقى في الهندسة منهجا دراسيا.
سألها الرئيس: «أيتها الرفيقة جرانك، هل تزوجت؟» - «نعم!» - «وكم مضى على زواجك؟» - «خمسة أعوام.» - «ومن زوجك؟» - «هو صانع سابق، التقيت به في مهنته، ثم رقي بعد ذلك رئيسا لعمال في مصنع من مصانع صهر الحديد.» - «هل هو عضو في الحزب؟» - «كلا، ليس هو الآن عضوا، لكنه كان فيما مضى.»
وهنا تشمم النظارة رائحة الدم تفوح في الهواء مرة أخرى، فعاد فريق منهم كانوا في طريقهم إلى البهو للتدخين، عادوا إلى مقاعدهم، واشرأبت الأعناق. - «لماذا خرج من الحزب، هل أخرج منه مطرودا؟»
فقالت جرانك في صوت هادئ: «طرد زوجي من الحزب لاشتراكه في حركة المعارضة العمالية.» - «وهل طلقته عندئذ؟» - «كلا!» - «أين زوجك هذا الآن؟» - «ألقي عليه القبض وأودع سجن الشرطة السياسية.»
ها هنا توترت الأعصاب في الحاضرين، فهم الآن إزاء مسرحية بكل معناها، فمن المواقف المألوفة في المسرحيات السوفيتية أن تكون المرأة التي هي عضو في الحزب زوجة لرجل خارج عليه، ونرى الكاتب المسرحي دائما يعمل فنه بحيث تختار الزوجة حزبها دون حبها. - «هل هذه هي أول مرة يلقى فيها القبض على زوجك؟» - «كلا، بل المرة الثانية.» - «ومع ذلك فلم تطلقيه بعد؟» - «لا، لم أطلقه.» - «هل زرته في السجن؟» - «نعم، أزوره كل أسبوع.» - «لماذا؟» - «لماذا؟ لآخذ له معي شيئا من الطعام وثيابه النظيفة وسجائره.» - «أليس هناك من يأخذ له هذه الأشياء سواك؟» - «أظن أن هناك من يستطيع ذلك سواي، فله أم وأخت.» - «إذن فنبئينا لماذا تزورينه في سجنه، إنك عضو في الحزب أليس كذلك؟ ومع ذلك فليس في ضميرك ما يردعك عن معاونة رجل عدو للحزب.» - «إنه زوجي.» - «أوه! إنه زوجك! لكن أليست سلامة الحزب أعظم خطرا من المصالح الشخصية التافهة؟» - «لست أوافقه من الوجهة السياسية، وأحاول أن أناقشه في الأمر لأرده إلى الصواب، وكلما التقينا دار النقاش بيننا إلى حد العراك.» - «أوه! إذن أنت لا تذهبين إلى السجن إلا مغايظة له؟»
هذه السخرية التي يبثها «جالمبو» في عباراته قد أرخت من الأعصاب المتوترة في جمهور النظارة، فكنت تسمعهم يضحكون آنا بعد آن، ثم أخذت ترتفع من هنا وهناك صيحات: «حسبنا هذا! اطردوها!»
رفعت الفتاة صوتها وقالت: «معذرة أي رفيقي الرئيس، أهذه لجنة لتطهير الحزب أم هي حلقة ألعاب بهلوانية؟ إنني أطالبك بأن تقرر ما يوجه إلي من تهم سياسية، وأمنعك من أن تجعل من حياتي الشخصية نكاتا تضحك بها هؤلاء المتفرجين.» - «إذن فلماذا لم تجيبي إجابة صريحة فتنبئينا على وجه الدقة لماذا تزورين كل أسبوع رجلا هو عدو الحزب ومن الخوارج عليه؟» - «لقد أنبأتك بما تريد، فليس هو زوجي فحسب، بل هو كذلك من بني الإنسان، ومن الجبن والخيانة أن أطلقه حين تحل به الصعاب، إنني لا أتفق معه في وجهة النظر، لكننا عملنا جنبا إلى جنب، ودرسنا جنبا إلى جنب، وعشنا تحت سقف واحد، ويحس كل منا عاطفة إزاء الآخر، فالحق أنا حبيبان!»
فقوبل هذا الاعتراف بضحكات عالية، شيوعية تعلن ولاءها لحزبها وهي تحب سجينا في محبس الشرطة السياسية!
ولخص «جالمبو» الموقف فقال: «اختصارا، باعتبارك عضوا في الحزب، ترفضين حتى الاعتراف بخطئك في الاتصال برجل هو عدو الشعب، ورأيي أن النتيجة واضحة: إن مواطنتنا «جرانك» لا تستحق البقاء في صفوف الحزب، إننا لن نأذن لها بعد ذلك أن تساهم في مصالح بلادنا.»
وقوبل الحكم بالاستحسان وبصيحات: «هذا حق! أخرجوها!» ومع ذلك فقد سرت في الجمهور موجة من العطف عليها حين غادرت المنصة مرفوعة الرأس مرتعشة الشفتين، وسارت في الممشى الأوسط حتى خرجت من القاعة، وهمس في أذني طالب جلس بجانبي قائلا: «إنني لا أدافع عن «جرانك»، لكني رغم ذلك أرى الأمر متعلقا بحياتها الخاصة، ولا ينبغي لنا أن نعالجه على هذا النحو.» فظللت صامتا؛ إذ من أدراني إن كان جاري قد ثارت نفسه حقيقة أو دفعه إلى قوله حافز خفي آخر، فأراد أن يثير صدري فأنطق بما يودي بي إلى الخطر.
ولما نودي اسم «سريوزا تفتكوف» أخذ قلبي يثب في صدري، إذ لا شك في أن شهادته ستعرض لما صادفه في الريف، وهذا قد يؤدي إلى ذكري، وقد كنت أعلم أنه رجل ذو عاطفة، يخشى على سلامته وسلامتي.
وقف على المسرح وانعقدت عليه الأبصار ، فبدا للعين من اليفاعة وضعف الحيلة بحيث لم يصلح لتلك الوقفة، بل كانت يفاعته بمثابة السبة الشائنة في ذلك المحيط المتجهم، كانت تبدو عليه أمارات الاضطراب واضحة، ومع ذلك فقد أخذ يروي عن نفسه قصة موصولة الحلقات وإبان حديثه لم يزحزح عينيه من ركن القاعة الأقصى، فتعقبت نظرته وإذا هي تنتهي عند أبيه الذي كان يبتسم له مشجعا، ولما بدأ يقص قصة عمله في القرية قاطعه الرئيس: «أيها الرفيق تفتكوف، هل أبوك عضو في الحزب؟» - «نعم، وقد مر خلال محنة التطهير سالما.» - «قل لي كيف كان شعورك إزاء حركة المزارع الجماعية في الريف؟» - هنا رأيت وجه «سريوزا» قد شحب لونه، ووجه نظراته إلي وقال: «أديت الهمة التي كلفتني بها اللجنة الإقليمية، لكنني أعترف أن موقفي إزاء حوادث معينة وقعت في القرية كان موقفا سلبيا.»
فمضى «جالمبو» يقول: «عندنا من الأدلة ما يثبت أنك لم تكن من الحزم بحيث ينبغي أن تكون، وأنك أظهرت ترددا وتباطؤا في البت في أمورك في مناسبات كثيرة، فماذا أنت قائل؟»
هنا شعرت أن «تفتكوف» ستخور قواه فيتهافت ساقطا إذا لم يسعف بما يشد بنيانه، ولم يكن بد من إفساح الفرصة أمامه ليستجمع قواه، فكأنما دفعتني الغريزة دفعا أن أنهض فأطلب الإذن بالكلام.
قال الرئيس: «ما سؤالك؟» - «أطالبك بإعلان اسم الشخص الذي وشى بهذا الزميل.» - «هو موظف في مكتب النائب العام.» - «ذلك لا يغير من الموقف يا رفيقي، إن اسمه مهم هنا، فقد كنت في الريف مع الرفيق تفتكوف وأعلم الحقائق.» - فوافق الرئيس قائلا: «إذن فاسمه أرشينوف.» - «ذلك ما رجحت أن يكون.» قلت ذلك في نغمة الظافر فكأنما أثرت بذلك في «سريوزا» حبل الحديث، هذا إلى أن فترة المقاطعة هيأت له فرصة تهدأ فيها نفسه الثائرة، فمجرد ذكر اسم «أرشينوف» قد استثار فيه الغضب - فيما يظهر - وأعاد له الثقة بنفسه.
قال: «أرشينوف! أؤكد لكم أن تقرير هذا الرجل زائف ولا قيمة له؛ لأن دافعه إلى كتابته شخصي بحت، إنه خشي أن أبلغ ما أعرف عنه، فقد اتخذ اتهامي وسيلة لوقاية نفسه، كانت هذه أول مرة لي في الريف، وطبيعي أن كانت تنقصني التجربة، وأنه من الجائز أن أرتكب بعض الأخطاء في عملي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد اصطنع «أرشينوف» من الأساليب ما يصمه بالعار، تلك الأساليب التي استنكرها الحزب وهاجمها منذ ذلك الحين، ولما عدت قدمت تقريرا عن سلوكه إلى اللجنة الإقليمية، فلست أنا المجرم، إنما الذي أجرم هو «أرشينوف» هذا بعينه.» - «لكن أليس صحيحا أن «أرشينوف» ضرب رقما قياسيا في تسليم الغلة، وأنه فعل ذلك حيث منيت أنت بالفشل أحيانا؟» - «نعم، ذلك صحيح في مناسبات كثيرة، لكن ذلك لا يستتبع بالضرورة أن أجاوز تعليمات الحزب فأسلك على النحو الذي سلك.» - «هذا جميل، من ذا يريد الكلام؟»
فوقفت وأشار لي الرئيس أن آخذ في الحديث. - «لقد عملت مع الرفيق تفتكوف والرفيق أرشينوف في «بودجورودنوي» وسأذكر تفصيلات ذلك حين يأتي دوري، لكني أريد الآن أن أقول: إنني وجدت الرفيق «تفتكوف» رجلا شريفا متعاونا ووجدته شيوعيا يحاسبه ضميره على ما يفعل، إنه شخص مهذب بوجه عام، ولو أنه لا يزال قليل الخبرة، فلا ينبغي أن نجعل منه فريسة لأساليب «أرشينوف» هذا، لو كان هنا لمزقته إربا، ولو أذنتم لي لأنبأتكم ببعض أعماله التي تعد الآن من جلائل الأعمال.»
صاح بعض الحاضرين: «لنسمع ما يقوله عنه! امض في الحديث!» لكن الرئيس بدت عليه علامات الفزع واضحة؛ لأنه لا يريد ذكر شيء من مفازع الريف. - «أيها الرفاق، نحن الآن بصدد البحث في ماضي «تفتكوف» لا «أرشينوف»، فهذا الزميل المتحدث من بين النظارة يمكنه أن يتقدم ها هنا ليروي قصته همسا للجنة.»
ذهبت إلى المنصة وأخذت في قصتي عن فظائع «أرشينوف» الوحشية في صوت خفيض، وكنت كلما قلت شيئا سجل أعضاء اللجنة نقطا في مذكراتهم، ولن أدري إلى الأبد هل كانوا يفعلون ذلك عن جهل بأنباء «أرشينوف» أم كانوا يفعلونه على سبيل إيهام النظارة أنهم جادون، لقد كنت قبل ذلك قدمت تقريرا مفصلا عن هذه الحقائق، لكن لم يكن مستحيلا أن يكون لأرشينوف أصدقاء من ذوي السلطان بحيث يبعدون تقريري فلا يقع في أيدي لجان التطهير.
شجع دفاعي عن «سريوزا» كثيرين غيري، فتكلم في صالحه ثلاثة رجال وامرأتان، وبعدئذ أعيدت له تذكرته، فأتى من المنصة رأسا إلي، وضغط على يدي ضغطة المعترف بالجميل وعيناه تغرورقان بالدموع، ثم ذهب إلى أبيه الذي ضمه إلى صدره.
كان رجائي أن أنادى لمحنتي بعد «تفتكوف» مباشرة، ولو حدث ذلك لجاز أن أفيد بالاتجاه الطيب الذي خلفه وراءه، فيما يظهر، لكن الاسم الذي نودي به هو «الرفيق جرنتشنكو» الذي كان يحاضر في مذهب «ماركس» ومذهب «لينين» في معهدنا، فكان بحكم وضعه هذا بمثابة المبشر «الروحي» - على نطاق مصغر وبمعنى من معاني الكلمة - المبشر الذي يذيع مبادئ المذهب الجديد بين الناس، فلو كان في قائمة رجال المعهد رجل واحد يجل عن النقد بحكم عمله، لكان هو هذا الرجل المديد القامة، البسيط المحيا، لقد كان رأينا فيه أنه أقرب إلى بث الملل في النفوس باعتباره معلما، أما باعتباره إنسانا فقد كان في رأينا ممتازا إلى حد يستحيل أن يفوقه فيه سواه.
كان «جرنتشنكو» يحاضر باللغة الأوكرانية، وهي لغته الأصلية، على الرغم من أن أوضاع هذه اللغة القديمة قد أهمل استعمالها، لا بل عدت ضربا من ضروب «الخروج على الوطن»، إنه شيوعي متعصب، يقول عنه طلابه: «إنه يرافق ماركس كل ليلة في مخدعه.» ولأننا لم نكن ندري عن قصة حياته إلا قليلا فقد أنصتنا في انتباه زائد إلى اعترافه.
هو سليل أسرة فقيرة من الريف، ولبث يعمل في إحدى الضياع الواسعة خادما في إصطبل حتى قامت الثورة، وكان قد بلغ من العمر عامه التاسع عشر حين سقط القيصر، فالتحق بصفوف البلاشفة من فوره، وصعد في الجيش الأحمر حتى بلغ مرتبة «قائد فرقة »، وأثخن في ميدان الحرب بجروح كثيرة، ولما أن وضعت الحروب الأهلية أوزارها درس النظرية الشيوعية في أحد معاهدها الخاصة، وها هو ذا يحاضر في مذهب لينين، حقا إنها لسيرة سوفيتية لا تشوبها شائبة من فساد .
وختم روايته قائلا: «ومع ذلك فلا بد لي من الاعتراف للجنة وللحاضرين من الرفاق بما زللت فيه من أخطاء في موضوع الخروج على الوطن، فقد ترسمت خطى «سكربنك» وغيره ممن شوهوا النظرية الشيوعية كما تعرف في صورتها المألوفة، تلك حقيقة من ماضي حياتي المرير، وهي حقيقة آسف لها وإن يكن قد محاها النسيان محوا تاما.»
فقاطعه الرئيس بلهجة أوضح ما تكون اللهجة توعدا بالشر، وتوترت أعصاب الحاضرين جميعا: «تقول محاها النسيان؟ ولكن ألا تزال على صلة بأفراد من أمثال ...» وذكر له ثلاثة أسماء أو أربعة. - «نعم، ربما أكون قد صادفتهم هنا أو هناك، فما يستطيع أحد أن يجتنب هذا اللقاء العابر، لقد كانوا فيما مضى من الوطنيين في أوكرانيا ولست معهم الآن على صلة من الود.» - «ألم يكن بينك وبينهم قط تبادل الرسائل؟» - «لا.» - «ألم تقابل هؤلاء الرجال بعد أن عفا عنك الحزب عفوا كريما؟» - «لا، وإذا لم تخني الذاكرة، فقد التقيت مرة برجل هو صديقي وصديقهم، ولكني لم أتحدث معه في السياسة.» - «هل تعلم أين هؤلاء الوطنيون الآن؟» - «سمعت تقريرا عن بعضهم أن قد ألقي عليه القبض، ولكني لا أعلم من.» - «ممن سمعت هذا التقرير؟» - «من الصديق المشترك الذي قابلته عرضا.» - «لقد ذكرت لنا الآن توا أنك لم تتحدث معه في السياسة، فكيف حدث أن أنبأك تقريرا بأمر القبض على هؤلاء؟» - «ربما أكون قد استعملت كلمة خاطئة حين قلت «سمعت تقريرا»، فلم تكن أكثر من ملاحظة عابرة.» - «أيها الرفيق جرنتشنكو، أنت ساذج إذا ظننت أنك مستطيع أن تذر في أعيننا رمادا، فنحن نعلم أنك - مثلا - حين سمعت بأمر من قبض عليهم، قابلت الخبر باستياء.» - «يؤسفني أن أقول: إن من بلغ عني ذلك قد افترى علي كذبا.» - «الأمر على نقيض ذلك تماما، فلدينا من مصادر عدة ما يثبت أنك ما تزال «أوكرانيا» أولا، «لينينيا» ثانيا، فلدينا اتهامات مقدمة من رجلين هما من ألصق زملائك بك.» وذكر اسمهما.
فوقع هذا القول على «جرنتشنكو» وقع الصاعقة، إذ لم يكن يخفى عن أحد منا أن هذين الرجلين لم يعودا بعد أحرارا من القيد.
وتمتم جرنتشنكو قائلا: «لا أستطيع أن أفهم غايتهما من الوشاية بي بمثل هذا الكلام، لقد كانا حقا من خيرة الأصدقاء.»
فقال أحد أعضاء اللجنة: «وأظن أنك يا «جرنتشنكو» لم تقل شيئا ضد المزارع الجماعية.» - «لا، ربما أكون قد تحدثت في نقد ألوان بعينها من الإسراف في تطبيقها، لكني لم أقل قط في حياتي كلمة أهاجم بها ما اتخذه الحزب في هذا الصدد من قرارات.» - «حسبنا منك هذا، ولنسمع الآن ما عسى أن يقوله في شأنك الحاضرون.»
ونهض الأساتذة الذين يحاضرون في مذهبي «ماركس» و«لينين» واحدا في إثر واحد لينزلوا بزميلهم الضربات، وأخذوا يلقون الخطب تباعا ليقولوا: إن الروح الوطنية (التي يتهمون بها جرنتشنكو إزاء وطنه أوكرانيا) تتنافى مع الشيوعية، وجعل هؤلاء الزملاء ينكتون رءوسهم لعلهم واجدون فيها ما يقذفون به زميلهم المتهم من ألوان الاتهام، فكانوا يعثرون في أعماق ذاكراتهم على نتف من أحاديث زميلهم لا تسعفهم الذاكرات بنصها الصحيح، وكانوا فيما يذكرونه عن زميلهم من وقائع لا يحددون لها التواريخ، بحيث جاء ما قالوه بمثابة المسامير التي تدق في نعشه السياسي، حتى لو كان ما قالوه يرجع تاريخه إلى زمن لم يكن شعور «جرنتشنكو» الوطني تجاه بلده أوكرانيا مما يحرمه قانون الشيوعية، بل كانت الحماسة الوطنية عندئذ ضربا من الإلزام.
وهكذا حشر «جرنتشنكو» في زمرة المطرودين الذين يجللهم العار، وهو ذلك الرجل المتعصب لمذهب «لينين» بذهنه الأوكراني الصافي، وبهذا بلغت سيرته ختامها.
وكنت أتساءل: ترى ماذا عسى أن يلحق بهذا الرجل من أحداث حين سمعت اسمي ينادى به، فأسرعت إلى المسرح وقصصت قصة حياتي: في المزرعة الجماعية، وفي مناجم دونتز، وفي المصنع، وعلى حدود فارس، ثم في المصنع من جديد، وأخيرا في المعهد ، وكنت أحس إبان الحديث أنني إنما أدلي بسيرة تستثير في السامعين إعجابا، فآبائي من طبقات الشعب إلى حد مقبول، ومناشطي شيوعية الاتجاه لم تنحرف عن مبادئها قط، وذكرت نبأ تفتيشي في «نيقوبول» وزيارتي الطويلة ل «أورزنكدز»، ذكرت هذا النبأ متعمدا لكني جعلته يبدو كما لو كان شيئا ذكر عرضا في سياق الحديث. وأخيرا غامرت بذكر تقرير موجز عن مهمتي اللتين أسندتا إلي في المناطق الزراعية، إذ إنني كنت على يقين أن أمري هناك قد وشى به واش، فلا بد لي إذن ألا أخفي ما اتخذته من قرارات جريئة، ثم بينت أنها قرارات أملتها علي ضرورة الموقف. - «في أي الظروف ضاعت منك تذكرة الحزب؟ هل تعلم أن ضياعها فيه هدم خطير لقوانين الحزب؟» - «أعرف ذلك وآسف له أيها الرفاق، ضاعت مني ونحن في معمعان الحصاد، فقد أصيب عامل زراعي بإغماء مفاجئ فحللت مكانه في العمل، وبينا نحن في اضطرابنا هذا فقدت محفظتي، وها هي ذي شهادة من القسم السياسي في ذلك الإقليم تثبت ذلك.»
فحصت اللجنة عن الشهادة المقدمة، وأضافتها إلى ملف أوراقي، واستأنفت استجوابي. - «لدينا ما يثبت معارضتك للتدابير الفعالة التي تطبق في جمع الغلال، وأنك أنكرت ممثلا رسميا للحزب.» - «الواقع عكس ذلك يا رفاقي، إنه هو الذي أساء إلى الحزب، أقول ذلك على زعم مني بأنكم تعنون «أرشينوف» الذي حدثتكم عن أساليبه.» - «لنفرض معك أننا نعني أرشينوف.» - «وإن كان ذلك كذلك، يا رفيقي الرئيس، فها هي ذي صورة من تقرير عنه قدمته إلى اللجنة الإقليمية وإلى جريدة برافدا، وسترى أن هذا الرجل وصم بالعار الشيوعية والشيوعيين، لقد بذلت جهدي في سبيل صيانة الحزب وسمعته الطيبة من أفعاله؛ ولهذا يحاول أن يحفر الأرض من تحت قدمي، لقد كان مما استخدمه «وسائل بدنية».»
فسأل أحد النظارة: «أي ضرب من الوسائل البدنية؟»
فقال الرئيس مسرعا: «قد ألمت اللجنة الآن إلماما كاملا بالوقائع، فخير لنا الآن أن تحدثنا عن شيء من أساليبك أنت أثناء الحصاد في لوجينا.» قال الرئيس ذلك بسرعة ليغير موضوع الحديث.
وقصة الحصاد في «لوجينا» هي أكبر عقبة أمامي، وقد رتبت في رأسي كيف أسلسل حوادث القصة، ووعيت ذلك في رأسي أياما لأقوله ساعة الاتهام، لكن القصة التي رتبتها في رأسي ذابت الآن على نحو لا أدريه، وتدخلت الحوادث تدخلا لم أستطع معه وضعها في خط واحد مستقيم، فاعترفت بأنني جمعت الشوفان والشعير إنقاذا للحصاد، وبأنني أقمت دارا جماعية للأطفال، وأنني لجأت إلى «وسائل حازمة» في إطعام هؤلاء الأطفال وفي إنقاذ الناس وإنقاذ الموقف جميعا. «لقد شكرني الرفيق هاتايفتش بنفسه على ما فعلت في الحصاد الذي أتممته قبل الموعد المضروب بعشرة أيام، وها هي ذي شهادة رسمية من القسم السياسي تثبت حسن صنيعي.» وناولتهم الشهادة: «ماذا أقول بعد هذا؟»
أخذت الرئيس حيرة؛ لأنني جئت إليهم مدعما بالوثائق، فلو كان في عزمه أن يسير القضية على نحو يضرني، فهو الآن في حالة من التردد، وانفتحت الطريق أمامي للنجاة، ثم سار بالأمر في طريق أخرى جديدة تنفست معها الصعداء. - «ما وظيفة أبيك؟» - «يشتغل في مصنع «بتروفسكي-لينين» ويشتغل معه هناك أخي الأصغر، أما أخي الأكبر فهو حاسب في مصنع كيميائي.» - «هل أبوك عضو في الحزب؟» - «لا.» - «وأخواك؟» - «لا.» - «لماذا كان أبوك سجينا قبل الثورة؟» - «لأعمال ثورية. في ثورة 1905م وبعدها أيضا.» - «لأي الأحزاب كان ينتمي؟» - «لم ينتم إلى حزب في حياته.» - «أواثق أنت مما تقول؟» - «كل الوثوق أي رفيقي جالمبو.» - «إذن فهل لأحد هنا من الحضور أن يقول شيئا؟»
ونهض من الرفقاء ثلاثة ليهاجموني، كما نهض كثيرون آخرون ليثنوا علي، وكان بين هؤلاء «سريوزا»، وعلى كل حال لم يكن في الأمر ما يثير الاهتمام، فأخذ الناس ينسلون خارج القاعة التدخين، فهي قضية سخيفة. وأعطيت تذكرتي.
وقبل مغادرتي للمنصة سألت أعضاء اللجنة عمن وجه إلي الاتهام في الفترة التي أقمتها في «لوجينا»، ونظروا إلى ملفات الأوراق مما يدل على أن صاحب الاتهام لم يطلب إخفاء اسمه.
فقيل لي: «صاحب الاتهام عضو في الحزب، هو الرفيق سكوبين.» - «هذا على وجه الدقة ما ظننت.» قلت ذلك مبتسما، وهكذا لم ينس لي ضابط الشرطة السرية في القسم السياسي أني رفضت الحديث معه!
أحاط بي الأصدقاء، وضغطوا على يدي، فما زالت حياتنا مفتوحة الطريق أمامنا، لا نزال رجالا في الحزب ذوي مركز حسن .
وفي أوائل سنة 1934م أعلن «الرفيق لا زار كاجانوفتش» في موسكو أن 182500 عضو طردوا من الحزب، ولا بد أن تزيد الأرقام النهائية على ذلك العدد؛ لأن عملية التطهير لم تكن قد انتهت بعد في بعض المناطق، وهكذا انتهت على هذا النحو سير مائتي ألف من الناس، وزعم «كاجانوفتش» أن الحزب قد تم «تنظيفه» بذلك وأنه قد أصبح الآن حزبا ذا عقيدة واحدة، لكن هذه النتيجة لم تلزم عن تلك المقدمات.
بل إن هذه المقدمات انتهت إلى نقيض هذه النتيجة كما أشاهد الأمر في نفسي، فعلى الرغم من أن المحنة ذهبت عني موجتها فليس إلى الشك من سبيل في أني أصبحت أكثر ارتيابا في الحزب وأكثر قلقا في أعماق نفسي من ألوف الرجال والنساء الذين قذف بهم فوق كومة المهملات السياسية، وما هو صحيح بالنسبة إلي كان صحيحا بالنسبة إلى عشرات الألوف سواي، فليقل الزعماء لأنفسهم ما شاءوا من «أن آخر ما تبقى من آثار الخروج على الحزب ومعارضة مجراه قد زال»، ليقل الزعماء في ذلك ما شاءوا، لكن الصفوف الدنيا من أعضاء الحزب كانت أعلم بالأمر من هؤلاء الزعماء.
الفصل الحادي عشر
سر إلينا
توارت من المعهد، طلابه ومدرسيه، وجوه كثيرة بعد التطهير كنا قبل ذلك قد ألفنا أن نراها، لكن من بقي في المعهد أطلقوا لأنفسهم في عملهم حرية أوسع ونشاطا أكبر، ما دامت أصابع الرعب قد زالت عن حلوقهم، وكنت عندئذ في آخر أعوام دراستي، وكان قد مضى علي أمد منذ أخذت في معالجة مشكلات هندسية عملية في مصنع المعهد، أنفق فيها بعض وقتي باعتبارها جزءا من منهج دراستي، حتى إذا ما تخرجت كان لي أن أتطلع إلى منصب رئيسي في صناعة المعادن التي كان يتسع نطاقها.
ولم ألبث بعد حركة التطهير أن التقيت ب «إلينا»، وقد عرفت ما تعانيه من آلام، فسرعان ما صيرت كيمياء الحب آلامها جزءا لا يتجزأ من حياتي، فأصبحت تكون فصلا من قصة سيرتي، بل إن ما ألم بي من أحداث إلماما مباشرا قلما ترك في نفسي أثرا أعمق مما تركته هذه الأحداث التي وقعت ل «إلينا» وغيرت من نظرتي إلى حكومة السوفيت.
لطالما أخذني العجب مما تفعله المصادفة البحتة في تقرير حياة الإنسان، لقد حدث لما انتقلت إلى «دنيبروبتروفسك» أن سكنت «إلينا» في شقة من منزل يقع على مقربة من مسكني، وكانت تذهب إلى عملها في الصباح في نفس الوقت - تقريبا - الذي كنت أذهب فيه إلى المعهد، فنشأ عن ذلك أننا كثيرا ما كنا نركب عربة واحدة، وقد كنت لحظتها أول مرة ذات يوم ثارت فيه عاصفة ثلجية شديدة، إذ كان كلانا واقفا ينتظر على طوار السيارة الكهربائية الحجري، ومعنا نحو اثني عشر رجلا وامرأة تلاصق بعضهم في بعض.
تلك كانت حادثة عابرة، كذلك كان لقائي الثاني بها ولقائي الثالث فيما تلا ذلك من أسابيع، كلها كانت من قبيل المصادفات، لكني بعدئذ أخذت أبحث عن هذه الفتاة الممشوقة ذات الشعر الأسود، وأخيرا جعلت أنتظر قدومها، فكنت أترك سيارات كثيرة تمضي فلا أركبها ارتقابا لها، وعلى غير أساس من منطق سليم كنت أغضب إذا ما تأخرت، حتى إذا ما لمحتها بطرف عيني قادمة بقدها الأهيف؛ نبض قلبي نبضة أو نبضتين، وحسبت - وكان حسابي صوابا كما علمت فيما بعد - حسبت أنها كانت شاعرة أتم الشعور باهتمامي بها، وأنها لم تكن إزاء اهتمامي تقف موقف التي لا تأبه بالأمر كثيرا أو قليلا، وكثيرا ما ضحكنا معا فيما استقبل من الأيام، ضحكنا معا من هذا الغزل الذي يتم بغير كلمات وعلى طرف من سيارة عامة.
ولما قدمت لها في نهاية الأمر - وكان ذلك أيضا مصادفة - أحسسنا معا كأنما طال عهد تعارفنا، كان ذلك في ساعة متأخرة ذات مساء، وكنت عائدا من جلسة طويلة عقدتها اللجنة الإقليمية، وكانت القاعة معبأة بالدخان ، والنقاش يبعث الملل، فما كان أحلى الخروج عندئذ إلى الهواء الطلق حيث أستنشق الهواء البارد وأحس لسع الصقيع، وبينما كنت أخطو مسرعا في طريقي، ناداني مناد، فقد مررت لتوي بسيدتين أوشكت ألا أراهما.
درت ببصري إلى خلفي فعرفت منهما طبيبة كانت عالجتني في المستشفى بعد خدمتي على الحدود الفارسية، وأما التي معها فهذه الجميلة التي لم أكن عرفتها بعد.
حيتني الطبيبة تحية حارة، وقالت: «كيف كانت حالك هذه الأيام يا فكتور أندريفتش؟ إنني لمغتبطة حقا أن أراك، لقد كنت أتابع قراءة مقالاتك في الصحف، وكنت أتتبع أخبار تقدمك في الحياة من أصدقاء لي هم كذلك أصدقاؤك، معذرة، فإني أقدم إليك صديقتي الشابة «إلينا بتروفنا».»
فكادت الطبيبة أن تفزع لهذا الشوق الذي بدا في «إلينا» وفي حين تصافحنا، ولهذه الحيرة التي نطق بها لسان حالنا، فما كان يدور بخلدها أن قد مضى علينا شهر أو نحو شهر ونحن لا نحلم إلا بمثل هذا اللقاء ليصل مسافة الخلف بيننا، ولا شك أنها ازدادت دهشة حين التمسنا سبيلا لتوصيلها إلى سيارة عامة حتى نمشي وحدنا، ولم يكن عسيرا علينا أن نخلق علة لذلك، ما دمنا نسكن معا في منطقة واحدة.
الأناقة والرشاقة كانتا أول ما يخطف البصر من جمال «إلينا» الفريد، نعم كان لها وجه رائع، لكن لو أراد فنان أن يصورها لما عن له قط أن يرسم وجهها وحده على لوحته، بل إن طبيعة الموقف تملي بنفسها عليه الرغبة في أن يصورها كاملة، كانت «إلينا» في ذلك المساء الذي تم فيه لقاؤنا الأول على صورة رسمية، تلبس معطفا من فرو أسود، يضيق عند الخاصرة، وتحته رداء يسطع بلونه على نحو ما اعتاد أهل القفقاس، وعلى رأسها قبعة لم تطرز حوافيها، وعليها قليل من فرو أبيض، وكانت القبعة مرتكزة على شعرها الفاحم، ماثلة على نحو يستوقف النظر، فأظهرت طولها النحيل، وعلى حاجبيها بضع رقائق من الثلج المتساقط، لمعت كأنها من كريم الأحجار.
مشينا نحو الساعة ذراعا في ذراع، نتحدث عن نفسينا وعن العالم ثم عن نفسينا من جديد، فقد كانت هي كذلك آتية لتوها من اجتماع في مكان عبئ هواؤه، وأرادت أن تسترد نشاطها بالبرد القارس والهواء الذي يلمع كأنه البلور، أنبأتني أنها كانت في «دنيبروبتروفسك» لأول مرة، وأنها كانت مهندسة معمارية في مكتب للتخطيط الهندسي يتبع الحكومة، وكانت ترجح لنفسها أن يطول بقاؤها في هذا البلد، ولقد تخرجت منذ أربع سنوات في معهد الفنون «بخاركوف» حيث تخصصت في فن العمارة.
قلت لها في موضع من سياق الحديث: «ما أسعدني بلقائك، إني لأحس أن هذا اللقاء سيزدهر بصداقة صحيحة.»
فقالت مبتسمة: «وهذا ما أحسه أيضا، لكني أصارحك بأني لا أريد هذه النهاية حرصا عليك، فلو كنت عاقلا يا «فكتور أندريفتش» لجعلت هذا اللقاء الأول لقاء أخيرا.»
فأزعجتني هذه العبارة منها على الرغم من أنها ضحكت بعدها، فقد شككت للوهلة الأولى أن الأمر أخطر مما يبدو من طريقة حديثها، شككت أن يكون حديثها ذاك مشيرا إلى مأساة لها في حياتها الخاصة، فقد ابتسمت لكن ابتسامتها خلت من كل علامات المرح، وكمن في عينيها اكتئاب عجيب تفاعل مع جمالها منذ اللحظة الأولى فزاد أثره قوة على قوة.
قلت لها: «سأتعرض لكل خطر في سبيل صداقتك.» - «لكني أنذرك فاذكر نذيري.» - «لا بأس فسأذكره، لكن لا بد لك مقابل هذا أن تنبئيني عن نفسك أكثر مما أنبأتني، فمثلا ...»
فقاطعتني قائلة: «لا تسلني، نعم أنا متزوجة، وزوجي رجل طيب لكنه منكود الحظ، وكلانا نعيش تحت سقف واحد، وأعنى به عناية الأخت بأخيها، أما فيما جاوز ذلك فنحن زوج وزوجة بالاسم وحده، أنا لا أحبه ... وبهذا المعنى ... أنا مسرورة بلقائك، لقد استوحشت بوحدتي.» - «استوحشت بوحدتك؟ أنت؟ بكل ما لك من دار وعمل ناجح وجمال ...» - «أوه، إنني أعرف ناسا كثيرين، بل ربما كانوا أكثر عددا مما ينبغي، ومع ذلك فأنا أغبطك؛ لأن لك بيتا حقيقيا وأما، لقد مات أبي، وأمي تعيش في «كيف»، ولست أخلو من الغبطة لهذا، ففي هذه الأيام يمر علينا من الأحداث ما لا يجوز لأحد أن يتحدث عنها لأحد حتى لأمه، ثم أغبطك كذلك لما تعيش فيه من أوهام، إذ لا شك أنك شيوعي يخلص لمذهبه.»
قلت: «يستطيع الإنسان أن يكون مخلصا لمذهبه حتى بعد أن يطرح بعض أوهامه، لكن دعينا من السياسة الآن، حدثيني عن زوجك أكثر مما فعلت ...» - «أرجوك ألا تطلب هذا، فلو كنت حقا تريد أن تعاود رؤيتي فهنالك شرط واحد أشترطه عليك، وذلك هو أن تتصرف معي على فرض أنه غير موجود، والواقع أن ليس له وجود بمعنى الوجود الصحيح، لكني أعود فأنذر، إنك مليء بالأمل والإيمان، أما أنا فلا أمل لي ولا إيمان، فأنا من القافلة في ذيلها على حين أنك من الموكب في طليعته، وسيسهل عليك السير إلى أمام لو كنت في سيرك وحيدا.» - «لن أستمع إلى نذيرك هذا، وفي نيتي أن أراك كثيرا مهما كلفتني هذه الرؤية من ثمن.» وهنا افتعلت هيئة المرح ومضيت أقول: «لن أندم على صلتي بك حتى وإن لقيت في سبيل ذلك نيران الجحيم عذابا.»
فابتسمت ابتسامة حزينة وقالت: «أسمعتك تقول نيران الجحيم؟ لست أدري شيئا عن نيران الجحيم، لكني أعرف كثيرا عن نيران هذه الحياة الراهنة، وأين منها نيران الجحيم، ما دامت هي تصيب الناس في حياتهم لا بعد أن يلحق بهم الموت.»
تركتها عند باب دارها بعد أن تم الاتفاق بيننا على اللقاء في المتنزه مساء السبت المقبل، واشتريت تذكرتين لحفلة موسيقية ممتازة كانت ستقام في ذلك المساء، وسيشترك فيها أعلام الفنانات من فرقة الرقص التمثيلي الموسيقي بموسكو، من أمثال «فكتورينا كريجر» و«جوليوين»، كان انتظار السبت عذابا أليما، ومع ذلك فقد اجتنبت لقاءها على طوار العربة العامة، وكان كلما آن وقت النوم من كل ليلة، فرحت لأن معناه أننا اقتربنا خطوة من موعد اللقاء المضروب.
ولكم سرني حين التقينا أن أدرك من ضغط يدها على يدي ومن تورد وجنتيها أن «إلينا» كذلك كانت تنتظر هذا اللقاء الثاني بصبر نافد، مشينا وتحدثنا ثم ذهبنا إلى مسرح الأوبرا، وكانت فيما يبدو من هزة الفرح بمثل ما نعهده في الطفل يوم العيد.
همست في أذني بينما كانت «جوليوين» ترقص دور كورسير: «إنني لأنسى كل همي وأنا في جوارك.»
لم تعد «كريجر» بالشابة الصغيرة، ومع ذلك فلم يزل رقصها رائعا، وكانت تصادف من الناس إعجابا في طول الروسيا وعرضها، وكانت تلك الليلة ترقص مناظر في دورها المشهور من رواية «بحيرة التم»، وصفق لها النظارة تصفيقا عاصفا، ثم تبعتها مغنية أخذت تنشد: «فكوا أساري، ألا فكوا أساري، وسأعرف كيف أمحو عاري، وسأعيد في الناس سمعتي وفخاري ...» فضغطت «إلينا» على يدي ضغطة شديدة حتى آلمتني.
قالت في صوت منخفض فيه اضطراب: «فكتور أندريفتش، أنصت إلى هذه الكلمات فإن لها لأعمق الأثر في نفسي ونفوس كثيرين بل كثيرين جدا سواي.»
ثم جاءت امرأة بدينة فغنت أنشودة «ليزا» من رواية «ملكة البستوني» فأحسست كأنما ذهبت عن «إلينا» كل فرحة بالحفلة الموسيقية، وأخذت تتململ في كرسيها وتتنهد، فلما بلغت المغنية من أنشودتها هذه العبارة: «وجاءت السحابة الصغيرة فاستتبعت في ذيلها الصواعق وحطمت قوائم السعادة والأمل ...» نهضت «إلينا» من فورها وجذبتني معها.
قالت: «أرجوك الانصراف يا فكتور أندريفتش، أرجوك لم يعد في وسعي أن أنصت أكثر مما فعلت.»
ولما خرجنا إلى الهواء الذي يلفحه الصقيع، هدأت ثورة نفسها، ولم أسألها شيئا، واعتزمت ألا أستكشف هذا السر المقبض الذي يعتم حياتها بظله، مهما يكن نوعه.
قلت: «هيا إلى مطعم فنسمع شيئا من العزف البهيج.» - «لا بأس، لكني أشترط شرطا واحدا، وهو أن أدفع حسابي، فأنت طالب وأنا أعمل وأكتسب، وليس ثمة ما يبرر أن تدفع أنت.»
وبعدئذ جرت العادة خلال الأشهر التالية أن نلتقي مرة على الأقل في كل أسبوع، وكثيرا ما التقينا في الأسبوع أكثر من مرة، وانقضى الشتاء وأقبل الربيع، وقدمت «إلينا» لأمي؛ فأحبت كلتاهما الأخرى منذ النظرة الأولى، وأخذتا بعد ذلك تلتقيان كثيرا حتى ولو لم أكن معهما.
قالت لي أمي: «إنها امرأة لطيفة وهي تحبك حبا جما، وأنا أعلم كيف تحس نحوها، لكن في حياتها شيئا يبهظ فؤادها بحمله الثقيل.» - «أعلم ذلك يا أماه ولم أعثر على شيء أفسر به سر شقائها، ولقد وجدت أن تحسس السر من أصوله إنما يؤذي شعورها، فكففت عن السؤال.» - «لقد أصبت يا «فيتيا» إنها فتاة طيبة ولا عليك إذا ركنت إليها، وأيا ما كان هذا الذي يعنيها فلن يكون مما يسيء، فهي من الناس الذين لا يحبون أن يؤلموا أحدا إلا نفسها.»
وحدث ذات ليلة أن تعشت «إلينا» مع أسرتي ولبثت تقضي المساء، فأخذنا في القراءة معا وجلسنا نستمع إلى المذياع معا، وعرف كل منا، دون أن نتبادل في ذلك الكلمات، أنها لا تريد العودة إلى دارها.
قالت «إلينا»: «هذه ليلة زواجنا يا فكتور، فأنا أحبك بكل قلبي ونفسي، وأرجو أن تصدقني إذا ما قلت: إنك الرجل الأول والرجل الأوحد الذي التقيت به في حياتي منذ ذهب عن فؤادي حبي لزوجي.»
مضت شهور و«إلينا» ما فتئت تزورنا في دارنا حتى كادت تصبح فردا من الأسرة، وكان أبواي وإخوتي يجلونها إجلالا لما كان يحيط بها من هالة مجد تشع النور إشعاعا في نفوس أهلي جميعا، ورغم ذلك كله لم أكد أخلو من قلق مقض لعلمي أن جزءا هاما من حياتها ما زال عني خبيئا، وكان يخيل إلي أحيانا أنها تعيش في حالة من الهلع الذي لا ينقضي، كأنما كانت تسكن من هذه الدنيا دارا توازن بنيانها على شفا هاوية توازنا قد يختل لأضعف المؤثرات فتهوي بها في القرار.
وذات يوم وجد هذا الهم الحائر في نفسي بؤرة يتركز فيها، ولقد عللت لها ريبتي بأنها قلق مني على سعادتها، لكنها كانت ريبة ترجع في أكثرها إلى غيرة الرجال المألوفة على من أحبوا من نساء.
ذلك أنه حدث ذات عصر بعد أن فرغت من محاضراتي أن صحبت طائفة من زملائي في الدراسة إلى مباراة في كرة القدم كانت تجري في ملعب المدينة، فلما أن انتصف وقت اللعب بفترة من الراحة اندفعنا مسرعين إلى المقصف لنجرع أكواب الجعة، فوجدنا - كما هي الحال دائما - صفا طويلا من المنتظرين أمام النضد، وأخذنا من الصف مكاننا، وبينا أنا واقف في الصف أرسل نظرات هائمة خلال الباب إلى مطعم ملاصق، إذا وقع بصري على «إلينا» وقد تأنقت في ثيابها تجالس رجلين لم أشك في أنهما أجنبيان عن البلاد، وكان ثلاثتهم يشربون النبيذ ويسمرون في مرح، وخيل إلي أن الرجلين ينظران إلى «إلينا» نظرات فيها جرأة وشهوة.
وبقيت في الملعب حتى انتهى اللعب، لكني لم أشهد منه شيئا.
ماذا كانت «إلينا» تصنع في صحبة هذين الأجنبيين؟ ولما انتهى اللعب رأيتها تغادر الملعب محروسة بذينك الرجلين، وركبوا جميعا سيارة أجنبية كبيرة، فظللت بقية اليوم تائه الفكر ولم يغمض جفناي طيلة الليل.
وفي اليوم التالي قدمت «إلينا» إلى داري للعشاء كسابق اتفاقنا، فحدجت فيها بصري ونحن جالسان إلى مائدة الطعام، لكني لم أعثر فيها على علامة واحدة تنم عن التحول، أيكون هذا الاتصال بالأجانب - وهو أمر خطير في بلادنا - جانبا مألوفا لها في حياتها بحيث لا تتأثر له؟ ولما خلا لنا المكان ذكرت في سياق الحديث العابر أنها كانت في مباراة كرة القدم في اليوم السابق.
قالت: «طلب إلي رئيس مكتبي أن أصاحب زائرين إلى هناك، يا لهما من ثقيلين!»
لم أنبس بكلمة عن رؤيتي لها في الملعب، ولما غادرت غرفتي ذاهبة إلى المطبخ لحظت حقيبتها مفتوحة ولمحت فيها أوراقا، وكانت نار الغيرة والشك لا تزال تتأجج في صدري فعبرت بنظري عبورا سريعا على تلك الأوراق، فوجدت ورقة منها مكتوبة بالألمانية، وعرفت - على جهلي بالألمانية - أنها تحوي أشياء فنية وإشارات إلى مقاييس وآلات، وكانت الورقة الأخرى مكتوبة بالروسية، تبدأ بالعبارة الآتية: «إذ أرسل إليكم طي هذا الخطاب تقريرا فيه المعلومات، أود أن أذكر ...» هنا سمعت وقع خطاها قادمة فأعدت الأوراق مكانها مسرعا.
لم يعد عندي مجال للشك في أن لهذه الأوراق صلة ما بذينك الأجنبيين، وأن القصة كلها إنما تشتمل على مفتاح سر حياتها الغامض، فلما أن افترقنا في ساعة متأخرة من ذلك المساء سألتها متى يكون لقاؤنا التالي.
قالت: «الجمعة مساء.» - «عندي محاضرة - لسوء الحظ - هذه الجمعة أيضا، فليكن لقاؤنا يوم الخميس.» - «آسفة يا حبيي؛ لأني أتوقع أن تشغلني مشغلة هامة يوم الخميس.»
وكانت ريبتي قد أرهفت حسي، فأشرقت علي عندئذ حقيقة لم أتبينها قبل ذلك الحين وهي أن «إلينا» من عدة أشهر لم تخل لي يوم الخميس من كل أسبوع، فاعتزمت أن أتعقبها هذا الخميس - إذا استطعت ذلك - لعلي أعلم من أمرها شيئا.
وجاءت ليله الخميس مظلمة ممطرة مما يسر عملية التعقب على رجل لم يحترف مثل هذا العمل، فلما أبصرت بها تعتلي سيارة عامة وثبت على سلم السيارة الخلفي، حتى إذا ما نزلت بالقرب من وسط المدينة، نزلت وتابعتها على مبعدة في الجانب الآخر من الطريق، فرأيتها تدنو مما بدا لي كأنه دار خاصة، ودقت الجرس وفتح لها الباب رجل يرتدي حلة، فأدخلها وتلفت يمنة ويسرة في حذر ثم أغلق من دونه الباب.
ووقفت إلى جوار باب بحيث أتمكن من رؤية الدار واضحة، وظللت أرقبها ما يقرب من ساعتين، فرأيت داخلها ناسا يجيئون ويذهبون، وكان هنالك من أضواء المنازل المجاورة ومن الضوء الذي انبعث من الباب عند فتحه ما مكنني من رؤية وجوههم، وكان الرجل ذو الحلة كلما فتح الباب نظر إلى الطريق نظرة فاحصة كأنما يريد أن يستوثق أنها تخلو من المشاهدين، ومعظم من قصد الدار كان من النساء، عرفت منهن عددا، فإحداهن سيدة معروفة في المدينة بأسرها، معروفة بجمالها وفتنة حديثها حين تستضيف الأضياف، وهي زوجة طبيب مشهور، وأستاذ في أمراض النساء، وأخرى كانت مغنية ذائعة الصيت في دار الأوبرا من المدينة، وكان من القادمين مهندس بارع طالما رأيته في المؤتمرات الفنية عضوا، وقد عرفت من الزائرات طائفة، عرفتهن إذ كن واقفات أمام الباب ينتظرن أن يفتح لهن، فعرفت فيهن سيدات كثيرا ما رأيتهن في المسرح ومباريات الرياضة البدنية وهن في «دنيبروبتروفسك» بمثابة سيدات الطبقة الراقية.
وأخيرا جاءت «إلينا» من داخل الدار يصحبها رجلان يرتديان معطفين من معاطف المطر، التي يلبسها المدنيون، لكن أحدهما فتح معطفه ليخرج سيجارة من جيبه الداخلي، فرأيت أنه يرتدي حلة عسكرية لم تدع لي مجالا لشك في أن صاحبها من الشرطة السرية، فعرفت عن «إلينا» كل ما أردت أن أعرف، فهي تنتمي بغير شك إلى فرقة الجواسيس التي انبثت في كل ثنية من ثنايا مجتمعنا السوفيتي!
فاضطرب رأسي اضطراب الهلع، وأخذت أتقلب في سريري ذلك الليل، أحاول ترتيب خواطري، فما كان لي من الوجهة النظرية - باعتباري شيوعيا - أن أنقم على الشرطة السرية في تجسسها الذي تغلغلت به في كل ركن من أركان البلاد، ولم يكن هنالك من جديد بالنسبة إلي في أن ألوف الناس يبدون كأنما تشغلهم في الحياة هذه المشغلة أو تلك، وهم في حقيقة أمرهم لا يشتغلون إلا بالتجسس، ولكن على الرغم من ذلك كله، فقد دهشت دهشة عميقة إذ علمت أن الفتاة التي أحببتها كانت فيما يظهر من أعضاء الشرطة السرية، فكأنما ظهرت مني غريزة دفينة تمقت التجسس، فاهتز كياني من جذوره هزا عنيفا.
كان منا نحن الشيوعيين من يعلم علم اليقين أن ألوفا من الأبرياء رجالا ونساء يزج بهم في السجون أو يدفع بهم إلى معسكرات العمل الشاق، لكننا ندس مثل هذا العلم في أعماق رءوسنا فلا يطفو، وقد كنا نفسر لأنفسنا هذه الحالة بأنها تدبير «وقائي»، أو كنا نغضي عن الجانب الخلقي من الأمر إغضاء ونأبى أن ننظر إلى الأمر بأبصار زالت عنها الغشاوة، أيمكن أن تكون «إلينا»، وهي القريبة من فؤادي الحبيبة إلى نفسي قد أنزلت بالأبرياء عذابا وموتا؟ كنت كلما فكرت في هذا الكشف الفظيع، ازدادت حالتي يأسا، فقد مزقني الجذب من جانبين: فحب هنا وهلع هناك.
أرسلت إلى «إلينا» رسالة قصيرة في الصباح التالي أنبئها أن قد اضطرتني ظروف إلى مغادرة المدينة نحو أسبوع، وانتقلت إلى دار أحد الأصدقاء خشية أن تجيء إلى دارنا بحثا عني، أو أن أصادفها في الطريق في الحي الذي نسكنه معا، حتى إذا ما أقبل الخميس التالي كنت في مخبئي عبر الشارع أرقب تلك الدار وما يحيط بها من سر عجيب، فرأيت «إلينا» هناك للمرة الثانية، كما رأيت آخرين، معظمهم نساء، واتضح لي الآن ما يعملون وعلى أي نظام يسيرون، فكل هؤلاء - بمن فيهن من زوجات الموظفين الأعلام - كن يقدمن تقاريرهن عما عملن طيلة الأسبوع، ولعلهن كذلك كن يتلقين الأوامر، فدار خاصة كهذه جعلت مثل هذه المهمة أيسر وآمن من الاجتماع في المركز الرسمي للشرطة السرية.
عدت إلى داري ذاك المساء، وكتبت إلى «إلينا» أقول: إن أسبابا لا قبل لي بالإفصاح عنها تضطرني اضطرارا ألا أراها بعد ذاك، وقلت كذلك: إن كل ما بيننا من صلات قد بلغ الآن ختامه، وإني لأشكر فضلها إذا ما قبلت قراري في هذا الأمر ولم تحاول أن تستأنف العلاقة التي كانت تربطنا، والتي استحال عليها أن تعود فتربطنا من جديد.
وكان هذا القرار كأنما هد قوائمي هدا بحيث لا أستطيع عملا أو تفكيرا واضحا، وانقطعت عن المعهد وأخذت أذرع شوارع المدينة ساعات بعد ساعات، أحاول عبثا أن أنسى عذابا أليما، على أن حالتي هذه إنما كانت تخفي وراءها شوقا مضنيا لرؤية «إلينا» كما كانت تخفي وراءها قلقا مؤرقا خشية أن أكون في ظني بها آثما.
وبعد ذلك بأيام، عدت من المعهد فناولتني أمي خطابا.
قالت أمي: «تركت إلينا لك هذا الخطاب، وقد ظهرت عليها علامات الحزن العميق، وتورمت عيناها بالبكاء، إنني لا أحب يا «فيتيا» أن أتدخل في شئونك الخاصة لكني آمل أن تتبصر ما أنت صانع، إن الجراح التي ينزلها بنا أحباؤنا هي آلم الجراح جميعا.»
كان خطاب «إلينا» قصيرا: «حبيي فيتيا، أرجوك فضلا أخيرا، قابلني مساء الغد في محطة السكة الحديدية الساعة السادسة، إني لأتوسل إليك أن تهبني هذه المكرمة الأخيرة قبل أن نفترق إلى الأبد.»
ذهبت قبلها فانتظرتها حتى جاءت تحمل حقيبة صغيرة للملابس، وحز قلبي ما رأيته على وجهها الجميل من علامات الألم كأنما هو السكين الماضية.
قالت لي: «سنذهب معا إلى نهر سامارا وسنأكل معا ونسمر معا في طلق الهواء، لقد أعددت تذكرتي القطار.»
ودار الحديث بيننا في القطار حول أمور توافه، فتحدثنا عن إعدادي للامتحان الأخير في المعهد، وعن مشروع بناء كانت مشتغلة هي بتصميم خطته، ووصلنا محطة صغيرة وسرنا في طريق ريفي حتى بلغنا ضفة النهر، واجتنب كلانا أن يفتح بالحديث موضوعا خطيرا، كأنما كنا نؤجل عامدين تلك اللحظة التي من أجلها جئنا ها هنا، ودنا الليل وقرقعت السماء على مبعدة بصوت الرعود.
قلت مقترحا: «دعينا نسبح في الماء لحظة قبل أن تصب السحائب ماءها.»
ونضونا ثيابنا وارتمينا في الماء، حتى إذا ما انتعشنا بالسباحة عدنا فارتدينا الثياب، ثم فرشت غطاء مائدة ونشرت عليه طعاما، وكانت قد أحضرت معها كذلك زجاجة من نبيذ ناباريلي.
قالت «إلينا»: «لقد شربنا نخب التقائنا منذ أمد بعيد، فلنشرب الآن نخب افتراقنا.» قالت ذلك وقد اغرورقت عيناها بالدموع، ثم مضت تقول: «تذكر أنني قلت لك آنئذ: إنه يحسن ألا نعاود اللقاء، فها أنا ذا على وشك أن أفقد صحبتك، وسأعتزل وحيدة مرة أخرى.»
لم يأكل أحد منا شيئا من الطعام، لكننا شربنا النبيذ. - «قل لي يا «فيتيا» ماذا حدث على غير ارتقاب؟ لماذا أمسكت عن حبي؟» - «إني أحبك الآن كما أحببتك دائما، وذلك ما جاء بي ها هنا، وإنما جئت معتمدا على إخلاصك يا «إلينا»، فهل لك أن تكاشفيني بسرك؟ فلن أساق بعد الآن كما يساق يافع مأفون.» - «ماذا تريد أن تعلم عني، أهو عن زوجي ما أردت أن تعلم؟» - «لا بل عنك أنت، فأنا أعلم لماذا تصحبين الأجانب، وأعلم من اجتماعاتك مساء كل خميس في الدار التي تقع في شارع ب ... فماذا تريدينني بعد أن أقول؟»
فتنهدت باكية وأخذت تقول: «رباه يا رباه، ماذا أنا صانعة، ماذا أنا صانعة؟»
ولمعت السماء بالبرق، وأخذت قطرات المطر الكبيرة تسقط من السماء، فلجأنا إلى كوخ سماك مهجور كان منا على مقربة، وفي ذلك الظلام الذي أخذ يزداد حلوكا، وعلى كومة من الدريس اليانع العبق، قصت علي «إلينا» قصة سرها.
قالت: «أحبك حبا لا أستطيع معه أن أضحي برفقتك، فحاول يا حبيب الفؤاد أن تنصت إلى حديثي بعقل فسيح الأفق، سأنبئك بما لم أنبئ به إنسانا آخر، بل بما لم أنبئ به أمي، ودع عنك زوجي المسكين، فإذا ما سمعت قصتي حتى ختامها، فلك بعد ذلك أن تقرر لنفسك طريقا.»
وها هي ذي قصة «إلينا» عن حياتها، أسجلها بألفاظها كما بقيت في الذاكرة. «كنا نعيش في «كيف»، وكانت أمي فيما مضى تشتغل بالتدريس، كما كان أبي أستاذا للهندسة معروفا بين الناس، يشتغل في شركة في «كيف» ويكسب مالا كثيرا، وكنت ابنة والدي الوحيدة، فنعمت بطفولة سعيدة، لم أحرم خلالها شيئا، وتعلمت عزف الموسيقى واللغات ونشأت خلية البال من كل هم، وكان الرسم هوايتي التي آثرتها على كل شيء سواها.
وكان لجيراننا ابن هو «سرجي» يطلب العلم في معهد الفنون الهندسية في «خاركوف»، وكان يقضي عطلة الصيف بين ذوبه فتصادقنا، ثم أثمرت الصداقة حبا حين تقدمت بي السن، فتقدم إلى خطبتي ولم أكن قد أربيت على السابعة عشرة إلا بأمد قصير، فقبلت زواجه وانتقلت معه إلى «خاركوف» حيث هيأت لي الفرصة أن أتابع الخطى نحو ما أطمح إليه من هدف، فدخلت معهد الفن الجميل وفيه تخرجت عام 1930م.
ولا شك أنك لا تزال تذكر أن هذا هو العام الذي اتهم فيه كثير من المهندسين والإخصائيين بالتخريب، ولقد حدث أني كنت في زيارة أهلي في «كيف» حين وصل ضباط الشرطة السياسية وألقوا القبض على أبي، وفتشوا كل ما في الدار فمزقوا الصور والأرائك والحشايا، ولم يجدوا بالطبع شيئا، والحق أن من العجائب أن يدور في خلد إنسان عن أبي وهو الرجل الوديع البحاثة أنه ممن يعملون على التخريب، وقد كان اتهامه هذا من الغرابة بحيث تعزينا - أمي وأنا - بفكرة أنه لا محالة لن يلبث حتى يطلق سراحه.
وكان من الطبيعي أن أظل في «كيف» لأعاون أمي حتى تنقشع عنها تلك المحنة، فحياتنا السعيدة قد بلغت ختامها، ولم ندر قط ماذا عسى أن تكون التهمة الموجهة إلى أبي، ولم يأذنوا لنا بزيارته، ولبثت أسبوعا بعد أسبوع، ثم شهرا في إثر شهر، أذهب كل مساء إلى باب السجن لأبعث إليه بلفائف الطعام، وكنت كل مرة أقف ساعات في صف المنتظرات وهن مئات من البائسات الأخريات، وقد يهطل على رءوسنا المطر تارة، ويسفعنا الثلج طورا، وكذلك كنت كثيرا ما أتردد على مكاتب الشرطة السياسية خارج السجن، يحدوني رجاء اليائسة في معاونة أبيها.
وقصدت إلى مكتب الشرطة السياسية ذات يوم، فطلب إلي أن أدخل مكتب الرئيس، وعجبت فيم أرسل الرئيس في طلبي، ولما أن دخلت وجدت هناك رجلا في منتصف العمر لطيف الترحيب باعثا على احترامه، فأخذت ألتمس العفو عن أبي وأخذ يصغي، ثم قال: «أصغيت إليك فأصغي أنت الآن إلي يا «إلينا بتروفنا» أنت فتاة رشيقة بل أنت ربة جمال، بل لك فوق جمالك ثقافة واتزان، وتلك هبات قد تكون ذات نفع عظيم لبلادنا، ولست بحاجة إلى القول بأنها قد تنفعك وتنفع أباك، ففي مستطاعنا أن نعينك على شرط أن تبادلينا معونة بمعونة، ولن أضيف على ما قلته شيئا، فلا حاجة بي إلى ذلك؛ لأني ألمح فيك ذكاء وفطنة، كلا، لا تعبسي ولا تجزعي، فإن ما أقترحه عليك ليس في خسة الحياة نفسها، فأنا لا أطالبك بمضاجعة رجل في فراشه، وإن من أعواننا لنساء نطلب إليهن ذلك، ومنهن أفراد بلغن في مدينتنا منزلة عالية من التقدير، لكنك ستخدميننا دون أن يمس طهارتك شيء أو ينال من شرفك نائل، سنطلب إليك أن تلاقي من الناس من لا يسوءك أن تلاقيهم، حيث تسمعين عنهم كثيرا مما تريد حكومة بلادنا أن تحيط به علما، وطبيعي أنك ستؤجرين على عملك أحسن الأجر، وسنحميك وسنحمي معك من تحبين.»
وقدم إلي سيجارة اعتذرت عن عدم أخذها، فأخرج من درج مكتبه صندوقا من الحلوى وعرض أن آخذ منه ما شئت، فنظرت إليه نظرة لا تنم عن سذاجة.
ثم قلت: «بعبارة أخرى: كل ما تريدونني أن أصنعه هو أن أقدم لكم طائفة من الأنفس البشرية، وربما كان من أقدم لكم أصدقاء أبي أو معارفه، فأتيح لكم بذلك أن تطبخوا عددا آخر من القضايا التي تستثير اهتمام الناس؟ فإذا فعلت ذلك أطلقتم سراح أبي، فهل أصبت في الإفصاح عما تريد؟ ذلك ما تريده وما ترشوني من أجله ببضع قطع من الحلوى لعلي أستجيب؟»
فضحك وقال: «ذلك تبسيط للصورة فيه إسراف.» - «إذن فيؤسفني ألا أستطيع القيام بما تطلبون.» - «لا تتسرعي في اتخاذ هذا القرار يا «إلينا بتروفنا» فليس بنا حاجة إلى سرعة، فلديك من المهلة ما تشائين لتفكري في الأمر مليا ثم تعودين، وإلى أن تعودي إلينا بقرار، فلا ينبغي أن يعلم أحد عن هذه المقابلة شيئا مهما يكن صغيرا، وإلا حبسنا العصفور الصغير في قفص قد يلبث فيه أمدا طويلا بالغا في الطول، من فضلك وقعي على هذه الورقة.»
وكان ما وقعته استمارة يتعهد فيها صاحب التوقيع ألا يخبر أحدا بما دار من حديث، وينص فيها على عقوبة مخيفة لو خالف ما تعهد به.
مضى الزمن في حزن عميق يا «فيتيا»، فها هي ذي فرصة قد أتيحت لي لأشتري حرية أبي بثمن هو أن أكون أداة للشرطة السرية، فكاد يغلبني إحساس بإجرام إذا ما تركته يعاني في سجنه، ولو أنه من حسن حظي أنني كنت أعلم عنه أنه لو عرف موقفي لكان آخر إنسان في الدنيا يتوجه إلي بلائمة، لكني عانيت روحا وبدنا، ثم دعيت مرة أخرى إلى مكتب رئيس الشرطة السياسية، فلم أجد فيه هذه المرة ظرفا في الترحيب، كلا ولا قدم لي هذه المرة حلوى أو سجائر.
دخلت فتشاغل بالنظر إلى أوراق وتظاهر بعدم رؤيتي، وبينا أنا واقفة هناك وقفة الحائر سمعت صرخات مفزعة في مكان ما من البهو، فصرخت من خوف صرخة لم تكن لي إرادة فيها، فرفع بصره إلي.
قال: «أهو أنت هنا ثانية؟ أيزعجك هذا الضجيج الذي تضيق له النفس؟ أنت في ذلك على حق، شخص يحفزونه بذلك على تذكر ما قد نسيه ... نعم إن مهمتنا مهمة شاقة، تتطلب أعصابا من الصلب، والآن هل تقبلين ما عرضته عليك؟» - «لا، لا أقبله، ليس في وسعي أن أقبله.» - «أذلك قرار حاسم منك؟» - «نعم، إنه قرار حاسم.» - «إذن فأنا آسف من أجلك ومن أجل أبيك، ولا زلت أرى أنك قد تغيرين من رأيك، نهارك سعيد.»
ثم تشاغل من جديد بتلك الأوراق، وتركته وانصرفت.
وفي مساء ذلك اليوم، حين جاء دوري فسلمت حزمة الطعام لأبي في قفص قريب من بوابة السجن، أعاد الموظف المسئول اسم أبي بعد أن ذكرته له: «لادينين؟ لا، ليس في وسعي قبول حزمتك.» فوقفت إزاءه جامدة من الهلع.
صحت له: «ماذا جرى؟ إنه أبي، هل مات أبي؟ هل أرسلوه إلى طرح بعيد؟» - «لا علم لي بشيء، عني! من بعدها!» - «لكنه رجل كهل، إنه بريء، ولا بد أن أعلم ماذا أصابه.» - «عني وإلا أبعدتك بالقوة، إنك سبب في تعطيل الصف كله.»
ذهبت إلى نافذة أخرى كتب عليها «استعلامات» فقلت للحارس: إني أريد أن أعلم ماذا أصاب أبي، وأعطيته الاسم، فأقفل النافذة ورأيته يتحدث بالمسرة، فأرهفت أذني لأسمع، لكني لم أسمع إلا لفظة واحدة هي «مستشفى» ففتح النافذة وقال: «آسف لا نبأ عنه.»
درت لآخذ سمتي نحو الدار مع أني أوشكت أن أعجز عن تحريك قدمي، وأعطيت حزمة الطعام لسائل حتى لا أزعج أمي، ثم حاولت في اليوم التالي أن أقابل طبيبا يعمل في مستشفى السجن يحدوني أمل غامض أني ربما سمعت عن أبي خبرا، وبدأت بحثي بعدة أطباء كانوا أصدقاء أسرتنا، فكان كل منهم يحيلني على آخر، فلما مضت علي في هذا البحث ساعات أعطاني شخص اسم طبيب له - فيما ظن - علاقة بالسجن في «كيف».
ذهبت إليه فأدخلني ظنا منه أني مريضة، لكنه لم يكد يغلق الباب من دوننا حتى جثوت أمامه على ركبتي وصارحته بما ذهبت إليه من أجله والدمع يتساقط من عيني، وكان رجلا طيب القلب، لكن قصتي التي رويتها له أفزعته حتى أطارت صوابه، وتوسل إلي أن أنصرف عنه، قائلا: إن عمله في السجن سر لا يفشى فلا يستطيع أن ينبئني بشيء.
قال: «اذكري من فضلك يا عزيزتي أنني رجل ذو زوجة وأبناء، ولا أستطيع أن أعرض نفسي للخطر، الحق أني آسف، لكني لا أستطيع إزاءك شيئا، لا أستطيع شيئا، بالله اتركيني وإذا كنت تكنين الحب لأسرتك فلا تجلبي الشقاء لأسرتي.»
لكني أبيت أن أتركه، وأخذت أبكي تارة وأتحدث طورا حتى غلبته على أمره فوافق أن يعين لي موضع أبي إن كان حقيقة في مستشفى السجن، واتفقنا أن أتصل به بعد ثلاثة أيام عن طريق المسرة من تليفون عام.
وظلت أمي تعد لفائف الطعام لأبي، وظللت آخذ هذه اللفائف فأعطيها للسائلين، وأخذت أرقب الموعد المضروب بيني وبين الطبيب، حتى إذا ما آن، اتصلت به خلال المسرة.
قال لي منذرا: «تشجعي وتملكي نفسك، فلدي أخبار لا تسر، أبوك في المستشفى، وأرجح ظني أن حالته لا تبعث على رجاء لأن رئتيه ملتهبتان ... زيدي على ذلك ...» وهنا تردد قليلا «إن بجسده كدمات خطيرة، مع السلامة، أنا شديد الأسف.»
ذهبت إلى مكتب الشرطة السياسية كارهة، وأرسلت اسمي للرئيس، فلم يلبث أن دعاني للدخول، وقابلني عند الباب يبتسم ابتسامة عريضة. - «ماذا أتى بك من جديد؟ هل اتخذت قرارا حاسما؟»
قلت: «كلا، فقبل أن أحسم قراري لا بد أن أرى أبي.» - «إن تدبير ذلك عسير، ولست أريد لك اضطرابا، فأبوك في المستشفى، وليس في حالة تسمح بزيارته.» - «أرجوك، أرجوك أن تأذن بزيارتي إياه، فأنت إنسان من البشر أيا ما كانت الحال ...» - «ليس من هنا ناس من البشر يا «إلينا بتروفنا»، بل هنا رعاة الثورة، ليس هنا مكان لعاطفة، وما أدواتنا التي نقاتل بها أعداء الدولة سوى العذاب والموت، وخير لك أن تتبيني هذه الحقيقة عاجلا والشر في التسويف، سآذن لك برؤية أبيك على أساس واحد وهو أني أريد معونتك، اذهبي إلى السجن، ففي طريقك إليه سأرسل أمري بذلك، وفكري في الأمر الذي أعرضه عليك ودعي عنك هذه البلاهة الحمقاء.»
ساروا بي إلى عنبر حيث كان أبي وحده في غرفة نقلوه إليها استعدادا لزيارتي، كان راقدا على سرير من الحديد، ساكنا سكون الموت، وقد طالت له لحية بيضاء في هذه الشهور التي افترقنا خلالها، لم يبق له من جسده إلا جلد وعظام، ورأيت على جبهته وعلى صدغيه الغائرين أشرطة قبيحة من الجلد، كما رأيت أربطة على أصابعه وذراعيه، دنوت من سريره فلم يكن لديه من العافية ما يعينه على ابتسامة الترحيب، ولما أخذ في الحديث رأيت ما راعني إذ رأيت أن أسنانه الأمامية قد خلعت عن فكه خلعا.
قال بصوت متكسر: «لا تبكي يا يولوشكا.» هذا هو الاسم الذي كان يدللني به منذ طفولتي.
كنت قد أوصيت أن أتحدث في أمور عائلية وألا أعرج بالحديث على شئون السياسة، لكن الحارس الذي صحبني هاله ما رأى فأدار وجهه عنا تلميحا لنا بأنه لن ينصت إلى الحديث، وأشار أبي إلي بإصبعه أن أنحني إليه، ثم همس في أذني: «ها أنت ذي تشهدين حالي يا «يولوشكا»، لقد جعلوا يضربونني يوما بعد يوم، فأداتهم هي التعذيب، ومئات ممن سجنوا في «الحجر المنفردة» ها هنا يجلدون بالقطائل المبتلة ولا يخلى بينهم وبين النوم أسابيع متوالية، أو هم يوضعون في غرف هي الجليد في بردها، لقد ضربوني في غير رحمة لأسمي لهم شركائي في المؤامرة.
فماذا أقول إن لم تكن هناك مؤامرة؟ لم يكن هناك مؤامرة إلا في خيالهم الجامح، إنهم بمثابة من يرى أشباحا، لطالما تمنيت أن يكون هناك ما أعترف به، ولقد تذكرت أخطاء ليست بذات خطر، فاعترفت بها على أنها ضروب من أفعال التخريب، وحبكت لهم حوادث تخريب لم تقع، لكنهم لم يزدادوا إلا ضربا؛ لأن ما نسجت لهم بخيالي من أباطيل كان من السذاجة بحيث لم يستقم أمام عقولهم، وفيم استرسالي معك في هذا الحديث؟ لقد كنت سمعت عن الشرطة السرية وأساليبها لكن أسوأ ما كان يصوره لي الخيال لم يكن إلى جانب الواقع شيئا مذكورا، ليس هؤلاء بشرا، إنما هم نفر من الشياطين، أواه يا ابنتي يولوشكا، إن ما صنعه هؤلاء الناس ...» - «ستبرأ يا أبت مما ألم بك، وسأخرجك من هذا الجحيم، إني أعدك ...» - «لا يا ابنتي فلا أمل هناك ، لقد صارحني الأطباء بحقيقة أمري، فقد تندمل الجراح التي أثخنها التعذيب في جسدي، لكن رقادي في مكان بارد قد أنزل العلة برئتي، والبرء في ظروف كهذه وفي سن مثل سني ليس قريب الاحتمال، ولن تمضي أيام قلائل حتى يدركني الموت، فانسي هذا ما استطعت إلى النسيان سبيلا، وامضي في عملك كأن لم يحدث من ذلك كله شيء، وكوني كريمة في معاملة أمك وزوجك سرجي.» - «مواطنتي، لقد انتهت الخمس الدقائق ولا بد لك من الخروج.»
ومات أبي بعد أيام، وذهبت إلى زوجي في خاركوف.»
استوقفت «إلينا» في قصتها. - «لا عليك يا حبيبتي، لست أريد أن أعرف منك أكثر مما عرفت، فأسفي شديد عليك وخجلي عظيم من نفسي، فسامحيني على ما بدر مني من سلوك أحمق.»
قالت: «لا، لا، فما دمت قد بدأت فلا بد لك أن تسمعني حتى النهاية المرة، أريد لك أن تعلم وأن تقدر الظروف، فما ذاك إلا بداية الأهوال.» ثم استرسلت في قصتها المروعة: «انقضى عام 1931م وانقضى كذلك الشطر الأعظم من 1932م، وكان زوجي حينئذ قد تخرج وعمل في مصنع كبير، وكان في فزع لا ينقضي خشية القبض عليه، شأنه في ذلك شأن غيره من الإخصائيين الفنيين في ذلك الحين، فعلى الرغم من أنه لم يقترف إثما يزجره ضميره عليه، كان يفزعه ذلك الخوف الذي لا ينتهي والذي لا يرتكز على أساس يبرره؛ لأنه رأى بعينيه سائر رفقائه يتخطفهم هذا القضاء واحدا في إثر واحد.
ومع ذلك فلم أكد أصدق النبأ حين أنبئت أن القبض قد ألقي عليه فعلا، لقد كنت أعرف أصدقاءه جميعا، وآراءه جميعا وأفعاله جميعا، فما عرفت فيه إلا براءة لا تشوبها شائبة من عداوة، بل إن فكرة العداوة نفسها لم تدر في رأسه، فعاودت الوقوف في الصفوف الكئيبة من جديد، صفوف الألوف من النساء، عاودت الوقوف في تلك الصفوف لأبعث برسائل الطعام إلى السجين.
وتذرعوا بذريعة سخيفة لطردي من وظيفتي؛ لأن رؤسائي بالطبع لم يريدوا إلى جانبهم زوجة مهندس سجين، فأخذت أبيع كل ما ملكت يدي شيئا فشيئا لأشتري الطعام لنفسي ولزوجي السجين، وأعطيت في الموسيقى دروسا، وعاونني بعض الأصدقاء بشيء من المال على وعد قطعته لهم على نفسي كلما أحسنوا إلي بشيء ألا أبوح لأحد أني رأيتهم أو أنهم عاملوني في شيء من الرحمة؛ ذلك لأني ما دمت زوجة «عدو الدولة» فقد أصبحت على هذا الاعتبار طريدة المجتمع منبوذة من الناس.
ولما قضى «سرجي» بضعة أشهر في سجنه، رفضت رسالة الطعام التي أخذتها له عند بوابة السجن، فخيل إلي أني أرى شريطا سينمائيا مليئا بالفظائع مرة ثانية بعد أن رأيته بعينه فيما مضى، ذهبت إلى نافذة أخرى وطلبت مقابلة الرئيس، فوقفت أنتظر ساعتين أخذت بعدهما إلى مكتب الرفيق «ت» الذي كان فيما سبق عونا من أعوان رئيس الشرطة السياسية في «خاركوف»، وهو رجل طويل وسيم أشقر، يدل جسمه على أنه ينعم بغذاء جيد، وكان السحر يشع منه.
قال إذ صافحني وقدم لي مقعدا في شهامة الرجال: «آه، لقد كنت أتوقع منك زيارة، وما أحب إلى نفسي أن تزورني جميل الغانيات، هذا فضلا عن تقرير واف جاءني عنك من مكتبنا الرئيسي في «كيف»، ويؤسفني أن نتلاقى في مثل هذه ال... ماذا أقول؟ أأقول هذه الظروف الرسمية؟ ومع ذلك فأنا مغتبط لهذه الفرصة السعيدة.»
فأجبته: «هل تعني أنك دبرت الفرصة تدبيرا برفضك قبول رسالة الطعام التي أتيت بها إلى زوجي؟» - «أرفضوا حقا أن يأخذوا منك رسالة الطعام؟ يا لهم من حمقى آثمين! سأنظر في الأمر من فوري.»
وضغط على زر فدخل ضابط أنيق، وأمره أن تؤخذ رسائل الطعام التي آتي بها لزوجي، ثم خرج الضابط. - «صدقيني يا «إلينا بتروفنا» إذا ما قلت: إني آسف لهذا الشتاء الذي تتعاورك أسبابه، ولكني مع ذلك أرى الأمر مرهونا باختيارك، ولعلك تعلمين أن ما عرض عليك في «كيف» منذ عامين لا زال قائما، فنحن رجال الشرطة نفي بوعودنا.»
فأجبته: «لماذا سجنتم زوجي؟ إنك تعلم كما أعلم أنا أن زوجي بريء، ولو كان لك أم أو أخت لأخذتك الشفقة علي، ليس في مقدوري أن أتجسس لكم؛ لأن التجسس ليس من خلقي، وإن الموت لخير لي منه، لكني مستعدة أن أعمل أي شيء تريدون مني غير ذلك إنقاذا لزوجي؛ لأني كلما تصورت آلامه مادت بي الأرض.»
ومضيت في الكلام لا أسكت، فأقول وأعيد ما أقول مرات، أتوسل مرة وأتهم مرة، وجعل هو ينصت إلى قولي في صبر جميل، حتى إذا ما أرهقني الكلام إرهاقا لم أستطع معه الاسترسال فيه، دنا مني وربت على كتفي تربيتا توشك ألا تجده إلا من والد.
قال: «إن الحياة قاسية يا «إلينا بتروفنا»، وإذن فلا بد للإنسان أن يواجه الواقع، وواجبك أن تفكري في نفسك أولا، ففيم هذا العناء؟ لماذا ترفضين العمل معنا؟» - «إذن فاسمع لماذا، فقتل أبي البريء سبب لهذا، وقتل ألوف الناس من أمثاله ألوف من الأسباب كذلك، ولن أحمل ضميري عبء ما تسفحه سائر الزوجات والأمهات من دماء وعبرات حتى ولو كانت الغاية سلامة زوجي، هذا هو السبب.»
قال: «أفهم جزعك هذا من الدماء والعبرات، لكن كوني عاقلة ما استطعت، فلن نكلفك أعمالا تؤدي إلى دماء ودموع، وكل ما نطلبه هو أن تعملي مع الأجانب، فبلادنا تحيط بها ضباع الرأسماليين التي تعوي رجاء أن تثور الثورة وتنسفح الدماء، ولست أبغي عليك الآن ضغطا، لكنك إذا ما غيرت من رأيك فأنا رهن إشارتك في كل وقت، إن أباك قد مات ويستحيل لما فات أن يعود، لكن زوجك لا يزال يحتاج إلى نجاة، ونجاته متوقفة عليك لا علي.»
ومع ذلك فقد وعد أن تصل إلى «سرجي» ما أبعثه إليه من رسائل الطعام، حتى يقضى في أمره بصورة رسمية وينفى، ولم يمض بعد ذلك إلا أسابيع قلائل حتى أنبئت أن قد حكم عليه بعشر سنوات ينفقها في عمل شاق بمعسكر من معسكرات الاعتقال في جبال أورال.
لبثت أمدا طويلا أحارب في نفسي إغراء الالتحاق بالشرطة السرية، وكنت أكابد الشوق إلى «سرجي» وكان الكفاح قد نال مني فأجهدني، فلماذا أسبح في الخيال على نحو ما فعل دون كيشوت ما دام العصر الذي أعيش فيه يسوده الباطل والإجحاف؟ وكم من مرة صممت أن أخطو الخطوة القاضية، لكني في كل مرة كنت أسمع في اللحظة الأخيرة صوتا في طوية نفسي، صوتا أعمق جذورا من أن يجد عند العقل تعليله، كنت أسمع هذا الصوت يقول: «لا، لا ينبغي لك أن تفعلي.» إن فكرة التجسس، التي من شأنها أن تتظاهري بالصداقة لمن تدبرين له أن ينتهي إلى الموت، كانت تثير في نفسي امتعاضا، حتى لقد أصابتني بالعلة في جسدي.
وظللت نحو عام كامل أبعث بالرجاء في إثر الرجاء إلى نواح مختلفة من الحكومة، طالبة أن يعاد النظر في قضية زوجي، وبالطبع لم يثمر رجائي، ثم حدث بعد ذلك حادث، وذلك أني كنت أزور معرضا من معارض التصوير الأوكراني مع صديق صادقته أيام الطلب في مدرسة الفن الجميل، وإذا أنا أرى وسط الزحام الرفيق «ت» وفي صحبته امرأة رائعة الجمال، وأدركت من موقفه إزاءها أنه كان في قبضتها ولم تكن هي في قبضته، فجعلت أرقبهما في اهتمام فوجدتها رعناء ووجدته مصغيا لها مطيعا كأنما هو غلام أحب وهجره الحبيب.
إذن فها هو ذا موظف الشرطة السياسية الذي لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلا، والذي في يده تصريف القضاء لعشرات الألوف، ها هو ذا ينساق كالشاة لامرأة وضاءة المحيا! فلعل هذا التناقض فيما رأيت قد أوحى إلي بما أوحى، ولقد بدت لي الفكرة الطارئة شديدة الغرابة والشذوذ، لكني صممت على تنفيذها.
ولم يكن عسيرا علي أن أعلم من ذا تكون هذه الصديقة التي شهدتها مع الرفيق «ت»؛ فتعقبتها في محل سكنها وارتقبتها عند مدخل العمارة الجديدة التي كانت تسكن فيها، ثم تتبعتها إذ هي تصعد السلم، وبينا هي تحرك المفتاح في باب شقتها دنوت منها في شجاعة وبدأتها بالكلام.
قلت لها: «نشدتك الله يا سيدتي أن تأذني لي بالكلام معك بضع دقائق.»
أخذها مني الفزع أول الأمر، لكنها ما لبثت أن صوبت بصرها في وصعدت، حتى رأت - فيما يظهر - أنني لم أكن أريد بها الأذى. - «لست أدري ماذا تريدين، هيا فادخلي فلا يجمل بنا الوقوف ها هنا في الردهة.»
دخلنا غرفة استقبالها التي أثثتها بذوق ممتاز، وكان بها بيان في ركن من أركانها، ولقد بدت علي - فيما أرجح - علامات التعب والإعياء بعد ساعات وقفتها منتظرة في الطرق.
فقالت لي السيدة: «اخلعي معطفك يا ابنتي واجلسي، وسأصنع لك فنجانا من القهوة فأنت فيما تظهرين أقرب إلى الموتى منك إلى عالم الأحياء.»
وضعت يدها في يدي وجعلتها تصغي إلى قصة متاعبي، فرويت لها عن موت والدي وعناء أمي ونفي زوجي، وطلبت منها ما يعوزني من معونتها، ففي مقدورها أن تحصل لي من صديقها الضابط السياسي على إذن بزيارة زوجي، فلم يعد في يدي ما أقدمه لزوجي سوى الزيارة، وقد كان ألمي من العمق بحيث وجد إلى قلب السيدة سبيله، فأخذت هي الأخرى في البكاء.
سألتني أسئلة كثيرة ثم أخذت تذرع الغرفة المفروشة بالبسط جيئة وذهابا، مفكرة في أمري، وبينا هي في انتباهها الموزع جلست إلى بيانها تعزف بعض الألحان.
ثم قالت آخر الأمر: «إلينا بتروفنا، يؤسفني ألا أستطيع لك وعدا إلا وعدا ببذل ما أستطيع، وإنك بالطبع لتعلمين أنه لا ينبغي لك أن تذكري أمر هذه الزيارة بأي حال من الأحوال، لا تذكريها في حديثك معي في المسرة.»
وقبلتني قبلة حنان أدهشتني، فرجحت ألا تكون سعيدة، بل ألا تكون مستمتعة بحياتها الدنيوية، كما يبدو عليها، وذهبت إلى الكنيسة ذلك المساء وأخذت أدعو الله دعاء طويلا، فعلى الرغم من أني لا أومن بالله يا فيتيا، فإني إذا ما حزبني الأمر تراني أنقلب على عقبي إلى ما نشأت عليه في طفولتي، ومهما يكن من أمر فقد دعوت الله في إخلاص كما يدعوه المؤمن، ثم تلفنت معشوقة «ت» فعلمت منها أن دعوتي قد أجيبت، وطلبت مني أن أذهب إليها من فوري، فلما وصلت إليها بكيت من فرحتي وقبلت يديها، فأمرتني أن أكتب طلبا رسميا آخر ألتمس فيه مقابلة زوجي، وأكدت لي أن طلبي مجاب هذه المرة، أما عن حقيقة أمرها هي فلم تفصح لي بأكثر من التلميح. - «الحياة هي الحياة يا إلينا بتروفنا، لقد مضى علي عهد لم يكن فيه العيش مترفا كالذي ترين الآن من ترف، لكني كنت إذ ذاك أسعد مني الآن بكثير، فلا أقل من أن أنعم لحظة قصيرة حين أعلم أنني استطعت أن أخفف قليلا من عبء الشقاء عنك وزوجك، إنه لمما يشرح الصدر أن أصنع الخير مرة على سبيل التغيير من مجرى الأمور المألوف، ورجائي ألا تذكري أبدا أننا التقينا، لا ينبغي لك أن تتلفني إلي مرة أخرى، أو أن تظهري بمعرفتك لي إذا ما رأيتني.»
وهكذا لم تمض إلا أسابيع قليلة حتى كنت في القطار آخذة سمتي نحو جبال الأورال، وحملت معي حزمات كبيرة، إذ أنفقت كل ما أملك من مال لأشتري طعاما وثيابا تحتية من الصوف، وأحذية وتبغا، وصور لي الخيال لقاءنا وفرحة «سرجي» ووجهه المشرق وما سنقضيه معا في سعادة من لحظات قصار، فلما جاوز القطار «سفرد لوفسك» نزلت في محطة صغيرة، وكان مطر من مطر الخريف يتساقط، ولاح لي كأنما هبطت في ذلك المكان، عالما من قذر ووحل عميق، وكان معسكر الاعتقال يبعد أميالا عن محطة السكة الحديدية، ولبثت أحاول جهدي مع فلاح لعلي أستميله فيركبني عربته إلى هناك، وسارت بنا العربة ساعات بين غابات كثيفة وصخور وعرة، حتى بلغنا في نهاية الأمر نجدا فسيحا مكشوفا تحيط به أسوار عالية من الأسلاك الشائكة.
ورأيت وراء الأسوار صفوفا مديدة من الثكنات بنوافذها الضئيلة ذات القضبان، كما رأيت الحراس منبثين في أرجاء المكان وبينهم طائفة يتبعها كلاب في وجوهها علائم الشر، وبينا أنا واقفة أمام البوابة تحت المطر أنتظر الإذن بالدخول، جاءت فرقة يقرب عددها من ثلاثمائة سجين، جاءت تسير رباع رباع عائدة من الغابة إلى المعسكر، ولم أكن شهدت في حياتي قبل ذاك ناسا من البشر قد بلغ بهم ما بلغ بهؤلاء من مهانة وتهافت، فما رأيت فيهم رجالا لكني رأيت أشباحا للرجال، رأيت صورا شائهة لآدميين تسترهم هلاهل وتنفر من رؤيتهم العين، طالت لحاهم وذوت أجسادهم وأخذوا يشدون أقدامهم شدا خلال الوحل في هذه المرحلة الأخيرة من مراحل يوم ذاقوا فيه طعم الموت من نصب وإعياء، وكيف لي يا «فيتيا» أن أجد ألفاظا تعبر لك عن بؤس ما شهدت لتشعر بما شعرت؟
ودخلت غرفة الحراسة فقدمت أوراقي وجاء ضابط فسألني أسئلة كثيرة ثم أمر امرأة حارسة أن تفتشني، فلم تبحث في ثيابي فقط بل بحثت في جسدي كذلك، وأخذوا ما كان معي من أقلام وأوراق، بل أخذوا مقصا صغيرا لأظفار اليد كان في حقيبتي، وبعد ذلك كله لم يأذنوا لي بأخذ ما معي من لفائف الطعام، وكل ما سمحوا بإدخاله هو التبغ والسجائر والصابون.
صاح الضابط في وجهي قائلا: «أيتها المواطنة، ليس هذا المكان مصيفا ولا مصحة يرتادها المستشفون، فيكفيهم ما نعطيهم إياه من طعام وثياب، إنهم أعداء الدولة.»
جلسنا في الغرفة الصغيرة القذرة انتظارا ل «سرجي» فرأيت على الجدران صورة عليها بقع من الذباب ل «ستالين» و«دزرزنسكي» و«ياجودا»، كما رأيت شريطا مهلهلا من قماشة راية كتب عليه «البعث عن طريق العمل»، ظللت أرقب من النافذة فما لبثت أن شهدت رجلا كهلا نحيلا يدنو من الغرفة ووراءه حارس شهر مسدسه، وكان الرجل ذا لحية مشعثة بيضاء ورأسه يشتعل بالشيب، كما كان جسده ذاويا يفزع الرائي لرؤيته وعلى إحدى عينيه رباط من خرقة قذرة، وبالجملة كان كأنما خرج لتوه من أرض العذاب، فتحرك قلبي لهذا المخلوق الذي يبعث في النفس الحزن ودرت ببصري نحو الضابط.
قلت: «هل ترى أيها الرفيق ذلك الرجل الكهل؟ أرجوك أن تعطيه هذه العلبة من السجائر.»
كان ذلك كل ما أستطيعه لأعبر به عن عطفي على ذلك المسكين، فانفجر الضابط مقهقها وأخذ يضرب فخذه بكفه من فرط السرور. - «جميل والله! أتسخرين مني أم أنك حقا لا تعرفين زوجك إذا ما رأيته؟»
فجمدت من الجزع، وانفتح الباب ودخل الكهل، فلما أن دنا مني تبينت أنه «سرجي» حقيقة، لكنه محطم مسن يوشك ألا يكون إنسانا من البشر، كيف أصدق هذا الذي أرى؟ لكني ذهبت إليه وضممته بذراعي وهمست قائلة: «سريوزا يا حبيبي، سريوزا يا مسكين.»
نظر إلي مشدوها وارتجف بالعاطفة وجهه الذي شاه من العذاب، وما هو إلا أن جثا على ركبتيه وأخذ ينهنه بالبكاء ويقبل ثوبي وركبتي ويدي، فهدأت من نفسه وأجلسته على الدكة بجواري، وكان ما سمح لي به عشر دقائق لا تزيد، بعد رحلة قطعت بها نصف البلاد الروسية، وأنذرونا ألا يدور بيننا حديث في غير الشئون الخاصة، فما كدنا نأخذ في الحديث حتى صاح بنا صائح: «انتهى الزمن، بقيت دقيقة واحدة للوداع.»
همس لي «سرجي» المسكين: «إلينا يا عزيزتي، أنقذيني لو كان ذلك في حدود المستطاع، الحياة هنا أبشع مما يصوره الخيال لكائن من كان خارج هذا المكان، إنها أسوأ مما كان يصوره لي الوهم، إنهم يعاملوننا معاملة العجماوات لا معاملة الآدميين، ويلقى المسجونون حتوفهم كل يوم كأنهم الذباب، هم يضربوننا ويميتوننا من جوع، «إلينا!» «إلينا» أنقذيني، يستحيل أن ينقضي علي عام آخر في هذا الجحيم وأنا حي من الأحياء.»
فصاح به الحارس: «اسكت يا وغد!»
وعدته أن أبذل وسعي، وعدت إلى خاركوف يملأ ناظري هذا المشهد المؤلم لحطام إنسان كان فيما مضى زوجي، وها هنا زال عني كل أثر للتردد، فما كان لي أن أدعه هناك لأشبع كبريائي وأنقذ ما لي من طهارة الأخلاق، فذهبت إلى الرفيق «ت» وتمت بيننا الصفقة، قبلت عبودية الشرطة السرية ثمنا أشتري به حرية «سرجي». - «أؤكد لك تأكيدا تؤيده كلمة الشرف أقولها بنفسي، إنك يا «إلينا بتروفنا» لن تكلفي عملا مما عسى أن يؤدي إلى «دماء ودموع» - على حد تعبيرك ذات يوم - لكنك لقاء ذلك ستدفعين حياتك ثمنا إذا ما كشفت لأحد بأقل تلميح عن علاقتك بنا.»
فأجبته قائلة: «ضع دائما نصب عينيك أنني لن أنقذ زوجي بحيث أبعث بزوج امرأة أخرى أو أبيها أو أخيها إلى مثل هذا القضاء، إنك لتعلم علم اليقين أن «سرجي» بريء وأن الكثرة الغالبة ممن زج بهم في ذلك المأزق الجهنمي أبرياء، وسآذن لك بقتلي قبل أن آذن لنفسي بالمساهمة في مثل هذا الظلم الصارخ، وكذلك أحتفظ لنفسي بحق الخروج من هذا العمل حين أشاء، ولا بد أن آخذ تعهدا مكتوبا بذلك.» - «أقدر ما تقولين، وها أنا ذا قد أعطيتك وعدا بذلك أصونه بشرفي، لكنني لا أستطيع أن أتعهد لك بشيء مكتوب، ثقي بصدق وعدي، فسيكون لك حق الانسحاب، والآن فلنوقع الصفقة بيننا، فخذي هذه الاستمارة واملئيها.»
كان ما أعطانيه قائمة بأسئلة تملأ عشر صفحات لم تدع شيئا عن حياتي وآرائي وعن حياة أقربائي وأصدقائي وآرائهم إلا سئلت عنه، جلست أجيب عن أسئلتها فترة طويلة ثم وقعتها بعد أن فرغت منها، ففحصها مساعد رئيس الشرطة السرية الرفيق «ت» وكتب على هامشها بعض ملاحظات ثم حفظها في خزانته وارتدي معطفا وقبعة مدنيين وغادرنا مكتب الإدارة معا.
وركبنا سيارة بلغت بنا موضعا يبعد عن «فندق السائحين» بضع عمارات، حيث نزلنا.
قال: «سأسبقك مفردا، وعليك أن تتبعيني بعد ثلاث دقائق لا تقل ولا تزيد، واصعدي إلى الطابق الخامس من الفندق «وذكر لي رقم الغرفة» سأكون هناك في انتظارك ولا تظهري هكذا بمظهر المأخوذ، فأنا الآن ضابط من الشرطة السرية لا إنسان من الناس فلا حاجة بك إلى الجزع.»
وبعد دقائق كنا معا في الغرفة المعينة، ولما طرق الباب خادم الفندق بما جاء به من طعام ونبيذ، اختفيت في غرفة مجاورة فهنأني رئيسي بعد أن عاد الخادم: «ما أذكاك من فتاة! لكن الفطنة ها هنا ليست بذات نفع كبير؛ لأن كل من يعمل في فنادق السائحين من مدير الفندق فنازلا إلى الخادمة التي تمسح الأرض من أعوان الشرطة السرية.»
وإذ كنا نتناول العشاء، أخذ يرشدني بتعليماته الأولى، ويلقي علي درسا سريعا في أساليب الشرطة السرية.
وقال يشرح موقفه إزائي: «يؤسفني أن أقول: إنك لن تعملي معي في الوقت الحاضر، لكن سيأتي يوم - بعد عودتك إلى خاركوف - يتاح فيه لنا معا أن نفعل الأعاجيب.» - «إلى أين أنا ذاهبة أول الأمر؟» - «ستمكثين في خاركوف بضعة أشهر، إذ لا مندوحة لك عن تعلم شيء كثير، ثم سنبعث بك إلى «دنيبروبتروفسك» وهو بلد جميل، يجتمع فيه كثير من الأجانب بسبب الخزان الكبير هناك وبناء المصانع وغير ذلك من الأعمال القائمة، وستجدين بين هؤلاء الأجانب مهندسين من أمريكا وإخصائيين من ألمانيا، فواجبنا هنالك كبير، وأحب أن تعلمي أنني أوصيت بك بنفسي، فأصبحت بهذا مسئولا عنك، فلو انحرفت عن جادة الصواب بشيء من الألاعيب وقع اللوم على عاتقي، وربما ظننت أنك في قبضة يدي، لكن حقيقة الأمر على عكس ذلك يا عزيزتي، فأنا الآن تحت سلطانك، وسنغفر لك كل زلة تصدرين فيها عن طوية سليمة، أما إذا حاولت خداعنا أو حاولت «الانحراف إلى اليسار» - كما يقولون - كان الله في عونك حينئذ، نعم أنا الآن تحت سلطانك، وذلك هو ما جعلني أوثر الآن أن أتحدث إليك على هذا النحو الودي الصريح.»
قلت: «ها أنا ذا أصغي إليك.» - «أول ما أسديه إليك من نصح يا «إلينا بتروفنا» هو أن تدربي ذاكرتك وخصوصا فيما يختص بالوجوه، لا تكتبي شيئا، بل أمسكي كل شيء على صفحة الذهن بحيث لا يفلت، وذلك شيء يستفاد بالتدريب، فالأوراق والمذكرات لها خطورتها، فاحفظي عن ظهر قلب ما تحسين الحاجة إليه: الأسماء والعنوانات وأرقام التليفون والوقائع، إن أداتك الأولى هي الذاكرة.
ولغاتك الأجنبية استخدميها، فهي كذلك أدوات نافعة، وكذلك جمالك، فأنت من أشد النساء اللائي يخدمننا فتنة، وجانب من مهمتك الرسمية أن تحتفظي لنفسك بهذه الفتنة، فلا تقتري على نفسك في شراء الثياب ومساحيق الزينة، فهذه ألوان من الإنفاق لها من الأسباب ما يبررها.
وسيحدث لك أن تلتقي حينا بعد حين بسواك ممن يعمل في خدمتنا، فلا تثقي بأي منهم ولا تنبسي ببنت شفة مما قد يدل على طبيعة مهمتك مهما يكن ذلك على سبيل السياق العابر، وإذا دعت الحال أن تعملي مع غيرك من أعضاء الشرطة السرية في إنجاز مهمة واحدة اتبعي الأوامر فيما يخص الجانب الذي عهد إليك به، مهما بدا لك أنها أوامر سخيفة، فليست التبعة الملقاة عليك إلا هذا.
ونصيحة أخرى يا عزيزتي لها قيمتها، لا تقبلي قط شرابا إلا إذا صب في حضرتك وإلا إذا شرب منه المضيف أولا، ولا ترتبطي بصلات الصداقة مع أي رجل في خدمة الشرطة السرية إلا إذا وافق رئيسك موافقة صريحة على هذه الصلات، وبلغي أول الأمر عن كل صلة تنشأ بينك وبين كائن من كان، مهما بدت لك هذه الصلة تافهة وعابرة، وسيكون لك الحق في الانتفاع بالدكاكين الخاصة بنا وفي قسائم تبيح لك من الطعام والثياب قدرا أكثر مما يصيب سائر أبناء الوطن، فالقائمون على حراسة الوطن حتى يكون بمنجاة من العدوان لا ينبغي أن ينقصهم شيء، والآن فأنت واحدة منا.»
فقاطعته قائلة: «أريد سؤالا واحدا آخر، متي يعود زوجي إلى داره؟» - «لا عليك، فنحن لا نخلف الوعد، سنعطيه وظيفة طيبة في «دنيبروبتروفسك» وستكونين أنت مهندسة معمارية.»
وعاد «سرجي» بالفعل بعد ما يقرب من شهرين، وإنه لرجل عاقل طيب القلب، فهو يعلم أنني لا أكن له سوى الإشفاق، أما الحب القلبي بمعنى الكلمة القديم، فلم يكن له بيننا وجود، ولعل النظام السوفيتي هو الذي قتل فينا مثل هذه الرابطة، لم يسألني قط كيف استطعت إنقاذه، ومن يدري؟ لعل ما يتوهمه في ذلك من شكوك أشد بشاعة من الواقع على ما اتصف به ذلك الواقع من سواد.
ألا ما أفظع هذا القرار الذي أخذت به نفسي آخر الأمر، لكنك يا «فيتيا» لو رأيت معسكر الاعتقال، وما انتاب «سرجي» من تحول مخيف؛ لعرفت لماذا استسلمت في النهاية بعد أعوام من الإباء، وما أنا إلا واحدة من ألوف أجبروا على هذا النحو أن ينفذوا أوامر الشرطة السرية، ولا يتصل عضو بعضو من هذه الألوف، فيستحيل على أحد منا أن يرى أحدا في الدار التي رأيتني فيها، فكل منا يساق إلى غرفة وحده بحيث يستحيل أن يرى أحد أحدا حتى بالمصادفة، ومع ذلك فقد صادفت بعض هؤلاء الناس خلال أداء مهمتي، وإن من بينهم لزوجات لكبار الموظفين وأعلام الرجال بصفة عامة.
فأحيانا تقع الواحدة منهن في الفخ لضعف حيلتها فتقبل العمل تحت شيء من الوعيد، وأحيانا يغري رجال الشرطة السرية بعض هؤلاء النساء بفعل السوء وبعدئذ يضطرونهن إلى العمل معهم وإلا وشوا بفساد سيرتهن إلى أزواجهن، وأعتقد أنه كثيرا ما يتهم بعض هؤلاء بجرائم لم يقترفنها، فتصاغ هذه الجرائم على نحو محبوك بحيث يستحيل على أزواجهن أن يشكوا في إثمهن، فتراهن لهذا يستسلمن مجبرات، فهنالك من أقذر الأساليب مئات وألوف لينشئوا جيش الجاسوسية يا «فيتيا»، وقليلات جدا أولئك اللائي يعملن هذا العمل لمال أو لسلطان؛ إذ العادة أن يتم الأمر تحت ضغط لا يقاوم، فالقصة كما ترى مليئة بألوان الوحشية وصنوف البشاعة.» - «وإذن فهذا سبب قدومك إلى «دنيبروبتروفسك» يا إلينا؟» - «نعم يا «فيتيا»، وهذا هو سبيل لقائي بك بعد نحو شهر من قدومي من خاركوف، ولقد بلغت عن صلتي بك، فلم يكن أمامي في ذلك سبيل للاختيار، لكني لم أذكر شيئا أكثر من مجرد الصلة، أي حبيبي فيتيا.» - «وهل قال لك رؤساؤك شيئا عني؟» - «بالطبع، لكنهم لم يقولوا شيئا يسيء، فصحيفتك فيما يظهر نقية من الشوائب في الجانب الذي يعنيهم، أما تزال دهشا جازعا لاشتغالي بالتجسس؟» - «نعم، إذا أردت أن أكون صادقا فلا بد لي من زمن ينقضي حتى تتهيأ نفسي لهذه الصدمة.» - «ومع ذلك يا «فيتيا» فأنت شيوعي، وواجبك على هذا الاعتبار أن تبلغ كل شيء مما عسى أن يكون ضارا بالحزب، سواء أرضيت ذلك أم كرهت، فهل ترى من فارق كبير بين هؤلاء الملايين من الجواسيس المختارين وبين أولئك الذين اضطروا اضطرارا أن يتجسسوا؟ أليس كلانا مصيدا في الشبكة القذرة بعينها؟» - «إن فيما تقولين شيئا من الصدق، وإن تكن الموازنة - ماذا أقول؟ - ساذجة، فالواقع أن كلانا يدفع الأذى عن نظامنا السياسي، سواء أكان ذلك كرها أم طواعية.» - «أما وقد جازفت يا حبيبي فأنبأتك بقصتي، فقد باتت حياتي في يديك، فإذا أردت أن تكون شيوعيا صالحا؛ وجب عليك أن تكاشف أولي الأمر بما سمعت، ومع ذلك فلست أرتاب لحظة واحدة في أنك لن تفعل ذلك، وما أهون علي أن أذهب إلى أقصى الأرض لأنجو من فخاخ الشرطة السرية، لكن هذه الشرطة السرية متناولها بعيد المدى، فلا مفر منها إلا بالموت، ولكم فكرت في الانتحار على أنه الوسيلة التي لا وسيلة سواها للخلاص.
فيتيا يا حبيبي كن على حذر، فنحن نعيش في بلاد كل من يحيط بنا من أهلها يلبس قناعا، فلا تثق بإنسان كائنا من كان بحيث تسر له بمكنون نفسك، ولست أقصر حديثي على البوابين والمتسمعين خلال ثقوب الأبواب، إنما أعني أكثر الناس في هذا البلد احتراما، فطريق السلامة الوحيد هو في افتراض أن الناس جميعا بغير استثناء ينقلون الأخبار ثم ينقلونها وينقلونها ... أواه يا «فيتيا» لقد بلغ مني الإعياء واليأس مبلغا عظيما، وسأظل على حبك حتى لو نبذتني نبذ النواة.»
فقلت في انفعال عاطفي إزاء هذه الفتاة التي وقعت في الشرك: «إلينا أمسكي عن هذا الهراء، إنه ليشقيني الآن شيء واحد، وذلك أني عاجز عن معونتك، فكم يثير صدر الرجل أن يرى نفسه عاجزا عن مساعدة المرأة التي يحب.»
فقالت إلينا: «هيا نسبح فتذكري لما انتابني من صعاب يجعلني أحس كأنما تلزج مني الجسد.»
كان الماء دفئا، وسبحنا في الظلام وتحت المطر، وسط لمعات من البرق وقرقعة من الرعد، نعم إن ذلك الفعل منا جاء دليلا على شيء من الحماقة وعدم الحرص، لكنني رأيت السباحة عندئذ ضرورة لكي أزيل بالماء بشاعة القصة التي روت، ثم حملتها خارج الماء حيث وضعتها في حظيرة السماك ونشفت جسدها كأنها الطفل، ولففتها في مخدع من الدريس العاطر، ولما كانت منهكة بما تحرك في نفسها من انفعالات خلال ذلك اليوم العجيب، فقد استغرقت في النعاس من فورها.
ولما أصبح الصباح عدنا بالقطار إلى المدينة.
وهمست في أذني قائلة: «الحق يا «فيتيا» أني أحس الآن خيرا مما كنت وأنقى مما كنت، ما دام هذا السر المخيف قد ارتفع من بيننا، فلو دمت على حبك إياي فسأكون بذلك أسعد مني في أي لحظة مما مضى.»
وبعد ذلك بأسابيع قليلة ذهبت «إلينا» إلى «كيف» لزيارة أمها حيث لحقت بها، وذات نهار مشمس قصدنا معا إلى المقابر، وهنالك اقتلعت الأعشاب عن قبر أبيها وزينته بالورود، وكنت قد أحضرت معي علبة من الطلاء فطليت الحاجز الذي يحيط بالقبر والصليب الحديدي الذي يقوم عند طرفه، وأما «إلينا» فلم تبك بل أخذت تقص لي عن أبيها وعن طفولتها السعيدة بينا كنت أنا أقوم بعملية الطلاء.
قالت لي إذ نحن في الطريق عائدين إلى الدار: «لو علمت الشرطة السرية يا فيتيا أنك زينت القبر لألقت عليك القبض، فإنه من الخطر أن تبدي شعورا طيبا نحو أبي المسكين البريء حتى بعد موته، لكن هذا العمل الإنساني الذي قمت به على ضآلته قد زادني شغفا بك.»
فقلت: «إذن فالعمل جدير بأن أخاطر في سبيله.» - «لكن ألا يقلقك مثل هذا العمل باعتبارك شيوعيا مخلصا؟» - «كلا، إنه لا يثير في نفسي قلقا، وربما كنت شيوعيا مخلصا بغير هذا المعنى.»
وذهبنا معا إلى متنزه في «كيف»، وكانت هنالك جوقة موسيقية تعزف في الحديقة التي كانت تسمى فيما مضى بحديقة القيصر، وكانت الأغنية الشائعة عندئذ نغمة سخيفة تمجد «الحياة المرحة السعيدة» التي يحياها أبناء السوفيت، ونظر كلانا - إلينا وأنا - كل إلى عيني زميله، وكان حسبنا النظرة عن كلمات نتبادل بها ما يدور في رأسينا من خواطر.
الفصل الثاني عشر
مهندس في نيقوبول
كانت الفرقة النهائية في معهدنا تعد نفسها للامتحان الختامي في شيء من القلق، وكان من شروط الحصول على الإجازة الدراسية أن يتقدم الطالب بمشروع هندسي توافق عليه لجنة حكومية، وقد بذلت مجهودا لا يعرف التراخي حتى أعددت مشروعي، وكان علينا بالإضافة إلى ذلك أن ننفق بعض الوقت في مصانع صهر المعادن على سبيل التدريب، وأكثر ما كنا في حاجة إليه هو قليل من طمأنينة النفس، وراحة مؤقتة من شئون السياسة، لكن أبى علينا القدر هذا المطلب؛ فجاءت تلك الأشهر الأخيرة مليئة بالأحداث السياسية.
فلم تعرف حياتنا العلمية في المعهد إلا قليلا من الهدوء، ذلك على أحسن الفروض، فما كنا نكلف به من أعمال خارج المعهد، وما كانت تفعله بنا حركات التطهير، قد امتص نشاطنا امتصاصا، حتى لقد كان يبدو لنا أحيانا أن الدراسة لم تكن إلا وجها إضافيا من أوجه النشاط التي نقوم بها ، وها نحن أولاء نحرم حتى هذا الهدوء القليل الذي بقي لنا بعد ذلك كله، وذلك أنه في مستهل ديسمبر عام 1934م أطلقت رصاصة من مسدس في «لننجراد» البعيدة عنا، لكنها أصابت حياتنا في «دنيبروبتروفسك» إصابة زلزلتها من أساسها.
أطلقت تلك الرصاصة في دهليز البناء الذي كان فيما مضى «معهد سمولني» والذي هو الآن مقر رياسة الحزب في لننجراد، وأطلق الرصاصة شاب شيوعي يدعى «نيقولاييف»؛ فأصابت «سرجي كيروف» الذي كان عضوا في الهيئة السياسية العليا والمشرف الحقيقي على الجزء الشمالي من روسيا، فسقط صريعا عند قدمي «نيقولاييف»، ولبثت أصداء تلك الطلقة تتردد في الأرجاء أعواما طوالا، وقبل أن تسكن تلك الأصداء لاقى مئات الألوف من الناس ما لاقوا من عناء وموت، وشقيت أنا أعواما دفعتها ثمنا لتلك الفعلة الإرهابية التي اقترفتها يد شاب مجهول.
جاء «ستالين» ومعه «فوروشيلوف» مسرعين إلى لننجراد، وشاعت في دوائر الحزب أخبار تنبئ بأن «ستالين» أشرف بنفسه على استجواب «نيقولاييف» استجوابا بلغ من الدقة حدا بعيدا، وبالطبع لم يعلم أحد خارج هيئة المحاكمة بما علمه «ستالين» من المتهم، لكن سلوكه فيما بعد نهض دليلا على أن «ستالين» فزع لما سمع فزعا بلغ به حد الجزع.
وقبض على مئات ممن حامت حولهم الشبهة في لننجراد، وقتلوا رميا بالرصاص في حينهم بغير محاكمة، وسيق مئات آخرون من أعماق السجون التي زجوا فيها لأعوام خلون، ثم أعدموا رمزا من الحكومة على انتقامها من أعداء الحزب، وغصت سجون الأقاليم بداخليها، وحملت قطارات البضاعة ألوفا وألوفا من «العناصر الدخيلة من الوجهة السياسية» حيث خرجت بهم من المدينة إلى مطارح النفي النائية، ثم امتد هذا الإرهاب حتى شمل موسكو وكيف وخاركوف، وأخيرا طفت موجته على البلاد بأسرها.
وكان أول ما أذيع من أخبار موت «كيروف» هو أن القاتل كان أداة في أيدي طائفة من الأجانب الأنذال من أستونيا وبولندا وألمانيا ثم من بريطانيا، وبعدئذ تتابعت التقارير الرسمية معلنة أن «نيقولاييف» كان يرتبط على نحو غامض بأتباع - حاضرين وسابقين - «لتروتسكي» و«زينوفييف» و«كامينيف» وغيرهم من البلاشفة القدامى الذين خرجوا على الحزب، وأخذت في كل ساعة تقريبا، تتسع دائرة الذين فرضت فيهم صلة بالأمر على نحو مباشر أو من الوجهة «المعنوية» حتى شملت تلك الدائرة كل إنسان حدث له يوما أن أثار أدنى الشكوك في سياسة ستالين.
وأطلق للدعاوة حبلها على الغارب، كأنما نسي الزعماء ونسيت صحافتهم ما كانوا يفاخرون به أمس القريب من أن الحزب قد أصبح موحد العقيدة على نحو لم يسبق له مثيل، فراحوا الآن يصرخون صرخات الهوس بأن الحزب قد اندس فيه الخونة والمنشقون والمخادعون والمخربون، وكنت تسمع تلميحا منذرا بالسوء آنا بعد آن بوجود مؤامرات وتدبيرات في الخفاء، قد عقدت صلاتها بالعالم الرأسمالي الذي يأخذ أهبته لشن الحرب على الوطن السوفيتي، ومن كان منا ذا دراية يسيرة باتجاه الريح السياسية في البلاد أدرك أن إراقة الدماء إراقة على نطاق واسع كالذي عهده التاريخ على يدي جنكيز خان، كانت على وشك الوقوع، ولم نخطئ الحساب، إذ جاءت الأعوام القليلة التالية تحمل لنا في طيها أفظع حركة إرهابية حكومية شهدتها الروسيا في تاريخها كله.
وانتشرت الشائعة في دوائر الحزب بأن فعلة «نيقولاييف» لم تكن سياسية إطلاقا، وأنه إنما أطلق الرصاص على «كيروف» في ثورة من الغيرة؛ لأن «كيروف» قد أفسد عليه زوجته الجميلة، وتعاونت أمثال هذه الهمسات المحرفة مع وسائل الدعاوة المنظمة بحيث أحاطت الجريمة بالغموض والتخمين فلم تعرف حقيقتها حتى اليوم، وفي الوقت الملائم أصدرت اللجنة المركزية «خطابا سريا» قرئ في اجتماعات خاصة من أكثر أعضاء الحزب نشاطا في أرجاء البلاد كلها، وذلك بعد أن تعهد هؤلاء الأعضاء بكتمان الأمر سرا في صدورهم، وقد صور هذا الخطاب مقتل «كيروف» على أنه تعبير عن حركة بعيدة الغور يقاوم بها أنصارها من أعداء الثورة سياسة الحزب وزعماءه.
ومهما يكن من أمر العلة المباشرة أو الباعث البعيد الذي حفز «نيقولاييف» على إطلاق الرصاص، فقد كانت هذه الحادثة في رأي المفكرين من الشيوعيين علامة تدل على ما في النفوس من ضيق شديد دفين تحت سطح الحياة في بلادهم، ذلك السطح الذي يقوم على حراسته رجال الشرطة، فكل واحد منا كان يحس في طوية نفسه المرارة واليأس، وكانت تبلغ بنا الجرأة، أحيانا أن يكاشف بعضنا بعضا بتلك الوساوس على ألا تزيد جماعتنا عن اثنين أو ثلاثة، ولقد كان لا بد من مقتل رجل هو من أقرب المقربين لستالين، حتى نستيقظ لنعي أن كروبنا الخاصة إن هي إلا موجات من نهر عظيم من السخط تجري أمواهه تحت سطح الأرض دفاقة فتنفذ إلى صميم القلب في أمة كثيرة النفر.
كان كل شيء هادئا في الظاهر، فقد بطش بألسنة النقد من «المياسرة» ومن «الميامنة» على السواء، وسطع ستالين «شمسنا» في سمائه مطمئنا فوق حزب موحد النزعات، وأما الفلاحون فقد ألهبتهم السياط ليخضعوا على غيظ كظيم تحت ضغط البنادق والمجاعة، فلم تعد تسمع صوتا باحتجاج على حركة التحول الصناعي التي فتكت بحياتهم، وعلى ما يعانونه من قلة الطعام ومصاعب الحياة، وقبض الشرطة عليهم بنسبة عالية، هذا في الظاهر، أما في الباطن فقد كان كثيرون من أعضاء الحزب وأبناء الأمة يتميزون من غيظ، فتحت هذه الغفوة البادية من عدم المبالاة، وتحت طبقة رقيقة من اليأس الصامت، كانت تتأجج نيران الغضب الهائج كأنها حمم البراكين.
ينبغي أن يتبين العالم هذه الحقيقة في وضوح إنصافا للشعب الروسي، فقد كان هؤلاء الروس من شقاء العيش بحيث عجزوا عن النهوض، شلت فيهم الحركة عشرون عاما قضوها في حروب وثورات وقلة في الغذاء ومطاردات الاضطهاد، دوختهم أقوال الدعاوة وحيرتهم الأكاذيب، وقطعت الأسباب بينهم وبين العالم الخارجي، ومع ذلك كله لم يذعنوا قط عن رضى لفظائع حكامهم، وكان الشعور بالحرارة على أشده في الحزب نفسه؛ لأنها كانت ممزوجة في نفوس أعضائه بشعور الخطيئة، وكان يزيد من المرارة عند هؤلاء الأعضاء شعورهم بالعجز إزاء الحكام وما لهم من نفوذ وسلطان.
ولم يكن من قبيل المصادفات أن يكون «نيقولاييف» ومن اتهم معه بالاشتراك المباشر في جريمته جميعهم من الشباب الذين أخرجهم عهد السوفيت، وكانت كثرتهم الغالبة من الطلاب، لقد جرى التقليد بأن تكون المدارس العليا في الروسيا هي أوكار المذهب الثوري في صورته المثلى، فباتت هذه الصورة المثلى من المذهب تعد مناهضة للثورة، لكنها لم تزل على سابق عهدها لم تتحول.
لم يكن يغيب على أحد من الشيوعيين أن آلاف الطلاب قد قبض عليهم وأن مئات منهم قد قضي عليهم بالموت بعد مقتل «كيروف»، ومع ذلك لم تذكر الصحف من ذلك شيئا، فقد كان يكفي لتحريك الريبة في صدور الشرطة السرية أن يجتمع عدد من الطلبة في دار واحد منهم ليقضوا معا سهرة راقصة يسرون فيها عن نفوسهم.
فإذا ما فوجئنا في المعهد بغياب عدد من الطلاب لم يقع ذلك منا موقع الشذوذ في مجرى الحياة المألوف، ولا دعا أحدا منا إلى التساؤل، بل كنا نغضي عن عمد كأننا لم نلحظ شيئا، لكن قلوبنا كانت دائما تميل بعطفها نحو الزملاء الذين قبضتهم أيدي الشرطة، ولم يحدث قط أن كان هوانا مع الشرطة في ذلك، ولقد أخذ كل منا نفسه بأن يشدد الرقابة على لسانه؛ لأنه إذا ما انطلق بحديث صريح، كان معنى الصراحة هنا «عداوة للشيوعية».
كان ما أحسسته في نفسي من خيبة الرجاء أعمق مما أستطيع أن أصارح به نفسي، بله أن أصارح به الناس، ولهذا السبب عينه تجنبت المشاركة في المناقشات السياسية، لكنني إنسان من البشر، وروسي إلى أخمص القدم، فكنت أجد نفسي حينا بعد حين أفرط في الحديث مع أصدقاء وثقت فيهم، وبعدئذ كنت أقضي أسابيع في قلق وهم خشية أن يكون قد بلغ عني واحد من هؤلاء.
فلما وقع الاغتيال في لننجراد، اهتزت نفوس الطلاب اهتزاز الأمل الذي بعثه فيهم وهم الخيال، أفيكون هذا العمل الإرهابي تعبيرا عن حركة شعبية حقيقية؟ أيمكن أن تكون الشرطة السرية بكل ما لها من قوة قد فشلت في اقتلاع جذور المعارضة المستورة؟ فنحن بعد هذا كله لم نزل جزءا من أمة نشأت على ذكريات الحركات الثورية السرية والمؤامرات السياسية وقذف القنابل في سبيل الحرية.
لكن حادث الاغتيال قد بعث في نفوسنا إلى جانب الرجاء رعشة الخوف التي تغلغلت فينا إلى الصميم، فلم يكن لنا إزاءه محيص عن حركات تطهيرية أخرى، بل قد حدث بالفعل أن سارعت الهيئة الحاكمة إلى الإعلان عن نواياها، إذ أعلنت أن كل تذاكر الحزب لا بد من مراجعتها وتجديدها، ولم يطلقوا على الحركة المعتزمة اسم «التطهير» لكنها ستكون في حقيقة أمرها حركة محاكمات تعود إلينا من جديد قبل أن يكتمل عام واحد بعد حركة التطهير السياسية التي شملت أرجاء البلاد جميعا.
كان صديقي في الدراسة «م» واحدا من الشيوعيين القلائل الذين كنت أبيح لنفسي معهم أن أعلق برأي صريح على الشئون السياسية، فقد أحسسنا حالة نفسية مشتركة بيننا بثت فينا الجرأة كلما انفردنا معا، فلم يلبث «م» بعد موت «كيروف» أن دعاني للقاء طائفة من الأصدقاء في منزل «أندريه س» وهو طالب لم تكن قد توثقت بينه وبيني الصلات، «سنشرب الشاي ونشقق أطراف الحديث.» هكذا قال لي، لكنني ترددت في الذهاب؛ لأنني شممت رائحة الخطر في مثل هذه الدعوة العابرة، غير أن حب الاستطلاع من ناحية وحالتي العقلية المضطربة من ناحية أخرى جذباني في نهاية الأمر إلى الذهاب في الموعد المضروب.
كان «أندراي» مديد القامة شاحب اللون في نحو الثلاثين من عمره، سمح المحيا أزرق العينين غائرهما، وكان واسع الاطلاع ذرب اللسان حتى في الموضوعات التي لا توحي بالإفاضة في الحديث مثل مراحل صنع الصلب، فكان محبوبا من الجميع محترما من الجميع.
وجدت «م» في غرفة «أندراي» الصغيرة ذلك المساء، ومعه طالبان من معاهد غير معهدنا، وتحلقنا حول وعاء الشاي المتوهج في ضوء الغرفة الخافت الذي كان مصدره مصباحا واحدا صغيرا، وأخذنا نتنقل في الحديث على غير نهج مرسوم، نطوف حول الموضوع الذي كان يشغل عقولنا جميعا، دون أن نقع فيه، كأنما كان كل منا يسبر غور الآخرين، ولقد لحظت شيئا عجيبا وهو أن الحاضرين أخذوا ينادون بعضهم بعضا بأسماء زائفة، فكانت هذه الحقيقة وحدها كفيلة أن تصبغ جماعتنا بصبغة التآمر، وهي صبغة تشيع في النفس فزعا، لكنها في الوقت نفسه تغري بالمضي في الطريق، فاللعب بالنار عند كثير من الروس مما يخلب الألباب.
كنت حديث عهد بهذا الحديث السياسي الخطر، أما الآخرون فقد كانوا فيما يظهر يألفونه منذ بعيد، وما هو إلا أن نسينا ما اصطنعناه من حرص، وحمي النقاش بيننا رويدا رويدا في حادث اغتيال «كيروف» فاحتدت الأصوات تدريجا، وازدادت الأعين بريقا، وازددنا بفعل كلامنا التهابا، وأخذنا نتحدث عن «طاغية الكرملن» ونبدي علائم العطف على «الشعب الروسي المظلوم»، فخيل إلي على نحو ما أنني أعود بالذاكرة إلى حياة طفولتي من جديد؛ حيث كان يجتمع أبي مع أصدقائه الثائرين في دار استقبالنا المتفرعة من «طريق بوشكين» على نقاش سياسي محتدم في موضوع الظلم القيصري.
قال أندراي: «نحن نعتبر رصاصة» نيقولاييف بمثابة الفاتحة لانقلاب.» فرنت كلمة «نحن» هذه التي قالها رنين المنذر بالخطوب، ولم أدر قط من هؤلاء الذين يعنيهم بهذه الكلمة، «نعم إنها بمثابة الفاتحة لانقلاب، فقد كانت رصاصة لا تدعو إليها الضرورة ثم كانت مجلبة للأذى، فلا بد لستالين أن يلتمس ثغرة ينفذ من خلالها إلى مذبحة تطهيرية يشنها على فريق المنشقين من الحزب، وها هو ذا قد وجد الثغرة مهيأة، فلم يعد الأمر أمر «نيقولاييف» وحده، بل قضي الأمر فيه وفي أصدقائه جميعا، الموقف الآن هو أن عصبة الكرملن قد بات في يدها أقوى المبررات للإجهاز على نقدة الحزب ومعارضيه إجهازا لا يبقي منهم أحدا.» - «اذكروا قولي هذا يا رفاق، إن مئات الألوف، لا بل قد يبلغون ألوف الألوف، أولئك الذين سيدفعون الثمن لرصاصة «نيقولاييف»، لئن جاز لنا حتى الساعة أن نحلم بالحرية والديمقراطية تسودان الحزب، فهذا الحلم قد تقشع وزال، تقشع وزال، ها أنا ذا أعيدها لكم، لقد تبددت آخر ذرة من الأمل! إنه لن يمضي طويل وقت حتى ترون الروسيا تدمى إلى حد الفناء!»
وأخذ يذرع الغرفة بخطاه وهو منفعل، وسرعان ما تأثرنا جميعا بانفعاله وجيشانه، وأحسسنا إحساس ركاب السفينة التي أخذت في الغرق، ودوامة الماء باتت قاب قوس من خياشيمهم، وسكت «أندراي» برهة ثم مال في ترنح المخمور، ومضى يقول: «كان «ستالين» و«فوروشيلوف» حاضرين حين كان «نيقولاييف» يسام العذاب، لقد شاءت لي المصادفة أن أعلم ذلك يا رفاقي، لقد كانوا يريدون منه أسماء ناس، تتلوها أسماء وأسماء ... أرادوا منه أسماء ناس يكونون غذاء لسعير نيرانهم، وليس ما يهمنا الآن هو أي الأسماء قد اعتصرها المستجوبون من «نيقولاييف»، فهؤلاء سيكتبون تقريرهم على النحو الذي يشتهيه ستالين، كائنة ما كانت الأسماء، وبعدئذ تسيل الدماء دفاقة في هدوء، تستند إلى مبررات نظرية.»
كان أصغر عضو في جماعتنا طالبا ضئيل الجسم شاحبا، وما كان أجمله حين نهض فوقف فجأة بجسمه النحيل وأخذ ينشد مقطوعة من شعر «رايلييف»:
إني لأعلم أن الموت يرتقب
من يجعل من نفسه طليعة النهوض
ضد الطاغية الذي بغى بالشعب
وأعلم أن قد حم في القضاء
سأموت في سبيل وطني الحبيب
إني لأعلم ذلك وأحسه ...
وكأنما تبدلت سحنته وهو يقلص وجهه إذ هو ينشد هذه الكلمات، فبدا كأنه شخص من شخوص «دستويفسكي» أو «جوركي»، تلك الشخوص التي تعرفها في مناظر الثورة الرائعة من قصص هذين الكاتبين، بدا كأنه شخص من تلك الشخوص دبت فيه الحياة، وعلى الرغم من أن ما شهدته عندئذ كانت له في النفس روعة توحي بما توحي، فقد شعرت مع ذلك بأسف عميق إذ أبحت لنفسي أن أنساق إلى هذا الاجتماع، فقد كانت تسوده روح من السذاجة التي بلغت حدا توجست منه خيفة، ولم يكن في اتجاهه عمليا ولا مفيدا، لا بل إنني لم أفهم قط فيم انعقد هذا الاجتماع، ولقد حدث أن قرئ لنا فيه كتيب صغير صادرته الحكومة، بقلم رجل من أعلام المعارضين - هو «سلبكوف» - فطبعت منه نسخ على الآلة الكاتبة كهذه النسخة التي قرئت لنا، وكان فيها هجوم عنيف على طاغية الكرملن وعصابته، فكان ما سمعته من هذه الرسالة هو ما كسبته في هذا الاجتماع العجيب من علم مفيد، ولم أدر كيف استطاع «أندراي» أن يحصل على هذه الرسالة الخطيرة، ومهما يكن من أمر، فمجرد قراءتها - لو علمت الشرطة السرية بذلك - كان كفيلا أن يطوح بي إلى مطارح النفي في سيبيريا.
وانفض اجتماعنا عند مطلع الفجر، فلم أتبين فداحة ما أقدمت عليه إلا حين خرجت في ضوء الصباح الشاحب، أخب في الطريق المثلوج، لقد كنت واحدا من جماعة متآمرة طالما قضى أمثالها على ألوف الطلاب في أرجاء الروسيا، فسلبتهم الحرية أو حرمتهم الحياة بأسرها، فلو علم السلطان طرفا من الأمر لكان في ذلك قضائي المحتوم، ومع ذلك فقد أخذت صبح ذلك اليوم في المعهد أبحث عن «أندراي» ورأيتني منجذبا إليه بسبب ما نستهدف له من الخطر، لا على الرغم منه، فقد كنت مشوقا أن أعلم من هؤلاء الذين أشار إليهم ليلة أمس بكلمة «نحن» وظل يتحدث عنهم طيلة الليل.
وما بلغت الساعة الواحدة حتى طلب إلي الذهاب إلى مكتب الحزب، فوجدت هناك غيري من الناس وبينهم «م» وتجهم أمين سر الحزب وهو يغلق من دوننا الباب ويتجه بنظره إلينا، فتوقعت من الأمور شرها.
قال: «أيها الرفاق، إن ما لدي لخبرا محزنا، وآثرت أن أنبئكم به في غير إبطاء، وذلك أن رفيقا من أعز رفقائنا علينا قد أزهق نفسه بيده هذا الصباح في غرفته، وقد يكون دافعه إلى ذلك هو الحب، أو غير ذلك من مآسي الحياة.»
فسألته: «من هو ذاك؟» - «أندراي س، لقد كان طالبا مجدا وشيوعيا مخلصا، إنها لخسارة ...»
وبينا نحن في طريقنا إلى الخارج واحدا في إثر واحد، تحسس «م» حتى صادف يدي فضغط عليها، وكانت عبراته تنحدر فوق خديه، إذن فلم يكن هذا الجيشان النفسي الذي رأيناه في «أندراي» المسكين تمثيلا زائفا يخدعنا به، ولقد ظلت عبارته التي قالها: «لقد تبددت آخر ذرة من الأمل، ولن يمضي طويل وقت حتى ترون الروسيا تدمى إلى حد الفناء!» ظلت عبارته هذه تتردد أصداؤها في ذهني أشهرا طوالا، ومن حسن حظنا جميعا أن هذا الاجتماع الليلي الذي سمعنا خلاله نشيدا من شعر «رايلييف» ظل سرا مكتوما طوال سنوات التطهير التي طغت على البلاد بعد ذلك.
لم يعلم أحد على وجه الدقة لماذا انتحر «أندراي»، ومع ذلك فقد كثر اللغط في أرجاء المعهد رجما بالغيب، وأحس كل من بالمعهد أن موته كان متصلا على نحو غامض بحادث الاغتيال في لننجراد وبموجة الرعب التي كانت وقتئذ تجتاح الحزب كله والهيئة الحاكمة السوفيتية جميعا.
ولم تكن مراجعة تذاكر الحزب علنية كما كانت حركة التطهير من قبل، بل اتخذت صورة التحقيق البوليسي، فنودينا للاستجواب واحدا بعد واحد، ولما جاء دوري دخلت مكتب الشرطة في حالة من الجزع تندى بها جسمي كله بالعرق، فماذا أنا صانع لو كان أمر الاجتماع في غرفة «أندراي» قبل موته بساعات قليلة قد كشف عن سره؟ لكن مثل هذا السؤال الذي ألقيته على نفسي لم يكن له سند من المنطق؛ لأنه لو كانت الشرطة السرية قد أحاطت بالأمر علما لكان القبض قد ألقي علي قبل ذلك بزمن طويل، غير أن الخوف الشديد - كالحب الشديد - لا يعرف منطقا.
قال الرجل الجالس خلف المكتب: «اجلس أيها الرفيق كرافتشنكو، أرني تذكرة الحزب التي لك.»
كنت أعرف عن هذا الرجل أنه شيوعي عامل في «دنيبروبتروفسك»، وكان معه اثنان آخران، لم أعرف أحدهما لكنني أيقنت أن ثانيهما - رغم ما كان يرتديه من ملابس المدنيين - من هيئة الشرطة السياسية، واستجوبني من لم يكونا من الشرطة، لكن كان الشرطي بمثابة القاضي هذه المرة، وكان أمامه ملف أوراق - لعله ملف أوراقي - فكان ينظر إليه آنا بعد آن، ثم رأيته حينا بعد حين يناول الجالس إلى المكتب هذه الورقة أو تلك.
وأخذت المحاكمة مجراها المألوف، فرواية على النحو المعهود لقصة حياتي وأصدقائي وأقربائي وما أديته من مهام الحزب، وهذا العمل المكرور على ما في تكراره من ملل، كان بتكراره هذا مطمئنا للنفس، وأرادوا هذه المرة أن يعلموا مرشحي حين التحقت بالحزب؛ فأدليت لهم بأسمائهم. - «ألا يزالون أعضاء في الحزب؟»
فأجبت قائلا: «نعم، هذا ما أعلمه عنهم.» - «هل حدث يوما أن كان أحدهم شريكا على أي صورة من الصور في إحدى حركات المعارضة ؟» - «لو كان ذلك فليس لي بالأمر علم.» - «رفيقي كرافتشنكو، أليس عجيبا أن تكون وحدك دون سائر أفراد أسرتك عضوا في الحزب؟ لماذا اعتزل صفوفنا أبوك وإخوتك؟» - «وأي عجب في ذلك؟ أليس واقع الأمر أن في البلاد خارج الحزب عددا أكبر من أعضاء الحزب؟»
فقاطع رجل الشرطة السياسية قائلا: «كان أبوه ذا نشاط سياسي قبل الثورة، لكن يظهر أن البلاشفة ليسوا على هواه.»
فقلت: «أنا آسف يا رفاقي، لكنه ليس من العدالة في شيء أن تزعموا لأنفسكم مثل هذه المزاعم لا لسبب ظاهر سوى أن بعض الناس لم ينضموا إلى الحزب.»
فقال الشرطي في ابتسامة ساخرة: «أوه، أنا لم أقصد إلى مهاجمة أبيك، إنما أردت أن أسرد الواقع فحسب.»
ودام الاستجواب نحو ساعة، وكان كلما سار خطوة ازددت سيطرة على نفسي، إذ كان من الجلي أن ملف أوراقي لم يزل نقيا، ونجوت مرة أخرى، وردت إلي تذكرتي بعدما فرغوا من استجوابي، لكن الإجراءات التي تم بها الاستجواب تركت في نفسي مرارة، فمن الوجهة النظرية كنا نحن الشيوعيين أصحاب السيادة في البلاد، إذ نحن «صفوة الصفوة» من بناة العالم الجديد، أما من الوجهة العملية فقد كنا قطعا من قطع الشطرنج التي لا حول لها ولا قوة، يحركها اللاعبون في جو من النظام الشرطي رسمته مجموعة من قوانين سنها رجال الشرطة أنفسهم لأنفسهم.
وطرد من الحزب ألوف الشيوعيين من أهل المدينة، وحدث مثل ذلك في كل بلد من بلاد الروسيا جميعا، وكان الطرد من الحزب هذه المرة معناه الحبس فورا.
لم يكن المشروع الهندسي الذي حصلت به على إجازتي الدراسية - وقوامه وصف وتصميم لآلة لخراطة الأنابيب، وهى ابتكاري الخالص - لم يكن ذلك المشروع في تقدير الممتحنين ممتازا فحسب، بل ازداد على امتيازه شرفا حين اشترت الحكومة حق الانتفاع به، نعم إن الآلة لم تخرج قط من دائرة الرسم إلى دائرة الواقع، لكنها مع ذلك وضعتني - من الوجهة النظرية على الأقل - في صف المخترعين الفنيين.
ولم أكد أفرغ من الامتحان التحريري حتى جلست لامتحان شفوي أمام لجنة حكومية من الممتحنين، وكان ختام حياتي المدرسية حفلة أقيمت لتكريم المتخرجين، فملأنا بطوننا طعاما وشرابا وأخذنا نغني ونتغنى بالعبارات الشائعة في تمجيد الوطنية السوفيتية، وطفق خطيب بعد خطيب يذكر لنا أننا تلقينا العلم على حساب الأمة، وأن واجبنا الآن هو أن نشرع في رد هذا الدين مائة ضعف بمعاونتنا لمشروع السنوات الخمس لنشيد للحزب مجدا مؤثلا.
وهكذا أصبحت في نهاية الأمر، في النهاية التي طال انتظارها، مهندسا ذا مؤهلات رسمية، وقد كان هذا الهدف منذ سنوات أربع يتبدى لعيني محوطا بهالة من مجد، ولست أدري كيف رأيته الآن وليس يزخرفه من المجد شيء، فقد أظلم هاتيك الهالة التي كان رسمها الخيال، ما رأيته في الريف من أهوال ومن مجاعة كاسحة، وما شهدته في حركة التطهير التي قام بها الحزب، وما أحسسته حولي من موجات التشاؤم، ولئن كان قد تبقى لي قليل من ضوء المجد المرتقب، قليل من ضوء يشوبه الأسى، فقد انمحى هذا القليل بعد أن سمعت من «إلينا» قصتها، وبعد أن علمت بانتحار «أندراي»، وبما كان سائدا في النفوس من يأس وشعور بالعبث، ولعله من هذا اليأس وهذا الشعور بالعبث جاءت قصة «إلينا» وجاء انتحار «أندراي» نتيجة لازمة.
إن أسرة من غمار الشعب كأسرتي لتعد من دواعي فخارها أن يكون من أبنائها مهندس ذو مؤهلات عالية، فتظاهرت بفرح لم أكن أحسه، ولا شك أن أمي نفذت ببصرها خلال ما تقنعت به من فرح مفتعل، لكنها أغضت بدورها وتظاهرت بمثل ما تظاهرت به أنا من علائم السرور، وأما أبي فقد كان يعلم علم اليقين أن الطريق الذي يسلكه مهندس سوفيتي، إنما هو طريق مليء بمواضع الزلل من الوجهة السياسية، لكنه كان رجلا كتوما فطوى نفسه على همه، وأما أخواي «يوجين» و«قنسطنطين» اللذان كانا لا يأبهان بالسياسة، فلم يريا في إجازتي الدراسية إلا فرصة تفتح أمامي طريق التقدم من حيث حالتي الاقتصادية.
وشعرت «إلينا» بزهو مشوب باكتئاب، واستطاعت بما تكنه نحوي من حب وعطف أن تهدئ من اضطراب خواطري، كانت تتوقع لنفسها النقل إلى «خاركوف»، وها أنا ذا أتوقع لنفسي أن أعين في مركز لصهر المعادن بعيد، وكلانا لم يكن بالمستهتر الذي لا يبالي الحوادث، فضلا عما زاد الآصرة بيننا من سلسلة الخطوب التي مرت بنا، فكانت تتأرجح بين الغبطة تارة والأسى طورا، فعلمي بأنها كانت عضوا في الشرطة السرية ظل شبحا يلقي ظله على مباهج حبنا، وعبثا حاولت أن أقتلع هذا الشبح من نفسي.
وأرسلت نسخة من رسالتي في الهندسة التي اجتزت بها الامتحان إلى «الوزير أورزنكدز» وجاءني منه رد عطوف، فقد لبثت مدى أعوام الدراسة متصلا به، حتى أخذت الروابط الرسمية بيننا تتحول شيئا فشيئا إلى صداقة شخصية.
وحدث مرة في عام 1933م أن عرضت رأيا بإقامة معرض سوفيتي دائم للصناعة لا يختلف كثيرا عن المعارض في ألمانيا، وعرضت هذا الرأي في مقالات نشرتها الصحف مصحوبة بصورتي وبثناء من هيئات التحرير على مثل هذا «الابتكار بين البلاشفة»، فأخذت عندئذ أضع للفكرة وصفا مفصلا مدعما بالمصورات الإيضاحية، وأسلمت كل هذا إلى «أورزنكدز»، ولم أعد أسمع شيئا عن مشروعي هذا سوى أن ظهيري من بين حاشية الكرملن قد اغتبط له، وأبلغني هذا الاغتباط على طريقته العاطفية القفقاسية، فأتبعت ذلك المشروع بمشروع آخر شبيه به، وهو اقتراح بإقامة معرض زراعي، فلقي هذا الاقتراح حظا أسعد من زميله إذ رأيته نافذا بالفعل بعد حين، ولو أن فضلي في ابتكار الفكرة لم يكن له ذكر على الإطلاق.
كان في مقدوري أن أقدم طلبا بالتعيين إلى «أورزنكدز» مباشرة، بوصفه الرجل الذي لا يعلوه إنسان في عالم الصناعة السوفيتية، لكني آثرت ألا أستغل صداقته، فأسلموني إلى «رياسة صناعة التعدين» وهي المكلفة بصناعة أنابيب الصلب وغيرها من مصنوعات الصلب للبلاد بأسرها، وكان رئيسي بها «يعقوب إيفانتشنكو» الذي كان حينا مديرا لمصنع «بتروفسكي- لينين» فعرفني معرفة جيدة، وتقرر في اجتماع انعقد في مكتبه في «خاركوف» أن أعين في مصنع معدني جديد ينشأ في «نيقوبول» فرض له أن يبدأ العمل في أبريل.
ولم أكن قد نسيت ما كنت شهدته في «نيقوبول» - حين ذهبت إليها مفتشا من قبل الحزب - من قذارة واضطراب ومرارة، وكانت الذكرى وحدها كفيلة أن تشيع الهم في نفسي، ولم أكد أصدق أن المصنع سيبدأ إنتاجه بعد قليل، رغم كل ما هنالك من إسراف وما يلاقيه الناس من عذاب، فقد كانت «نيقوبول» في رأيي مثالا لحركة التحول الصناعي في البلاد كلها، فهي مسرفة فيما تهلكه من حياة ومن مواد، وحشية في طرائقها التي خلت من كل حذق ومهارة، ومع ذلك فهي تتقدم لسبب لا أدريه.
وقفت أمي و«إلينا» تودعاني وتلوحان لي من رصيف الميناء حتى اختفت عنهما السفينة التي أقلتني إلى «نيقوبول» إذ دارت حول الحنية التي في نهر دنيبر، وأحسست حينئذ إحساسا عميقا أن صفحة جديدة من حياتي قد بدأت، فقد بلغت من العمر إذ ذاك تسعة وعشرين عاما، وهي سن متقدمة بالنسبة إلى مستقبل رجل سيشتغل بأعمال الهندسة، لكن كان يعوض ذلك أني بدأت الشوط من نقطة قريبة من النهاية؛ ذلك أني بدأت رئيسا من الرؤساء المشرفين على مشروع هندسي عظيم، وهكذا أصبحت بين عشية وضحاها رجلا من «الصفوة» الممتازة في المجتمع السوفيتي، إذ أصبحت فردا من عدد يقرب من المليون من الموظفين ومديري الصناعة ورؤساء الشرطة الذين كانوا يكونون بمجموعتهم الطبقة الأرستقراطية الجديدة في الروسيا. «نيقوبول» مدينة قديمة على نهر دنيبر، تفوح في هوائها رائحة النهر وتحيط بها غابات يانعة وحقول فسيحة من القمح، وهي في إقليم يعرف عنه العالم كله أنه من أخصب مصادر المانجنيز الذي هو معدن لا غنى عنه في صناعة الصلب، وعلى مقربة منها بعض مناجم الحديد الهامة مما جعلها مركزا طبيعيا لصناعة التعدين، وكانت الشوارع والمنازل في «نيقوبول» تحرك في قلبي حنينا نحو أعوام الطفولة التي قضيتها مع جدي «فيودور بانتليفتش» في مدينة «إسكندروفسك» التي باتت الآن تعرف باسم «زبرزهي».
لكن المصنع نفسه كان - لسوء الحظ - بعيدا عن المدينة، إذ كان قائما في مكان قفر موحش، وكانت الكثرة الغالبة من عماله الخمسة الآلاف لا تزال متزاحمة في ثكنات حقيرة، نعم كانت ثكنات العمال إذ ذاك خيرا مما رأيته فصعقت له إبان زيارتي الأولى، لكنها مع ذلك كانت لا تزال أصلح لسكنى الحيوان منها لإقامة الآدميين، وكان غمار العمال يتناولون وجباتهم في مقصف ضخم نتن الرائحة لم تراع فيه أصول الصحة، ثم كان لرؤساء العمال والمهندسين مطعم أنظف من ذلك المقصف وأملأ منه بألوان الطعام، ثم مطعم ثالث حديث الطراز أعد لنفر قليل من كبار الموظفين الذين كانوا يتزودون - فضلا عما ينعمون به في المطعم - بوفرة من الطعام في منازلهم يستمدونها من محصول ما ينبت في أرض المصنع، فهكذا جرى التقليد في الروسيا أن يكون بين الطبقات هذه الفوارق البعيدة، بحيث لم يدرك غرابة وجودها في بلد «تحكمه طبقات الشعب» إلا الأجانب.
أما عن نفسي فقد أسكنوني في منزل فسيح ذي غرف خمس يبعد عن المصنع نحو ميل، وكان أحد ثمانية منازل على طراز واحد أعدت للطبقة العليا من الموظفين، وكان منزلي ذاك محوطا بأشجار عالية وله حديقة أزهار ممتعة أحسنت العناية بها كما كانت له حديقة خلفية للفاكهة، وكان في المنزل حوض للاستحمام ومذياع، بل كان به كذلك ثلاجة كبيرة، وكان لي سيارة في حظيرتها، وجوادان من طراز ممتاز، كل هذه بالطبع ملك للمصنع، لكنها تكون تحت تصرفي وحدي ما دمت في منصبي كما لو كانت ملكي الخاص، وكان لي بالإضافة إلى دار السكنى سائق لسيارتي وسائس لجوادي وفلاحة فيها خشونة الريف تهيئ لي الدار وتطهى الطعام، وكنت أدفع أجر الخادمة، أما السائق والسائس فأجرهما من حساب المصنع.
وكان راتبي يتراوح بين 1500 و1800 روبل في الشهر الواحد، ولو أنه كثيرا ما كان يبلغ الألفين أو يزيد بعد إضافة العلاوات، وتستطيع أن تفهم معنى هذه الأرقام في الظروف القائمة في الروسيا إذا عرفت أن رؤساء العمال ومهرة الصناع الذين كانوا تحت إدارتي لم يكد يزيد راتب أحد منهم على أربعمائة روبل، وأن غير الفنيين من العمال رجالا ونساء لم يزد أجر الواحد منهم على قدر يتراوح بين 120 و175، وهكذا ترى أن صفوف الشعب التي تدار جماعة السوفيت باسمهم، لم ينعموا طبعا بشيء مما كنت أنا أنعم به، وقد ينعم به معي عشرة آخرون من رجال المصنع جميعا.
ضاعفت في العمل جهدي ولم أرخ العنان قط لنفسي، بحيث كنت أعد اليوم الذي ألبث فيه داخل المصنع اثنتي عشرة ساعة يوم عطلة، بل مرت أيام كنت أواصل خلالها عملي في وظيفتي ثمانيا وأربعين بل اثنتين وسبعين ساعة، لا أذوق فيها النوم إلا ساعات قليلة أخطفها خطفا فأستلقي على أريكة في مكتبي، ومع ذلك الجهد كله فقد كنت إذا ما خلوت إلى نفسي في داري الجميلة بما فيها من خادمتي «باشا» القوية البنية الحمراء الوجه، إذ هي تعد لي في المطبخ أكلة طيبة، ومن البستاني الذي أعدته لي الدولة إذ هو يروي حديقتي، ومن ثلاجة مليئة بالخضر الطازجة والشمام والكفيار والقشدة المحمضة، كنت إذا ما خلوت إلى نفسي في داري بما فيها من كل هذه الأشياء؛ أشعر بتأنيب الضمير.
فقد كنت أفكر في العمال الذين يسكنون الثكنات، وأفكر في أبنائهم وفي حياتهم المظلمة، كيف أنحو إليهم بلائمة إذا ما فعلوا ما توهمت أنهم لا بد فاعلوه نحوي من مقاومة بل من مقت، باعتباري سيدا من بين سادتهم الجدد؟ كيف لي أن أفهمهم أن هذا الذي يرونه من فارق بين شقائهم ونعيمي لم يكن من صنع يدي، وأنني كنت بدوري ترسا لا حول له ولا قوة في عجلة ضخمة، وأن رغدي منحة وهبتني إياها الدولة وتستطيع الدولة أن تحرمني إياها متى شاءت لغير سبب وبغير إنذار؟
لقد أردت في إخلاص أن أصل ما بيني وبين العمال بصلات من الود والصراحة، فقد كنت أفهم ما هم عليه، وكانت حاجاتهم وآلامهم قريبة من قلبي، لكن مهندسا في مثل منزلتي لو خالط صفوف العمال، فإنه بذلك إنما يجرح كبرياءهم؛ لأن مثل هذه المخالطة فيها معنى الإشراف، هذا فضلا عن أن الهيئة الرسمية لن ترضى عن مثل هذا الإخاء بيني وبينهم باعتباره عاملا يفسد النظام، فنحن من الوجهة النظرية نمثل «سلطة العمال»، أما من الوجهة العملية فنحن طبقة غير طبقاتهم، فبين دنيا الكلام ودنيا العمل هوة سحيقة.
كان الرفيق «براتشكو» الذي كلف بناء المصنع هو نفسه الذي أسندت إليه الآن إدارته، ولقد رقق مر الأيام من خشونة أخلاقه وجعل منه زميلا أمتع بكثير مما كان، ولم يكن يعلوني في الإدارة الفنية إلا «براتشكو» هذا، وكبير المهندسين «فشنيف»، أما من الناحية السياسية فيما يختص بالإشراف على المصنع، فقد كان من بيدهما الأمر «ألكسي كوزلوف» رئيس اللجنة الحزبية المشرفة على المصانع، والرفيق «ستاروستين» رئيس نقابة العمال.
كان «كوزلوف» متقدما في السن، شديد العطف على الناس، معنيا بكل قلبه برفاهية العمال، أما «ستاروستين» فقد كان رجلا من الطراز الأول من حيث مقدرته على الصعود في سلم الوظائف، أما فيما عدا ذلك فهو بليد الذهن، وكان منظره - كمخبره - غليظا قذرا، ولحسن الطالع لم يكن له من النفوذ بقدر ما كان له من ضخامة المنصب، وذلك بحكم كونه موظفا في نقابات العمال، فلم يكن لرجال نقابات العمال أدنى الخطر؛ لأنه لم يكن في وسعهم أن ينبسوا ببنت شفة، بله أن يتخذوا قرارات فيما يعرض من الشئون، دون استئذان الحزب.
كان النظام كله، الذي يضع شئون العمال في يد حاكم مستبد، أثرا عجيبا باقيا على الزمن منذ الماضي البعيد، ولم يكن هذا الوضع من المخادعة في شيء؛ إذ لم يكن بين الناس أحد خدعته ألاعيب الاجتماعات والقرارات، وأبعد الناس انخداعا بمثل هذه الأشياء هم العمال أنفسهم، فأعضاء النقابات من هؤلاء العمال لم يعرفوا سوى أن النقابات تتقاضاهم رسوما تقتطعها اقتطاعا من أجورهم الضئيلة، فإن كان هذا شأن النقابات، فلا غرابة أن يبلغ نفوذ «ستاروستين» من الضعف حدا بحيث لا يأبه له رجل من كبار الموظفين، أما «كوزلوف» فكانت كل كلمة تنحدر من شفتيه بمثابة القانون.
كنا نحن الزعماء بطبيعة الحال على صلة شديدة بعضنا ببعض، فعرف كل منا عن الآخر جوانب ضعفه وشذوذه، مما أدى إلى عدم ارتياحنا بعض لبعض، وكان ثمة رجل يدعى «برودسكي» وهو أمين سر اللجنة المحلية في نيقوبول، التي هي فرع من الحزب، كان هذا الرجل كذلك شديد الرقابة لما يدور في مصانعنا، ولئن كانت له في ذلك عين واحدة، فقد كان لرجل آخر - هو «دوروجان» رئيس الشرطة السياسية في نيقوبول - مئات العيون يرقبنا بها، مستعينا في ذلك «بالإدارة الخاصة» و«القسم السري» في مصنعي، وطوائف من المخبرين المحترفين والمتطوعين والمجبرين ممن تراهم في كل «مصنع» أو مكتب أو مصلحة.
كان «دوروجان» فظا سريع الغضب، له وجه كوجه الكلب الإنجليزي، فهو رجل كأنما صاغه الخالق من الحجر الأعبل ليكون شرطيا في أي نظام حكومي كائنا ما كان، وإني لأذكر رجالا من أمثاله أيام أن كانت الشرطة السياسية تطارد أبي في عهد القيصر، وكانت الشرطة السياسية قد غيرت اسمها منذ عهد قريب، فلم تعد كما كانت «القسم السياسي التابع للدولة»، بل أصبحت تسمى «هيئة الشئون الداخلية»، وأصبح اختصارها هذه الأحرف:
N. K. V. D.
وهكذا تبدلت عليها الأسماء واحدا بعد واحد (
cheka
ثم
G. P. U.
ثم
N. K. V. D. )، لكن تبدل الأسماء لم يغير شيئا لا من أساليبها ولا من الاسم المخيف الذي شاع في النفوس عن «سيف الثورة المسلول» الذي يتمثل في هذه الهيئة، ولبث المشتغلون بهذه الإدارة الشرطية ينعتون بأول أسمائها، وهو اسم التشيكيون
Chekists ، كما لبث الروس أعواما يطلقون عليهم ثاني الأسماء
G. P. U.
حتى بعد أن تغير الاسم بحيث أصبح
N. K. V. D. .
كانت صلتنا برجال الشرطة السرية المحلية تتفاوت شدة، فهي أضعف برئيسها «دوروجان» منها بمساعده النشيط «جرشجورن» الذي كان منوطا به القسم الاقتصادي من تلك الشرطة السياسية الخاصة بمدينة نيقوبول وما حولها، وإن «جرشجورن» هذا ليحتل مكانا خاصا بين مجموعة من يجللهم العار في ذاكرتي، فهو رجل بدين، له عينان صغيرتان سريعتا الحركة، ركزتا في وجه مليء حليق، ورأسه كذلك حليق فترى جمجمته صاعدة في تدرج حتى تبلغ نقطة كأنها قمة الجبل، وكان إذا ما تحدث أخذ يسترضي أو يهاجم بالسباب حسب طبيعة الشخص الذي يتحدث إليه، ولئن كان في تركيب هذا الرجل ذرة واحدة من كرم النفس الإنسانية ، فلم يتح لي أن أراها في الأعوام التي عرفته فيها معرفة كان يضيق لها صدري.
كان أهم ما خصصت له الشهر الأول من أعمال هو جمع الآلات وغيرها من الضروريات الأولية لتنظيم الإنتاج، وكان هناك فرعان ثانويان من المصنع خصصا لخراطة الأنابيب في كل منهما نحو ألف وخمسمائة من العمال والعاملات، ولم ألبث طويل زمن حتى أسندت إلي إدارة أحد هذين الفرعين، فما دنا شهر يونيو من ختامه حتى كانت عجلة الإنتاج دائبة السير، إذ صادف تكليفي بهذا المنصب وتبعاته هوى من نفسي على الرغم مما فيه من مخاطر، فلم أكد أفسح لنفسي من فراغ الوقت ما يكفي للنوم حرصا مني على أن تتصل حركة العمل على أساس ثلاث نوبات في اليوم الواحد.
وكنت كلما سرت آنا بعد آن في أرجاء المصنع وأدركت أن كل ما فيه يطن طنينا سويا شعرت بسعادة تعز عن التعبير، وفي مثل تلك اللحظات كنت أفهم فهما صادرا من أعمق أعماق نفسي معنى قولهم: «لذة العمل»، فما كان أجمل هذه الحياة لو قل الجواسيس عددا وقلت الريبة وذهبت عن الناس حالة الفزع التي تشل عقولهم عن التفكير وتضيق الخناق على أنفسهم أيما تضييق!
لقد كنت أعلم علم اليقين أن كل خطوة أخطوها لها أعين ترقبها وتسجلها، ولست أعني سلوكي في المصنع فحسب، بل كذلك ما يتعلق بحياتي الخاصة، ولم أشك لحظة في أن أمينة سري واسمها «توفينا» - وهي امرأة نصف صارمة قادرة - كانت تقدم عني التقارير، كما كان يقدم عني التقارير كذلك سائق سيارتي وخادمة داري، وواحد على الأقل - إن لم يكن أكثر من واحد - من مساعدي في العمل، لكني تجاهلت علمي بهذا تجاهلا لم ينسني إياه نسيانا تاما، فقد كان لي بمثابة الواخز الذي يؤرقني إذا ما عملت أو فكرت.
فلطالما تبين لي أن كل كلمة مما كان يدور في اللجان العادية التي نعقدها للنظر في شئون الإنتاج، كانت تبلغ «هانتوفتش» رئيس الإدارة الخاصة، وهذا بدوره يبلغها بالطبع إلى «جرشجورن» صاحب العينين المترجرجتين، ولم يكن ما يدور في هذه اللجان سرا، كلا ولا كان فيها شيء مما يستوقف النظر، ولكم كان يسرني أن أدون محاضرها لكل من يريد أن يعلم عنها شيئا، ولم يكن يضايقني أشد الضيق إلا أساليب التجسس؛ ذلك لأني لم أستطع أن أتخيل نفسي قط عاملا من عوامل التخريب؛ فلذلك كانت محاولات التجسس تسوءني أشد الإساءة حتى لأعدها إهانة وسبابا.
إنه ليستحيل على أي عمل صناعي أن يسير في دقة مطلقة، فالآلات قد تفسد، والأغلاط قد تقع، والعمال المتعبون قد يزدادون إهمالا، وخطط الإنتاج قد يصيبها التعديل، ولئن صح هذا عادة، فهو صحيح بصفة خاصة إذا ما كان المصنع حديث الإنشاء، وآلاته واردة إليه من خارج البلاد، وعماله إلى حد كبير يتألفون ممن جاءوا من الريف توا ولا خبرة لهم، ومع ذلك فقد كانت كل حادثة طارئة مما يحدث تجيء برجال القسم السياسي مسرعين، يتشممون في قلق لعلهم واجدون رائحة شيء من التخريب والتدمير، فيجرون تحقيقا علنيا في مكاتب «القسم السري» أو يجرون تحقيق مسائيا سريا تهتز له رئاسة القسم السياسي في المدينة.
ولقد أصدرت أمري بأن أستدعى في الحال إذا ما حدثت حادثة مهما تكن تافهة، حتى لو أدى ذلك إلى إيقاظي من النوم في منتصف الليل، ولكني مهما أسرعت في الذهاب إلى مكان الحادثة، كنت أجد رجال القسم السياسي قد سبقوني إلى هناك، يتجهمون ريبة، ويتهمون في سخرية.
ذلك هو الجو الذي عملنا في ظله منذ البداية، وقد كان المهندسون والموظفون الإداريون القدامى يرونه جوا طبيعيا للصناعة السوفيتية، وكانت تدور بينهم نكات خاصة عن «كتاب العرائض» الذين ينبثون في كل ركن من أركان المصنع، أما أنا فلم أستطع قط أن أوائم بين نفسي وبين هذا الجو، وكان لا بد لهذه الحالة أن تزداد سوءا كلما تقدم الزمان شهرا، فاشتدت في قوتها حركة التطهير الأعظم التي أعقبت موت «كيروف»، فلم يكد يمضي عام واحد على نيقوبول حتى تحولت بحيث أصبحت أقرب إلى أن تكون مجالا للصيد يجول فيه رجال الشرطة وأعوانهم من المخبرين السريين، منها إلى أن تكون مؤسسة صناعية.
جاءت أمي تزورني فأعجبها منزلي الأنيق بما فيه من أثاث جميل ومن أسباب الراحة الكثيرة الحديثة، ثم أعجبها بوجه خاص أن تكون في الدار خمس غرف لي كلها وحدي، فلم يعد أمامها سبيل إلى الشك في أن ثاني أبنائها قد «شق طريقه في الحياة!» وكان المطبخ بثلاجته الكبيرة وخيراته الوفيرة يجذبها كأنه المغناطيس، وحدث أن دعوت بعض زملائي للعشاء ولإقامة حفل صغير تكريما لأمي، فألحت أمي أن تطهى هي الطعام بنفسها، ووقفت خادمتي «باشا» تنظر في إعجاب إلى أم مخدومها وهي تعد له أصنافا خاصة تعرف أنه يحبها منذ طفولته.
ولما فرغنا من العشاء مر بداري بعض أضياف آخرين، بينهم رئيس العمال وكثير من عمال المصنع، وكان كل منهم يبدي من ضروب الشهامة أعلاها في ترحيبه بهذه السيدة القليلة في حجمها ذات الشعر الأبيض والقد المتناسب، وقد حدث ما جعل أمي تهمس في أذني قائلة: «أرى يا «فيتيا» أنك محبوب لدى الناس، أرى ذلك من طرائق سلوكهم إزاءك، وهذا جميل، جد جميل!»
وفي الصباح التالي قبلت أمي مودعا، وطلبت إليها ألا تدع الملل يتسلل إلى نفسها؛ إذ إني لن أعود إلى الدار قبل ساعة متأخرة من الليل، ولم يدر في خلدي حينئذ أنها كانت قد دبرت لنفسها خطة تقضي بها النهار، فلما كانت ساعة الأصيل من ذلك اليوم جاءتني الأنباء عن بوادر نشاطها، إذ أنبأني مهندس أنه رأى أمي في المقصف تتحدث إلى الطاهيات والمناولات، فالظاهر أنها وجدت من يعطيها تذكرة مرور بحيث استجابت لدافع التطلع من أنوثتها والتمست سبيلها فورا إلى المطبخ.
وعدت إلى الدار ذلك المساء في ساعة متأخرة فوجدت أمي قد أوت إلى مخدعها، وفي اليوم التالي أنبئت مرة أخرى أن أمي كانت في بعض أنحاء المصنع تتسلل خلسة هنا وهناك وأوراق مذكراتها في يدها، على حد تعبير رئيس عمالي، وسمعت أنها طافت بالثكنات ومخازن التعاون ومراضع الأطفال، لكني كنت في ذلك اليوم من الإجهاد في عملي بحيث لم يبق لي من فراغ التفكير ما يجعلني أهتم لهذا «التسلل» الذي سمعته عن أمي، فما أن بلغت الدار في المساء حتى وجدتها جالسة إلى مكتبي بمنظارها ذي الإطار المعدني مرتكزة على أرنبة أنفها الدقيق، تكتب في كراسة على نحو ما يكتب أصحاب الأعمال إذ ينهمكون في أعمالهم، فلم أتوجه إليها بسؤال، وانتظرت قليلا في شيء من القلق، لعلها تبدأ هي الحديث، فلما انتهينا من طعام العشاء، وأزالت «باشا» عن المائدة أطباقها، قالت لي أمي: «أريد الآن يا «فيتيا» أن أتحدث إليك حديثا جادا.» - «افعلي يا أماه، فماذا يؤرقك؟»
فأخذت تحدثني على نحو ما يتحدث مجلس الإدارة للجمعية العمومية إذ يرفع إليها تقرير العام، فأنبأتني أنها قامت بتفتيش المصنع تفتيشا دقيقا، ففحصت مساكنه ومراضعه ونواديه ووسائل الاستحمام وغيرها من الوسائل الصحية، وكان صوتها إذ هي تحدثني ينم عن كثير من اللوم.
ولخصت تقريرها قائلة: «لقد صعقت لما رأيت، هل تدري كيف يعاملون عمالك ها هنا؟ ففيما يختص بما لديك من مديرين وموظفين ترى كل أسباب العيش الرغيد موفورة، أما إذا هبطت إلى صفوف العمال فلن تجد إلا قذارة وإهمالا، فالمطبخ يقزز النفس وقائمة الطعام تتكرر صنوفها تكرارا يغم الصدور، وأما الثكنات قل لي: أتظن حقا أن هذه الثكنات تصلح لسكنى العمال السوفيت؟» - «ولماذا تلقين التبعة على عاتقي؟ إني أبذل كل جهدي، وليس من الإنصاف أن تلقي التبعة علي.» - «إنك من القادة هنا يا «فيتيا» ولا مندوحة لك عن الشعور بالتبعة، انظر كيف تعيش أنت، ألا يحرك ضميرك قط أن ترى هذا الفارق البعيد بين عيشك وعيشهم؟» - «أخشى يا أماه أن تكون حقيقة الأمر قد غابت عنك، فلسنا نحن الموظفين رؤساء بالمعنى القديم لهذه الكلمة، إنما تأتينا الأوامر من الرياسة العليا ونحن إزاءها مقيدون لا نستطيع حراكا، لقد أمرت بتبييض المقصف وألححت في أن تغسل أرضه ثلاث مرات كل يوم، مرة بعد كل نوبة من نوبات العمل، أما إذا جاوزت أمثال هذه الصغائر فلا حول لي ولا قوة، إذ الأمر بعدئذ يصبح مرتبطا بسلم الأجور ومشروعات المساكن والميزانيات والأسعار المحددة للملابس والأحذية، وهذه كلها أمور تتقرر في موسكو، وكل عملي ها هنا هو صناعة الأنابيب.» - «لا أقل من أن تعرف الحقائق! لقد دونت مذكرات فهاك ما دونت، أتدري أن النساء لا بد لهن أن يركبن أو يمشين أربعة أميال أو أكثر إلى المدينة ليستبضعن؟ فلماذا لا تقام سوق هنا حيث يجيء مزارعو المزارع الجماعية بمنتجاتهم للبيع؟ إن لك وحدك - فيما أرى - حماما جميلا أبيض، أما العمال وهم يعدون بالألوف فليس لهم سوى جحر قذر لا يستحق أن يسمى حماما، وحتى هذا الحمام على ما فيه من سوء، تالف لا يعمل! في مشروع كهذا يكلف عشرات الملايين، لماذا لا تعد حمامات نظيفة للرجال ومثلها للنساء؟ وخذ مثلا آخر يا فيتيا: مراضع الأطفال، لا تجد فيها الكفاية من «بياضات» أو دواء أو أي شيء آخر.»
فقلت في صوت المتخاذل الموقن بصدق ما تقول أمي: «لقد رسمت الصورة أسود مما هي في الواقع.» - «لست يا بني بلائمتك على ذلك، لكنك إذا ما عرفت حقيقة الأمر وعرفها سائر المديرين، فربما أنقذتم في الموقف شيئا.»
هنا لم تعد أمي قادرة على الاحتفاظ بروح الجد العملي التي كانت تخاطبني بها، فقد كانت هذه الروح قناعا سترت وراءه طبيعتها ولم تستطع أن تطيل له الأمد، بل اغرورقت عيناها بالدموع إذ آلم نفسها ما رأت، آلمها حتى هذا الفارق بين ما يتمتع به ابنها من رغد في العيش وبين حياة الآخرين.
وبعد أن سافرت أمي إلى «دنيبروبتروفسك» ببضعة أيام، عقد الرفيق «كوزلوف» اجتماعا من الموظفين الفنيين وموظفي الحزب ونقابة العمال، فلما ذهبت إلى مكتب الحزب حيث الاجتماع، كان المكان قد غص بالناس، ولم يكن في جدول الأعمال إلا موضوع واحد - كما أعلن كوزلوف - وهو «الظروف التي يعيش العمال فيها»؛ فاهتزت نفسي لذلك، فها هي ذي الفرصة السانحة - سنحت في وقت أقرب مما توقعت - فأبسط الحقائق أمام الإدارة بسطا كما صورتها لي أمي! وقلت لنفسي: يا لها من مصادفة سعيدة!
وتكلم ناس كثيرون كلاما فيه تعميم تدعو إليه طبيعة الموضوع، نعم إنه لا جدال في أن الظروف من البشاعة بمكان، لكن ماذا نحن صانعون حيالها؟ فلما جاء دوري في الكلام استطعت أن أنزل من التعميم إلى التخصيص، وطفقت أعيد على السامعين ما كشفت لي عنه أمي، إذ كان ما حدثتني به لم يزل حاضرا في ذهني.
ولم أكن في كلامي صدى مرددا لما روته أمي من وقائع فحسب، بل مرددا كذلك لنغمة غضبها وحزنها وتقريعها، وبديهي أن الكثرة الغالبة ممن استمعوا إلى حديثي قد تأثرت نفوسهم كما تأثرت نفسي قبل ذلك ببضع ليال، فقلت فيما قلت: إن في وسعنا أن نصنع شيئا كثيرا على الرغم من قلة ما بين أيدينا من وسائل، على شرط ألا تشغلنا «شواغلنا الخاصة» على نحو ما تشغلنا الآن، ثم استحفزت السامعين قائلا: هيا منذ الآن ننظر إلى مشكلات العمال في حياتهم اليومية نظرتنا إلى «شواغلنا الخاصة».
وسأل سائل: «من أين ل «كرافتشنكو» كل هذه المعلومات؟»
فصاح «ستاروستين» رئيس نقابة العمال قائلا في نغمة الساخر: «أوه! إنها أمه يا سيدي، ألا تدري؟ لقد نصبت نفسها جاسوسة لا تني فاحصة متشممة لكل شيء كأنما هي سيدة تشرف على ضيعة لها ... إن «السيدة الرفيعة» قد حسبت أنها تملك نيقوبول ما دام ابنها بين الرؤساء، إننا نفهم مثل هذا التدخل ... إنها تكون بذلك لابنها رصيدا في عالم السياسة!»
وعم المكان ضجيج مرتفع إذ تكلم الجميع في وقت واحد، فصعد دمي إلى رأسي، وانعقد لساني عن الحديث بفعل الغضب، فضغط «كوزلوف» على ذراعي ليضبط جماحي.
وضرب على مكتبه وقال: «صمتا أيها الرفاق! إن الرفيق ستاروستين يتكلم كلام المأفون، ليست أم كرافتشنكو «سيدة مترفعة»، وإنه ليعلم ذلك، بل هي زوجة رجل عامل فيما مضى، زوجة بطل من أبطال 1905م في صحيفته ما يشرفه من سجن في سبيل الثورة، إنه لعار عليكم أن تهاجموها بنقدكم، أفلا يجوز أن يكون هجومكم هذا غطاء تسترون به ما أصابكم من كسل وعدم مبالاة بحالة العمال ؟»
وقهقه الحاضرون قهقهة عالية، فرئيس نقابة العمال له في نفوس معظم الناس من الازدراء بحيث إذا ما سنحت فرصة للضحك منه تصادف هوى في نفس أمين سر الحزب، فهيهات أن يدعوها تفلت من أيديهم.
ومضى كوزلوف يقول: «لقد شاءت لي المصادفة أن أعلم أن هذه السيدة الكهلة قد حاولت أن تراك أيها الرفيق ستاروستين لكنك أبيت عليها ذلك اللقاء، لا شك أنك لم ترد أن يزعجك مزعج بأمور توافه مثل وجود حشرات البق في ثكنات العمال وقذارة البياضات في مراضع الأطفال، لكنني حادثتها لقد رأيت لديها ضربا من الأصالة السوفيتية مما يكون له أبعد النتائج.»
وهكذا علمت أن أمي لم تكتف بفحصها عن الأمور، بل ذهبت إلى كبار الرؤساء فأطلعتهم على ما كشف لها عنه بحثها! ولم تكن قد أنبأتني بذلك الجانب من نشاطها، وعلى ذلك فلم يكن ذلك الاجتماع مصادفة، بل جاء نتيجة مباشرة «لتدخلها»، لله هذه النزعة الخيرة وهذا القلب الجريء من تلك المرأة! لقد طفح قلبي حبا لها على الرغم مما عرضتني له من مواقف مربكة.
ولقد آتت دعوات أمي الساذجة أكلها في الأشهر التي أعقبت ذلك، إذ أقيمت سوق زراعية قريبا من المصنع، ونظفت مساكن الأطفال وزودت بكمية أوفر من البياضات، وأعلنت خطة ترمي إلى إنشاء حمام جديد، وأجريت بضعة إصلاحات صغيرة أخرى، وانتشرت بين العمال قصة «مسز كرافتشنكو» وحملتها في سبيلهم، فقاسمها ابنها هذا «المجد» المتواضع.
حدث ذات ليلة أن صادفت أمينة سري المنطبعة بطابع العانس التي تقدمت بها السن، الرفيقة «توفينا»، صادفتها خارجة من بناء القسم السياسي في نيقوبول، ولم يكن يدور في خلدي أدنى شك أنها ترفع عني التقارير، نعم أنا أعلم أن التجسس على الرئيس هو المهمة الرئيسية لأمناء السر في بلاد السوفيت، لكن علمك بالأمر شيء، ووقوعك على برهان وجوده شيء آخر، فما أقبل اليوم التالي حتى أصدرت أمري لقسم المستخدمين أن ينقل هذه المرأة من مكتبي وأن يوصي لي بغيرها، وآثرت أن يكون بديلها رجلا.
وبعد بضعة أيام جاءني رجل في نحو الثانية والثلاثين ومعه مذكرة من رئيس المستخدمين، كانت هيئته تستوقف النظر، فأول عبارة وردت على ذهني حين رأيته هي «نصب لتخويف الطير»، فقد كان في هيئته هيكلا تدلت فوقه هلاهيل الثياب، حذاؤه ممزق وسراويله مرقعة وسترته مصنوعة من «خيش» وفصلت في صورة غليظة، فهذا طراز من القذارة التي بلغت أقصى حدودها، حتى في ظروف الحياة السوفيتية، ومع ذلك فقد كانت ملامح وجهه الذي امتصه الجوع محددة التقاطيع بل كانت جذابة يعلوها شعر ضارب إلى الحمرة شاب عند العارضين.
قال: «أنا أعرف ما هيئتي أيها الرفيق كرافتشنكو، لكني أتوسل إليك ألا تحكم علي بهيئتي، فاعلم أنني جئت لتوي من معسكر اعتقال قضيت فيه أربعة أعوام، وإن قسم المستخدمين ليعلم ذلك عني فلو هيأت لي الفرصة فلا شك عندي أنك ستجد من عملي ما يرضيك.»
كان كلامه يشبه ما يتكلم به المتعلمون، فتحول شعور التقزز الذي بدأت به إلى إشفاق، إذ لا ريب في أن المسكين قد مرت به محنة قاسية، وسارعت فدققت الجرس لأطلب له شايا وشطائر، ولما قدمت إليه حاول أن يكبح زمام نفسه فلا يأكل إلا قليلا قليلا كأنما هو شيء عارض، لكن الجوع كان قد نال من جسمه على نحو لا تخطئه العين، وبينا نحن آخذان في الحديث دق التليفون، وكان المتحدث هو «رومانوف»، موظف محبوب له أهميته يعمل في قسم آخر، ولقد كان «رومانوف» هذا يتمتع بثقة الإدارة من «كوزلوف» فنازلا، على الرغم من أنه لم يكن من رجال الحزب.
قال: «فكتور أندريفتش، إني لأعدها مكرمة منك نحو شخصي إذا أنت استخدمت الرفيق «جرومان» الذي هو في مكتبك الآن، فهو على الرغم مما صادفه من حظ منكود شخص يركن إليه .» - «هل عرفته منذ طويل؟» - «لا، لكني في موقف يدعوني إلى الرجاء من أجله.» - «شكرا، فجميل منك أن تحيطني بذلك علما.»
وذهب «جرومان» إلى غرفة الاستقبال ينتظر، فتلفنت القسم السياسي واتصلت ب «جرشجورن»، إذ كان من واجبي أن أحيطه علما ما دام أمين سري سيتناول في عمله أوراق رسمية هامة، فلما أنبأته بالأمر طلب إلي أن أنتظر هنيهة، ثم ما لبث أن عاد إلى التليفون يؤكد لي أنه لا يمانع في تعيينه إذا وجدت أن الرجل مقبول من سائر نواحيه.
فلما أنبأت السجين السابق الذي تحطم بنيانه، أنه يستطيع البدء في عمله بعد يوم أو يومين، ابتسم لأول مرة، وأبدى من علائم عرفانه بالجميل ما أخجلني، أعطيته شيئا من المال مقدما، وأمرت مخازن المصنع أن تصرف له الملابس الضرورية، ثم عاونته - مستعينا في ذلك بمساعدي - على أن يجد لنفسه غرفة تصلح للسكن في منزل من منازل المصنع.
وسرعان ما أقام «جرومان» الدليل على كفايته وذكائه معا، فاستطاع بهذا أن يزيح عن كاهلي حملا ثقيلا من التفصيلات، ولقد خيل إلي أن الرجل يعود إلى الحياة من جديد حين حسنت ثيابه وأخذت عظامه تكتسي باللحم وعيناه تلمعان بنور الحياة، وكثيرا ما كان يحضر إلى منزلي من أجل العمل، وقد يحدث أحيانا أن أعيده إلى داره في سيارتي بعد الفراغ من عمله، فكانت العلاقة بيننا قائمة على أساس إنساني لا يقيم في وجهينا العراقيل، وشكرت «رومانوف» على توصيته بهذا الأمين؛ لأنه في هذا الباب من الطراز الأول.
ومضت أسابيع تتلوها أسابيع، حتى إذا ما كان الصباح ذات يوم، لم يحضر «جرومان» إلى عمله كعادته، فظننت به مرضا، فلما لم يحضر في اليوم التالي، شغلت عليه وقررت أن أرسل رسولا إلى منزله في ختام العمل من ذلك النهار ليرى ما خطبه، إذ لم يكن له تليفون في داره، وبينا أنا أقلب بعض الأوراق المكدسة في أدراج مكتبي، صادفت حزمة منها مكتوبة باليد ومدبسة في ربطة واحدة، فعرفت في الكتابة خط «جرومان» فما كدت أقرأ كلمات الافتتاح حتى دفعتني غريزتي ألا أمس هذه الأوراق، وقد بدأت بالكلمات الآتية: «عزيزي فكتور أندريفتش، حين تطالع هذه الكلمات لن أكون في نيقوبول؛ لأني أحاول الفرار من هذه البلاد، بلاد الفظائع، فالموت نفسه آثر عندي من أن أحيا حياة العبيد ...»
فتندى جسدي بعرق بارد، وأقفلت باب غرفتي في حركة عصبية ووضعت على يدي قفازها وتناولت الخطاب، فوجدته وثيقة نادرة، وإني وإن كنت قد نسيت ألفاظه التي كتب بها، لا أزال أجد مادته منقوشة في ذهني نقشا: «أشكرك على كل ما تفضلت علي به شكرا صادرا من أعماق قلب روسي مخلص، فقد أيقظت رأفتك في نفسي شعورا إنسانيا كنت ظننته قد برد إلى حيث لا يعود، والحقيقة أن ذلك هو أحد الأسباب التي جعلتني أعتزم الفرار، وسأعبر الحدود إن شاء الله، وأما إذا قبضوا علي قبل ذلك فبالطبع كان في ذلك موتي رميا بالرصاص.
إني لأمقت النظام السوفيتي بما فيه من نظام شرطي مقتا ليس بعده مقت، فعلى الرغم من أني لم أقترف جرما - اللهم إلا إن كان حب الحرية جرما - فقد عانيت في قاعات التعذيب ما عانيت وزج بي في غرف السجن الضيقة الانفرادية وحيدا، حتى إذا ما أطلق سراحي تبين لي أن حريتي لن يطول بها الأمد، بل تبين لي أنني قد لا أجد عملا إلا إذا وضعت نفسي رهنا لإرادة من أنزلوا بي التعذيب.
ففي الليلة السابقة ليوم لقائي بك، كنت قد وصلت لتوي إلى نيقوبول قادما من معسكر الاعتقال، وقد جئت إلى نيقوبول تنفيذا لما أمرت به، وذهبت إلى القسم السياسي فسيق بي إلى «جرشجورن»، وهكذا رسم لي طريق الحضور إليك، فكان كل ما حدث - بما في ذلك توصية رومانوف - جزءا من مهزلة قبيحة كنت أنت ضحيتها.
لم يكن يهمني أن أتجسس على الناس، فلأني أمقت الشيوعيين جميعا، وجدت - فيما بدا لي - في التجسس فرصة سانحة أستطيع بها الانتقام لنفسي بأن أوقع في الشر نفرا من هؤلاء الشيوعيين، وكلما ازدادوا بذلك شقاء ازددت أنا انتقاما فارتياحا، ونظرت إليك نظرتي إلى من سيكون الضحية الأولى، لكنني ما لبثت أن أحسست نحوك باحترام، ونحو نفسي بالكراهية لما كانت قد دبرت ضدك من خطط.
وأحب أن تعلم أنه ما مضى قليل وقت حتى أصبحت أنا أول من يبلغ عنك أنباءك، فما دام الرجل منا قد قاسى أهوال التطهير على يدي القسم السياسي، فهو عندهم بعد ذلك موضع اطمئنان وثقة، فإن هؤلاء الشياطين ليعلمون أن الخوف أداة تصون الولاء فيمن يتخذونهم من الناس أعوانا، فكان يجيئني كل يوم وكلاء القسم السياسي الذين ينبثون في كل ركن من أركان مصنعك ومكاتبك، فيبلغونني ما وقعوا عليه من أخبار، فأجمع هذه الأخبار جميعا مرة في كل أسبوع تقريبا، وأصوغها في تقرير شامل عن عملك وقولك وأصدقائك، بل عما تدل عليه ملامح وجهك، وكذلك عما يبدو من أوجه النقص في عمل مصنعك.
لم يكن هؤلاء الجواسيس يعرف بعضهم بعضا، لكني كنت أعرفهم جميعا، فأقل ما يجب علي نحوك - اعترافا لك بما أسديته نحوي من عطف - هو أن أكشف لك عن هؤلاء.»
وأعقب ذلك قائمة بأسماء كان بينها اسم «رومانوف»، «رومانوف» الأصيل الذي أحببناه جميعا ووثقنا فيه جميعا لأساليبه الأبوية اللينة، وكذلك كان بين الأسماء كثيرون من ألصق الزملاء بي صلة في المصنع، فمنهم فريق من رؤساء العمال، وفريق من العمال والكتبة، فكان المخبرون شبكة انتشرت عيونها في كل «ورشة» أو مكتب في المصنع، بحيث تشمل كل مراحل العمل الفني الذي نقوم به. - «حذار من هؤلاء الناس يا فكتور أندريفتش! إنهم لا يحترمون الحقيقة في قليل أو كثير، حياتهم في وظائفهم معتمدة على كشفهم عن المؤامرات، ويغريهم أن يخترعوا بخيالهم مؤامرات ليكشفوا عنها، ولتعلم أن من عمل القسم السياسي على تحطيم أبدانهم وهدم نفوسهم هدما لا يبقي لهم خلاقا، لا يتورعون عن عمل مهما يكن، ويعترفون بكل ما يطلب إليهم أن يعترفوا به، ويلقون الاتهام على أي إنسان، ومن هؤلاء الناس كثيرون ممن يحيطون بك - ثم أعطى جملة أسماء - ولم أكن في ذلك وحدي.» - «أكبر ظني أنك سترتاب في أن يكون هذا الخطاب فخا نصبته لك، ولست على ذلك بلائمك، وكل ما أستطيعه هو أن أقسم لك بالله وبأمي الورعة التقية إنني أقول لك قول الصدق، وإنني أحاول أن أكفر عن أسابيع قضيتها متجسسا على رجل عطف علي واحترم في الآدمية ، وسأترك لغريزتك أن تهديك إلى تصديق هذا الذي أقول أو تكذيبه.
إذا أنت أطلعت «جرشجورن» على هذا الخطاب فسيقول لك إني كاذب وسيعمد من فوره إلى إعادة توزيع المخبرين، أما إذا استطعت الركون إلي وأتلفت هذا الخطاب وتظاهرت بالغضب لاختفائي الذي يحيط به الغموض، إذا فعلت ذلك فلن تأخذهم ريبة في أن أكون قد كشفت لك سترهم.
ومهما يكن قرارك الذي تنتهي إليه، فإني أستحلفك كل عزيز لديك أن تهيئ لي مهلة يوم واحد على الأقل قبل أن تبلغ أولي الأمر عن غيابي، فقد يكون هذا اليوم هو الحد الذي يفصل موتي عن حياتي، إني لأجثو أمامك على ركبتي ضارعا يا فكتور أندريفتش.
وأشكر لك كل ما تفضلت علي به، أشكر لك أن عاونت في إحياء إنسان من البشر له شيء من كرامة النفس كان طغاة التعذيب قد محوها محوا، فلو بقيت حيا فسأدعو لك الله في غير انقطاع.»
فحفزني شعور دخيل أن أثق في هذا الهارب، وربما دعاني إلى الوثوق فيه قبل ذلك ما تكشف لي من صفحة نفسه في حديثنا العابر خلال الأسابيع الماضية، ولكن على الرغم من هذا الصوت الباطني الذي يطمئن نفسي، فقد أحسست كأنما كنت أقامر بحياتي كلها إذ أخذت في نقل الأسماء التي دونها لي في خطابه، ثم أحرقت الخطاب وأخفيت في حرص شديد كل أثر للرماد.
ولما دنا النهار من ختامه أرسلت رسولا إلى «جرومان» حيث يقيم، فجاءني الرسول في صبيحة اليوم التالي ينبئني أن الأسرة التي يساكنها «جرومان» قد قررت له أنه لم يذهب إليهم منذ يومين، فاتصلت فورا بقسم المستخدمين وسألت موظفيه في غضب مفتعل لماذا لا يبعثون إلي بأمين سر يكون أكثر جدارة بالركون إليه من ذلك الذي بعثوا به أول مرة، ثم قلت لهم متذمرا في غير إفاضة في الشرح: إن ذلك هو ثالث أيام غيابه عن عمله.
ولم تكتمل بعد ذلك ساعة واحدة حتى جاءني «جرشجورن» بنفسه مصحوبا برجل يرتدي حلة رسمية، وكان في حالة من الاضطراب الشديد ، وسألاني أسئلة، وقلبا كل ما يحتوي عليه مكتب «جرومان» ثم عادا، ولم يكن ثمة من سبيل أعلم به هل الهارب قد لاذ فعلا بالفرار، فالاحتمال ضئيل جدا أن يستطيع الهاربون التسلل خلسة عبر حدود السوفيت، ومع ذلك فمئات من الناس قد وفقوا في هذا العمل الجسيم.
ولقد أفادني ما علمته من أمر المخبرين المنبثين حولي، إذ استطعت أن أكون على حذر في شأن نفسي، وأن أعمل على حماية الآخرين، فلو أردت لشيء أن يبلغ مسامع الشرطة بغير إبطاء، فلا علي سوى أن أذكره ذكرا عابرا على مسمع من المخبر العامل في الأفران، أو المخبر العامل في قسم الآلات، أو رئيس قسم عمليات الصقل، أو المهندس «ماكاروف» أو رئيس العمال «يورافين» أو موظف نقابة العمال «إيفانوف» الذي كان مساعدا لرئيسه «ستاروستين»، وأصبح اتصالي ب «رومانوف» في أوقات الفراغ تكليفا أليما على نفسي أقوم به بين آونة وأخرى، إذ لم يكن في مستطاعي أن أجتنبه اجتنابا تاما دون أن أثير الشكوك.
وجاءت بعد «جرومان» خلفا له، فتاة شابة جميلة نشيطة كانت عضوا في الهيئة الشيوعية للشباب، ولا شك أنها استأنفت أعمال التجسس حيث تركها «جرومان» المنكود.
وكان اسم سائق سيارتي في القائمة التي تركها لي «جرومان» فكدت لا أدهش لذلك، وكان عليه أن يقرر عني ما يشاء رأسا لقسم المخابرات من المكتب السياسي، لا للقسم الاقتصادي الذي يشرف عليه «جرشجورن»، أما خادمتي «باشا» فلم يكن اسمها في القائمة.
لكني عرفت فيما بعد أن حذف اسمها من القائمة كان سهوا من «جرومان» أو أن «جرومان» لم يكن له علم بنصيبها من التجسس.
وعدت ذات يوم بعد زيارة لموسكو، وكانت «باشا» قد أمضت في خدمتي ما يقرب من سنة كاملة، فساعدتني في تفريغ حقيبتي، وكنت قد اشتريت لها عددا من الهدايا، اشتريت لها لفاعة زاهية الألوان، وبضعة أزواج من الجوارب القطنية، وكوثا منزليا، فخيل إلي أنها أخذت هذه الأشياء في تحفظ غريب.
فسألتها: «ألا تعجبك هذه الأشياء يا «باشا»؟» - «نعم، تعجبني يا فكتور أندريفتش ، وإني لجد شاكرة.»
لكن «باشا» في تلك الليلة نفسها، بعد أن خدمتني في تناول عشائي، جاءت إلى غرفة الطعام تحمل الهدايا وتبكي في صوت عال كما يفعل أهل الريف من الفلاحين، فنظرت إليها فزعا متسائلا، قالت وهي تنهنه بالبكاء: «لا أستطيع قبول هذه الأشياء يا فكتور أندريفتش، أرجوك، أرجوك أن تستعيدها.» - «لا بأس، لكن خبريني لماذا؟ ما السر في هذا؟»
فأشارت على صدرها بعلامة الصليب وقالت: «اللهم غفرانك، لا أستطيع أن أخبرك بشيء، وكل ما أرجوه ألا تضطرني إلى أخذ هذه الهدايا.»
لكني أخذت أستحفزها على الإفصاح، وأتعهد لها بكتمان سرها، فأنبأتني، ثم أضافت إلى النبأ قولها: إنها لا تستطيع أن تقبل الهدايا من رجل طيب القلب بينما هي مكلفة بالإخبار عنه بما ليس في صالحه. - «نعم، منذ اللحظة الأولى التي جئتك فيها ها هنا، لبثت أرفع عنك تقريرا كل أسبوع إلى القسم السياسي، لقد جئت من الريف وأعطيت هذا العمل، لكني ما كدت أستقر في دارك حتى أمرت بالذهاب إلى القسم السياسي حيث رسم لي ما ينبغي أن أفعله، فرفضت وبكيت وقلت: إن ذلك ينافي ديانتي، لكن الرجل صاحب الحلة الرسمية لم يجب إلا بقوله: «لا تكوني حمقاء يا «باشا» ألا ترغبين في عودة أبيك من منفاه؟ إذن فاخدمينا في دقة وإخلاص ننظر لك في عودة أبيك.» - «أذهب مرة كل أسبوع إلى دار خاصة في نيقوبول وأبلغهم كل ما عرفته عنك، وبصفة خاصة ما عرفته خلال الأسبوع عن زائريك وما يقولون، وكانوا يسألونني: ألا يلعنون الحكومة؟ فكنت دائما أشير بعلامة الصليب على صدري وأجيب: كلا، بل هم على عكس ذلك، وإنهم يضحكون مني إذ أشير بعلامة الصليب، ألا لعنة الله عليهم من كافرين!»
فأكدت للمسكينة «باشا» أنني عفوت عنها، وأنني لن أذكر لأحد قط ما أنبأتني به، على شريطة أن تمسك هي بدورها عن ذكر ما دار بيننا، بل إني أقنعتها أنه خير لها أن تقبل هداياي ما دامت قد وضعت ثقتها في.
ولبثت «باشا» تبلغ عني ما بقينا معا في تلك الدار، ولم يحدث قط أن ذكرنا ما اعترفت لي به وهي تذرف العبرات، لكنها كثيرا ما كانت تسألني أسئلة أرادت بها - فيما أعلم علم اليقين - أن تستوثق مني هل أريد لها أن تبلغ عن حوادث بعينها، فوضحت لها في جلاء أنني لا أخفي شيئا، وأن ما لا تخبر به هي سينقله آخرون غيرها على كل حال.
كنت ترى عادة في نيقوبول عددا من المهندسين الأجانب، أمريكيين وألمان، ليقوموا بتركيب الآلات الواردة من خارج البلاد، وليعملوا على رفع كفايتها في الإنتاج، وقد كان هؤلاء الأجانب عند الروس - عاليهم وسافلهم - موضع فتنة تستثير الاستطلاع، كما كانوا مصدر خوف في آن معا، فمن الخطر أن تخالطهم؛ لأنه من الخطر أن «تتصل بأعداء الشعب»، لكن هذا الجو الذي كهربته معاني الخطر كان في ذاته مثيرا لهؤلاء الأجانب الذين كانوا يبدون بحسن هندامهم وبغرابة حديثهم وسلوكهم، كأنما هم مخلوقات جاءتنا من كوكب آخر، ولعل أهم ما كان يستوقف فيهم الأنظار انعدام الخوف من نفوسهم بحيث يعملون ويتكلمون بل وينقدون إلى حد محدود، كأنه ليس هناك قسم سياسي ولا «جرشجورن» ولا مخبرون.
فلما اقترح الرفيق «براتشكو» أن آخذ اثنين من الأمريكيين في داري، لم أكتم ما أحدثه ذلك الرأي من الرعب في نفسي، وكان هذان الأجنبيان قد استدعيا من «ينجستون» ليقيما في نيقوبول بضعة أشهر بحكم المهمة التي جاءا من أجلها، ولما كان الفندق المحلي من القذارة بمكان، ولما كنت عزبا يسكن وحده دارا فسيحة، لم أجد مبررا لرفض استضافتهما في منزلي، لكنني خشيت ما عسى أن يترتب على هذا الاتصال الذي فرض علي فرضا «بعناصر غريبة عن طبقات شعبنا».
كان «لاري» و«جو» طويلين أشقرين طيبين، يضيق صدراهما لقذارة ما حولهما ويحنان إلى الوطن حنينا ظاهرا، ولقد توثقت بيني وبينهما صلات الود في الأشهر التي استضفتهما خلالها على الرغم مما اعترضنا من مشكلة التفاهم من حيث اللغة، ولم يحدث قط أن مس أحد منهما موضوعات السياسة بالحديث، ولم يكن هذا الإهمال لشئون السياسة مما يعز على التصديق، فحسب عند الرجل الروسي الذي كادت السياسة والحياة أن يكونا له شيئا واحدا، بل كان يعده شذوذا لا يجري مع طبائع الأشياء، لكن هذين الأمريكيين حصرا اهتمامهما في عملهما، فإذا ما فرغ الحديث في العمل أخذا يقصان القصص ويلعبان الورق ويبحثان عن «حفلات»، ولما كانت لهما طبيعة الاجتماع بالناس والصراحة في الحديث صراحة لا تخفي شيئا، لم يفهما قط لماذا ينفض الناس من حولهما بحيث يتركان وحيدين، ولماذا لا يحدث إلا نادرا أن يدعوهما من يعملون معهما في مصنع واحد.
وقد حدث ذات صباح أن تلفنني «جرشجورن»، وكان «لاري» و«جو» عندئذ قد قضيا معي بضعة أسابيع.
قال لي منبئا: «ضيفاك الأمريكيان سيطلعان للصيد هذا النهار.» - «أهو كذلك؟ وما شأني بهذا؟» - «أريدك أن تتلفنني بمجرد مغادرتهما لدارك، وقل لخادمتك إن يومها يوم عطلة، فليس عليها أن تعود إليك قبل الخامسة.»
فلما فرغنا من الإفطار، بدأ الأمريكيان رحلتهما نحو التلال وقلباهما يفيضان بشرا، وخبطاني على ظهري على نحو ما يفعل الأمريكان في زئاطهم، ووعدا أن يأتياني بما يصطادانه كائنا ما كان، ولم يكن لي بد من تلفنة القسم السياسي، فما جاءت الساعة الحادية عشرة حتى قدم «جرشجورن» ومعه آخر، ودخلا داري كأنها دارهما، وطافا بأنحائها كأنما يعرفان كل جزء من أجزائها، حتى لقد خطر لي خاطر أزعجني، إذ قلت لنفسي: يجوز أن يكونا قد فحصا هذا المكان مرارا في غيبتي!
وطفق وكيلا القسم السياسي يفتشان الغرفة التي كان يشغلها الضيفان تفتيشا دقيقا، فبحثا داخل الجيوب وفي أحزمة السراويل وأكمام القمصان وثنيات الستر ونعال الأحذية وكل ما يتوهم العقل أنه يجوز أن يكون مخبأ، ففحصا كذلك الكتب والمجلات والمذكرات والخطابات فحصا دقيقا ، وصورا بعض هذه الأشياء، ونقلا كل ما صادفاه من أسماء أمكنة أو أرقام تليفونية، ورأيت «جرشجورن» إذ اعتراه ارتباك ملحوظ إزاء عدة الحلاقة الأمريكية، فأخذ يضغط على أيدي آلات الحلاقة ويهزها ويدرس الفراجين ويخبر باللمس أنابيب الصابون، فلعله آمن أن هذه الأشياء هي ما يحتمل جدا أن تكون مخابئ ما لدى الأمريكيين من أسرار، ولم يكن زميل «جرشجورن» من موظفي القسم السياسي المحلي، ولقد أظهر معرفة جيدة بالإنجليزية.
وانتهى التفتيش في الساعة الرابعة، ولم يعثر الشرطيان على شيء؛ إذ لم تبد على وجهيهما علامات السرور التي تنم عن نشوة الكشف.
وقال لي جرشجورن: «أنت تعلم بالطبع أيها الرفيق كرافتشنكو أنه لا يجوز لك قط أن تنبس ببنت شفة عما حدث، فإذا ما تسرب النبأ فسيعدك القسم السياسي مسئولا بصفة مباشرة، وقع على هذا التعهد.»
وكان ما قدمه لأوقعه استمارة يألفها كل من كانت له صلة بالشرطة السرية، فهي تعهد «اختياري» يأخذه المرء على نفسه بألا يقول شيئا، وما أن تركني الرجلان حتى طفقت أطوف بأنحاء الدار محزون النفس؛ لأنني غريب في مسكني، وأخجلني أن أواجه الأمريكيين عند عودتهما فالتمست مبررا أعزز به غيابي عن الدار تلك الليلة.
وإني لعلى يقين من أن كليهما لم يرتب أقل ريبة في أن تكون أشياؤه قد فحصت، أو أنه في كل دقيقة يقضيها في الروسيا مراقب تسجل عليه كل حركاته، وحدث أن مرت «بجرشجورن» لحظة من التفريط بعد أن غادر الأمريكيان «نيقوبول» بزمن طويل، فأطلعني بلمحة سريعة على ملف أوراقهما، فوجدت بين ما فيه من أوراق صورا شمسية لهذين الأجنبيين إذ هما في حالات اتصال خاص ببعض النساء في فندق بموسكو، ولم يكن بالطبع قد دار في خلدهما إذ هما في تلك الغرفة من الفندق أن رجال آلة التصوير قد تستروا يسجلون حركات ذلك الغرام العابر.
وكان «جرشجورن» يمص شفتيه الغليظتين إعجابا وهو يناولني تلك الصور واحدة بعد أخرى.
سألته: «لكن ما حاجتكم إلى هذه الصور، والأمريكيان الآن في بلادهما؟» - «نعم، قد عادا إلى أمريكا، لكن ثق وثوقا لا يتطرق إليه أدنى الشك أنهما لن يكتبا شيئا يهاجمان به وطننا الاشتراكي هجوما عنيفا، كما يفعل بعض الأمريكان المناجيس بعد أن يأخذوا ذهبنا الثمين وأحسن ما لدينا من طعام.»
وكان هنالك كذلك مهندس أجنبي آخر لا تزال مغامراته الحمقاء عالقة في ذهني، وأعني به «لنتز»، وهو ألماني ضخم البدن تثنى عنقه الغليظ ثلاث ثنيات متميزة إحداها عن الأخرى، وإنما أرسل إلينا ليقوم بتركيب مجموعة من الآلات وردت من الخارج، ولقد كنت أوثر أن أتفاهم معه بوساطة رجل من رجال مصنعي - هو يورف - الذي كان يتكلم الألمانية قليلا، على الرغم من أن «لنتز» كان يصحبه مترجمتان.
كانت إحدى مترجمتي «لنتز» من نساء الشرطة السرية في «دنيبروبتروفسك» جاءت إلى نيقوبول لهذه المناسبة، ولم يكن عسيرا عليها أن تؤدي مهمتها خير أداء، فقد كانت في الثلاثين من عمرها مليئة بالحياة وليست تخلو من جمال، ولم يلبث أن شاع في الناس ما كان الغرض فيه أن يكون سرا مكتوما، وهو أن «ألكساندرا» كانت تزامل «لنتز» في حياته الخاصة، فكانت ترى مرتدية جوارب حريرية، حاملة حقيبة في يدها مما ورد من الخارج، وغير ذلك من الهدايا التي يثور حولها القال والقيل، ومع ذلك فالظاهر أن القسم السياسي قد رأى أن امرأة واحدة لا تكفي، فأضاف إليها امرأة أخرى هي «ناتاشا».
كانت «ناتاشا» ابنة قسيس أرسل إلى مطارح النفي قبل ذلك بأعوام كثيرة؛ ولذلك كان معروفا في المدينة، ولم تكن «ناتاشا» قد بلغت عشرينها بعد، وكان جمالها من طراز رقيق كجمال الأطفال، ولقد علمت من «يورف» أن «ناتاشا» قد ألزمت إلزاما أن تكون مترجمة ل «لنتز» إذ تهددوها في أبيها ووعدوها أن يأذنوا له بمكاتبتها.
وذات «أحد» جميل قصد الألماني ومترجمتاه ورجل قيل إنه صديقهم، وقيل إنه من هواة السيارات، قصدوا جميعا إلى رحلة نهرية في نهر «دنيبر» وكان معهم طعام كثير ونبيذ وفودكا في القارب البخاري الذي ركبوه، ولكي يضيفوا إلى جمال الرحلة أخذوا معهم حاكيا وعددا من الأسطوانات الروسية والألمانية، وبعد أن سمروا وأكلوا في مكان منعش جميل على شاطئ النهر، وبعد أن أصغوا إلى ألحان الموسيقى، استصحب «هاوي السيارات» كبرى الفتاتين إلى مشية قصيرة، وأما «لنتز» الذي كان عندئذ قد صعد فعل النبيذ إلى رأسه شيئا فشيئا، وزاد على النبيذ فعل النساء والغناء الألماني، أقول: أما «لنتز» فقد بقي وحده مع «ناتاشا» التي تسيل اللعاب.
وحدث ما توقعوا له أن يحدث، وهو أن أخذ الرجل بأسباب الغزل فصدت الفتاة تلك الأسباب، وهي بين الإثارة لشهوته والحياء من القبول، لكن المهندس «لنتز» لم يزد إلا إلحاحا، وفي اللحظة التي خلع الألماني للفتاة قميصها فعرى ثدييها الناضرين، خيل إليه أنه يسمع صوتا في الشجيرات القريبة، فألقى فريسته من يديه وبقفزة واحدة ذهب إلى مصدر الصوت بين الشجيرات، ليجد «هاوي السيارات» على وشك أن يصور فيها بآلته صورة ثانية لمنظر الألماني وهو يعابث الفتاة.
فعاد إلى «لنتز» صحوه فورا، وجذب آلة التصوير جذبا سريعا وحطمها تحطيما وألقى بها في النهر، وأمطر السباب على «هاوي السيارات» الذي أرسله القسم السياسي، وعاد إلى داره، ولما شكا الأمر إلى الإدارة في اليوم التالي، مهددا بأن يبلغ القصة كلها إلى السفارة الألمانية، أكدوا له أن ذلك لم يزد على مهاذرة أصحاب في يوم عطلة، وليس له أي معنى من معاني السياسة على الإطلاق، لكن «لنتز» لم يكن من الحمق بهذا المكان. «أنا أحسن تصويرا من شرطيكم.» قال ذلك في نغمة المزهو ثم قهقه ضاحكا: «انظر إلى هذه المجموعة.»
وعرض صورا له مع ألكساندرا في عدة مواقف غزلية.
ثم قال: «لو أرادت حكومتكم صوري مع «ناتاشا» لسرني أن أقدمها لها، ولم يكن ثمة ما يدعو أن تكلفوا أنفسكم قاربا بخاريا ورحلة نهرية، فها أنتم أولاء ترون أني من رجال التصوير الشمسي أيضا.»
فلم يلبث «لنتز» أن طلب إليه مغادرة الروسيا، وأغلب ظني أنهم أجزلوا له العطاء ماركات ألمانية ثمنا لكتمانه الأمر عن السفارة الألمانية، وعادت «ألكساندرا» إلى «دنيبروبتروفسك» حيث يتسع لها المجال لإظهار مواهبها في المهندسين الفنيين الأجانب، وإنهم في تلك المدينة لكثيرون، ولست أدري هل كوفئت «ناتاشا» على صنيعها بأن أذن لها أن تكاتب أباها، وأما «يورف» فإنه لما قبض عليه بعد ذلك بعام، اتهم بأشياء كثيرة بينها «الاتصال بالفاشيين من الألمان»، وكان كل أساس هذه التهمة أنه كان حينا بعد حين يترجم ل «لنتز».
الفصل الثالث عشر
السرعة السرعة!
في شهر سبتمبر من عام 1935م حدثت «معجزة» في منطقة الفحم من حوض الدنتز، وتلك هي أن عاملا يدعى «ستاخانوف» استعدن 102 من أطنان الفحم في نوبة واحدة، وهو مقدار يساوي ما يستخرجه العامل الواحد في المتوسط أربع عشرة مرة! ولن تجد من أحداث التاريخ الحديث إلا عددا قليلا صادف ما صادفته هذه الحادثة من تهليل وتكبير، بحيث ظلت تذاع أمدا طويلا وفي كثير من الهوس والأساليب المسرحية، غير أن المعجزة لم تجاوز حدود ما يمكن فعله في ظروف هذه الحياة الجارية، ولم تخل من أوجه النقص التي تشوبها، فلم يكن من العسير على مهندس عملي أن يتبين في الأمر عوامل الخداع، إذ كان من الجلي الواضح أن قد أعدت ظروف خاصة وأدوات خاصة وبعض المعاونة بحيث يتمكن «ستاخانوف» من الوصول إلى هذا الرقم القياسي، وإذن فقد دبرت المعجزة تدبيرا ليتخذ الكرملن منها وسيلة لإذاعة ديانة جديدة، ديانة عقيدتها السرعة في العمل.
فما فعله «ستاخانوف» يستطيع كل عمال المناجم أن يفعلوه! وما يستطيع فعله عمال المناجم، إنما تستطيعه كذلك سائر الصناعات! وفي هاتين العبارتين تتلخص لك العقيدة الجديدة، وأما من تشكك في هذه العقيدة، فقد حق عليه العذاب، ولم يكونوا ليمهلوه حتى ينتقل إلى الحياة الآخرة فيصلى نار الجحيم بما قدمت يداه، وإذن فكل فني يبدي اعتراضات في طرائق التنفيذ إنما يحشر في دعاة الهزيمة وأعداء «العقيدة الإستاخانوفية»! ومن لم يبلغ مثل الإنتاج الذي ضربه عامل الدونتز، كان من المتكاسلين.
وصاحت «موسكو» صياحا عاليا بعبارات تذيع بها في الناس هذا المذهب «الإستاخانوفي»، وأخذت تتدفق رسائل البرق إلى «نيقوبول» آتية من «خاركوف» و«موسكو» تحمل الأوامر من مكاتب الرياسة، وكان كل أمر من هاتيك الأوامر بمثابة التهديد الصريح، فواجبنا كما تمليه الأوامر هو أن نكون في الحال فرقا «ستاخانوفية» تضرب المثل في سرعة العمل لمن يتراخى، فإذا ما اعترض معترض من المهندسين أو الملاحظين عد عاملا من عوامل التخريب.
لم يكن قد مضى على مصانعنا في العمل ستة أشهر كاملة، ظلت تعمل خلالها ثلاث نوبات كل يوم على الرغم مما يحيط بذلك من عقبات، فلم يكن الصلب وغيره من المواد الخامة مما يبعث على الرضى لا كما ولا كيفا؛ وذلك لأن معظم العمال كانوا حديثي عهد بالصناعة، ومعظم المشرفين عليهم بغير خبرة كافية، زد على ذلك ضعفا في الحيوية البدنية عند العمال لقلة غذائهم وسوء أحوال معاشهم، ولئن مست بنا الحاجة إلى شيء فذلك هو تنسيق عمليات الإنتاج، أما أن تزيد من عبء العمال أو تزيد الضغط على الآلات، فلئن جاز أن نطالب به في أية لحظة أخرى، فلم يكن ذلك ليجوز في ذلك الوقت، فوسيلة الإنتاج المطرد ليست هي الحركات العنيفة المفاجئة لضرب الأرقام القياسية، بقدر ما هي في التعاون والانسجام، وكيف تستحث ألفا وخمسمائة عامل أو يزيدون، يعملون معا عملا مشتركا، تتداخل كل خطوة من خطواته في الأخرى، كيف تستحثهم على الإسراع بغير خطة محكمة دون أن يصاب العمل كله بالفوضى والاضطراب؟
لكنها أوامر ولا بد من تنفيذها، ووجه زعيم الحزب «كوزلوف» و«المدير براتشكو» دعوة بالحضور للمهندسين ورؤساء الأقسام، وكان الرفيق «برودسكي» يمثل «اللجنة المحلية»، ولم يكن مستبعدا أن تأخذ الأوهام رجلين مثل «برودسكي» و«كوزلوف» - باعتبارهما من غير رجال الصناعة - لم يكن مستبعدا أن تأخذهما الأوهام من حيث تطبيق «المذهب الإستاخانوفي» في مصانعنا، لكن «براتشكو» كان رجلا من رجال الصناعة العمليين؛ ولذلك فقد أدرك ما في الأمر من سخف إدراكا واضحا كما أدركته أنا، ومع ذلك فلم يكن بوسع أحد منا سوى أن ينشئ فرق السرعة الإستاخانوفية مهما يكن ما يكلفه ذلك من خسارة في الكفاية والنظام.
وسأل أحد المهندسين قائلا: «أيأذن لي الرفيق براتشكو بسؤال؟» - «سل ما تشاء يا لازار بتروفتش.» - «أنا رئيس قسم فيه مائة وثمانون عاملا، فلو أسرع عامل واحد عن بقية زملائه تعقد حبل العمل في القسم كله، فهل تتفضل بأن تشرح لي في صورة عملية كيف أستطيع أن آخذ الأسلوب الإستاخانوفي؟»
ولم يستطع «براتشكو » أن يشرح له ما يريد بطبيعة الحال، وكل ما كان في وسعه هو أن يعيد الأقوال التي تطبل بها موسكو وتزمر، فيوقع نفسه في لغو سياسي لا غناء فيه؛ فأسفت له لأني رأيته ضحية الإسراف في وضع الخطط النظرية التي ترمي إلى بعيد وتهمل الواقع، بل كنا جميعا ضحايا هاتيك الخطط.
ولقد اضطررت في نهاية الأمر أن ألجأ في جانب المصنع الذي كان مسندا إلي إلى أسلوب في الإسراع لم تكن تمليه طبيعة العمل، فكنت أعده في صميم نفسي جريمة في حق الآلات والعمال في آن معا، وجاءتني أوامر صريحة من لجنة الحزب أن أعيد تنظيم عمالي بحيث أضع خيرة العمال ورؤساءهم والمهندسين في نوبة واحدة، ثم انتقينا من الأدوات والمواد أحسنها، وخصصناها لتلك النوبة من نوبات العمل، وبعد أن أعددنا عدتنا على هذا النحو، أصدرنا كلمة الأمر لهذه اللعبة الخادعة أن تبدأ شوطها.
وذات مساء في الساعة الحادية عشرة، وبحضور طائفة من الصحفيين والمصورين، بدأت النوبة «الإستاخانوفية» عملها، فزادت في إنتاجها عن الإنتاج المادي بمقدار ثمانية في كل مائة، وكانت الزيادة متوقعة، فصدرت الصحف بأسطر من الخط العريض، وجاءت التهاني من الموظفين في العواصم، فتنفسنا نحن الصعداء لأننا استطعنا أن نحول عن أنفسنا ضوء المصباح الكشاف، ولقد خصني من المدح شيء كثير باعتباري الرئيس الفني المسئول.
لكن هذا «النصر» الذي ظفرت به في الجبهة الصناعية، تبعه في النفس حزن عميق، فهذا النصر الصناعي غش في أساسه ولا بد أن يرتد سهم الغش إلى نحري، فالنوبتان الأخريان قد حرمتا خيرة الرجال وأحسن الأدوات فخسرتا في إنتاجهما خسارة أكبر مما كسبت النوبة الرابحة، وظهر رجال هاتين النوبتين - بالموازنة مع رجال النوبة الممتازة - بمظهر ذوي الهمة الضعيفة، بل ظهروا بمظهر «الكسالى»، وطبيعي لم تطمئن نفوسهم لهذا الوضع الذي جعل منهم أمثولة، فصبوا سخطهم على زملائهم الذين أسعدهم الحظ وعلى الموظفين في آن واحد.
ولم تلبث موجة الإسراع أن تحولت في طول البلاد السوفيتية وعرضها إلى حملة شعواء تعمل عملها في الجو المألوف من ضغط وإرهاب، وفصل من العمل ألوف المديرين، وقبض على كثير منهم بتهمة إنزال الخسارة «بالإنتاج الاشتراكي» الجديد، وبتهمة «الفشل في تهيئة الظروف الإستاخانوفية الصميمة»، ووقعت تبعة التأخير في الإنتاج - كائنا ما كان - على عاتق المهندسين والفنيين، وصور للرأي العام أن العمال يتحفزون لزيادة الإنتاج، غير أن مديري المصانع يدبرون الخطط عمدا لتعطيل ما يبتغيه العمال.
وهكذا باعدوا بين العمال وهيئات الإشراف الفني.
ولم يكن يخفى حتى على أبسط عمال المصانع أو المناجم عقلا، أن هذه الأرقام القياسية التي يبلغونها بوسائل الإسراع المفتعلة لن تلبث أن تصبح «معيارا» يقيسون به كل عامل.
ولما بلغت هذه الموجة الإسراعية ذروتها في نوفمبر، دعي إلى موسكو مؤتمر وطني قوامه قادة «الإستاخانوفيين» وخطبهم ستالين فأمطرهم ثناء، مقارنا حماستهم بتلكؤ العمال الآخرين، وأصبح هؤلاء «الإستاخانوفيون» منذ ذلك الحين يكونون صفوة ممتازة بين العمال، يتقاضون أجورا أعلى كثيرا من أجور زملائهم، ويتمتعون بكل ضروب المزايا - وخاصة من حيث الطعام والثياب - مما لم يكن يتمتع به العمال بصفة عامة.
وكذلك باعد الكرملن بين طوائف العمال المختلفة، فكانت القاعدة القديمة «فرق تسد» تطبق على أمة بأسرها تحت راية «إقامة البناء الاشتراكي».
ولم يطل بنا الانتظار حتى شهدنا أسوأ ما يساور العمال من قلق يصبح حقيقة محسوسة، فقد جاءت الأوامر التي ليس إلى ردها من سبيل بأن تراجع «معايير» الإنتاج - التي كانت تقدر الأجور على أساسها - فترفع من عشرة في المائة إلى عشرين، ولم يكن هذا الأمر إلا تعبيرا ملتويا لو وضع في عبارة مستقيمة لكان معناه أن نبتز من العمال عملا أكثر مما يعملونه بمقدار عشرة إلى عشرين في المائة نظير الأجور عينها التي يتقاضونها، فقد كان في مصنعي - وعماله يبلغون ألفا وخمسمائة - ما يقرب من مائتين من «الإستاخانوفيين» أو ملوك السرعة، أما الباقون فقد كانت مراجعة معايير الإنتاج بالنسبة إليهم معناها خفض خطير في مقدار كسبهم، فشاع في الناس امتعاض صامت عابس لا يخطئه النظر.
ولكي يضيفوا إلى الإيذاء إساءة طالبوا بأن تقدم المعايير الجديدة إلى العمال ليقبلوها «بأنفسهم» ولم يكفهم أن يجيء ذلك «تطوعا»، بل أرادوا أن يصدر عن حماسة، ومثلت المهزلة حتى ختامها في سلسلة من الاجتماعات، بدأناها باجتماع عام ضم كل من كان في المصنع من قادة الحزب ورؤساء العمل الفني ونقابة العمال و«البارزين» من صفوف العمال أنفسهم، فقد كان واجب هؤلاء أن يرشدوا غمار العمال إلى «فهم» طرائح الإنتاج الجديدة وقبولها.
وأعد كل شيء وعملت تجاربه مقدما، فقرئت خطبة ستالين التي ألقاها ثناء على «الإستاخانوفيين»، ونهض «ستاروستين» عن النقابة و«كوزلوف» عن الحزب وآخرون عن الموظفين الفنيين، فشرحوا - تعلو وجوههم أمارات الجد - كيف أن معايير الإنتاج الوطيئة التي كانت سائدة عندئذ إن هي إلا بمثابة الإهانة للحماسة الاشتراكية والعبقرية الإنتاجية التي عرف بها حزبنا ومصانعنا، وكذلك قام الشيوعيون الطموحون الذين كانوا ينشدون الظهور والرقي، قاموا فاستغلوا هذه الفرصة في تأكيد عبادتهم لستالين تأكيدا عبروا عنه بأقوال مكرورة رددوا بها ما تقوله الصحافة والإذاعة ترديد الصدى.
وقرئ في النهاية قرار باقتراح زيادة طرائح الإنتاج زيادة كبيرة، فووفق عليه «بالإجماع».
وبعدئذ عقدت اجتماعات من فروع المصنع المختلفة، حضرها العمال كلهم، وأعلن زعماء السياسة ورؤساء العمل الفني - يعاونهم في ذلك «البارزون» من العمال - ما كانوا قد أعدوه من عبارات واقتراحات، فلما اجتمع رجال القسم الذي أديره من أقسام المصنع، جلس العمال عابسين صامتين لا تكاد تلمح فيهم علامة من علامات الاهتمام، وكانوا كلما ذكر اسم ستالين صفقوا تصفيقا آليا، ولم يستطع رجال الحزب الهتافون الذين انتشروا في أجزاء القاعة أن ينفخوا في المجتمعين ما أرادوه لهم من تحمس حار، فمعظم الحاضرين من رجال ونساء كانوا قد فرغوا لتوهم من عمل مجهد دام ثماني ساعات، فكانوا متعبين قلقين لا يريدون إلا أن تنتهي هذه المهزلة التي أمامهم ليذهبوا إلى منازلهم. قرئ عليهم تقرير عن العمل المجيد الذي أداه «الإستاخانوفيون»، وأعلنت لهم الطرائح التي اقترح إنتاجها منذ عهد قريب، ثم وقف بعض أعضاء الصفوف الخلفية في نقابة العمال، وتكلموا كما أريد لهم أن يفعلوا حسب خطة وضعت من قبل، فاستحثوا الناس على الأخذ بنظام الطرائح الجديدة في الإنتاج، وبدأت عملية التصويت.
وصاح رئيس نقابة العمال بما طلب إليه من قبل أن يصيح به، فقال: «أقترح أيها الرفقاء أن توافقوا على القرار بالإجماع.»
من الموافقون؟ فارتفعت أيد كثيرة غير حافلة لما ارتفعت له.
ومن المعارضون؟ صمت، وهنا ارتفع صوت امرأة ارتفاعا مفاجئا: «أيها الرفيق الرئيس، إن كيريوشكين ها هنا لم يصوت.»
بهذا انبعثت الحياة في الاجتماع لأول مرة، أفي جماعتنا ثائر؟ أبين الأرانب ليث؟ فها هو ذا رجل مغمور اسمه «كيريوشكين» - كائنا من كان - بلغت به الجرأة ألا يرفع يده بالموافقة، وبهذا اكتشفت جريمته ضد الاشتراكية! فالثورة في طرف، واليقظة الساهرة في طرف، والبلاد يجيئها الإنقاذ في آخر لحظة ممكنة.
سأل الرئيس في صوت المغيظ: «أيها الرفيق كيريوشكين ألست من المصوتين؟»
فوقف رجل نحيف وديع المحيا، وكان وجهه ملطخا بالزيت لكنه ينم عن رزانة، وقال في صوت وقور: «لماذا يتحتم أن أصوت؟» قال هذا وهز كتفيه هزة يعبر بها عن عاطفته: «إن المعايير الجديدة نافذة على أي وجه من الوجوه، إن مهمتي هي أن أعمل، وها أنا ذا أعمل، ماذا تريدون مني غير هذا؟ أهو واجبي أن أرفع يدي موافقا؟ لا بأس، فهذه هي يدي أرفعها.» ورفع فوق رأسه يدا غير آبهة لما تفعل: «إن زوجتي وأطفالي يريدون مني زيادة في الكسب، وهذا الذي نصوت له معناه قلة فيما أكسبه ...»
وضحك بعض الحاضرين، لكن الكثرة الغالبة ظلت صامتة متأثرة بما قاله الرجل وبالطريقة التي تكلم بها.
وصاح صائح: «أيها الرفاق، إن كيريوشكين يستخف بالاجتماع ويلطخ الحركة «الإستاخانوفية» بالوحل! إنه لا يحس بواجبه نحو الجماعة.»
فهز كيريوشكين - الذي كان ما زال واقفا - كتفيه مرة أخرى وقال: «واجب نحو الجماعة! لست أدري ماذا تريد، إنني أحس أن أجري كل شهر مائة وأربعين روبلا فقط، ولدي زوجة وأطفال يريدون القوت.» - «كفانا مهزلة! هيا إلى الموافقة على القرار!» قال الرئيس ذلك مقاطعا، غير أن العامل الوديع غلبته جرأته فقال مخاطرا بنفسه: «ماذا تعني بقولك مهزلة؟!» ثم رفع صوته على نحو لم يكن يتوقعه السامعون: «انظر إلي، هذه الحلة التي أشتغل بها هي الحلة الوحيدة عندي، ولن تلبث أن تصبح هلاهيل، وأسرتي جائعة لا تكفي لإطعامها هذه المائة والأربعون روبلا التي أتقاضاها كل شهر، فإن كانت هذه مهزلة، إذن فكيف تكون المأساة؟»
وجلس، ولم يضحك من الحاضرين إلا قليلون.
وكانت مهمتي في هذا الاجتماع أن أشرح للحاضرين من وجهة النظر الهندسية أن معيار الإنتاج الجديد ممكن وعادل في آن معا، ولم يكن لي بد من أداء مهمتي، وبينا أنا ألقي على الحاضرين حديثي، كدت أقنع نفسي - وإن لم أقنع السامعين - أننا قادمون على حياة جديدة أوفر ثراء من حياتنا الراهنة لو عرف كلنا كيف يجيد العمل فينتح إنتاج الأكفاء، فقلت فيما قلت: إننا عشنا قرونا في خمول وتأخر، ولا بد لنا أن نعوض هذا كله في جيل واحد قصير الأمد، وقد أحسست حينئذ بالأسف لنفسي ولهؤلاء الرجال والنساء المنهوكة قواهم، الذين هم بمثابة عشيرتي، فنحن الجيل الذي شاء له التاريخ - إن حقا وإن باطلا - أن يحمل التضحية والعناء.
وكان في قرارة نفسي إذ أنا ألقي حديثي وأزداد في إلقائه حرارة، فكرة استقرت لا تتزحزح، وهي: «لا بد لي من مساعدة كيريوشكين ...»
وختمنا اجتماع العمال، وكان ختامه تصفيقا من هنا وتصفيقا من هناك، وتفرق الناس، حتى إذا ما جاء اليوم التالي رأيت في صحف نيقوبول وصفا للاجتماع بلغة الرياء التي نعهدها في مبالغات الكتابة السياسية: «طالب أمس عمال الشعب في مجموعة الصناعة التعدينية في نيقوبول وسط حماسة عاصفة، بأن تراجع معايير الإنتاج القديمة التي لم تعد تلائم الزمن في تطوره، وأعلنوا بالإجماع أن ...» ولم تذكر الصحف سطرا واحدا عن كيريوشكين.
أرسلت إلى كيريوشكين أن يجيء إلى مكتبي في نهاية العمل ذلك اليوم، فلما انتهت نوبة العمل، سمعت حركة في غرفة استقبالي.
سمعت أمينة سري تقول: «أين أنت ذاهب؟ إن الرفيق كرافتشنكو مشغول بحيث لا يستطيع لقاءك.» - «صدقيني لست أريد لقاءه، لكنه هو الذي أرسل يطلب حضوري.» - «ماذا بينك وبينه؟» - «ماذا عسى أن يكون بيني وبين الرئيس؟ إنه يطلب مني الحضور فأحضر.»
فدققت جرسا لأمينة سري وأخبرتها بأن تسمح للزميل بالدخول، ودخل كيريوشكين ممسكا قبعته بيده.
قلت: «تفضل بالجلوس.» - «شكرا، أستطيع الوقوف.» - «ولكن فيم الوقوف؟ تفضل بالجلوس.»
وجلس إلى مكتبي من ناحيته المقابلة لي، فسألته كيف حال العمل معه؟
فأجاب: «حال العمل معي هو حاله مع كل عامل آخر، فأنا أعمل ما بقيت في جسدي قوة تعمل.»
عرفت منه أنه جاء إلى المصنع منذ عامين، جاء من الريف بعد أن ضمت مزرعته إلى المزارع الجماعية، وعرفت كذلك أنه كان يخدم قبل ذلك في الجيش الأحمر، وأنه أحضر معه بعض المتاع لكنه باعه لحاجته إلى المال. - «إن زوجتي تمسح أرض الغرف في منازل بعض الموظفين، فيأتينا ذلك بما يعين، وهي تغسل الثياب كذلك، لكن لي أطفالا ثلاثة وليس من السهل أن أدبر نفقات عيشهم ولكن فيم الشكاة وليس بين العمال من هم خير حالا مني؟»
كان يتكلم في أناة، يزن كلماته وزنا وينظر إلي وجها لوجه، ولم يكن في سلوكه غطرسة ولا خور، لم يبد إلا أسفا عميقا أسلم زمامه لتصريف القضاء. - «نعم يا فكتور أندريفتش، ماذا عسى أن أقول؟ إنك أنت، أنت واحد من الرؤساء، تستمتع بحياة طيبة، إنك تحيا في دنياك وأحيا أنا في دنياي، إنك لن تفهم حالة الناس الذين هم على شاكلتي.» - «لا تزعم ما لا تعرف أيها الرفيق كيريوشكين، فقد أكون على فهم بحالة هؤلاء أكثر مما تظن، لكن دع عنك هذا الآن وقل لي، هل تريد أن تعمل في الآلة القاطعة، إن أجرك هناك سيرتفع إلى مائتين وعشرين روبلا أو أكثر، وسيكون من حقك بعض الثياب: حلة وحذاء.» - «بكل سرور، لا بد للإنسان أن يعيش.»
فأصدرت أمري أن ينقل إلى عمله الجديد، فشكرني وانصرف، وسرني من أعماق قلبي أن أراه من أول الأمر إلى آخره محتفظا لنفسه بكرامتها دون أن يبدي أقل علامة من علامات الزيغ، واستدعيت «ستاروستين» واتفقت معه أن يدبر له شيئا من المال يأخذه من «رصيد المساعدة المتبادلة»، ثم أمرت زيادة على ذلك أن تصرف له مجموعة من ملابس العمل وحذاء.
كانت مسافة الخلف الاجتماعي بين رجل مثل «كيريوشكين» وبين «أرستقراطي» من نوع «إستاخانوف» أبرز في شعور الناس من المسافة بين العمال والإدارة، وذلك بسبب الصلة اليومية الدائمة بين من هم من قبيل «كيريوشكين» ومن هم من النوع «الإستاخانوفي»، والظاهر أن السياسة الرسمية كانت تعقد النية على توسيع هذه الفوارق وعلى خلق أسباب أخرى مما يبث العداوة والريبة بين الناس ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
كان المهندسون ورجال الإدارة في الصناعة يلقون ازدراء يزداد يوما بعد يوم لما زعموه فيهم من «رجعية» ومن «تعطيل» للذين يضربون لغيرهم الأمثال في سرعة الإنتاج، وقد ساهم رجال الهيئة التنفيذية من الحزب في هذا الإيقاع بالإخصائيين في أفخاخ المهاجمين، وذلك لئلا يتجه اللائمون نحوهم بلائمة، وهكذا أخذ نفوذنا ينهار انهيارا لا ينقطع، فلما أحس بعض المهندسين ورؤساء العمال بل وبعض الأيدي العاملة الصغيرة، أن الكلمة العليا أصبحت لهم دون رؤسائهم، راحوا يتخذون قرارات جزافية يزيدون بها من أجورهم، وكثيرا ما كان ذلك يؤدي إلى أفدح النكبات بالإنتاج على وجه الإجمال.
ونفخت السياسة في أبواق الكفاية الإنتاجية فاتخذت لنفسها حق التصرف في الشئون الصناعية، فكثيرا ما كانت الكلمة النهائية في هذه الشئون للموظفين الشيوعيين أو لرجال الشرطة دون المهندس أو مدير المصنع، حتى لو كان الأمر متعلقا بمشكلات فنية خالصة، فكنا في صميم عهد من عهود الفوضى والحرب الأهلية في دائرة الصناعة، ووقعت بين حدبن: التعليمات الآتية من موسكو من جهة، وارتياب الأدنين من جهة أخرى بين شاق الأعمال وتدهور النظام، حتى أصبح الاضطراب العصبي والإرهاق صفة حياتي العادية أو كادا.
وأيقظني التليفون ذات مساء، فإذا بي أعلم أن إحدى الآلات أصيبت بعطب فجأة فتعطل نصف الفرع الذي أشرف عليه من فروع المصنع، فتمتمت لنفسي قائلا: «وهذا وجع رأس جديد.» ثم ارتديت ملابسي، حتى إذا ما بلغت المصنع وجدته يموج بألوان الموظفين ، فرئيس القسم السياسي في نيقوبول قد حضر بنفسه، كما حضر «دوروجان» و«جرشجورن» وغيرهما من المساعدين، وأخذ «كوزلوف» و«ستاروستين» ومهندسون كثيرون يهرولون حلقات حلقات، بينما جلس الإخصائيون من رجال الشرطة في مكتبي يستجوبون من حامت حولهم الشبهات ويدونون مذكراتهم.