وعرفت من قصة كلافديا أنها كانت في السنة التاسعة من عمرها حين شبت الثورة، وأنها ابنة أسرة موسرة تعلمت على يد مدرسين خصوصيين ومربيات، وقبض على أبويها في الأشهر الأولى من الثورة ثم أعدما بعد وقت قصير في مذبحة عامة، قتل فيها الرهائن من الطبقات الموسرة، وذهبت كلافديا لتعيش مع خالة لها عجوز في علية مظلمة في البيت الذي كان من قبل قصر أسرتها، وقضي عليهما أن تقاسيا في هذا المسكن شظف العيش الذي كانت تعانيه الطبقات المحرومة «السابقة» طريدة العدالة الخارجة على القانون، التي انحطت مكانها، ولم تعط كلافديا الصغيرة حق الذهاب إلى المدرسة ولا حق العمل، وكانت هي وخالتها تعيشان من بيع ما أخفيتا من بقايا متاعهما القديم.
وقالت لي: «إني أعرف أن الشبان الشيوعيين أمثالك لم ينظروا قط إلى صورة الأشياء من خارجها؛ ولذلك فإنكم لا تستطيعون أن تتصوروا معنى ما يشعر به من يحقرون، ومن لا يحميهم القانون، ومن يحسون أن بلادهم في غير حاجة إليهم، وخاصة إذا كانوا صغارا، إن الفقر مؤلم لكل إنسان، فما بالك بوقعه على من نعموا بالراحة ورفاهة العيش؟»
وأحبت كلافديا وهي في السابعة عشرة من عمرها شاعرا يكبرها بمثل سنها، وذهبت إليه لتعيش معه، وقالت: إن الأشهر القلائل التي قضتها معه كانت أقرب أيامها إلى السعادة الحقة، ولكنه اختفى فجأة، وبقيت هي إلى ذلك اليوم لا تعرف ما حدث له، وكان فتاها من المعارضين للنظام الجديد، وهي تظن أنه يقيم الآن في أحد معسكرات الاعتقال إن كان لا يزال حيا. - «وكنت جميلة يغازلني كثيرون من الشبان، ولكنهم بلا استثناء كانوا شبانا من طبقتي، أي من أطفال الماضي، ولما كنت قد قاسيت كثيرا وسئمت الحياة التي كنت أحياها فقد كنت أتوق إلى شيء من الأمن والطمأنينة، وأرى أن خطيبي، إذا قدر لأحد أن يخطبني، يجب أن يحمل بطاقة الحزب. ثم التقيت بالدكتور سمرين في يوم من الأيام، وانقبضت نفسي من صورته، ولكن كان من أسباب فخري أن شيوعيا وأن شابا معروفا ينتمي إلى السلطة الحاكمة يهتم بأمري، وأحبني حب من يهابني ويحنو علي، ولكن عن بعد، أما أنا فقد راعني وسحرني إخلاصه الشبيه بإخلاص الحيوان.
وكان أكثر ما أحمده له طيبة قلبه، ولم أختلف أنا وخالتي في أن له روحا جميلة، رغم أنه أحدب وشيوعي، وأخشى أن يكون هذان العيبان في نظر خالتي صنوين، وظل يتردد على بيتنا أكثر من عام، ويأتي لنا بالطعام والكساء، ويعلمني بعض الدروس دون أن يقول لي في خلال العام كله شيئا عن عواطفه نحوي، وبلغ من أمره أن استطاع الحصول لي بطريقة ما على بيان.
وبينا كنت في يوم من الأيام أعزف له بعض المقطوعات التي يحبها من وضع كشيكووسكي قلت له: إني أعرف أنك تحبني، وأنا لا أحبك ولكني أعجب بك وأحتاج إلى حمايتك ورفقتك، فلم إذن لا نتزوج؟ وجلس الرجل في مكانه جامدا كالمصعوق، وهو مغتبط، لا يصدق ما سمع وقد غلبه الحياء، وأظن أنه كان يعرف الحقيقة وإن حاول أن يطردها من عقله، وتلك الحقيقة هي أن فتاة من الأسر التي كان لها شأن، طريدة القانون، وطفلة من أطفال الماضي قد قبلت من فرط يأسها مخلوقا مشوها قبيح المنظر.»
وختمت حديثها بقولها: «فانظر الآن يا فيتيا، ما أقل ما تعرفون من الحقائق أيها الشيوعيون الماهرون! إنكم لا تعرفون كم ألفا من نساء الروس اللاتي أخرجن من بيوتهن وابتعد الناس عنهن بسبب أصلهن، لم يجدن لهن عاصما إلا أن يتزوجن بالأرستقراط الجدد، أي الشيوعيين والعمال، وقد وجد بعضهن السعادة، ولكني وا أسفاه لست من هؤلاء السعيدات، وليس في وسعي أن أنسى من قضوا على الشعب وعلى جميع ما كنت أحبه أشد الحب، وأعنى به كل العناية، ليس في وسعي أن أنسى هؤلاء أو أن أعفو عنهم.
إن من كان مثلي لا بد أن يشعر بالوحدة، واعتقادي أن هذا أشد ما يؤلمني في حياتي، آه من هذه الوحدة! إننا ندعي أننا من الحزب ولكننا نحيا في نفوسنا حياة خفية لا يعرفها أحد غيرنا، ولقد حاولت أن أقوم بعمل من الأعمال، وعرضت أن أعلم الموسيقى، وخيل إلي أن ولاة الأمور قد اهتموا بهذا، اهتموا به حتى أجبت عن الأسئلة المكتوبة التي قدمت إلي وعرفوا منها أني من الأشخاص السابقين.»
ولم أخرج من المنزل إلا بعد منتصف الليل.
وقالت لي وهي تودعني عند الباب: «فلنفترق صديقين يا فيتيا، ولا تظن بي السوء، إني بائسة، ولا أرى شيئا أمامي إلا الوحدة الأبدية، ورجائي إليك أن تأتي إلينا أحيانا لترانا حين يكون الدكتور سمرين في المنزل، فهو مدرس ماهر وأنا أعرف أنك شديد الإعجاب به.»
وكان إعجابي بسمرين من حيث هو أستاذ ومن حيث هو رجل هو الذي حال بيني وبين الاعتداء على حياته العائلية.
Unknown page