...وأما الغني الذي غناه من لوازم ذاته وكل ما سواه مفتقر إليه بذاته ، فإن جميع من في السماوات والأرض عبيد له مقهورون بقهره مصرفون بمشيئته لو أهلكهم جميعا لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته والهيته مثقال ذرة فلا يملك منهم أحد أن يشفع بنفسه عنده إلا بإذنه فالشفاعة كلها له كما قال الله تعالى { قل لله الشفاعة جميعا } وهو الذي يشفع بنفسه على نفسه يرحم عبده فيأذن لمن يشاء أن يشفع فيه فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه وأمره إياه بعد شفاعته إلى نفسه وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده كما قال الله تعالى { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } وفي آية أخرى { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } .
...فأخبر سبحانه وتعالى أن ليس للعباد شفيع من دونه فإنه إذا أراد رحمة عبده يأذن هو لمن يشفع فيه أن يشفع فيه كما قال الله تعالى { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه ولا الشافع شفيعا من دونه بل هو شفيع بإذنه بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض فإنها ليست بالإذن بل هو سعي في سبب منفصل عن المشفوع إليه يحركه به إلى قبولها ولول على كره منه إما بقوة وسلطان وإما برغبة في إحسان فلا بد أن يحصل للمشفوع إليه من شافع إما رغبة ينتفع بها وإما رهبة يندفع عنها بخلاف الشفاعة عند الرب تعالى فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع ولم يأذن له فيها لا يمكن وجودها والشافع لا يشفع عند الرب تعالى لحاجة الرب إليه ولا لرهبته منه ولا لرغبته فيما لديه وإنما يشفع عنده مجرد امتثال لأمر وطاعة له فهو مأمور بالشفاعة مطيع بامتثال الأمر فإن أحدا من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا بمشيئته تعالى فهو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل .
صفحة ٢٥