تظل الصورة مثلا مائلة أو مقلوبة على الحائط شهرا فلا تستلفت نظر الخادمة إليها ولا تحفل بها، يجد الزائر السكاير مبددة على الدواوين والطوائل والكراسي، فإذا أحب إشعال سيكارة تفتش الخادمة ساعة عن علبة الكبريت، ثم تجيء والفوز يتلألأ في وجهها حاملة بملقط صغير جمرة كبيرة ويدها اليسرى كالصينية تحتها، فتتفتت الجمرة، فتحرق يدها، ثم السجادة ثم الديوان، ثم ثوب الزائر، ولا ينجو من الحريق غير السيكارة السعيدة الطالع. في روض الست هند العاطر يذبل الورد على صدر أمه ويموت، والأواني الصينية الفخمة في بيتها تئن وتتأوه من الأزاهر الاصطناعية فيها. في غرفة الست هند على مغسلة من الجوز فاخرة تزدحم قناني العطر والطيب، وحناجير الأدهان والمعاجين، وعلب المساحيق، والأدوية والزيوت لتحسين البشرة وتطويل الشعر، وليس هناك مقراض أظافر أو فرشاة أسنان.
وهذه أمثلة صغيرة من غرائب هذا البيت وسيدته قبل أن دخلته مريم، ولم يمض عليها شهران فيه حتى تجلت في ترتيب فرشه وغرفه وأمتعته وأوانيه روح أنيقة جديدة، وقد أحدثت فيه ثورة لا بد من تدوينها، وبدعة في غرفة المائدة تستحق الذكر.
دخلت مريم صباح يوم حجرة سيدتها تحمل باقة من الورد، وضعتها في الإناء الذي كان فيه أزاهر اصطناعية، ورفعته تبتهج وتقول: أليس الورد يا معلمتي أحسن من هذا القماش الوسخ؟ فأجابتها الست هند: بلى بلى الحق معك، فسرت مريم باستحسان سيدتها وأقدمت على العمل الذي كانت تفكر فيه، ولقد طالما ثار ثائرها على الزهور الاصطناعية فوجدت في بيت مبارك ما يكفي لإضرام نار الثورة في سبيل عرائس الحقول وربات الرياض، وكانت تأخذ كل يوم طاقة من تلك الطاقات الكبيرة التي تضيع الراهبات في صنعها وقتهن الثمين، وتخبئها في غرفتها وتضع في الإناء مكانها إضمامة من أزاهر الجنينة ورياحينها، ولما خلعت كل تلك العرائس الكاذبة من عروشها جمعتها ذات ليلة على السطح، وسكبت فوقها إبريقا من زيت البترول ودعت الخادمات رفيقاتها إلى الجنازة، ولما حضرن أضرمت في تلك العرمة النار، وأخذت بأيديهن فرقصن حولها ضاحكات، ومريم تصيح مقلدة اليهود الدوارين، خام وشيت ومقصور!
ولم يغظ هذا العمل الست هند مثلما غاظها قول مريم: إن مغسلتها تفتقر إلى فرشاة أسنان. - يقطع عمرك! وأين رأيت أنت فرشاة أسنان؟ - عند الرئيسة في الدير، وهي تنظف أسنانها صباح مساء، يا عمري ما أجمل أسنانها! - أجمل من أسناني يا مريم؟ - أسنانك يا معلمتي صفراء.
فاكفهر وجه الست هند وهمت بضربها، فاستدركت الفتاة قائلة: لا تؤاخذيني ولكن الرئيسة لا تدخن بالأركيلة مثلك، الله يقطع الأراكيل فهي توسخ الأسنان. - اسكتي، وقحة، ثرثارة!
وبعد أيام رأت مريم فرشاة أسنان على مغسلة سيدتها، فضحكت وقالت في نفسها: ما أحلى معلمتي! تشتمني وتقبل نصيحتي.
والحق يقال: إن الست هند تحب مريم سرا وتعجب بها، وتكرهها سرا أيضا وتخشاها؛ لأنها أجمل وأبرع خادمة دخلت بيتها، وكانت إذا أثنى زوجها على الفتاة تسكت أو تغير الحديث. - يا هند ما رأيت زماني مثل هذا الترتيب في البيت.
فنفرت قائلة: وما علمك أنت بالترتيب، لا تدلع الخدم فيظل البيت مرتبا.
فلم يحفل يوسف أفندي بما قالت: وهذه الأزهار، جميلة! جميلة! كأن الجنينة جاءت تشاركنا بيتنا. - وأنت تشارك الكل، هل يجي المطران الليلة؟ - نعم وسيجيء رئيس الدير أيضا، والقائمقام.
وذهب يوسف أفندي إلى محكمته وهو يفكر في الطريق بالفتاة مريم ويمثل لنفسه جمالها وذكاءها وتفننها فيبتسم فؤاده جذلا وإعجابا.
صفحة غير معروفة