الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
صفحة غير معروفة
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
صفحة غير معروفة
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
صفحة غير معروفة
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
صفحة غير معروفة
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
صفحة غير معروفة
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
زنبقة الغور
زنبقة الغور
تأليف
أمين الريحاني
الفصل الأول
«من غور الحياة أرفع اللهم صوتي، من وادي الأردن أحمل إليك يا رب وزري، من أعماق الأرض أنظر ضارعا إلى جبال قدسك وإلى شمس رحمتك وإلى سماء حبك.»
في الربيع الأول من هذا القرن توفيت في الناصرة امرأة اسمها سارة ولم يكن عند فراشها ساعة النزاع غير راهب من رهبان الدير الذي كانت ترعى مواشيه وفتاة لا تتجاوز الخامسة عشرة من سنها، ولقد كان البؤس رعي سارة والشقاء موردها حيث سارت وحيث جلست وفي كل بيت خدمت فيه. على أنها لم تكن ممن يأكلون خبز المذلة ويغضون على الحيف والأذى، ولم تدخل الدير طفلا فتخدم فيه فتاة لتتعود الرضوخ والاستسلام فتسوم نفسها طاعة الصغار وتتحمل دفعا للجوع تفوق الأسياد والرؤساء، وليس أشد من بلية البائس غير بلية البائس العزيز النفس.
جاءت سارة الناصرة من السامرية في الثالثة والعشرين من سنها، ووقفت مكرهة في الأبواب تقدم خدمة وتطلب عملا، وكانت قبل ذلك تقيم ووالدها الأرمل في قرية قرب جنين وتساعده في أشغاله وفي سهراته، فتقضي حاجات البيت كلها بإتقان وعناية لا مزيد عليهما فتطبخ وتغسل وتستقبل الضيوف - وترعى في بعض الأحايين الجمال؛ جمال أبيها، وقد يستغرب القارئ ذكرنا الضيوف في بيت الجمال، وقد يستغرب أشياء أخرى في هذه القصة، ولكن الحقيقة في غور الحياة وقد أبعدتنا عنها زخارف التمدن أمست غريبة بيننا، الفقر والبؤس والعار والشقاء تحجب عن الناس اليوم في معاهد الإحسان المتعددة التي شيدت لتربية الجهل واستخدامه لا لمناهضته واستئصاله. والمستقبح في هذه القصة هو أدنى إلى الواقع من المستملح فيها، لا غبار من الخيال عليه ولا يد للتصور فيه.
صفحة غير معروفة
قلنا: إن سارة كانت تساعد أبيها حتى في سهراته، وإليك البيان؛ فقد كان الجمال قصاصا أيضا يقص في الخانات وفي بيته قصص الأقدمين في حلقة عامرة من المكارين والمسافرين والفلاحين، بل كان بيته شبه ملعب رسم الدخول إليه شيء من التبغ أو السكر أو البن، وما أجملها حلقة في ليالي الشتاء في الليلة القراء، وقد أضرمت النار في الموقد، وأشعل كل من الحضور «السبيل»، ودارت سارة عليهم بالقهوة وبدأ والدها يتلو مقدمته الشهيرة؛ أي «كان ما كان ... إلخ» فيهتز من ضحك القوم عمود البيت وتبتسم لنكاتهم نار الموقد من خلال الدخان. - برغوث على صدرك يا سارة. - اجلسي قربي الله يحرسك لوالدك. - كردم أبو آدم حفر البحر ومن يحفر قبري الليلة؟ تسلم يا نور العيون! - ما أطيب قهوتك يا سارة! - يا بنت أمير العرب هاتي بصه. - الليلة من ليالي العجوز اسمعوا الهواء يزمر. - والموقد يرد عليه. - اسمع يا شيخ بدأت القصة. - نشكر الله على سلامة البرغوث.
وما هذه إلا شرارة من الموقد الذي كانت تضطرم ناره في ذاك البيت، في وسط حلقة لسانها الجمال القصاص، وروحها ابنته ساقية القهوة، وكانت سارة ذكية الفؤاد، فصيحة اللسان، عظيمة الحافظة، أخذت عن أبيها وفاقته في صناعته، فإذا كان في سفر ليلة ما تقوم مقامه فتضحك الحضور وتبكيهم وتهيجهم وترعبهم، بما تقص عليهم من الخرافات ومن حكايات الجان والعفاريت. وكان أبوها يعزها ويعجب بها كثيرا، ويستصحبها في أكثر سفراته فتسير في القافلة إلى القدس والكرك والشام، وتفتن حيث تقطن وتضرب عند اللزوم ضربة يعجز دونها الرجال. فتاة ترمي بعينيها وترمي بساعدها، شديدة البأس ثابتة الجنان لا يتجهمها الليل ولا تستوقفها القفار، وقد طالما اجتازت وادي اليرموك وحدها توصل السير بالسرى، وهي تغني أدوار «العتابا والميجانا» بصوت جهوري رنان تردد الأودية صداه، وتصغي إليه وحوش الفلاة، وما أشبهها بالشهيرات من نساء العرب اللواتي فقن الرجال فصاحة في المجالس وبأسا في ساحات الوغى.
ولكن اليوم الأسود لم يمهل يومها، جاءها وهي صبية يسوق إليها من مثله الأيام والسنين، جاءها يوم تزوج أبوها فكانت خالتها بليتها الكبرى، ولم تكن سارة لتطيق التحكم والتأمر، فوطنت النفس على أن تهجر البيت. وكان قد حدث لها حادث منذ أشهر فعجل عليها بالفرار، فخرجت من أبيها وهي حامل في شهرها الخامس لا تعرف ملجأ تلجأ إليه، فأقامت بضعة أسابيع في بعض القرى حول المرج ثم رحلت إلى حيفا لتخفي هناك عارها، ولكنها ضلت الطريق فمشت شمالا حتى وصلت إلى شفا عمرو، وهناك بين تلك النواويس خارج البلد جلست تستريح، وكانت قد بدأت تشعر بانحلال في جسمها وتقطع في أوصالها، فأوت مساء ذلك اليوم إلى كهف من تلك الكهوف التي كانت قبورا في قديم الزمان، وعرفت لأول مرة في حياتها ما هو العذاب وما هو الخوف وما هو القنوط، ألا فإن هذه أول تجاربها.
حاولت أن تنام فحال دون ذلك ما أصابها من الآلام التي أخذت تزداد حتى أحست سارة أنها دفنت حية في ذاك القبر، حية في قبرها تئن من الأوجاع، وصاحت نصف الليل صيحات لم يسمعها غير الله وولدت كما تلد البدويات وهن في الطريق راحلات، ولكنها ولدت طفلا ميتا، فكان غمها أشد من أوجاعها. وعند بزوغ الفجر لفت طفلها بالمنديل الذي كانت تحمل فيه زادها ودفنته في الناووس الذي ولد فيه وغطته بأغصان من شجر الزيتون، وأقامت وإياه هناك بضعة أيام تندبه وتندب حظها، وبعد أن نقهت قليلا وأحست من نفسها بشيء من القوة، خرجت من ذاك اللحد والمهد لا تدري ما تصنع ولا ترى أمامها طريقا تنشط خطواتها، أترجع إلى قريتها وقد كرهت الإقامة فيها؟ أتدخل شفا عمرو وهي لا تعرف أحدا هناك؟ أطرقت مفكرة حائرة بائسة، فتذكرت أن أحد أبناء بلدها إلياس البلان يعلم في مدرسة ابتدائية في صفورية، فصعدت في الجبل تقصد تلك البلد علها تحظى بلقائه فيفتح لها بابا للارتزاق، ولكنها لم تجده في صفورية، وقيل لها: إنه نقل منذ سنتين إلى الناصرة ودخل الدير ... هناك، الدير! وقعت هذه الكلمة في قلب سارة كما يقع الندى في نخاريب الصخور فينيرها، فتحت لها بابا ظنته باب الخلاص فكان شركا من أشراك القدر جديدا، ولعل القدر في بعض أطواره مثل البشر إذا وقعت الطريدة بين يديه لا يفلتها أو يذبحها.
جاءت سارة الناصرة وقد كدها الجوع والتعب فسارت توا إلى الدير الذي أهديت إليه فلقيت هناك ابن بلدها الأخ إيلياس البلان، فتنفست الصعداء وشكرت ربها، وأول ما فاهت به هاته الكلمات: دخيلك مت من الجوع والتعب.
فتأهل الأخ إيلياس بها وطيب نفسها وأدخلها غرفة قرب المطبخ وجاءها بخوان عليه بضعة أرغفة من الخبز وقالب من الجبن وشيء من الزيتون وجفنة من الطعام. وبعد أن أكلت واستراحت سألها حاجتها، فقالت إنها تريد أن تدخل الدير، فابتسم ابتسامة ثبطت من عزمها وأخبرها أن رغبتها لا تتحقق إلا بشروط قد يصعب عليها إتمامها، ثم قال: أديرة الراهبات هنا كالشركات العقارية؛ هل عندك شيء من العقار توقفينه للدير؟ هل عندك مال تدفعينه رسم دخولك؟ هذه أهم من النذور الثلاثة، أتخدمين؟ حسن، ولكن الواقفات في أبواب الأديرة يطلبن الخدمة كثيرات مثلك.
على أنه وعدها خيرا، وبعد أيام عادت إليه فأنزلها في بيت لأجراء الدير تساعد الفلاحين وتغسل ثياب الرهابين، ثم نقلت إلى المطبخ لإحسانها الخدمة؛ فأحبها رفاقها من الخدم وأعجبوا بحسنها وخفة روحها وزلاقة لسانها، وكانوا يجتمعون كل المساء عندها في المطبخ وبينهم بعض الرهبان، فتقص عليهم المضحك المبكي من قصصها العجيبة ونوادرها الغريبة، وأول من أعجب بها وأحبها الأخ إيلياس الذي دخل ذاك الدير ليتمم فيه علومه. وكان لم يزل في ريعان الشباب يملكه من النساء حسن الوجوه وسحر العيون، وما لبث أن فتن بسارة، استهوته الفتاة فخدعها؛ اختلى بها سرا مرارا وعللها بالوعود، وكانت سارة حادة المزاج سريعة التأثر، في قلبها شعلة من الحب لا تطفئها تجارب الحياة المحزنة، فاستسلمت إلى الراهب الذي وعدها أن يخلع الثوب الأسود ويتزوج بها، ولقد بر الأخ إيلياس بقسم من وعده إذ خرج من الدير في فرصة الصيف مدعيا أنه ذاهب إلى بيته ليتفقد أهله، وكان قد أوعز إلى سارة أن ترحل إلى قرية ... قرب كفر كنا وتنتظره في الخان هناك، وفي تلك القرية أقام وإياها بضعة أشهر متنكرا، ثم تركها وهي في شهرها التاسع عائدا إلى الدير في الناصرة لعلمه أن في نية الرئيس أن يبعثه إلى سوريا ليدرس الإفرنسية في إحدى مدارس الرهبنة هناك، فهرب من مسئولية فعلته ولم يهرب حينئذ من الدير.
ولما ولدت سارة أقسمت يمينا أنها لا ترضع ابنتها قبل أن تنتقم من والدها اللئيم الخداع؛ لذلك جاءت الناصرة ليلا تحمل لفافة ألقت بها عند باب دير الأيتام، وهي تقول: سأرجع يا بنتي، سأرجع إليك وقد انتقمت من والدك.
وراحت تسأل في الدير عنه، فقيل لها: إنه سافر إلى سوريا. شكته إلى الرئيس فضحك منها وشتمها وطردها خارجا، فقالت له والغيظ يحتدم في عينيها: عرفت طريقتكم؛ استرني أسترك، الله لا يستر عيوبكم. وخرجت من الدير تلعنه وتلعن ساكنيه وسافرت إلى بيروت لتبحث عن الجاني عليها، ولكن الأخ إيلياس البلان وقد قدر ما قد يكون من عواقب إثمه غير اسمه وخلع ثوبه ولجأ إلى إحدى قرى لبنان يعلم فيها الصبيان، وبعد سنتين عاد يلبي الدعوة السماوية؛ دعوة الرهبنة، فلبس الثوب الأسود ثانية ودخل في سلك رهبنة أخرى، وتدرج إلى رتبة الكهنوت فيها، فسيم قسيسا وأصبح من المحترمين في الأرض.
وليس كالدير مأوى لأمثال الأخ إيلياس، ثوب أسود واسم جديد ودير قصي، وبال بعد ذلك مطمئن، فيا له من إثم لا يقتفي أثره أشد أصحاب القيافة حذقا، يا له من ستر لا يكشفه أكبر رجال الشحنة!
صفحة غير معروفة
وبعد طويل البحث والتفتيش فوضت سارة أمرها إلى الله، وأقامت في بيروت تخدم في أحد البيوت، ثم نقلت إلى الشام ثم إلى بلد في لبنان ولم تثبت طويلا في مكان، ظلت عشر سنوات في سوريا والشقاء ملازمها والبؤس حليفها، وقد جفت من تصاريف الدهر طباعها وخمدت نفسها وخشنت أخلاقها، فكانت تدخل البيت ضارعة وتخرج منه ناقمة، ولم تثبت إلا في بيت لبناني سنتين متواليتين؛ لأن الامرأة اللبنانية تتحمل من الخدم أكثر من سواها.
ولا شك أن سارة عربية في أنها تكمن العداء طويلا ولا تنفك أن تطالب بالثأر، فلما سمعت مرة وهي في لبنان أن الراهب الذي تبحث عنه هو في الناصرة، حملت رزمة ثيابها وسارعت إلى تلك المدينة، وكانت تعلل النفس أيضا بلقاء ابنتها واسترجاعها من الدير، ولكنها لم تفز بواحدة من رغبتيها؛ لأن الابنة التي جاءت بها طفلا رضيعا إلى الدير ضاعت بين المئات من مثلها في معاهد الأيتام المتعددة بالناصرة، وتوارى الأخ إيلياس البلان مصعدا في مدارج النسك والتقوى.
وبين هي واقفة ذات يوم في باب الدير الذي كانت تخدم فيه منذ عشر سنوات رآها القس جبرائيل مبارك، فاعترته رعشة مزعجة وعلا وجهه الاصفرار، عرفها ولم تعرفه، فسألها متلطفا حاجتها، فحاولت أن تكشف له سرها فاضطرب عليها، فقالت: أريد أن أخدم في الدير. فأحسن القس جبرائيل إليها وجعلها من أجراء الدير ترعى المواشي.
العشر سنوات التي ولت والثوب الأسود واللحية غيرت من ظاهر الراهب فلم تعرفه سارة، ولا أدركت اضطرابه عندما شاهدها ولا السبب في جميل إحسانه إليها، فالقس جبرائيل مبارك من أسرة كريمة في جنين أمرها في الناس مطاع وكلمتها في الحكومة نافذة، على أنه لم ينبغ فيها إلا من تولى الوظائف فكان ظالما، أو تولى أمر أرزاقهم الواسعة الأرجاء فكان مستأثرا أثيما يعامل الفلاحين كما تشاء أطماعه، ويتصرف بنسائهم وبناتهم كما تشاء شهواته، وكان والد سارة الجمال من عمال بيت مبارك، يجيئهم بأحمال القمح والحبوب والحطب وغيرها من حاجات العيش، وكانت سارة كما ذكر ترافق أبيها في سفراته وتساعده في أشغاله، فتقيم وأباها أياما في بيت أسيادهم في جنين.
وفي تلك الأيام كان جرجي مبارك (القس جبرائيل الآن) في العشرين من عمره، شابا غريبا في بيته لا يشابه خلقا وطبعا أحدا من أهله وطباعه، عصبي المزاج، شديد النزعة إلى الوحدة، غريب الأطوار، كثير الهواجس سريع الغضب سريع الرضى، في نفسه شعلة دخانها أكثر من لهيبها تزيد بكآبته واضطرابه، يظهر له الحق في كل الأشياء في شكل مشوش فلا يصبر عليه إلى أن ينجلي؛ يضرب الخادم مثلا لإهمال بدا منه، ويدخل غرفته فيؤنب نفسه على ما فعل، وقد رأته مرة أمه في ساعة ملكته نوبة عصبية شديدة يدق برأسه على الحائط كالمجنون، فراعها ذلك وأخذت تناعمه وتسكن من روعه، فسألها قائلا: متى يرجع أبو سارة من المرج؟ فقالت الأم: غدا، فسكنت إذ ذاك جوارحه وهدأ اضطرابه، ولما جاء الجمال تصحبه ابنته، وهم عند المساء بالرجوع سأله جرجي أن يظل عندهم إلى الغد، فامتثل الجمال أمره، فبعثه في اليوم الثاني بكتاب إلى أحد عمالهم في حيفا، وتخلفت سارة في بيت سيدها الشاب، وكانت قد شعرت بشيء وحشي في حركاته ونظراته، وأدركت اضطرابه حين شاهدها مع والدها، ولكنها لم تخشه ولم تنفر منه، بل استسلمت إليه راغبة تلك الليلة؛ ليلة كان والدها في حيفا وأحبته حبا شديدا، ولكن جرجي نفر مما اقترف ولام نفسه، ولم يكلم الفتاة بعدئذ وما نظر قط إليها، فشق ذلك على سارة وراحت تكظم غمها وتستر بليتها، ولما عاد أبوها من حيفا قال له جرجي: لتبق ابنتك في البيت ذلك خير لك ولها، فقبل الجمال نصيحة سيده دون أن يدرك السر فيها، وامتثلت الفتاة أمر أبيها إلى حين، ثم هجرت البيت تهرب من ظل خالتها إلى ظل أشد منه ظلمة وبلاء.
وبعد سنتين هجر جرجي مبارك بيته وآله أيضا، فبينا كان سائرا إلى الناصرة ليزور أخاه الأكبر يوسف أفندي مبارك هناك خطر له في الطريق أن يدخل الدير، وكذلك كان، دخل الدير في السنة التي سافرت سارة إلى سوريا لتبحث عن إيلياس البلان، وفطم جوارحه عن الشهوات، وتاب توبة دينية حقيقية.
ولم تمض عليه سنتان في ذلك الدير حتى أصبح من أسياده المقدمين يهابه إخوانه الرهبان ويكرهونه، كيف لا وهو لا يبالي عند الحقيقة بشعورهم ولا يراعي خواطرهم بشيء؟! نفر مما كان يشاهده في بيته فنفض عنه غباره ودخل الدير، دخل الدير فكشفت له أمور ثارت عليها نفسه وهاجت لها ضغائنه، والقس جبرائيل يأله من يحب ولا يرى فضيلة في من يكره، على أنه كان يبذل الجهد ليكون سيد نفسه قبل أن يصير سيد الناس، وطالما عذبه هذا النزاع بين الشعائر المتناقضة فيه، بل بين معقوله وهواجسه، فقد كان يحب سارة ويكرهها، نسيها بعد أن جنى عليها ولكن أثر الجناية ظل حيا يضرم فيه أحيانا تلك الشعلة الحمراء القديمة، وساعة شاهد الفتاة التي جنى عليها منذ عشر سنوات هم لأول وهلة أن يطردها، ثم حن إليها فؤاده وأدخلها تخدم الدير. وكان يناصرها ويدافع عنها في كل أمر يحدث بينها وبين العمال، وكثيرا ما كانوا ينمون عليها ويغتابونها لأخلاق فيها عالية سودتها عليهم، فنقم الرهبان على سارة وكان القس جبرائيل نصيرها الوحيد بينهم، ولقد حير أمرها كل من عرفها سواه، فمن كان يراها في الفلاة ترعى المواشي كان يشاهد في وجهها كآبة لا تظهر لمن عرفها في الدير وفي المدينة، امرأة منوعة صبورة قنوعة تهضم بؤسها وتكظم أشجانها، وتكلف نفسها البشاشة فتقص القصص العجيبة على رفاقها الفلاحين. هذه سارة بنت الدير، أخت الرهبان، امرأة كئيبة حزينة، في صدرها سر كاد يخنقها وحسرة كادت تودي بها، تجلس على صخرة في الفلاة أو في ظل صفصافة في المرج، فتلقي خدها على يمناها وتتغنى بأهازيج البدو المحزنة. هذه سارة الراعية بنت المروج والجبال.
شكت أمرها إلى الناس فوقعت شكواها على آذان صماء وصادفت قلوبا مستحجرة، فلبست لبؤسها درعا من الصبر براقة، وضحكت مع الضاحكين كي لا يشمتوا بها.
وظلت على هذه الحال سنين، لا يسمع غير الله شكوى قلبها ساعة تختلي بنفسها في الفلاة، قريبة من الدير الذي دفنت فيه سرها الحي، بل من البحر الهادئ - بحر الشفقة والإحسان - الذي غرقت فيه ابنتها. ولطالما وقفت عند شاطئ هذا البحر تسائل الأمواج عن لؤلؤة قلبها فتضحك الأمواج لسؤالها.
على أنها تعرفت يوما بفتاة تخدم في أحد أديرة الأيتام، اسمها مريم، فحن إليها فؤادها وأخذت تتردد إلى ذاك الدير، فتجتمع بها وتحدثها وتمازحها وتقص عليها بعض القصص المضحكة وفيها شيء من سيرة حياتها، ومرة سألتها اسم أبيها فهزت مريم كتفها، وقالت باسمة: تقول الرئيسة إن القديس يوسف أبي، ولي في الدير أخوات كثيرات، وكانت مريم تستأنس بسارة وتحن إليها وتود لو كانت مقيمة معها، وقد قالت لها مرة: «هنيئا لك! تروحين وتجيئين حرة كما تريدين، وأنا محبوسة في هذا الدير.» وسألتها باكية أن تخلصها منه، فاغرورقت عين سارة وراحت تفكر في رفع شكوى مريم إلى القس جبرائيل عله يستطيع أن ينقلها إلى ديره.
صفحة غير معروفة
وبين كانت مرة ترعى المواشي، رآها القسيس جالسة على عادتها في ظل شجرة تردد الأدوار المحزنة وتنتحب، فاقترب منها على حين غفلة وخاطبها قائلا: لماذا تبكين؟ فذعرت سارة وسارعت تمسح دمعها فأعاد سؤاله، ما بالك يا سارة تبكين؟ فأطلعته على بعض سرها، أخبرته أنها في ليلة عيد الصليب منذ أربع عشرة سنة ألقت عند باب دير من أديرة الأيتام ابنتها، وكانت طفلا رضيعا، وأنها لم تزل تذكر أن الدير الذي جاءت إليه هو في آخر البلد في وسط الجبل، وأنها تعرفت هناك بفتاة اسمها مريم وحنت إليها حنو الأم إلى ولدها، وسألته أن يساعدها في البحث عن أصل تلك الفتاة وقصتها، وأن يسعى في نقلها إلى ديره، فامتقع وجه القسيس لهذا الخبر لظنه أن الفتاة ثمرة فعلته، ولكنه طيب نفس سارة ووعدها خيرا.
وبينا كانت الراعية ترعى مواشيها في مكان قصي من البلد بعد هذه المقابلة ببضعة أيام، نامت في أصيل النهار برهة، فلذعتها في رجلها حية سامة، ولم يكن أحد هنالك تستغيث به، وقد حاولت أن تعالج نفسها بيدها؛ فربطت رجلها فوق الجرح بخيط من الشعر وعادت إلى الدير، ولكنها لم تصل إليه إلا بعد أن سرى السم في جسمها، فبعثت تدعو القس جبرائيل إليها فلبى مسرعا، ثم استدعى لها طبيب الدير فأبطأ في مجيئه، ولما وصل وجد أن السم سبق الدواء وأن لا مرد للقضاء، ولما أحست سارة بدنو أجلها أخذت يد القسيس وقبلتها، واستحلفته بالمسيح وبالعذراء أن يقضي حاجتها ويعرفها ويتمم وصيتها: «أرجوك أن تبعث إلى الدير ... تستدعي مريم، أحب أن أراها قبل أن أموت، وهي إذا عرفت بحالتي تحضر حالا.»
فبعث الراهب رسولا إلى الدير يستدعي الفتاة، وبدأ يعرف، سارة أخبرته أثناء الاعتراف قصتها كلها، فاغرورقت عيناه واضطرب فؤاده، وبعد أن جعلها في حل من ذنوبها ركع عند فراشها، فخاطبها قائلا: «وأنا أعترف قدامك يا سارة وقدام الله وأستغفرك قبل موتك، أنا جرجي - جرجي مبارك - دخلت الدير بعد أن جنيت عليك، اصفحي عني اغفري لي.» وأخذ يدها يقبلها فأحست بدموع تتساقط عليها، وأجابته وهي شاخصة بعينها: «ما حقدت عليك مرة ولا شكوتك مرة إلى الله، فلا تنس وصيتي أستحلفك بالمسيح ولا تبح لمريم بالسر، وإذا التقيت بابن البلان قل له: إنني سامحت وصفحت، دخيلك، أنت ابن بلدي، أنت أبي، أنت سيدي، أنت أخي فكن لمريم أبا وأخا أيضا، وخذ هذه الذخيرة أعطها إياها لتحفظها ذكرا مني.» فصعد القسيس الزفرات ثم صلى عند رأسها، وقال وهو يسألها أن تردد كلماته: قولي معي يا بنتي: «من غور الحياة أرفع اللهم صوتي، من وادي الأردن أحمل إليك يا رب وزري، من أعماق الأرض أنظر ضارعا إلى جبال قدسك، وإلى شمس رحمتك وإلى سماء حبك.»
وفي تلك الآونة دخلت مريم البيت، فمدت سارة يدها وجذبت الفتاة إليها فقبلتها، ثم قبلتها وضمتها إلى صدرها كأنها تريد أن تطلعها على ما في قلبها، كأنها تريد أن تسمعها همس الأسرار في نفس الموت، فشهقت شهقتها الأخيرة وشخصت بعينها ووقعت في أنفاسها الخمدة الأبدية.
فردد القسيس: «من أعماق الأرض يا رب أنظر ضارعا إلى شمس رحمتك وإلى سماء حبك.» وجثت مريم عند جثة سارة تبكيها بكاء شديدا، والقس جبرائيل وقد أحس من نفسه وهنا يتأمل الفتاة مضطربا حائرا.
الفصل الثاني
ليس أفضل من معقول يقرن إلى بداهة، ولا أجمل من ورع يقرن إلى هوى، ولكن هذا نادر، والنادر قياس الشعراء الحكماء، أما جمهور الناس، وبينهم اليوم عدد من المتثقفين كبير، فالمعقول عندهم يعجز عن مرافقة أهوائهم، فيضلون السبيل ويظنون الأوهام والسمادير حقائق رائعة. وإن أصحاب الأخلاق الكبيرة والإدراك المحدود من هذه الطبقة لينزعون غالبا إلى تحقير في أعمالهم وأعمال الناس قلما يفيد، بل إلى تزييف فيه تضليل وتغرير، فتلعب إذ ذاك يد التفريق في نزعاتهم وأهوائهم بل في طباعهم وغرائزهم.
العلوم النفسية «بسكولوجي» شغل مفكر الغرب اليوم، فيحلل العواطف ويشرح الأهواء توصلا إلى الحقيقة الكامنة في النشوء، بل إلى السر الكامن في تلك الحقيقة، وهذه الطريقة في العلوم النفسية نشأت عن العلوم المادية وسلكت مسلكها، وقد كان الدين في الشرق سابقا إليها فدعاها الحكماء والمتورعون «محاسبة النفس»، على أن الفرق بين الشرقي والغربي هو أن الأول يحاسب نفسه «الأمارة بالسوء» ليؤدبها فيذلها ويسترقها، والثاني يحلل نزعات النفس ليدرك خيرها فيعززها، ولا مشاحة أن كلتا الطريقتين تولد التردد والتذبذب وتؤدي إلى تشويش فيه ضعف لا إلى معرفة فيها قوة، ولعمري إن من يقتلع شجيرة النفس كل يوم ليراقب نموها لا يفوز بشيء كبير من آمال النفس العالية، والشرقي من هذا القبيل أبلغ حكمة من الغربي؛ لأنه أقرب إلى التوحيد في الحياة، لا وسط عنده في أمياله ولا ظل بين النور والظلمة في نفسه، الناسك عندنا ناسك، والخليع خليع.
والقس جبرائيل من هذا القبيل شرقي صميم، شرعته التوحيد في نزعاته وأمياله وتشوقاته وآماله، وقد كان قصده الأكبر الاهتداء إلى طريق واحدة مستقيمة، تؤدي به إلى محجة واحدة معلومة، فوجد هذه الرهبانية وسلكها عشر سنوات معتصما بمبدأ التوحيد، على أن المنعرجات الزاهرة العاطرة في تلك الطريق، ونار القرى التي تضرمها الحياة في تلك المنعرجات استوقفته مرارا، فمال بوجهه إليها عاطفا شيقا، مال بوجهه فقط ولم يعرج مرة عليها، ولا غرو إذا استوقفته طيبات الأرض؛ فإن الغريزة البشرية لم تزل حية فيه عاملة، وللوراثة حق على الإنسان لا ينكر، ولا يقهر، ولا يحتقر.
ولقد طالما غلت في صدر الراهب مراجل أهواء سكنتها الإرادة ولم تطفئ النار تحتها، نار الحياة من يطفئها غير الله؟ فقد خيل إلى القس جبرائيل مرة أن تلك النار أمست رمادا، ولكنه أدرك الحقيقة حين عادت سارة إلى الدير، فنفخ إذ ذاك الشيطان في الرماد فشعشعت خلالها بقية نار قديمة، فسارع الراهب إلى إطفائها فلم يظفر ببغيته، فاستعاذ منها بالله صابرا متجلدا، ولم يكلم سارة مدة إقامتها في الدير إلا عند اللزوم، وقلما اجتمع بها. ساقتها إليه الأقدار بعد أن طوفت بها في أغوار الشقاء عشر سنوات، فترحب بها وفتح لها باب الدير عملا بواجب مقدس، قربها منه تأديبا لنفسه، أحسن إليها طاقته سرا ليغفر الله ذنبه، ولم يكن في إمكانه أن يعمل عكس ذلك، من العار أن يطردها من الدير، ومن الجبن أن يطردها من نفسه، لذلك كان يقف في طريقه عاطفا شيقا عند تلك المنعرجات الزاهرة العاطرة، فيسكره أريجها ويعبث بنفسه سحر جمالها، فيتأكد إذ ذاك أن لم يزل خلال الرماد وميض نار، تسمل عينيه إذا نظر إليها وتحرق فؤاده إذا اقترب منها، ولما كانت سارة على فراش الموت أحس من نفسه بارتياح استغفر الله عليه مرارا، على أنه بعد أن عرفها وسمع وصيتها واطلع على سر شقائها جاشت في صدره تلك النزعات، فضاعفت الشجون فيه والعذابات. مثل لنفسه امرأة وحيدة تئن في كهف قصي من ألم الولادة وتدفن بعدئذ طفلها هنالك، فترقرقت في عينيه الدموع. فكر بالفتاة الغريبة وبذاك الراهب الأثيم والدها، فراعته أسرار هي في يد الزمان كالعواصف في أيدي الآلهة، كأن الموت أشعل في قارعة الطريق طريقه نارا لا تضاهيها نيران الحياة بشيء، كيف لا وقد ماتت سارة تاركة بين يديه وديعة عزيزة؛ صبية جميلة، واستحلفته أن يحتفظ بها ويبذل الجهد في سبيلها، أن يكون لها أخا شفيقا وأبا حنونا؟ فسمع كلماتها متبرما متألما كأنه يقول: وهل من نهاية لمغبة إثمي؟! آه من تلك الشعلة البشرية التي يضرمها الشباب فترة من الزمن فتملأ الحياة نارا يسد دخانها آفاق النفس إلى الأبد.
صفحة غير معروفة
ولكنه وعد سارة أن يعمل بوصيتها مهما كلف ذلك، وعدا مقدسا، وهو متيقن أن شعلة الحياة بل شعلة الشباب لم تزل تلتهب في فؤاده، كيف لا وهو لم يزل في الخامسة والثلاثين من عمره؟ ولما شاهد مريم وديعته راعه لأول وهلة جمالها.
فتاة فتانة قد يصفها الشاعر بابنة حورية، وقد يخيل إلى السذج أنها ابنة جنية، وكذلك كانت تدعى في الدير، ولا غرو فقد تجسد فيها شيء من حسن الحوريات ومن صفات مليكات الجن اللواتي كانت سارة تقص قصصهن، سمراء، نجلاء، شماء، حسنة القد، دقيقة الجوانب، في وجهها ما يبهت الناظر إليه فيقف حائرا بين الإعجاب والارتياب، وفي ناظريها شيء آبد لا تقيده صبوة ولا يدنيه اشتياق، إذا ابتسمت أزعجت، وإذا تكلمت أدهشت، وإذا سكتت استهوت، ألا فإن في فمها معنى غامضا لا يدرك سره إلا النساء ومن خبر النساء من الرجال، وفي طرفيه حركة كآبة مستحبة تستحيل إذا ابتسمت حركة استهتار منكرة، شفتها القرمزية الشبيهة بثمرة ناضجة تفشي إذا تحركت أسرار جفنها الدقيقة الشبيه بالألف الفارسية، وهي مع ذلك كريمة الأخلاق، وفوق ذلك ذكية الفؤاد، طامحة النفس، واجفة جامحة معا، ولم يكن يشين حسنها غير تحدب في طرفي جبينها، ولكن الزمان وإن والى العنيد يمحي كلمة العناد من جبينه.
وكانت مريم إذا جاش جأشها تنتفخ أوداجها وتختلج شعرات أنفها. لا شك أن «سيماؤهم في وجوههم»، ولا شك أن ظواهر المرء خداعة في أكثر الأحايين، ولكنها في مريم لم تكن غير صادقة، بل كانت بليغة في صدقها فصيحة في تبيانها، فتحول دون التمويه والمصانعة مهما بالغت النفس المتثقفة بالاجتهاد، ولكن نفس هذه الفتاة لم تزل ساذجة صافية ناصعة، ترسل نورها إلى عينها السوداء الكبيرة دون أن ينعكس في عقلها ودون أن يمر بلبها، ثابتة الجأش، جريئة الكلمة، نفورة مستهترة، لا تهاب أحدا، ولا تستحي أن تجهر بما يكنه فؤادها، تنعت من تحب ومن تكره لا بنعوت التفضيل فقط بل بنعوت تضحك وتغيظ، ولقد طالما قاست العذاب من محوضة طباعها وحرية قلبها ولسانها.
رآها القس جبرائيل ساعة توفيت سارة، ولم يكن يعرفها وما أدرك شيئا من معاني نفسها، ثم عاد بها إلى الدير أصيل ذاك النهار، وكانت شمس الربيع قد مالت إلى الغروب، فأحنت على الأرض بأشعتها الهادئة الناعمة؛ فماجت الألوان في الحقول الخضراء، وعلا الاصفرار جبين جبل طابور، وبدت الناصرة ببيوتها البيضاء وسطوح أديرتها الحمراء كجزيرة كونت من اللؤلؤ والمرجان.
وقف القس جبرائيل في ظل زيتونة قرب الدير، ونظر إلى مريم وقد توهجت من البكاء عيناها، فألقى يده على كتفها يلاطفها ويسكن جأشها، ثم سألها قائلا: هل أنت مبسوطة في الدير؟
فأجابته على الفور: لا. - لماذا؟ فسكتت مريم عن الجواب. - أخبريني يا بنتي ولا تخافي، إني عامل ما يرضيك إن شاء الله ويسرك، أيتعبك الشغل في الدير؟ - لا، أدخلوني المدرسة منذ ثلاثة سنوات، ولا أخدم اليوم إلا في غرفة الأكل. - لماذا إذن لا تحبين الدير، أتظلمك الرئيسة؟ - لا، لا، الرئيسة تحبني كثيرا. - أتضربك المعلمة؟ - ضربتني مرة فأخذت القضيب من يدها وكسرته، فركعتني على الحصى أربع ساعات. - لذلك تكرهين الدير؟ - وحبستني في القبو يومين بلا أكل ولا شرب؛ لأني قلت: إنها مثل الجنية تفتش عن مارد لتربطه بمسبحتها، كنت أعتني بغرفتها وبثيابها، فأعرفها. دخلت عليها مرة فرأيت المارد عندها، المارد القس يوسف خادم الدير، يا ربي، يا ربي، القس الذي يأكل جسد الرب كل يوم ولا يشبع رأيته ...
فأظلم جفن القس جبرائيل وقاطعها قائلا: أنت تكرهين المعلمة إذن ولا تكرهين الدير. - بلى، أكره المعلمة والدير. - ولماذا تكرهين الدير؟ أخبريني ولا تخافي، فلا أبوح بذلك.
فرفعت مريم رأسها قائلة: وإذا بحت لا يهم، أنا دائما أقول للراهبات: «إن الدير مثل الحبس.» وقد ضقت فيه صدرا، أحب أن أتفرج في المدينة، أحب أن أتنزه في البرية، هذه أول مرة خرجت من الدير، ولولاك لما آذنت الرئيسة بذلك، هذه أول مرة مشيت في أسواق المدينة، يا عمري! ما أحلاها وما أحلى دكاكينها وما أحلى روائحها، وما أجمل الزهر في الحقول والورد في مصاطب البيوت، هنيئا لأصحابها - قالت هذا وهي تصعد الزفرات. - وهل تكونين مسرورة في الدير إذا أذن لك بتنزيهة كل أسبوع؟ - لا، لا، لا أحب الدير أبدا، أكره روائح الغرف فيه، وأكره روائح الزيت والبخور، وأكره سكوت الراهبات؛ أدخلتني الرئيسة مرة إلى غرفتها فأجلستني إلى جنبها وأخذت تقبلني وتضمني إلى صدرها وهي ساكتة فخفت منها وصرخت، فهمست في أذني كلمات لم أفهمها، وطفقت إذ ذاك تبكي وهي تحجب وجهها بيديها. - وهل أخبرت أحدا غيري؟ - أي شيء؟ - أن الرئيسة تحبك. - أخبرت سارة فقط، ولكن الرئيسة تحب زلفا كما تحبني وزلفا أخبرتنا كلنا. - الرئيسة تحب كل البنات يا بنتي؛ هي أمكن والأم تحب أولادها، فلا يشق عليك إذا أحبت غيرك مثلك. - سامحني اغفر لي! وأخذت يده تقبلها وهي تقول: خلصني من الدير، خلصني من الدير، آه ما أحلى روائح الربيع في البرية، وقد قالت الرئيسة إنها تلبسني ثوب المبتدئات، فقلت لها: الكفن أحسن. الله يرحمك يا سارة، وعدتني منذ أسبوع أن تخلصني من الدير! وشرقت مريم بريقها وهي تمسح بكمها الدموع المتساقطة على خديها.
فأخذ القس جبرائيل يدها، وقد أعجب بنحافتها وأنيق سبكها ولدن أناملها، فقال وهو يرمقها بعين العطف ويكظم غيظه: سأخرجك إن شاء الله من الدير، ليطمئن بالك.
فقبلت مريم يده شاكرة، ودخلت الدير وهي تضطرب مما تجاذب نفسها من الهواجس والعواطف المتضاربة، فكرت بسارة فاغتمت وذرفت الدموع، فكرت بحالها وبقرب خلاصها من الدير فخفق قلبها جذلا وخفت نفسها سرورا، وفكرت بالراهب فمثلته أمامها بنظراته وبصوته وبعطفه وحنانه، فأحست من نفسها بارتياح يمازجه شعور لم تدرك سره ومعناه، لم يخاطبها أحد حتى ذاك اليوم بمثل صوته الناعم غير سارة، ولم ينظر إليها أحد بمثل عينه الرءوفة غير سارة، وأما نظرات الراهب وكلماته فلمست في قلبها وترا جديدا، فتموجت رناته في عروقها فاهتزت لها كل جوارحها، أحست أن في صدرها عصفورا مقيدا، فمد الراهب إليه يده وفك جناحيه، فراحت تلك الساعة تحلم الأحلام، وتمثل لنفسها نعيما ربيعه لا يزول وجماله لا يحول.
صفحة غير معروفة
دخل القس جبرائيل إلى الدير مضطرب النفس فخرج منه يحتدم غيظا، حدث الرئيسة بشأن الفتاة فتأكد أولا أصلها، رآه مسجلا في سجل الأيتام واللقطاء في يوم عيد الصليب سنة 1885، طفل واحد لا غير، ابنة شهر أو أقل، وجدت على باب الدير صباح ذاك اليوم، فعمدت ودعيت: مريم، وهي لم تزل في الدير، هي مريم بعينها، مريم ابنة سارة، ثم أخبرته الرئيسة عن سلوك الفتاة وأطوارها، وقد علمت أنه يريد أن يخرجها من الدير، فقالت: البنت يا محترم نبيهة ذكية، ولكنها عنيدة، وقحة، وعينها شاردة، ولسانها فالت، البنات في الدير لا يحببنها والراهبات يلاطفنها ويبذلن الجهد في إصلاحها، وكثيرا ما يقاسين منها، أما أنا فأعجب بذكائها وأحبها، وقد بذلت جهدي في سبيلها، فأدخلتها المدرسة منذ ثلاث سنوات لما توسمت فيها من الذكاء، وهي الآن تحسن القراءة والكتابة في اللغتين الإفرنسية والعربية وتحسن الإنشاء في اللغتين أيضا، وقد أخبرتني المعلمة أنها آية في الحفظ؛ إذا قرأت أمثولتها مرتين ترويها دون غلط، ويسرني أن أخبرك أنها ابتدأت هذه السنة تصلح سلوكها فوعدتها بثوب المبتدئات.
وأخذت الراهبة تفرك يديها وهي تبتسم ابتسامة الارتياح والرضى. - وهل هي تميل إلى الترهب؟ - الفتاة لا تعرف صالحها، ومن كانت في عمرها لا ينبغي لها أن تسترسل في هوى قلبها، وأنت تعلم يا محترم حالة هؤلاء البائسات اللواتي تقذف بهن الأقدار والمآثم إلى هذا الدير، فإذا عشن دون قيد ودون إرشاد يقعن في ما وقعت به أمهاتهن، فالدير بيتهن، وخلاصهن في الخدمة وفي الانقطاع إلى الله، ومن نستأنس بها النباهة والورع والذكاء نرقيها؛ لذلك أنصح لك أن تترك مريم عندنا. - ولكنها لا تحب الدير ولا تميل إلى الترهب.
فاضطربت الرئيسة وعمدت إلى مسبحتها تلعب بها لتخفي اضطرابها، ثم قالت وصوتها يكشف ما حاولت إخفاءه: يا قس جبرائيل أنت أعلم بهؤلاء البنات مني، فهن لا يعرفن صالحهن، ومريم أكثرهن عماوة وجهلا، ولسانها عدوها الألد، لا ينجو أحد في الدير من شره، تشتم البنات، وتهين الراهبات، وتعير حتى القس يوسف خادم الدير، فقد قالت: إنه تيس مكسورة قرونه. دائما تهين معلمتها وتقول فيها: إنها جنية تفتش عن مارد، لا أعلم من أين تجيئها هذه الألفاظ، ولكن أظن أن فيها شيئا من أخلاق الجنيات، ألا ترى أنها تشبه بنات النور؟! فكيف تكون حالة مثل هذه الفتاة إذا خرجت من الدير؟ اتركها عندنا ولا تتعب رأسك، ليس مثل الدير بيت لتأديب النفس واقتلاع الأشواك منها، والأشواك في نفس مريم كثيرة طالما أدمت أيدينا، وأنت تعلم أننا لا نؤذن لمثلها بالخروج من الدير؛ لأننا مسئولون عنها، وما خرجت من عندنا خادمة إلا وكان أسيادها راضين بها معجبين بسلوكها، ومريم لا تصلح خادمة، أنا أعرفها، وأحبها رغم عنادها وقحتها وتهورها، وأحب أن أصلحها وأرقيها، وطالما جربتني، فصبرت قائلة: من أجل آلامك يا يسوع، فلا تتعب يا قس جبرائيل رأسك بها، اتركها عندي.
فنهض القس جبرائيل عن كرسيه متبرما، وأجابها قائلا: يا حضرة الرئيسة توفيت امرأة صباح اليوم عندنا وأوصتني ساعة نزاعها بمريم، فقبلت الوصية، فصرت مسئولا عنها أكثر منك، سأنظر إذن في أمرها وأخبرك عما قريب إن شاء الله بما أعول عليه وأظنه خيرا لها، نهارك سعيد. - نهارك سعيد ومبارك، صل من شأني ولا تنسني في دعائك. - دعاء الصالحين.
وخرج من الدير كمن يخرج من بيت يحترق، أو كمن يخرج من ردهة التشريح في المستشفى، قلبه كحبة الخردل، ونفسه كليلة كانون. - دعاء الصالحين! دعاء الصالحين؟ وهل في الأرض صالح أو صالحة يا رب؟
وراح يخاطب نفسه ويساجلها فيرفع تارة صوته دون انتباه، وتارة يقف في الطريق؛ ليسمع صوت ضميره. - صحيح، صحيح، صحيح ما يشيعه الناس ، صحيح ما طالما سمعت وكذبت، بنات يولدن بالإثم ويربين في المفاسد، يأكلن خبز الإحسان وقد عجنته يد الحيف السوداء وخبزته يد الخبث الصفراء، نتصدق على الأشقياء والفقراء ونتبجح، نكد أبناء نعمتنا ونرهقهم ونصمهم فوق ذلك وصمة تلصقهم بحضيض الذل حياتهم، هذه المعاهد الفخيمة؛ معاهد الإحسان المتعددة عندنا إنما هي السبب الأكبر في دوام الذل والفقر والشقاء في بلادنا، هي التي تمهد للشاب طريق إثمه، هي التي تنير ظلمات الشقاء للأمهات وللبنات فشيقين، وا أسفاه، بما يرين وما يعلمن! كيف لا وأبواب الأديرة مفتوحة لاقتبال ثمرة ضلالهن وجهلهن؟! بنت تولد في ظلمات المآثم فتربى في ظلمات الخباثة والفساد ليتها لم تولد! بنت ترضع حليب البغض وتأكل خبز المذلة وتحبس في الدير تأديبا لنفسها؛ فتموت النفس من كثرة التأديب ولا يبقى من الشقية غير جسد تعذبه رئيساتها بالقضيب تارة وتارة بالرجاسة، ليتها لم تجبل طينة ذاك الجسد، خير لأبناء الفقر والشقاء والإثم أن تقفل دونهم أبواب الشفقة والإحسان، فيصلحون أنفسهم بأنفسهم أو يموتون ويرتاحون؛ راهب يخطف ابنة من الدير! فتاة تفر هاربة من الأسر والظلم فيفترسها أحد ذئاب الشهوات، دير البنات! هو مسلخ يسرق منه الجائع قطعة من اللحم، خارج الدير ذئاب كاسرة وداخل الدير حيات متورعة، فكيف تنجين أيتها الشقية؟ مريم محقة بشكواها، والرئيسة مصيبة بكلامها، إذا ظلت الفتاة في الدير تشقى، وقد تشقى إذا خرجت منه، ولكن الغريزة التي تستنفر الفتاة من الدير أصدق من الحكمة التي تقضي بأسرها، نعم، نعم، قد يخفي الثوب الأسود عيوبنا ولكنه لا يزيلها، والذين ينظرون إلى الدير كالحبس لا يجب أن يؤسروا فيه، إذا خرجت الفتاة منه وكانت حياتها حياة بؤس وشقاء ففي تحقيق رغبتها الأولى شيء من العدل والتعزية، لا، لا، لا، النفس لا تنمو بالأسر والتشذيب، بل بالتربية والحرية، حرية المرء مقدسة، حريتك يا مريم مقدسة. مسكينة الرئيسة! مسكينة الرئيسة! أتموت النفس جوعا وقد فقدت حريتها؟ أقبلة تحيي وقبلة تميت؟ سكرة النفس تشفي مرض الجسد، فهل تشفي سكرة الجسد مرض النفس؟ الطف اللهم بنا، اغفر اللهم ذنوبنا، ذنوبنا؟ ذنوبنا؟ وهل تكون الأمراض ذنوبا؟ هل يعد الضعف البشري إثما، مسكينة، مسكينة!
وصل إلى الدير فدخل الكنيسة وسجد أمام القربان المقدس ساعة، صلى صلاة المساء ثم طفق يتمشى في الرواق وسبحته في يده. - «أبانا الذي في السموات ... اغفر لنا ذنوبنا، لا تدخلنا في التجارب، نجنا من الشرير أمين.»
ثم دخل حجرته وأشعل شمعة فيها وأخذ كتاب «الاقتداء بالمسيح» وظل يقرأ فيه حتى نصف الليل، ونام عندئذ مطمئن النفس، هادئ البال، كأن لم يحدث ذاك النهار أمر ما خطير، كأن لم يطلع على أسرار تجعل الحياة البشرية لعنة في الأرض، ولكنه حلم حلما مزعجا تلك الليلة سمع فيه صوتا يكلمه قائلا: اترك الفتاة مريم في الدير، خير لك ولها. فاستفاق القس جبرائيل مذعورا ورسم شارة الصليب مستعيذا بالله: «أبانا الذي في السموات ... لا تدخلنا في التجارب، نجنا من الشرير، آمين.» ثم أشعل الشمعة وفتح «الاقتداء بالمسيح» فقرأ بضع صفحات ونفسه مضطربة وفكره متضعضع، فنهض من ساعته ولبس ثوبه وخرج إلى الرواق يصلي صلاة الفجر.
وفي تلك الساعة أشعلت الزهراء مصباحها الذهبي فوق قمة طابور، فلمست أشعته عين المرج النائم في مهد الجبال بين السامرية والجليل، فاستحال اسمرار وجهه اصفرارا عليه غشاء رفيع من نسج الندى والنسيم، وكان ربع القمر قد دنا من البحر وقد احمرت جوانبه فشابه سيفا مخضبا، أو قلامة ظفر محني، أو قطعة بطيخ على طبق من اللازورد، وجبال عجلون وقد نظرت إلى القمر والزهراء قبالها أخذت تخلع سرابيلها السوداء؛ لتستحم بنور الفجر الذي يبدو كذوب الرصاص فيسيل كذوب اللجين فيتدفق كعصير الرمان.
وقف القس جبرائيل في رواق الدير، فأسكره هذا المشهد البهيج وأنساه صلاته، بل حرك لسان النفس فيه فنطقت بصلاة أسمى وأجمل، نظر إلى الحقول حوله فرآها تهتز جذلا، وتتماوج حبا، وتتلألأ على صدرها قبلات الندى. نظر إلى الناصرة على منحدر الجبل تحته فإذا هي نائمة مطمئنة هادئة آمنة، تعطر أحلامها الأزاهر اليقظى في مصاطب البيوت وجنائن الأديرة، وتتهادى حولها أغصان الزيتون يقبلها نسيم الليل، وتداعبها أنامل الصباح.
صفحة غير معروفة
ثم طرقت أذنه أصوات الفجر وقد خرجت من سكينة الليل تشاطر الجبال والمروج أفراحها، في طيقان القناطر فوقه وتحت القرميد يعشش الحسون والسنونو، فسمع حفيف الأجنحة وزقزقة الصغار في أوكارها، خرجت الأم تسعى لصغارها وهي تسبح جذلة طربة، وقرع جرس إحدى الكنائس التي يقدس كاهنها باكرا من أجل الفعلة فيصلون قبل أن يسيروا إلى أشغالهم في الحقول، وفي حارة الإسلام رفع المؤذن صوته الرنان وهو يدور في مأذنته كالشمس في فلكها فتردد الجبال شرقا وغربا صدى كلماته، هيوا على الفلاح، هيوا على الصلاة، وهناك على ذاك السطح رأى شيخا يفرش سجادته ليصلي صلاة الفجر: بسم الله الرحمن الرحيم ... مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم. رآه يسجد سجداته فشاركه القس جبرائيل بصلاته، وعلى سطح آخر أحيطت به مصاطب الحبق والرياحين أناس يشربون القهوة ويدخنون الأركيلة وهم يمزحون ويضحكون، وفي الطريق خارج الناصرة تسمع أصوات القافلة فيردد المكارون الأدوار على رنات أجراس البغال ويضحكون ضحك أبناء الفلوات، وقد خلت قلوبهم من الهموم وملأ نسيم الصباح أنفسهم فزادها سرورا ونشاطا. وفي طريق العين رأى القس جبرائيل امرأة تحمل الجرة على رأسها والسبحة في يدها، خرجت من بيتها باكرة، كما خرجت الحسونة من وكرها؛ تسعى لصغارها.
توهج الفجر فأيقظ الأرض وبنيها، فرددت القوافل والأجراس والمؤذنون والأطيار صدى أصوات التسبيح، بل صدى أصوات تلك النفوس البسيطة الخاشعة الصافية، فهتف الراهب قائلا: ما أجمل هذه الساعة، وما أقدسها! هنيئا لقلوب يسكرها سكوت الفجر وأريجه وأنفاحه وأنواره، ليت الحياة ساعة من ساعات الفجر!
وفي تلك الآونة مرت فتاة تحت رواق الدير مسرعة واجفة، فطرقت أذن الراهب خطواتها ولم يكترث، بل رفع صوته يصلي: «اجعل اللهم حياة البشر هادئة صافية كفجر يومك. ارفع اللهم قلوب البشر إلى جبال قدسك؛ فيجلوها نسيم الحب ويعطرها أريج السلام.»
سمعت الفتاة الصوت فعرفته، فدخلت الدير مسرعة مستبشرة. - «سدد اللهم خطوات المصعدين في جبالك، وطد اللهم مقاصد الشاخصين إلى نجم فجرك، خفف اللهم بؤس البائسين، أنر طريق الضالين، أطلق سراح المأسورين.»
وكانت الفتاة قد صعدت إذ ذاك إلى الرواق، فسارعت إلى القس جبرائيل تقبل يديه وتصرخ: دخيلك، دخيلك، لا ترجعني إلى الدير. - مريم! مريم! ماذا جرى؟ - دخيلك، دخيلك، هربت من الدير، مساء أمس بعد أن تركتني استدعتني الرئيسة إلى غرفتها وضربتني حتى كدت أموت؛ لأنني شكوت مصيبتي إليك. - وكيف خرجت؟ وكيف جئت إلى هنا؟ من دلك؟ - الله خلصني والله دلني، جئت أفتش عنك، فأسمعني الله صوتك ... سمعت صوتك فعرفته، دخيلك ما لي غيرك، لا ترجعني إلى الدير، أموت ولا أرجع. - ليطمئن بالك يا بنتي، سكني روعك، تعالي معي.
ومشى القس جبرائيل قدامها إلى الكنيسة. - ادخلي يا بنتي، صلي ليوفقك الله، وانتظري في الكنيسة إلى أن أعود.
الفصل الثالث
في الحياة قوة خفية تجمع الناس وتفرقهم لغرض غامض قلما يدرك سره، بل في الحياة سحر قد يكون سماويا وقد يكون جهنميا يجذب الأضداد بعضهم إلى بعض ويوقد في قلوبهم شعلة الحب التي توحد بين أكبر القلوب وأصغرها، وأنورها وأظلمها، ليس بين بشرين تناقض أبلغ وأشد مما بين القس جبرائيل وأخيه يوسف أفندي مبارك؛ العضو المسيحي في محكمة الناصرة، والوجيه المقدم في قومه، وهذا التناقض الروحي والعقلي يزول دائما عند المصافحة.
يوسف أفندي في العقد الرابع من العمر طويل القامة قوي الساعد دموي المزاج، جاحظ العين، ضيق الجبين، طلق المحيا، كريم النفس بسيطها، ثلاثة في الحياة تهمه فوق كل شيء وتستهويه، ثلاثة يحذر منها الأنبياء، وينشدها بعض الحكماء، ويتغزل بها الشعراء، ويوسف أفندي لا يحفل كثيرا بما جاء في الكتب المقدسة ولا في دواوين الشعر؛ فهو لا يميل إلى المطالعة ولا يهمه الأدب والأدباء، يشره إلى اللذات لغريزة فيه، ويرغب بطيبات الحياة دون أن يستأثر بها، جليسه أخوه، وضيفه سيده، لطيف المزاج، خفيف الروح، كبير القلب، يقدس الضيافة والألفة ويمجد الوجه الوسيم والمائدة الفخمة، ولا عزيز عنده أعز من قنينة معتقة وصديق «معتق» يشاركه شربها.
على أن انهماكه باللذات واسترساله في الشهوات لا تصده عن القيام بواجباته البيتية والعمومية، فيسعى في سبيل الحق وفي سبيل الناس ما استطاع، وقد امتاز عن زملائه مأموري الحكومة باستقامة ضميره وطهارة ذيله؛ فأحبه الناس لعدله ونزاهته، وأحبه زملاؤه لكرم نفسه وخفة روحه، وما أشبه بيته بناد لإخوانه وأقرانه، بل ما أشبهه بنزل لكل لائذ بعدله وإحسانه، ولا ينكر أن بعض السعاة والوشاة كانوا يقولون: إن بيت يوسف مبارك عش للدسائس وملطأ للمعاثر، على أن المقيم في جواره، النافر من دخان ناره، قد يخطئ الظن إذ يرى الرؤساء؛ دينيين ومدنيين من رهبان وكهان ومأمورين، يؤمون داره؛ حبا بنبيذه المعتق وشغفا بطاولة القمار التي تترأسها زوجته الست هند، أو رغبة في فنجان قهوة فقط من يد إحدى جواريه الرعابيب.
صفحة غير معروفة
ويوسف أفندي يحترم أخاه الراهب احتراما لا غش ولا تكلف فيه، ويرتاح إلى حديثه، ويجنح غالبا إلى رأيه، ولم يكن القس جبرائيل ليرتاب مرة في حبه لأخيه يوسف، ولقد طالما قال في نفسه، بيت أخي مثل ديري، وحبذا كرمه وعدله وإحسانه في سبيل إخواني الرهبان، ولقد أدرك كلا الأخوين شيئا من الحقيقة في نفسه وفي أخيه ولم يدركها كلها، فالسيئات تولد الحب مثل الحسنات، وضعف المرء يزين الضعف في سواه. أجل، فإن المرء يستأنس بنقص في أخيه شبيه بنقص فيه، ناسك يجوع جسده، وخليع يجوع نفسه، فالجوع إذن يجمع الاثنين ويؤلف بينهما.
لما ترك القس جبرائيل مريم في الكنيسة جاء توا إلى بيت أخيه فرآه يدخن الأركيلة ويشرب القهوة في فناء الدار وهو متربع على الديوان لابس فوق قميص النوم عباءة حرير زرقاء، فنهض هاتفا إذ رأى القسيس أخاه: ما شاء الله! ما شاء الله! على غير عادتك يا شيخ، ولكن الرهبان ينهضون باكرا. - صحيح، وينامون نصف النهار، الساعة الثالثة بعد الظهر هي نصف الليل عندنا. - هنيئا لمن ينامون، أنهكني الأرق، حرق ديني، وصفق كفا على كف فحضرت الصانعة. - هاتي جمرة، واعملي أركيلة وقهوة للقس جبرائيل. - لا، لا، لم أقدس بعد. - عجيب أمركم، ألا تشربون الخمر في القداس وتحرقون البخور؟ فالقهوة نوع من الخمر، والتنبك مثل البخور، يسرها، هاتي يا بنت أركيلة وقهوة. - يظهر أن الأرق ينفعك، أفلا ترى أنه يشحذ قريحتك ويجلو نفسك؟ ولعمري إن من يحسن الأسخان ... فقاطعه أخوه قائلا: المصيبة يا شيخ أنك دائما تدور الدورات «ممتطيا صهوة الفصاحة» هذه عبارة عربية تعجبك، سمعتها البارحة ففلقت ذهني وعلقت فيه، انزل إذن عن ظهر الفصاحة واجلس إلى جنبي، فإني والله مشتاق إليك، ما زرتنا منذ شهر، وإذا كنت تريدها بالملعقة فاعلم أن حضورك وليس الأرق يشحذ القريحة ويجلو النفس.
وجاءت إذ ذاك صانعة حسنة الوجه والقد والحركة، تحمل أركيلة عجمية فخمة في مائها ورد وياسمين، فأثبتتها على السجادة وقدمت النربيش ويدها اليسرى على صدرها إلى القسيس، فأخذه باسما وألقى به على الديوان، ثم جاءت صانعة أخرى بفنجان من القهوة في ظرف من الفضة على صينية من النحاس الشامي الثمين، فأخذه القس جبرائيل واستنشق منه قليلا، وقدمه إلى أخيه قائلا: بنكم عاطل جدا. - وعذرك مثل بننا، بالله قل لي، ما الفرق بين الاستنشاق والشرب وبين الشم والذوق، هل الفم لك والأنف لغيرك؟ - ما جئت هذه الساعة أباحثك في علم الفيزيولوجيا، كم خادمة عندكم اليوم؟ - عرضنا كل ما عندنا الآن. - اثنتان فقط. - والطابخة، ولكن تعرف امرأة أخيك فقد تطرد واحدة منهن أو تطردهن كلهن غدا، فهي لا تطيق خادمة عندها أكثر من شهرين والخادمات لا يطقنها يوما واحدا. - أعرف فتاة تعجبك. - لا يفيد، ينبغي أن تعجب الست هند. - وهذا ما أعنيه، تعجبها كثيرا، فتاة ذكية فهيمة خفيفة الحركة نشيطة بارعة، ولكنها عنيدة، وينبغي لكم أن تداروها في أول الأمر، الفتاة عزيزة علي، وقد أوصيت بها وهي لا تحب أن تخدم في الدير، وأحب أن تخدم عندكم لتظل تحت مراقبتي، أوصيك بها خصوصا. - وكم عمرها؟ - ست عشرة سنة. - وهل تحسن الخدمة؟ - كانت تخدم في غرفة المائدة. - وأين هي الآن؟ - عندي، تنتظرني في الكنيسة، سأجيئكم بها بعد القداس.
وهم القس جبرائيل بالانصراف، فمشى أخوه معه حتى الباب ثم قال: وما هذه الإشاعات التي يشيعونها عنك؟ كيف حالك وإخوانك الرهبان؟ سمعت البارح أن رئيس الدير ينوي أن ينقلك إلى لبنان. - لبنان أحسن من الناصرة. - والامرأة سارة التي توفيت البارح، أصحيح ما يقال: إنها ... - هي أم الفتاة التي حدثتك بشأنها. - أم الفتاة؟ أولم تكفك الأم وما أشاعوه عنها وعنك؟ - الله وحده يعرف ما في قلبي، الله وحده يدينني، ولا أسألك أنت يا يوسف غير أمر واحد؛ أن تساعدني في تربية هذه الفتاة، وأن ترمقوها بعين العطف والحنان وتعاملوها بالمعروف، سأجيئكم بها اليوم.
وعندما ودع أخاه كانت الست هند خرجت من غرفتها فرأت الراهب في الباب، فسألت زوجها: ما الغرض من زيارته؟ فأخبرها، فسرت بذلك؛ لأنها تتمكن إذا جاءت الخادمة الجديدة من طرد إحدى الثلاث عندها؛ أي الجميلة فيهن.
الفصل الرابع
مثل الست هند من النساء تدعى عند العرب الأخصائيين: امرأة زنمردة، ولكننا نكتب لأبناء العرب لا لأجدادهم ولجمهور الناس لا للأخصائيين، لذلك نتحرى البساطة في الوصف والتعبير، ولكن اللبيب إذا تدبر هذه اللفظة العبلة الرجراجة وحللها يجد فيها ألفاظا عديدة تدل على ذكاء واضعها وصفات المتصفة بها، كيف لا وفيها: «زنى» و«مرد» و«تمرد» وغير ذلك من مفاتيح أسرارها، ولكننا لا نرمي الست هندا بها؛ لأنها تكبر تارة على بعض معانيها وتارة تصغر عنها، ففي لغتنا وطريقتنا إذن نحاول أن نفيها حقها.
الست هند ربيبة السويداء وعشيرة الرهابين، كأنها أدركت قول الشاعر: «ولكل شيء آفة من جنسه» فراحت تداوي سويداءها بسود الثياب وسود اللحى، وكانت تتدخل في سياسة الأديرة لسد فراغ في وقتها، فتلعب بالرهبان كما تلعب بالقمار، وتدخن الأركيلة عند جثة خصمها كما لو كانت تقرأ في ديوان أحد شعرائها المحبوبين، وهي آية في الحفظ، ترغب بالمطارحة وتحب المكافحة، فترمي جليسها ببيت شعر من صفي الدين الحلي، أو زهير أو الفارض فتصرعه وتحرق فؤاده، ثم تزجر الخادمة وتضربها لإبطائها بكأس ماء أو فنجان كنياك، ولم تكن في الناصرة امرأة تحسن مثلها لعب القمار ورواية الأشعار وسياسة الرهبان وزجر الخدم، والسبب في غوايتها وأدوائها ظاهر بسيط، فقد تزوجت صغيرة، وخبرت الحياة الزوجية صغيرة، وكبرت صغيرة، اجتازت أربع مرات جحيم الولادة قبل أن تجتاز الخامسة والعشرين من سنها، ولم يعش من أولادها غير واحد ربي منعما، فنشأ مخنثا، فشب شقيا، تلقن شيئا من العلوم في كلية من كليات بيروت، فدفنه في مواخيرها وقهاويها قبل أن يعود إلى بيته، وتعرف برجال الشحنة وزار مرة السجن إتماما لدروسه، وكان يدمن الخمرة احتراما لأبيه ويقامر حتى الفجر توقيرا لأمه.
ولقد طالما استلفت القس جبرائيل نظر الأبوين إلى ابنهما عارف وحذرهما من عواقب أمره، فأغفلت الست هند نصيحة سلفها وكرهته؛ لأنه لم يكن مثل سائل الرهبان من عباد محاسنها، فلا يحضر مجلسها ولا يحرق البخور أمامها ولا وراءها، وما الراهب في عينها غير باب فرج للمرأة أو ستر لسوءتها، ومتى كانت المرأة مثلها كريمة المحتد ربيبة المجد ينبغي أن يكون الراهب خادما لها، وإذا كانت جميلة أيضا ففارسا من فوارسها ومجاهدا في سبيلها، ولكن محاسن الست هند ولت باكرا، فلم يبق منها غير سحر في لحظها وخلابة في لسانها، وحركة تغري عند إدبارها.
وكان بيتها صورة مجسمة لنفسها، يضج بالأمتعة الفخمة النافرة بعضها من بعض، ويمثل في كل غرفة منه مأساة كل يوم، فترى الذوق مذبوحا على الديوان، والترتيب مشنوقا في الدار، والاقتصاد مجندلا عند قدمي البذخ والإكثار.
صفحة غير معروفة
تظل الصورة مثلا مائلة أو مقلوبة على الحائط شهرا فلا تستلفت نظر الخادمة إليها ولا تحفل بها، يجد الزائر السكاير مبددة على الدواوين والطوائل والكراسي، فإذا أحب إشعال سيكارة تفتش الخادمة ساعة عن علبة الكبريت، ثم تجيء والفوز يتلألأ في وجهها حاملة بملقط صغير جمرة كبيرة ويدها اليسرى كالصينية تحتها، فتتفتت الجمرة، فتحرق يدها، ثم السجادة ثم الديوان، ثم ثوب الزائر، ولا ينجو من الحريق غير السيكارة السعيدة الطالع. في روض الست هند العاطر يذبل الورد على صدر أمه ويموت، والأواني الصينية الفخمة في بيتها تئن وتتأوه من الأزاهر الاصطناعية فيها. في غرفة الست هند على مغسلة من الجوز فاخرة تزدحم قناني العطر والطيب، وحناجير الأدهان والمعاجين، وعلب المساحيق، والأدوية والزيوت لتحسين البشرة وتطويل الشعر، وليس هناك مقراض أظافر أو فرشاة أسنان.
وهذه أمثلة صغيرة من غرائب هذا البيت وسيدته قبل أن دخلته مريم، ولم يمض عليها شهران فيه حتى تجلت في ترتيب فرشه وغرفه وأمتعته وأوانيه روح أنيقة جديدة، وقد أحدثت فيه ثورة لا بد من تدوينها، وبدعة في غرفة المائدة تستحق الذكر.
دخلت مريم صباح يوم حجرة سيدتها تحمل باقة من الورد، وضعتها في الإناء الذي كان فيه أزاهر اصطناعية، ورفعته تبتهج وتقول: أليس الورد يا معلمتي أحسن من هذا القماش الوسخ؟ فأجابتها الست هند: بلى بلى الحق معك، فسرت مريم باستحسان سيدتها وأقدمت على العمل الذي كانت تفكر فيه، ولقد طالما ثار ثائرها على الزهور الاصطناعية فوجدت في بيت مبارك ما يكفي لإضرام نار الثورة في سبيل عرائس الحقول وربات الرياض، وكانت تأخذ كل يوم طاقة من تلك الطاقات الكبيرة التي تضيع الراهبات في صنعها وقتهن الثمين، وتخبئها في غرفتها وتضع في الإناء مكانها إضمامة من أزاهر الجنينة ورياحينها، ولما خلعت كل تلك العرائس الكاذبة من عروشها جمعتها ذات ليلة على السطح، وسكبت فوقها إبريقا من زيت البترول ودعت الخادمات رفيقاتها إلى الجنازة، ولما حضرن أضرمت في تلك العرمة النار، وأخذت بأيديهن فرقصن حولها ضاحكات، ومريم تصيح مقلدة اليهود الدوارين، خام وشيت ومقصور!
ولم يغظ هذا العمل الست هند مثلما غاظها قول مريم: إن مغسلتها تفتقر إلى فرشاة أسنان. - يقطع عمرك! وأين رأيت أنت فرشاة أسنان؟ - عند الرئيسة في الدير، وهي تنظف أسنانها صباح مساء، يا عمري ما أجمل أسنانها! - أجمل من أسناني يا مريم؟ - أسنانك يا معلمتي صفراء.
فاكفهر وجه الست هند وهمت بضربها، فاستدركت الفتاة قائلة: لا تؤاخذيني ولكن الرئيسة لا تدخن بالأركيلة مثلك، الله يقطع الأراكيل فهي توسخ الأسنان. - اسكتي، وقحة، ثرثارة!
وبعد أيام رأت مريم فرشاة أسنان على مغسلة سيدتها، فضحكت وقالت في نفسها: ما أحلى معلمتي! تشتمني وتقبل نصيحتي.
والحق يقال: إن الست هند تحب مريم سرا وتعجب بها، وتكرهها سرا أيضا وتخشاها؛ لأنها أجمل وأبرع خادمة دخلت بيتها، وكانت إذا أثنى زوجها على الفتاة تسكت أو تغير الحديث. - يا هند ما رأيت زماني مثل هذا الترتيب في البيت.
فنفرت قائلة: وما علمك أنت بالترتيب، لا تدلع الخدم فيظل البيت مرتبا.
فلم يحفل يوسف أفندي بما قالت: وهذه الأزهار، جميلة! جميلة! كأن الجنينة جاءت تشاركنا بيتنا. - وأنت تشارك الكل، هل يجي المطران الليلة؟ - نعم وسيجيء رئيس الدير أيضا، والقائمقام.
وذهب يوسف أفندي إلى محكمته وهو يفكر في الطريق بالفتاة مريم ويمثل لنفسه جمالها وذكاءها وتفننها فيبتسم فؤاده جذلا وإعجابا.
صفحة غير معروفة
أصدرت الست هند في ذات الصباح أوامرها، فجاءت مريم تسأل الطابخة عن العشاء وألوانه فأخبرتها. - والنبيذ؟ - وما غرضك من كل هذا - تتدخلين دائما بما لا يعنيك - روحي إلى شغلك. - دخيلك يا لطيفة أخبريني. - يا لطيف يا ستار! مثل العادة يا بنتي، عرق وسبعلي مر، وقبرصي أصفر، وشمبانيا، خلصيني منك.
فراحت مريم إلى غرفة سيدها فأخذت من مكتبه قلما ودواة، وطلحيتين من الورق الشبيه بالرق الذي يستخدم في المحاكم، واختلت ساعة في حجرتها ولم يدر أحد بما صنعت، وبعد الظهر رتبت المائدة ترتيبا جميلا فوضعت باقة من الورد في إناء على الخوان، وقرنفلتين واحدة حمراء وأخرى بيضاء عند كل صحن، وإلى جنبهما صحيفة مثبة إلى قدح تبدو منه فوطة المائدة كالزنبقة البيضاء، وقد خط في تلك الصحيفة بالخط الكنائسي ما يلي:
قالت الحكماء: «من قل طعامه صح جسمه وصفا قلبه.»
الفاتحة:
سنمورة، قلب أرضي شوكة مكبوس، سلطة بطاطا وبيض، فجل إفرنجي، زيتون شامي، عرق زحلاوي مثلث.
الدور الأول:
شوربة بزلا، سمك مشط بطرطور، بامية خضراء بلحم وأرز مفلفل، نبيذ سبعلي مر.
الدور الثاني:
كبة أرنبية، حجال مقلية ومطرزة بالفطر والبندورة، نبيذ قبرصي أصفر.
الدور الثالث:
صفحة غير معروفة
روستو عجل تشيعه كماة السنة، سلطة هندباء ورشاد، شمبانيا مم.
الخاتمة:
معمول، عيش السرايا، مشمش حموي وخوخ إفرنجي.
ولما جلس الضيوف إلى المائدة أعجبوا بإتقانها وترتيبها، وأدهشت قائمة الطعام حتى الست هند، فقال المطران والقائمة في يده: هذا شيء جديد على المائدة العربية يا يوسف أفندي. - الخادمة الجديدة يا سيدنا تجيئنا كل يوم بأمر عجيب. - وهل هذه اختراعها؟ - علمي والله علمك، اسألها.
فقال القائمقام: لا شك أن الست هندا ... فقاطعته ربة البيت قائلة: لا، وحياتك، لا علم لي بها.
فأوقف المطران مريم وهي تقدم الشوربا وسألها قائلا: هل هذا خطك يا بنتي؟ - نعم يا سيدنا. - ومن علمك كتابة هذه القائمة؟ - رأيت واحدة بالإفرنسية عند الرئيسة في الدير، كانت تحفظها ذكرا لمأدبة حضرتها لما كانت في باريس، فخطر في بالي أن أكتب مثلها في العربية؛ فتعرفون منها في الأقل ما يقدم لكم. - ولكن عادات المطاعم لا يجرى عليها في بيوت الأماجد. - وهذه العبارة، قالت الحكماء؟ - قرأتها في كتاب، والراهبات في الدير دائما يرددنها ويذكرن البنات بها، كنا نجوع إكراما للحكماء. - واليوم أخذت بثأرك منا، ها ها ها! ما رأيت حياتي أذكى من هذه الفتاة، أهنئك يا ست هند بها، وأنصح لكم يا سادة أن تعملوا بقول الحكماء، يظهر من هذه القائمة أن يوسف أفندي يريد بنا شر. - لا إكراه أيها السيد لا في الدين ولا في الطعام. - ولكنا بشر يا ابني وضعفنا رأس مال إبليس. - أنا أستعفي من الدور الثاني. - ألتبرهن لنا يا سعادة القائمقام أنك حكيم؟! لعمري إن الحكماء أضعف البشر وإبليس يزدريهم ولا يحفل بهم. - الدور الثاني أحسن ما في القائمة، هل الحجال صيد اليوم؟ ونظر رئيس الدير إلى الست هند ولاحت في عينه ابتسامة. - وإذا كانت من صيد البارح؟ - عفوا يا ست هند، لا تستثقلي التعنت من راهب معدته عاصية عليه. - وأنت دائما تبرطلها بالمآكل الضخمة. - بل أعاقبها تأديبا لها وانتقاما منها، ليت الراهب يستطيع أن ينزع معدته قبل دخول الدير.
فوضع القدح يوسف أفندي من يده وقال ضاحكا: عندئذ يا محترم تقفل كل الأديرة.
فهتف المطران قائلا: أحسنت أحسنت، دير بلا خمر لا يكون، ورئيس بلا كرش ينافي كل معقول ومنقول. - سيادتك ناقم على الرهبان. - لأن خمرهم في هذه الأيام عاطل ومعدهم فاسدة.
فقال يوسف أفندي: ليت المعدة وحدها فاسدة، ها ها ها قدمي السمك إلى الرئيس يا مريم، يقول الأطباء: إن السمك أسهل المآكل هضما وأكثرها غذاء، وهذه السمكات كانت صباح اليوم في البحيرة تسبح الله، اعطف على «السبعلية» أمامك يا سعادة القائمقام فقد حرم النبي الخمر ولم يحرم النبيذ، عصير العنب كعصير التفاح أو الرمان. - صحيح، وقد أدرك ذلك أسلافنا الأمويون. - وأسيادنا الأتراك يحذون حذوهم. - رجل في الجامع وأخرى في الحانة، هذه روح العصر أليس ذلك يا سعادة البك؟ - نعم يا ست هند، ومن رأيي أن قليلا من الخمر يفيد الإسلام، ينهض بالمسلمين من خمولهم.
فقال رب البيت وقد أفرغ كأسه وملأها للمرة الثالثة أو الرابعة: والكثير منه ينصرهم على أعدائهم، الحماسة سر النجاح والخمرة تضرم في النفس نار الحماسة، للخمرة وحدها فضل على الأوروبيين عظيم، الخمرة أم الحرية.
صفحة غير معروفة
فقال المطران يغير الحديث: هذا الحجال «المطرزة» من أفخر وألذ ما طبخ، فأجابه يوسف أفندي وهو يحدج مريم بعينه الجاحظة: في «التطريز» يا سيدنا لذة غريبة.
فقال سيادته يغير الحديث ثانية: وكيف حال عارف؟ - لم يزل «يطرز» في بيروت.
فابتسم المطران وأمعن القائمقام في الضحك، أما رئيس الدير فلم يسمع النكتة؛ لأنه كان يحدث الست هند بصوت خافت في موضوع ظهر من إصغائها إليه أنه يهمها جدا. - وهل أتم عارف دروسه؟ - تممها قبل أن يدخل المدرسة، الغلام يا سيدنا سر أبيه، وهو قريبا يعود إلينا غانما ظافرا إن شاء الله، يا ظريفة هاتي الشمبانيا.
فسارعت الخادمة إلى الدلو في الصهريج تلبي الطلب، وكان يوسف أفندي قد اخترع طريقة لتبريد الشمبانيا تقوم مقام الثلج إذا نفد، وفي الناصرة كما في باريس ولندرا قطعة الثلج تعد من الأعلاق، فاستغنى يوسف أفندي عنها بحبل ودلو وصهريج. - لا أنكر أن هذه العروس أجمل على المائدة إذا تسربلت بالثلج والفضة فلا يبدو منها غير فمها الذهبي، ولكننا في الناصرة يا سادة، وسرابيل العروس تعيق في مثل هذه الساعة.
ثم فتح يوسف أفندي القنينة بلياقة نادرة كأنه خدم عشرين سنة في نزل باريسي شهير، فطارت الفلينة وسقطت على رأس المطران، فضحكت الست هند وقالت: ستربح الليلة يا سيدنا. - لا يربح من يلعب معك يا ست هند.
فقال القائمقام: ولكن حضرة الرئيس يدحض قول سيادتكم، فهو دائما من الرابحين.
فنظرت الست هند إلى الراهب كأنها تتلو عليه بلحظها بيتا من الشعر.
فقال يوسف أفندي: كل ربح على طاولة القمار خسارة، أما الربح الحقيقي، الربح الحقيقي عندك سيدنا؛ الربح الحقيقي في البر والتقوى وال ...
وكانت مريم تقدم إذ ذاك الثمر فأوقفها قربه يتعلل بالاختيار، فأخذ خوخة واحدة بيده وأخرى من خدها بنظره، وهو يقابل في نفسه بين لون شفتيها ولون الثمر، والست هند تراقبه سرا، وتظهر لرئيس الدير أنها صاغية لحديثه. - ما أجمل لون هذه الثمرة، بالله يا هند أن تروي لنا بيتا من الشعر فيه ذكر خوخ الخدود.
فقالت الست هند على الفور وهي تنقر الطاولة بأناملها: «ألا خدد الله ورد الخدود»، وسكتت.
صفحة غير معروفة
فهتف زوجها قائلا دون أن يدرك معنى الشاعر: أحسنت أحسنت! ولكن الخوخ أحسن، وبالأخص إذا كان لونه كلون الورد.
وقال المطران: الشاعر يا ست هند يدعو على كل ما تشتهيه نفسه ولا تناله.
فأجابته على الفور: عسى أن تنال نفسك كل ما تشتهيه فتدعو للناس ولا تدعو عليهم - تفضلوا.
ونهضت فنهض الكل وخرجوا إلى فناء الدار، فراح يوسف أفندي يحلج بين القائمقام والمطران ويمازحهما ضاحكا، والراهب وزوجته يتخافتان ويتهامسان. - إشاعات، إشاعات. - ولكن القرائن تدل على صحتها، فقد أحب القس جبرائيل أم الفتاة حبا شديدا عجيبا شاع أمره في الدير وفي البلد، وقد وصته عند موتها بابنتها مريم، مريم من الأسرة المباركة يا ست هند. - هس، لا تفضحنا، متى يصدر أمر الرئيس العام بنقله إلى لبنان؟ - لا أدري، في إمكانك أنت أن تعجلي ذلك، ثم وقف عند الباب يستعطفها ويضغط على يدها. - لا، لا، لا تجئ غدا ولا بعد غد، الإثنين القادم بعد القداس، فتبع الرئيس الست هندا وهو يفرك يديه مستبشرا مطمئنا. - ها ها ها! هذا يا سيدنا من أغرب ما سمعت، ولكن هندا لا تصدق هذه الأخبار؛ لأنها محبة ومخلصة لزوجها، وهي تظن كل النساء مثلها.
فسمعت زوجته الجملة الأخيرة، فقالت ضاحكة: مثلي أنا؟ لا سمح الله. وجاءت إذ ذاك مريم بصينية من الفضة كبيرة في وسطها قنينتان من المشروب الإفرنجي، الواحد أخضر اللون والثاني ذهبي تحيط بهما أقداح صغيرة دقيقة مستطيلة شبيهة بزهر الزنبق، وإلى جنب كل قدح فنجان من القهوة في ظرف فضي مخرم جميل، فمشت الست هند مع الخادمة تسكب لكل ضيف اختياره. - أمشروب النعنع سيدنا أم «البندكتين»؟ - لا أحب ما يصنعه الرهبان في هذه الأيام.
فملأت قدحا من السيال الأخضر وقدمته إليه، فتناوله منها باليمنى وأخذ يدها بيسراه فقبلها قائلا: يد الكريمات أحرى بالتقبيل من أيدينا.
فقالت الست هند ضاحكة: قبلتك تجلب السعد، سأخسرك الليلة فلسك الأخير. وأنت يا محترم، أمشروب الرهبان تريد؟ - لا يا ست هند، من لطمك على خدك الأيمن ... ونحن نقتفي أثر سيادته مهما بالغ بالتقريع.
فأجابته على الفور: خباثة منك هذه، أنت تحب النعنع وتكره «البندكتين». - برافو برافو. - وأنت يا سعادة القائمقام. - اعفيني من الأخضر والأصفر واسمحي لي بفنجان من القهوة، ثم سكبت لنفسها كأسا ورفعته قائلة: وأنا أشرب «البندكتين» استميح من سيادتكم عذرا؛ لأنني أحب الرهبان.
فقال المطران: ونحن نحب ما تحبين يا ست هند. - سبق السيف العذل.
جاءت عندئذ ظريفة بالأراكيل، فوضعتها بإشارة من سيدتها في الغرفة المجاورة لردهة الاستقبال؛ أي غرفة القمار، وبعد أن شرب السادة القهوة امتثلوا أمرها ودخلوا يلبون دعوة «البوكر»، فجلس رئيس الدير إلى يمين الست هند والقائمقام إلى شمالها والمطران أمامها، فعدت الحجارة وأعطت منها بمائتي غرش إلى كل من الجلوس، وافتتحت الجلسة بغاية الرصانة والخشوع وكأنها تفتتح بالصلاة اجتماع «أخوات مريم» في الكنيسة.
صفحة غير معروفة
وظل يوسف أفندي في الدار يدخن بأركيلته إلى أن سقط النربيش من يده فاستلقى على الديوان متخدرا من الخمر.
أما الخادمات فبعد أن تناولن عشاءهن وتممن شغلهن اجتمعن في غرفة قرب المطبخ، وكانت مريم قد أشعلت فيها سراجا وافتتحن جلستهن.
ومن أسرار نشأة مريم التي لا ندركها تعلمها لعب «البوكر»، فهل تعلمت يا ترى من مجرد ترددها إلى صاعة اللعب، فاختلست مثائلها وهي تدور على الجلوس بالقهوة والمشروب؟ أم هل علمها سيدها؟ لا نعلم ولكننا نؤكد أنها علمت رفيقاتها تلك اللعبة وكن يجتمعن سرا فيجلسن على الحصير، وتترأس مريم جلسة «البلف» برصانة تفوق رصانة سيدتها «بالفة» المأمورين والرهابين، وكانت تستخدم الفول بدل شظى العاج الرسمية، فتعد لكل من رفيقاتها بمقدار عشرة غروش وتضع المال تحت الوسادة وتوزع الورق قائلة: الفتحة بخمس فولات، ومحدودة. - ثلاث فولات. - فوقك خمس فولات. - جئت. - وأنا جئت، ورقك. - جوزان بالاس. - ثلاث صبيان. - ثلاث بنات. - وليكن معلوما من تأكل فولاتها تخسر فلوسها. ••• - اضبط لعبك يا سيدنا، كم ورقة أخذت؟ - اثنتين. - طيب، وفوقك مجيدي. - وفوقك مجيديان. - وثلاثة مجيديات. - وهذه الليرة. - لست ممن يهربون، ورقك؟
فأظهر المطران ورقه ضاحكا.
فقالت الست هند، غير «بلفتك» صرنا نعرفها، ورمت ثلاثة صبيان على الطاولة وخلطت الورق وما تبقى بيدها. - آمري لنا بالقهوة إذن!
فصفقت الست هند ثم صفقت فلم يلبها أحد، فصاحت، يا مريم يا ظريفة يا لطيفة، يقطع عمر الخدم!
ونهضت غضبة ناقمة فجاءت المطبخ فلقته خاليا، فسارت إلى الغرفة المجاورة له فرأت فيها نورا، فوقفت في الباب تسترق السمع، فإذا بمريم تقول: هذا آخر دور اجعلوا الدخول نصف بشلك عشر فولات، ففتحت الباب وصاحت بهن صيحة ألقت الرعبة في قلوبهن، ولكن مريم تشجعت فقالت تدافع عن نفسها ورفيقاتها: أنت يا سيدتي قلت لي أن أقتدي بالأكبر مني، وقد سمعتك مرارا ترددين هذا البيت:
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه ... ... - يقطع الله عمرك! سدي فمك! وقحة، ثرثارة، وأخذتها بأذنها وصفعتها على خديها وقذالها، وراحت تلعن الساعة التي دخلت فيها هذه الفتاة البيت، ومرت في الدار فسمعت زوجها يغط فأيقظته بعنف قائلة: قم غط في غرفتك.
فاستفاق يوسف أفندي من حلم جميل ونهض عن الديوان وخرج إلى السطح يستنشق الهواء، وبين هو واقف هناك مرت مريم في طريقها إلى المطبخ فأوقفها سيدها بيده وحدق نظره بها دون أن يكلمها ثم جذبها إليه وطفق يقبلها.
صفحة غير معروفة
وقضت مريم تلك الليلة تبكي وتفكر بالقس جبرائيل الذي لم يزرها منذ شهرين.
الفصل الخامس
أما القس جبرائيل فقد كان في هذه المدة بسوريا يتفقد شئون الرهبان هناك، ويبحث عن دير يقيم فيه قبل أن يصدر الرئيس العام أمره بنقله إلى لبنان، والقس جبرائيل لا يعطي الباغي مراده فيه، سئم الإقامة بالناصرة بين إخوان اعتزلوا الله لا العالم يتنازعون السيادة ويتألبون بعضهم على بعض، سلاحهم النميمة، والحسد حشو ثيابهم، فوطن النفس على هجر ديرهم، فقد أشاعوا عنه الإشاعات الكاذبة فسمعها تردد حوله ولم يفه إباء بكلمة حق أو كلمة باطل، ودسوا الدسائس ساعين به واشين فلم يحرك ساكنا عليهم، ورموه بالفحشاء فلم يحفل بهم، وقد طالما قال في نفسه: الكبير فيهم لا يكبر علي بغير ذنوبه ومآثمه، البعد أولى وأجمل.
ولكن الحالة في سوريا ليست أحسن مما هي في فلسطين، فبين هو هناك بدت له أمور كادت تزعزع إيمانه، واجتمع في أحد أديرة لبنان بالقس بولس عمون فاستطلعه أخبار إخوانه، فقال: حالتنا يرثى لها، فقد أمسى الدير ملطأ للمعاثر، وعشا للمفاسد، وسوقا للمكسب والارتزاق، فلا طريقة اليوم لمن يريد الانقطاع عن العالم غير طريقة النسك؛ النسك في البرية، ولعمري إن النوتي خير من راهب هذا الزمان. - والانضمام إلى البحرية خير الترهب لا شك، الطف اللهم بنا.
وأمعن الراهبان في الحديث وكل منهما مسترسل إلى الآخر مسرور بالاستزادة. - ولا أظنكم تنوون البقاء هنا. - كلا ثم كلا، سأسافر عما قريب إلى القاهرة لأدرس اللغة العربية في إحدى المدارس هناك. - وهل حضرتكم من أسرة عمون اللبنانية؟ - لا، أنا من فسلطين. - من أي ناحية؟ - من السامرية.
فأطرق القس جبرائيل مفكرا وبدا في وجه القس بولس شيء من الاضطراب، كان ندم على ما قال فقام من ساعته يعتذر إلى الزائر متعللا بالصلاة.
وبعد أيام عاد القس جبرائيل إلى الناصرة وهو حائر في أمر الراهب الذي جمعته به التقادير، فخاطب نفسه مرارا يقول: بيت عمون من السامرية، مستحيل، مستحيل، لا أذكر أن في السامرية أحد يدعى عمون، ولم لم أسأله عن إيلياس البلان يا ترى؟! إيلياس البلان، خطر في بالي أن أسأله فنسيت الاسم، ولا بد أن أجتمع به ثانية، غريب، غريب.
وما كاد يصل إلى الناصرة حتى أخذت تتراجع في أذنه صدى الوشايات والدسائس وقد تضاعفت في غيابه وازدادت خبثا وشرا، فصرفت باله عن تلك الصدفة وكادت تنسيه إياها، وفي اليوم الثاني جاء يزور أخاه ويتفقد حال مريم.
سنة وبضعة أشهر ولت، ومريم تخدم في بيت مبارك فتزداد نفورا رغما عما كانت تقاسيه، كرهت سيدتها وقرفت سيدها وهمت مرة بالفرار تخلصا من توحش الاثنين، ولكنها تمالكت نفسها قائلة: الأحسن أن أنتظر إلى أن يرجع القس جبرائيل، وكانت مريم تزداد تلعقا بالراهب حين تشاهده، فتود أن يظل قربها ليحميها من تصوراتها وأوهامها، تحبه وتحترمه وتخشاه، إذا حضر تقف قدامه كالنعجة بين يدي الراعي، وإذا غاب تشيعه بدموعها وتتبعه بأفكارها، وكانت تشعر أحيانا أنها كالعصفور قدام الأفعى، ومع ذلك لم تكن توده بعيدا عنها، وشد ما كان فرحها لما رأته قادما إليها بعد غياب شهرين، قبلت يده ضاحكة فأحس القس جبرائيل بدمعة سقطت على زنده، بكت فرحا وبكت حزنا، شكت إليه أمرها فطيب خاطرها ووعدها خيرا: قريبا أنقل إلى لبنان يا بنتي فآخذك معي ليطمئن بالك. - لا تطل غيابك هذه المرة، دخيلك، أحب أن أراك كل يوم. - سأزورك مرة كل أسبوع أو مرتين إن استطعت. - ألا يؤذن لي أن أزورك في الدير؟ - لا لا، إياك أن تفعلي ذلك، ابق في شغلك إلى أن يجيء يوم السفر فتسافرين معي.
ولكن سيطول أمر تلك الهجرة وقد يزول؛ لأن القس جبرائيل أدرك بعد أيام أن يد امرأة «مباركة» تشتغل في إهلاكه. - من بيت أبي ضربت، امرأة أخي تسعى لنقلي، تناصر الرئيس وزمرته علي، لا بأس، لا بأس، ولكن مصرع الباغي ذميم سيسافر الرئيس إلى لبنان وسيبقى القس جبرائيل مبارك في هذا الدير، ورجله على رأس الحية الرقطاء.
صفحة غير معروفة