حصل هذا الاختلاف فبايع عمر أبا بكر ثم بايعه الناس، وكان في هذا مخالفة لركن الشورى، ولذلك قال عمر إنها غلطة وقى الله المسلمين شرها. وكذلك كانت غلطة بيعة أبي بكر لعمر، وإن كان قد استشار كبار الصحابة في ذلك فبعضهم حمده، وبعضهم خاف من شدته، فقال أبو بكر إنه يراني ألين فيشتد.
قال ابن خلدون: «سببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها، وينطبع فيها من خير أو شر، قال
صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» وبسبب ما سبق إليها من أحد الخلقين يبتعد عن الآخر ويصب اكتسابه، فصاحب الخير إن سبقت إلى نفسه عوائد الخير، وحصلت له ملكته بعد عن الشر، وصعب عليه طريقه، وكذا صاحب الشر إذا سبقت إليه أيضا عوائده. وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ، وعوائد الترف والإقبال على الدنيا، والعكوف على شهواتهم قد تلونت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم، وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري لا في الترف، ولا في شيء من الشهوات واللذات ودواعيها، وما يحصل فيهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير، فهم أقرب إلى الفطرة الأولى، وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها، فيسهل علاجهم عن علاج الحضر، فلما جاء الأمويون أبطلوا هذا الركن الأساسي، ووضعوا مبدأ الاستبداد، فلما جاء العباسيون أسس الخلفاء سلطتهم على العظمة الشخصية فعل الأكاسرة، وبذلك انهار مبدأ الشورى.»
على كل حال كان توفيقا من الله بيعة أبي بكر؛ فقد كان صادقا مخلصا حازما، وكان موفقا في عدم قبوله السكوت عن العرب الذين لم يشاءوا دفع الزكاة؛ إذ لو فعل مع نصيحة عمر له بالإغضاء لتمادوا في البعد عن الإسلام شيئا فشيئا، ولذلك صمم أبو بكر على حرب العرب الذين منعوا الزكاة، وسميت هذه حروب الردة، وهي ليست ردة بالمعنى الفقهي المتعارف؛ فلم يرتد العرب إلى الشرك، بل اعترفوا بالوحدانية وبرسالة النبي، وإنما لم يشاءوا أن يدفعوا الزكاة؛ لأنهم عدوها ضريبة تشعر بإذلالهم، خصوصا وأن بعض عمال الزكاة كانوا يجبونها في شيء من القسوة، ومن جهة أخرى حقد بعض الزعماء على رسول الله؛ إذ رأوه قد نجح في الدعوة الإسلامية، فظنوا أنهم يستطيعون أن يفعلوا ما فعل فادعوا النبوة، وادعوا أنه أوحي إليهم بدين جديد ينهى عن الوثنية، وفي أول خلافة أبي بكر واجه كما قلنا عن الخلاف على الخلافة كما واجه ارتداد البدو، فجرد أبو بكر نفسه للقضاء على هذه الخلافات، ودحر دعاة الردة، وأعانه على ذلك يده المنفذة خالد بن الوليد، فثار بنو حنيفة في اليمامة، ثم ثار غيرهم في غيرها.
وكانت قبيلة أسد وغطفان تنزلان قريبا من المدينة، وانتهزوا فرصة هياج جزيرة العرب، وذهاب جيش المسلمين لمحاربة الروم ، وارتدوا أيضا، وهجموا على المدينة، فوجه أبو بكر إليهم من يصدهم، واستمر في الدفاع نحو شهرين حتى رجع أسامة بجنوده من غزو الروم، فعهد إذ ذاك إلى خالد بن الوليد بحربهم، فهزموا واضطروا إلى الاستسلام في الحال، ثم كان من المرتدين أيضا من بلاد البحرين وعمان، وهي المنطقة الساحلية التي تمتد على طول الخليج الفارسي، وكانت عاصمتها هجر، فسار خالد إليها، وأخضع أهلها بعد مقاومة طويلة عنيفة، ثم انتقل إلى عمان، ومعظم أهلها من صيادي السمك وقرصان البحر، فأخضعهم عكرمة، ثم سار عكرمة من عمان إلى حضرموت واليمن، فأطفأ عكرمة نارها بعد حروب طويلة، وهكذا استطاع أبو بكر أن يخضع جزيرة العرب كلها، ويقضي على ثورة المرتدين.
ثم جاء بعده عمر، وكان لونا آخر من ألوان البطولة فكان قويا عادلا مهيبا، ينال من نفسه ومن أولاده ومن الناس. والمسلمون يتصورون عمر رجلا طويل القامة، ضخم الجسم، مهيب الطلعة، عادلا حتى في نفسه وولده، بيده هراوة يضرب بها أهله، ومن خرج من المسلمين عن جادة الصواب في قليل أو كثير، وكان من أكثر ما عمله إخضاع الفرس، وإزالة دولتهم، فكان من أهم الوقائع وقعة القادسية، وهي بلدة غربي النجف، وعلى مسافة ثمانية عشر ميلا ونصف من الكوفة، وكانت وقعة حاسمة خاضها القائد المشهور المثنى بن حارثة، وقد قتل في المعركة فخلفه سعد بن أبي وقاص، كذلك تم فتح الشام والجزيرة وفلسطين ومصر على يده، وليست قيمة عمر الكبرى في فتح هذه البلاد، ولكن في وضع نظمها السياسية، والمدنية، والاجتماعية، خصوصا وأنه لم ينشأ من قوم متمدينين، حتى إن أكثر الفقهاء يعتمدون في تشريعهم الاجتماعي على التقاليد التي سنها عمر عند فتحه الفتوح.
ولما حضرت عمر بن الخطاب الوفاة عهد كما قيل إلى ستة يختار منهم خليفة، وهم: صهر النبي
صلى الله عليه وسلم
علي، وعثمان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وكان ينبغي أن يختاروا أكفأهم، ولو اختير علي أو الزبير بن العوام لتغير وجه التاريخ، ولكنهم اختاروا ألينهم، ناظرين في اختياره إلى أن العرب كانوا قد سئموا حكم عمر في شدته وهراوته، وقد سار عثمان فعلا في السنين الست الأولى سيرة عادلة رحيمة، ولكنه في الست الأخيرة كانت قد كبرت سنه، وخضع لأقاربه من الأمويين، فترك تصريف الأمور لرئيسهم مروان بن الحكم الأموي، وهذا عين جميع الأمراء الرئيسيين من الأمويين، فأغضب ذلك كثيرا من الصحابة، وخصوصا عليا والزبير وطلحة وغيرهم، فأرادوا أول الأمر أن يحرروا الخلافة من هذه السلطنة، فنصحوا عثمان بالاعتزال فأبى، ولم تمض إلا فترة قصيرة حتى كان عثمان في المدينة وليس معه إلا نفر قليل من الأصدقاء، وكان من أكبر الشخصيات البارزة في محاربته وتأليبه الناس عليه عائشة بنت أبي بكر، واستطاع خصومه جميعا أن يثيروا الأمصار عليه، واجتمع أهل المدينة حول بيته، ورفضوا أن يتزحزحوا عنه، وثار المصريون أيضا لما علموا أن كتابا كتب باسم عثمان إلى عامله عبد الله بن أبي سرح يأمره فيه بالفتك بالزعماء عند عودتهم. وأخيرا تقدم رجل من المصريين فقتله، وطالب الثائرون بتسلم القاتل فلم يجابوا، وبويع بعده علي بن أبي طالب، وقام بطلب الثأر، وتسلم القتلة معاوية بن أبي سفيان، ووقع النزاع بينه وبين علي، واختار معاوية دمشق مركزا، وكان العرب من قديم يعرفون هذه البلاد وقد تعودوا الطاعة والخضوع للأمير والملك، وكان جيش معاوية أنظم وأطوع من جيش علي الذي كان أكثره عربا لا يلتزمون طاعة ولا يؤمنون بنظام، وأخيرا وبعد وقائع كثيرة هزم علي ثم قتل، واستتب الأمر لمعاوية.
وهنا نقف وقفة عند مقتل عثمان، فقد كان حادثة مروعة حقا، مؤثرة في حياة المسلمين فيما بعد أكبر تأثير، وقد توقع بعيدو النظر السوء في المستقبل من هذه الحادثة، وأكثر فيها الشعراء، قال حسان بن ثابت:
صفحة غير معروفة