مقدمة
يوم الإسلام
مقدمة
يوم الإسلام
يوم الإسلام
يوم الإسلام
تأليف
أحمد أمين
مقدمة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
صفحة غير معروفة
كان في نيتي أن أسير في سلسلة فجر الإسلام وضحاه وظهره، وكان تقديري أن يكون ظهر الإسلام حول خمسة أجزاء؛ أي أربعة على ما ظهر منه إلى اليوم، ثم أسير فيه عصرا فعصرا إلى اليوم. ولكن شاء القدر أن يحول بيني وبين تلك النية، فقد أصبت في نظري بما جعل الأطباء يحرمون علي كثرة القراءة وخصوصا في الليل، والاستعانة بالغير لا تكفي؛ لأني كنت أستطيع أن أتصفح الكتاب الكبير في ساعات، فأقف منه على ما يلزمني وما لا يلزمني. أما قراءة الغير فلا تجزي هذا الأجزاء. لذلك وقفت عن العمل في تلك السلسلة، وجعلت أؤلف كتبا، إما أن تكون قد ألفت من قبل ولا تحتاج إلا إلى صقل وترتيب، وإما مبنية على مطالعات سابقة، مما ادخر في الذهن على توالي الأيام.
من هذا الأخير هذا الكتاب. أردت فيه أن أبين أصول الإسلام وما حدث له من أحداث، أفادته أحيانا، وأضرته أحيانا. وأبين فيه كيف كان يعامل غيره من أهل الأديان أيام عزه وسطوته، وكيف يعامله غيره أيام ضعفه ومحنته. فكان من ذلك هذا الكتاب. اعتمدت فيه أكثر ما يكون على معلوماتي السابقة، وقليلا منه على قراءاتي الحاضرة، وترددت في تسميته، هل أسميه «الإسلام ماضيه وحاضره»، أو أسميه «الجزء الثاني من فجر الإسلام»؟ ولكن منعني من هذه التسمية الأخيرة أن الإسلام اقتصر على الحياة العقلية للمسلمين في العهد الأول، وهذا الكتاب يشتمل على عهده كله إلى اليوم.
وأخيرا اقترح علي أن أسميه اسما يتناسب مع فجر الإسلام وضحاه، ففكرت طويلا، ثم سميته «يوم الإسلام»؛ لاشتماله على الإسلام: أصوله وعوارضه في عصوره المختلفة إلى اليوم. وأهم غرض منه شيئان؛ الأول: أن نتبين منه الإسلام في جوهره وأصوله، وكيف كان، والثاني: أن كثيرا من زعماء المسلمين أتعبوا أنفسهم في بيان أسباب ضعف المسلمين؛ فرأيت أن خير وسيلة لمعرفة أسباب هذا الضعف الرجوع إلى التاريخ؛ فهو الذي يبين لنا ما حدث مما سبب ضعفه، وبذلك نضع أيدينا على الأسباب الحقيقية؛ حتى يمكن من يريد الإصلاح أن يعرف كيف يصلح. والله المسئول أن ينفع به كما نفع بسابقه.
أحمد أمين
القاهرة في 4 فبراير سنة 1952
يوم الإسلام
كان مرور نحو 570 سنة على المسيح كافيا لفساد العقيدة النصرانية، كما حدث للإسلام فيما بعد، وكما حدث للديانة الزرادشتية والبوذية فيما قبل؛ ذلك أن عقيدة الألوهية المجردة عن المادة والأجسام عقيدة صعبة المنال لا يدركها إلا خاصة الخاصة، وإن أدركوها فسرعان ما ينسونها ويميلون إلى الوثنية المألوفة الموروثة؛ لهذا أفسد العرب دين أبيهم إبراهيم وملئوا الكعبة بالأصنام. وأفسد اليهود دين موسى فاتخذوا عجلا جسدا له خوار إلها لهم، وقالوا لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وهكذا. فالألوهية المجردة والاستمرار على اعتقادها شاقة عسيرة. وقيل «إن الإنسان ميال دائما إلى التجسيد» لهذا فسد الدين في كل أمة من الأمم، واحتاجت إلى نبي جديد.
فإذا نظرنا إلى مصر رأينا الديانة النصرانية فيها كانت قد تعفنت تحت سلطنة الدولة الرومانية، قال بعضهم: «لقد أكرهت مصر على انتحال النصرانية، ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه إلا الفتح العربي، وكان البؤس والشقاء مما كانت تعانيه مصر التي كانت مسرحا للاختلافات الدينية الكثيرة في هذا الزمن، وكان أهل مصر يقتتلون بفعل تلك الاختلافات، وكانت مصر التي أكلتها الانقسامات الدينية وأنهكها استبداد الحكام؛ تحقد أشد الحقد على سادتها الروم، وتنتظر ساعة تحررها من براثن القراصنة الظالمين.» ويقول بتلر في كتابه «فتح العرب لمصر»: «فالحق أن أمور الدين في القرن السابع كانت في مصر أكبر خطرا عند الناس من أمور السياسة؛ فلم تكن أمور الحكم هي التي قامت عليها الأحزاب، واختلف بعضهم عن بعض فيها، بل كان كل الخلاف على أمور العقائد والديانة، ولم يكن نظر الناس إلى الدين على أنه المعين الذي يستمد منه الناس ما يعينهم على العمل، بل كان الدين في نظرهم هو الاعتقاد المجرد في أصول معينة. وكان الروم يجبون على النفوس جزية وضرائب أخرى كثيرة العدد. ومما لا شك فيه أن ضرائب الروم كانت فوق الطاقة، وكانت تجري بين الناس على غير عدل.»
ويقول آخر: «لم تكن المسيحية في يوم من الأيام من التفصيل ومعالجة الإنسان بحيث تقوم عليه حضارة أو تسير في ضوئه دولة، ولكن كان فيها أثارة من تعاليم المسيح وعليها مسحة من دين التوحيد البسيط، فجاء «بولس» فطمس نورها، وطعمها بخرافات الجاهلية التي انتقل منها، والوثنية التي نشأ عليها، وقضى قسطنطين على البقية الباقية حتى أصبحت النصرانية مزيجا من الخرافات اليونانية والوثنية الرومية، والأفلاطونية المصرية، واضمحلت في جنب الرهبانية التعاليم المسيحية، وعادت أليافا جافة من معتقدات لا تغذي الروح، ولا تمد العقل، ولا تشعل العاطفة، ولا تحل معضلات الحياة، ولا تنير السبيل، وأصبحت على تعاقب العصور ديانة وثنية، وأسرف المسيحيون في عبادة القديسين والصور المسيحية حتى فاقوا في ذلك الوثنيين.»
ولم تكن فارس على عقيدتها الزرادشتية والبوذية بأحسن حالا، فكان الملوك يتزوجون بناتهم وأخواتهم حتى يزدجرد الثاني جنى على بنته ثم قتلها، وبهرام جوبين كان متزوجا بأخته، وكانت فارس مسرحا لمذهب ماني الزاهد المتنسك، ومزدك الإباحي المتهتك.
صفحة غير معروفة
وكذلك كان الشأن في الهند؛ فكانوا يؤمنون بتفاوت الطبقات، فبيوت أرستقراطية عالية يراها الناس فوق مستواهم، وبيوت دون ذلك، ومن التصق بحرفة لم يبح له أن يخرج عنها، ومن التصق بنسب لزمه. وهكذا شأن الهنود والصينيين يغلب عليهم عناصر ثلاثة، وهي: الوثنية المتطرفة، والشهوة الجنسية الجامحة، ونظام الطبقات.
والعرب في الجاهلية غرقوا في عبادة الأوثان. وكان الدين - كما يدل عليه شعرهم - شيئا سطحيا غير متغلغل في أعماق صدورهم، فقدسوا الحجارة والغدران. ومن آثار ذلك بئر زمزم والحجر الأسود، وكانوا لا يمجدون آلهتهم ... كما تدل عليه حادثة امرئ القيس؛ إذ مر على مكان يقال له ذو الخلصة، وكان به صنم فاستقسم عنه بقداحه، وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربص وأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي أيضا، ثم أجالها فخرج الناهي؛ فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم. واعتقدوا أن في الأشياء المادية من جبل وريح أرواحا تعبد كما تعبد الأصنام؛ فعبدوا الكواكب من شمس وقمر. واشتهر من أوثانهم العزى واللات ومناة، وكان اسم عبد العزى كثير الشيوع بينهم، ومع ذلك كانوا يعتقدون في هذه الأحجار أنها دون الله، وأنهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى. وامتلأ بالأصنام حتى جاء محمد
صلى الله عليه وسلم
بالإسلام فأمر بكسرها. •••
جاء الإسلام وعماده شيئان: القرآن والسنة؛ فأما القرآن فأتى بتعاليم مخالفة لتعاليم الجاهلية. والقرآن ينقسم قسمين: مكي ومدني، وأساليبه متنوعة بين شدة ولين، وترغيب وترهيب، ووعد ووعيد؛ مسايرة للسيرة النبوية، وموافقة لحال المسلمين والمشركين في أوقات نزول الآيات. والآيات المكية نراها تتجه اتجاها قويا نحو الدعوة إلى عبادة إله واحد هو رب العالمين، وبيده ملكوت كل شيء، ونحو الدعوة إلى الإيمان بيوم الحساب ومكافاة الخير بالخير والشر بالشر، والاستدلال على الله بآثاره في العالم، وتقرير أن الأصنام عاجزة كل العجز عن أن تعمل عملا في الكون، فهي لا تستطيع أن تجلب الخير لنفسها فكيف لغيرها؟! والآيات الأولى آيات قصيرة لها رنين قوي تدعو إلى الله، وتقسم بالليل والنهار، والسماء والأرض، والشمس، والأماكن المقدسة، والوالد وما ولد، والنفس وما سواها؛ إشعارا بعظمة الله خالقها.
وقد سالم المشركون محمدا أول الأمر، ثم ناصبوه العداء ورموه بالكذب والجنون، فنزلت آيات القرآن شديدة على الكافرين، متوعدة أشد الوعيد، مصورة لكبريائهم صورة هزؤ وسخرية، وهو إلى ذلك يوضح في قوة ما سيناله الكافرون من عذاب أليم، وما سيناله المؤمنون من نعيم مقيم. ولبث القرآن في العهد المكي يحاج المخالفين ويقص العبرة من سيرة الأولين بعد المدة الأولى من العهد المكي، في فواصل أطول وأسلوب أهدأ. وفي هذا العهد نزلت قصة الإسراء وكثير من قصص الأنبياء، ويشير القرآن في أكثر من موضع إلى أن إبراهيم أبو العرب، ومنبع الإسلام، ومصدر شعائر الحج، ولكن في هذا العهد لم يجادل القرآن اليهود ولا النصارى إلا قليلا لقلة اليهود الذين كانوا بمكة ومسالمة النصارى.
فلما هاجر النبي إلى المدينة كان الشأن فيها غير الشأن في مكة، فأكثر سكان المدينة - من الأوس والخزرج - فشا فيهم الإسلام وآمنوا به إيمانا صادقا، على العكس من أهل مكة الذين لم يسلم منهم إلا القليل. واستراح الأنصار - من الأوس والخزرج - مما كان بينهم من حروب ومحن، واستراح المهاجرون المسلمون مما كان يؤذيهم به صناديد قريش في دارهم، وكان المدنيون أكثر ثقافة بالكتب المنزلة لما كان بينهم من يهود، وكان هذا من الأسباب التي دعتهم أن يتقبلوا دعوة النبي، ويفهموا النبوة ومراميها أكثر مما تفهم قريش. وكان بجانب هؤلاء المسلمين من الأنصار والمهاجرين قبائل يهودية لهم مزايا العرب في الحروب والقتال، ولكنهم - كشأن اليهود عامة - شديدو المحافظة على تقاليدهم وأوضاعهم وشعائرهم؛ فأبوا أن يتركوا شيئا من ذلك، وأبوا إلا الإصرار على دينهم وشعائرهم، وناصبوا النبي العداء. وأخذ الخلاف يشتد بينهم وبين المسلمين كلما تقدم الزمان وحدثت الأحداث، وأخذت نغمة القرآن في خصومهم تشتد بجانب ذلك.
وبجانب هؤلاء وهؤلاء كان قوم من الخزرج حقدوا على الإسلام، إما لأن الإسلام أفقدهم رياستهم الدنيوية، وإما لأنهم أتباع هؤلاء اليهود أو نحو ذلك. ولكن التيار العام - تيار المسلمين - جرفهم معه فتظاهروا بالإسلام وأبطنوا الكفر؛ فسموا بالمنافقين، وحمل عليهم القرآن حملة شديدة كحملته على اليهود. وكان يرد دسائسهم ومكرهم، وينقض مؤامراتهم. وفي هذا العهد كان القرآن يخاطب المسلمين:
يا أيها الذين آمنوا ، بينما كان الخطاب في عهد مكة:
يا أيها الناس ، ولما كان القتال بين المسلمين في المدينة والمشركين في مكة، وبين المسلمين في المدينة واليهود فيها، كانت الآيات المدنية مبينة قوانين الجهاد، ومسجلة لأحداث الغزو، فآيات في غزوة بدر، وآيات في غزوة أحد، وآيات في غزوة الأحزاب ... إلخ. وهي كلها شديدة شدة الحرب حتى إذا تم فتح مكة نزلت سورة:
صفحة غير معروفة
إذا جاء نصر الله والفتح ، ويغلب على الأسلوب في الآيات المدنية الطول مع التزام الفواصل ومع الهدوء الذي ينسجم مع التشريع. وليست الآيات وحدها هي التي تطول بل تطول السور كذلك؛ ولذلك سميت بعض السور السبع الطوال. وفي القرآن سور أدبية رائعة من جمال تشبيه، وجمال أمثال، وجمال استعارة، وجمال حجاج.
وأما السنة فهي أهم مصدر بعد القرآن. وقد تجرأ قوم فأنكروها، واكتفوا بالعمل بالقرآن وحده، وهذا خطأ؛ ففي السنة تفسير كثير من النبي
صلى الله عليه وسلم
للقرآن، فقد كان يجيب على أسئلة الصحابة فيما غمض عليهم، ويبين لهم ما اشتبه عليهم، وفيها تاريخ الإسلام، وتاريخ أعمال الصحابة، وطريقة تنفيذهم لأحكام القرآن، وكيفية عملهم بها. فمن الحديث نعلم كيف عمل الرسول وأصحابه بالقرآن، وكيف نجحوا في تأسيس حكومة مدنية على مبادئ الإسلام، وفي الحديث أخبار الرسول وأصحابه ووقائعهم إلى غير ذلك.
وقسم من الأحاديث أخلاقي تهذيبي، يحتوي على الحكم والآداب والنصائح مثل: مدح الصدق والعدل والإحسان، وذم الكذب والظلم والفسق والفساد. وقسم يشتمل على أصول العقائد المذكورة في القرآن مثل: التوحيد، والصفات الإلهية، والرسالة، والبعث، وجزاء الأعمال.
وقسم آخر يشمل على أحكام، وقد اشترطوا في أحاديث الأحكام صحتها. وهناك فرق بين السنة والحديث؛ فالحديث كل واقعة نسبت للنبي
صلى الله عليه وسلم
ولو كان فعلها مرة واحدة، ولو رواها عنه شخص واحد، وأما السنة أصحابه والتابعون. وتدوين كتب الحديث بمنزلة تسجيل التاريخ لهذا العمل المتواتر. والسنة مشتقة من معنى العادة والطريقة المستمرة كما قال الله - تعالى:
سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ، وقوله:
فقد مضت سنت الأولين ، وقوله:
صفحة غير معروفة
فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ، والمسلمون اقتبسوا هذه الكلمة من القرآن، واستعملوها للدلالة على سنة النبي وأصحابه.
وقد جرت العادة أن يرسل رسول الله من يعلم أهل البلاد القرآن والسنة. وكان الصحابة يكتبون هذه الأحاديث ويحفظونها؛ لأنهم كانوا يهتمون بكل ما يقوله النبي ويفعله. ومن الصحابة من كان يكثر كتابة الحديث كابن عمر وأبي هريرة، وبعضهم يقل إما لقلة حفظهم أو لاشتغالهم بأعمالهم. وروي عن أبي هريرة أنه قال: ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمر؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب. وكان الرسول ينهى عن كتابة الأحاديث أحيانا خشية أن يخلط الحديث بالقرآن، والدين بعد غض جديد. وكثرت كتابة الحديث بعد وفاة رسول الله؛ لأن الذاكرة وحدها لا تكفي للمحافظة على الحديث. وقد بدئ جمع الحديث في حياة الرسول ثم كثر ذلك بعده خصوصا من أمثال أبي هريرة، فقد كان قوي الذاكرة، حاضر البديهة، يكاد يلازم المسجد، وكالسيدة عائشة؛ فإنها كانت من حفظة الحديث عن زوجها. وكان لها ذاكرة واعية، معنية بالتدقيق، لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه. وكعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس.
وكان المسلمون يرجعون في مسائلهم إلى القرآن والحديث، وبذلك ظهرت أهمية أحاديث الرسول. فقد كان يسأل الصحابة عند اجتماعهم هل عند أحد حديث في هذه المسألة، وكذلك سار التابعون. حتى كان الخلفاء أنفسهم يهتمون بجمع الحديث والحث على تدوينه. فقد أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن حزم بقوله: «انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء. ولا تقبل إلا حديث النبي، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا.»
ثم بدئ في أواسط القرن الثاني من الهجرة في وضع مجاميع للسنة، وفي قصد الطلاب إلى تعلم الحديث، كما فعل الإمام مالك في المدينة، وعبد الله بن وهب في مصر، وسفيان الثوري في الكوفة، وعبد الله بن مبارك بخراسان.
وفي هذا الحين ألف الموطأ وأمثاله. وفي القرن الثالث الهجري تم جمع الحديث. وقد عني الجامعون بالسند. فلم يذكروا حديثا إلا بسنده. وقد كثر الحديث في ذلك العهد حتى أن مسند أحمد بن حنبل يحتوي على نحو ثلاثين ألف حديث. وقد توفي سنة 241ه. وكذلك فعل البخاري ومسلم. وقد عرفت كتبهما بالصحيحين. وكان المحدثون لا يصححون الحديث إلا إذا صح سنده. ولكن مع الأسف دخل في الحديث بعض الإسرائيليات، وبعض ما كان يرويه القصاص من غير تدقيق.
ومن المؤسف أيضا أن العلماء عنوا بنقد السند أكثر مما عنوا بنقد المتن. وقد وضعت قواعد للتحقق من صحة الحديث، فقالوا مثلا إنه يحكم بضعف الحديث إذا تعارض مع واقعة تاريخية معروفة، أو إذا كان الراوي من الشيعة والحديث يطعن في أحد الصحابة، أو كان من الخوارج والحديث يطعن في أهل البيت، أو كان الحديث مرويا عن واحد فقط، أو كان الحديث يخالف مبادئ القرآن وتعاليمه، أو كان الحديث يتضمن عقوبة شديدة لشيء تافه، أو نحو ذلك.
والأحاديث المجموعة مختلفة في أسمائها، فمنها المتواتر، وهو: ما رواه جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب في كل قرن من القرون. ومنها الآحاد. وقد قسموا الأحاديث إلى ثلاثة أقسام؛ مشهور: وهو ما رواه آحاد في القرن الأول، ثم ذاع بعد ذلك ورواه عدد كبير في القرن الثاني والثالث. وحديث عزيز: وهو ما لم يرو عن أقل من طريقين، وحديث غريب: وهو ما كان في سلسلة سنده شخص واحد.
وقد جد المسلمون جدا عجيبا في جمع الحديث وترتيبه وتبويبه. ولم يألوا جهدا في الرحلات إلى أقصى البلاد لجمعه، ولم يقصروا في الاستفادة منه فيما يعرض لهم من أحكام.
أهم ركن للإسلام
وقد أثبت الدكتور ماكس موللر مكتشف اللغة السنسكريتية أن الناس كانوا في أقدم عهودهم على التوحيد الخالص، وأن الوثنية عرضت عليهم بفعل رؤسائهم الدينيين بغيا بينهم، وهذا يخالف عقيدة النشوء والارتقاء التي تدعي أن الناس عبدوا الأصنام أولا وعددوها، ثم لم يصلوا إلى التوحيد إلا أخيرا، وأن الوحدانية ارتقاء لنشوء الوثنية.
صفحة غير معروفة
وعقيدة الوحدانية عقيدة صعبة لا يستطيعها إلا المجاهدون الراقبون. وكثيرا ما ينحدر الناس عنها إلى شيء من الوثنية، ولذلك حارب الإسلام الوثنية في شتى مظاهرها من عبادة آباء، أو عبادة أشجار وأحجار، أو عبادة أوثان، أو عبادة أموات وأضرحة، ومع هذا كله فقد ظلت الوحدانية صعبة إلا على من هدى الله.
وعقيدة الوحدانية هذه هي أرقى ما وصلت إليه الإنسانية، ولكن تحقيقها كما قلنا عسير؛ فهي تتطلب منهم اعتقاد أن الله وحده هو الذي يستحق العبادة؛
إياك نعبد وإياك نستعين ، وأن ما عداه لا يصح أن يؤله، ولكن الناس على توالي العصور ألهوا غير الله؛ فمنهم من أله الأشجار والأحجار، ومنهم من أله الأضرحة والأولياء، ومنهم من أله الملوك والخلفاء، ومنهم من أله المال والجاه غافلين عن حقيقة الدين، غافلين عن حقيقة الوحدانية. ولكن مع الأسف كانت صعوبة الإيمان بإله واحد من عالم الغيب سببا في فتح الباب للعقول الضعيفة في العصور المختلفة؛ فآمنت بالسحر والطلسمات وكثير من الخرافات، والعقيدة الصحيحة تقتضي صاحبها نسبة السلطة لله وحده، والقدرة لله وحده. ومن قديم حارب عمر بن الخطاب الذين بدءوا يعودون إلى الوثنية، فقطع الشجرة التي كان عندها بيعة الرضوان لما رأى الناس يتمسحون بها ويعتقدون فيها. وقال للحجر الأسود: لولا أني رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقبلك ما قبلتك، وتلاه ابن تيمية وأتباعه في إزالة الأضرحة ومشاهد القبور، وظل العلماء والمخلصون على هذا المنوال يحاربون كل نوع من أنواع الوثنية في العصور المختلفة، إلى الشيخ محمد عبده حديثا ومحمد بن عبد الوهاب وأتباعه قبله.
وعقيدة الوحدانية في الإسلام ليست مجرد نظرية فلسفية ميتافيزيقية كما يعتقد كثير من الغربيين؛ إذ يعتقدون أن الله خلق العالم ثم عرج إلى السماء ولا شأن له به، بل يعتقد المسلمون أن الله يعمل في العالم دائما فكل ما يصير وكل ما يتجدد من عمله المستمر:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ، والمسلم لا يكون متدينا إذا لم ينسب إليه كل عمل من الأعمال، وحياة الإنسان وعلاقته بربه تستلزم عند المسلم الاستعانة بالله دائما؛ لأنه هو الذي يغير الظروف التي حوله دائما بما يسره ويسوءه ويحرك قلوب الناس بما يسرها وما يسوءها. والدين في نظر الإسلام ليس مسألة شخصية، ولا مسألة فردية، وإنما هو مسألة شخصية واجتماعية.
والعلاقة بين الإنسان ومخلوقات الله علاقة متينة، فكلها من خلق رب العالمين: فبين الإنسان وبين هذه المخلوقات وحدة نسب بربها إذ هو خالقها وخالقه، والعلاقة بين الإنسان وهذه الطبيعة علاقة صداقة، يتحبب إليها لتفشي إليه بسرها. وهي أيضا دلالة على وجود الله وعظمته:
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت ، والقوانين الطبيعية في نظر الإسلام تسيطر على العالم بكافة مظاهره، وتؤلف سلسلة متصلة ومستمرة في العلاقات التي توافق الواحدة منها الأخرى وتوائمها.
فحيث نجد طفلا لا سن له، نجد لبنا نرضعه فإذا نمت السن كان اللحم وما إليه، وينمو التطور في الوقت نفسه من عدم الكمال إلى الكمال نفسه. وما القوانين سوى «سلطات تنفيذية» ذات إرادة، لها هدف مقصود، ومن ثم فهي تعمل لحفظ النظام وصيانته. وتمثل القوانين كذلك الإرادة المحققة.
صفحة غير معروفة
والطبيعة هي ما تسمى الخليقة، لأن الطبيعة نشأت عن قوانين سبق إعدادها من قبل. والطبيعة حادثة مؤقتة منذ خلقها ووجودها، وكلها تخضع لإرادة الله:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ، والقوانين الطبيعية هي بعض ما يدعى «الملائكة» وهي المبادئ التنفيذية لهذا العالم، والسلطات التنفيذة التي بواسطتها تتحقق المشيئة السببية.
وامتثال أوامر الطبيعة هو امتثال وخضوع للمشيئة التي تسبب القوانين، وهو ما يدعى الدين، أو الإسلام، أي الخضوع والامتثال لله.
وهذا الخضوع والامتثال هو المبدأ العالمي الحق. وبهذا وحده توجد الخلقية، ويبرر الوجود، وخالق الكون، ومالك المشيئة السببية هو ما يدعى الله؛ فهو الذي خلق المشروعات ودبر الخطط وأثر فيها، وتسبيحها هو خضوعها للقوانين التي بثها الله فيها.
وكان رسول الله يقبل المولود الجديد، ويقول «إنه حديث عهد بربه.»
ولما هاجر إلى المدينة على ناقته أراد بعضهم على أبواب المدينة أن يبرك الناقة عنده، فقال لهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم «دعوها فإنها مأمورة» وفي القرآن الكريم:
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون .
والله يستطيع أن ينفذ القوانين الطبيعية، وأن يقف عملها:
قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، وهو بصفته الخالق لا حدود لقوته وهو ليس بحادث أو مخلوق، ولما كانت أفكارنا المقصورة على الماديات والمحسوسات لا يمكن أن تتطور إلا على أساس من التجارب الطبيعية والمظاهر الطبيعية؛ فليس في استطاعتنا أن نحيط بمعرفة الله وإدراكه تمام الإدراك، وإنه من الغباء قطعا إثارة مناقشة حول الله نفسه، وإنما نحن نعرف فقط شيئا عن مشيئته وإرادته ووجوده، نعرف ذلك كله عن طريق القوانين الطبيعية، وكلما ازدادت معرفتنا بالقوانين الطبيعية ازددنا معرفة بمشيئته وإرادته أي بالله نفسه.
صفحة غير معروفة
وتمثل الطبيعة غير العضوية أقل خطوات التطور الطبيعي، ويمثل الإنسان أوسع تلك الخطوات. وتتدرج الأشياء في الكمال من جماد إلى نبات إلى حيوان إلى إنسان. •••
ويلي عقيدة الوحدانية الإيمان برسالة محمد والنبيين من قبله:
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ،
يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ،
قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار ،
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي ،
ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ،
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ،
وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ،
قل ما كنت بدعا من الرسل ،
صفحة غير معروفة
إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين ،
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين .
وهذه الرسالة مؤيدة بشهادة عيسى:
وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ، ولهذا كانت دعامتا الإسلام هما قول «لا إله إلا الله محمد رسول الله.» •••
ويلي هاتين العقيدة باليوم الآخر:
إن إلى ربك الرجعى ،
إنه هو يبدئ ويعيد ،
ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون ،
وإلى الله المصير ،
هو يحيي ويميت وإليه ترجعون ،
صفحة غير معروفة
أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون .
وكان لهذه العقيدة في اليوم الآخر سلطان كبير على عقول الناس، وردع للمجرمين عن إجرامهم، وتشجيع للمحسنين على إحسانهم، ومراقبة الله سرا وعلنا، ومحاسبة الضمير على كل عمل، والخوف من النار في الآخرة، وزادت هذه الحالة عند بعض الناس؛ فغلبوا جانب الخوف كالحسن البصري الإمام الكبير، فيحكون عنه أنه كان يرى دائما كأنه عائد من جنازة، وكان كثير التخويف بالنار وعذابها، وكذلك الغزالي ومن تبعه بالغوا في الترهيب حتى خلعوا قلوب الناس، وكان الصوفية أعدل في حكمهم لسلطنة شعور الحب عليهم فكانت رابعة العدوية تقول:
أحبك حبين حب الهوى
وحبا لأنك أهل لذاكا
والقرآن الكريم سلك طريقا وسطا بين الترغيب والترهيب. وقد دعا المسلمين إلى الإيمان باليوم الآخر تيقنهم من أن كثيرا من أعمال الخير في الدنيا لا ينال صاحبها عليها ثوابا، وكثيرا من أعمال الشر لا ينال صاحبها عليها عقابا، والعدل يقتضي أن يثاب المحسن ويعاقب المسيء، وليس هذا - كما يقول الشيوعيون - ناتجا من سوء النظام؛ فكل نظام اجتماعي لا يخلو من ظلم اجتماعي في الدنيا كما يقول الشيوعيون وأصحاب النشوء والارتقاء. •••
ثم يلي ما تقدم الإيمان بكتب الله الأخرى وملائكته ورسله:
لا نفرق بين أحد من رسله ، ولم يكن في العقائد الأخرى تسامح وإقرار بالنبيين الآخرين كالذي قرره القرآن من الاعتقاد بالله ورسله وكتبه، فيرى الإسلام أن كثيرا من الكتب الدينية كالتوراة والإنجيل لم تحفظ كما نزلت، وإنما دخل عليها التغيير والتبديل، كما يرى الإسلام أن كل أمة بعث فيها رسول:
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ،
منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ، وأن القرآن آخر هذه الكتب، وأن محمدا آخر الرسل:
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده
صفحة غير معروفة
الآية. •••
كما يجب الاعتقاد بأن لله ملائكة، ولسنا نعلم من أمرهم كثيرا إلا أنهم مخلوقات روحية منهم الموكلون بالعرش يحفظونه، ومنهم رسل الله إلى أنبيائه.
ومن الأسف أن كان لعقيدة الملائكة والشيطان في الإسلام أثر كبير خطير، وخصوصا في الشياطين وما زادوا فيها من أوهام.
ويتصل بهذا عقيدة الإسلام في القضاء والقدر، والتوكل على الله، قال تعالى في القضاء والقدر:
وكل شيء فعلوه في الزبر * وكل صغير وكبير مستطر ،
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجل ،
قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ،
قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ،
لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ،
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ،
صفحة غير معروفة
لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ،
وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ،
وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ،
إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا ،
إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ،
عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول ،
وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ،
من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ،
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين .
وفي التوكل على الله جاء:
صفحة غير معروفة
ومن يتوكل على الله فهو حسبه ،
وتوكل على العزيز الرحيم ،
الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون ،
وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا .
وقد كانت عقيدة القضاء والقدر والتوكل سليمة في عهد الرسول وكبار الصحابة؛ فكانت لا تمنعهم من غزو وحرب وفتوح بلدان وتغلب على أمم، وقد فهموها فهما لا يمنع من الأخذ بالأسباب كما جاء في الحديث: «اعقلها وتوكل.»
فكانوا يؤمنون بارتباط الأسباب بمسبباتها؛ فالماء يروي والنار تحرق، وفي القرآن:
قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، وفيه مئات من الآيات تدل على ارتباط الأسباب بالمسببات حتى جاء الأشاعرة فلم يربطوا بين الأسباب ومسبباتها، فلا تأثير عندهم للماء في الري، ولا للنار في الإحراق، قالوا وإنما المؤثر هو الله - تعالى - عند حدوث الأسباب لا بها. وقالوا بتكفير من اعتقد أن الله - تعالى - أودع قوة الري في الماء، وقوة الإحراق في النار، وإنما الإيمان والاعتقاد بأن الري جاء من جانب المبدأ الفياض بلا واسطة وصادف مجيئه شرب الماء من غير أن يكون للماء دخل في ذلك، وبذلك فكوا الأسباب عن مسبباتها فكان لهذا من الأثر البالغ ما جعل المسلمين فيما بعد يبالغون في عقيدة القضاء والقدر، ويربطون الحوادث بالخرافات والأوهام لا بالأسباب والمسببات؛ فالزرع إنما ينجح بالقدر ويفسد بالقدر، لا بما أثبته العلم وما يجره الإهمال. وهكذا أصبحت عقيدة القضاء فيما بعد صادة عن العمل ...
وفرق كبير بين العقيدة في القضاء والقدر وبين الجبر، فالقضاء والقدر الصحيحان يؤمنان بربط الأسباب بمسبباتها، ويحملان صاحبهما على العمل، ثم لتكن النتيجة بعد ما تكون، وعلى هذه العقيدة كان أكبر الشجعان الفاتحين من أمثال خالد بن الوليد وتيمورلنك والإسكندر ونحوهم، لا يهابون الموت؛ اعتمادا على أن ما قدر يكون. أما الجبر فيرى الإنسان كالريشة في مهب الريح، وما قدر لا بد أن يكون عمل الإنسان أو لم يعمل، تشجع أو لم يتشجع، وهذه العقيدة على هذا النحو دخيلة على الإسلام مما جعل كثيرا من الأوروبيين يجعلون من عيوب الإسلام العقيدة في القضاء والقدر، والتوكل على الله، ولو أنصفوا لعدوها بحالتها الحاضرة من عيوب المسلمين لا من عيوب الإسلام. •••
وخطا الإسلام في الرق خطوة واسعة؛ فهو لم يجزه إلا لمن يؤسر في حرب شرعية، أما اختطاف الولدان والبنات بشن الغارات على القبائل واتخاذهم عبيدا فعمل جاهلي لم يجزه الإسلام، وقد سوى الإسلام بين ذوي الألوان المختلفة سودا وبيضا؛ فقال الرسول: «ليس لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى أو بعمل صالح.» وقرر للأرقاء الحقوق التي للأحرار، بل جعل للرقيق مزايا ليست للأحرار بإعفاء الأرقاء من نصف العقوبات التي يحكم بها على الأحرار، وجعل العتق واجبا في كفارة اليمين، وكفارة الفطر في رمضان إلى غير ذلك، وأوجب على المسلمين حسن معاملة الأرقاء، قال
صلى الله عليه وسلم «اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، فما أحببتم فأمسكوا، وما كرهتم فبيعوا، فإن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم» وسأله رجل: كم أعفو عن الخادم؟ فصمت رسول الله
صفحة غير معروفة
صلى الله عليه وسلم
ثم قال: «اعف عنه في كل يوم سبعين مرة»، وضرب رجل من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عبدا له، فجعل العبد يقول: أسألك بوجه الله، فلم يعفه، فسمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وانطلق إليه، فلما رأى الرجل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أمسك، فقال له الرسول: «سألك بوجه الله فلم تعفه فلما رأيتني أمسكت يدك» قال الرجل: «فإنه حر لوجه الله» فقال النبي: «لو لم تفعل لسفعت وجهك النار.»
وقال
صلى الله عليه وسلم «أرقاؤكم إخوانكم استعينوهم على ما عليكم وأعينوهم على ما عليهم.» وقال الإمام الزهري: متى قلت للمملوك أخزاك الله فهو حر.
صفحة غير معروفة
وليس يصح قياس هذه الخطوة الواسعة بما فعلت الأمم في هذه الأيام، وإنما يقاس على ما كان الرقيق عليه قبله في أيامه، فقد كان المصريون القدامى والبابليون والبراهمة والفرس يتخذون الرقيق سلعة، ويعاملونهم معاملة وحشية، واتخذه اليونان أيضا وأقره كبار فلاسفتهم كأرسطو وأفلاطون، بل زعم أرسطو أن أرواحهم كأرواح الحيوانات. وتوسع الرومانيون في الاسترقاق إلى حد بعيد. وكان آباء الكنيسة النصرانية يكاثرون الكونتات في اقتناء الأرقاء، فإذا علمنا هذا علمنا الخطوة الواسعة التي خطاها الإسلام في شأن الأرقاء. •••
وشرع الإسلام الجهاد، والجهاد كلمة إسلامية تستعمل بمعنى الحرب، وهي مصدر جاهد يجاهد مجاهدة وجهادا، مأخوذة من الجهد وهو الطاقة والمشقة، فالجهاد كما قال الراغب الأصفهاني: «استفراغ الوسع في مدافعة العدو، والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، وتدخل ثلاثتها في قوله - تعالى :
وجاهدوا في الله حق جهاده ،
وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ،
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله
الآية، وقد شرع الجهاد في الإسلام في ثلاثة مواضع:
الأول:
إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان.
الثاني:
إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم.
صفحة غير معروفة
الثالث:
إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير معه بدون ذكر الأدلة.
وقد أثبتت التجارب أن الحرب سنة من سنن الاجتماع البشري، وأثر لسنة تنازع البقاء، وتعارض المصالح والمنافع والأهواء، بل هي سنة من سنن بعض الحشرات التي تعيش عيشة التعاون والاجتماع كالنمل، فهو يغزو ويبيد ويسترق ويستخدم رقيقه في خدمته وترفيه معيشته. ويدل التاريخ أيضا على أن شعوب أوروبا أشد البشر ضراوة وقسوة في الحرب في أطوار حياتهم كلها من همجية ووثنية ونصرانية وصليبية ومدنية مادية. ومن علمائهم وفلاسفتهم من يرى منافع الحرب أكبر من مضارها، ولا تزال جميع دولهم تنفق على الاستعداد لها فوق ما تنفق على غيرها من مصالح الدولة والأمة، وترهق شعوبها بالضرائب الكثيرة، فإذا لم تجد استدانت.
وقد كان من تعاليم الإسلام منع جعل الحرب للإكراه على الدين، أو للإبادة، أو للاستعباد الشخصي أو القومي، أو لسلب ثروة الأمم والتمتع بالشهوات، ومنع استعمال القسوة في الحروب كالتمثيل بالأعداء، ومنع قتل من لا يقاتل كالنساء والأطفال والعباد، ومنع التخريب والتدمير الذي لا ضرورة له.
ومع هذا قال بعض الأوروبيين: «إن الإسلام لم يمتد بهذه السرعة إلا بالسيف؛ فقد فتح المسلمون ديار غيرهم والقرآن بإحدى اليدين والسيف بالأخرى.» وهو خطأ واضح؛ فهم لم يستعملوا السيف إلا دفاعا عن أنفسهم، وكفا للعدوان عليهم، ثم توسعوا في الفتح بحكم نشر الدعوة.
ثم ذهب جماهير الفقهاء إلى أن القتال لدفع الأعداء وصد الاعتداء على الدين أوالوطن فرض عين، ويجب على المسلمين إذا فقد بلد من بلاد الإسلام أن يستعدوا لاستعادته مهما كلفهم ذلك من نفوس وأموال إلى أن يظفروا بذلك، وإذا أعلن الإمام النفير العام وجب على كل فرد أن يطيعه بما يقدر عليه من نفس أو مال كما تقدم، ويجب طاعته فيما دون ذلك بالأولى.
وقد سمى فقهاء المسلمين كل البلاد التي فتحها المسلون، ويجب عليهم دفع العدوان عنها دار الإسلام وما عداها دار الحرب.
ووضع الإسلام أسسا للنظام الاجتماعي، ووضع أساسا لذلك عقيدة أن كل شيء في السماء أو في الأرض إنما خلق للإنسان:
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ،
ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ،
صفحة غير معروفة
وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ،
ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون * والجان خلقناه من قبل من نار السموم ،
الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة ،
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها .
وهو تعالى الذي أنشأ الأسرة:
والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم .
وسخر لنا الأنعام:
وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون .
وخلق لنا الشمس والقمر والسحاب والمطر:
وخلقناكم أزواجا * وجعلنا نومكم سباتا * وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا * وبنينا فوقكم سبعا شدادا * وجعلنا سراجا وهاجا * وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا .
صفحة غير معروفة
وسخر لنا ما ملكته أيدينا من عبيد:
وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن
إلى أن يقول:
أو ما ملكت أيمانهن .
وسخر النساء للرجال وسوى بينهم في المعاملة:
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ،
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف .
ونظم الزواج والطلاق:
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ،
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم .
صفحة غير معروفة
وجعل لهن من الحقوق، وعليهن من الواجبات الاجتماعية ما للرجال وعليهم:
يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله .
وأجاز زواج المؤمنات والكتابيات دون المشركات:
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم .
وفي الطلاق وردت الآيات:
الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ،
وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ،
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير ،
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ،
وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ،
صفحة غير معروفة
وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته .
ويحرم على الرجل أو المرأة أن يقتلا أولادهما:
قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم ،
ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ، وألغى التبني:
ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله .
وأوجب العناية باليتامى:
ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ،
وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين ،
وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم .
وأوجب البر بذي القربى:
صفحة غير معروفة