صلى الله عليه وسلم
قبل أن يدفن، والخلاف الثاني في سقيفة بني ساعدة؛ حيث كان الأنصار يطالبون بالخلافة، وأخيرا تم الأمر لأبي بكر على مضض؛ فكان من أول ما واجهه حروب الردة، وسببها أن كثيرا من العرب لما مات الرسول أبوا أن يخضعوا لأحد غيره، وأبوا أن يدفعوا الزكاة؛ لأنهم عدوها إتاوة لا تليق بالأحرار، وكان مظهر ذلك ما عبر الحطيئة عنه إذ يقول:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا
فيا لعباد الله ما لأبي بكر
ذلك أن العرب ليست تخضع عادة إلا لمن أتى بالسلطة الدينية، قال ابن خلدون في مقدمته: «والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض؛ للغلظة، والأنفة، وبعد الهمة، والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشغلهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة، الرادع عن التحاسد والتنافس، فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق تم اجتماعهم، وحصل لهم التغلب والملك، وهم مع ذلك أسرع الناس قبولا للحق والهدى؛ لسلامة طباعهم من عوج الملكات، وبراءتها من ذميم الأخلاق إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة، المتهيئ لقبول الخير ببقائه على الفطرة الأولى، وبعده عما في النفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات.»
ومن مظاهر هذا ما كان من خلاف الصحابة على من يتولى الأمر بعد الرسول. وكان هذا ضعف لياقة منهم؛ إذ اختلفوا قبل أن يدفن الرسول، ولكن كان عذرهم في ذلك العمل على ضم الشمل، وجمع الكلمة. •••
على كل حال اتسعت هوة الخلاف، فلما علم أبو بكر وعمر باجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ذهبا إليها، وخطب أبو بكر خطبة موفقة أقنع فيها الأنصار بأولوية المهاجرين الأولين، وبذلك كفي المهاجرون خلاف الأنصار، ثم كان أن كفي أبو بكر أمر علي، فقد كره كثير من الصحابة أن يجمع بين النبوة والخلافة، ولعلمهم بشدة علي في الحق وعدم تساهله.
وقد أقام الإسلام نظام الشورى: قال - تعالى:
وشاورهم في الأمر ، ولكن المبدأ يمكن تفسيره تفسيرات مختلفة بحسب مقتضى الحال، ويتسع حتى يشمل النظامات البرلمانية الحديثة، ولعل هذا هو السر في أن نظام الشورى لم يحدد وترك للمسلمين. وقد أقام النبي هذا الركن في زمنه بحسب مقتضى الحال؛ فقد كان المسلمون قلة وأولو الحل والعقد قليلون يسهل اجتماعهم في مسجد واحد، ويؤخذ رأيهم في الأمور العارضة، فكان النبي لا يبرم أمرا هاما حتى يستشيرهم فقد استشارهم بالفعل في غزوة بدر، ولم يغز قريشا حتى وافقوا على ذلك واستشارهم جميعا يوم أحد، وهكذا كان يستشيرهم في كل أمر إلا حيث ينزل الوحي، فلما اتسع الإسلام بعد الفتح، وأسلم كثيرون من الأماكن البعيدة عن المدينة، وكان في كل قرية أو قبيلة رجال من أهل المكانة يصح أن يؤخذ رأيهم لم يكن من السهل استشارتهم، وترك الأمر مفتوحا؛ لأنه لو وضع قاعدة فيه لاتخذها المسلمون دينا يتحجرون عليه. فلما مات النبي
صلى الله عليه وسلم
صفحة غير معروفة