ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
تصانيف
الصخرة والهواء
والفحم والحديد!
ليس جوع المعدة الخاوية فحسب، بل هو الشقاء. إنه لا يشبع أبدا، لأن الطريق إلى الزرقة، أي إلى السماء، طريق مسدود؛ ولذلك فهو يعض الحجر، ويلتهم العشب، ويحتفل بعيد الجنون الغاضب المظلم، عيد اللعنة والشقاء: «إن العطش المريض يملأ عروقي بالظلام ...» (9) السفينة السكرى
ونصل الآن إلى أشهر قصائد رامبو، وهي قصيدة «القارب النشوان» أو السفينة السكرى،
Le bateau ivre (1871م) التي كتبها الشاعر بغير أن يعرف شيئا عن البحار والبلاد العجيبة التي تزخر بها! وقد رأى بعض الشراح أن قراءته للمجلات المصورة هي التي أثارت فيه هذه الصور. وقد يصدق هذا الرأي، ولكن صدقه أو كذبه متوقف على ما يستطيع الإنسان أن يستخرجه منها. إن القصيدة لا تتصل بالواقع بأي سبب، وقارئها يواجه خيالا جبارا متجبرا يخلق رؤى محمومة عن أماكن شاسعة مدومة عاصفة، خالية من كل أثر للواقع. وقد نبه بعض النقاد إلى تأثرها بأعمال أدبية أخرى فقارنوا مثلا بينها وبين قصيدة فيكتور هيجو «السماء الصحو
» (في ديوانه أسطورة العصور) وقالوا إن القصيدتين تتحدثان عن سفينة منطلقة في الآفاق. ولكن إذا صح هذا التأثر أو الاقتباس فهو لا يلغي أصالة رامبو، ولا يستطيع أن يطمس ذاته المتميزة.
فالصور العديدة التي نراها في قصيدة فيكتور هيجو إنما تخدم عاطفة تافهة تتحمس للتقدم والخير والإخاء والسعادة. أما «السفينة السكرى» فهي تعبر عن حرية إنسان وحيد فاشل؛ حريته الضارية المدمرة. وإذا كانت بعض صورها متأثرة بقصائد أو أعمال أدبية أخرى، فإن بناءها وحركتها تدلان على سبق رامبو وأصالته، وإذا تذكرنا قصيدة «أوفيليا» وجدنا هذه القصيدة تبالغ إلى حد التطرف فيما تناولته تلك؛ وأعني به الارتفاع بالجزئي المحدود حتى يذوب في أفق كلي لا محدود.
هناك سفينة أو - إذا شئنا الترجمة الحرفية - قارب كبير يحمل الأحداث جميعا. والأحداث تعبر تعبيرا ضمنيا لا يمكن إساءة فهمه عن الذات الشاعرة. أما الصور الواردة فيها فهي من القوة بحيث لا يمكن أن نتبين التشابه بين القارب والإنسان إلا من اتجاه حركة القصيدة في مجموعها. والمضامين المتحركة التي تحملها هذه الصور هي نفسها جزئيات تفصيلية مرئية ومرسومة بدقة شديدة. وكلما زادت غرابة الصور وبعدها عن الواقع، كلما نزعت لغتها إلى الحسية. أضف إلى هذا أن الصنعة الشعرية تجعل من النص كلمة واحدة عن الذات التي يرمز لها ولا بد أن رامبو كان جريئا في ذلك إلى أبعد حد. يدل على هذا أنه قرأ القصيدة على صديقه الشاعر «بانفيل» فعاب عليها هذا أنها «للأسف» لا تبدأ بهذه الكلمات. «أنا قارب ...» ولم يدرك بانفيل أن الاستعارة هنا ليست مجرد أداة للتشبيه، بل تخلق وحدة بين الذات والقارب. وكل من يقرأ الشعر الذي جاء بعد رامبو يعرف أن الاستعارة المطلقة تغلب عليه. ولقد ظلت كذلك هي الطابع الأدبي الغالب على رامبو، مما سنصفه فيما بعد «باللاواقعية الحسية».
إن «السفينة السكرى» تنطلق انطلاقة واحدة وفريدة، صحيح أنها تبطئ من سرعتها هنا وهناك، ولكن لتستأنف انطلاقها أشد عنفا وقوة، حتى تصل في بعض المواضع إلى ما يشبه الانفجار المحموم. ويبدأ الحدث في هدوء نسبي، إذ ينزلق القارب هابطا مع النهر. غير أن هذا الهدوء قد سبقته دفعة قوية، فالقارب أو السفينة لم تعد تكترث بملاحيها الذين قتلوا على الشاطئ قتلة فظيعة ... ولا يلبث كل شيء ثابت أن يتحلل ويتفكك بسرعة مذهلة. وإذا بالهبوط الهادئ مع تيار النهر يتحول إلى رقصة القارب المحطم في عباب العواصف والبحار، والطواف بكل البلاد والأراضي الممكنة، رقصة تدور في أعماق الليالي الخضراء، وفي لجة العفن والأخطار، تحت شعار الموت و«الفسفور الذي يغني»، يندفع إيقاعه في أثير خلا من ذوات الجناح، ويحفر ثقوبا في سماء ذات جدران حمراء، حتى يأتي التحول الأكبر، وهو الحنين إلى أوروبا، لكنه حنين لا يشتاق إلى وطن من الأوطان. وتتمثل للقارب صورة مثالية بريئة، صورة طفل يلعب في أريج المساء على شط مستنقع. إلا أن هذه الصورة تظل حلما عاجزا؛ ذلك لأن القارب قد استنشق رحابة البحار وخلجان النجوم، وعرف أن أوروبا قد ضاقت عليه. وبمثل ما انطوى الهدوء الذي بدأت به القصيدة على دفعة قوية، فإن النهاية المتعبة التي تختتم بها تنطوي على التوسع المخيف الذي اشتملت عليه المقطوعات السابقة. إنه هدوء العجز، هدوء القارب الذي يتحطم أخيرا على صخور اللامحدود، وهدوء القارب الذي لم يعد يقنع بالمحدود.
والقصيدة تتميز بالبساطة الشديدة في بناء عباراتها، والوضوح والتنظيم فيما تعبر عنه. والانفجار الذي يحدث فيها لا يتم في تركيب الجمل بل في التصورات التي تحتوي عليها. بل إن هذا الانفجار ليزداد دويا كلما زاد التنافر الشكلي بينه وبين روابط الجمل والعبارات.
صفحة غير معروفة