أعتقد أن لصفة «الحياة» في هذه المجموعة صدارة منطقية؛ فمنها تتفرع سائر الصفات، وفي ذلك يقول الزبيدي في شرحه لكتاب الغزالي «إحياء علوم الدين » (ج2): إن تأخير ورود «الحياة» بعد ذكر صفات أخرى؛ كالقدرة والعلم، هو بمنزلة تأخير المدلول عن الدليل؛ فمن شرط العالم القادر أن يكون حيا، ومع ذلك فكل ترتيب نجعل به صفة تسبق أخرى، لا يعني ترتيبا في الظهور؛ لأن هذه الصفات كلها أزلية معا.
وبعد هذا التحفظ أعود فأقول إن لصفة «الحياة» صدارة منطقية، فماذا نعني بها حين ندعو الإنسان إلى أخذ نصيبه منها فيكون «حيا»؟ المقصود «بالحياة» هنا جانبان أساسيان، هما «الإدراك» و«الفعل»، فللإنسان حياة بقدر ما لديه من إدراك ومن فعل، إنه قد يتنفس ويتغذى ويتناسل، ومع ذلك كله لا يعد «حيا» بهذا المعنى المقصود، شرط الحي أن يكون على وعي كامل بما يدور حوله وبما تعتلج به نفسه، ثم لا يقف أمام إدراكه هذا ووعيه موقفا سلبيا سكونيا؛ لأنه لو فعل لما تغيرت الدنيا على يديه، بل لا بد أن يكون «فاعلا» نشيطا منتجا مشاركا في دفع تيار الحياة بحياته، وإلى أين يدفعه؟ يدفعه إلى حيث تسمو وترتقي، فالواقف على جانب الطريق ينظر إلى ركب الحياة ولا يسهم في دفعه؛ ليس حيا، والذي يحاول الرجوع بتيار الحياة إلى وراء ليعود به إلى حيث بدأ؛ ليس حيا بمعنى الحياة الإيجابي الذي أسلفناه، الحي يقود ولا ينقاد، ويكون متبوعا لا تابعا، ما دامت «الحياة» بحكم تعريفها السابق خلقا وإبداعا وابتكارا وإضافة للجديد.
كان العربي من الأولين «حيا» لأنه ما انفك بانيا في كل مجال: بانيا في مجال الفكر وفي مجال الحرب وفي مجال السياسة، ولأنه كان تام الإدراك لدنياه، وشديد الفاعلية فيما حوله، والإدراك والفعل - كما أسلفنا - هما عصب الحياة بالمعنى المقصود، فإذا رأيت العربي من المتأخرين - وأعني العرب في حالتهم الراهنة - إذا رأيته سطيحا تحت وطأة المستعمرين، ينقاد لإمامتهم ولا يقود، ويأخذ من حضارتهم ولا يعطي، فاعلم أنه قد فقد من نفسه قيمة عليا من قيمه، ولو استردها لاسترد عروبته بها، إن العربي لا يكون عربيا لمجرد تكراره لهذه اللفظة ملايين المرات، إنما يكون العربي عربيا حين يتشرب القيم العربية الأصيلة ، وأولها صفة «الحياة» بالمعنى الذي قدمناه.
خط الحياة كخط الزمن، فانظر إلى ما شئت من الكائنات الحية؛ إلى شجرة - مثلا - تجدها تنوع فاعليتها - والحياة فاعلية - بتنوع مراحلها، إن الفعل الذي تبذله في بناء جذورها ليس كالفعل الذي تبذله في صنع الأوراق والثمر، هي شجرة واحدة من جذورها إلى ثمارها، لكنها لو قالت لنفسها عند مرحلة الثمر: لا، اتركي حاضرك وارجعي إلى ماضيك الجليل الجميل، لعادت إلى بناء الجذور مرة أخرى، ولألغت بذلك وجودها، وهكذا يفعل أعداء الحياة حين يدعوننا إلى العودة إلى ما كان، لقد كان لما كان خطره حين كان الملتقى الذي تنصب عليه فاعلية الأحياء، أما وقد انتقل الأمر إلى مرحلة تالية في عملية البناء وطريق السير، فلننصرف بالحياة وفعلها إلى هذه المرحلة الجديدة، شريطة أن نخصص منها جزءا لحفظ الجذور الأولى، وهكذا ترانا نضل طريقنا ونخطئ فهم الحياة، لو ظننا أن شرائح الزمن المتعاقبة يمكن أن يحل بعضها مكان بعض، فننزع المرحلة الأخيرة من سياقها لنردها إلى مكان المرحلة الأولى.
العربي مطالب بحكم تراثه أن يكون «حيا»، فالله تعالى هو «الحي» بالمعنى المطلق الذي يستحيل معه أن يتسرب إليه جمود وموت، وأما الإنسان فهو كذلك - أو ينبغي أن يكون - «حيا» بالمعنى النسبي الذي يعطيه من الحياة بمقدار ما يدرك وما يفعل.
ولو استرسلت في حديثي لأنتقل من صفة «الحياة» إلى سواها، مما يكون في مجموعه منظومة متسقة للقيم الضابطة لسلوك الإنسان ووقفته؛ لطال الحديث وفاض، فحسبي هذه «القيمة» الواحدة نموذجا لما أعنيه حين أدعو إلى أن تكون مجاوزتنا للواقع العلمي، مجاوزة لا تنقلنا إلى تخليط السمادير والأوهام والشطح والخرافة، بل تنقلنا إلى عالم القيم التي تؤيد العلم ولا تنقضه، وتبني الحضارة ولا تهدمها، وتجعل من الإنسان إنسانا يسير على ساقين، فها هنا العلم، وهناك ضوابط القيم.
لمسات من روح العصر
كان حديثا مشبوبا بانفعال ملتهب بيني وبين صاحبي، قال لي فيه: إنك ما تنفك داعيا إلى العصر والمعاصرة، كأنما ترانا وقد سدت في وجوهنا أبواب الحضارة، فلهونا خارج أسوارها، لا نسمع منها إلا صرير أقلامها وأصداء عجلاتها؟ ولست في الحق أرى ما تراه، إذا كان هذا هو الذي تراه، فها هي ذي مطابعنا تدور بألوف من الكتب والصحف والمجلات، فنتابع خلالها ما يجري في أنحاء العالم من شرقه إلى غربه، وها هي ذي معاهدنا وجامعاتنا تنتج العلوم وتخرج العلماء، وإذا أدرت البصر في أرجاء بلادنا رأيت يابسها وماءها وسماءها تعج بكل ضروب الأجهزة والمكنات، في البيوت وفي الشوارع وفي المصانع، وحيثما وجهت البصر، فماذا تريد؟ لا، بل إننا بعد أن نقلنا هذا كله من عصرنا فعاصرناه، زدنا عليه حفاظا على الأخلاق، فلم تنهدم أركانها هنا كما انهدمت هناك!
فقلت: إن أربعين سنة قضيتها في التعليم - والتعليم عندي معظمه حوار سقراطي، يخرج خبيء المعاني - قد علمتني بدورها درسا، هو أن الفجوة فسيحة فسيحة، وعميقة عميقة، عند الكثرة الكاثرة من الناس، بين فروع المعرفة وأصولها؛ أعني بين سطوحها البادية وأعماقها المضمرة، أو بين ما يظهر منها وما يخفى، فقلة قليلة جدا منا - نحن المثقفين ودع عنك سواد الناس - هي التي تريد، وإذا أرادت، تستطيع أن ترد الأفكار الدائرة على أطراف الألسنة في الأحاديث الجارية إلى جذورها المستورة، لتطمئن إلى ما بين الفكرة وجذورها من اتساق، فأنت لا تكاد تغوص مع محدثك إلى ما قد غيبه في حنايا الصدر من معتقدات دفينة راسخة الأسس، حتى ينكشف لك - ولا أقول ينكشف له؛ لأنه في معظم الحالات يرفض أن يرى - كم يكون من التضاد بين ما يعلنه من الفكر وما يخفيه من المعتقد، لا عن عمد خبيث منه، بل عن غير وعي، حتى تلفت إليه وعيه، وهو في أكثر الحالات - كما قلت - يغمض عينيه على أوجه التضاد حتى لا يراها فتفزعه، ولقد شهدت بعيني وسمعت بأذني عشرات من «العلماء» المتخصصين في فروع الفيزياء والكيمياء وغيرهما من ضروب «العلم» بأحدث معانيه، لا يقلقهم أن يقفوا في معاملهم وأمام تجاربهم طيلة نهارهم، حيث لا يأخذون إلا بما تشهد لهم به تجربة يرونها ويسمعونها، إن لم يكن بأجهزة السمع والرؤية، فلا أقل من أن يكون ذلك بالحواس العارية، حتى إذا ما خلعوا عن أجسادهم معاطفهم البيض، وخرجوا من معاملهم إلى حيث يستريحون ويسمرون؛ رأيتهم يديرون الحديث - بكل نفس مطمئنة - عن خوارق، إذا صدق ما يروونه عنها انهدمت علومهم من أساسها، وهيهات لك أن تشير إلى فجوة التضاد بين «علم» النهار و«خوارق» الليل!
فإذا سمعت الناس يحدثونك عن العصر وفكره وحضارته، وظننت أنهم قد أجروا في شرايينهم عصارة زمانهم، فلا تنخدع، وصابرهم على تحليل مكنوناتهم، وأغلب ظني أنك كاشف في دخائلهم رواسب قرون خلت، برغم ما قد صبغوا به جلودهم من ألوان القرن العشرين وزخارفه، وسأضرب لك أمثلة توضح ما أريد:
صفحة غير معروفة