غير أن هذه الإضافة - إضافة الباطن إلى الظاهر - لسوء الحظ لا تتخذ عندنا صورة واحدة من الطراز الذي يعلو بصاحبه، بل إن لها عندنا صورتين: إحداهما قد تراها في قلة ضئيلة من المثقفين، وأما الأخرى فلها الشيوع في السواد الأعظم من الناس، أما في الحالة الأولى، فالماورائية تبني لنفسها نسقا متينا من القيم السامية، التي من شأنها أن تحدد الأهداف العليا ثم ترسم لها خطوات الوصول، وبذلك تصبح فعالة محركة نحو الأرقى والأفضل، وأما في الحالة الثانية، فالماورائية تتحول إلى مجموعة من السمادير والأوهام، فترين على القلوب وتغشى الأبصار، وما هي إلا أن تتجمد الحياة في شرايينها، فلا سير ولا حركة، بله أن يكون ارتفاع وارتقاء.
ونغض أنظارنا عن أصحاب الأوهام والسمادير، برغم كونهم الفئة الأكثر عددا والأوسع انتشارا؛ لأنهم إذ يجاوزون دنيا الواقع إلى ما وراءها، لا تقع أبصارهم في هذا «الوراء» الخصب الغني الملهم، إلا على ما يشتت الأذهان ويبعثر الجهود ويضل السائرين عن جادة الطريق، نغض النظر عن هؤلاء؛ لأنهم يلتمسون فيما وراء الواقع كل ما من شأنه أن يهدم بنيان العلوم، فالعلوم قائمة على اطراد القوانين، أما هؤلاء فيبحثون عن روايات يروونها ليثبتوا بها ألا قوانين ولا اطراد، فإذا كانت قراءة مخطوط معين تتطلب في الحياة الواعية العاقلة عيونا ترى، جعلوها لك أمرا ممكنا بغير رؤية، وإذا كان الانتقال من نقطة إلى نقطة أخرى تتطلب اجتياز المكان الواقع بينهما، جعلوا لك هذا الانتقال ممكنا بغير اجتياز للمكان، وهكذا وهكذا، ألوف الأمثلة والروايات يسوقونها لك ويروونها، ولو صدقت لكذب العلم، وبالتالي لاستحال علينا مشاركة العصر في علميته بكل عقولنا وقلوبنا.
نغض أنظارنا إذن عن هؤلاء برغم كثرتهم، ويكفي لإهمالهم من حسابنا أن نعلم أن أوهامهم هذه، ولو زيدت أضعافا مضاعفة، لما زادت غلال القمح حبة، ولا أقامت للمضيعين من الناس جدارا، ولا نسجت للعريان ثوبا، هي أوهام تهدم ولا تبني، وتقيد العقول لا تفك أغلالها ولا تفسح أمامها آفاق النظر.
نغض أنظارنا عن هذا اللون المريض من مجاوزة الواقع إلى ما وراءه؛ لنحصر تلك الأنظار في طريق آخر، يميزنا ونستطيع أن نفخر به ونفاخر، وذلك هو الطريق الذي نبني به وراء الواقع المادي منظومة من القيم، بينها وحدة واتساق، وفيها دينامية محركة، ولها القدرة على رسم حياة مثلى، يكون فيها العمل والأمل، وهي منظومة من القيم لم تعرف بها أمة كما عرفنا، ومن ثم فهي التي يمكن أن تمدنا بالطابع الفريد الذي يحقق لنا الأصالة، التي إذا أضيفت إلى المعاصرة عن طريق اكتسابنا للعلوم؛ حققنا وجودنا من طرفيه، فكنا بذلك عربا ومعاصرين في آن معا.
وهي مجموعة من قيم لن تحتاج منا إلى بحث طويل للكشف عنها؛ لأنها على أطراف أناملنا، نرددها ألف مرة كل يوم، يحفظها صبية المدارس، ويجريها الراشدون في أحاديثهم الجارية، لكن - وا أسفاه - يحفظها أولئك ويرددها هؤلاء ألفاظا، لكنهم لا يعيشونها حياة، وإنما عنيت القيم المتمثلة في أسماء الله الحسنى.
هذه الأسماء هي في حقيقتها دلالات تشير إلى قيم تضبط السلوك وتوجه مجرى الحياة إلى أهداف تليق بالإنسان كما تتصوره وتصوره الثقافة الإسلامية العربية، هي صفات تكون مطلقة بالنسبة إلى الله سبحانه، ومنقوصة متدرجة نحو الكمال بالنسبة إلى الإنسان، فلو استطعنا - عن طريق التربية بصفة خاصة، وعن طريق الفكر والنشر بصفة عامة - لو استطعنا ألا نجعلها مجرد ألفاظ نرددها على حبات المسابح، بل نجعل منها معايير حية نابضة نترسمها ونهتدي بهديها، إذن لكانت بين أيدينا منظومة منسقة كاملة من القيم التي تضاف إلى دنيا الواقع فتخرج الإنسان الكامل المتكامل. من وجهة نظر إسلامية، وفي ظروف هذا العصر، عصر العلم والصناعة.
إننا لنبصر بأعيننا ونلمس بأيدينا كيف انتهى العلم الطبيعي والصناعة التقنية في البلاد التي تقدم فيها العلم وتقدمت الصناعة، كيف انتهى بها هذا العلم وهذه الصناعة إلى حالة من العرج الحضاري، فكأنما هي تحجل على ساق واحدة، فكان ما كان من تمرد الإنسان على نفسه في الفن والأدب، حتى لقد أعلنوها صريحة بأنهم لم يعودوا يطيقون العقل والمعقول، واندفعوا وراء اللامعقول والعبث، فأي إضافة عظيمة تستطيع الثقافة العربية الأصيلة أن تضيفها إلى حضارة هذا العصر، لو أنها جسدت قيمتها في أبنائها أولا، فاستطاعت بذلك أن تعطي للعالم المعاصر معاني إنسانية في مقابل ما تأخذه من علم وتقنيات؟!
كان من بين ما أوحى إلي بهذه النظرة إلى الأسماء الحسنى، وهي النظرة التي تجعل منها قيما للسلوك البشري، كتاب صغير عميق ملهم، هو كتاب الإمام الغزالي: «المقصد الأسنى في أسماء الله الحسنى»؛ فالإمام في كتابه هذا يلقي على الأسماء الحسنى أضواء ساطعة تبرز معانيها الخافية ، وهو يعقب على شرحه لكل اسم منها بقوله: إن نصيب العبد من هذه الصفة كذا وكذا، فيبين للقارئ كيف يسلك في حياته العملية على ضوء هذه الصفة المعينة أو تلك من «المجموعة بأسرها».
وإنني لعلى ظن يبلغ درجة الرجحان الشديد، بأن المتأمل لهذه المجموعة من الصفات، يستطيع آخر الأمر أن يقيم منها بناء واحدا متسقا، وإنما قصدت ب «البناء المتسق» هنا ما نقصد إليه في دراساتنا الفلسفية حين نرتب القضايا ترتيبا تنازليا، يبدأ بالأعم وينتهي بالأخص، بحيث تجيء كل خطوة نتيجة منطقية لازمة لزوما ضروريا عن الخطوة السابقة عليها، وفي الوقت نفسه تكون مقدمة ضرورية بالنسبة للنتيجة التي تلزم عنها في الخطوة التي تليها، ولو استطعنا بناء هذه القيم على هذا النحو المتسق أوله مع آخره، كان لنا بذلك - لا مجرد عدد متناثر من القيم، بل - مجموعة «موحدة»، ويكون مثل هذا «التوحيد» في القيم عندئذ جانبا مهما من التوحيد الذي هو أميز ما يميز عقيدة المسلم، وعندئذ كذلك يكون هذا التوحيد في القيم ضامنا للإنسان ألا يتمزق سلوكه يمنة ويسرة، فلا يدري إلى أين يتجه؟ فمن نقائص عصرنا - بشهادة رجال الفكر أجمعين - أنه عصر أدى بشبابه إلى حالة من التمزق والتفسخ والضياع، لماذا؟ لأن القيم التي ينطوي عليها هذا العصر ليست كلها على اتساق بعضها مع بعض؛ فترى هذه القيمة المعينة تغري الناس بالتزام العقل الصارم (في دنيا العلوم مثلا)، بينما تغريهم تلك القيمة الأخرى بالخروج والعصيان وتفضيل الغريزة والوجدان على العقل ومنطقه (كما هو مشاهد في كثير من نتاج الأدب والفن، وفي تمرد الشباب)، فلو استطعنا نحن أن نقدم للعالم مجموعة متسقة الأجزاء من القيم الهادية للإنسان على طريق الحياة، كان هذا دورنا في بناء الحضارة المعاصرة.
ولا يتسع المقام هنا لبحث شامل كالذي اقترحته، فلأقنع بمثال واحد، لعلي أوفق به إلى توضيح ما أريد:
صفحة غير معروفة